كريمة شاهين

 

 

 

 

 

 

قلبى و قلمى


 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

” إن يعلم الله فى قلوبكم خيراً مما أخذ منكم ”

 

صدق الله العظيم


حين تختلج الكلمات حبا!

قلبى وقلمى ..

 

يبدو لاول وهلة ان هناك شيئا ما يباعد بينهما …  ان هناك فارقا ما يفصل بينهما ، لكنهما يعينان بالنسبة لى .. شيئا واحدا .

قلمى .. هو قلبى ، فما ينفعل به قلبى ويحس ويشعر يتدفق به قلمى فياضا على الورق ، عبر دقات ، هى .. حقيقة .. نبض حياة .. وأى حياة !!

لذا .. جاء نتاج قلمى .. رحيق حياتى ، عصارة روحى ، خلاصة فكرى وخفق ذاتى

هذا هو ما اضمه الان فى ( كتاب ) يزخر بدفقات السنين ، يعمر بزخات الحنين ، يفيض بدفقات الشوق ولمحات الانين .. ذاك الذى يربض فى الاعماق ، فيحيلها نارا ولهيبا وسعارا . نارا تتوقد ساعد نعيش عذابا ما ، تتوهج لحظه نحيا معاناة ما.

.. فحين يلتهب الاحساس ، يتفجر الحرف حياة تنتفض الكلمات حبا .. وينبض القلم عبرا .. فينطق اروع العبارات

ومع دقات قلم ، هى بالاحرى نبضات قلب ، ومضات فكر ، مشاعر روح ، اترك نفسى تسكن قلبى ، كتابى (قلبى وقلمى ) ذاك الكتاب الذى يذكرونى دوما كيف كانت مشاعرى ازاء مواقف بعينها ، وكيف انساب فكرى امام احداث بذاتها .

اليكم .. (قطع ) من عمر عمرى اضعها الان بين ايديكم علكم تعايشون عبرها دقات قلمى فكرا ، ونبضات قلبى خفقا .. فريقا بها رفقا .. فهى عصارة السنين ، وعمق العطاء ، وحلاوة الذكرى ، وروعة الليالى ، وبهجة السهر ، واحلام السحر .. وامانى الزمان .

لكم .. ينبض قلبى عبر قلمى حبا . يخفق عبر كتابى شوقا ، أتمناه يصلكم فينقل لكم بعض ما احس .. واشعر

كريمه شاهين

الى البعيد ..أيتها النجوم !

مع مطلع كل عام ..

 

أبقىى اغلط فى كتابة التاريخ مدة طويلة من الوقت .. فاجدنى أخط رقم السنه الماضية بدلا من السنة الحالية .. وكأن أعماقى ما تزال تصر على ابقائى فى ماضى الزمان !

لفت نظرى هذا الاصرار على الخطأ، فأخذت أسائل نفسى عن سر هذه العادة الرتيبه التى تلازمنى كل سنة .. هل هو حب يرتبط بزمن قديم مضى .. أم هو خوف من زمن جديد أت؟!

.. وبدأت استرجع مواقف متكررة تأتى دائما مع مطلع كل عام جديد ، فالفيتنى أتابع بشغف شديد ، وكما هى عادتى دائما ، كتابات تغزو السوف تلك الايام ، كتابات محورها أحوال العاك الجديد ..

برجك بماذا يجبرك هذا العام ؟!

المنجمون يكشفون أسرار العام القادم !

شخصيتك فى العام الجديد !

النجوم وتأثيرها عليك هذه السنه !

إلى أخره الى اخره .!!

أخذت اجمع هذه المطبوعات الفلكيه المثيره للانتباه وجلست أقراأها بوله ونهم فأنا لا استطيع أن أخفى اعجابى الشديد بها .. ولا يمكننى مداراة هيامى بمطالعتها

ربما هى هواية قديمة لصقت بى منذ الصغر ، ربما هى تسليه خفيفة تمتعنى فى أوقات الفراغ .. لست أدرى !

انهمكت فى القراءة .. وهالنى ما قرأت . فانتبهت إلى نفسى فزعة اترقب أحداثا جساما تغزو العالم فى عام 86 .. هلاك . دمار ، خراب !

ما هذا الكلام السخيف وما هذه التنبوؤات المخفيه المرعبة ؟! وما سبب هذا التطير والتشاؤم الفظيع الذى تبثه بعض افلام قاسية فى نفوس الناش الطيبين ؟!

ولم أشأ أن أستطرد فى متابعة قراءات كئيبة تضيق بها نفسى ولا يطيق نذيرها فؤادى .. وأدركت بغته أن هذه كتابات خطتها أقلام واجبه خلت قلوب أصحابها من الايمان ونضبت عقول كتابها من الفكر فى قدرة الله تعالى . خالق الارض والسماء ، فجهلت معنى عظمته فى الاحتفاظ بالغيب له وحدة سبحانه ..

ولذا ذاق وجدانهم عذاب الارق والالم والهلع ، وفرغت قلوبهم من لذه الاحساس بالطمأنينه والامن والسلام .

فحتضنت كتابا عظيما يرتاح له عقلى ، ويسعد به وجدانى وتسكن معه روحى كتاباأحس جواره السكينه والامان ،  كتابا ساميا مقدسا هبطت كلماته طاهرة نقيه من السماء ..

فعشت السعاده مع عميق الفكر . وهدوء النفس وراحة البال . فالعقل والوجدان هما عينان ننظر بهما . عين تقع على القريب ، وعين تقع على القريب ، وعين تمتد إلى البعيد .

ونظرت بهما ، فرأيت أيام الله كلها بركة وصفاء وأمانا .

فى القريب ندعو الله ، وفى البعيد نرجو الله أن يبعد عنا نذير الشؤم والسوء وأن يجعل أيامنا كلها الخير والسعادة والهناء .

حقا .. تفاءلوا بالخير تجدوه .

قال تعالى : (قل ياعبادى الذين اسرافو على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله )

                                                              صدق الله العظيم

السهر .. فى الفجر !

 

اكتب لكى الان والساعه تقترب من الرابعه صباحا . هذهالساعه أحبها وهذا الوقت أحس فيه خشوعا يحيلنى حبة ماء شفافة غاية فى الصفاء .

دون إرادة ..أجد نفسى أصحو تلقائيا وكأن هناك منبها داخليا يوقظنى كل يوم فى هذا الوقت كى أبدأ لقائى الحالم الهائم مع الورق .. هو فى نظرى أمتع لقاء يشعر به إنسان يهوى الكتابة ، يعشق الحروف ويهيم بالكلمة .. عندما يشعر هذا الانسان أن شيئا ما يتأجج داخله . شيئا يلح عليه ، يبعث فيه قلقا وتوترا غامضا . وكأن هناك سائلا حارقا يغلى داخله يفور فى اعمافه باحثا عن منفذ .. ما ان يجده حتى يندفع ينهدر شلال هذا الشىء خارجا جارفا كل ما حوله ، فتسيل الروح وتنهمر تيارات الارق والتوتر والقلق ..

وما ان يلتحم القلم والورق حتى تلتقى كل قيثارات العالم .. فتعزف ألحانا سماوية قدسية ، وتبعث جوا خياليا نورانيا ،كأجواء السحر فى ممالك الاساطير القديمة ..

ومن فوق عرش إحدى هذه الممالك الاسطورية أجدنى أجلس وقد حملت القلم السحرى وأخذت أخط فوق لوح لازوردى كلمات نبعت فى لحظات تسام وصفاء وابتهال ، لحظات ترتفع فيها النفس وتنطلق مبحرة مقلعة عن ماديات هذه الارض ..

أحبائى ..

لكم أقول .. أعترف

اتى مدينة لكم بما احمل من سعاده تعتمل داخلى ، فحين أكتب لكم .. اشعر أنى لست من مواليد هذه الارض .. ولست من مخلوقات هذا الكون ..

أجدنى أحلق بعين خيالى فى سماوات أسطورية .. أتناثر .. أذوب ..أتلاشى .. بعيدا .. بعيدا .. بعيدا ..

أحسنى أنمحى فى هذه اللحظه الحلم .. لا أشعر إلا الحب .. لكل ذرة من ذرات هذا العالم ..

وأنتم العالم ..

.. ويجىء لقائى معكم يحمل لمحات من روحى ، لمحات تحوى معانى قد أجهل التعبير عنها .. وربما أفشل فى التحدث بها ..

لمحات تهزنى .. تشدنى لاصحو . لاكتب . لابوح ..

الحمد لله الذى جمعنى واياكم .. والحب

رجل .. وامر أة

منذ صغرى ما تمنيت لحظه واحدة ان أكون ولدا وما شعرت لحظه واحدة أنى بنت وحيده بين أربعه أشقاء ، الا عندما أخذ الجميع فى البيت يستعدون بطريقه غريبة لا ستقبال المولود الجديد ..

ساعتها وقفنا نحن الخمسه على باب غرفة أمى ( رحمها الله ) نرفع أيدينا الصغيرة نحو السماء ، وندعو الله جميعا يارب (ولد )

وفجأة .. قفز إلى ذهنى اكتشاف عجيب .. فالتفت متفحصة وقلت لهم صارخة :

– أنتم كلكم صبيان .. وأنا بنت واحدة .. لا .. أنا عاوزة بنت .. يارب بنت يارب بنت ..

وقفنا جميعا ننتظر نتيجة الدعاء ، والشوق يقتلنا ، هم يدعون ( ولد ) وأنا أستجدى البنت .. وكأن الله استجاب دعائى .. وأطلت على الدنيا شقيقتى الحلوة الصغرى ..

وأخيرا وأخيرا .. سمحوا لنا نحن الصغار بالدخول إلى الغرفة لتقبيلها واحدا وراء الاخر ..

وضاقت الدنيا بسعادتى .. وتعجبت كيف لم أطر من الفرحه رغم كونى نحيفة نحيلة كعود الخيزران ” على رأى الاغنية ” وبدأت أحس مشاعر مختلفة .. ليست هى مشاعر الصبيان الاشقياء متسلقى الاشجار ، قافزى الاسوار .. ولم أعد أشغل بالى بسباق الجرى ، أو من يشوط الكرة أبعد من الاخر ، لم أعد أفكر متخابثة كيف نخيف أولاد الجيران مع ظلمة المساء ..

انشغلت كلى بالاخت الحلوة الصغيرة .. كيف ترضع ، كيف تبكى .. متى تكف عن النوم وتصحو ، متى تفتح عينيها ، تى تسمح لى أمى بحملها والسير بها ؟!

… وفى خلال أيام قليلة كف اهتمامى بالضيفة الجديدة ، مللت من مراقبتها وانتظارابتساماتها ، فهى دائما نائمة نائمة ، وتأكدت أن اللعب مع الاشقاء أحسن .. وأن سباق الجرى أكثر إثارة ، وتسلق الشجر أعظم متعة ، وأخافة أولاد الجيران فى المساء تضحكنى من أعماقى ..

وعدت من جديد ..

بنت شقية وسط أربعة أشقاء عفاريت زرق ، وسرعان ما نسيت الفارق الحيوى بينى وبينهم ، عشت كواحد منهم .. ولد لايقل عن أجدعهم شقاوة وجدعنة ..

ومنذ هذه اللحظه وأنا أمقت التمييز بين الولد والبنت .. الرجل والمرأة .. الكل فى نظرى انسان .. انسان يحس ، يشعر ، يعانى ، انسان يعيش عمره بعقله .. بقلبه .. بروحه .. بوجدانه .. بانسانيته ..

وعاشت معى أفكارى .. علمتنى أن الكتابه يجب أن لا تنقسم ، تنفصل ، تتمزق بين الذكورة والانوثة .. بين الرجل والمرأة .. فكلاهما يميزان ، يفكران ، يعقلان.

ويشاء القدر .. وتشاء الظروف أن يأتى يوم أصبح فيه رئيسة قسم شؤون المرأة فى الحبيبة (النهضة ) .. ورغم هذا المنصب ، ورغم هذا اللقب .. إلا أن داخلى ما زال يحوى هذا الكائن الشقى متسلق الاشجار ، قافز الاسوار ذاك الكائن الذى لا يؤمن بتفرقة الفكر الانسانى وتقطيعه بين ذكر وأنثى .. رجل وامرأة !!

رسالة.. من القبر !

 

بعض الناس عندهم حدس واحساس غامض يشبه الحاسة السادسة . احساس يدعو إلى العجب . فهم يكادوا يتنبأوا بما سيحدث لهم أو يصيبهم فى فترات زمنية متقاربة !

أما الفراسه العربية والذكاء الخارق النادر ، فهذا امر مشهور عند العرب .. واليكم ” عينة ” بسيطة تدلل على تلك الوراثة .. وان كانت عينة دموية .. لكن المهم هنا هو كيفية التصرف ازاء موقف صعب ودقيق .. ومخيف !!

ذات يوم خرج رجل غنى فى سفرة تجارية له .. وكان يرافقة عبدان له . فلما كانوا فى منتصف الريق البعيد الخالى من الناس ، هم العبدان بقتله طمعا بما يحمله معه من مال وفير !

وشعر الرجل بالخطر واحس بانه مقتول لا محالة . وتأكد ان منيته قد حانت على يدى عبديه الغادرين . وأنه لا أمل فى النجاة من الهلاك ،فأوصى العبدين ان يعودا الى اهله وينشدا هذا البيت من الشعر :

من مبلغ بنتى ان اباهما

لله دركما ودر ابيكما

وقتل العبدان التاجر الثرى ، واستوليا على ماله ، وقفلا عائدين ، ولم يجدا بأسا من ان يتوجها ال داره ويبلغا ابنته الكبرى بوفاة والدها بسبب التعب والارهاق خلال السفرة الشاقة .

وذكرالعبدان للابنة اخر ما تلفظ به والدها ، فناديت على أختها الصغرى وأخذت تنشد على سمعها قول أبيها .

ولكن ..

ما ان سمعت الابنة الصغرى قول ابيها حتى صاحت وصرخت مولولة باكية حاسرة الرأس تندب اباها المقتول ، وتطلب من عشيرتها الاخذ بتأره من العبدين القاتلين !

دهش السامعون ، وسألوهاعن السبب فى قولها هذا .. وطلبوا منها الدليل على ارتكاب العبدين لجريمة قتل ابيها !!

فقالت وهى تبكى وتنتحب :

الن الصراع الاول يحتاج الى ثان ، والمصراع الثانى يحتاج الى اول ، والمصراعان لا يليق احدهما بالاخر .. انما قصد ابى ان يقول قبل موته :

من خبر بنتى ان اباهما

امسى قتيلا بالفلاة مجندلا

لله    دركما   ودر   ابيكما

لا يبرح العبدان حتى يقتلا

فألقى القوم القبض على العبدين . وتم استجوابهما حتى اعترفا بارتكاب جريمتهما الشنعاء ، وارشدا الى مكان القتيل وقبره !!

وهكذا .. استطاع الرجل بفضل رسالته الغامضه ان يقتص من العبدين .. بعد موته !!

لسنا مغناطيسا .. فارغا !

 

ربما كان أبهج احساس يمر فى ساعة زمن ثقيل ، هو الضحك من القلب .

فأن يبقى الانسان كئيبا صارما لا يفارق العبوس ملامح وجهه ، ولا يغادر الهم جدران نفسه ، ولا تعرف البسمة طريقا الى شفتيه ، لانه قد اصبح انسانا مرموقا مشهورا .. لهو انسان جد تعس !! إنسان يحتاج ويشتاق الى تلك اللحظه الضاحكة بكل حنايا وثنايا قلبه المطحون !

والنجاح ..أى نجاح ، سيكون حتما اجمل واروع لو جاء نجاحا مرحا لم يضح صاحبة صاحبه بابتسامته ، ولم يغدر بضحكته ، من اجل ان يصبح شخصا عظيما ناجحا !

هذا الانسان لو عرف أ أسلوب تفكيره ، وطريقة كلامه لهما عقة وطيدة بتحديد طموحه ، وصنع نجاحه .. ذاك الذى يحفل بالفرح والسعاده .. والحب ، لكان حمد الله كثيرا الذى وهبه هذه النعمة وتلك المقدرة ، على وأد التعاسة .. وخلق السعادة .. وصنع النجاح .

فهذا الاسلوب فى التفكير ، وما يؤدى إليه من طريقة معينة فى الكلام ، تشى بالبهجه ، وتوحى بالتفاؤل .. هذا التفكير ذاته يولد فينا موجات واهتزازات تجذب ألينا كل ما يتفق مع تفكيرنا وكلامنا .. وهكذا .. نبقى دائما خالقى فكر ، وصانعى نجاح .

ونحن إذا دأبنا على ممارسة التفكير المضىء الواعد ،

 وحرصنا على الكلام البهيج السعيد ، سنحصل بديهيا على السلام الداخلى ، بعد أن عرفنا كيف نجعل تفكيرنا يدور حول محور الفرح والسعاده ، سنعيش دائما فى محيط ..  الفرح والسعادة .

فهل نحرص على ان ننقى مشاعرنا الداخليه من تلك الافكار الكئيبه المحزنة التى يغمرنا بها العالم من حولنا ؟! هل نحاول بجدية ان ننجى أنفسنا من الغرق فى تلك الفيضانات الدافقه الهادره ؟!

وهل نحاول حقا خلق الفكره الطامحة الهادفة ، خاصة لو عرفنا (قدرتها ) على الجاذبية ؟! لكن .. هل نعرف جميعنا ما هو قانون الجاذبية ؟!

قانون الجاذبيه كما جاء فى المجلد الثانى من (دائرة المعارف السيكولوجية ) هو :

” قانون الحب ” ليس الا ، وليس لهذا القانون أية علاقة بالرغبة التى تدفع فتى جميلا نحو فتاة جميلة وبالعكس ، ويمكن تعريفه كما يلى :

“إن الاهتزازات الذاتية المتماثلة تتجاذب وتتحد وتقوى بالتبادل “

وكى لانكون مغناطيسا فارغا خاويا فقد قدرته على الجذب والتأثير ، اهدى لكم تلك الفقرة التى وردت فى نفس المصدر السابق ، كى نعلم ما بها ، ونتعلم منها ،أملا فى تحقيق التألف والنجاح والابهار .

(يقول العلم إن كل شىء فى الكون هو (إهتزاز ) . وعليك أن تدرك (كيف ) تجذب كل ما أنت راغب فيه ).

وفكره الامل ، والحب المنعتق من كل أنانية ، والاعجاب ، والسماح ، تخلق فينا اهتزازات سامية ، سريعه تنضم الى الاهتزازات تنخفض وتبطىء ولا يبقى شىء مما هو سعيد ومنسجم فى حقل الجاذبيه عندنا . من هنا نعلم كيف نفقد أعظم الامال .

إننا كالحجر المغناطيسى الذى فارقه المغناطيس ويلزمنا جهد واع لكى نحرك اهتزازاتنا من جديد فى سبيل تحقيق أمالنا ) .

فلو أننا زرعنا داخلنا أفكار السعاده والفرح ، والطموح والنجاح مهما كانت صعوبة الظروف المحيطة المحبطة .. سنفلح حتما فى العيش مع النفس بسلام .. وسنعرف كيف نمضى قدما على درب الزمان ، املين فى النهاية بالالتقاء مع السعاده والفرح .. والنجاح … واى نجاح !

حقا .. ما أندر أن يجد الانسان نفسه وقد تجسدت احلامه وتحققت أماله .. وما زالت روحه شابة وقلبه ضاحكا وفمه مبتسما

هذا الانسان الناجح السعيد هو الذى يعيش جيدا ، ويضحك جيدا ، ويحب أكثر ويكسب احترام الاذكياء وحب الاطفال ، وهو الذى يملا مكانه ، وينجز مهمته ، ويترك العالم أفضل مما وجده !

هل هذا معقول ؟!

 

احب الشتاء .. أحب شمسه الدافئه ولياليه الهادئه .أحب الشعور بالحراره فى الداخل رغم البرودة والامطار فى الخارج .. هذا التناقض الحرارى بيهجنى الى اقصى درجة .. لا أدرى لماذا !

أموت حبا فى الجلوس امام مدفئه طبيعيه تلك التى تتغذى الفحم والخشب ،احسها كائنا حيا يفتح فاه مسعورا ، فيعطى سعيرا حاميا يدفىءء الدانى والقاصى

.. ومع برودة المساء ، ومع دفء ينعش الاوصال ، يحلو لى السمر والسهر فاقبع استمتع بروعة الذكريات داخل علبتى الصغيره استمرى الحوارات داخل محارتى الدافئه الساكنه .ز فكم اكره الخروج فى ليل الشتاء القارس العنيد .

وذات مساء بارد كان يحبو نحو ليل شتاء .. التقينا مع شلة اصدقاء فتحلقنا حول صوت ام كلثوم ، يدفىء بنبراته الدافئه برودة الليل ، ويؤنس وحشة الصقيع .

ودار حوار ..

أشتركنا فيه جميعا ،واخذنا نرتب احلى اغانى ” الست ” الى قلوبنا .. فرشحت انا ” كل ليلة وكل يوم اسهر لبكرة فى انتظارك يا حبيبى “.. وسرعان ما التف حوارنا وتركز حول معانى هذه الاغنية الحانية ..

برق وميض فى مخيلتى كصورة برق خاطف خاطف ، مر سريعا بذاكرتى .. فإخذت اتذكر وانا بين الحقيقه والخيال ، وأتساءل قلقه .. هذا الحوار ليس جديدا لقد دار من قبل هذه المره بالتاكيد .. ومع هذه المجموعه بالذات ؟!

.. ومضى الحديث وكأنه شريط سينمائى يعرض للمرة الثانية او ربما الثالثة امام عينى .. وخفق قلبى .. هل هذا معقول !!

غريبة ؟!

نفس الجلسة ؟! نفس الاشخاص ؟! نفس الحوار ؟! .. هل هذا معقول ؟!

وانتابنى وجوم عجيب ، مزيج من الدهشة والاضطراب .. واحترت ، فهذه الحادثة ليست هى الاولى من نوعها ، فأحيانا تتكرر نفس هذه المواقف وتتشابه بحذافيرها ، فيخيل الى الوهلة الاولى انها جديدة .. لكننى سرعان ما اكتشفت اننى مررت بها من قبل .. موقف قديم يعيد نفسه .. احداث تتجدد !!

وبدأت اسال واستفسر عن ماهيتها ، وهل هى تصيب اناسا اخرين ؟! ام انا فقط؟!

.. وعلمت انها تحدث لكثير من الناس ، فقط يدخل أحدهم مكانا ما فيشعر وكأنه عاش فيه بعض سنوات عمره .. وبعضهم ما ان يرى أمراة ما حتى يشعر بألفة غريبة نحوها ، وكأنه يعرفها كزوجة او كأنسانة منذ سنوات وسنوات !!

بل ان البعض ما ان يتذكر شخصا معينا حتى يراه امامه خلال لحظات ، او يسمع صوته عبر الهاتف فى الحال ..

وظللت اسأل وأسأل واتحرى .. فتأكدت ان هذا الذى يحدث ” شىء ” غير عادى لا اعرفه ، “شىء ” يختلف عن علم ” التليباثى ” – علم الاتصال – شىء يحاول العلم ان يستطلعه بواسطة علماء من نوع معين

وعرفت انهم يحاولون الان فى فى انكلترا عبر دراسات خاصة فى جامعة اكسفورد فقط .. يحاولون بحث هذه الظواهر غير العادية .. فى نفس الوقت يحاولون ايجاد تسمية علمية صحيحة لهذه المواقف ذات الاحاسيس الغامضة المبهمة !!

ولكن .. ما زالت هذه الدراسة مقيدة فى نطاق خاص يحد من انتشارعا فى الوقت الحاضر ، مما يعطيها حجما محددا يتقلص داخل انجلترا وحدها .. لماذا ؟!

لانها ما تزال تحوى الكثير من الغموض .. والشعوذة !!

براعم الحب

 

صرخت : أنتم لا تفهموننى .. الحقيقة ..

قاطعوها : الحقيقة ، هى الامر الواقع .. لا رغبات الخيال .

عادت تقول : حاولوا ان تفهمخونى .. انتظروا .. سأخبركم بما ..

أداروا ظهورهم . انصرفوا . لم ينتصروا سماع ما عندها !

وغرقت الفتاه الحلوة فى طوفان دموع ، وضاعت فى صحارى أسى .

طرد الحبيب من الدار . لم يعد . وسجنت الفتاه الحلوة وراء الابواب وخلف الاسوار !!

أعلنوا خطبتها لابن عمها وحددوا موعدا قريبا للزواج . وعاشت الحلوة تتعذب . ترفض إرادتهم برعب . تقرر الا تنهزم . وتعود بذاكرتها .. يوم كانت طفلة تعشق وجه القمر ، تهيم بالطيور والازهار والاطفال الصغار .

كان كل شىء جميلا  . كانت ضحكاتها تطلق الفرحة من عقالها .

كانت بسماتها تنعكس على روح أمها عندما تمرر يدها الصغيرة فى حنان لتسمح دموعا غزيرة ساخنة عن وجهها ، الذى تضمه فى وله شغف ألى صدرها الصغير ، وتحتضنه بنشوة طفولتها البريئة  ، ثم تعود بها الى غرفتها الدافئه ، خوفا عليها من صقيع الوحدة … وعذاب الشتاء !

كانت أمها دوما حزينة ، غارقة فى طوفان دموع ، ضائعه فى صحارى أسى ، كانت تخفى شعورها بالفرحة ، أى فرحة ، وكأنها تخفى عارا سحيقا . كانت تبتلع كلماتها وتقذف بها فى تيه النسيان .

وتذكر الفتاة الحلوة كيف كانت أمها تحتضن طفولتها المضيئه ، وتروى لها فى سكون حكاية زواجها من ابن عمها القاسى الشرس ، الذى امتص ربيع عمرها ، يوم تزوجها صبية غضة ، جفف زهرة حياتها بعمرة   الخمسينى !

وتدرك الابنه الواعية ان امها عاشت منبوذه ، مبعثرة كسحاب صيف منثور ، تعرف انها كانت نقطه حبر باهته فى كتاب أبيها الحافل بالكلمات ، ولا تنسى ذاكرتها لوحة وجه أمها الرائع المعتق الاحزان .

تنهض الحبيسة ، وتسجل فى كتاب أبيها الحافل .. هذه الكلمات :

طحننى هلع قاتل ، وأنا أتأمل الظلام وجدران الموت الذى سجنونى فيه ، زكمتنى رائحة الماضى الباهت التى تفوح من حنايا الدار .. وقررت أن أنبش وأخمش صدر الايام بمخالبى .. فانقلبت ذئبة !!

قررت أن أهرب . أن أفر الى حبيبى .أن أتزوج بمن أحب . أن أعيش كل حياتى . أن أذوق طعم الهناء .أن أتعرف على السعاده .أن أصادق البهجه وأصاحب الفرحة

فأبرزت مخالبى . كشرت عن انيابى . وانفلت من الحبس . قررت أن أضرب بيدى المعكوفة من يعترض طريقى ان اهدر دم من يعوقنى .أن أقتل من أجل الحب !

وتحفزت . حفزت جدار حبسى .. وثبت . سرت .. أنا تلك الذئبة الشرسة الهائجة . أمزق بتوحش ظلمات الليل . أقطع بنظراتى الامكنة . أرمح الى طريق الخلاص ..

وانشكبت مخالبى بجسم طرى . جسم مخطل بدموع غزيزة ساخنة . جسم شممت رائحتة التى اعرفها جيدا .فتأكلت مخالبى ونبتت اصابع طفلة ، تمرر يدها الصغيره فى حنو وحنان تمسح دموعا غزيره  ساخنه عن وجه أمها ، الذى تضمه فى وله وشغف ألى صدرها الصغير وتحتضنه بنشوه طفوتها البريئه .

واختفت الذئبة فى داخلى . اغرقتها دموع أمى الغزيزة الساخنه .

وأحسست شيئا يقفزفى كيانى . كأن فأرة ولدت فى أعماقى المقهورة . فعدت بى وبأمى الى غرفتى الدافئه ، خوفا علينا من صقيع الوحدة .. وعذاب الشتاء !

شتاء الغد القارس .. ذاك الغد الغادر الذى مزق مستقبل أمى عندما حاولت الهرب للحاق بحبيها ، فزوجوها من ابن عمها .أبى .. القاسى الشرير ، الذى تطوع لستر عار العائله ، وتغطيه طيش الصبية الغضه … بأعوامه الخمسين !

.. وعاشت أمى أيام عمرها منبوذه . مبعثرة كسحاب صيف منثور !

واعلنت فى جبن . أنا الفأرة الرعديدة ، موافقتى على الزواج .

وعشت أيامى ألعق جرحى الدامى العتيق .أتحسس وجه أمى المغبق فى ليالى الشتاء الباردة . وأرقب وجه زوجى الطيب الحنون . وأبحث بأمل عن براعم حب .. عليها تنبثق من جديد ..

جدران

 

لايوجد انسان ليس عنده حلم بعيد كبير لم يتحقق بعد ويظل يتمنى ان يطول به العمر كى يتحقق . وربما بعد ان يصله يكتشف انه لم يعد ذاك الحلم البعيد الكبير، وانه قد بدأ يحلم فى اللحظه نفسها بحلم اخر ابعد واكبر . فيظل يدعو ان يطول به العمر ، كى يحقق هذا الامل الجديد البديع !

وهكذا .. تمضى الدنيا بالانسان حلما وراء حلم ، وأمنية تتبع امنية . حتى تنتهى الفترة المقسومة له فى الحياة . سواء اكانت فترة عناء وشقاء .أم راحة واسترخاء.

وذات يوم .. اهتديت الى ان الانسان لو شعر بان كل امانيه تتحقق لذاق معنى التعاسة والارق ، ولعرف طعم اللامعنى المرير ، لساعات الحياة الطويلة الطويلة!

وكان ذلك يوم رأيت صاحبة هذه الحكاية الحالمة . هى شابة رائعة الجمال . فى شرخ الصبا . زوجة لرجل ناجح مشهور . تعيش حياة البذخ والثراء . لم تحرمها الدنيا من نبل الاصل وعراقة المحتد .

ومع ذلك لم تكن سعيدة هانئة بالطريقة التى تعيش بها حياتها ، او تقضى بها ايام عمرها ، كانت تمضى معظم اوقاتها خائفة ان يصيبها شىء ما يفسد زمانها ، فهى تقلق على طفليها اذا تأخرا عن العودة من المدرسة بضع دقائق . تهلع اذ غاب زوجها فى سفرة عمل ، وتحسبه سيعود اليها وفى ذراعه تتعلق زوجته الجديدة الحسناء !

وكان اقلق ما يقلقها ان يمضى الزمن ، وتفقد جمالها وبهاءها ، كانت ترقب بشرتها كل صباح بمرأة مكبرة تنقب عن تجعيدة صغيرة لم تزل فى أعماق جلدها .. ولم تكن تعرف ان التجاعيد ليست علامات الشيخوخة .. فقد يذبل الورد من العطش !!

وعطشت الوردة الرائعة الجمال الى الامان .. جففها واذبلها الخوف من المجهول . فشيدت الاسوار حول حياتها المنعزله . ورفعتها لتحصن بيتها ضد اى طارىء مجهول !!

.. ومع الوقت اصبحت واحدة من المتشائمين .. هؤلاء الذين يبنون حولهم سجونا فى الهواء !

فأحيانا يقوم جدار ما يفصلنا عن الاخرين … يبعدنا عن الاتصال المباشر بهم

ربما يكون هذا الجدار مبينيا على الوهم .. او الخوف .. او القلق .. او الملل .. او حتى لمجرد الرغبة فى ممارسة لذة الصمت !

 فكثيرا ما يشعر الانسان برغبة حادة فى العيش مع نفسه . فى التقوقع داخل جدران قفصه الصدرى .. بعيد بعيدا عن كل الاخرين !

حينئذ سيرى جدران حياته  وقد اختلفت ماهيتها . تفاوتت درجات سماكتها . فمنها ما هو شفاف .. وما هو معتم . ما هو سميك غليظ .. وما هو رقيق ناعم . ومنها ما هو خشن .. وما هو املس . سيلتفت حوله فى سكون يبسم ويضحك وهو يرقب نفسه فى مرايا جدران ذاته .. مرايا ذات اسطح عاكسة كاذبة .. كمرايا الملاهى التى نرى فيها أنفسنا . فنضحك لاول وهلة من أنفسنا !!

ثم .. نحس بازدراء باهت يطوف بمشاعرنا . ويفيض فى وجداننا ، لاننا نعلم ان هذه الصور الهلامية ليست صورنا الحقيقيه ..

وان وراء هذه المرايا الساخره يوجد جدار جاد صامت ، لا يبتسم ولا يثير الابتسام !

انه جدار الواقع الصلب بكل قوته وخشونته يسلبنا الراحة مع الذات ، ليعيدنا الى الاتصال المباشر مع الاخرين ، يرغمنا على التعامل مع الحياه بحرارة … قريبا قريبا من كل الاخرين !

قمة القوة

 

احيانا .. يشعر البعض بالرغبة ففى رد الاعتبار او الاخذ بالثأر ، حتى ولو كان ذلك مقابل كلمة  نافرة ، أو لمجرد موقف سخيف .. وضعه فيه الاخرون !

انهم يظلون يفكرون ويدبرون ، وربما يخططون لكيفية الرد والانتقام ، على ما كان من حوار .. او ماحدث من مواقف

ورغم ان الموقف قد يتأزم ويتطور ، الا انهم ابدا لا يتراجعون عن تنفيذ رغبتهم النارية ، وتحقيق نزوتهم الثأرية ،أملا فى ان يندمل جرح كرامتهم ، وان تشفى خدوش عزتهم ، فهم يعتقدون – خطأ – أنهم لو لم يسارعوا برد اعتبارهم ، سوف يكونون ناقصى الكرامة ، سليبى العزة ، عديمى الشخصية والشموخ والاباء

لهؤلاء البعض اصحاب القلوب الملونة ،أقول بكل الرجاء :

ما أجمل العفو .. عند المقدرة .

وما أروع العفو عن هفوات الناس ، وغفران أخطائهم ، فهذا يعد حسنة حقيقية ، فالله سبحانه كبير فى غفرانه ، عظيم فى عفوه وتسامحه .

قال تعالى :

(ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم )

صدق الله العظيم

الله جل جلاله يدعونا ألى المعاملة الطيبة ، والتسامح ، والمحبه ، فيمنحنا أجرا فى الحياة الدنيا هو راحة القلب والضمير ، ويغمرنا بمشاعر الرضى عن النفس ، كما يكافئنا فى الحياة الاخرة بالاجر والثواب .

فلنحاول ان نتسامى عن نزوة الثأر، وأن نتعالى على رفبة الانتقام ، فهذا الانتصار العابر والزهو الوقتى ، لحظه أشباع شهوة الانتقام ، سرعان ما يزول ويخبو ، ويعقبه ندم عات عنيف ، يعصف بنا ، يدمر احساسنا ..

ولكن … بالعفو .. سنربح مكسبين ثمينين ..

أولهما : صفاء الروح وراحة الضمير والعيش بسلام مع النفس  ، وسعادة تحت الجلد..

فهل جربت مرة كيف يكون شعورك وانت تمارس العفو عند المقدرة ؟ أنك حتما ستشعر أنك الاقوى .. أقوى من الانتقام نفسه .. او ليست هذه هى قمه القوة  ؟

ثانيهما : كسب محبة الناس ، حتى الاعداء أنفسهم ، فيصبح حينذاك

العدو اللدود صديقا حميما ، وتغدو الدنيا أجمل وأعذب ، أنعم وأرهف ، مادامت نفوسنا هائة مطمئنة ، تنعم بالسكينة وتزخر بالامان ..

زمع الوقت ..

سنجد أنفسنا أسعد حالا ، فكلما كسب الانسان صديقا حقق انتصارا ذاتيا ذهنيا وبالتدريج .. ربما تربح بعض الاعداء ، الذين قد تنجح فى ان تضمهم الى قائمة الاصدقاء ، وحتى لو لم تفلح فى ذلك ، ظنا منك ان التعامل معهم من جديد غير مجد وغير مثمر ، فيكفى ان تقنع بالعفو عنهم ، فكما قال ” اوسكار وايلد” : (اغفر لاعدائك فلاشىء يضايقهم أكثر من ذلك ).

فلماذا لانغفر ؟

لماذا لا نعفو ؟

إن البعض للاسف يعتقد ان التسامح مذلة ، وأن العفو امتهان وان لغفران ضغف ، فى حين أن الغفران قوة .. وأية قوة .

نعم .. فلنكن كما يقول الشاعر :

كن كالنخيل عن الاحقاد مرتفعا

يرمى بصخر فيلقى بأطيب الثمر

أغلى من الحب

 

كانت العائلة تطلع البر . بمجرد ان يعلم انى سأذهب يترك كل ما لديه ويأتى . كنت احب مداعباته لى . ارقص فى الخيمة وانا واسقه انه يرانى من مكان ما فعلا كان يعرف كيف ومتى واين ينظر الى . هو ابن عمى ليس بغريب .

عشت حياة نعيم وترف ابنه مدللة .ز وحيدة والدها التاجر الثرى . عوضنى ابى عن فقدان امى منذ كنت صغيرة  جدتى حنون تحبنى حبالا يوصف دائما تساندنى وتمدحنى امام ابى .

حتى جاء يوم اسود .. فالزمان لا يصفو الا ليبشر بنذير .. وفى سكون ما قبل العاصفه دخل ابى المنزل لن انسى ما حييت منظرة فى ذلك اليوم احسست بخوف غامض . شعرت بان مصيبة قد وقعت لما رأيت ابى والحزن يعتصر نفسه . والالم يمزق وجهه .

لمحته يدلف الى غرفة امه بسرعة ليتوارى عن عيونى سمعته ينتحب وينطق بكلمات غامضة وصلت الى اذنى ناقصة مبهمة .

وبعد ليلة عصيبه .. تسللت الى جدتى مع خيوط النهار . ايقظتها .سالتها عما اصاب ابى . عما حل به فنقلت لى نبأ افلاسه وكيف ان صديقه عبد الله عرض عليه كل امواله ووضعها تحت تصرفه . وهو مجرد لان ابن صديقه يحبك ياليلى . يريد ان يتزوجك وكان قد طلبك مرة قبل سنتين وابوك رفض لانه ” يدرى بحبك لولد عمك”

 والحين اذا اخذ المال ما راح يقدر طلب طلب الزواج من ناصر ولده . وهو محتار ما يدرى كيف يتصرف .

“وانت ياليلى .. ابوك يحبك وضحى من اجلك . رفض يتزوج خاف عليك من زوجة الاب . وانا ما اقدر اقولك اتركى ولد عمك وتزوجى ناصر . وما أقدر أتحمل شوفه أبوك محتاج “

وتم الزواج . ضحيت بحبى لانقذ ابى من ورطته الماليه . كنت اصبر نفسى واقول ان المراءة التى تتزوج بمن يحبها اسعد حالا من المراة التى تتزوج بمن تحب .

لم يحتمل حمد الصدمه . طار من الكويت بحجه إكمال دراسته بالخارج . عرفت فيما بعد أنه تزوج اجنبيه . واخلص ناصر لابى ساعده بعمله . كان خريجا درس اتجاره والاقتصاد . استرد ابى امواله وانتعشت تجارته وعاد ثانية من الاثرياء . واخلصت لزوجى . لم احبه كان مجرد زواج راكد لاحياة فيه . لا ادرى حتى الان اذا كان زوجى يعلم بقصة حبى ام لا . حاولت عدة مرات ان استشف ما وراء  نظراته . لم أتاكد بعد . زوجى ذكى لايكشف عما فى نفسه . عيونه داكنه لا تشف ما ورائها .

وفى يوم ساكن كأيام حياتى . دخل ناصر فرحا ليقول لى انه حصل على قسيمه فى منطقة زينة وبأنه سيبنى فيلا رائعه .. انتهيت من تأثيث الفيلا . انتقلنا اليها وأنا فرحة بتلك الحصوة التى حركت بحيرة نفسى . وسرعان ما رجع إليها الركود والسكون . وذات ليلة وبينما كنت اقرا كعادتى . اقتل الشعور بالوحدة ودخل زوجى ومعه حبيبى حمد ولد عمى . اضطريت لم أبد دهشتنى على  حقيقتها . كتمت انفعالاتى . جلس معنا حوالى الساعه . عرفت انه كان مع زوجى فى مدرسة واحدة . وانه اضصبح الدكتور حمد والتفيا الان فى الجمعيه فدعاء ليشرب فنجاى شاى . جلس يحتسى الشاى ويحتسى النظرات نحوى .. كأننى رأيته يزداد توهجا . كأننى سمعته يقول لى (يابعد قلبى ) وهو يضع الفنجان على الطاولة . اطرى على ذوقى فى تأثيث الفيلا .

خرج بعد ان تركنى هامده . اتعبتنى نظراته . كان يبحث عنى يريد ان يعرف اين انا منه وهل لايزال ” بعد روحى ” كما اعتدت ان اهمس له ؟

تعددت زياراته . وتعددت ضربات قلبى . تركزت نظراته . وتشتت نظراتى . كان حلقى يجف . هدنى الخوف . خشيت ان اضعف خفت ان يشعر بى زوجى . ان يفهم سر هذا الاضطراب الذى يتنبانى حينما اراه .

كثرت زياداته . اصبح يحضر زوجته ليعلل وجوده امام زوجى خفت اكثر .فالمرأة اقدر على فهم لمرأة . حرصت على أن تنفصل جلستنا .. ندع الرجال بروحهم . ونجلس نحن بروحنا . ومضت ليالى عنيفة وايام مدمرة .. وازداد نحولى . وانكشف اضطراب اعصابى . الى ان جاء يوم اقترح حمد ان نذهب الى البر . فبضعه ايام هناك ستجعلنى استرد صحتى وافق زوجى بسرعه الى البر . فبضعة ايام هناك ستجعلنى استرد صحتى . وافق  زوجى بسرعه . فهو يجب ارضائى وسعادتى . اعطف عليه كثيرا . احترامه اكثر .

وجاء موعد (الكشته ) . حضرنا جميع الاغراض . لم ننس شيئا استعد للذهاب معنا جماعه اخرى من الاصدقاء . كان العدد كبيرا ذهب السائق يوصل الهند يه لبيت شقيقتها . اكتشف زوجى ان الفحم قليل . فذهب لشراء كميه اكبر تكفى لعملية الشواء . وجاء حمد يستعجلنا . دخل ملهوفا كعادته . رأنى واقفه بجوار الباب . اهم باستقبال الداخل . حسبته زوجى . اقفل الباب خلفه بقدمه . نظر الى فجمد الدم فى عروقى . اقترب منى . .. انقطع نفسى . احسست ان صدرى سيتمزق . كدت أركل حياتى واحتمى بأحضانه . اعوض ما فات . أروى حرمان كل هذه السنوات .

ودفعته عنى بجهد . نظرت اليه فى توسل .. واسترددت أنفاسى . سيطرت على نفسى . طردت الشيطلن .. وحين استطعت ان اجد صوتى .. ببرود مباغت قلت : (انا الحين مرة متزوجة .. مو انا اللى تخون زوحها . وتخون بينها . اطلع يا حمد من بيتى .. واذا رجعت راح احكى لزوجى كل شئ) . شحب وجهه ووقف ساكنا فى مكانه وقد الجمت المفأجاه لسابه . وبذهول المجنون طلع . وبذهول الفرحة زهوت بقوة ارادتى .

كنت اخشى تلك اللحظة . كنت اعمل لها الف حساب . كنت اعرف انه سيحاول ان ينالنى يوما . عرفت ذلك من نظراته . من طريقته فى الكلام .

وعاد زوجى يحمل الفحم . سألنى عن الجماعة . قلت له اعتذرت لهم . جاء حمد وقلت له يقول لهم ما راح نطلع معاهم البر .

– ليش .. خير ان شاء الله .. فيكى شئ ؟

– اى والله يا ناصر .. فينى دوخة الحين .. ياليت تودينى الطبيب

وطار زوجى من الفرح

 

نور القلـوب

Featuredنور القلـوب

نور القلـوب

مقدمة الكتاب

الحمد لله الذى هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .

الحمد لل الذى لا تنفد كلماته ، ولا تستعصى على الفهم والإدراك على أحد من خلقه ، وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجميعن .

أعزائى .. قرأئى حفظكم الله ورعاكم ، يسرني أن نلتقى عبر صفحات كتاب نور القلوب لنقرأ معاً كلمات مضيئة تدور حول الإيمان بالله ورسوله ، والتصديق بما أخبرنا به الله فى كتابه الكريم ، ذلك النور الهادي الذى تستضئ به القلوب والنفوس والعقول .. وهذه الصفحات التى نقرأها الآن هى عبارة عن مقالات أسبوعية سبق نشرها فى مجلة اليقظة الكويتية قمت مؤخراً بتجميعها فى هذا الكتاب ..

.. ذلك الكتاب الحافل بالنور ، نور الله تبارك وتعالي ، الذي حرصت أن يصدر بأسلوب سهل بسيط يدخل القلب مصحوباً بخشوع ورغبة فى الله عميقة ، وحباً لرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، حباً ظاهراً وباطناً واضحاً ، فعندما تتلاقي الكلمات الصادقة فى حب الله ورسوله مع قرائها ، تتضح المعاني ، ونتواصل الأفكار، فيدركها العقل ، ويستوعب ما فيها من معلومات تعينه على إصلاح نفسه، والفوز بخيري الدنيا والآخرة إن شاء الله ، وهذا بفضل العقل ، الذي حبانا الله سبحانه وتعالى ..

قال بعض العلماء : لما هبط آدم ، جاء جبريل بالدين والمروءة والعقل ، فقال: ان الهل يخيرك فى واحد منها فاختار العقل ، فقال جبريل للدين والمروءة : اصعدا ، فقالا : ان أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان .. لقد أحسن القائل :

إذا أكمل الرحمن المر عقله

                           فقد كملت أخلاقه ومآربه

وأفضل قسم الله المرء عقله

                           وليس من الأشياء شئ يقاربه

عن ابن – عمر رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لإن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد، فما يُجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله ” ([1]) .

ففي الواقع ، العقل البشرى لا يكف عن التفكير والبحث والتأمب ، فكلنا نعبد الله الذى خلقنا ورزقنا ، الذى يُحيينا ويُميتنا ، فهو القادر القاهر ، الغفور الرحيم ، صاحب النعم علينا .. فهو تبارك وتعالي يستجيب دعاءنا ، ويعطينا ويرحمنا .. إنه جلّ جلاله فى كل مكان ، فى كل زمان ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، فالكون ملكه يديره ويدبر أمره .. سبحان الله عما يشركون .. نعم .. ( يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  ) ” النور 35 ” .

نسأل الله أن يوفقنا جميعنا ، وأن يتقّبل منّا صالح أعمالنا ، وأن يغفر ذلاتنا ، وأن يعفو عنّا ، ويرحما إنه سميع قريب مجيب الدعاء ، واليكم دعاء أحد الصالحين :

” اللهم أسألك فهم ما جاء به النبيين ، والمرسلين وحفظ الملائكة المقربين ، وأن ترطذب لساني بذكرك ، أن تجعل قلبي مليئاً بخشيتك ، وأن تُنعم علىّ بحسن عبادتك ” آمين يارب العالمين .

 

كريمة شاهين
الطريق إلى حب الله

القلب وما فيه من عاطفة جياشة تحوى الحب والعطاء ، يحظى بمنزلة عالية في الإسلام . فهو المحرك الرئيسي لتصرفات الإنسان ، وهو الدافع الباعث على كل ما يرضى الله ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٧٧﴾ وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ) ” الحج : 77 ، 87″  . فكلما كان الشخص صادق الحس بمشاعر الآخرين ، كلما انطلق كالسهم سعياً في تفريج كربهم ، دون تردد أو توقف ، كلما انطلق كالسهم سعياً في تفريج كربهم ، دون تردد أو توقف ، كلما كان أعلى مكانة، وأسمي مرتبة من ذلك الشخص الآخر الذي لا يهتم ، ولا يبالي ، ولا يعير الآخر ” المحتاج ” أدني اهتمام !

اللطيف فى الموضوع ، أن فعل الخير المبني على الإحساس بمشاعر الآخرين لا يقتصر فقط على الحسّ المادي أو المساعدة العينية وحدها ، بل إنه يشمل أيضا المشاركة الوجدانية ، تلك المشاركة الودودة الحانية التى ما تلبث أن تتقلص حتى تصبح مجرد ابتسامة ! نعم . ابتسامة تعتبر صدقة . صدقة تعّبر عن الحب والخير .. والعطاء .

وفى هذا حديث الذى رواه أبو موسي الأشعري عن النبى “صلى الله عليه وسلم” قال ، قال : ” على كل مسلم صدقة” فقال أبو موسي أرايت إن لم يجد ؟

قال : يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق .

قال : أرأيت إن لم يستطيع ؟

قال : يعين ذا الحاجة الملهوف .

قال : أرأيت إن لم يستطع ؟

قال : يأمر بالمعروف أو الخير .

قال : أرأيت إن لم يفعل ؟

قال : يمسك عن الشر فإنها صدقة ([2]) .

فالمسلم لابد أن يقدم شيئاً . إذ يستحيل أن يكون المسلم عقيماً لا أثر له ولا ثمر . فلابد وأن يعطي . يعطى ولو بالامتناع عن الشر والأذى . هذه هى روح الإسلام . وهذه هى السل التى علمنا الله أن نتبّعها لنمتنع عن الشر . وأن نسلك سبل الخير والرشاد . فالله سبحانه وتعالى بين لنا طريق البذل والعطاء . ذلك الطريق المبني على الحب والإخلاص .

.. وأعلى درجات هذا الحب . هو الحب لله . فيصبح الله محبوب قلبه . ومعبود قلبه . ومقصود قلبه . وهذا ما قاله المولى عز وجلّ في حديث قدسي لرسوله الكريم : ” إني حرّمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيرها فيها ” ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابة الكريم : ( مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) “الاحزاب:4 ” فالقلب واحد يتجه به صاحبه إلى حبيب واحد . فيسلمه له ، وهذا هو حال من يحب مولاه . يسلّم وجهه وأمره وقلبه وكيانه كله لله .

يقول الإمام الجنيدي عن العبد المحب المتعلق قلبه بالحب الإلهي ” عبد ذاهب عن نفسه ، متصل بذكر ربه ، قائم لأداء حقوقه ، ناظر إليه بقلبه ، أحرق بأنوار هيبته ، وصّفي شرابه من كأس وده ، وانكشف له الجبار من أستار غيبته فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فعن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله ، فهو بالله ، والله ، ومع الله ” .

ونحن كما نعرف أن للحب أنواعاً وألواناً ، وله أيضاً حدود وحقوق ، وعن ذلك الحب يقول أبو يزيد البسطامي : ” كاذب من ادعي محبته ولم يحفظ حدوده وأول حدود حب الله العمل لله بتعاليم الله وبأداء الفرائض ، واجتناب النواهي ” .

ويقول الشاعر :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه              هذا لعمرى في القياس بديع

إن كان حبك صادقاً لأطعته                إن المحب لمن يُحب مطيع

هذه هي الخطوة الأولي فى الطريق إلى حب الله . فحب الله لن يتأتي دون أداء الفرائض . وهو ، أي الحب ، دون أداء الفرئض يُعتبر زيفاً وكذباً . فأداء الفرائض شرط لحسن الظن بالله .

لكن .. إذا حدث وترك قوم العمل وقالوا : نحن نُحسن الظن بالله ، فقد كذبوا ، مصداقاً لقول رسول ” صلى الله عليه وسلم ” : ( لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ” ([3]) فليس لمن يهمل أداء فرائض الله ، من سبيل إلى القرب من الله .

يقول الإمام أبو سعيد الخراز : ” بلغنا عن الحسن البصرى رضي الله عنه أن ناسا كانوا على عهد رسول الله قالوا : يا رسول الله إنا نحُب ربنّا ([4]) عز وجلّ فنزل قول الله تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ) ” آل عمران : 31 ” فمن صدق محبة الله .. اتبع سنة رسول الله “صلى الله عليه وسلم” فى زهده وهدية وأخلاقه ، وتأسي به فى الأمور كلها .. وهذه هى قمة الإيمان .

كلمات من نور

” لقد مّن الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ” .

*  *  *


أفضل الأنبياء والرسل

   الأنبياء هم صفوة البشر.. يختارهم الله سبحانه وتعالي لحمل الرسالة, ويصطفيهم ممن هم أهل لحملها من الرجال ﴿الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير﴾ [الحج: 75] لذا نجد أن النبوة لا تكون إلا لمن اختاره الله تبارك وتعالي لها, وهى لا تكون بالوراثة, ولا بطريق الغلبة والاستعلاء.. بل هي اختيار محض.. فحكمة الله العليا قد حددت لكل إنسان رزقه, ولكل إنسان حظه من المال والرزق, والمال بالنسبة للنبوة شىء حقير فكيف يترك الأمر العظيم وهو” الرسالة والنبوة” إلى أهواء الناس ورغباتهم؟!

   هذا هو ما حدث مع رسول الله صلي الله عليه وسلم حين اعترض المشركون من كفار قريش, واستغربوا كيف تنزل الرسالة على يتيم فقر ليس له من مظاهر السلطان والقوة والغني شئ؟! فقد كانوا يتصورون من وجهة نظرهم القصيرة .. وهنا جاءهم الرد الإلهي الحاسم ﴿وقالوا لولا نزل هذا القرأن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمت ربك خير مما يجمعون﴾ [ الزخرف: 31, 32].

   وهكذا.. غاب عن كفار قريش أن النبوة هبة من الله لا تمنح لكافر أبداً. فهي لا تعطي إلا للمؤمنين, كما أنها خاصة بالرجال فقط وذلك لأنها عبء ثقيل وتكليف شاق لا تطيقه المرأة بطبيعتها الضعيفة المرهفة﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون﴾ [النحل :43].

   والنبوة بمعناها الواسع وعرضها النبيل, لها هدف يعتبر من أسمي الأهداف, وهو الدعوة إلى الإيمان بالله والدعوة إلى الإيمان بالآخرة وتفضيلها على الحياة الدنيا الفانية ﴿وما الحاية الدنيا إلا متاع الغرور﴾ [آل عمران: 185].

   وهنا.. قد يتساءل بعض الناس عن الفرق بين الأنبياء والرسل .. ما هو؟! ونحن إذا عرفنا أن الأنبياء قد وصل عددهم إلى حوالي مائة وعشرين ألفاً, أم الرسل الذين ذكروا في القرآن الكريم فهم خمسة وعشرون, ويجب الإيمان بهم جميعاً. هذا إلى جانب غيرهم الذبن لم يأت في القرآن ذكرهم ﴿ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك﴾ [النساء: 164] والرسل الكرام مأمورون بتبيلغ الرسالة فهم ﴿الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولايخشون أحداً إلا الله وكفي بالله حسيباً﴾ [الأحزاب:39].

   ..وبعض أولئك الرسل قد فضلهم الله وسماهم بأولي العزم, لأن إبتلاءهم كان شديداً, وعزائمهم قوية, وصبرهم عظيماً إزاء البلاء والمحن التي يتعرضون لها من الضالين المكذبين. وهذا هو التكليف الإلهي الذي خاطب به الله سبحانه سيدنا محمد ﴿يا أيها الرسول بلغ ما انزل إلي من ربك﴾ [المائدة: 67]. وهو صلوات الله عليه آخر الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم الذين ناداهم الله بأسمائهم إلا خاتم الرسل فقد خاطبه الله بوصف النبوة أو الرسالة إظهاراً لعظيم قدره ﴿يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً﴾ [الأحزاب:45].

   وهكذا.. خاطب الله نبيه بلفظ النبوة, ولاتوجد آية واحدة في الكتاب الكريم فيها خطاب باسمه الصريح. فهو صلوات الله عليه أفضل الرسل على الإطلاق, جعلنا الله من المقتدين السائرين على منهاجه, فهو نموذج للكمال, وعنوان للفضل, لأنه أكمل الناس عقلاً, وأطهرهم سلوكاً, وأشرفهم رتبة ومنزلة. أليس هو القائل: “خصلتان من كانتا فيه كتبه الله تعالي شاكراً وصابراً, ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً: من نظر في دينه إلي من هو فوقه فاقتدي به, ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه, المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً”.

   ومن معجزات هذا النبي الأمي أنه عندما كان يدعو الناس في مكة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونبذ عبادة الأصنام, ويقيم لهم الحجة على أن الله وحده هو الذي خلقهم وأن الأصنام لا تنفعهم ولاتضرهم, بل إنها لا تملك لنفسها نفعاً ولاضراً, فما كان جوابهم إلا أن قالوا : ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفي﴾ [الزمر: 3].

   وفي يوم من الأيام, قال كفار مكة للرسول صلي الله عليه وسلم لن نؤمن بك حتى تظهر لنا دليلاً محسوساً نراه أمام أعيننا حتى نصدقك.. فقال لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم وكان الوقت ليلاً: “انظروا إلى القمر” فنطروا جميعاً, أشار عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده فأنفلق – أي أنشق قسمين, وشاهدوه جميعاً ولكنهم قالوا: سوف ننتظر المسافرين القادمين من الصحراء لنسألهم هل شاهدوا انشقاق القمر مثلنا أم أنك يا محمد قد سحرت أعيننا؟! وجاء بعض المسافرين وسألوهم فأقروا بأنهم شاهدوا انشقاق القمر.. ومع ذلك آمن القليل, وكذبه الكثير, بل قالوا إنه سحر مستمر.

كلمات من نور

 ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر* وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر * ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر﴾ [القمر: 1 : 5].

*      *     *

لك الحب.. يا حبيب الله

   الحمد لله فاطر السماوات والأرض, الحمد لله الذي رزقنا الإسلام وحبب إلينا الإيمان, فنسأله أن يكتبنا عنده من أهل الإحسان, وأن يجمعنا يوم الدين مع سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلي الله عليه وسلم: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً﴾ [مريم : 96].

   اللهم يا ودود ياذا العرش المجيد, يا فعال لما يريد, يا عزيز يا حميد نسألك الرضا يوم الوعيد, ونسألك الجنة مع المقربين الشهود الموفين بالعهود.

   حقاً.. إنه الحبيب المحبوب حبيب الله والمسلمين أجمعين, الذين يحبونه أكثر من أنفسهم وأولادهم وأموالهم, والذين يصبرون على الإبتلاء, ويتحملون الأذي طمعاً في الفوز بالجنة ﴿لتبلون في أموالكم وأنفسكم﴾ أى أن المؤمن معرض للشدائد والمتاعب في هذه الحياة الدنيا, قال تعالي: ﴿ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذي كثيراً﴾ [آل عمران : 186].

   لذلك.. أمر الله المؤمنين بالصبر والتقوي (وإن تصبروا وتتقوا) وإن نلجأ إلى الله دوماً بهذا القول الكريم: ﴿حسبنا أو ونعم الوكيل﴾ الذي يستحب أن يقال عند الغم والهم والأمر العظيم.

   هذا, مع دوام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, الذي يبادله أمته حباً بحب, والذي رفع يديه ذات يوم وقال: اللهم أمتي أمتي وبكي, فقال الله عز وجل: يا جبريل أذهب إلى محمد وربك أعلم فسله : ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله, فأخبره بما قال وهو أعلم, فقال الله يا جبريل, أذهب إلى محمد, فقل له: إنا سنرضيك في أمتك, ولا نسوؤك(1).

    هذا هو بعض من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم, نبي الرحمة, الذي يرغب في التيسير على الأمة.. فمن صفته أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً, إذ قال صلى الله عليه وسلم: “يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولاتنفروا”(2).

 

ـــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه القرطبي في تفسير سورة الضحي الآية 5 جـ20, ص 95 طبع بيروت.
  • أخرجه البخاري في صحيحه جـ1, ص27 و جـ8, ص36 طبع الشعب, وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الجهاد والبيهقى في السنن الكبري جـ10, ص86.

 

   عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” لكل نبي دعوة مستجابة, فتعجل كل نبي دعوته, وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة, فهي نائلة إنه شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً”(1).

 

كلمات من نور

   ” يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين, الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم الفرح للذين أحسنوا منهم وأتقوا أجر عظيم”.

 

*     *     * 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده جـ6, ص396 طبع بيروت.

 

 

في خيمة قائد الأعداء.. جاء اللقاء!

   عندما يمتزج الواقع بالخيال, وتفوق الأحداث بعنفها وغرابتها مالاً يخطر على البال.. يبدأ الإنسان يفكر في الحال بحثاً عن أسباب مقنعة لمثل هذه الأفعال, تلك التي تثير فيه الشعور بالحيرة والإحباط, فيظل يطلق السؤال إلى أن يهتدي لحل يريح قلبه, وتطمئن له نفسه, فإن عجز عن الوصول إلى مثل هذا الحل المعقول المقبول, يعود يفكر ويفكر فيما يحدث حوله ويدور, محاولاً بذلك الخلاص من عجبه, ودهشته, وحيرته..!

   وهنا.. قد يخطر بالبال هذا الاستفسار: لماذا تحدث كل هذه المحن لأولئك الناس الفقراء الضعفاء؟! ولماذا يصيب كل هذا الإبتلاء أولئك البائسين العاجزين عن دفع الشر والأذي عن أنفسهم؟!.. ما السبب يا تري؟! وما الحكمة فيما حدث وجري؟!

  .. الحكمة في هذا البلاء, والسبب في ذلك الإبتلاء شيئان مهمان أحدهما التمييزيين المطيع والعاصي. قال تعالي: ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم﴾ [محمد31]. أي حتي يظهر بالفعل من الذي أطاع, ومن الذي عصي. وهذا لايتم إلا بوقوع الإبتلاء. والثاني: حتي يستحق من صبر الثواب, وينال من عصي العقاب. وفي ذلك قال بعض أهل المعرفة: البلوي أدب للظالم, ورياضة للتائب, فبالجهاد, أي المجاهدة, تحصل رياضة النفس.

   ومن الصحابة رضوان الله عليهم الذين أقاموا على الجهاد, وثابروا عليه.. عبده بن هلال, وكان قد أقسم على نفسه أن لا يشهد عليه ليل بنوم, ولا شمس بظل أبداً. فأقسم عليه عمر أن لا يهلك نفسه ويرفق بها. وقال إبراهيم بن أدهم: لا ينال الرجل رتبة الصالحين حتي يتجاوز ست عقبات, الأولي: يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة. الثانية: يغلق باب الراحة ويفتح باب التعب. الثالثة: يغلق باب العز ويفتح باب الذل. الرابعة: يغلق باب النوم ويفتح باب السهر. الخامسة: يغلق باب الغني يفتح باب الفقر. السادسة: يغلق باب الأمل ويغلق باب الإستعداد للموت..!

    هذه هي ذروة الرغبة في الجهاد: الإستعداد للموت ببساطة وبسالة, وكأن المجاهدة هنا متعة, والبلايا راحة الراحة. فالمجاهد حقيقة لا يخشي على شئ في هذه الدنيا, لأنه يعلم تمام العلم أن ” الآخرة خير وأبقي” .. فلا يعوقه شئ إذن عن الشهادة من أجل الله, فليذهب راضياً راغباً لقاء الموت.. في سبيل الله.

 

 

 

   إليكم تلك الحكاية التي تعتبر من عجائب القصص التي رويت في مجال الجهاد, وهي تتعلق بالقائد المسلم حبيب بن مسلم الفهرى الذي اشتهر بفتوحاته في الشمال, فقد خرج ذات يوم للجهاد في سبيل الله, وكان يحب زوجته حباً شديداً, فتمسكت به عند خروجه, فقال لها مودعاً إلى اللقاء. فقالت: إلى أين؟ فقال لها إما أن ألقاك في الجنة شهيداً أو ألقاك منتصراً داخل خيمة قائد جيش العدو إن شاء الله.

   وإنطلق إلى الجهاد, ونشبت المعركة, وحمى وطيسها, ونصر الله جيش المسلمين نصراً عظيماً, وانطلق حبيب إلى خيمة قائد جيش العدو ليعلن انتصاره.. وهنا, كانت المفاجأة في الخيمة, فقد فوجئ بزوجته حبيبته تقف أمامه في وسطها وهي تبتسم له قائلة: ألم تقل عند خروجك إلى اللقاء في الخيمة أو الجنة؟ فقال لها: وكيف وصلت إلى هناك؟! قالت ارتديت زي جندي من جنودك وقد عزمت إما أن أقابلك شهيدة في الجنة, أو منتصرة في الخيمة.

كلمات من نور

﴿ آلم *أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله فإن الله لآت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين﴾ [العنكبوت : 1-6]

 *    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثلاثة أنواع من.. النعم

   محمد صلى الله عليه وسلم جهر بكلمة الحق, لم يشأ أن يكتمها, وكيف يكتمها؟ وقد قال سبحانه وتعالي في كتابه الكريم ﴿وأما بنعمة ربك فحدث﴾ [الضحي: 11].

   وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بما أنعم عليه ربه, أخبر أمته بما حدث, وما سمع, وما رأى. أخبر أمته بأمر الصلاة, وبين لهم منزلتها في الإسلام, وهي كمنزلة الرأس من الجسد, فالصلاة هى أول ما فرضه الله تعالي على عباده من عبادات.

   .. وجاء فرض الصلاة في السماء.. لا في الأرض, فهي تطهر النفس وتزكيها وتؤهل العبد لمناجاة الله في الدنيا, ومجاورته في الدار الأخرة, كما أنها تنهي عن فعل السوء: ﴿وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [العنكبوت : 45].

   والله تبارك وتعالي جعل الصلاة خمساً في العمل وخمسين في الميزان, كل صلاة بعشر صلوات, ويضاعف لمن يشاء, إنه هو التواب الرحيم سبحانه عز من قائل : ﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني وأقم الصلاة لذكرى﴾ [طه : 14].

   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب بباب أحدكم يستحم فيه كل يوم خمس مرات, فما ترون ذلك يبقي من دونه؟ قالوا: لا شئ. قال: فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن”(1).     

    والصلاة صلة بالله, وهي نعمة تستوجب الشكر عليها ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ [المائدة: 6].

   فبالشكر تدم النعم, والنعم ثلاث, نعمة حاصلة يعلم العبد بها, ونعمة منتظرة يرجوها, ونعمة موجودة لكنه لا يشعر بها, وهذه الحكاية تبين أنواع هذه النعم الثلاث:

   دخل أعرابي يوماً على الرشيد فقال:   

   يأمير المؤمنين ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها, وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته, وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها.

   فأعجبه ذلك منه وقال :

   ما أحسن تقسيمه.

ـــــــــــــــــــــــ

  • أخرجه ابن ماجه في سننه جـ1 كتاب إقامة الصلاة والسنن, ص 447 حديث 1397 تحقيق الشيخ / محمد فؤاد عبد الباقي.

 

   نعم.. ﴿إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر وآقام الصلاة وآتي الزكاة ولم يخش إلا الله فعسي أولئك أن يكونوا من المهتدين﴾ [التوبة: 18].

 

كلمات من نور

   ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين﴾ [هود: 114].

 

*     *     *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رب أسألك.. الشكر في قلبي

   .. حين نحس دفء الربيع, إثر معاناة برودة, شديد الصقيع, نبدأ نتحرك بحرية وحماس في كل اتجاه.. أو .. قد نبدأ بقراءة بعض الكتب, أو كتابة قليل من الأوراق, أو نلجأ إلى كثرة الدعاء, خاصة في أوقات السحر, بعد طول ليل, وقبيل طلوع نهار.. إليكم تلك الحكاية التي توضح معني ” أدعوني أستجب لكم” وتؤكد أهمية الدعاء بقلب يحسن الظن بالله.

   روي الله الدينوري.. أن رجلاً من الصالحين دخل قرية من القرى في المساء, وسأل أهلها أن يستضيفوه تلك الليلة ابتغاء وجه الله فلم يلتفت إليه أحد, وإذ برجل أعمي يجتاز الطريق, فسمع سؤال الرجل للناس فقال له ( أنت ضيفي) وأصطحبه إلى منزله وأكرمه, فلما كان نصف الليل قام الأعمي من نومه, وسمع الرجل يناجي الله بهذه الكلمات:

   ” اللهم رب الأرواح الفانية والأجساد البالية, أسألك بطاعة الأرواح الراجعة إلى أجسادها, الملتئمة بعروقها, ودعوتك الصادقة فيهم, وأخذك الحق منهم, وقيام الخلق لهم من مخافتك وشدة سلطانك, ينتظرون قضاءك فيخافون عذابك, أسألك أن تجعل النور في بصري, والإخلاص في عملي, والشكر في قلبي, وذكرك في لساني بالليل والنهار ما أبقيتني.. يا الله يارب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أمين”.

   و..عندما رد الله الرحمن الرحيم.. يامن خلق الخلق بغير مثال ويامن بسط الأرض بغير أعوان ويامن دبر الأمور بغير وزير.. ويامن يرزق الخلق بغير مشير (ثم تدعو بما شئت يستجيب لك الله).

   وكان سيدنا أيوب عليه السلام يدعو بهذا الدعاء:

   اللهم إني أعوذ بك اليوم.. فأعذني

   واستجيرك اليوم من جهد البلاء.. فأجرني

   واستغيث بك اليوم.. فأغثني

   واستصرخك اليوم على عدوك وعدوي.. فأصرخني

   وأستنصرك اليوم.. فأنصرني

   وأستعين بك اليوم على أمري.. فأعصمني

   وآمن بك .. فأمني

   وأسألك .. فأعطني

   وأسترزقك .. فأرزقني

 

   وأستغفرك .. فأغفر لي

   وأدعوك .. فأذكرني

   واسترحمك .. فأرحمني

   رب أسألك الشكر في قلبي.

 

كلمات من نور

 

   ﴿ قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسني ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً﴾ [ الإسراء: 110].

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة.. تنغلق دونها أبواب السماء!

   الحياة وسط أناس نحبهم, نحترمهم, نعمة من نعم الله علينا, فنحن نتصرف مع الآخرين حينذاك بطريقة لبقة ذات ذوق, نعاملهم بأسلوب سهل بسيط.. يحفل بالود والعطاء.

   وبفضل الله سبحانه وتعالي نستطيع أن نفعل ذلك إذا حاولنا أن نستمتع فعلاً بتلك النعمة الرائعة التي تشعرنا بقيمة الحياة, ولذة العيش في سعادة وهناء.. وهى أننا مسلمون, وموحدون بالله والحمد لله.

   ففي تلك الأيام المباركة التي نبلغ فيها شهر رمضان والحمد لله.. شهر الصوم عن المعاصي والموبقات, نشعر أننا حقاً تغيرنا واننا فعلاً قدرنا على التحكم في تصرفاتنا, فها هى أفعالنا تتجه نحو الخير, فنحسن الصوم, ونكثر من الصلاة, ونأتي بالزكاة, ونأمر بالمعروف, وننهي عن المنكر.. أياً كان نوع هذا المنكر, حتى ولو كان كلمة طائشة.. في لحظة غضب عابرة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ليس المؤمن بطعان ولا بلعان ولا بالفاحش ولا بالبذئ”(1).

   كما قال صلوات الله عليه: ” إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتنغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا وشمالاً فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن إن كان أهلاً لذلك وإلا رجعت إلي قائلها”(2).

   نعم, فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يكون العانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة”(3).

 

 

 

 ــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البيهقي في السنن الكبري جـ10, ص 193, 243ومجمع الزوائد للهيثمي جـ1 ص 97, جـ8 ص72 والحاكم في المستدرك جـ1 ص12.
  • الحديث في فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر طبع الرياض جـ10 ص467 وأخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب اللعن جـ5 ص310 حديث9405.
  • الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة باب 24, وأبو داود جـ5, ص211, كتاب الأدب باب اللعن حديث 4907 عن أبى الدرداء.

 

   حدث ذات يوم, كما قال عمران بن حصين: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره, وامرأة من الأنصار على ناقة فضجت, فلعنتها. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال : ” خذوا ما عليها ودعوها.. فإنها ملعونة ” قال عمران: فكأني أنظر إليها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد(1).

  والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينهنا عن السب واللعن فقط, بل نهانا أيضاً عن أن نتحدث بكل ما نسمع, حتى لا تنتشر بين الناس الأكاذيب والأباطيل, وتتفشي الشائعات فيفسد المجتمع, لهذا قال: ” بئس مطية الرجل زعموا”(2).

   وما هي زعموا؟ إنها كلمة واسعة تعني أن يعطي الراوي نفسه الحق في حكاية مالاً يوثق بصحتها فيستخدمها ذريعة لترديد الأباطيل والأكاذيب, وهو يعتقد أنه بذلك قد أعفي نفسه من ارتكاب الإثم بالتحدث فيما لا يجوز ولايصح !!

   لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم, عن أبي هريرة رضي الله عنه: ” كفي بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع”(3).

   هذه هي إحدي آفات اللسان التي نتمني أن تزول من على ألسنتنا وأن نحفظ لساننا, ليس فقط في شهر رمضان, وإنما طوال أيام العام إن شاء الله, وكذلك نتمني أن نعمل بقول رسولنا الكريم صلوات الله عليه: ” سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر”(4).

   حدث يوماً أن آتي النبي برجل قد شرب خمراً, فقال (اضربوه) قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده, والضارب بنعله, والضارب بثوبه, فلما انصرف قال بعض القوم: آخزاك الله. قال: لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان”(5).

 

 

 

ـــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة وأخرجه الإمام جـ4 ص481 .
  • أخبر أبو داود جـ5 ص254 حديث 4972.
  • الحديث أخرجه الإمام مسلم في المقدمة باب 3 حديث 5, وابن أبي شيبه في مصنفه جـ8 ص408.
  • أخرجه البخاري جـ1 ص 19, جـ8 ص 18, جـ9 ص63 طبع الشعب, والإمام مسلم في كتاب الإيمان حديث 116.
  • أخرجه البخاري جـ8 ص196 في كتاب الحدود- باب الضرب بالجريد والنعال.

 

   هذا الموقف يؤكد قوله صلوات الله عليه : ( لعن المؤمن كقتله)(1) ونحن حتماً لا نريد أن نكون ضمن هؤلاء الباغين بل نتمني أن نكون في زمرة أولئك المؤمنين الصالحين, الذين لا يعينون الشياطين على أخوانهم المسلمين.. حفظنا الله وإياكم, وجعلنا من ورثة جنة النعيم.. أمين يارب العالمين.

 

كلمات من نور

﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ [ الحج : 41] .

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــ

  • أخرجه البخاري جـ8 ص 32 طبع الشعب والإمام مسلم في كتاب الإيمان حديث 176 والإمام أحمد في مسنده جـ4 ص 33.

 

المدائن من الذهب .. والقصور

باللؤلؤ والذهب!

   .. في يوم من الأيام خرج أحد الصيادين في الصباح الباكر يطلب رزقاً حلالاً, فرمي شبكته فلم يخرج شئ فأخذ يدعو ويبتهل إلى الله لأن أولاده يصرخون في البيت من ألم الجوع .. وأقتربت الشمس من المغيب والصياد لا يزال يرمي شباكه في الماء, ولا يزال يدعو الله أن يرزقه، فرزقه الله سمكة ضخمة فحمد الله وأخذها مسروراً إلي بيته.

   وفي الطريق تصادف أن التقى بملك قد خرج إلي النزهه فرأه فأحضره وعلم بما معه، فأعجبته السمكة فأخذها منه عنوه وذهب بها إلي قصره ليدخل بمنظرها الجميل السرور علي أهله، فأخرجها أمامهم، فأستدارت السمكة وعضت أصبعه فلم يسترح ليلته، وظل يعاني من شدة الوجع والألم، فأحضر الأطباء فأشاروا بقطع أصبعه, لكنه لم يسترح بعدها, وكذلك لم ينعم لأن السم كان قد تسرب إلى يده..!

    وبعد فحص, وبحث, أشار الأطباء على الملك بضرورة قطع يده لكنه لم يسترح أيضاً, بل ظل يصرخ ويستغيث, فأشاروا بقطع ذراعه فاستراح من الآلام الجسدية. لكن لم تهدأ نفسه, بل ظل يعاني من الضيق والكآبة , فأشاروا عليه أن يذهب إلى طبيب من أطباء القلوب, أى العلماء الحكماء.

   فحكي الملك ما حدث للطبيب وأخبره بقصة السمكة, فقال له : لن تهدأ إذا عفا عنك الصياد, فأمر الملك بالبحث عن الصياد وإحضاره فشكي له أمره, ورجاه واستحلفه بالله أن يصفح عنه فعفا عنه الصياد وصفح عما بدر منه, وهنا سأله الملك ماذا قلت في؟ فقال الصياد: ما قلت سوي عبارة واحدة : ” اللهم إنه ظهر على قوته فأرني فيه قدرتك”.

   وردت هذه الحكاية في الكتب القديمة لتثبت وتبرهن مدي قوة دعوة المظلوم, تلك الدعوة الخارجة من قلب مكلوم , التي لا يردها ولا يمنعها شئ من أن تستجاب.

   وفي دعوة المظلوم ينصحنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ” اتقوا دعوة المظلوم, فوالذي نفسي بيده ليس بينها وبين الله حجاب, يرفعها الله فوق الغمام ويقول وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين”(1).        

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البيهقي في السنن الكبري في كتاب الغضب باب تحريم الغصب وأخذ أموال الناس بغير حق عن معاذ بن جبل وقال البيهقي أخرجه البخاري ومسلم من حديث وكيع غيره.

 

   ففي الواقع, نحن نعرف طعم الظلم, فعلى ما أعتقد أننا نستطيع التعرف على آلامه القاسية, لأنه ما من أحد منا لم يظلم, أو لم يشعر بالظلم يوماًُ سواء وقع عليه أو على أحد من أهله أو معارفه, فالإحساس بالظلم يولد شعوراً عنيفاً أليماً مصحوباً بآلام القهر والضعف والهوان, مما يدفع صاحبه إلى اللجوء لله سبحانه وتعالي داعياً مستغيثاً أن يرد عنه الظلم, وأن يدفع عنه البلاء..

   ففي الحقيقة هذا النوع من الدعاء… مجاب .. مجاب, لذا ان علينا أن نتقي الله في أفعالنا, وأقوالنا, بل وفي أفكارنا, حتى لا نسئ الظن ببعض الناس فنظلمهم, وهنا نتعرض لتلك الدعوة الخطيرة التي لا ترد, والتي يقول بشأنها الله جل جلاله : ” اشتد غضبي على من ظلم من لا ناصر له غيري” وهنا ينصر الله المظلوم فيرد عنه المظالم, فتهدأ نفسه, ويسكن إحساسه الذي يضطرب بفعل الظلم الذي وقع عليه, والذي دفعه إلي الدعاء على من ظلمه.

   روي البخاري وأحمد عن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “من كانت لأخيه عنده مظلمته من عرض أو مال فليتحلله اليوم أن يؤخذ منه دينار ولاهم, فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه”.

   لكن.. من عفا وصفح عمن ظلمه يجازيه الله بالعفو والصفح يوم القيامة, كذلك قال في كتابه الكريم : ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ [الشوري : 40], وعن قيمة العفو قال أنس رضي الله عنه : ” بينما رسول الله جالس إذا رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : رجلان أحدهما يشكو من ظلم أخيه. فقال الله : كيف تصنع بأخيك ولم تبق من حسناته شئ, قال إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل من أوزارهم, قال الله للطالب : أرفع بصرك فأنظر, فرفع فقال : يارب أري مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا؟ قال : أنت تملكه. قال : بماذا؟ قال : بعفوك عن أخيك . قال : إني قد عفوت عنه. قال الله : فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ” اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين”(1).

   اللهم إنك عفو كريم تحب العفو, فأعف عنا, وأرزقنا العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة, آمين يارب العالمين.

كلمات من نور

﴿وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم﴾ [النور : 22].

ــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين جـ4 كتاب الأهوال – طبع بيروت – عن أنس بن مالك – رضي الله عنه.

عندما يخطر بالبال هذا السؤال؟!

   .. يعود الحجاج إلى ديارهم, بعد أن من الله عليهم بشرف زيارة بيته العتيق الذي جاءوا إليه من كل فج عميق. عادوا طامعين في العفو والمغفرة في الدنيا والأخرة. عادوا عاقدين العزم والنية على الإستمرار في عبادة الله كأفضل ما تكون العبادة , حرصاً منهم على الفوز بالجنة.. وذلك هو الفوز العظيم.

   لكن, سرعان ما تدور الأيام وتتابع دورانها, وما يلبث أن ينشغل البعض منهم بظروف الحياة, فتلههم الدنيا بأمورها وأحداثها عن التفرغ لعبادة الله, فيقل تعلقهم بالتمسك بأداء الفروض والعبادات كما كانوا يفعلون عقب عودتهم, وما يلبث أن ينقص صبرهم على ذلك, ومع الوقت نجدهم وقد انصرفوا إلى أمور الدنيا المعتادة من أجل كسب لقمة العيش, ومتابعة شئون الأعمال, وتصريف الأموال!

   لهذا, اخترت لهؤلاء البعض الذين قد تشغلهم أمور الحياة الدنيا هذا الحديث القدسي, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالي يقول : ” يا ابن أدم, تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غني, وأسد فقرك, وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك”(1).

   هنا, يبين الله عز وجل فضيلة تفرغ القلب لعبادة الله وحده والتوكل عليه, وعدم شغل البال بجمع المال, والإنصراف إلى كنزه طمعاً في تجنب الفقر, والتنعم بالثراء والغني, لأن من ينصرف إلى ذلك بكليته يجعل الله فقره بين عينيه, لأنه يجعله محتاجاً دائماً لا يعشر بغني ولا بقناعة, لأن نفسه تظل شرهة إلى حب المال, جائعة إليه, طامعة بالمزيد منه, ومهما كان لديها تظل نهمة لا تشبع.. والعياذ بالله.

   العجيب.. إن هذا الجوع والنهم يبقي رغم الإستمرار في العمل, ورغم الإرهاق والإنشغال والتعب, لأن الله لا يبارك لهذا الشخص الغافل فى وقته ولا في ماله, ويجعل الدنيا تلهيه دائماً, فيشقي فيها ويركض ركض الوحوش في البرية, وفى النهاية ولا يناله منها إلا ما كتب الله له. إما إذا اتبع ذلك الأمر الإلهي الذي يدعو لإنصراف إلى عبادة الله سبحانه وتعالي, والتوكل عليه فالوضع هنا يختلف, يختلف..

 

 

ـــــــــــــــــــــ

  • الحديث في كتاب العلل المتناهية لابن الجوزي جـ2 ص 317.

 

 

   .. نعم, لو أن المرء شغل باله, وشحن عقله بعبادة الله, وظل مؤدياً كل متطلباتها, حريصاً على حسن أدائها بالطريقة التي ترضي الله, فير       ضي بها على صاحبها سينال حينئذ جائزتين بدلاً من جائزة واحدة, كما قال الله في هذا الحديث القدسي” أملأ صدرك غني”       و” أسد فقرك” وهكذا نري قيمة ذلك العطاء الكريم, فيما لو أن الشخص ملأ قلبه بعبادة الله, فهي الغاية السامية التي خلقنا الله من أجلها ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾   [الذاريات : 56], ومن ثم يتقون الله في كل ما يفعلون.      

   والحين .. أعتقد من البديهي أن يطرأ بالبال هذا السؤال : ماذا يحدث لو أن الناس قصرت كل همها على العبادة فقط, ولم تلتفت لشئون الدنيا, وانصرفت عن التفكير بها.. وأهملت مسئولياتها وأعمالها؟!

    الرد على هذا السؤال يأتي من خلال توضيح هذا المفهوم البسيط , وهو أن العبادة لا تقتصر فقط على الصلاة والصوم والزكاة والحج, فلو هذا هو المعني الوحيد المقصود لتوقفت بالفعل عجلة الحياة من زمان .. وبالتالي ما كان ممكناً تفضيل بعض الناس على بعض, ولما رفعهم الله درجات ودرجات.

   إذن .. نعود نقول لتوضيح المغزى المقصود : إن العمل النافع عبادة. العمل الذي يتعيش منه الفرد ويوفر به قوته وقوت عياله. كما يوفر به على نفسه مذلة سؤال الناس. هذا النوع من العمل عبادة, وأي عبادة. بل إن أي عمل مادام حلالاً ينفق منه الشخص على بيته وأسرته ويتصدق منه يعتبر عبادة.

   فهذا العمل يعد نوعاً من أنواع الجهاد وذلك من أجل الإنفاق على من يلزمه الإنفاق عليهم من أب أو زوجة أو أبناء وعدم إحراجهم بتعرضهم لمد اليد للحصول على أساسيات الحياة.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ” لئن تذر “تترك” ورثتك أغنياء خيراً من أن تتركهم عالة يتكففون الناس” فإذا كان هذا القول يتعلق بالتوصية على الورثة بعد الموت (1).. فما بالك بمن لهم حق عليك أثناء الحياة؟!

   هذه كلها أمور تدعو إلي ضرورة تعميق التفكير والتدبير, وتركيز المعني والمغزى, حتى ندرك أن العبادة هى الإخلاص في العمل, وهي صدقة الكلمة الطيبة, فالصدقة عبادة.. بل هي الإصلاح بين الناس, إلقاء السلام على المسلمين, ومواساتهم في أحزانهم, ومشاركتهم أفراحهم, بل هي صلة الرحم, أيضاً السعي في قضاء حاجة الناس.

 ـــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده جـ1 ص 168, 172, 173 والإمام البخاري في صحيحه كتاب الجنائز طبع الشعب.

 

 

   أعتقد, أننا لاحظنا هنا أن أوجه العبادة غزيرة, وأبوابها متعددة كثيرة, وما علينا إلا أن نطرقها, بل أن نسعي إليها طلباً في الحصول على مرضاة الله, والتقرب إلى الله, فمن تقرب إلى الله بطاعة يتقرب الله منه برحمته وتوفيقه وإعانته له, وإن زاد في الطاعة زاده الله توفيقاً وصب عليه الرحمة وأحاطه بعنايته ورعايته, ولم يحوجه إلى التعب في الوصول إلى المقصود, ويكون جزاؤه مضاعفة الحسنات له حسب تقربه من الله بالعبادة والتقوى, فالله سبحانه يخاطب المؤمنين : ﴿اتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾ [المائدة : 112].

   إليكم حكاية ذلك الرجل الأعمي الذي شوهد وهو يطوف بالبيت قال شداد عن بعض أشياخه من بني راسب:

   كنت أطوف بالبيت, فإذا رجل أعمي يطوف بالبيت وهو يقول : “اللهم أغفر لي وما أراك تفعل! فقلت : أما تتقي الله! قال : إن لي شأناً آليت أنا وصاحب لي لئن قتل عثمان لنلطمن حر وجهه, فدخلنا عليه, وإذا رأسه في حجر امرأته ابنة الفرافصة, فقال لها صاحبي: اكشفي وجهه, قالت : لم؟ قال : ألطم حر وجهه!

   قالت : أما تذكر ما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ , قال فيه كذا, وقال فيه كذا, قال : فاستحيا صاحبي فرجع. أما أنا فقلت لها اشفي عن وجهه, فلطمت وجهه .. فذهبت تدعو على وقالت : ما لم يبس الله يدك, وأعمي بصرك, ولا غفر لي ذنبي..!

 

كلمات من نور

   ﴿ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل﴾      [المائدة : 7].

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حديث إبليس الخبيث

   اختلفت أراء العلماء في إبليس.. فيم إذا كان من الملائكة أم لا؟ فقال أصحاب الرأى الأول: إن أبليس كان من الملائكة لأن الله سبحانه وتعالي أمر الملائكة بالسجود لآدم. قال تعالي: ﴿وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس﴾ فلو لم يكن من الملائكة لم توجه إليه الأمر بالسجود, ولما استحق اللعنة والخزى.

   أما الرأي الثاني فيقول : إن إبليس كان من الجن, ولم يكن من الملائكة, لقوله تعالي: ﴿إلا أبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه﴾ [الكهف : 50] فهو أصل الجن, ما أن أدم أصل الإنس. ولأنه خلق من نار والملائكة خلقتة من نور, ولأن له ذرية في حين أنه لاتوجد للملائكة ذرية.

   وروى عكرمة عن ابن عباس قال: كان أبو الجن أسمه سوما, فقال الله له : تمن. فقال: أتمني أن أري ولا أري, وأن نغيب في الثري, وأن يصير كهلنا شاباً, فأعطي ذلك. وقد قيل إن الجان مسخ الجن, كما أن القردة والخنازير مسخ الأنس. وعموماً فإن غالبية العلماء يميلون للرأى الثاني نظراً لقوله سبحانه وتعالي: ﴿إلا إبليس كان من الجن﴾ [ الكهف: 50] والجن خلقوا من نار السموم, وكما ذكر في القرآن, خلقوا من مارج من نار.

   وبسبب افتخار إبليس بأصله على آدم عليه السلام, رفض أن يسجد له معتقداً أنه خير منه, وأن خير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه, لأنه يري أن المخلوق من النار خير من المخلوق من الطين. وهذا هو الرأى نفسه الذي أخذ به الشاعر البصير بشار بن برد, حين قال:

الأرض مظلمـة سواد مقتمة                  والنار معبودة منذ كانت النار

إبليـس خير مـن أبيكم آدم                   فتنبهوا يا معشر الفجـــار

إبليس من نار وآدم من طين                  والأرض لا تسمو سمو النـار

   .. وقبل أن نتحدث عن الأرض وعطائها, سنكمل باقي حديثنا عن إبليس اللص, الذي يسرق أموال الناس, فكل طعام وشراب لم يذكر أسم الله عليه يقوم بالسرقة منه أو خطفه. كما أنه يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله. كل هذا دون إذن أصحابه.

   فهو يدخل البيوت سارقاً, ويخرج ظالماً يدل على عوراتهم, ويكشف أسرارهم التي يوسوس بها إلى الناس, فيفضحهم بعد أن يزين لهم المعاصي وارتكاب الذنوب, إلا من آمن بالله واليوم الآخر إيماناً كاملاً, وامتلأ قلبه بنور التقوى وذكر الله.

   إليكم تلك الحكاية التي يرويها وهب بن منبه: بلغنا أن إبليس الخبيث تبدى ليحيي بن زكريا فقال له : إني أريد أن أنصحك.

 

   فقال: كذبت أنت لا تنصحني, ولكن أخبرني عن بني أدم. قال أبليس: عندنا ثلاثة أصناف: أول صنف منهم أشد الأصناف علينا نقبل على أحدهم حتى نفتنه ونتمكن منه, ثم بعد ذلك يفزع إلى الإستغفار والتوبة, فيفسد علينا كل شئ أدركناه منه .. ثم يعود, فها نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا.

   ويستطرد أبليس متابعاً حديثه: أما الصنف فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا وقد كفونا مشقة أغوائهم, سلمونا أنفسهم. وأما الصنف الأخير فهو مثلك معصومون لا نقدر منهم على شئ فقال له يحيي عليه السلام: هل قدرت مني على شئ؟ قال لا.. إلا مرة واحدة, فإنك بدأت طعامك فلم أنزل أشهيه إليك حتى أكلت أكثر مما تريد. فنمت تلك الليلة ولم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها. فقال يحيي: لاشبعت من طعام أبداً.

   ويستمر الصراع إلى يوم الدين, بين بني أدم وإبليس اللعين, الذي لا يقهره إلا ذكر الله ونور قلب المؤمن, ذاك الذي لايتأثر بألاعيب الشياطين, ولا تكالبهم عليه حتى يصبح مثلهم من أصحاب الجحيم. رغم أن إبليس الرجيم يرى أنه قد خلق من النار التي يعتبرها عنصراً أرقي من تراب الأرض. وهذه المعارضة صارت ميراثاً في اتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى كما قال أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى كما قال بعضهم:

       لعمرك ما الإنسان سلمان إلا بدينه        

                                     فلا تترك التقوى إتكالاً على الحسب

    وهناك رأى يؤيد قيمة الأرض ويرفع من قدرها بإعتبارها أفض من النار, لأن التراب من طبعه السكون والرزانة, ولأنه أيضاً مادة الحيوان والنبات والأقوات, ولأن الأرض تؤدي ببرتها أضعاف ما يودع فيها الحب والنوى, بل إنها تقوم بتغذيته في حين أن النار تفسده.

   كذلك الأرض هي مهبط الوحي ومسكن الرسل والأنبياء, وهي تكفيهم أحياء وأمواتاً. والنار مسكن أعداء الله, كما أن من طبعها العلو والفساد, والله لايحب المستكبرين ولا المفسدين.. أما الأرض فمن طبعها الخشوع والثبات, إلى جانب أن التراب يستطيع أن يقضى على النار ويقهرها..!

كلمات من نور

﴿ قال إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين * قال أن خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فأخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين﴾ [ص: 75-78].

*    *    *

 

 

تلك الأسئلة الأربعة.. بما نجيب عليها؟!

   في قلوب بعض الناس تعيش الأماني وتسكن الأحلام, تلك التي يترقب أصحابها كيف تتحق, ومتي تصير واقعاً ملموساً..! وبعض هؤلاء الناس ذوي الأماني المتعددة, والأحلام الخاصة يظلون في حالة سكون نفسي, إلى أن تأتي مناسبة معينة تحرك مشاعرهم: أو عندما يحين وقت معين ينشط تفكيرهم..هذا التحرك, وذاك النشاط, غالباً ما يصل منتهاه وأقصاه عند مطلع عام جديد, أو حين يأتي تاريخ ميلاد هذا الشخص الملئ بالأماني, المشبع بالأحلام..!

   ونحن حين نعيش مطلع عام هجري جديد, نترقب فيه الخير الكثير, ذاك الذي نرجو من الله أن يمن به علينا, لتنصح به أمور الدنيا والآخرة, تلك الدنيا والآخرة التي أرسل عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري يطلب منه أن يجمع له أمرهما في رسالة واحدة فأجابه:

   (إنما الدنيا حلم والأخرة يقظة والموت متوسط بينهما ونحن في أضغاث أحلام, من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر, ومن خاف سلم, ومن أعتبر أبصر, ومن أبصر فهم, ومن فهم علم, ومن علم عمل, فإذا زللت فأرجع, وإذا ندمت فأقلع, وإذا جهلت فأسأل, وإذا غضبت فأمسك).

   .. كانت هذه هي بعض النصائح والحكم التي لو اتبعها اإنسان بصدق وإخلاص لاستطاع بفضل الله أن يحول حياته إلى الطريق الصحيح, وذلك عندما يعرف كيف يتحرك وماذا يعمل حتى تتحول تلك الأماني والأحلام إلى واقع حقيقي, دون أن يكتفى أبداً بالعيش في دنيا اليقظة والرؤي والتخيلات.

   لذلك حثنا الله سبحانه وتعالي على طلب العلم, وحسن أداء العمل, وأجزل نا الثواب على ذلك, فلا يمكن أن نكتفي بالتمني, دون أن نتحرك ونسعي, بينما ينسل الزمن من بين أصابعنا, ويتسرب الوقت يوماً بعد يوم, وسنة تلو أخري, ونحن قابعون في مكاننا متجمدين, منتظرين وقوع معجزة تتحق بها أمانينا وأحلامنا! مستحيل.. أليس كذلك؟!

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لاتزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل أربع, عن عمره فيم أفناه, وعن شبابه فيم أبلاه, وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه, وعن علمه ماذا عمل به”(1).

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير جـ 11, ص102.

 

 

   ونحن.. عندما ننعم بالعيش في الأيام الجميلة المباركة, كأيام شهر رمضان أو الحج.. تلك الأيام الفضيلة التي نرجو من الله فيها الخير الكثير, والرزق الوفير, علينا أن نفكر دوماً في العثور على إجابات مقنعة لتلك الأسئلة الأربعة التي سنتعرض لها, وأن نسعي باستمرار لإعداد إجابات جيدة لها, إجابات صريحة صادقة لا نخجل منها ولا نستحي, حين نقولها إنشاء الله, أمام الله تبارك وتعالي, الواحد الأحد القهار, عالم الغيب والشهادة, العزيز الغفار.

   إذن, بهذا النوع من التفكير حتماً نستطيع أن نغير الكثير من أفعالنا, بل, وأقوالنا إلى الأفضل والأحسن يقينا بتلك الآية الكريمة ﴿ إن الله لا يخفي عليه شئ في الأرض ولا في السماء﴾ [آل عمران: 5] ولكم أن تتخيلوا أعزائي مدي الهناء وكم السعادة التي سننعم بها لو أننا كلنا استطعنا أن نتصرف على هذا الأساس, والتزمنا بهذا المنطق السماوي المهيب.

   إليكم هذا الدعاء النبوي الكريم : ” اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك الخلق نسألك خشيتك في الغيب والغضب والقصد في الفقر والغنى ونسألك نعيماً لاينفد وقرة عين لا تنقطع يا أرحم الراحمين”.

 

كلمات من نور

﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولايابس إلا في كتاب مبين﴾ [الأنعام: 59].

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخروج من .. الخوف!

   الخوف شعور طبيعي ينتاب الإنسان عند الإحساس بالخطر, فعندما يعتقد شخص ما أنه قد أصبح مهدداً بأمر داهم قد يصيبه في نفسه, أو في شئ يعز عليه, سرعان ما يبادر بالبحث عن سبل النجاة من هذا الخطر.

   .. هذا موقف إنساني عادي, فالخوف دوماً يبدأ بسيطاً, ثم ما يلبث أن يتدرج حتى يسمي خوفاً عظيماً, وهو شعور معد, إذا أصيب به أحد من الناس, إذ سرعان ما ينتقل إلى الآخرين المحيطين.. وما يلبث أن ينتشر ليعم الجميع!!

   هنا.. ربما يتطرق إلى الأذهان هذ السؤال: كيف يمكن الخروج من الخوف؟!

   الخروج من الخوف المحسوس الذي نستشعر آثاره السلبية علينا, لا يتم بالدخول في ذلك الخوف الخفي الذي ننعم بتأثيراته الإيجابية علينا..وهو الخوف من الله تبارك وتعالي, الذي لا يغيب عن علمه شئ في الأرض ولا في السماء, عالم السر وأخفي.

   عندئذ .. ننعم فعلاً بالسكينة والطمأنينة, فنحن عندما نفلح في التخلص من الخوف المتسبب في الضعف والوهن, ونستبدله بذلك الخوف الجالب للقوة والعزم, يمتلئ الصدر راحة, وتضئ الروح نوراً, وتصفو النفس نقاوة, ويتجاوب آنذاك الشخص مع تشريع ربه, ويندرج تحت قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فيسلم الأمر كله لله, ويحسن التوكل على الله, فينعم برحمة الله وفيض الله الذي لا ينقطع, وبل ويتصل بأمر من الله.. حمداً لله.

   والخوف كان حال الصحابة والتابعين وتابعيهم, قال على رضي الله عنه: ” لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصبحون صفراً شعثاً غبراً بين أعينهم مثل ركب العنز قد يأتوا لله تعالي سجداً وقياماً. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو نادي مناد كلكم داخلون الجنة إلا رجلاً واحداً لخفت أن أكون أنا.

   إليكم دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لكشف الشدائد والخروج من الخوف: ” اللهم يا اشف كل ضر وبلاء ويا عالم كل سر وخفي يا أرحم الراحمين يا فارج الهم يا كاشف الغم يا منزل القطر يا مجيب دعوة المضطر فرج عنا كل هم وغم وأخرجنا من كل خوف وحزن” كذلك ينصحنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ” لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”.

   .. وعندما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ﴿يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ [التحريم : 6].

 

 

   قال الحاكم وصححه عن ابن عباس, إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تلاها ذات يوم على أصحابه, خر فتي مغشياً عليه, فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده, فإذا به يتحرك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يافتي, قل لا إله إلا الله” فقالها, فبشره بالجنة, فقال أصحابه: يارسول الله, أمن بيننا؟ فقال صلوات الله عليه: أو ما سمعتم قوله تعالي ﴿ ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد﴾ [إبراهيم : 13].

         

 كلمات من نور

﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلي ربهم يتوكلون﴾ [الأنفال : 2].

 

*   *   *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دعاء علي بن أبي طالب كرم الله جهه

   روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ” إن الله تعالي يمجد نفسه كل يقوم ويقول : إني أنا الله لا إله إلا أن الحى القيوم. إني أنا الله لا إله إلا أن العلي العظيم. إني أنا الله لا إله إلا أنا لم ألد ولم أولد. إني أنا الله لا إله إلا أنا العفو الغفور. إني أنا الله لا إله إلا أنا مبدئ كل شئ وإلى يعود. العزيز الحكيم الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, خالق الخير والشر, خالق الجنة والنار, الواحد الفرد الصمد, الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً الفرد الوتر, عالم الغيب والشهادة, الملك القدوس, السلام المؤمن المهيمن, العزيز الجبار المتكبر, الخالق البارئ المصور, الكبير المتعال, المقتدر القهار, الحليم الكريم, أهل الثناء والمجد, أعلم السر وأخفي, القادر الرزاق, فوق الخلق والخليقة”(1).

   وذكر قبل كل كلمة ” إني أنا اله لا إله إلا أنا” فمن دعا بهذه الأسماء فليقل : إنك أنت الله لا إله إلا أنت كذا وكذا. فمن دعا بهن كتب من الساجدين المخبتين “الخاشعين” الذين يجاورون محمداً وإبراهيم وموسي وعيسي والنبيين, صلوات الله عليهم في دار الجلال, وله ثواب العابدين في السموات والأرضين. وصلى الله على محمد وعلى أهله وصحبه وسلم.

   لا إله إلا الله برحمتك نستعين, ياغياث المستغيثين أغثنا بجاه محمد صلى الله عليه وسلم لا إله إلا أنت بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أغثنا يا خير الراحمين, يا رحمن يارحيم لا إله إلا أنت بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أرزقنا فإنك خير الرازقين.

   لا إله إلا أنت بجاه محمد صلى الله عليه وسلم استرنا يا خير الساترين.

   لا إله إلا أنت بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أيقظنا يا خير من أيقظ الغافلين.

   لا إله إلا أنت بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أصلحنا يا من أصلح الصالحين.

يا قرة عين العابدين لا إله إلا أنت عدد ما رددت وسبحان الله عدد ما سبح به جميع خلقه.

   قال الله تعالي: ﴿فأعلم أنه لا إله إلا الله﴾ [محمد : 19] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من قال لا إله إلا الله مخلصاً بها من قلبه دخل الجنة” قيل وما اخلاصها؟ قال: “إن تحجزه عن محارم الله”(2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم :” يا أبا هريرة كل حسنة تعملها توزن يوم القيامة إلا شهادة أن لا إله إلا الله فإنها لا توضع في الميزان”.

           كلمات من نور

  ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني وأقم الصلاة لذكري﴾ [طه: 14].  

ـــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث في كتاب اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي جـ5 ص71.
  • الحديث اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين الزبيدي جـ9 ص466, 467 طبع دار الفكر العربي.

*     *     *

 

حتى لا ينعدم الاستمتاع بالحياة!

   الحياة.. بكل ما فيها من مواقف وأحداث يصعب علينا فهمها أو إدراك أسبابها, قد تصبح أحياناً لغز مبهماً غامضاً! كأنها لغز يحيرنا ويربكنا فلا نعرف كيف نتصرف ولا ماذا نفعل؟! ففي الواقع, طالما نحن على قيد الحياة تظل معرضين بإستمرار لبعض تلك المواقف المفاجئة المحرجة, تلك التي قد تصيبنا بالذهول حتى عن أنفسنا, فنظل لوهلة تائهين ضائعين, لا ندري ما المساق ولا نعرف أين المصير؟! هذه المواقف ذاتها تفقدنا توازننا, فهى نفسها التي تعرضنا لعواطف مختلفة متباينة!!

   ..عواطف تتدرج ما بين الحزن الشديد الذي يؤدي إلى القنوط, والفرح العنيف الذي يورث البطر. لهذا قال ابن عباس ” ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن مصيبته صبراً وغنيمته شكراً” هذه هي الخلاصة, بل خلاصة الخلاصة, أن يعرف الإنسان كيف يتعامل بمقدرة مع أحداث الحياة.. حلوها ومرها.. وأن يفهم كيف يروض شعوره إزاء الحث المباغت, فلا يجزع عند المصيبة, ولا يطغى عند العطية, فالأيام تدور, والمواقف تتكرر, والحياة تحفل دوماً بالأحداث الجسام التي لا تتوقف إلا بنهايتها, لذا يظل الإنسان معرضاً طوال عمره كافة أنواع الظروف, بكل أنواعها.. المحزنة والمفرحة.

   والإنسان الذكي هو الذي يستطيع أن يتحكم في نفسه قدر إمكانه, فهو الذي يقدر أن يسيطر على ما يحفل به وجدانه من إنفعالات, وبالتالي يستطيع أن يضبط تصرفه وسلوكه, فلا يطيش ولا يتخبط بعون الله.

   في الحقيقة هذا النوع من التعاون مع النفس, والتوافق مع الذات, لا يعتمد على الوعي والذكاء وحده, وإنما يتطلب نوعاً معيناً من التدريب والمران, ذاك الذي لا يستطيعه كل واحد منا, لأنه أولاً: يرتكز على مدى الإيمان الكامن في القلب.. وثانياً: يتمركز حول تلك القدرات النفسية الخاصة التي تتفاوت من شخص لآخر. لكن.. رغم اختلافنا في تلك الصفات والقدرات, نظل ندعو الله مخلصين له الدين مرددين﴿ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾    [البقرة : 286].

 

 

 

 

 

 

   حقيقة.. إنها تلك الرحمة الرحيمة التي نطلب ونرجو, إنها تلك الرحمة الرحيمة التي نتمني أن يمنحها الله لنا, ويفيض علينا بنورها وخيرها, فيرزقنا بفضله الصبر والهداية” الله ذو الفضل العظيم” القادر على أن يرضي عنا ويرضينا عنه, وفيجعلنا نتقبل قضاءه بصدر رحب, ونتقبل ماكتبه علينا من خير وشر, بلا بطر ولا استياء. قال عمر رضي الله عنه: “ما أصابكم من مصيبة إلا وجدت قيها ثلاث نعم, الأولي: أنها لم تكن في ديني والثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت والثالثة: أن الله يعطي عليها الثواب والأجر الكبير ﴿وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ [البقرة: 155-157].

   نعم.. أولئك هم المهتدون المنعمون بذلك الهدى الذي يضيفه الله على نفوسهم فتضئ بنوره, وتسعد بفحواه, فالنفس حين تهتدى وتصلح تسمو بالإنسان في الإيمان, لأنه لو صار على هواها هلك والعياذ بالله. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوجه إلى الله بدعاء جامع تنصلح به النفس ” اللهم إني أستهديك لأرشد أمري وأستجيرك من شر نفسي اللهم إني أسألك نفساً مطمئنة ترضي بقضائك وتقنع بعطائك الله لا تجعل لنا ذبناً إلا غفرته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين”(1) نسأل الله الهدى حتى يوفقنا لارشد الأمور ونستجيره من شر النفس الأمارة بالسوء, تلك التي لا تعترض حتى تهتدى على أمر من أمور, ربها, وتقنع عندئذ بكل عطايا تأتيها من بارئها.

   نسأل الله غفران الذنوب, وقضاء الحاجات والديون, والنصر على الأعداء من الأنس والجن, فهم الذين يشوهون صورة الحياة.. فينعدم حينئذ الاستمتاع بالحياة! نعم.. إن الحياة حينئذ تصبح قبيحة شائهة ا نستطيع أبداً تذوق حلاوتها, ولا نعرف طعم السعادة في لياليها ولا أيامها, لكن, عندما نمضي قدماً على طريق الإستقامة, لن نعاني عندئذ مرارة الإحساس بالآلم والندم..

   .. فعلاً, إن كثرة العابدين في المناجاة. ولذة العلماء في التفكير. ولذة الأستحياء في الإحسان. ولذة المصلحين في الهداية. ولذة الأشقياء في المشاكسة. ولذة اللئام في الأذي الضالين في الإغواء والإفساد.

   اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وأجعلنا اللهم من زمرة الصالحين, أولئك المهتدين الفائزين بخير الدنيا ونعيم الآخرة. آمين يارب العالمين.

كلمات من نور

﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾ [البقرة: 201].

*   *   *

 

           ثم طعنه ثلاث طعنات!

   هو رجل كان مصدر قوة للمسلمين, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: “والذي بيده مالقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك” أى طريق غير طريقك(1).

   إنه عمر بن الخطاب الذي عرف عنه أن الجن تهابه كما يهابه الأنس, ذلك بسبب قوة إيمانه وعمق عقيدته, ولقد شرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تزوج ابنته حفصة بعد وفاة زوجها, وبذلك أصبح عمراً صهراً للنبي صلى الله عليه وسلم.

   وظل عمر دائماً.. رجلاً قوياً في الحق, لا يخشي فيه لومة لائم, وكان مصدر قوة كبيرة للمسلمين, قال عنه في ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “مازلنا أعزة منذ أسلم عمر” حقاً.. الرجولة موقف, بل هي أسلوب حياة, لأنها في الأول وفي الأخر ممارسة فعلية لمعان أكيدة تتضح أثناء التعامل مع الناس.. فما أكثر ما يتكلم الناس, وما أروع أن تبقي كلماتهم خالدة عبر سنوات وسنوات تسجل بحروف من نور في كتاب الزمان.

   مع عمر بن الخطاب, ذلك الرجل القوى نعيش بعض معان ترسخت في ذاكرة التاريخ, وها نحن الأن نسمع ما قال حين آلت إليه الخلافة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة, حين أحس بمشاعر الخوف تصيب الناس خشية من توليه الخلافة, فألقى تلك الخطبة قائلاً:

   ” بلغني أن الناس هابوا شدتي, وخافوا غلظتي, وقالوا قد كان يشتد علينا ورسول الله بيننا ثم أشتد علينا وأبو بكر خليفتنا فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ وأقول لهؤلاء أنني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عبده وخادمه وكان لايبلغ أحد صفته في اللين والرحمة فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً, حتى يغمدني أو يدعني فأمضى, ثم ولى أبو بكر أمر المسلمين وهو من لاينكر حتى يغمدني أو يدعني فأمضي, ثم ولى أبو بكر أمر المسلمين وهو من لا ينكر أحد دعته ولينه, فكنت خادمة وعونه أخلط شدتي بلينه فأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي, ثم أني وليت أموركم أيها الناس, فأعلموا أن تلك الشدة قد زادت ولكن على أهل الظلم والتعدي على المسلمين, أما أهل السلامة فأنا ألين لهم من بعضهم البعض”.

  

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه جـ4 ص 153, جـ8 ص 28, 68 طبع الشعب والإمام مسلم في فضائل الصحابة والإمام أحمد في مسنده جـ1 ص171 وفتح البري بشرح صحيح البخاري لأبن حجر جـ10ص503.

 

   وكان عمر من المكليمن الملهمين, وهم عباد الله وأولياءه الصالحون, الذين نور الله بصائرهم فيرون بنور البصيرة, كما تستجاب لهم الدعوات, وهذا هو الفاروق عمر بن الخطاب الذي فرق به الله بين الحق والباطل, ها هو يدعو الله بقوله: ” اللهم أرزقني الشهادة في سبيلك وأجعل موتي ببلدة رسولك”.

   واستجاب الله لدعائه واستشهد عمر رضي الله عنه في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة داخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة, وذلك حين طعنه أبو لؤلؤة المجوسي ثلاث طعنات, ودفن بجوارحبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

كلمات من نور

﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ “صدق الله العظيم”.

 

*    *   *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وداعاً عليه .. بطول العمر!

   حين رأيتها منذ لحظات.. توقفت قليلاً أراجع ذاكرتي, أين رأيت تلك المرآة من قبل؟! وعدت أساءل نفسي: هل يمكن أن تكون هي نفسها تلك السيدة التي تعرفت عليها منذ سنوات مضت؟!

   .. تأكدت عندما سمعت أداهن تناديها بأسمها, وتعجبت وأنا أتمعن في شكلها وكيف تحول إلى شكل أخر أكاد لا أعرفه!! فالتجاعيد تغوص في الوجه وتتسرب إلى الذقن والشفتين والخدين والعينين, أه.. لقد كبرت هذه المرآة في السن, وها هي السمنة تمشي على جسدها.. ثم تسكن هنا وهناك!

   أه.. يالله على ذلك الزمن!!

   أسكن طويلاً وكأني لوقع دقات ساعات تحوم داخل قاعة الإجتماعات حيث قابلت تلك المرآة!! وما لبثت أن غصت في صمت أعمق وأنا أنصت لما يدور داخلي, في حين انطلقت سماعات القاعة بأصوات عالية, حولت تفكيري عنها, وأنا أتأمل علامات شيخوخة توحي بطول العمر!

   وسرعان ما خطرت ببالي تلك الحكاية التي سأرويها الآن لكم.

   عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما, قال: شكى أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه, إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعزله واستعمل عليه عماراً, فشكوا حتى ذكروا إنه لا يحسن يصلي, فأرسل إليه فقال: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أنقص منها, وأصلي صلاة العشاء فلا أقوم طويلاً في الأولين, وأخف في الآخرين, قال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق..

   ثم ما لبث وأرسل معه رجلاً, أو رجالاً إلى الكوفة يسأل عنه أهل الكوفة, فلم يدع مسجداً إلا سأل عنه, يتنسون معروفاً, حتى دخل مسجداً لبنى عبس, فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى: أبا سعدة فقال: أما إذ نشدتنا فإن سعداً لا يسير بالسرية, ولا يقسم بالسوية, ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً, قام رياء وسمعة, فأطل عمره, وأطل فقره, وعرضه للفتن, وكان بعد ذلك إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون .. أصابتني دعوة سعد.

   قال عبد الملك بن عميرة راوى الحديث عن جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد قد سقط اجباه عن عينيه من الكبر, وإنه ليتعرض للجواري في الطريق فيغمزهن!!

   .. كانت هذه دعوة سعد أصابته, فأطال الله في عمره. وكما جاء في القرآن والسنة المطهرة من أن هناك أفعالاً وأقوالاً إذا لزمها العبد نال بها رضا ربه تبار وتعالي فيغفر له ذنبه, ويزيد بفضلها في عمره.

 

   وهذا ما حكاه القرآن العظيم على لسان نوح عليه السلام وسجله من مضمون رسالته قول الحق عز شأنه: ﴿قال ياقوم إني لكم نذير مبين * أن أعبدوا الله وأتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمي﴾ [نوح 2 : 4].

   وبذلك يتضح أن العبادة مقترنة بالتقوى, وطاعة الله ممثلة في إتباع الرسل تسبب مغفرة الذنب, والزيادة في الأجل, وهذا يعني أن الزيادة أو النقصان تتم حسب سلوك العبد في حياته من أفعال وأقوال: صلاح في العمل الطيب, وكيب في القول, أو فساد في الأرض, وفحش في القول, مع الأخذ في الإعتبار﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ [فاطر : 10].

     

  كلمات من نور

﴿وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير﴾ [فاطر: 11].

*    *   *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والتقيا .. على باب الجنة

   قال صلى الله عليه وسلم: ” التقي مؤمنان على باب الجنة, مؤمن غني ومؤمن فقير, كانا في الدنيا فأدخل الفقير الجنة, وحبس الغني ما شاء الله أن يحبس, ثم أدخل الجنة فلقى الفقير فقال: يا أخي إني حبست بعدك حبساً فظيعاً كريهاً ما وصلت إليك حتى سال من العرق مالو ورده ألف بعير لصدرت عنه”(1).

   ثم قال داعياً عليه الصلاة والسلام: ” اللهم أحينى مسكيناً وأمتني مسكيناً, وأحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة” قالت عائشة: ولم يا رسول الله؟ قال: لأنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً, يا عائشة لا تردي مسكيناً ولو بشق تمرة, ياعائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة” (2).

   نعم.. إن دين الإسلام الحنيف يحث على التراحم, والتواصل على بالعطاء بين الأغنياء والفقراء, فلا يجوز أن يتغير وجه رب المال إذا جاءه سائل طالباً منه المساعدة, كما لا يجوز أن ينحرف بجنيه مشيحاً بنفسه عنه, فإذا سأله مرة ثالثة يوليه ظهره.. وذلك بسبب تعلق النفس بالمال تعلقاً شديداً..!

   كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: ثعلبة, فشكي فقره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجمع له مالاً ودعا له بالبركة فكثر ماله فطلب النبي صلى الله عليه وسلم منه الزكاة فقال: إن الجزية تؤخذ من اليهود والنصاري لا من قريش, فطلب منه ثانياً, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إما الزكاة وإما السيف” فأرسل إليه غنماً ضعافاً فنزل جبريل وقال: يا محمد إن الله تعالي قد نزع لباس الإيمان ن قلبه وألبسه لباس الكفر(3).

   حفظنا الله من كل سوء وشر, وجعلنا من أولئك الطائعين الساعين إلى نيل رضاه ورحمته, العاملين على مساعدة الفقراء والمحتاجين, للفوز بجنة الله أرحم الراحمين.

كلمات من نور

   ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفخونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم﴾ [التوبة : 34, 35].

ــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده جـ1 ص 304 ومجمع الزوائد الهيثمي جـ 10 ص 263 طبع الكتاب العربي ببيروت.
  • الحديث أخرجه ابن ماجه جـ2 ص1381, 1382 كتاب الزهد باب مجالسة الفقراء حديث 4126.
  • الحديث في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لأبن حجر في ترجمة ثعلبة بن حاطب جـ2 ص19 برقم 924 طبع المكتبات الأزهرية القاهرة.

 

.. حين تجئ لحظة الإحتياج!

   مازلت حتى الأن أفكر في أهمية الحب في حياة الإنسان؟! عما يحبث الشخص لحظة الشعور بالإحتياج ..عن أحب الناس إليه؟! أولئك الناس الذين يعتقد أنهم يبادلونه حباً بحب؟! أعتقد أن أول من يخطر بباله وأول من يستنجد بهم ليساعدونه على الخروج من المأذق الذي يتعرض له.. هم هؤلاء الناس الذين يحبهم ويحبونه هذا غالباً ما يحدث في هاذين الموقفين المتناقضين:

   الأول: أن يهب أولئك المحبون إلى نجدة المستغيث, غير عابثين بما لديهم من مهام وأعمال فينطلقوا يسابقون الريح لسرعة الوصول إليك.

   الثاني: أن يفاجأ هذا الشخص الواقع في الأزمة بتخاذل بعض الناس الذين كان يظن أنهم يحبونه!! فيفاجأ بهم وقد تعاموا عن نجدته, وأصموا سمعهم عن صدى استغاثته, وتابعوا أعمالهم وكان شيئاً لم يكن , بعد أن جعلوا أذانهم – على رأى المثل- ” أذن من طين.. وأذن من عجين!!”.

   عندئذ.. يشق أعماق القلب هذا السؤال: إلى هذا الحد كنت واهماً في تقديري لأولئك الناس؟!

   إلى هذا الحد كنت غافلاً عن إدراك ما حولي من مواقف وأحداث؟!

   مليون تساؤل.. مليون سؤال.. مليون جواب.. لا تكفي جميعها لتوضيح معادن هؤلاء الناس, الذين نتعامل معهم دون أن نعرف حقيقتهم! فالله وحده هو الذى ﴿يعلم ما في أنفسكم فأحذروه﴾ [البقرة: 235].

   أما الغريب والمفاجئ في الموضوع, هو وجود فئة ثالثة مستترة, لا يعلم ما في صدورها إلا الله وحده تبارك وتعالي, فئة تفجرت مشاعرها, وظهرت عواطفها أثناء الأزمة.. فتفجر منها ذاك الكم الزاخر من الحب, والقدر الوافر من العطاء!!

   هؤلاء الناس هم الذين قال عنهم الفيلسوف أفلاطون: “حافظ على كل صديق أهدته إليك الشدائد, وإله عن كل صديق أهدته إليك النعمة”.

   صحيح.. وكما يضئ القمر الليل الحالك السواد, تضئ ظلمة الشدة قلوباً تشتعل خوفاً عليناً تفيض حباً لنا.. قلوباً لم نكن أبداً نتوقع أن تكون عامرة بكل هذا القدر من الخير.. والحب!

   هذا الحب المكنون.. ذاك الذي يتكشف ويتبدي وقت الازمة.. حين تجئ لحظة الإحتياج.. هذا الحب ذاته, هو الذي يجعلني الآن أتساءل؟!

   لماذا أودع الله عاطفة الحب في قلب الإنسان؟!

 

   الجواب: الحب امتحان.. امتحان قاس مرير يختبر به سلوك الإنسان, فهو يظهر نوعية المسلك الذي يسلكه.. هل سيسلك في حبه مسلكاً شريفاً عالياً.. أم مسلكاً وضيعاً هابطاً؟!

   هذه التساؤلات تعرف نتيجتها غالباً بعد أن يجتاز الشخص المحب الإمتحان, إمتحان.. ربما يأتي في لحظة ضعف.. أو عند لحظة احتياج.. ويا له من إمتحان؟!

     

 كلمات من نور

 ﴿وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغني عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ﴾ [الأحقاف : 26].

 

*    *   *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثم قال صلى الله عليه وسلم:

“الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعاً” 

   ذات يوم أتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفد تجيب, وهم ثلاثة عشر رجلاُ جاءوا وقد أحضروا معهم صدقات أموالهم التي فرضها الله عليهم. فسر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرم منزلهم. وبعدها, قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, سقنا إليك حق الله في أموالنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ردوها فأقسموها على فقرائكم”  قالوا: يا رسول الله ما وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من نجيب.

   وهنا, قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن الهدي بيد الله عز وجل فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان” وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء, فكتب لهم بها, وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن, فإزداد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم رغبة وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم, فأقاموا أياماً ولم يطيلوا البقاء.. فقيل لهم: ما يعجبهم؟ فقالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا أياه وما ورد علينا.

   .. ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونه. فأرسل إليهم بلالاً فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود, قال: “هل بقي منكم أحد؟” قالوا: نعم, غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سناً, أي أصغرنا.

   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أرسلوه إلينا” فلما رجعوا إلى حالهم. قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقض حاجتك منه, فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه.

   فأقبل الغلام حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله, إني أمرؤ من بني ابذي, يقول: من الرهط الذين آتوك أنفاً, فقضيت حوائجهم, فأقض حاجتي يارسول الله, قال: “وما حاجتك؟” قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي وأن قدموا راغبين في الإسلام, وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم, وإني والله ما أعلمني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لى ويرحمنى, وأن يجعل غناى في قلبي.

   فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغلام وقال له: “اللهم أغفر له وأرحمه, وأجعل غناه في قلبه”.

 

 

 

 

   ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه, فأنطلقوا راجعين إلى أهليهم, ثم وافوا الله صلى الله عليه وسلم في الموسم. فقالوا: نحن بنو أبذي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟” قالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط, ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله, لو أن الناس أقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعاً” فقال: رجل منهم أو ليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا, فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك”.

   قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال, وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق, فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورجع بعض من أهل اليمن عن الإسلام من رجع, قام في فومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد.. وظل هو ثابتاً على دينه ما أحياه الله(1).

         

  كلمات من نور

﴿ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون﴾ [آل عمران 128].

 

*   *   *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين جـ4 ص 327, 328 في كتاب الرقاق وذكر الحديث مختصراً طبع دار الكتاب العربي بيروت.

 

صاحب القصر المحروق!

   يروي في قديم الزمان, وسالف العصر والأوان, أن طاغية شريراً كان يتاجر بشقاء البائسين والمساكين, وأنه كان يستغل فقراء الطابين, ويستنزف جهود أولئك المكدودين, ويستثمر تعب الأشقياء المقهورين بأقل القليل من المال, مما لا يتناسب وواقع الحال!

   .. كان هذا الطاغية الشرير يبخس أولئك التعساء حقوقهم, ولايصغي يوماً إلى شكواهم أو صياحهم, كما كان لا يستمع إلى نصح أو إرشاد, لا من صديق قريب, ولا حتى صاحب بعيد!

   وذات ليلة من تلك الليالي الشتوية الباردة, وبينما كانت تشتعل النيران في موقد الدار, إذا انطلقت شرارة طائشة أحرقت كل ما جمعه من المال, وحولت في الحال القصر الكبير, وكل ما فيه من فرش وثير, إلى كومة من الرماد, والعياذ بالله من سوء المال!

   حينئذ.. توقف الطاغية الشرير ينظر حوله في حزن شديد وهو يتحسر على طنافس الرياش الثمين, الذي تحول في لمح البصر إلى كومة حطام أسود لعين! وقف الطاغية الجبار كسيراً وسط الدار, التي أصبحت أنقاضاً في أنقاض! وقف يندب سوء حظه, وهو يتعجب ويسأل نفسه, وكل من حوله: كيف دخلت الدار.. هذه النار؟!

   من أين أتت؟! ومن ذا الذي أشعلها؟! ومن الذي أطلقها في قلب بيته فأحرقت أغلى ما يملك؟!

   وهنا.. قال له أحد الحكماء:

  • لا تتعجب لما حدث.. فالذي أحرق دارك, ونسف أمنك واستقرارك هو زفرات من ظلمتهم من البائسين.. ودعاء أولئك المقهورين المضطهدين!

   عند هذا الحد تنتهي حكاية هذا الطاغية الشرير, لكنها في ذهني ظلت تتفاعل , وتتفاعل, بحثاً عن تحليل يفسر ما حدث وكان, في سالف عصر ذاك الزمان.. عن موقف ذلك الطاغية الشرير الذي لو أنه كان قد ثاب إلى رشده, ورجع إلى عقله, ولم يكرر خطأه, ولم يعرض نفسه لدعوة مظلوم, ولم يتجاهل صيحة مقهور, لما كان وقع عليه هذا الأمر المكروه.. ولما كان قد تعرض عند وقوع المحظور لذلك الذعر المرعوب, ولا ذاك الخوف المسعور, مما سبب له حالة عدم اتزان نفسي وعقلى.. أمام شتي الأمور!!

   لكن.. لو أفترضنا أن هذا الطاغية الشرير, لم يتعظ بما أصابه, وأنه استمر في طغيه, وتمادي في ظلمه وعدوانه.. ماذا كان يمكن أن يحدث له مع الوقت؟

 

 

 

 

   يقوم بالرد على هذا لاسؤال الدكتور/ عبد الرحمن العيسوى قائلاً: “إذا حاول الإنسان شعورياً نسيان ذنوبه فإنها لا تموت, وإنما تكبت في اللاشعور, وتظل الأفكار المكبوتة في اللاشعور, وتظل الأفكار المكبوتة في اللاشعور حية تتصارع مع غيرها من الأفكار والقيم حتى تؤدي بالإنساس إلى الشعور بالقلق, ومن هنا إصابته بالأمراض النفسية أو العقلية”.

   ويستطرد أحد علماء النفس المعاصرين قائلاً:

   إن شعور النفس بالإثم والخطيئة يجعلها في إضطراب وقلق ودوامة من الخطر, مما يهدد أمنها وأطمئنانها, ويعتبر هذ الشعور أسوأ ما تبتلي به النفس الإنسانية.

   وللقضاء على هذا الشعور العنيف المدمر, يفتح الإسلام للعبد المذنب باب التوبة على مصراعيه, قال تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر النوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم﴾ [الزمر : 53].

   حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمرأة مخزومية سرقت قطيفة وحلياً فوجب عليها الحد, وجاء أسامة بن زيد رضي الله عنهما يشفع فيها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم قد يلحق بأهلها من العار إذا أقيم عليها الحد فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة وقال:

   ” أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة”؟

   ثم قام فخطب في الناس فقال “إنما أهلك الذين من فبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”(1).

   هكذا.. نحس العدل في ظل الإسلام.. وحينئذ, ينقضي الشعور بالذنب, وينتهي الإحساس بتأنيب الضمير, ولا يعود ظالم يخشى دعوة مظلوم, إذ يقول جل جلاله ﴿أدعوني أستجب لكم﴾ [غافر : 60] وها هو سبحانه يقول لعباده ﴿فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ [البقرة :186] هذه هي روعة الالتجاء إلى الله بالتوبة والاستغفار, مما يؤدي إلى عودة الإحساس بالأمان إلى الإنسان, فيعيش حياته حينذاك في طمأنينة وسلام.

كلمات من نور

﴿إنا انزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً * وأستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً﴾ [النساء 105-107].

 

*   *   *

 

 

            هزيمة الخوف من.. الموت!

   عشرات المواقف, وآلاف الأشياء المفزعة التي تحدث الآن, كلها تثبت أن هذا العصر الذي نعيش فيه يشكل صراعاً عاتياً لا يهدأ, وظلماً فادحاً لايهمد, فالحق يلبس قهراً رداء الباطل, والباطل يظهر عمداً كأنما هو حق مسلوب يسحقه ظلم, وقتل, وإرهاب..!

   هذه هي الدنيا, وهذه الأيام, حين تختلط الحقيقة بالكذب, والخير مع الشر, والنور والظلام..!

   ..فمنذ ذلك العصر البعيد, منذ أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه الله بنور الإسلام يبدد به ظلام الكفر, وظلم العصيان, واليهود يعادونه, ويحسدونه, ويرفضون الدخول في دين الإسلام تكبرا وتعاظما وغروراً, حتى أنهم عمدوا إلى إدخال اليأس في قلبه ليقنط من دعوتهم إلى الإسلام بأن قالوا له: “قلوبنا غلف” أي عمياء, صماء لا تفهم, وهنا ” لعنهم الله بكفرهم ” وضلالهم وعنادهم لرسوله.

   فقد كان اليهود يعرفون وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراه, كانوا يعرفونه حق المعرفة, ومع ذلك رفضوا واستنكروا, مع أنه جاء بالحق “مصدقاً لما معهم”.

   لكن.. هذه هي مواقف اليهود منذ قديم الزمان, الذين عرفوا بعدائهم الشديد للإسلام والمسلمين, فقد كانوا- ومازالوا – يرتكبون كثيراً من الجرائم كما ظلوا ينقضون العهود, وينكثون الوعود, فأذاقهم الله الذل والهوان, فالله سبحانه “هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم” وهو وحده القادر على إجلاء أولئك الفاسقين الظالمين من أرض فلسطين, وهو قادر على حقن دماء المسلمين, ونصر القلة الضعيفة على الكثرة الغاشمة.. كما نصر نبيه وجنده على مشركى مكة في غزوة بدر.

   كان عدد المشركين حوالي ألف جندي, في حين كان عدد جند المسلمين حوالي ثلاثمائة مسلم, وكان قائد الجيش المهاجم هو أبو جهل, الذي كان يعلم أن محمداً لا يكذب. يروي أن الأخنس ابن شريك خلا بأبي جهل في بدر قبل نشوب المعركة وسأله يا أبا الحكم.. أتري محمداً يكذب؟

   قال أبو جهل: كيف يكذب على الله وقد كنا نسميه الأمين؟! ولكن إذا اجتمعت في عبد مناف السقاية والرفادة والحجاجة والمشورة, ثم تكون فيهم النبوة, فأى شئ بقي لنا؟

   .. وبدأ الاستعداد للحرب , والعدد غير متكافئ, والسلاح غير متكافئ, فعناد الكافرين هائل, وأدوات الحرب ليهم متفوق, وثيابهم جديدة, في حين أن المسلمين ثيابهم بالية, وسيوفهم قديمة وسلاحهم قليل.. وهنا.. نظر النبي إلى جيشه فرق قلبه لمنظره ودعا ربه قائلاً:

  “اللهم إنهم جياع فأشبعهم, اللهم إنهم حفاة فأحلهم, اللهم إنهم عراة فأكسهم”(1).

ـــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البيهقي في السنن الكبري جـ6 ص47 وفي جـ9 صفحة 57, وأبو داود في سننه جـ9 ص181 كتاب الجهاد طبع سورية حمص.

 

   .. انعقدت الحرب, وكان الموقف في صالح المشركين, كل الدلائل والسبل تنذر بذلك. لكن ..ليست الحرب بضخامة العدد ولا كثافة العدة.. إنما هناك شئ خفي غير مرئي.. إنه روح الجندي المعنوية.. إنه الإيمان بصدق القضية. إنها الرغبة الخالصة في إحدي الحسنيين, النصر أو الشهادة. إنها القدرة على هزيمة الخوف من الموت.. وبذلك يتحول الجندي إلى بطل أسطوري يستعصي على الهزيمة.. إنه النصر إذن بأمر الله.

   وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاتلاً في سبيل الله, من أجل إعلاء كلمة الله وكان يقول: 

  • “اللهم نصرك.. اللهم أنجز لى ما وعدتنى”.
  • “اللهم إن تهلك هذه الجماعة لا تعبد بعدها في الأرض”(1).

   وجاء نزول الملائكة, وجاء النصر من عند الله تثبيتاً للمسلمين وبشري لهم..         ﴿إن للكافرين عذاب النار﴾.

 

كلمات من نور

   ﴿إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم﴾ [الأنفال : 9 ,10]. 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ3 ص 193 طبع بيروت فقد أورد الحديث في تفسير الآيات 123 – 125 من آل عمران وقال أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مطولاً.

 

 

 

جاء.. حتى وقف على باب الكعبة!

   قال أبو هريرة رضي الله عنه, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه, رجل استشهد, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت, قال: كذبت, ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن, فأتي به, فعرفه نعمة معرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته, وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت, ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم. وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل, ثم أمر به, فسحب على وجهه, حتى ألقى في النار. ورجل وسع الله عليه, وأعطاه من أصناف المال كله, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن تنفق, الا أنفقت فيها لك قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل(1).  

   ثم أمر به, فسحب على وجهه, ثم.. ألقى في النار.

   وعن هذا الحديث يقول الإمام النووى هذا التعليق: قوله صلى الله عليه وسلم في الغازي والعالم والجواد, وعقابهم على فعل ذلك لغير الله, وإدخالهم النار, دليل على تغليظ الرياء وشدة عقوبته, وعلى الحث في الإخلاص في العمر, وعمق الإيمان بالله مع الرضا بما يأتي من عند الله.

   روى سيدنا الحسين بن سيدنا علي بن أبي طالب, رضي الله عنهما, أنه أستلم الركن فقال:

   “الهى نعمتني فلم تجدني شاكراً, وابتليتنى فلم تجدني صابراً, فلا أنت سلبت النعمة بترك الشكر, ولا أدمت الشدة بترك الصبر, الهى ما يكون من الكريم إلا الكرم”.

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث في سنن النسائي جـ6 ص23 طبع المكتبة التجارة بمصر عن أبي هريرة – رضي الله عنه – وأخرجه الإمام أحمد في مسنده جـ2 / 322 والبيهقي في السنن الكبري جـ9 ص168 والحاكم في المستدرك جـ1 ص107.

 

   وذات يوم, حدث الأصمعي, قال: (بينما أنا أطوف بالكعبة, وإذا بإعرابي جاء حتى وقف على باب الكعبة, وقال: (الهى إنى جائع كما ترى, وناقتي جائعة كما ترى, وابنتي عريانة, وزوجتي محتاجة كما ترى, فما ترى فيما ترى يا من يرى ولايرى؟ قال الأصمعي: فمددت يدى إلى دنانير كانت معى, فقلت: يا سيدى خذ هذه الدنانير فاستعن بها على فقرك. قال: فردها وقال: إن الذي سألناه أبسط منك يداً. قال: فما استتم كلامه إلا ومناد ينادى: يا فلان, أدرك عمك فقد مات, وخلف أربعمائة ناقة, وأربع مئة ثور, وأربع مئة مثقال من الذهب, فأمضي إليه فخذها, فإنك وارثه حقاً.. الله الوارث, الجبار ذو القوة المتين, وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم النبي المرسل رحمة للعالمين, هو شفيعنا إن شاء الله يوم الدين, جعلنا الله من عباده الصالحين المخلصين, وأورثنا برحمته جنات النعيم.

     

  كلمات من نور

﴿استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً﴾ [نوح: 10, 11].

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إنه الباب المفتوح.. دائماً

   أتي رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يارسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد رمضان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن كنت صائماً شهراً بعد رمضان فصم المحرم, فإنه شهر الله وفيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب على آخرين”(1).

   حقاً.. إن باب التوبة مفتوح دائماً, وكم نتمني أن ينعم الله علينا بواسع رحمته.. وتوبته. قال لقمان لأبنه: يابني لا تؤخر التوبة, فإن الموت يأتي بغتة, وقال بعض الحكماء: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل, ويؤخر التوبة لطول الأمل, كما قال البعض الآخر: أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.

   ..وهذا يعنى أن المؤمن ينبغي أن يصبح وأن يمسي على توبة, لأنه لا يدرى متى يفاجئه الموت صباحاً أو مساءاً؟, فمن أصبح أو أمسي على غير توبة فهو على خطر, لأنه يخشي أن يلقي الله غير تائب فيحشر حينئذ مع الظالمين.

   رحمنا الله, ونجانا من الإصرار على المعصية. فالتوبة مطلب ملح لابد من بلوغ المراد منها قبل أن يصاب الشخص المفرط بالندم والخيبة.. قال شاعر:

أسأت ولم أحسن وجئتك هارباً           وأني لعبد من مواليه مهرب؟

يؤمل غفراناً فإن خـاب ظنـه          فما أحد منه على الأرض أخيب

   لما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون, اللهم إني أستغفرك من تقصيري وتفريطي, وأتوب إليك من جميع ذنوبي, لا إله إلا الله, ثم لم يزل يرددها حتى مات رحمه الله.

   قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته: أجلسونى, فأجلسوه, فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت, ونهيتنى فعصيت, ولكن لا إله إلا الله, ثم رفع رأسه فأحد النظر, أى نظر بدقة وتمعن, فقالوا: إنك تنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين, فقال: أتاني حضرة ما هم بإنس ولاجن, ثم قبض رحمة الله عليه, وسمعوا بعدها تالياً يتلو ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين﴾[القصص :83].

   وكان السابقون يرون أن من مات عقب حج أو عمرة يرجى له أن يدخل الجنة, وكانوا مع حرصهم على الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار, ويرددون دوماً كلمة التوحيد سواء كانوا في صحة أو في مرض.

 

 

 

 

 

   في حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أن من قال في مرضه: لا إله إلا الله والله أكبر, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن مات من مرضه لم تطعمه النار” أى ينجو من جهنم(1).

   وفي رواية للنسائي: ” من قالهن في يوم أو في ليلة أو في شهر ثم مات في ذلك اليوم أو في تلك الليلة أو في ذلك الشهر غفر له ذنبه”.

    

   كلمات من نور

﴿يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾ [الحجرات:11].

 

*     *     *

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير جـ39 ص361 رقم 849 وعبد الرازق في مصنفه بأرقام 3224, 9235, 20580.

 

        آية.. في جوف الليل

   عن عائشة رضي الله عنها في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه وتعالي: “إن لعبدي على عهد إن أقام الصلاة لوقتها أن لا أعذبه وأدخله الجنة بغير حساب”(1).

   قال تعالي: ﴿قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ [المؤمنون: 1, 2] والفلاح هنا يشمل الدنيا والآخرة, ففي الدنيا ينعمون براحة النفس, وطمأنينة القلب, وفي الآخرة يحظون بالنجاة من عذاب جهنم, ومن مناقشة الحساب, لأن الصلاة عماد الدين, وهي من أعظم أركان الإسلام الخمس, فمن حافظ عليها فهو السعيد الرابح, ومن أضاعها فهو الشقى الخاسر, ومن أقامها فقد أقام الدين, ومن تركها فقد هدم الدين.

   قال تعالى ﴿أتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر﴾ [العنكبوت:45].

   حقاً.. إن ذكر الله أكبر, ففي الأشتغال بالذكر إنصراف عن الكلام ذلك الكلام الفاسد من الغيبة والنميمة واللغو وغيره, فاللسان لا يسكت أبداً, فإما لسان ذاكر, وإما لسان لاغ, ولابد من أحدهما.

   وذكر أيضاً عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال: بينما رجل مسافر إذ مر برجل نائم ورأى عنده شياطين, فسمع المسافر أحد الشيطانين يقول لصاحبه: إذهب فأفسد على هذا النائم قلبه, فلما دنا منه رجع إلى صاحبه فقال: لقد نام على آية مالنا إليه سبيل, فذهب إلى النائم فلما دنا منه رجع وقال: صدقت. فذهب..!

   .. فأيقظه المسافر وأخبره بما رأى من الشيطانين فقال: أخبرني على آية نمت؟ قال:

   على هذه الآية:﴿إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين﴾ [الإعراف:54].

   نعم.. إن المعونة من الله تنظل على العباد على قدر هممهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم. والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك, إليكم دعاء سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في طلب العون من الله: اللهم أعني على ديني بدنياي, وعلى أخرتي بالتقوى, وأحفظني فيما غبت عنه, ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرني يا من لا تضر به الذنوب, ولا تنقصه المغفرة, أغفر لى ما لا يرضيك, وهب لى مالاً ينقصك.. يا ألهي أسألك صبراً جميلاً, وأسألك فرجاً قريباً وأسألك العافية من كل بلية ولا حول ولا قوة إلا بك اللهم إني بك أستدفع ما أنا فيه وأعوذ بك من شره(2).

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الدارمي في سننه ( طبع المدينة المنورة) جـ2 كتاب العلاة باب الوتر حديث 1585 بلفظ مقارب للحديث الذي معنا.
  • الحديث أخرجه ابن عساكر في تهديب تاريخ دمشق جـ5 ص312 طبع (دار الميسرة) وذكر الحديث مطولاً.

 

 

  ومن أجل الفوز بعون الله, حرص السلف الصالح على حسن أداء الطاعات كالصلاة في أوقاتها, وقيام الليل بها.. وذلك هو دأب الصالحين, لأن فيها القربة إلى الله تعالى, والنهى عن الإثم, والتكفير عن السيئات, وطرد الداء عن الجسد.

   سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الصلاة أفضل بعد الصلاة المكتوبة؟ قال: (الصلاة في جوف الليل) كما قال: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراُ من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة)(1).

 

كلمات من نور

   ﴿وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين﴾ [هود:114].

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام أحمد جـ3 ص313, والإمام مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب 22 ص521 حديث 166, 167.

 

هذا النوع المرفوض من الدعاء!

   الليل في رمضان له إشراق خاص, له نور يضئ مساحة شاسعة داخل النفس.. مساحة تعمر بالحب والود والرجاء, فيتعمق الإتصال بالله, ما بين صوم وصلاة وقراءة قرآن, ودعاء وإبتهال واستغفار, مما يؤكد معاني الإيمان, ويضاعف الشعور والحضور, فتتفتح حينذاك نوافذ الذات على آخرها تنهل من عطاء الله.

   نعم.. إنها تلك النعمة الرمضانية التي تضفي على العبادة عبقاً خاصاً مميزاً, وشعوراً عامراً دافقاً يجعلنا نتجه إلى الله في كل لحظة, في كل لمحة, داعين, شاكرين نعمة العبادة في رمضان, ونعمة الله الذي هدانا إلى دين الإسلام.. دين الحق.. دين الإسلام.

   وما بين صيام نهار, وقيام ليل, ينكب الناس على الدعاء في تلك الأيام المباركة التي تتضاعف فيها الحسنات, فتري كل منا يدعو الله بطريقته راجياً أن يلبى الله طلبه, فنجد البعض يقسم على الله, في حين يكتفى البعض الآخر بترك الأمر لإرادة الله.. إن شاء.. قبل, وإن شاء.. لم يقبل, دون الحاح أو إلحاف!

   هذا هو ذلك النوع المرفوض من الدعاء, الذي نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ أمر أن يعزم المسلم في مسألته, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

   “لايقولن أحدكم اللهم إغفر لي إن شئت, اللهم أرحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة, فإنه لا مستكره له”(1).

   وفي رواية عن ابي هريرة أيضاً: “إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم إن شئت, ولكن ليعزم وليعظم الرغبة, فإن الله لا يتعاظمه شئ أعطاه”(2).

   إذن..

   الدعاء لله سبحانه وتعالي يتطلب حسن الظن بالله, وعمق الثقة في الإستجابة إلى درجة القسم على الله طلباً للإجابة, وهذا هو ما حدث في تلك الحكاية التى أرويها لكم الأن:

    عن محمد بن سويد.. قال: إن أهل المدينة قحطوا, وكان فيها رجل صالح ملازم لمسجد النبي عليه الصلاة والسلام, فبينما هم في دعائهم إذ برجل عليه طهران خلقان, أي ثوبين قديمين بالين فصلى ركعتين أوجز فيهما, ثم بسط يديه إلى الله فقال:

ـــــــــــــــــــــ

  • الحديث : أنظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ2 ص 312, 333 طبع بيروت في تفسير الآية 186 من سورة البقرة فقد ذكر الحديثين فيهما بعض الزيادة في الألفاظ.
  • الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتا الذكر والدعاء ص2070 وشرح السنة النووي جـ5 ص194.

 

   أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة, فلم يرد يده ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغيم ونزل المطر, حتى صاح أهل المدينة مخافة الغرق. فقال يارب إن كنت تعلم أنهم قد أكتفوا فأرفع عنهم, فسكن.

   وتبع الرجل صاحب المطر, حتى عرف موضعه, ثم ذهب إليه في الصباح الباكر, فنادي:

    يا أهل البيت, فخرج الرجل, فقال له: قد أتيتك في حاجة. قال: وما هي؟ قال: تخصنى بدعوة قال: سبحان الله!! أنت أنت وتسألنى أن أخصك بدعوة؟

   قال: ما الذي بلغك ما رأيت؟! قال: أو رأيتني؟ قلت: نعم. قال: أطعت الله فيما أمرني ونهانى.. فسألته فأعطاني.

 

كلمات من نور

﴿وإذ سالك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ [البقرة186].

 

*   *   *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كيف يكون الحج مبروراً؟

   يظل المسلم يتمنى أن يؤدى فريضة الحج, فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” (1).

   إذن .. غفران الذنوب بالحج ودخول الجنة يعتمد على كون الحج مبروراً. لكن.. كيف يكون الحج مبروراً؟

   ذات يوم, سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن البر فقال: “البر حسن الخلق” (2) أي بالإحسان إلى الناس.

   وفي الواقع, هذا المعني لحسن الصلة بالناس, نحتاج إليه في الحج كثيراً, فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:, وما بر الحج يا رسول الله؟ قال: “إطعام الطعام وإفشاء السلام” وفي حديث آخر : “وطيب الكلام” (3).

   هذا الخلق الحسن, تحتاج الناس إليه كثيراً في وقت الحج, لما قد يصدر عنهم من أقوال أو أفعال تسئ إلى الآخرين, بسبب شدة الرحام, وتدافع الناس بعضهم بعضاً عند أداء المناسك, لذا يتأكد الإحتياج إلى البر, الذي قال عنه ابن عمر رضي الله عنهما: “إن البر شئ هين: وجه طليق وكلام لين” فقد قال البعض عن سبب تسمية السفر سفراً, لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.

   وفي سفر الحج على وجه الخصوص قال أبو جعفر الباقر: “ما يعبأ به من يؤم هذا البيت إذا لم يأت بثلاثة: ورع يحجزه عن معاصي الله, وحلم يكف به غضبه, وحسن الصحبة لمن يصحبه من المسلمين). وبذلك يكمل الحج, ويكون حجاً مبروراً بإذن الله.

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البخاري جـ3 ص2, ومسلم كتاب الحج حديث 437.
  • الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة لإمام أحمد جـ4 ص182.
  • أخرجه البيهقي في السنن الكبري جـ5 ص262, والحاكم جـ1/ 483 وحلية الأولياء ج ص 146.

 

 

   وعن أبي قلابة رضي الله عنه قال: قدم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر يثنون على صاحب لهم, فقالوا: ما رأينا مثل فلان قط, ما كان في مسير إلا كان في قراءة, ولا نزلنا منزلاً إلا كان في صلاة, قال صلى الله عليه وسلم : ” فمن كان يكفيه ضيعته” حتى ذكر ” ومن كان يعلف دابته؟” قالوا نحن قال صلى الله عليه وسلم: فكلكم خير منه”(1) وكان رجل من الصالحين يصحب إخوانه في سفر الجهاد وغيره, فكان إذا رأى رجلاً يريد أن يغسل ثوبه, قال له: هذا من شرطي فيغسله, وإذا رأى من يريد أن يغسل رأسه, قال له: هذا من شرطى فيغسله, فلما مات نظروا في يده فإذا فيها مكتوب: من أهل الجنة فنظروا إليها فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم.

  .. وفي الواقع, أن خير الناس أنفعهم للناس, وأصبرهم على أذي الناس, وهؤلاء هم المتقون الذين وصفهم الله في كتابه الكريم بصفات كثيرة تدل عليهم جعلها الله وإياكم منهم لنحظي برحمة الله في الدنيا والأخرة بإذن الله.

 

كلمات من نور

﴿الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ العافين عن الناس والله يحب المحسنين﴾ [آل عمران: 134].

 

*      *     * 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

أخرج الحديث في المطالب العالية بوزائد الماسانيد الثمانية لابن حجر جـ2 ص153 حديث 1913 طبع بيروت.

 

مؤمنون ورب الكعبة

   زمان.. قالوا في الأمثال ” أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب”! هذا المثل الشعبي القديم يعكس دهشة الإنسان العادي البسيط إزاء تناقض الأفعال مع الأقوال! كيف؟ أى أن يتبدي الحب في العين, وتتوازي السكين في اليد! أي أن تكون إمارات الحب الزائف, محاولة لإخفاء رغبة الطعن في الظهر! هذه هي بعض التفسيرات البسيطة لذلك المثل الشعبي القديم.

   والآن.. في مثل هذه الظروف والأحوال, أعتقد أنه قد آن الأوان لهذا المثل الشعبي القديم أن يتجدد, وهو يرى بعيني حاله كيف ينطبق كل حرف من حروفه, وكل كلمة من كلماته على أحداث هذا الواقع المؤسف المشين! حقاً﴿وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون﴾ [النمل:74].

   من هنا, علينا أن نوقن بأن هذا الظلم الظالم, وذلك العدوان المعتدى لابد وأن يحيق بأهله مهما بدا؟ في بداية الأمر أن ذلك صعباً أو مستحيلاً, فهم يمكرون والله خير الماكرين. والله يمهل, وهو يجزى كل أمرئ بما نوى﴿ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ [النمل:90].

   حقاً ﴿قل سيروا في الأرض فأنظروا كيف كان عاقبة المجرمين﴾ [النمل:69] أولئك القتلة الظالمون, الذين يعتدون على حقوق الله, الذي لابد وأن ينصف المظلوم من الظالم, وهو أصدق القائلين﴿وأتبع ما يوحي إليك وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين﴾ [يونس:109].

   سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه” من أنتم, قالوا مؤمنون يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: “ما علامة إيمانكم” قالوا نصبر على البلاء ونشكر على الرخاء ونرضي بمواقع القضاء, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمنون ورب الكعبة”(1).

   نعم هذه هي سمات المؤمنين وتلك هي صفات الصابرين, الذين يحمدون الله في السراء والضراء, ويسلمون أمورهم لله وهم موقنون من رحمته وقدرته التي وسعت كل شئ علماً ﴿وما ربك بغافل عما تعملون﴾ [النمل:93].

   هؤلاء هم الصابرون القانتون الذين يتوكلون على الله, ويخلصون له الدعاء, دعاء الضعيف العاجز عن دفع الظلم عن نفسه, دعاء المضطر الذى لا ملجأ له إلا الله     ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاءالأرض﴾ [النمل:62] إليكم تلك الحكاية, كما حدثت من البداية إلى النهاية:

 

 

   روى أن رجلاً من العقلاء أغتصب بعض الولاة ضيعته فأتي المنصور فقال له:

   أصلحك الله يأمير المؤمنين أذكر لك حاجتي أم أضرب لك قبلها مثلاً؟ فقال: بل أضرب المثل.

   فقال: عن الطفل الصغير إذا نابه أمر يكرهه فأينما يفزع؟

   فقال: لأمه إذ لا يعرف غيرها وظنا منه أنه لا ناصر له غيرها فإذا ترعرع وأشتد كان فراره إلى أبيه. فإذا بلغ وصار رجلاً وحدث به مكروه, شكاه إلى الوالى لعلمه أنه أقوى من أبيه فإن لم ينصفه شكاه إلى السلطان فإن لم ينصفه السلطان شكاه إلى الله لعلمه أنه أقوى من الجميع.

   إذا فقد نزلت بي نازلة “أي أصابتني مصيبة” وليس لي أحد غيرك أو فوقك منك إلا الله تعالي فإن أنصفتني وإلا رفعت أمري إلى الله في الموسم فإني متوجه إلى بيته وحرمه.. فقال المنصور: بل ننصفك. وامر أن يكتب إلى واليه برد ضيعته إليه.

 

كلمات من نور

     ﴿فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين﴾ [القصص:50].

 

*       *       *

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الهيثمى في مجمع الزوائد جـ1 ص 57 كتاب الإيمان باب حقيقة الإيمان بلفظ مقارب للحديث الدنى معنا عن زنس ابن مالك – رضي الله عنه.

 

 

..هدف الشيطان الأعظم!

   ماذا حدث لو خرج أحدنا إلى طريق معتم في ليلة شتوية باردة, ذات رياح لاذعة, تقشعر لها الجلود, فرأى في هذا الجو القارس أمرأة ترتجف برداً, وتحتمي من هذا الصقيع بشال من الصوف تغطي به رأسها, وتلف به نفسها.. ماذا يفعل لو إنه رأى هذه المرأة ذاتها التى تعاني من البرد كل هذا العناء.. وقد نزعت الشال عن جسدها, وأخذت تفك خيوطه التي غزلتها بيدها لتصنع منها هذا الشال السميك الذي تتدثر به لتحتمي به من قسوة الشتاء؟!

   ألا يدعو هذا الموقف إلى الدهشة والعجب؟ أن تنقض المرأة غزلها بنفسها؟!.. هذا هو مانهانا عنه الله قائلاً: ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً﴾ [النحل:92] هذا المثال ضربه الله لنا ليحذرنا من خيط الشيطان الذي يحاول دائماً أن يلقمه بيدنا ليسحبنا منه إلى المعاصي..!

   هذا التكال المستمر من الشيطان يزداد خبثاً وشراسة, بعد كل عملية طاعة عظيمة, كالحج أو العمرة, أو صوم شهر رمضان, وذلك ليصاب المؤمن بالفتور بعد الطاعة, فيتباعد عنها قليلاً, محدثاً نفسه: لقد صليت كثيراً, وقمت ليلاً طويلاً, ودعوت كثيراً وكثيراً, وتصدقت كثيراً, و..و.. وأكيد أن بعض أعمالي, أو بعض دعواتي قد قلبت.. فلأرتاح إذن قليلاً!!

   هذا التفكير نفسه هو الذي يجعل بعض الناس تتباعد عن الالتزام قليلاً, مقارنة بما كانوا عليه في شهر رمضان مثلاً, فيبدأوا يشعرون بالحيرة والقلق لأن الواحد منهم لم يعد مؤمناً قانتاً.. منكباً على العبادة آناء الليل وأطراف النهار.. كما كان يفعل ذلك في شهر رمضان!

   لذا نجد أنه سرعان مايصاب بالإحباط واليأس من رحمة الله, وهذا هو هدف الشيطان الأعظم, أن يقنط العبد من رحمة ربه, فينصرف عن العبادة, وينجرف وراء أهواء الشيطان.. وهذا هو ما يبغضه الله سبحانه وتعالى الذى وسعن رحمته كل شئ, والذي يفرح بتوبة عبده الضال إليه.  

   لكن.. ما هي الوسيلة التي تعين على الإستمرار في حسن العبادة طوال العام؟ أولاً: علينا أن نحرص على قراءة كتاب الله كل يوم, ولو صفحة واحدة بهدف أن نختمه, فمع القرآن يطمئن القلب, ويذهب الغم, وينفرج الكرب, فنحن عندما نقرآ القرآن نكن في حضرة الله, ويذكرنا أهل السماء. جاء في الحديث القدسي عن رب العزة جل وعلا: “أنا جليس ذكرني”.

 

 

   وذات يوم, سأل أبو ذر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني يا رسول الله, فقال له: “عليك بكتاب الله, فإنه نور لك في الأرض, وذكر لك في السماء”(1).

 

كلمات من نور

 

   ﴿يا أيها الذين أمنوا أذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلاً * هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً﴾ [الأحزاب41 : 43].

 

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البخاري في التاريخ الكبير المجلد الثاني القسم الثاني من الجزء الأول ص22 طبع بيروت حديث 1559 عن أسامة عن على.

 

.. التسابق إلى الخيرات

   قال بعض الحكماء:

   قيمة كل إنسان تكمن فيما يكلب, فمن كان يطلب الدنيا فلا أدني منه, لأن الدنيا دنية, وأدني منها من يطلبها, وقالت رابعة العدوية: “كل الذي فوق التراب تراب” ثم أستطرد أحدهم قائلاً في يوم عيد لإخوانه: هل تنظرون إلا خرقاً تبيل أو لحماً يأكله الدود غداّ..!

   هكذا, نري أن صاحب الهمة العالية, والنفس الشريفة التواقة إلى رضا الله, لا يقبل بالأشياء الدنية الفانية, فتظل همته تتجه نحو الدرجات الزاكية, والدار الأخرة الخالدة, فلا يرجع عن هدفه ولو تلفت نفسه في طلبه.. ومن كان في الله تلفه, كان على الله خلفه.

  وفي هذا المعني قال المتنبي الشاعر:

   على قدر أهل العزم تأتي العزائم

                                          وتأتي علي قدر الكرام المكارم

   قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:

  “إن لي نفساً تواقة ما نالت شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه, وإنها لما نالت هذه المنزلة, يعنى الخلافة, وليس في الدنيا منزلة أعلي منها إلى ما هو اعلي من الدنيا, يعني الأخرة”.

   قال أبو سليمان الدارني: ” الدنيا حجاب عن الله لأعدائه, ومطية موصولة إليه لأوليائه, فسبحان من جعل شيئاً واحداً سبباً للإتصال به والإنقطاع عنه”.

   هذا, وقد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإجتهاد في العبادة طمعاً في الحصول على رضا الله عنهم, لذا, عندما سمعوا قول الله عز وجل    ﴿فأستبقوا الخيرات﴾ [البقرة:148] فهموا من ذلك أن المراد هو الاجتهاد للوصول إلى هذه الكرامة ببلوغ الدرجات العلى, فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملاً يعجز عنه, خشى أن يكون صاحب هذا العمل هو السابق له, فيحزن لفوات سبقه.

   قال الحسن: “إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة” وكذلك قال وهيب بن الورد: “إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فأفعل”.

   وكان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة, أبو بكر الصديق رضي الله عنه, قال عمر رضي الله عنه:

   ما استبقنا إلى شئ من الخير إلا سبقنا أبو بكر, وكان سباقاً بالخيرات.

 

   روى عن ابن الزبير رضي الله عنهما, إن أبا بكر كان يبتاع الضعفة فيعتقهم, فقال له أبو قحافة: يابنى لو ابتعت من يمنع ظهرك؟ فقال: يا أبت ما منع ظهري أريد, ونزلت فيه﴿وسيجنبها الأتقي﴾ الآيات من سورة [الليل : 17 :21].

   وخرج أبو داود والترمذي من حديث عمر: قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق, ووافق ذلك عندى مالاً, فقلت: اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته يوماً, قال: فجئت بنصف مالى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك؟” قلت: مثله, وإذ أبا بكر أتي بكل ما عنده, فقال: “يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ “قال: أبقيت لهم الله ورسوله, فقلت: لا أسابقه إلى شئ أبداً.

 

كلمات من نور

 

﴿وسجنبها الأتقي * الذي يؤتي ماله يتزكي * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا إبتغاء وجه ربه الأعلي * ولسوف يرضى﴾ [الليل 17 : 21].

 

*     *     *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دعاء تعجبت منه الملائكة

   الحياة في مجملها العام, تشبه لجان الإمتحان, فالكل حينذاك مشغول بإنتظار نتيجة الإختبار, فإما رسوب, وإما نجاح بإذن الله.

   و.. تظل تدور الأيام, ويمضي بنا الزمان, حتى تحين ساعة الحساب, فالكل يبقى يترقب, ينتظر, نتيجة الاختبار.. دون اختيار!

   .. هذه المشاعر, وتلك الأحاسيس ليست من اختراع البشر, بل هى من عند الله, ذلك ما أشار الله إليه في قرآنه العظيم, وما صوره عن هذه الأهوال, التي سوف تصيب الإنسان يوم القيامة, يوم تقشعر الأبدان, ويشيب الولدان, وتنخلع الأفئدة, إنه ذلك اليوم الذي (نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله).

    هذا ما سيحدث إن شاء الله بعد النفخة الثانية, بعد إنفجار الكون كله, ذلك      ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار﴾ [إبراهيم :48].

   عندئذ.. سوف ننظر إلى الجنة التى أزلفت, وإلى النار التي سعرت, والويل كل الويل لمن يسقط حين الحساب, ولا يتمكن من عبور الصراط.. اللهم إجعلنا من عبادك الصالحين.

   إليكم دعاء خاتمة الفرج, ذلك الدعاء الذي تعجبت منه الملائكة, ذاك الذي أتى به جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فبينما هو عنده إذ أقبل أبو ذر الغفارى رضي الله عنه فنظر إليه جبريل, فقال صلى الله عليه وسلم: يا أمين الله؟ أتعرفون اسم أبي ذر؟ فقال: نعم, والذي بعثك بالحق إن أبا ذر أعرف في السماء منه في الأرض, وأن ذلك بدعاء يدعو به في كل يوم مرتين وتعجبت الملائكة منه, فإدع به, واسأله عن دعائه.

   فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر دعاء تدعو به في كل يوم مرتين؟ فقال: نعم فداك أبى وأمي ما سمعته من بشر, إنما هي عشرة أحرف ألهمنى إياها ربي وأنا أدعو به كل يوم مرتين, استقبل القبلة, فأسبح الله ملياً, وأحمده ملياً, وأكبره ملياً, ثم أدعو بتلك الكلمات العشر:

 

 

 

 

 

  • اللهم إني أسألك إيمان دائماً.
  • وأسألك قلباً خاشعاً.
  • وأسألك علماً نافعاً.
  • وأسألك يقيناً صادقاً.
  • وأسألك ديناً قيماً.
  • وأسألك العافية من كل بلية.
  • وأسألك تمام العافية.
  • وأسألك دوام العافية.
  • وأسألك الغنى عن الناس.

   قال جبريل عليه السلام: يامحمد والذي بعثك بالحق لا يدعو أحد من أمتك بهذا الدعاء إلا غفرت ذنوبه, وإن كانت أكثر من زبد البحر أو عدد تراب الأرض, ولا يلقى الله أحد من أمتك وفي قلبه هذا الدعاء إلا اشتاقت إليه الجنة, واستغفر له المكان, وفتحت له أبواب الجنة فنادته الملائكة: (ياولي الله أدخل من أي باب شئت)(1).

 

كلمات من نور

 

   ﴿رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ [النمل: 19].

 

*     *      *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذا الزمان الردئ .. برئ برئ!!

   أحياناً.. قد يجلس الإنسان يفكر فيما يقع حوله من أحداث, تنقلها له شتى وسائل الإعلام! فينظر ما يصيب الناس من إرهاب وأهوال وهو تعس حزين لا يدرى متى ولا كيف ينقضي ذلك العذاب والهوان!

   حينئذ, لا يملك سوى التضرع إلى الله سبحانه وتعالي كى يرفع هذا الإبتلاء عن عباده التعساء. لكن, قد نجد بعض الناس, أولئك الذين يضيثون ذرعاً بأمر هذه الدنيا يلعنون الأيام, وما تأتي به من أسي آلام..! إنهم يكونون جاهلين بحكمة الله, غافلين عن قدرته في عباده, وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه في الحديث القدسي عن الله عز وجل: يؤذينى ابن أدم يسب الدهر, وأنا الدهر, بيدي أقلب الليل والنهار”(1) وهذا يعنى أن الزمن برئ مما نتهمه به, وأن الأمر كله, أوله وآخره, بيد الله رب الزمان والمكان ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾ [الأنبياء:35]

   ففي الواقع, هذا الأمر, أى واقع الدنيا, وحاضر الأيام, وما فيه من محن وآلام, يدخل ضمن حكمة الله تلك التى يدركها العارفون بالله فيزدادون إيماناً, وبلقائه يقيناً      ﴿يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون﴾ [الرعد:2] وهذا ما يوضحه العلامة المناوى رحمة الله بقوله: “ومن ظن أن شدة البلاء هو أن العبد قد ذهب لبه وعمى قلبه فقد إبتلي من الأكابر ما لا يحصي ألا ترى إلى ذبح نبى الله يحيي بن زكريا وقتل الخلفاء الثلاثة والحسين وابن الزبير وابن جبير, وغير ذلك كثير كثير..”.

  إذا وقع البلاء بالعباد ليس علامة غضب الله عليهم وإنما هو إبتلاء يعد بمثابة نعمة من الله عليهم ليتم لهم الخير, ويضاعف لهم الأجر, ويظهر صبرهم ورضاهم.

   ونحن إذ نعترف بأن العمر قصير وبأن الحاضر سوف يصبح ماض, علينا أن ندرك قيمة التفكير العاقل الذي يعيى ما يدور في رحاب كون الله الواسع, فالنفس إذا اتسعت اتسع لها الكون, وانفرج لها المكلوت, وإذا ضاقت ضاق عليها كل شئ, لذا على الإنسان أن يتعلم مما يأتى به الزمان, وما تصنعه الليالي والأيام..

والليالي من الزمان حبالي               مثقلات يلدن كل عجيب

   .. هذا العجيب الغريب قد يتبدي لنا على هيئة كوارث ونكبات, قد تصل إلى حد القتل والتعذيب. وهنا وقد نتسأل..

ـــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البيهقي في السنن الكبري جـ3 ص365

 

   لماذا يحدث كل هذا العذاب والإبتلاء لبعض الضحاية الضعفاء الذين يعجزون عن  حماية أنفسهم ورد الظلم عنهم؟! هذا هو ما فسرها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمتي هذه ليس لها عذاب في الآخرة, وإنما عذابها في الدنيا الفتن”(1).

 

كلمات من نور

 

  ﴿إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين أمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين﴾ [النساء: 140-142].

 

*     *     *  

 

.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث: في سنن أبي داود جـ4 ص468 حديث رقم 4278 في كتاب الفتن والملاحم طبع دار الحديث حمص سوريا.

 

..فأخبرهم ما الذي أبكاهم؟!

   ذات الليلة من الليالي, وبينما كان محمد بن المنكدر قائماً يصلى وهو يبكي, كشر بكاؤه حتى فزع أهله, وسألوه ما الذي أبكاك؟ فلم يجبهم وتمادي في البكاء, فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره, فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى..!

   فقال: يا أخي ما لدى أبكاك قد رعبت أهلك أفمن علة؟! أم ما بك؟!

   قال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل.

   قال: وما هي؟

   قال: ﴿وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون﴾ [الزمر:47].

   وهنا.. بكى أبو حازم أيضاً, وأشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرج عنه! فأخبرهم ما الذي أبكاهما.

   نعم.. إن خشوع المسلم عند صلانه يجعله يخشى الله, بل إن المؤمن يخشي الله في كل لحظة من لحظات حياته, فيذكره كثيراً, ويحمده كثيراً, ويصلى على النبي كثيراً, لأنه قطعاً يعرف أن هذه الصلاة قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً” (1).

   وهذه الصلاة العظيمة من داوم عليها فرج الله عنه همه, وكشف ضره, إليكم تلك الكلمات العامرة بالنور والضياء:

   “اللهم صلى صلاة كاملة وسلم تسليماً تاماً على سيدنا محمد الذي تحل به العقد, وتنفرج به الكرب, وتقضى به الحوائج, وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم, ويستسقى الغمام بوجهه الكريم, وعلى آله وصحبه في كل لمحة ونفس بعدد كل معلوم لك”.

   سأل أحد العارفين رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يارسول الله أأجعل ثلث صلاتى عليك, قال: (ما شئت وإن زدت فهو خير لك). فقال: أأجعل لك صلاتى كلها, قال: (إذن يكفى همك ويغفر لك ذنبك)(2).

 

ــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه القرطبي في تفسير الآية (56 من سورة الأحزاب) جـ13 ص235 طبع بيروت.
  • الحديث أخرجه ابن كثير في تفسيره تفسير سورة الأحزاب تفسير الآية 56 جـ3 ص510 ولم يسنده لأحد طبع دار الفكر.

 

   صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالصلاة على حبيب الله هى من أنجح الأعمال التي يحظى بها الإنسان. فما بالك إذا أوتي هذا الفضل في ذلك الوقت المميز من الزمان؟! في تلك الشهور الحرم المفضلة عند الله سبحانه وتعالي, وعلى رأسها شهر رمضان المعظم أعاده الله علينا وعليكم باليمن والبركات, والحمد لله حمداً كثيراً على ما أنعم به علينا خيرات ورحمات.

  قال رجل كان يصلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم: “ربنا لك الحمد, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, وذلك بعد أن فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده.

   فلما انصرف الناس من صلاتهم, سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من المتكلم آنفاً؟” فقال الرجل: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً”(1).

   حقاً.. يا لها من رحمة, ويا لها من نعمة, فإذا كان هذا هو ثواب كلمات قالها رجل عادى.. فما بال كلمات قالها نبى مرسل؟!

   إليكم بعض من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم, علناً ندعو به آناء الليل وأطراف النهار,”اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً, ولا يغفر الذنوب إلا أنت فأغفر لي مغفرة من عندك, وأرحمنى إنك أنت الغفور الرحيم”(2).

 

كلمات من نور

 

﴿قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً ﴾ [الإسراء :110].

 

*     *    *

 

 

ـــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه حبيب بن ربيعة في مسنده جـ1 ص48.
  • الحديث أخرجه الإمام جـ1 ص211 جـ8, ص89, جـ9 ص144, الإمام مسلم ص2078وإبن ماجه حديث 3835.

   حقاً.. إن المؤمن لا يزداد بطول عمره إلا خيراً. وفي الترمذى إن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أى الناس خير؟!

   قال: “من طال عمره وحسن عمله” قيل فأى الناس شر؟ قال: “من طال عمره وساء عمله”.

   قال ميمون بن مهران: لا خير في الحياة إلا لتائب, أو رجل يعمل في الدرجات, أي يجتهد في علو الدرجات, ومن عداهما فهو خاسر, كما أقسم سبحانه وتعالى في سورة العصر إن كل إنسان خاسر, إلا من اتصف بهذه الأوصاف الأربعة: الإيمان, والعمل الصالح, والتواصى بالحق, والتواصى بالصبر على الحق.

   فهذه السورة ميزان للأعمال يزن المؤمن بها نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه, ولهذا قال الشافعى رضى الله عنه: لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم.

 

كلمات من نور

 

﴿والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾ [العصر 1: 3].

 

*     *     *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فلنجعله هماً واحداً.. فقط لا غير!

   الحياة هى الحياة. والزمن هو الزمن. والناس هى الناس. والظروف هى الظروف. لكن.. المواقف ليست هى المواقف! هنا “ردة فعل” نفسها. فلو أخذنا في الإعتبار هذا القول العلمى : (لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الإتجاه) لعرفنا أن لكل فعل, أى لكل موقف في هذه الحياة الدنيا “ردة فعل” تستحق أن نتمعن فيها, وأن نتدبر أثارها, حتى نصل في النهاية إلى ردود الأفعال المعقولة والمقبولة.. دون مبالغة, دون تضخيم, ودون إنفعال وإفتعال.

  مثال: إذا رأينا رجلاً قوياً, ناضجاً, مرموقاً, يركض بكل قوته فاراً من مجرم يطاره ليسلبه حافظة نقوده, أو ليطرحه أرضاً فيضربه أو يقتله, سوف نقول إذن: إن “ردة الفعل” هنا مقبولة, ومنطقية, بل ومطلوبة.

   أما إذا رأينا هذا الشخص نفسه, يركض بكل قوته هارباً من طفل صغير يلاحقه طلباً لصدقة أو قطعة حلوى, سوف نقول: إن هذا التصرف أحمق وخاطئ, ولا بد أن يكون هذا الرجل القوى الناضج المرموق, رجلاً غير سوى, بل ربما نصل إلى حد التشكك في صحة قواه العقلية, تماماً كذلك الذى نراه يهرب من هجوم أسد فنتقبل هروبه , أما إذا كان يفر من بعوضة تلاحقه وتحوم حول أذنيه, حينئذ فنستنكر هروبه!

   وما بين ردة الفعل المقبولة هذه وتلك الآخرى المرفوضة, تغالنا الظروف, تصارعاً الأحداث, حتى تلاحظ أن ذلك الشخص السعيد مع نفسه والناس والحياة, هو ذاته ذلك الشخص الكيس الذي يعرف كيف يريح نفسه, وكيف يتلاءم معها, ومع الناس, ومع الظروف, ومع الحياة, وذلك ببث أحاسيس السكينة في القلب, ومشاعر الطمأنينة في النفس, وانتزاع عواطف الأنانية والطمع من العقل, فيصفو حينئذ الوجدان, ويرتاح آنذاك البال.

   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبته الهموم لم يبال الله فى آى أودية الدنيا هلك” (1). وهكذا.. نري تعاليم ديننا الحنيف تدعونا بوضوح أن نستعين بالله سبحانه وتعالى فى كل أعمالنا, وأن نفوض إليه كل أمورنا وأن لا نسأل غيره, وأن لا نتوكل إلا عليه, فمن التجأ دوماً إلى الله واستخاره في أمره, جاءت خيرة الله خيراً من خيرة العبد لنفسه. وبذلك نتخلص من كم كبير من الهم والغم والحزن.

ـــــــــــــــــــــ

  • الحديث في الدار النشور للسيوطى جـ2 ص59, جـ6 ص5 وكشف الخفا جـ2 ص217.

 

 

 

   فكم من ظروف ومواقف يتعرض لها المرء طوال حياته, وكم من أحداث وأمور يصاب بها الإنسان وهو لايدرى خيراً أم شراً, لو دقق في الأمر لعلم أن الله يخبر عباده, ليعرف عباده الصادقين معه.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان”(1).. والإنسان الحكيم العاقل هو الذى يعرف كيف يغلق عمل الشيطان وكيف يتحاشى (ردة الفعل) العنيفة المدمرة تلك التى يندم عليها فيما بعد أشد الندم, حين يتمنى لو أنه قد تحكم فى نفسه, ولم يفعل ما فعل, ولم يقل ما قال!!

   فقط, لو أن هذا الشخص كان قد أيقن بقيمة اختيار الله له, حينئذ سيعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وأن أخطأه لم يكن ليصيبه, لتقبل عندئذ حياته وقنع بأحداثها مهما كانت, دون ضجر أو تبرم, ولسعد كل السعادة بما قسمه الله له, ولرضى كل الرضا بما رزقه الله إياه.. حمداً لله.

   .. بهذه الطريقة من التفكير, نستطيع أن نأخذ الحياة بأسلوب ألطف وأسهل, كما نستطيع أن نتعامل مع مفرداتها بطريقة أسهل وأجمل, فنمضي قدماً مع الأيام ونحن مزودون بالإيمان المتين, ذاك الذي يجعلنا نتجه إلى الله دوماً بدعاء رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: “اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك, ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك, ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا, وأجعله الوارث منا, وأجعل ثأرنا على من ظلمنا, وأنصرنا على من عادانا, ولا تجعل مصيبتنا في ديننا, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولاتسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا”.(1)

 

كلمات من نور

﴿الذين أمنوا وتطمئن قلبوهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمشن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب﴾ [الرعد: 28, 29].

 

*     *     *

ـــــــــــــــــ

  • الحديث في سنن ابن ماجه جـ1 ص31 حديث رقم 9 طبع مصر تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

 

..عودة العبد العاصي

   غلبة الهوى, ولحظة الضعف, تلك اللحظة التى تعترى الإنسان أحياناً, فتجعله ينجرف إلى إرتكاب ما نهى الله عنه, فينحرف عن الحدود, ويستهين بالعهود, ويمضى نحو غيره مستسلماً لغوايته, هذه اللحظة قد لا تستمر طويلاً مع بعض الناس, وقد تستمر مع البعض الآخر!

   .. فقد يتعرض البعض منا لغلبة الهوى, ولحظة الضعف هذه, لكنه ما يلبث أن يرجع إلى نفسه نادماً, ويعود إلى ربه تائباً, راجياً أن يتقبل اعتذاره وأسفه عما بدر منه, ولسان حاله يقول: اللهم لابراءة لى من ذنب فأعتذر, ولا قوة لى فأنتصر, ولكنى مذنب مستغفر, اللهم لا عذر لى, وغنما هو محض حقك, ومحض جنايتى, فإن عفوت وإلا فالحق لك.

   ..هذا الكلام الملئ بمعاني التذلل والاستعطاف, مع الإعتراف بالعجز, والإقرار بالعبودية, وإعلان الإعتذار هو من تمام التوبة, فالله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يعتذر ويتنصل من ذنوبه إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أعتذر لله عذره” ومن ثم تاب عليه(1), فالله هو الذي يقبل التوبة, وذلك بأن يوجدها في قلوب عباده المتقين التائبين ﴿.. ثم تاب عليهم ليتوبوا﴾ [التوبة: 118] فالله جل جلاله إذا لم يتب على العبد العاصى لم تعرف التوبة طريقها إلى قلبه أبداً, لأنها نعمة وفضل من الخالق البارئ, وقبولها تفضلاً منه وإحساناً, ذلك حين ينشرح الصدر للتقوى, ويضئ القلب بنور الإيمان والإسلام..

   .. فالإيمان منه, والإسلام نعمة. أما إن الإيمان منة فلقول ربنا سبحانه وتعالى:    ﴿بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين﴾ [الحجرات:117].

   وإما أن الإسلام نعمة فلقول رسولنا الكريم: “الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة”.

   عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:       (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.. ثم قال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن ربكم يقول هل جزاء من أحسنت إليه بأن هديته للتوحيد إلا أن أسكنه دارى في جوارى؟ وهل جزاء من قربته بالمعرفة قلباً حتى يعرفنى إلا أن أقربه في السكن نفساً حتى ينظر إلى.

ـــــــــــــــــــــــــــ

  • ­الحديث أخرجه الهيثمى في مجمع الزوائد جـ10 ص 298.

 

   وهل جزاء من أكرمته بمعرفتى إلا أن أغفر له ذنوبه وأتجاوز عن سيئاته, وأصفح عنه تكرماً كما تكرمت وجدت عليه بتوحيدى؟

   هل جزاء من ابتدأته بهذه النعم العظيمة فمننت عليه بها إلا أن أحفظها عليه حتى أتمم له بها, واتمم عليه, وله كرامتى(1)؟

   حمداً وشكراً لله العلى الوهاب, الذى أحيانا ثم أماتنا وإليه المصير, والذي نطمع في غفرانه ورضاه, علنا ننجو برحمته من عقابه, ونفوز برحمته بالجنة خالدين فيها أبداً بإذن الله, إليه نتوجه بهذا الدعاء:

   إلهى يا تواب يا رحيم يارب يا كريم انقطع الرجاء إلا منك وأغلقت الأبواب إلا بابك فلا تكلنى إلى أحد سواك فى أمور دينى ودنياى وانقلنى إلى عز طاعتك ونور قلبى بنور اليقين بك.

   اللهم فأغفر لنا ذنوبنا وأغفر للمؤمنين والمؤمنات إنك سميع مجيب الدعوات ياسابغ النعم والرحمات.

 

كلمات من نور

 

      ﴿غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إله إلا هو إليه المصير﴾ [غافر:3].

 

*      *     *

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أنظر القرطبى جـ 17 ص182, 183 طبع بيروت في تفسير قول تعالى ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ [الرحمن: 6] ذكر لقد أحاديث بألفاظ مقاربة للحديث الذى معنا وبعضها مختصراًَ.

 

هذه الدرجة من الحب..!

   كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكة حين استيقظ على صوت الرفيق الأعلى فى غار حراء.. وكانت حياته حافلة بحسن الخلق إلى أن استجابت لله سبحانه وتعالى.

   كان صلى الله عليه وسلم واضح الهدف, متعدد الوسيلة, راجح العقل, حسن السياسة, وكان ذا نفس سمحة تحب الخير, وتميل إلى العفو, كما كان قنوعاً زاهداً, صبوراً.. راضياً.

   روى عن ابن على الجعدى قال ما عاب النبى صلى الله عليه وسلم طعاماً قط, إن (1) استهاه أكله وإلا تركه, وعن عائشة رضى الله عنها قالت: إنا كنا آل محمد نمكث شهراً ما نستوقد ناراً إن هو إلا الماء والتمر! وعنها أنها قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفيه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها(2).

   قال ابن مسعود: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على حصير وقد أثر في جنبه: فقلت : يارسول الله لو اتخذنا لك وطاء نجعله بينك وبين الحصير يقيك منه. قال: ما لى وللدنيا؟ ما أنا الاكراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها(3).

   وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير, كريماً منتهى الكرم.. قال جابر: ما سئل عليه الصلاة والسلام عن شئ فقال لا.. وكان أجود ما يكون في رمضان(4), عن أنس: أن رجلاً سأله فاعطاه غنماً بين جبلين, فرجع الرجل إلى بلده, وقال: اسلموا.. فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطى عطاء من لا يخشى فاقة(5).

   وذات مرة جاءه رجل فسأله فقال ما عندي شئ, ولكن ابتع على فإذا جاءنا شئ قضيناه. فقال له عمر رضى الله عنه: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه. فكرة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال رجل من الأنصار: يا رسول.. أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالاً, فتبسم صلى الله عليه وسلم وعرف البشر فى وجهه, وقال: بهذا أمرت.

ــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث اخرجه أبو داود في سنناً جـ4 ص137 حديث 3763.
  • والحديث في كتاب التمهيد لابن عبد البر جـ1 ص 259.
  • الحديث في كتاب اتحاف السادة المتقين شرح علوم الدين الزبيدي جـ8 ص109 وأخرجه الدارمى في سننه جـ2 ص54 وابن حبان في صحيحه حيث 2526.
  • الحديث أخرجه الإمام البخاري جـ3 ص33 (كتاب الصوم) – طبع الشعب.
  • الحديث أورده الإمام مسلم في صحيحه مطولاً.

 

     وهكذا, كان أهم ما يشغل قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يحظى دوماً برضاء ربه عليه, فقد كان حبه لله سبحانه وتعالي حباً من النوع الذي يصعب وصفه أو فهمه, كان حباً صافياً خالصاً, حباً وأصلاً إلى درجة الإسلام التام والرضا الكامل.

    وكانت هذه الدرجة من الحب.. هي أكثر ما يقلقه, فقد قال يوم خرج من الطائف مطروداً مجروحاً: إن لم يك بك غضب على فلا أبالى.

   أما عن شفقته ورحمته التى أعلنه القرآن بها: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين﴾ ..فقد روى أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً فأعطاه. ثم قال: أحسنت إليك يا أعرابي؟ قال: لا, ولا أجملت. فغضب المسلمون وقاموا إليه, فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكفوا..

   .. ثم قام صلى الله عليه وسلم ودخل داره, وأرسل إلى الإعرابي وزاده شيئاً ثم قال: أحسنت إليك؟ قال: فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً, فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنك قلت ما قلت وفى نفس أصحابي من ذلك شئ, فإن أحببت, فقل بين أيديهم ما قلت بين يدى حتى يذهب ما في صدورهم عليك”.

   فلما كان العشى, جاء الإعرابى, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم. إن هذا الإعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضى, أكذلك؟ فقا الإعرابي: نعم, فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.

    وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لايبلغنى أحد منكم عن أصحابي شيئاً. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر”(1).

   نعم.. عز وصدق من قال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).. صدق الله العظيم.

كلمات من نور

 

    ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم﴾ [التوبة : 128].

 

*    *    *

 

ــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البيهقى في السنن الكبرى جـ8 ص166, 167 واتحاف السادة المتقيين شرح علوم الدين للزبيدى جـ7 ص137.

ثلاثة.. لا يعرفون إلا عند ثلاثة!!

   ذات يوم.. حدث أن شتم رجل أباً بكر الصديق- رضى الله عنه – وهو ساكت, فلما ابتدأ ينتصر منه, أى يرد عليه, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لأن الملك كان يجيب عنك, فلما تكلمت ذهب الملك وجاء الشيطان, فلم أكن أجلس في محل فيه شيطان”(1).

    وذات يوم آخر.. غضب عمر على رجل وأمر بضربه. فقال أوس بن الحدثان: يا أمير المؤمنين خذ العفو وامر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين.

   وكان عمر- رضى الله عنه – يتأمل في الآية, إذ كان وقافاً عند كتاب الله مما تلى عليه, كثير التدبر فيه, ثم قرأ قول الله تعالى: (والكاظمين الغيظ) فخلى الرجل, عملاً بقوله تعالى: ﴿والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾ [الشورى : 37].

   نعم.. إنها الخشية من الله, والخوف من غضب الله, وهذه هى واحدة من أنجح الوسائل لعلاج الغضب.. أن يخوف الغاضب نفسه بعقاب الله, وأن يقول لنفسه: قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان, فلو امضيت غضبى عليه لم آمن أن يمضى الله غضبه على يوم القيامة.. يوم أحوج ما أكون فيه إلى العفو.. والرحمة.. والمغفرة.

   عن عبد الله بن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينقذنى من غضب الله قال: (لاتغضب)(2) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما غضب أحد إلا أشرف على نار جهنم)(3) وقال له رجل: أى شئ أشد على؟ قال: غضب الله قال: فما يمنعنى من غضب الله قال: (لا تغضب).

   فالشيطان يشعل نار الغضب.. والغضب في الواقع يكشف عن معدن الغاضب ويفضح حقيقة أخلاقه, لدرجة أن بعض الناس يسألون: هل تعرف فلاناً فإذا قيل: نعم, يعيدون السؤال رغبة في التأكد: وهل أغضبته؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث اخرجه أبو داود في سننه عن سعد بن المسبب بلفظ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه وقع رجل بأبي بكر فأذاه فصمت عنه أبو بكر, ثم أذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر فأذاه الثالثة فأنتصر أبو بكر رضى الله عنه لنفسه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وجدت علي يا رسول الله قال: لا ولكن نزل من السماء يكذب بمنال فلما انتصرت ذهب الملك وقعد الشيطان ولم أكن لاجلس إذ قعد الشيطان.
  • الحديث في مسند الإمام أحمد جـ2 / 175, 362, 366 ,3/484, جـ345, 370, 372,373, مجمع الزوائد 8/69, 70, 10/209.
  • الحديث في اتحاف السادة المتقين بشرح علوم الدين للزبيدي جـ8 ص6.

.. لماذا؟!

 

 

   لأن الغضب يسلب الإنسان السيطرة على نفسه, فينفضح حينئذ ما بداخله, ويظهر على حقيقته, فيتبدى آنذاك خلقه الردئ.. ذاك الذي كان يحاول قدر الإمكان أن يخفيه عن عن الآخرين, بارتداء قناع زائف من الدماثة, والذوق, وحسن الخلق!!

   لهذا.. قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, كى نتبين معدن الشخص عند التعامل معه, وذلك لنوفر على أنفسنا مواقف عصيبة نحن في غنى عنها.. قال صلوات الله عليه: “ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشئ من عمله: تقوى تحجزه عن معاصى الله عز وجل, وحلم يكف به السفيه, وخلق يعيض به في الناس”(1).

   وقال لقمان: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة, لا يعرف الحليم إلا عند الغضب, ولا الشجاع إلا عند الحرب, ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه.

   ..ونحن نستطيع أن نكافح الغضب بهذه الأفعال الثلاثة: الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم, الوضوء أو الجلوس أو الإضطجاع, فالحركة تولد الحرارة, والحرارة من الشيطان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا عند المقدرة”(2).

كلمات من نور

 

﴿ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم﴾ [التوبة:15].

 

*     *    *

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث في اتحاف السادة التقيين شرح علوم الدين للزبيد جـ7 ص322 عن أنس بلفظ ثلاث خلال… الحديث.
  • الحديث فى اتحاف السادة المتقيين بشرح علوم الدين للزبيد جـ8 ص24, 25.

 

.. لماذا صار الناس غير الناس؟!

   أظن إننا مازلنا نحلم في هذه الأيام بحياة سهلة بسيطة حياة وادعة خالية من التعقيدات التى تعنى منها سواء كانت في البيت, أو العمل, وأظن أن معظمنا يحدث نفسه متحسراً: آه.. أين أيام زمان؟!

   أين راحة القلب وراحة البال” أيضاً, أظن أن معظمنا مازال يقول في آسي: الدنيا تغيرت.. والناس صاروا سيئين.. صاروا مختلفين عن ناس زمان! أولئك الناس الطيبون الذين كانوا يعيشون على الفطرة, ويتعاملون بعفوية مع بعضهم البعض, يتعاملون بثقة, وأمان, وحب, وإطمئنان.

   ترى.. ما السبب غير الدنيا إلى هذا الحد؟! وما السر الذي جعل الناس.. غير الناس؟!

   طبعاً.. أحوال الدنيا التى تغيرت بسبب المشاكل الإقتصادية, والأوضاع السياسية, والإجتماعية, وهى ليست موضوعنا الذي يشغلنا الآن, لأنه موضوع آخر يطول شرحه, موضوع يحتاج قاعات درس ومحاضرات, لذا, سأتكلم فقط عن أحوال الناس الذين تغيروا حتى أصبحوا ناساً غير الناس!

   ..هذه على ما أعتقد مشكلة عالمنا المعاصر الذي غرق فى الماديات, والذي غابت عنه عادات جميلة موروثة, كان أباؤنا, وقبلهم أجدادنا يتعاملون بها فيما بينهم, وقبل ذلك كله.. كانوا يتعاملون بها مع أنفسهم..!

    هذه المشكلة المعاصرة التي نعيشها ونشعر بها في كل كبيرة وصغيرة من حياتنا, بدءاً بسوء الظن وانعدام الثقة, وانتهاء بغياب الضمير, والأنانية وحب الذات, كل هذا وغيره كثير كثيرسببه الأول والآخير عدم ذكر الله. نعم, عدم ذكر الله. فباجتناب ذكر الله نسي الناس حق الله عليهم من طاعة وخشية, نسوا أن يتمسكوا بشرعه ويؤمنوا برسله, فقست قلوبهم, وبالتالي, اعتدوا على إخوانهم, وعلى أنفسهم, بل وعى الحياة كلها..!

 

 

 

 

 

 

   وهكذا انطمست معالم الفطرة لديهم بعد أن حرموا الهداية وشرح الصدر, وأظن أننا نعرف ذلك المثل القديم (من ضاق صدره اتسع لسانه) ونحن حتماً نعرف أن ضيق الصدر وانقباضه يؤدى إلى سوء التصرف, وسوء التعامل مع الآخرين, كما يؤدى إلى التطاول بالقول, وربما بالفعل. الأمر الذي يزيد الشراسة والعنف فتتحلق عواطف الكره والبغض, والحسد والحقد, فتزداد مع الوقت الفجوة بين الناس عمقاً واتساعاً, وتنهار مع الوقت العلاقات الإجتماعية داخل الأسرة, وداخل المجتمع بعد أن تختفى معاني التآخى والتراحم, والعدل والمساواة, فأصبح بالتالى الكل يشكو من الكل !! والكل يعانى من الإحساس بالظلم.

   لماذا ؟! لأن الناس نسوا تعاليم الله, بل إن بعضهم للأسف الشديد ﴿نسوا الله فأنساهم أنفسهم﴾ [الحشر:19] لذا, نراهم دوماً في هم وغم, وضيق وسب وذم, بسبب ذلك الصراع الخفى الدائر فى أعماق نفوسهم, الذي ينقلونه بدورهم إلى غيرهم. فالخوف عدوي, كذلك الاضطراب والتوتر والقلق, وبالطبع الاكتئاب معد جداً لدرجة أنه قد يصيبك حتى دون أن تشعر, بمجرد مخالطتك القصيرة لشخص مكتئب والعياذ بالله.

   لذا, حذر الشرع من استفحال هذا الداء, بأن نهي عن الغفلة عن ذكر الله, وحثنا على التعامل السليم مع الذات والناس والحياة وذلك بالحرص على ذكر الله ﴿وأذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين﴾ [الأعراف:205] وبديهى أن هذا الذكر الدائم لله سوف يؤدى حتماً إلى حسن الإستمتاع بالحياة نفسها, تلك الحياة التى تحتاج السعى والعمل السليم الذي يكلله أولاً وأخراً توفيق الله والاستمداد من فضله, عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: عن الله, عز وجل: “من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته ما أعطى السائلين”(1).

كلمات من نور

   ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾ [الأحزاب:21].

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث فى فتح البارى بصحيح البخارى جـ11 ص147 واتحاف المتقين بشرح علوم الدين للزبيدى جـ4 ص375, ص7.

 

لا.. ليست أساطير الأولين!

   زين الله الأرض بالأنبياء وبخاتم الأنبياء محمد صلوات الله عليه وذريته وصحبه رضى الله عنهم أجمعين. جعله الله شفيعاً لأمة المسلمين يوم الدين آمين يارب العاملين. هذا وقد قص الله على سيدنا محمد صلوات الله عليه أخبار الأنبياء السابقين, وكذلك أخبار الأمم الخالية, فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك﴾ [هود:120].

   ..لذلك الأمر الإلهى حكمة تحوى في مضمونها عدة أمور تتضح في هذا المعنى الذي يتعلق بإظهار نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ويكون في الوقت نفسه دليلاً ملموساً على نبوته, حيث إنه كان صلوات الله عليه أمياً, لا يقرأ ولا يكتب. كما أنه لم يتعلم العلم على يد معلم, إلى جانب أنه لايغادر وطنه وقتاً كافياً يمكنه من الإلتقاء بعالم يأخذ عنه تلك القصص والأخبار, هذا بالإضافة إلى أنه لم يعرف عنه في يوم من الأيام أنه كان من طلبة العلم..!

   كان هذا هو حال النبي الأمى, البعيد تماماً عن مجال تلقى العلم – أي نوع من أنواع العلوم- إلى أن نزل عليه جبريل عليه السلام وأخذ يلقنه آيات القرآن الكريم التى بدأ الرسول الكريم بعدها يحدث الناس بسير الأنبياء السابقين, وأخبار القرون الماضية, بل والملوك المتقدمين!

   وحين عرف الرسول صلى الله عليه وسلم تلك القصص عن الأمم السابقة, اندهش لذلك قومه الذين “قالوا أساطير الأولين فهى تملى عليه” فنراهم قد استنكروا بالفعل ما حفل به القرآن الكريم من تلك القصص التى أظهرت علو مكانة أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند الله تبارك وتعالى..

   كما أظهرت إرتفاع قدر الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه, فهو صلوات الله عليه لما نظر إلى أخبار الأمم قبله علم أنه قد عوفى هو وأمته من كثير من المواقف الصعبة التى امتحن الله بها الأنبياء السابقين, فقد خفف الله عنهم في الشرائع حسب ما جاء في قوله تعالي: ﴿وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه﴾ [لقمان: 20] فالنعمة الظاهرة تخفيف الشرائع, والباطنة مضاعفة حسنات الصنائع. فقد قال تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ [البقرة: 185].

 

 

 

   وبعد أن أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام مضمون قصص الأنبياء السابقين, رأى فضل نفسه وفضل أمته, وعلم أن الله قد اختصه وأمته بكرامات لم يختص بها أحداً من الأنبياء والأمم, فواصل ليله بنهاره, وصيامه بقيامه, وظل لا يفتر عن عباده وشكر ربه حتى تورمت قدماه.. فقيل يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً. ثم قال عليه السلام مفتخراً: بعثت بالحنيفية السمحة(1).

   صدقاً..﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب﴾ [يوسف: 111] فهذا هو الهدف من سرد أخبارهم أن يتعظ السامعون بما ورد فيها من مواقف وآيات, دالة جميعها على وجود الله الواحد القهار. لكن, في الواقع, وكما حدث فقد اشتغل عامة الناس بذكر القصص في حين انشغل الخاصة منهم بالإعتبار مما جاء في القصص. وهذا ما ذكره الله سبحانه عنها, أنها فيها ﴿هدى وموعظة للمتقين﴾ [آل عمران: 138].

 

كلمات من نور

 

   ﴿وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين﴾ [هود: 120].

 

*     *     *  

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البخارى جـ2 ص63, جـ6 ص169, جـ8 ص124 طبع الشعب والإمام أحمد في مسنده جـ4 ص251, 255, جـ6 ص115.

 

 

فلنبحث عن شئ خطأ.. داخلنا!

   أعجبتني هذه الحكاية التى قرأتها من قبل, وهى: أنه جئ يوماً بإعرابي يدوى إلى السلطان وقد رفع كتاباً فيه قصته, فأخذ الأعرابي يردد: “هاؤم أقرأوا كتابيه”.

   فقيل له يقال هذا يوم القيامة.

   فقال الأعرابي: والله هذا شر من يوم القيامة.. إن يوم القيامة يؤتى فيه بحسناتى وسيئاتى وأنتم جئتم فقط بسيئاتى!!

   هذا الأعرابي الذي أخرج ما في قلبه مدافعاً عن نفسه في موقف الإتهام الذي تعرض له, يجعلنا ننظر بدورنا داخل نفوسنا, بحثاً عن شئ خطأ داخلنا.. شئ يدفع بعض الناس لمعاداة الآخرين, دونما سبب, فقط ربما, لأن الواقع هنا يقر بتميز أولئك (الآخرين) ويعترف بروعة إبداعهم في جانب معين من جوانب الحياة..!

   العجيب.. في هذا الموقف العجيب, إن هذا العداء الكامن لكل ذي نعمة, يظل طوال الوقت مستتراً, لكنه يكشف عن نفسه حين يعتقد أولئك البعض الناقمون أن لهم قيمة, أو أهمية, قد تفلح في صياغة حدث, أو صناعة مشكلة, لأولئك الناجحين الفالحين!

   هنا.. تتبدى أهمية الحكمة فى التعامل بذكاء وحنكة في مثل هذه المواقف المباغتة, والحكمة هنا تأتى بمعنى تطبيق الفلسفة العملية في الحياة, أى القدرة على فهم الموقف مع حسن التصرف فيه, وهى غالباً  ما تنجح بفضل تجارب الحياة, خاصة وأن أحداث الحياة لا تخضع لمنطق, ولا تتأثر بثقافة عالية, وإنما تخضع لتجارب تستخلص منها نتائج. فيا لها من تجارب..! ويا لها من نتائج!!

    ندعو الله أن يرزقنا الحكمة, وأن ينعم علينا بالحب, ذلك الذى يخلصنا من مشاعر الغيرة والبغض, فالحكيم يصيب دائماً, ويسعد دائماً, والمحب محبوب من الله والناس دائماً.. هذه النعم لا تتأتى إلا بالتقوى, وبالإيمان العميق بالله ورسوله.

   قال الشاعر:

   ولست أرى السعادة جمع مال                  ولكن التقى هو السعيد

   وتقرى الله خيــر ذخــر                   وعند الله للأتقى مزيـد

 

 

 

 

 

 

   عن أم أنس رضى الله عنها أنها قالت:

   يا رسول الله أوصنى قال: “أهجرى المعاصى, فإنها أفضل الهجرة, وحافظى على الفرائض فإنها أفضل الجهاد, وأكثرى من ذكر الله, فإنك لا تأتين الله بشئ أحب إليه من كثرة ذكره”(1).

   هذه الوصية ما هى إلا هدية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلنا على أسباب السعادة في الدنيا والآخرة, وفقنا الله لخير العاقبة وحفظنا وإياكم من السوء أجمعين, وأسبغ علينا واسع رحمته.. آمين يارب العالمين.

 

كلمات من نور

 

   ﴿والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾ [البقرة:105].

 

 

 *     *     *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث أخرجه الهيثمى في مجمع الزوائد جـ4 ص217, ص10 ص75.

 

 

.. ثم قطف رمانة ثالثة!

   في يوم من الأيام, حين طاب الزمان, واعتدل المناخ, خرج ملك من الملوك يتنزه ويتنعم بروعة الجو وجمال الهواء, فمر في طريقه ببستان رمان, فقطف واحدة فأكلها, فوجدها من أحلى ما يكون طعماً, فحدثته نفسه أن يستولى على هذا البستان الواسع, الشهى الثمار..!

   فقطف رمانة آخرى فأكلها, فوجدها مرة كالعلقم, فقال للبستانى مستفسراً:

   الرمانة الأولى حلوة والثانية مرة وهما من فرع واحد ومن شجرة واحدة.. لماذا؟

   فقال له البستاني:

  لعل مولاى دخل فى قلبه الظلم.

صمت الملك برهة وهو يتذكر ما حدثته به نفسه, وما كان من سوء نيته, فعدل عما كان ينوى أن يفعل, ونبذ من قلبه نية الإستيلاء على البستان, وعزم بينه وبين نفسه أن يكافئ هذا البستانى الصادق الصريح.

   .. ثم قطف رمانة ثالثة! وهنا.. وجدها أحلى من الأولى, فاندهش دهشة كبيرة وعاد يسأل البستانى عن سبب ذلك التفاوت في المذاق؟!

   يا مولاى.. حلاوة الثالثة.. هى حلاوة الطاعة والتوبة وحسن النية, ومرارة الثانية هى مرارة المعصية وسوء النية.

   وهنا.. فهم الملك حقيقة الأمر وانصرف مبتعداًَ تاركاً ذلك البستان لصاحبه, بعد أن أجزل العطاء لذلك البستانى المخلص الشديد الولاء.

   بعد هذه الحكاية البسيطة.. أعتقد أننا سوف نردد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”(1).

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــ

  • الحديث رواه عمر بن الخطاب وأخرجه أصحاب الكتب الستة بعضها مطولاً.

 

   ولهذا.. نستطيع أن نقول إن النية الطيبة هى أساس العمل الصالح وهى أبلغ من العمل, كما أن تخليص النية من فسادها يتطلب جهداً شديداً, لأن النية تتقلب وتتغير, والنية محلها القلب, وبالنية الطيبة الخيرة يضئ القلب بنور الله, ذلك القلب الذي يقول عنه الله تبارك وتعالى: “وما وسعتنى سمواتي ولا أرضى, ووسعنى قلب عبدى المؤمن”(1).

إن القلب الملئ بتقوى الله عز وجل لا يستطيع أن يعبث به الشيطان, لأن ﴿الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ [الإعراف:201].

   وهذه هى قوة القوة.. تلك التى تكمن في نقاء البصيرة, التى توجب ذلك النظر الذى يوجد وراءه التذكر, والذى توجد وراءه التقوى, التى وراءها الله سبحانه وتعالى.

   وهكذا.. نعد إلى لب الموضوع, وهو نقاء النية, وصفاء القلب الذي يبقى عامراً بذكر الله, ولا ينسى استغفار الله عما ارتكب من ذنوب وآثام.. قال إبليس:

   “وعزتك يارب لا أبرح أغوى بنى أدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.. فكان الجواب الالهي وعزتى وجلالي ما أزال أغفر لهم ما استغفرونى”(2) ﴿نبئ عبادى أنى أنا الغفور الرحيم﴾ [الحجر:49].

كلمات من نور

  ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فأستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾ [آل عمران :135].

 

*       *      *

 

 

 

 

 

(1) الحديث في اتحاف السادة المتقين جـ7 ص234, وكشف الخفا جـ2 ص283.

  • الحديث أخرجه القرطبى جـ3 ص27 طبع بيروت في تفسير قوله تعالى ﴿قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين﴾ [الحجر:39].

 

 

..حين تجئ لحظة الإحتياج!

   مازلت حتى أفكر في أهمية الحب في حياة الإنسان؟! عما يبحث الشخص لحظة الشعور بالاحتياج.. عن أحب الناس إليه؟! أولئك الناس الذين يعتقد أنهم يبادلونه حباً بحب؟! أعتقد أن أول من يخطر بباله, وأول من يستنجد بهم ليساعدونه على الخروج من المأزق الذي يتعرض له.. هم هؤلاء الناس الذين يحبهم ويحبونه.

   هذا غالباً ما يحدث في هذين الموقفين المتناقضين:

   الأول: أن يهب أولئك المحبون إلى نجدة المستغيث, غب\ير عابئين بما لديهم من مهام وأعمال فينطلقوا يسابقون الريح لسرعة الوصول إليك.

   الثانى: أن يفاجأ هذا الشخص الواقع في الأزمة بتخاذل بعض الناس الذين كان يظن أنهم يحبونه!! فيفاجأ بهم وقد تعاموا عن نجدته, وأصموا سمعهم عن صدى استغاثته, وتابعوا أعمالهم وكأن شيئاً لم يكن, بعد أن جعلوا آذانهم – على رأى المثل – “أذن من طين.. وأذن من عجين!!”.

   عندئذ.. يشق أعماق هذا السؤال: إلى هذا الحد كنت واهماً في تقديري لأولئك الناس؟!

   إلى هذا الحد كنت غافلاً عن إدراك ما حولى من مواقف وأحداث؟!

   مليون تساؤل.. مليون سؤال.. مليون جواب.. لا تكفى جميعها لتوضيح معادن هؤلاء الناس, الذين نتعامل معهم دون أن نعرف حقيقتهم! فالله وحده سبحانه هو الذى ﴿يعلم ما فى أنفسكم فأحذروه﴾ [البقرة : 235].

   أما الغريب والمفاجئ في الموضوع, هو وجود فئة ثالثة مستترة, لا يعلم ما في صدورها إلا الله وحده تبارك وتعالى, فئة تفجرت مشاعرها, وظهرت عواطفها أثناء الأزمة.. فتفجر منها ذاك الكم الزاخر من الحب, والقدر الوافر من العطاء!

   هؤلاء الناس هم الذين قال عنهم الفيلسوف أفلاطون: “حافظ على كل صديق أهدته إليك الشدائد, وإله عن كل صديق أهدته إليك النعمة”.

   صحيح.. وكما يضئ القمر الليل الحالك السواد, تضئ ظلمة الشدة قلوباً تشتعل خوفاً علينا, تفيض حباً لنا.. قلوباً لم نكن أبداً نتوقع أن تكون عامرة بكل هذا القدر من الخير.. والحب!

   هذا الحب المكنون.. ذاك الذي يكشف ويتبدى وقت الأزمة.. حين تجئ لحظة الاحتياج.. هذا الحب فيه, هو الذى يجعلنى الآن أتساءل؟!

   لماذا أودع الله عاطفة الحب في قلب الإنسان؟!

   الجواب: الحب امتحان.. امتحان قاس مرير يختبر به سلوك الإنسان, فهو يظهر نوعية المسلك الذي يسلكه.. هل سيسلك فى حبه مسلكاً شريفاً عالياً.. أم مسلكاً وضيعاً هابطاً؟!

   هذه التساؤلات تعرف نتيجتها غالباً بعد ان يجتاز الشخص المحب الإمتحان, إمتحان.. ربما يأتى في لحظة ضعف.. أو عند لحظة احتياج.. ويا له من إمتحان!

كلمات من نور

﴿وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ﴾ [الأحقاف:26].

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذلك الماء المالح

   قال الإمام أبو سلمان الدارانى: “ما تغرغرت عين بمائها إلا لم يرهق وجه صاحبها قتر ولاذلة يوم القيامة, فإن سالت دموعه أطفأ الله بأول قطرة منها بحاراً من النيران, ولو رجلاً بكى في أمه ما عذبت تلك الأمة”.

   ..إنه ذلك البكاء الناتج عن تعاقب البلاء, حين تشتد المحن, فلنلجأ إلى الله طالبين الرحمة والنجاة, فالله سبحانه وتعالى قال فى حديثه القدسي: “أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى” حقاً..

   وإذا تذللت الرقاب تواضعاً              منا إليك فعزها في ذلها

   وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى الله حين إزداد الخطر (يوم بدر) فعن على رضي الله عنه قال: “ما كان فينا يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم, إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلى ويبكى حتى أصبح”.

   وقال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية): بات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جذع شجرة شجرة هناك, وهو يكثر في سجوده ويقول: (ياحى ياقيوم) وظل يكرر ذلك وظل عليه السلام مع بقيام الليل والبكاء حتى الصباح والدعاء والاستغاثة بطلب النصر.

   وفي ذلك اليوم, أى (يوم بدر) قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه للنبى صلى الله عليه وسلم: ” يا رسول الله, قد ألححت على ربك كفاك بعض مناشدتك لربك”(1).

   وفى الأثر: الإلحاح عين العبودية “إن الله يحب الملحين في الدعاء” ذاك الدعاء الذي يحفل بالرجاء في الله تعالى, وحسن الظن به. اللذان يقبلان إذا اقترنا بالعمل الواجب, وصحبهما الإسراع في حق الله تعالى, والسهر على مرضاته.

   قال بكر بن عبد الله المزنى: “من مثلك يا ابن أدم؟ خلى بينك وبين المحراب تدخل منه إذا شئت وتناجى ربك. ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان إنما طيب المؤمنين: الماء المالح, هذه الدموع! فأين من يتطيبون به؟”.

   وهكذا.. كلما كانت القلوب رفيعة ندرية بذكر الله, كلما كانت العيون دامعة, يبكى أصحابها مما عرفوا من الحق, أو مما أجترحوا مع الخلق.. عن مكحول قال: “أرق الناس قلوباً أقلهم ذنوباً” إنهم هؤلاء القوم:

      الفائضون المخبتون لــربهم                 النــاطقــون بأصــدق الأقوال

      يحبون ليلهم بطاعة ربهــم                 تـــلاوة وتضـــرع وســؤال  

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث أخرجه القرطبي جـ7 ص370  طبع بيروت في تفسير الآية 10 من سورة الأنفال.. مطولاً. 

 

   ..خرج علي بن أبي طالب رضى الله عنه مع نوف البكالى ذات ليلة فنظر إلى النجوم فقال له:” يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قال: قلت بل رامق يا أمير المؤمنين, فقال: يانوف: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة, أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً, وترابها فراشاً, وماءها طيباً, والقرآن والدعاء دثاراً وشعاراً”.

كلمات من نور

﴿وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون﴾ [الشورى:25].

 

 

 *     *     *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تلك الأسس السبعة الأساسية!

   ..لا أدرى لماذا تراودنى – الآن – الرغبة في التحدث عن هذا الزمن العجيب الذى نعيشه! أيضاً, لا أدرى لماذا تخالجنى الرهبة عند التفكير فى أحداث هذا الواقع الغريب الذى نحيا! لكننى قطعاً أعرف ان الناس والزمان والمكان هم الذين يشكلون عناصر هذا الواقع الحاضر, الذى أتمناه من كل قلبى أن يصبح أقل قسوة, كى تنبثق عنه حياة.. أكثر حلاوة وظمأنينة.. فنحن حتماً نتنمى من الله حياه سعيدة أمنة.. حياة مليئة بالمشاعر الإنسانية الراقية.

   لذا, قد نتساءل عن السبب الذى يجعل الناس أكثر قسوة, والحياة أكثر صعوبة؟ كما قد نفكر أيضاً في ذلك السبب الذى يجعلنا نتوه في زمن ضاعت فيه المعانى, وغابت عنه القيم, تلك التى تصنع الأراء والأفكار وتثرى الوجدان, فيصبح الإنسان بالتالى أكثر مقدرة على الحب والعطاء, بعيداً عن مهاوى الطمع والجشع, والأنانية وعشق الذات!

   هذه التساؤلات أجابتها في معنى واحد فقط لاغير, هو الإيمان.. نعم, الإيمان المطلق بالله سبحانه وتعالى فهو السميع البصير, الحكيم. فالإيمان الصادق قادر على بث عاطفة الحب الصافى في قلب الإنسان, فيصبح الزمن حينئذ أقل مرارة, كما تصبح الحياة أكثر حلاوة, لأن الدنيا ستكون أكثر بهجة بعد أن يصير الناس أكثر شفقة ورحمة.

   لذلك, أحب أن أوضح اهمية هذا الجانب الوجدانى القادر على صياغة تصرفات الإنسان, ذاك الإنسان القادر على الحب, رغم ظروف الدنيا, وقسوة الأيام, وهنا.. يحلو لى أن أسأل ما هى أهم العناصر التى تعمل على تكوين عاطفة الحب في الإنسان؟ تقول في ذلك د. هبه عيسوى مدرس الأمراض النفسية والعصبية في جامعة عين شمس:

   ” التعليم العاطفى يتكون فى لحظات الحياة الأولى, فمنذ فترة الرضاعة تنشأ أسس تعلم العاطفة بالأم الحانية, فهى حين ترضع طفلها تبث مشاعر مختلفة تتعلق به هو نفسه وبمن حوله, وفى هذه اللحظات يبدأ ظهور المخزون العاطفى للطفل الذي يطل علينا من خلال تعلم الثقة بالناس الذين يلاحظون احتياجاته.

   وهكذا يتعلم الأطفال يكونوا مؤثرين للحصول على المساعدة التى يحتاجون إليها, ذكر أيضاً “ايريك أيريكسون” أحد علماء النفس الذى قال: إما أن ينشأ الطفل بشعور (الثقة الأساسية) أو (عدم الثقة الأساسية) فبداية العاطفة هى التى توضحها د. هبة عيسوى قائلة: إن السنوات المبكرة من العمر تمثل الفرصة الأولى لتشكيل مكونات القدرات العاطفية  (الذكاء العاطفى) وهى الأساس الضرورى لكل أشكال التعلم والنجاح الدراسى الذى لا يحتاج فقط إلى رصيد الطفل من المعارف, بل يحتاج إلى سبعة أسس أساسية, لتكوين المقدرة الحاسمة لإظهار مواطن القوة في الشخصية المستقبلية للطفل, وهى:-

    1- الثقة.                  2- حب الاستطلاع

    3- الإصرار               4- السيطرة على النفس

    5- القدرة عاى تكوين العلاقات والارتباط بالآخرين.

    6- القدرة عاى التواصل والتبادل الشفوى للأفكار.

    7- التعاون

   ..كانت هذه لمحة عابرة تدور حول عاطفة الحب, وكيف تستطيع الأم بما حباها الله به من حنان ورأفة أن تغرسها في قلوب أطفالها منذ الصغر, منذ اللحظة التى تحتوى فيها رضيعها فتضمه إلى صدرها تلقمه ثديها. لذا, جعل الله سبحانه وتعالى (فصاله فى عامين) كى يتشبع الطفل بمعاني الحنان والحب, فيشب أكثر ثقة بنفسه وبالآخرين, ويصبح أكثر قوة وقدرة على التعامل بنجاح مع نفسه..ومع الآخرين.

   والحين, أعتقد أننا قد عرفنا أهمية الحب فى حياة الإنسان. ذاك الحب الزاخر بعوطاف الود والتضحية, مشاعر الرأفة والشفقة. ذاك الحب الذي ينأى بالناس أن يتحولوا إلى وحوش ىدمية ضارية تتصف بالعنف والأنانية.. وهذا لن يتأتى إلا بالإكثار من ذكر الله حتى تلين قلوب الناس فلا تصبح أفئدتهم هواء وحتى تضئ النفوس بنور ربها ﴿هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب﴾ [ص:49].

كلمات من نور

﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون﴾ [الأنفال:2].

 

 

*      *    *

 

 

 

 

 

 

شئ.. أشد من الجبال

   روى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بين كل أرض إلى التى تليها مسيرة خمسمائة عام وهى سبعة أطباق: الأرض الأولي هذه فيها سكانها, والأرض الثانية: مسكن الريح ومنها تخرج الرياح المختلفة كما قال تعالى:﴿وتصريف الرياح﴾ [البقرة:164] وفي الأرض الثالثة: خلق وجوههم مثل وجوه بنى أدم أفواههم مثل أفواه الكلاب, وأيديهم كأيدى الإنس, وأرجلهم كأرجل البقر وآذانهم كآذان المعز, وأشعارهم كأصواف الضأن لا يعصون الله طرفة عين ليس لهم أثواب, ليلنا نهارهم ونهارهم ليلنا, أم الأرض الرابعة ففيها حجارة الكبريت التى أعدها الله لأهل النار تسجر بها جهنم. قال النبى صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسى بيده إن فيها الأودية من كبريت لو أرسلت فيها الجبال الرواسي لإنماعت”(1) قال وهب بن منبه: هى مثل الكبريت الأحمر, الصخرة مثل الجبل العظيم, وهى التى قال قال تعالى فيها: ﴿وقودها الناس والحجارة﴾ [التحريم:6]. والأرض الخامسة: فيها حيات أهل النار كأمثال البغال لها أذناب كالرماح لو أمر الله حية منها أن تضرب بناب من أيابها أعظم جبل في الأرض لهدته حتى يعود رميماً. والأرض السادسة: فيها دواوين أهل النار هم واعمالهم وأرواحهم الخبيثة واسمها سجين, قال الله تعالى: ﴿كلا إن كتاب الفجار لفى سجين﴾ [المطففين:7]. والأرض السابعة: جعلها الله مسكناً لإبليس وجنوده, وفيها عشه في أحد جانبيه سموم وفى الآخر زمهرير, وقد غص بجنوده من المردة وعتاة الجن, ومنها يبث سراياه وجنوده وأعظمهم عنده مكانة ومنزلة.. وهو أعظمهم فتنة لبنى أدم.

   روى سلمة بن كهيل عن أبى الزرقاء: الحنة اليوم في الأرض في السماء السابعة, فإذا كان غد جعلها الله حيث يشاء. والنار اليوم في الأرض السفلى, فإذا كان غد جعلها الله حيث يشاء. وأما قعر الأرض فهو حيث يخسف الله بقارون وداره وامواله. وقال النبى صلى الله عليه وسلم: “بينما رجل يتبختر في بردية وينظر في عطفية وقد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة”(2).

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــ

  • الحديث في اتحاف السادة المتقين جـ11 ص214 بلفظ مقارب للحديث الذى معناه.
  • الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب اللباس باب 49 والإمام أحمد 2/467.

   قال سبحانه وتعالى ﴿الذى جعل لكم الأرض فراشاً﴾ [البقرة:22] وهى تلك الأرض التي تبدو لنا على مدى البصر منبسطة تسمى طبقتها الأولى أديماً, والثانية بسيطاً, والثالثة ثقيلاً, والرابعة بطيحاًو والخامسة متثاقلة, والسادسة ماسكة, والسابعة ثرى. وقد جاء ذكر أسمائها السبعة في القرآن كما يلى “فراشاً”, و”قراراً”, و”مهاداً” “وكفاتاً” و”بساطاً” و”رتقاً”, و﴿والأرض ذات الصدع﴾ [الطارق:12] وهى تلك الأرض التى قال عليها الشاعر:

    والأرض معقلنــا وكـانـت أمتـاً         فيهـا مقابــرنا وفيهــا تـولــد

   وقد زين الله الأرض بالأزمةو وزين الأزمنة بأربعة أشهر قال تعالى :﴿إن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم﴾ [التوبة:36] فالأربعة الحرم هم: ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجب, وكذلك زين الله الأرض بأربعة مكنة وهى مكة, والمدينة, وبيت المقدس, ومسجد العشائر. وأيضاً زينها بالأنبياء الذين زينوا بأربعة: إبراهيم الخليل وموسى الكليم, وعيسى الوجيهو ومحمد الحبيب, صلوات الله عليهم أجمعين, فهم أهل الكتب وأصحاب الشرائع, وأولوا العزم, وتكتمل زينة الأرض بآل محمد صلوات الله عليه وسلامه وزينهم بأربعة هم: علي وفاطمة والحسن والحسين رضى الله عنهم.

   وزين الله الأرض بالصحابة, الذين زينهم بأربعة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى, وهم الخلفاء الراشدون والآثمة المرضيون, هذا وقد روى عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لايجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن(1). قال أنس : قد أجتمع حبهم بأربعة: العلماء والقراء والغزاة والعباد. هذا إلى جانب كافة أنواع الحيوانات والنباتات والجماد.

   والجبال من الجماد جعلها الله أوتاداً للأرض حتى تثبت. قال تعالى ﴿وألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم﴾ [النحل:15] فكما يقول الرواة عندما خلق الله الأرض جعلت تميد, أى تهتز وتتحرك , فخلق الجبال, وألقاها عليها فأستقامت, فعجبت الملائكة من شدة الجبال, فقالت نعم الحديد, فقالت يارب هل من خلقك شئ أشد من الجبال؟ قال نعم الحديد, فقالت يارب هل من خلقك أشد من الحديد؟ قال نعم النار, فقالت يارب هل من خلقك شئ أشد أش من النار؟ قال نعم الماء, فقالت يارب هل من خلقك شئ أشد من الماء؟ قال نعم الريح, فقالت يارب هل من خلقك شئ أشد من الريح؟ قال نعم الإنسان يتصدق باليمين فيخفيها عن الشمال”. فسبحان الله العرف بكل أمر وبكل حال(2).

ــــــــــــــــــــــــــ

(1)الحديث في المطالبة العالية شرح زوائد المسانيد الثمانية بن حجر حديث 4026, 4526.

(2) الحديث أورده القرطبى في تفسير الآية 15 من سورة النحل مطولاً ثم قال أخرجه الترمذى وقال أبو عيسى (حديث غريب لا تعرفه مرفوعاً الآمن هذا الوجه.

 

كلمات من نور

﴿الله الذى جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحى لا إله إلا هو فأدعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين﴾ [غافر: 64, 65].

 

*      *      *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تلك المعادلة العادلة!

  نحن نعيش هذه الأيام وفى نفوسنا قلق شديد مما يحدث حولنا..! فتصيبنا حيرة أشد لما لانستطيع توقعه من تهديدات وأخطار تحيط بنا فتسبب هذه الظروف الغامضة المحبطة اضطراباً يؤثر على راحة الناس النفسية, والقلبية.

   لذا, نبحث الآن عن تلك المعادلة العادلة, بين مطالب الجسد.. واحتياجات الروح.

   لماذا؟

   للوصول إلى علاج أمراض هذا العصر, وما تسببه من قلق نفسى , وحيرة, واضطراب.

   كيف؟!

   بالحصول على النو.. ذلك النور الذى يقذفه الله في القلب, فيزول القلق, ويتبدد الإضطراب.. مهما كانت صعوبة الظروف, وشراسة الأحداث!

   حقاً..

 ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾ [الأنعام: 125] تلك الآية سئل عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ما معنى الشرح يا رسول الله؟

   فقال صلوات الله عليه: “الشرح نور يقذفه الله تعالى فى القلب”(1).

   هذا النور الربانى العظيم, الذى يضئ لنا الطريق إلى الله, فنلتجأ إليه الدعاء, دعاء المضطر الذى يعجز عن السيطرة على ما حوله من ظروف وأحداث, وهو دعاء مستجاب بحول الله وعون الله ولا حول ولاقوة إلا بالله.

   إليكم حكاية هذا الرجل الذى تعرض لكرب شديد فرجه الله عنه ببركة استجاة ذاك الدعاء:

   قال مالك بن دينار رضى الله عنه: خرجت إلى الحج, وفيما أن سائر في البادية, إذ رأيت غراباً في فمه رغيف , فقلت: هذا غراب يطير وفى فمه رغيف, إن له شأناً, فتتبعته, حتى نزل عند غار, فذهبت إليه فإذا بى أرى رجلاً مشدوداً لا يستطيع فكاكاً, والرغيف بين يديه, فقلت للرجل: من تكون؟ ومن أى البلاد أنت؟ فقال: أنا من الحجاج, أخذ اللصوص مالى ومتاعى, وشدونى وألقونى في هذا الموضع, كما ترى, وصبرت على الجوع أياماً ثم توجهت إلى ربي وقلت: يا من قال في كتابه العزيز ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه﴾ [النمل:62]فأنا مضطر فأرحمنى. فأرسل الله هذا الغراب بطعامى إليكم هذ الدعاء الكريم, الذى فرج الله به الكرب عن ذلك الرج الواقع في محنة:

ــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث ذكره القرطبى في تفسير الآية 125 من سورة الأنعام بلفظ عن ابن مسعود بلفظ مقارب للحديث الذى معنا.

   “اللهم إنى أسألك أن تجعلنى من عبادك المتقين وتميتنى على سنة سيد المرسلين وأن تجعلنى ممن يعطى كتابه باليمين, إلهى, أنت ملاذى إذا ضاقت الحيل ملجأى إذا أنقطع الأمل فبذكرك نتنعم ونفخر وإلى جودك نلتجئ ونفتقر, فلا تخيب رجائى ولا تصرف وجهك في القيام عنى وأغفر ذنوبى وأستر عيوبى وأقر في القيامة عيونى فها أنا لبابك قرعت وبقاعك انخت فلا تطردنى عن جنايك وهب لى ما هبته لأحبائك”.

كلمات من نور

  ﴿ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون﴾ [النور:52].

 

*        *       *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليلة قد تفترس .. ثلاث ليالي

   الأيام والليالى هى تلك الأوقات التى يتشكل منها الزمان.. وهى ذات درجات مختلفة, وقيم متفاوته عند الله سبحانه خالق الأرض والسماوات.

   و.. عن تلك الليالى ذات الدرجات العالية, والقيمة المتميزة سنتحدث الآن.. هى في الواقع ثمان ليالي, من ضمنهن الأربع التى قال عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك: ” أربع ليال لياليهن كأيامهن وأيامهن كلياليهن يبر الله فيهن القسم ويعتق النسم ويعطى فيهن الجزيل: ليلة القدر وصباحها وليلة النصف من شعبان وصباحها وليلة الجمعة وصباحها وليلة عرفة وصباحها”(1).

   أما الليالى الأربع الأخرى, تلك التى يضاعف الله فيها الحسنات, ويستجيب خلالها الدعوات, والتى يسح الله فيها الخير سحاً, هى ليلة الأضحى, وليلة الفطر, ليلة النصف من شعبان, وليلة عرفة.

   البديع في هذا الموضوع, أن تلك الليالي العامرة بالخير والعطاء, تأتى أحياناً على التوالى وهن: ليلة الجمعة, ليلة القدر “وما أدراك ما ليلة القدر” ثم ليلة عيد الفطر. وهذه الليالي حين تجمع معاً أحياناً.. تعتبر هدية غالية قيمة من الله بها علينا في تلك الأيام الفضيلة المباركة, التى نتمنى من الله أن يستجيب خلالها دعاءنا, وأن يغفر برحمته لنا وأن ينعم علينا برضوان جناته “خالدين فيها أبداً”.. وأن يتفضل علينا بلقاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة إن شاء الله.. وأن يكرمنا وينعم علينا بالنظر إلى وجهه الكريم آمين يا قادر يا عظيم.. يا الله.

   حمداً لله.. أننا نحظى أحياناً بهذه الليالي الجميلة التى تضئ سويعات الشهر الفضيل بنورها. شهر رمضان الذى يتطلب من المسلمينأن يستثمروا أيامه في الصيام, ولياليه في القيام. كما يتطلب منهم أن يصونوا جوارحهم عن الآثام, وقلبوهم عن الشرك والجشع والشهوة, والحقد والحسد, والغيظ والغل والغضب حتى يكتمل صومهم, وتتضاعف أجورهم, ويوضع ذلك الأجر العظيم – إن شاء الله – في ميزان حسناتهم..

   ..حينئذ يصبحوا بإذن الله من أولئك الناس الطيبين الأخيار, الذين رضى الله عنهم وأرضاهم, وجعل الجنة مأواهم فطوبى للصائمين الذين تمتلئ قلبوهم بحب الله, ورسوله.

   وطوبى لكل صائم يعرف كيف يصون جوارحه في شهر رمضان, كما يعرف كيف يلتزم وينضبط باقى الليالي والأيام, على مدى الزمان, تماماً, كما كان يفعل في رمضان. عندئذ, لاتقتصر صيانة الجوارح على شهر الصوم وحده, بل تتصل وتمتد بعده لتستمر عملية السيطرة على النفس, ولتستمر معركة الصراع مع الشيطان بهدف الفوز بالجنة, والنجاة من النار.

   نسأل أن يباعد بيننا وبين أولئك اللاهين, الغافلين, عن ذكر الله, المعرضين عن الآخذ بتعاليم دين الله. كما نسأل الله أن يتقبل صيامنا ودعاءنا خلال هذ الشهر الفضيل ذى الليل الجميل الذي تحلو فيه الخلوة مع الله سبحانه وتعالى, فتمضى الأسحار بالناس وهم في طاعة وعبادةوإسلام, وإحساس عميق زاخر بالسكينة والسلام والأمان.

   ..هكذا يحظى المسلم المؤمن بغفران ورضوان الله سبحانه وتعالى عن أبى هريرة رضي الله عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه”(1).

   حمداً لله وشكراً لله الذى غفر لنا ما تقدم من ذنوبنا, ومحا بفضله سيئات أعمالنا, وحمداً لله الذى جعل الصوم مدرسة بالنسبة لنا, مدرسة يتعلم فيها الصائم السلوك القويم, والاخلاق العالية, والانضباط على شريعة الله في القول والعمل.

   وبهذه الطريقة نصل إلى باب الجنة, وندخلها إن شاء الله مع الداخلين, فقط علينا أن نواصل المسيرة إليها مع السالكين المخلصين, أولئك الذين قال الله فيهم: ﴿إن المتقين في جنات وعيون﴾ [الذاريات: 17-18].. وحتى نكون ضمن أولئك الأبرار الذين ﴿تعرف فى وجوههم نضرة النعيم﴾ [المطففين:24].. علينا أن لا ندع الليلة الأخيرة لمفترسة التى تأتى في رأس السنة الميلادية, تفترس تلك الليالي العطرة الندية التى يتفضل الله علينا خلالها بأجزل العطايا, تلك التى ينعم علينا بها في الدنيا والآخرة. حفظنا الله من ضعف نفوسنا, ومن تسلط إبليس على قلوبنا.

كلمات من نور

     ﴿ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعلكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم﴾ [آل عمران: 179].

 

*       *      *

ـــــــــــــــــــ

  • الحديث اخرجه الإمام البخارى في صحيحه جـ1 ص16, جـ3 ص 33 وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين والإمام أحمد في مسنده جـ2 ص232, 241, 385, 473.

نحن حتماً نحتاج هذا النوع من الحب ..!

   نحن نحتاج الحب دوماً, ونحب أن نتعامل بحب على مدى العمر, ليس فقط مع إطلالة عام جديد, جعله الله عاماً طيباً عامراً بالحب والسعد, بل عبر كل الأيام والليالي والسنوات. فنحن نحتاج الحب, ونحتاج أن نتعامل بيننا بحب حتى تصبح الحياة أحلى وأجمل.

   ..فالذوق وتقدير الشعور, ومراعاة الإحساس في شتى الأمور, يضفى على المتعاملين صفات أرقى وأنبل, كما يجعل الحياة أسهل وأسلسو لأن هذ الأسلوب الراقى الأخلاقى يتضح حين تتم مناقشة بعض المواضيع دون مكابدة أو جدال, ودون إحراج أو أفتعال.

   فالحب بين الناس, يضئ القلوب, فتصبح الوجوه أحلى وأجمل, فنراها أكثر نوراً وبشاشة, كما تصير الأمورلأصوات أكثر لطفاً ودماثة. فتقل المواقف المحرجة, كما تتقلص الخناقات والأزمات, وتستمر عبارات الود والمجاملات على مدار السنة, ولا تقتصر فقط على المواسم والأعياد والمناسبات.

   وهذا هو هو أحوج ما نحتاج إليه وسط هذا الجو العالمى المشحون بكل ما هو مقلق ومثير, لأننا في هذا العصر الحاضر أصبحنا لا نطيق النقد اللاذع, ولا الكلام اللاسع, قد يدور حول أمر تافه بسيط لا يستدعى كل هذه الضجة, ولا يتطلب كل ذلك الصخب.

   المطلب الحقيقي في هذه الأيام التي تتبدل فيها الاحداث حولنا في كل لحظة وتتقلب فيها الدنيا وتتعدل فى كل لمحة, المطلبالحقيقى هو.. أن نتعامل مع بعضنا البعض بحب وأخلاق واحترام, وأن نكف عن أسلوب البغض والافتراء فيها الدنيا وتتعدل في كل لمحة, المطلب الحقيقى هو.. أن نتعامل مع بعضنا البعض والإفتراء والإتهام, لأننا لم نعد نقدر أن نتحمل هذا النوع العابث من الظلم, كما لم نعد نطيق هذا القدر المتصل من الإمتهان. أعتقد أننا جميعاً نعرف أن الحياة دوارة وأن المواقع خداعة, فهى يوماً فوق, ويوماً تحت, كما أظننا نعرف أنها لو دامت لك ما اتصلت لغيرك. لذا, علينا أن نشيع الحب والسلام بيننا, حتى يحبنا الله ويرضى عنا ويغفر لنا ذنوبنا.

   قال تعالى:﴿إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً﴾ [مريم: 96].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه, فيحبه جبريل فينادى جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فاحبوه فتحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في آهل الأرض”(1).

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث في اتحاف السادة المتقين بشرح أحياء علوم الدين جـ8 ص 310, جـ9 ص610 وعبد الرزاق في مسنده حديث 19673. 

  ونحن حتماً نحتاج هذا النوع من الحب. ذلك الحب النبيل الجميل, الحافل بالأمان والسلام, الزاخر بالسكينة والإطمئنان.. هذا النوع من الحب القائد, القادر على دفعنا نحو الجنة.

 

كلمات من نور

﴿وأعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً﴾ [النساء:36].

 

*       *       *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ما هو عدد حروف آيات النصر؟!

   حين تزدحم الخواطر, وتتفاعل الأفكار, في لحظة صمت تطرأ على البال, نتذكر عندئذ بعض ما مضى وبعض ما كان, من مواقف تكمن في عمق الزمان, فيها عبر وعظات, وحكم وأمثال.. مواقف سابقة نسترجعها, علها تخفف ما بداخلنا من..الآم وأحزان!

   لذا, طرأ ببالى ذلك الموقف الحكيم الذى سجلته لنا كتب السيرة لنبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم, حين وقف مبايعاً في المدينة, قائلاً:

    (أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه أهليكم وأبناءكم)(1).

    فقام أحدهم وآخذ بيده وقال:

  • نعم والذى بعثك بالحق.. لنمنعك مما نمنع منه أنفسنا فبايعنا يا رسول الله.. فنحن والله أبناء الحروب.. وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر.

   ثم.. ألقى الرسول نظرة على هذه الطليعة الواعدة, بعد أن قالوا له: أبسط يدك يا رسول الله نبايعك, وكانوا في حساب العدد ثلاثة وسبعين رجلاً وسيدتين.. لكنهم في حساب القيمة أمة عظمى تتشكل وتتكون..!

   وهنا.. قال لهم الرسول: “أخرجوا لى اثنى عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم”.

   وبذلك وسع الرسول عليه الصلاة والسلام دائة النقود والمسؤولية, بعد أن تمت بيعة العقبة, وتم اختيار النقباء.

   وهكذا .. شهد الليل الصامت ذلك المؤتمر الفريدو كما شهد فيما بعد ليل آخر بهيم, خروج الرسول عليه الصلاة والسلام في حرص شديد ومعع عشرة آلاف رجل ليفاجئ قريشاً في مكة, بعد أن حجبت عنها لاخبار فلم يأتها نبأ واحد يعلمها بما يفعل محمد وأصحابه!

   ودخل عليه الصلاة والسلام مكة, وطاف بالبيت الحرام سبعاً وآخذ يطهر مكة من الحجارة والأصنام, فى حين ظلت قريش قريش ترتجف واجفة صامتة لا تدرى ماذا سيفعل محمد عليه الصلاة والسلام بها؟!

   لكنه.. صولات الله عليه بعد أن ألقى خطاب النصر, قال وقد تهلل وجهه الكريم: (أذهبوا فأنتم الطلقاء).

   كانت هذه بعض خواطر طافت فى لحظة صمت داخلى, وطافت معها بعض ادعية النصر على الأعداء:

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث في مجمع الزوائد جـ6 ص44, وفتح الباري بشرح صحيح البخارى جـ1 ص66, جـ7 ص221, وأحمد في مسنده جـ3 ص461والطبراني في المعجم الكبير جـ19 ص89.

   ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾, ﴿وينصرك الله نصراً عزيزاً﴾, ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾,﴿ والله يؤيد بنصره من يشاء﴾, ﴿وكان حقاً عليناً نصر المؤمنين﴾, ﴿فأفتح بينى وبينهم فتحاً﴾, ﴿عسى الله أن يآتى بالفتح﴾, ﴿قال رب أنصرنى بما كذبون﴾.

   صدق الله العظيم, الذى يؤيد عباده المؤمنين بالنصر المبين.. فهو على كل شئ قدير.

   عزيزى القارئ الكريم.. ألاتلاحظ معى أن عدد حروف كلمات تلك الآيات هو تسعة عشر حرفاً؟!

كلمات من نور

﴿الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز﴾ [الحج:40].

 

*         *        *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

..حين احتار المسلمون فيما يفعلون؟!

   عندما وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخبار غزو الأحزاب المدينة أخذ المسلمون في الاستعداد للحرب وذلك خندق عميق فى الجهة التى تسمح بالهجوم, إذ كانت المدينة محصنة بالصخور من جهة, وأسوار المنازل من الجهة الآخرى.

   كما آخذ المسلمون حذرهم من خيانة اليهود, فوضعوا النساء والأطفال في مكان أمين وعليهم حراسة.ز وأستمر الحصار حوالى شهراً, وإزدادت الحالة سوءاً لدرجة أن المسلمين كانوا يشدون الحجارة على بطونهم من شدة الجوع, لكنهم كانوا رغم الجهد الشديد واثقين بالله.

   وكان اليهود داخل المدينة يرقبون الموقف ومعهم المنافقون, كانوا ينتظرون لحظة الهجوم ليثيروا الفوضى, ويبثوا الفزع بين الناس.. وهجمت قريش, لكن مشركيها لم يستطيعوا عبور الخندق, فألقوا الحجارة والسهام على المسلمين..!

   وشيئاً فشيئاً أشتد الهول, وارتفع مؤشر الخطر لدرجة أن المسليمن أنفسهم كانوا لا يعرفون هل أقتحم الجيش كانوا لا يعرفون هل أقتحم الجيش المدينة واحتلها.. أم لا؟!

  فقد كان الخطر الساحق يشتد حتى ليكاد أن يصل بجنود المشركين إلى مقربة من بيت الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام, كما تسلل نفر منهم واقتحموا مكاناً من الخندق, فخرج عليهم علي بن أبى طالب فضرب أحدهم وفر الباقون..

   واستمرت المحاولات الشديدة لإقتحام الخندقو لكن بفضل الله  كان يرتد المهاجمون خارج حدود المدينة.. إنها معجزة من عند الله! وظلت هذه المعجزة تتكرر وتتكرر حقاً.. وما النصر إلا من عند الله.

   وهنا.. حين أشتد هول الهجوم واستمر , بدأت نذر خطر آخر تتبدى وتظهر, وذلك عندما نقض اليهود عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم, ووقفوا جميعهم أمام الخندق يرمون النبال على المسلمين, قال تعالى: ﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية﴾ [المائدة:13] وكانت بالفعل قلوب يهود بنى قريظة لا تقل غدراً ولا حقداً عن قلوب بنى النضير الذين كانوا قد نقضوا أيضاً عهدهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام فأخرجهم من المدينة وأجلاهم عنها.

  ..ويزداد الموقف سوءاً, فالشتاء قارس البرودة, والقتال شديد الخطورة, والهجمات المتتالية لا تنقطع ولا تتوقف لحظة واحدة, سواء في الليل أو فى النهار.

   وهنا.. تعرض المؤمنون لإبتلاء عظيم, فقد كانوا لا يعرفون كيف سيبنتهى هذ الهجوم, ولا متى سينجلى هذ الخطر الداهم الذى يطحنهم طحناً, حتى وصل ذروته, وبلغ أقصى مداه!!

   حينئذ احتار المسلمون فيما يفعلون؟! وسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام: ماذا يقولون؟! وأخبرهم الرسول أن يقولوا داعين راجين: اللهم منزل الكتاب, سريع الحساب, أهزم الأحزاب, اللهم أهزمهم وزلزلهم”(1).

   وخرج هذا الدعاء الكريم فى وقت كان القوم المسلمون قد أدوا واجبهم, والتجأوا إلى الله لينجيهم وينقذهم مما هم فيه سبحانه سميع الدعاء.. الذى لا ينقطع فيه الامل والرجاء.

 

كلمات من نور

   ﴿إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا﴾ [الأحزاب: 10].

 

*       *        *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب الجهاد جـ2 ص935 حديث 2796.

 

 

 

 

بفضل الله.. انطفأت نيرانهم!

   وبعد أن أشتد الهول على المسلمين, أرتفع الدعاء والرجاء بالنجاة من هذه الأخطار فالقتال مستمر, والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون محاصرون داخل المدينة, والظروف صعبة للغاية فالبرد قارس, والليل قاتم , والريح عاصف, والغذاء ناقص, والشعور العام بالثقة في الله وأصل أقصى مداه والحمد لله. والدعاء يطلب النصر على الأعداء, وهزيمة الأحزاب متصل.. مع الشكر لله.

   واستجاب الله الرجاء, فأرسل سبحانه الريح جنداً فجعلت تهد خيامهم وتقلع أوتادهم.. والملائكة جنوداً تلقى الرعب في قلوبهم.. فأنطفات نيرانهم, وأشتد يأسهم وفزعهم!

   كانت الليلة ليلة سوداء , ثلجية الهواء! وما لبث أن انسحب جيش الأحزاب بعد أن قال لهم  رئيسهم أبو سفيان:

  • يا معشر قريش.. إنكم ما أصبحتم بدار مقام.. فارتحلوا فإني مرتحل.

   رد الله الكافرين بغيظهم, وكفى المؤمنين القتال, فصدق الله وعده, وأعز جنده, وهزم الأحزاب وحده. وقال الرسول للمؤمنين: ” لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا”(1) وما انسحب جيش الأحزاب عائداً ادارجه وهو ينوء بفشل الهزيمة, حتى خرج من المدينة جيش يتجه نحو يهود بنى قريظة الذين خانوا عهدهم مع الرسول, غدروا بالمسلمين في لحظة الخطر, فأمر النبي ألا يصلى الناس العصر إلا في بنى قريظة.

   فهم المسلمون الرسالة. كان المعنى الواضح الذي وصلهم هو اقتحام حصون اليهود قبل الغروب. ونصر الله المؤمنين. وانهزم اليهود, وجئ بهم إلى سعد بن معاذ, الذي كان سيد الأوس, وكان الأوس حلفاء اليهود في الجاهلية, فتوقع اليهود أن تنفعهم هذه المعرفة القديمة.

   ونزل اليهود على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: “ألا يرضيكم أن يحكم فيكم واحد منكم؟ قالوا: نعم. ,وهنا تكلم سعد بن معاذ رضي الله عنه, الذي أمر الرسول بإحضاره لأنه كان جريحاً من السهام التي أصابته خلال حرب الأحزاب, فقال: إن سعداً لا تأخذه في الحق لومة لائم.. ثم قال: لقد حكمت فيهم يا رسول الله أن يقتل الرجال وتسبى الذرية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات”(2).

ــــــــــــــــــ 

  • الحديث في كتاب دلائل النبوة للبيهقى جـ3 ص458, وتفسير ابن كثير جـ6 ص396 طبع دار الفكر.
  • الحديث أخرجه القرطبى جـ14 ص140 طبع بيروت في تفسير الآية 9 من سورة الأحزاب.

   وكان اليهود حقاً يستحقون القتل. فقد كانوا هم السبب في غزوة الأحزاب بدسائسهم ومؤتمراتهم وأحلافهم, وأمانيهم التي ظلت تسعى لتحقق حصار الإسلام واقتلاعه من جذوره.. وإبادة المسلمين عن أخرهم!  

   لكن.. بفضل الله سبحانه وتعالى كانوا كلما أبرموا أموراً يحاربون الإسلام بها أبطلها الله, ورد كيدهم في نحورهم, وحاق مكرهم السيئ بهم وبأهلهم.. قال تعالى في سورة المائدة ﴿كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين﴾ [المائدة:64] صدق الله العظيم.

كلمات من نور

﴿يا أيها الذين أمنوا أذكروا نعمة عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً﴾ [الأحزاب :9].

 

 

*     *     *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إنهم يريدونها.. إجازة خاصة جداً!

   يأتي الصيف.. بأيامه الحارة, ولياليه الساهرة, وأوقاته المرحة العامرة بالفرحة والحركة.. فالكل يتحرك, يسافر إلى بلاد عديدة, يتجه إلى شطآن بعيدة.. وبملاحظة عابرة, نجد أن الكل يحاول أن يعيش على سجيته, أن يفعل ما يحب, وأن يترك ما يكره..!

   هذا هو الصيف.. بعناه الواسع البديع, لا قيود, لا ارتباطات, وهؤلاء هم أولادنا الشباب الأعزاء الذين أصبحوا الآن بلا رغبة في قراءة أو كتابة, فها هم يمتنعون عن عمل ما كانوا يعملون, فلا اقتراب من كتب, ولا مطالعة ولا قراءة, بدافع الحاجة إلى الراحة والاسترخاء.

   لهذا نجد أولئك الشباب الأعزاء, بعد عام دراسي طويل, حافل بالعمل المضنى, والجهد الشاق, يسهرون الليل, وينامون النهار, كأنهم يريدونها أجازة.. خاصة جداً, أجازة تحفل بالإثارة, بعيداً عن ضغوط المسئولية, بكل أنواعها!

   لكن.. بما أن نفسي تمتلئ بالأمل الجميل في أن يطالع هذا الموضوع الذي أكتبه الآن بعض من أولئك الشباب, الذين يحبون القراءة الخفيفة التي تعتبر نوعاً من أنواع التسلية, والاستمتاع بالوقت, إلى هؤلاء الشباب.. يسرني ويسعدني أن أقدم لهم بعضاً من نصائح الحكيم لقمان, تلك النصائح الجليلة التي وجهها أب حنون لأبنه المحبوب, عسى أن ينتفعوا بها إنشاء الله..

   قال لقمان:

  • يا بني اتخذ تقوى الله تعالى تجارة يأتك الريح بغير بضاعة.
  • يا بني لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عن عمله.
  • يا بني اتق الله ولا تر الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر.
  • يا بني.. اعتزل الشر كما يعتزلك فإن الشر للشر خلق.
  • يا بني عليك بمجالس العلماء واستمع لكلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب المبيت بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل المطر فإن من كذب ذهب ماء وجهه, ومن ساء خلقه زاد غمه.
  • يا بني لا ترسل رسولك جاهلاً, فإن لم تجد حكيماً, فكن رسول نفسك.
  • يا بني اختر المجالس على عينيك فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجل فأجلس معهم فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك وإن تك غبياً يعلموك لعل أن يطلع الله عز وجل عليهم برحمة تصب معهم.
  • يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه اسم الله عز وجل فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك وإن تك غبياً يزيدوك غباوة وأن يطالع الله تعالى بعد ذلك بسخط يصبك معهم.
  • يا بني إن الدنيا بئر عميق وقد غرق فيها أناس كثيرون فأجعل سفينتك فيها تقوى الله تبارك وتعالى وحشوها الإيمان بالله وشراعها التوكل على الله لعلك أن تنجو.

 

كلمات من نور

﴿ولقد أتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد﴾ [لقمان:12].

 

 

*    *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

باب الرحمة

   من سنن الله في خلقه أن فضل بعض المخلوقات على بعض, وفضل بعض الأزمان على بعض, فقد فضل المساجد على غيرها من بقاع الأرض, وأضافها إلى ذاته العليا تشريفاً وتعظيماً. قال تعالى: ﴿إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر﴾ [التوبة:18].. ومن أفضل هذه المساجد, المسجد الحرام, وبليه في الفضل المسجد النبوي الشريف, ثم المسجد الأقصى.

   وكان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم, موقعاً فاضلاً, تنطلق منه قرارات الأحداث الحاسمة التي غيرت تاريخ العالم كله, إذ كان مقراً للحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين, كما كان ملتقى أهل الرأي والشورى من أصحابه. قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام”. فثواب الصلاة الواحدة في هذا المسجد الشريف أكثر من صلوات ستة أشهر في عامة المساجد(1).

لكن , هناك اعتقاد خاطئ أن الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم تساوى ألف قياساً إلى أدائها في المساجد الأخرى, لكن, الصحيح هو أن فضل الصلاة في مسجد الرسول يرجع إلى الثواب فقط, وليس إلى أنها تجزى عن قضاء التي فات أداؤها في وقتها, فمثلاً لو كان على الشخص الذي يؤدى صلاتين فصلى أحداهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تجزه إلا عن صلاة واحدة وهذا الأمر لا خلاف فيه.

قال في ذلك صاحب تفسير”أضواء البيان” في الإجابة على هذا التساؤل: “إن المضاعفة بفل من الله وامتنان على عباده فالمؤمن في سعة الله فلا يكون رجلان في الصف متجاورين أحدهما على عتبة المسجد في الخارج والآخر عليها إلى الداخل ويعطى هذا واحدة وكتفاهما متلاصقان”.

والمسجد النبوي هو احد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال, كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجد الرسول, والمسجد الأقصى”(2).. وبالطبع يعد شد الرحال إلى تلك المساجد, ومن الفضيلة على الداخل إليها أن يراعى آداب الدخول للصلاة بها, فعليه أن يتسوك ويتطهر ويلبس ثياباً نظيفة ويمشى بالسكينة دون تدافع أو تزاحم, كما عليه أن يدخل المسجد بتقديم الرجل اليمنى, ويسمى بسم الله ويسلم على صاحب هذا المسجد, ويقول داعياً الله: اللهم أفتح لي أبواب رحمتك, ثم يصلى تحية المسجد, ثم يدعو لنفسه ولجميع المسلمين, ثم يأتي المواجهة الشريفة, ويصلى ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه مراعياً الآداب اللازمة لذلك من خفض الصوت, وعدم التعامل بعنف والغلظة مع الآخرين في أوقات الازدحام الشديد وغيرها.   

ــــــــــــــــــ

  • الحديث في الدار المنثور جـ2 ص53, والترغيب والترهيب للمنذرى جـ2 ص217 وكنز العمال حديث رقم 34826.
  • الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه حديث 1409, 1410 ومجمع الزوائد جـ4 ص3, 4 وفتـح البـاري جـ4 ص73 وابـن أبي شيبـه فـي مصنفه جـ4 ص 65, 66.

   وبهذا تتم زيارة المسجد النبوي الشريف الذي يتميز عن غيره من مساجد الله بفضل الصلاة فيه وحسن ثوابها, فمن شاء أكثر من صلاته بما ييسره له الله, الذي دعانا سبحانه وتعالي إلى والتزين قبل دخول مساجده, حيث قال عز من قائل: ﴿يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾ [الأعراف:31].. كما قال عن نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء :107].

   ويوجد للرحمة باب يسمى باسمها, وهو أحد الأبواب الثلاثة التي فتحتها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد حين بناه.. وعن سبب تسميته بباب الرحمة, قال أنس بن مالك: إن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب, فأستقبل رسول الله صلى الله أن يغيثنا, فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه, ثم قال: ” اللهم أغثنا, اللهم أغثنا” قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة – وهي قطعة من الغيم مثل السحاب المتفرق – ما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار, قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس, فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. فلا والله ما رأينا الشمس ستاً, ثم دخل رجل من ذلك الباب في يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم, قائماً يخطب فأستقبله قائماً, فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل, فأدع الله يمسكها عنا, قال: فرقع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا.. اللهم على الأكام والراب وبطون الأودية ومنابت الشجر”(1) قال: فأقلعت وخرجنا نمشى في الشمس.

   وهكذا.. جاءت تسمية هذا الباب بباب الرحمة, في مسجد نبي الرحمة, الذي أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة واسعة لجميع العالمين. والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

كلمات من نور

   ﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق * ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا أسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين﴾ [الحج: 32- 34].

*        *       *

 

ــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث أخرجه البخاري جـ2 ص15, 36, 37, 38, 40 جـ8 ص92 ومسلم كتاب الاستقاء جـ8 ص9 وابن ماجه حديث 1269 والإمام أحمد جـ3 ص104, 187, 194, 261, 271, جـ4 ص236 ومجمع الزوائد للهيثمي جـ2 ص12.

سلاح المؤمن

   الإنسان المؤمن التقى يلجأ إلى الله في كل أموره, فهو يحرص دائماً على أن يكون على صلة طيبة بخالقه, كما أنه لا يخالف له أمراً, ولا يعصى له فعلاً فيظل عاملاً على نيل رضاء ربه في أوقات النعيم والرخاء, كما هو في أوقات الشدائد والضراء. يأتي في ذلك حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء”(1).

   .. هذا هو ما توصلت إليه تجارب الأمم والشعوب, وهذا هو نتاج ما اهتدى إليه العقل النير والفطرة السليمة, مما يثبت ويؤكد أن التقرب إلى الله سبحانه وتعالى, وطلب رحمته ورضاه, والبر والإحسان إلى كافة مخلوقاته يعتبر من أعظم الأسباب الجالبة للخير, الدافعة للشر, فطاعة الله هي التي تستجلب النعم, ومعصيته – لا قدر الله- هي التي – تدفع بالنقم.

   .. كان هذا, كما ذكرت, خلاصة ما توصلت إليه خبرة شعوب الدنيا رغم اختلاف ألوانها ودياناتها وأعراقها, لذا, من هذا المنطلق.. نعرف أننا كي لا نظل نعانى من كروب الدنيا, علينا أن  نتجه إلى الله بقلب عامر بالثقة بالله, حافل بالاعتقاد العميق بفوائد الدعاء, الذي يعتبر بحق سلاح المؤمن, وعماد الدين, ونور السماوات والأرض, إذ لا يرد القدر إلا بالدعاء. 

   كذلك إذا رغبنا في التمتع بمشاعر السكينة والطمأنينة, وعدم الخوف من كروب الآخرة, علينا آن نتوجه إلى الله بالكثير من الدعاء ونحن مؤمنون ببركته, وبفضل حسن التوجه إليه, سبحانه, الذي يقبل الرجاء, ولا يخيب الأمل, ويجزل العطاء لسعة كرمه, وكمال قدرته.

   لذا, علينا أن نفزع إلى الله, حيث نجد عنده الملجأ والمأوى والملاذ, ونحن واثقين مطلق الثقة في عطفة ورحمته.. وهذه هي أهم أسباب صدق الدعاء.

   فهذا الشعور يعتبر حسن ظن بالله تعالى في تمام الإجابة. وفى حديث أبى هريرة: “أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة وأعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب لاه”(2).

   والدعاء له أوقات وأماكن شريفة, أذكر لكم منها ما يلي: عند البيت الحرام.. في الركن اليماني.. على الصفا.. على عرفات.. في يوم عرفة.. عند نزول المطر.. عند التقاء الصفوف.. في أدبار الصلوات المكتوبات. عند اجتماع المسلمين على الدعاء.. عند إفطار الصائم.. عند الأسحار.. عصر يوم الجمعة – إلى غروب الشمس. بين الآذان والإقامة.. في السجود.. عقب الوضوء.. عند شرب ماء زمزم.. عند السفر في جوف الليل.. والله أعلم.

 ــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك جـ1 ص544.
  • الحديث في اتحاف السادة المتقين جـ5 ص39.

    وعن سرعة استجابة الدعاء إذا أتى من مضطر يستغيث برب السماوات والأرض إليكم تلك الحكاية:

   كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسمه أبو معلق من الأنصار, يتاجر بمال له ولغيره, وكان يضرب به الآفاق, وكان ناسكاً ورعاً, فخرج ذات مرة إلى تجارته فلقيه لص مقنع شاهراً السلاح, فقال له: ضع ما معك, فإني قاتلك. قال الرجل : ما تريد من دمى؟ شأنك بالمال. قال اللص: أما المال فهو لي, ولست أريد إلا دمك. قال التاجر: أما إذا أبيت فدعني أصلى أربع ركعات. قال اللص ساخراً: صل ما بدالك.

   وهناك, توضأ الرجل ثم قام يصلى أربع ركعات, فكان من دعائه في آخر سجوده أن قال: يا ودود.. يا ودود, يا ذا العرش المجيد, يا فعال لما يريد, أسألك بعزك الذي لا يرام, وبملكك الذي لا يضام, وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص. يامغيث أغثني.. يا مغيث أغثني.. يا مغيث أغثني.

   وما أن أنتهي بعد المرة الثالثة من قوله يا مغيث أغثني, حتى ظهر فارس قد أقبل وبيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه, فلما بصر به اللص أقبل نحوه, فطعنه فقتله! تعجب التاجر مما يرى, فأقبل على الفارس يسأل: من أنت بأبي وأمي؟ فقد أغاثني الله بك اليوم.

   فقال الفارس: أنا ملك من أهل السماء الرابعة, دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة, ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة, ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي: دعاء مكروب, فسألت الله أن يوليني قتله. قال الحسن: فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء أستجيب له, مكروباً كان, أو غير مكروب.

   وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر رفع رأسه إلى السماء, وأجتهد في الدعاء, وقال: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث”. وجاء في حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهم فدعا به يفرج الله عليه: “دعاء ذي النون, وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: “دعوة ذي النون” إذ دعا وهو في بطن الحوت: “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين” لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له”. قال الترمذي: حديث صحيح.

 

 

ـــــــــــــــــــ

  • أنظر تفسير القرطبي جـ11 ص334 تفسير الآية 88 من سورة الأنبياء فقد ورد فيها الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

   وقال سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه سمعه وهو يقول: ” هل أدلكم على أسم الله الأعظم”؟ دعاء يونس. قال رجل: يا رسول الله, هل كانت ليونس خاصة؟ فقال: ” ألا تسمع قوله تعالى(1): ﴿فاستجاب له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين﴾ [الأنبياء:88]. فأيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد, وإن برئ منه صار مغفوراً له.

شفانا الله من أمراضنا وأوجاعنا, واستجاب بفضله, سبحانه, دعاءنا. ربنا أعنا على ما يرضيك عنا, وكن لنا ولا تكن علينا.

 

كلمات من نور

    ﴿.. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وارنا منا سكناً وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم﴾ [البقرة: 127, 128].

 

*       *       *   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذاك الإحساس الحافل بالنجاح.. والفلاح!

   ذات ليلة من ليالي الصيف, جلست في سهرة عائلية بسيطة جمعت عدداً من الأهل والأصدقاء الذين يلتقون غالباً في مثل هذا الوقت من السنة.. كل سنة.

   جلسنا نتحدث في أمور عدة, تحول بعضها إلى سرد ذكريات, حفلت ببعض تعليقات تثير المشاعر, وتحرك الإحساس, بما فيها من مواقف صعبة أليمة, ومواقف أخري غريبة, تستحق نوعاً معيناً من النقاش والحوار..!

   مضى الوقت بنا فلم نشعر بتحول هذه الجلسة العاطفية إلى منحنى آخر يتعلق ببعض شئون الحياة, فسألتني إحدى الحاضرات عن أهم الصفات التي يحب أن يتحلى بها الإنسان ليصبح ناجحاً رغم عثرات الحياة.. وسعيداً رغم الآم الحياة!

   أعجبني السؤال..

   فأجبت بعد لمحة تفكير: الإيمان, والأمل, والإحسان.

   وهنا.. سألتني ابنتي الصغيرة: وكيف تحقق هذه الصفات النجاح والسعادة في الحياة؟!

   فقلت موجهة كلامي لها ولهم:

   عندما يؤمن الإنسان بالله نجده يتصف بالصدق, والنزاهة, والثقة.. وهذه هى الصفات التى تجعل الناس تنجذ إليه وترتاح إلى التعامل معه.

   والأمل.. يحقق القوة التى تحرك عزيمة الإنسان, وتشحنه بالصبر, الشجاعة, والإرادة. كما أن الأمل يضفى القوة اللازمة إلى المقاومة.. وبالتالى يستمر من أجل تحقيق النجاح.

   أما الإحسان.. الحافل بالعطف والرحمة, والتواضع والإيثار, فهو يعتبر فضيلة من أعظم الفضائل, فمن تواضع إلى الله رفعه, وهذه الرفعة الإلهية هى نفسها.. تلك النعمة الأساسية التى تحتاجها للإستمتاع بالحياة.

   فالناس التى تتواضع لربها, التى يملأ قبلها يقين عميق بقدرة الله رب العالمين, نجد أنهم ضمن أولئك المؤمنين الطيبين ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هوناً﴾ [الفرقان:63] فهم يجتنبون التكبر, ويمقتون الخيلاء.. كما نجد لديهم قناعة راسخة تجعلهم لا يتطلعون إلى تلك النعم التى متع الله بها غيرهم.

   أيضاً.. نلاحظ أن توقعات هؤلاء الناس الطيبين, غالباً ما تكون قريبة من إمكاناتهم, وإذ أن طلباتهم بسيطة, ممكنة, يسهل تحقيقها وإنجازها.. وهؤلاء هم السعداء حقاً, الذين تراضعوا الله, فرفعهم سبحانه وتعالى عن الضيق.. وعن الهم.. وعن الغم.

   بل إن الله يزيد فى إسعادهم بأن أبعدهم عن الإنشغال بتلك الحروب الأهلية المشتعلة بين الآخرين, كما أنه بقدرته عليهم ينآى بهم عن تلك الحروب الداخلية الآخرى المشتعلة بين الشخص المتمرد.. وبين نفسه!

   هذه هي (الرفعة) وهذه هى المكانة الأعلى التى يرفع الله عباده المؤمنين إليها, حيث يتنعمون بالراحة والسعادة.. وحيث يستمتعون بما تقدمه لهم الحياة من إحساس بالحب والنجاح..

   .. ذاك الإحساس الرائع الذى يتحقق لذلك الشخص المتواضع المحبوب, حلو المعشر, حلو اللسان.. ذاك الإنسان النقى الذي تعلو به أعماله الطيبة, حيث تستقر به في مكانة رفيعة عالية.. داخل قلوب الناس!

كلمات من نور

   ﴿ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً﴾ [الإسراء:37].

 

*       *       * 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حج الراكب.. والماشى

   ذات يوم, خرج إبراهيم بن أدهم من داره, وأنطلق إلى الحج ماشياً فقابله حاج يركب جملاً فقال له: إلى أين يا إبراهيم؟

   فقال: إلى بيت الله الحرام.

   فقال له الراكب: كأنك مجنون تسير من البصرة إلى مكة ماشياً على قدميك؟

  وكان يصلى ركعتين بعد كل مرحلة, فقال له إبراهيم:

  • إنني أركب مطاياً كثيرة ولكنك لا تراها.

فقال: وما هذه المطايا يا إبراهيم؟

قال إبراهيم:

  • إذ أصابتني مصيبة ركبت مطية الصبر, وإذا أنعم الله علي بنعمة ركبت مطية الشكر, فإذا نزل بى قضاء الله وقدره ركبت مطية الرضا, فإذا نازعتنى شهوة قلت لها يا نفسى ما بقى من العمر مقداراً ما مضى.

   فقال له الرجل: إذهب يا إبراهيم فوالله لأنت الراكب وأنا الماشى.

   ..إن كلاهما, ذلك الراكب, وذلك الماشى يسيران نحو بيت الله, يحدوهما الأمل في التوبة إلى الله, والفوز بجنة الله.

   -علام الهم يا هذا؟ إنما الإنسان أمام أربعة لا خامس لها التوبة والبلية والطاعة والمعصية, فمقتضي النعمة الشكر, ومقتضى البلية الصبر, ومقتضى الطاعة المنة, ومفتضى المعصية التوبة.

   هذه الرغبة العميقة في التوبة, هي ذاتها التى تدفع صاحبها إلى الإعتراف بذنبه, والإقرار بخطئه, ومن ثم الوقوف أمام الله, في بيت الله, طامعاً في عفو الله, ورحمة الله, وغفران الله, ولا إله إلا الله.

   نعم.. هذه هى فريضة الحج, أمنية كل مسلم ذكرها الله في كتابه الكريم:﴿وللله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾ [آل عمران:97].

   حمداً لله.. وشكراً لله الذى أنعم علينا بهذه الفريضة الحميدة, تلك التى يتخلى فيها الإنسان عن جميع اختياراته, ليدخل في مرادات الله, مطيعاً أوامر الله, ملبياً مناسك الله.. فينال الفوز بالمغفرة, والعودة من جديد إلى ذاته, فيتعامل حينئذ بأسلوب جديد في حياته, بعد أن أنمحت عنه الذنوب, وتكلل سعيه برضا الله, ورحمة الله وبركة الله.

  عندها.. يمضى الإنسان في حياته, وقد تنعم بصفات أهل الجنة, فلا خوف ولا فزع, بل يهنأ بسكينة النفس, وراحة البال, فيعيش بقلب مطمئن, خال من الهم والغم, وعقل صاف بلا أرق ولا قلق ولا أضطراب والحمد لله.

   هذه هى فعلاً عيئة السعداء, أولئك الذين تقول عنهم السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها:

      سهرت أعين ونـامت عيــون                       لشئـون تكون أولا تكـــون

      فاترك الهم والملال من القلــب                       فحملانـك الهمـوم جنــون 

      إن رباً كفاك بالأمس مــا كـان                      سيكفيك في غد مـا يكــون

 

كلمات من نور

﴿سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم ﴾ [محمد 5, 6].

 

*       *       *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دعاء.. كشف البلاء

   سمعت بعض الناس يقولون : إن أقل الناس هماً في الآخرة أقلهم هماً في الدنيا. كما سمعت البعض الآخر يؤكد ضرورة التخلص أولاً بأول من الهم, وذلك بالنظر إلى مشاكل الحياة الدنيا ومتاعبها نظرة واقعية مجردة, دون عواطف ثائرة, ودون أفكار حائرة, فتصغر حينئذ المشكلة, أيا كان نوع هذه المشكلة!

   هذا واقع, فنحن حين نصبر ونحتمل, نستطيع بفضل الله تبارك وتعالى أن نتعامل بموضوعية مع مفردات المشكلة, تلك التى تظل تصغر إلى أن تتلاشى تماماً وتنتهى. والسبب الرئيسى الذي يعيننا على ذلك هو الاستمرار في ذكر الله وشكر الله على كل حال. فالله سبحانه وتعالى لا يخيب من يرجوه, وهو الذي يجزى بالصبر النجاة, وبالحمد يكشف الضر, ويزيل الكرب.

   .. إليكم دعاء بديع يعين عاى دفع مصاعب الحياة, حين تشتد الأزمة وتبلغ المشكلة أقصى مداها:

   “اللهم أحرسنى بعينك التى لا تنام, وركنك الذى لا يرام, وأغفر لى بقدرتك على لا أهلك وأنت رجائى, رب كم من نعمة أنعمت بها على قل لك عندها شكرى, وكم من بلية ابتليتنى بها قل عندها صبرى, فيا من قل عند نعمته شكرى فلم يحرمنى, ويا من قل عند بلائه صبرى فلم يخذلنى, ويا من رآنى على الخطايا فلم يفضحنى, يا ذا المعروف الذى لا ينقضى أبداً, وياذا النعم التى لا تحصى عدداً أسألك أن تصلى على محمد وعلى آل محمد أبداً, وبك أدراً في نحره, وأعوذ بك من شره, اللهم أعنى على دينى بالدنيا, واعنى على آخرتى بالتقوى وأحفظنى فيما غبت عنه, ولاتكلنى إلى نفسي فبما حضرته يا من لاتضره الذنوب, ولاتنقصه المغفرة أغفر لى ما لا يضرك, وأعطنى ما لا ينقصك, إنك أنت الوهاب أسألك فرجاًً قريباً, وصبراً جميلاً, ورزقاً واسعاً والعافية من جميع البلاء, وشكر العافية”.

   كان هذا بعضاً من الدعاء, الذى هو مخ العبادة.. وهكذا نرى أن الإنسان لو التجأ إلى الله بقلب سليم لعرف كيف يتعامل مع متاعب الحياة الدنيا وبلواها. فقط عليه أن يكثر من الدعاء وأن يوقن بالنجاة, وأن يصبر ويحتسب, وفي ذلك يقول الشاعر:

        ألا بالصبر تبلغ مـا تـريـد                       وبالتقوى يليـن لك الحـديـد

 

 

 

 

  فباللجوء إلى الله, وبالإستمرار في الدعاء والرجاء, تختصر المتاعب, وتتبدد البلايا.. بالذات عندما نحسن الظن بالله, وهذا ما سنعرفه حق معرفته عندما نتأمل معنى هذا الحديث القدسي الشريف الذى يقول الله فيه: “يا ابن آدم تفرغ لعبادتى أملاً قلبك غنى وأملاً يديك رزقاً, يا ابن آدم لا تباعد منى أملاً يديك فقراً, وأملاً يديك شغلاً”(1).

وهنا, نستطيع أن ندرك ذلك المعنى الواسع العميق,, الذى يعطيه الله لنا, وهو المعنى نفسه الذى يوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “من كانت الدنيا إلا ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره, وجعل غناه في قلبه, وآنته الدنيا وهى راغمه”(2).

 

كلمات من نور

   ﴿من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً﴾ [النساء:134].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث في كتاب العلل المتناهية لابن الجوزى جـ2 ص317.
  • الحديث أخرجه الترمذى حديث رقم 2465, واتحاف السادة المتقين شرح علوم الدين للزبيدى جـ10 ص2.

لمن.. تلك الدرجات المائة؟!

   إحساس الإنسان بمتعة المادة, وروعة الرفاهية لا يصل به أبداً إلى الشعور بالرضا والطمأنينة, فالسعادة وراحة القلب لا علاقة لها بمتع الملذات, ولا إشباع الشهوات, لأن هدوء النفس, وسكينة الروح لا علاقة لها بتميز المادة, ولا أساليب الرفاهية, مهما بلغت درجة التمتع بها, أو الإنغماس فيها!

   على الجانب الآخر, نجد أولئك الفقراء المعوذين الذين يعيشون تحت خط الفقر, وحد الكفاف, يتعاملون مع أقسى ظروف الحياة, نجدهم ينعمون براحة البال, وطمأنينة القلب مع أحداث حياتهم الصعبة المتعسرة.. كيف؟!

   بسبب تلك القوة, البالغة القوة, التى يبعثها فى نفوسهم الإيمان المطلق بالله سبحانه وتعالى, لأن الإنسان المؤمن محفوظ بدينه, محمى بيقينه, لاتستدرجه فتنة, ولايرده إبتلاء, حيثإيمانه بانه ما قدر له لابد أن يكون, فهو يسعد بما أعطى, وهو يعمل بقول ربه ﴿نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا﴾ [الزخرف:32].

   والله جل جلاله لا يعرض عن عباده الطائعين, ولايحجب عنهم فضله, بل يسبغ عليهم كريم عطائه بعد أن يرضى عنهم, رضى الله عنهم, ورضوا عنه, ذلك لمن خشى ربه, ومن رضى الله عنه أسعده في الدنيا, وأكرمه في الآخرة, فأعلى منزلته وثبت في الدنيا قدميه, وهداه إلى سبيله, وعرفه وشرفه وأرشده إلى طرق الحق, وطريق الجهاد من أجل الحق.

   والجهاد في سبيل الله يعنى في المعنى الأول.. بذل ما فى الوسع لإعلاء كلمة الله تعالى. وفي المعنى الثاني.. الرباط لدفع العدو عند الهجوم على جماعة المسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن في الجنة مائة درجة عدها الله للمجاهدين في سبيل الله فأسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة”(1).

     وهذا هو المنصور بن أبى عامر الحاكم الأندلسي الذى حكم الأندلس طوال سبعة وعشرين عاماً أعاد خلالها المجد إلى الإسلام عندما حارب الأسبان فيها أثنين وخمسين حرباً هزمهم فيها جميعاً, والذى كان كلما يعود بعد كل معكرة منها ينقض التراب عن ملابس الحرب فى صندوق لينزل منها تراب المعركة, حتى أمتلأ الصندوق كفنه ليلقى الله بتراب الجهاد.

 

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث أخرجع الترمذى حديث 2530 والبيهقى في السنن الكبرى جـ9 ص15, 159 والطبرانى في المعجم الكبير جـ16 ص30 والدر المنشور للسيوطى جـ4 ص254.  

  ذلك هو المنصور بن أبى عامر, ومما روى عنه أنه كان يخطب كل عيد, وقبل أن ينزل من على المنبر يقول: (أيها الناس إنى ذاهب إلى الجهاد في سبيل الله, من أرادني فليحقنى) وينزل من على المنبر فيمسك سيفه, ويركب فرسه, وينطلق في اتجاه الأسبان. وقيل إنه كان قبل أن يصل إلى باب المدينة, يكون الجيش كله خلفه كرجل واحد, حقاً.. هذا هو القائد الحقيقى يبدأ دائماً بنفسه.

   ومن طرائف ما روى عنه أيضاً, أنه كان لا يعقد لواء الحرب إلا في المسجد, مسجد قرطبة في بلاد الأندلس. وكان يخرج منه دائماً إلى الجهاد في سبيل الله, وإعلاء كلمة الله. وحدث ذات يوم, عندما كان يهم بالإستعداد لإحدى المعارك, وبينما هو يعقد اللواء, وقد أجتمع معه داخل المسجد القضاة والعلماء, وبالباب يقف جيشه على أتم استعداد.. تصادف أن أصطدم اللواء “أي العلم” بثريا من قناديل الجامع فأنكسرت ووقع زيتها على اللواء.

   وهنا, تشاءم الحاضرون من ذلك, وتغير وجه المنصور, لكن, قام رجل من الصالحين بسرعة وصاح قائلاً: أبشر يا أمير المؤمنين بمعركة هنيئة وغنيمة سارة. فقد بلغت إعلامك الثريا (أى النجم العالى المرتفع) وسقاها الله من شجرة مباركة. فتفاءل المنصور, وخرج إلى الجهاد حيث حقق الإنتصار بفضل الله.

 

كلمات من نور

   ﴿يا أيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة  تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾             [لصف: 10, 11].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حين يندفعون نحو تحقيق.. حلم حياتهم!

   كل واحد منا يعيش وفى قلبه أمنية غالية, ينام, ويقوم, وهو يحلم بتحقيقها. وبعض النظر عن نوع هذه الأمنية, التي قد تكون مادية, كالمال والثراء مثلاً, أو روحانية كالحج والفوز بالجنة والنجاة من النار إنشاء الله, أو.. أو.. أو.. الخ.. الخ! فأنا هنا لا أتحدث عن نوع الأماني ذاتها, ولا عن سبل تحقيقها, لكنني أتكلم عن طبيعة النفس البشرية, وكيف تظل تحلم دوماً, أن يأتى يوم.. تتحقق فيه ما تصبو إليه.. وتتمناه!

  هنا.. ينقسم الناس إلى فريقين, فريق يصبر وينتظر أن يأتيه الفرج من عند الله بالخير العميم, وفريق لا يستطيع أن يصبر, ولا أن ينتظر, فيسارع إلى تحقيق ما يتمنى, بأى وسيلة كانت, محدثاً نفسه بأن (الغاية تبرر الوسيلة)!!

   لذا.. نرى بعض الناس وقد وقعوا في مستنقع الخطيئة, وارتكبوا ما يغضب الله طلباً لتحقيق أمنية ما, طالما راودت خيالهم, وعبثت بعواطفهم, وأطاحت في النهاية بعقولهم, فأندفعوا في رعونة وطيش نحو تحقيق.. حلم حياتهم!

   وسرعان ما يدفعون ثمن الخطأ, فيندمون حيث.. لا ينفع.. ندم..!!

   هؤلاء البعض, الذي يصيرون عادة عبيداً لأهوائهم, وأطماعهم, هم في الواقع لم يصبروا على إبتلاء الله لهم, بالحرمان مثلاً, من زينة المال, ومتاع الدنيا!

   إنهم فعلاً, لا يعرفون أن الله تبارك وتعالى يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شئ في أفعاله وفي صفاته, فهو سبحانه ما حرمه إلا ليعطيه, ولا أفقره إلا ليغنيه, فالله جل جلاله (ينعم) على عبده بابتلائه, فإن صبر ظفر, وإن تعجل خسر.

   هذا أمر واضح مفهوم, خاصة بالنسبة لأولئك الناس الذين يصبرون ويتقون طمعاً في الفوز بالجنة, والنجاة من النار, فنراهم مطمئنون إلى عطاء الله وفضله, لأنهم يدركون مدى رحمة ربهم, تلك الرحمة التى وسعت السماوات والأرض.

   كما نجدهم يعرفون أن القدر الكريم ما أخرج أبوينا من الجنة إلى ليعيدهما إليها, وذلك كما قيل: “يا آدم لا تجزع من قولى لك اخرج منها, فلك خلقتها سأعيدك إليها”.

   نعم.. إن هؤلاء الناس المؤمنين يعلمون ان وعد الله حق, وأن قول الله حقو وأن امر الله حق. الذين نجدهم صابرين محتسبين, راضين بما قسمه الله لهم, فنجدهم يبتعدون عن السيئة, ويسعون إلى الحسنة إنهم أولئك العابدون, القانطون, الواثقون برحمة الله, العاملون بما يرضى الله, ورسول الله, الداعون إلى طريق الله.. طمعاً في رحمة الله.

   وهذه حكاية واحد من عباد الله, واثق بقدرة الله على عباد الله, هو مالك بن دينار, الذى دخل عليه لص يريد أن يسرقه, فما وجد عنده شيئاً, فناداه مالك: لم تجد شيئاً من متاع الدنيا, أفترغب في شئ من الآخرة؟!

   فقال اللص: نعم, قال: توضأ وصل ركعتين إلى الله.. وأفعل الخير. ففعل اللص ما نصحه به, ثم جلس وخرج إلى المسجد, فسئل: من ذا؟ قال مالك: جاء يسرق.. فسرقناه!

 

كلمات من نور

﴿الحمد لله الذى خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ [الأنعام: 1].

 

*        *       *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ألا يعلم أن..؟!

   انخطف قلبى خطفاً حين طالعت ذلك الخبر المؤسف الذى طالب فيه أحد الكتاب بمجلة (ناشيونال ريفيو) إلى ضرب مكة المكرمة بقنبلة نووية! وذلك كما أكد الكاتب( من شأنه أن يرسل إشارة معينة للمسلمين في شتى أنحاء العالم)!!

   فأى إشارة طائشة تلك التى يريد هذا الكاتب الأحمق إرسالها إلى المسلمين؟! وأى هدف خسيس ذلك الذي يرمى إليه بمقالته الفجة هذه؟ ألا يعرف أن هذا القول الفاسد ما هو إلا خروج عن كل منطق وتجاوز لكل معقول ومقبول؟! ألا يعلم أن مكة المكرمة هى أحب أرض لله إلى الله وأن فيها بيت الله؟!

   ألا يعلم أن هذا البيت هو بيت الواحد الأحد القهار الذى إذا آوى إليه أحد آمنه, وإذا تضرع فيه متضرع استجاب له؟! لانه مكان مبارك فيه رحمة وهدى للعالمين؟!

   ألا أن هذا البيت المبارك قد جعله الله حرماً آمناً لعباده؟ فها هو سيدنا آدم عليه السلام يعيش حوله هو وزوجته وأولاده, حيث كان يقوم بتبليغ رسالة ربه, فأخذ يعلمهم ويرشدهم, وينظم حياتهم, ويكل إلى كل منهم ما يناسبه من عمل.

   وها هو سيدنا إسماعيل عليه السلام يصحبه أبوه إبراهيم متجهاً به هو وأمه من فلسطين إلى الوادى الذى قامت فيه مكة فيما بعد, وكان وادياً قفراً غير ذى زرع, حيث تركهما هناك منفذاً ما اوحى إليه ربه.

   هكذا.. ترك إبراهيم ولده ليربيه الله, عند ذلك الموقع الذى بنى فيه بيت الله, حيث نشأ وشب هناك تحت رعاية الله.

   أما سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقد ولد ونشأ وتربى وبعث في بيت الله الحرام, ليكون رحمة للعاملين ﴿وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء:107] فقد حرص عليه الصلاة والسلام عظيماً, مصحوباً بالحنو والحنان على أمة المسلمين, فهو النعمة المهداة, والرحمة المسداة, والسراج المنير.

   إليكم دعاء يتجه به نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الله راجياً الصالح العام للمسلمين في العالمين: “اللهم أدخل على قلوب المسلمين السرور, اللهم أغن منهم كل فقير, اللهم أشبع كل جائع, اللهم أكسو كل عار, اللهم رد كل غائب, اللهم فك كل أسير, اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين, اللهم أشف كل مريض, اللهم أدى الدين عن كل مدين, اللهم فرج عن كل مكروب”(1).

آمين يارب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الحاكم في المستدر جـ1 ص 515, مجمع الزوائد للهيثمى جـ10 ص186 بمعناه.

   .. اللهم أصلح أحوال المسلمين, وأنصرهم على أعداء الدين, ورد عنهم كيد الكائدين وأجعلهم ياربنا سعداء الدارين, وأدفع عنهم عدوان الظالمين, وبارك لهم في أرزاقهم, وأسعد قلوبهم, وفرج عنهم كروبهم بحق دعاء نبيك محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

 

كلمات من نور

﴿وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود﴾ [البقرة:125].

 

*       *      *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صيام الخواص

   لم يحدث في أي عصر من العصور على مدى الزمان, أن عظم الكفار معبوداً لهم بالصيام! فقد كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والركوع والصدقة, وغير ذلك كثير كثير.. لماذا؟! أقصد.. لماذا لم يلجأ  الكفار إلى الصيام كوسيلة للتقرب من آلهتهم, وإظهار محبتهم لهم وتقديرهم؟!

   السبب بسيط, وهو أن الصوم في حقيقته بعيد كل البعد عن الرياء, فهو عبادة خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما في الصدور والغيوب, ففي الواقع كلما كانت العبادة أخفى, كان الثواب أجزل, لأن العبادة تتمركز هنا في محور النية.

   “إنما الأعمال بالنيات”.. فالأعمال تقاس بدوافعها, وتوزن ببواعثها, لأن قيمة الفعل تكمن في الدافع إليه, والباعث عليه, فإذا سمت الدوافع والبواعث, عظمت الأعمال مهما كان حجمها ضئيلاً, وإذا كان الدافع تافهاً حقيراً, فقد العمل رونقه, وذهبت قيمته, بل حبط ثوابه مهما كان في نظر العين عظيماً مهيباً.

   لذا نجد أن ذلك المسلم الفطن الحصيف هو الذي يغتنم فرصة الصوم في شهر رمضان فيحرص على أن يكون صيامه “صيام الخواص” أي أن يكون صوماً خاصاً خالصاً, بعيداً كل البعد عن أنواع المعاصي, فلا يكون صومه مجرد عملية روتينية ينقطع خلالها عن تناول الطعام والشراب!

   لا.. إنما عليه أن يقدر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإمام أبي أمامه لما سألوه: يا رسول الله مرني بأمر آخذه عنك فقال: “عليك بالصوم فإنه لا عدل له” وفي رواية: “لا مثل له”(1).

   ولهذا المعني العظيم يوضحه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ضاعف الله تعالى ثواب الصائمين, والكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء, أقتضى ذلك عظم قدر الجزاء, وسعة العطاء, وهذا دليل أكيد على مدى قيمة الصوم عند الله سبحانه وتعالى.

 

 

 

ــــــــــــــــــــ

(1)الحديث أخرجه الإمام جـ5 ص249 رحلية الأولياء جـ5 ص175, جـ7 ص165, 166.

 

       لا شك أن من كريم فضل الله على أمة محمد صلوات الله عليه أن هداها إلى الطاعات, ثم أثابها على ذلك بأكرم الحسنات والمعطيات, فلولا هداية ما اهتدينا, ولا صلينا ولا صمنا, فحمداً لله الذي هدانا إلى طريق الخير والصلاح, ونور قلوبنا بنوره الوضاح, وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم”(1).

   فالله سبحانه وتعالى, لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم, وهو يعين عبده الذي يسعى ويتجه إليه برغبة صادقة, رغم مغريات الدنيا, ومهاوي الضعف والفتنة, يقول أحد الحكماء:

   كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه, وولد لا يعذره, وجار لا يأمنه, وصاحب لا ينصحه, وشريك لا ينصفه, وعدو لاينام عن معاداته, ونفس أمارة بالسوء, ودنيا متزينة, وهوى يردى, وشهوة غالبة له, وغضب قاهر, وشيطان مزين, وضعف أستولي عليه؟ فإن تولاه الله وجذبه إليه أنقهرت له هذه كلها, وأن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهالكة.

   وقانا الله وإياكم شر الشياطين, وجعلنا من أهل التقوى والدين, أولئك المهتدين الطامعين في جنات النعيم.. آمين يارب العالمين.  

 

كلمات من نور

   ﴿الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى* ولسوف يرضى﴾ [الليل: 18-21].

 

*       *      *    

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة والطبراني في المعجم الكبير جـ3 ص338 ومجمع الزوائد جـ10 ص231.

بين الإنسان والشيطان..!

   فتح آدم عينيه بعد أن نفخ الله فيه الروح فإذا به يجد أعظم تكريم.. رأى الملائكة ساجدين له, لكنه وجد عدواً رهيباً يتهدده وذريته بالضلال والهلاك..! من هنا بدأت تلك العداوة العنيفة التي يعود تاريخها إلى اليوم الذي شكل الله فيه آدم قبل أن ينفخ فيه الروح فأخذ الشيطان يطوف به ويقول: لئن سلطت عليك لأهلكتك. وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقاً لا يتماسك)(1).

   وبسبب آدم..طرد الشيطان من جنة الخلد لأنه رفض أن يسجد له استعلاء وتكبراً, لكنه حصل على وعد من الله أن يبقيه حياً إلى يوم القيامة: ﴿قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين﴾ [الأعراف الآيتان: 14, 15].

   وبدأت العداوة تأخذ مجراها فقد قطع إبليس اللعين على نفسه عهداً بإضلال بنى أدم والكيد لهم لأنه يرى أن طرده ولعنه وإخراجه من الجنة كان بسبب أبينا آدم فكان لابد أن ينتقم من آدم ومن ذريته من بعده, قال تعالى: ﴿قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين﴾ [الأعراف: 16, 17].

   لذا حذرنا الله وتعالى من الشيطان ونبهنا إلى مهارته في الإضلال وحرصه على ذلك. قال تعالى: ﴿يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان…﴾ [الأعراف: الآية 27].

   فهدف الشيطان هو أن يلقى الإنسان في جحيم جهنم, وهذا هو الهدف البعيد الذي يسعى إليه الشيطان بكل الوسائل والسبل, لكن هذا لا يمنع أن لديه أهدافاً أخري قريبة يعمل على تحقيقها بشتى الطرق كأن يوقع العباد في الشرك والكفر والعياذ بالله: ﴿كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك﴾ [الحشر: الآية16].

   هكذا, يظل الشيطان يحاول ويحاول, حتى إذا لم يستطع إيقاع الإنسان في شر الذنوب والمعاصي, ونشر العداوة والبغضاء بين الناس, وإغراء بعضهم ببعض, وإثارة أطماع بعضهم في بعض حتى تنشب بينهم الفتن والمعارك والحروب قال تعالى : ﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء﴾ [المائدة : الآية 19].

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة باب 31 حديث رقم 111 جـ3 ص229 والمستدرك على الصحيحيين للحاكم كتاب التفسير جـ2 ص542.

   يحكى أن امرأة كانت تجتهد في العبادة وتديم الصيام وتطيل القيام فأتاها إبليس الملعون فقال: إلى كم تعذبين هذا الجسم  وهذه الروح؟ لو أفطرت وقعدت عن الصيام والقيام كان أدوم لك وأقوى قالت: فلم يزل يوسوس لي حتى هممت والله بالتقصير قالت: ثم دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بين المغرب والعشاء فحمدت الله وصليت على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت ما نزل بي من وسواس الشيطان واستغفرت وجعلت أدعو الله أن يصرف عنى كيده ووساوسه, قالت فسمعت صوتاً من ناحية القبر يقول ﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير﴾ [فاطر:6] قالت فرجعت مذعورة وجلة القلب وما عاودتني تلك الوسوسة بعد هذه الليلة.

   والشيطان لا يدع سبيلاً من سبل الخير إلا قعد يصد الناس عنه, وهو في الواقع لا يقنع ولا يكتفي بنشر العداوة والبغضاء بين الناس, بل أنه يظل يحاول أن يفسد عليهم حياتهم بسوء المعاملة والظن والريبة والشك. كما أنه يحاول أن يصرف العابد عن عبادته, والمؤمن عن طاعة الله, كي يحرمهم الأجر والثواب.

   حول هذا الموضوع ذهب أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال له: إن الشيطان قد حال بيني وبين صلات وقراءتي يلبسها علي.

   فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ذلك شيطان يقال له: خنذب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً” قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عنى (1).

   وفي الحقيقة.. الشيطان عدو ذو مكر وحيلة ودهاء, عدو مدرب خير تدريب منذ أمد بعيد, كما أنه يضع الخطط للمعارك التي يشنها مع بنى الإنسان, وله معاونوه وجنوده وجيوشه الذين ينطلقون في مختلف الاتجاهات.. وهو يثنى على الذين يحسنون ويجيدون الإضلال والفتنة بين الناس, وأقربهم مكانة  ومنزلة عنده هؤلاء الذين يفرقون بين المرء وأهله.

   أيضاً, الشيطان له جنود وأعوان من الجن يرسلهم على العباد راكبين أو راجلين يحركونهم نحو الشر تحريكاً: ﴿واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك..﴾ [الإسراء: الآية 64]. كما أن له جنوداً من بنى الإنسان ممن يؤمنون به يسخرهم لخدمة أغراضه وأهدافه التي لا تنتهي إلا بإيقاع الأذى والخراب لمن يضعف وينهزم أمامه.

ـــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه ابن أبى شيبه في مصنفه كتاب الطب جـ7 ص419 واتحاف السادة المتقين بشرح علوم الدين للزبيد جـ7 ص268.

   لكن, من رحمة الله بعبادة أولئك المؤمنون بالله واليوم الآخر أن جعل لهم قوة تدفع عنهم كيد الشيطان, وهى الاحتماء بالله العلى العظيم والاستعاذة به من الشيطان وأعوانه.. حقاً ﴿.. إن كيد الشيطان كان ضعيفاً﴾ [النساء: آية76].

   ونحن لا يجب أن ننسى ذكر الله عند دخول البيت, فالشيطان لا يستطيع أن يدخل من باب ذكر عليه اسم الله, وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله حين يدخل وحين يطعم قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء هنا وإن دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال: “أدركتم المبيت وإن لم يذكر اسم الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء”(1). صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

كلمات من نور

﴿قال أهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتيكم منى هداي فلا يضل ولا يشقى﴾ [طه:123].

 

*      *      *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الأشربة باب 103 وأبو داوود في سننه حديث 3765 وابن ماجه في كتاب الدعاء جـ2 ص1279 حديث رقم3887 تحقيق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي.

دعاء آدم.. ينزع الفقر نزعاً!

   روى أنه أوحى الله تعالى إلى سيدنا آدم: “يا آدم إنك إن دعوتني دعاء استجيب لك منك, وغفرت ذنوبك, وفرجت همومك وغمومك, ولن يدعو به أحد من ذريتك من بعدك إلا فعلت ذلك به, ونزعت الفقر من بين عينيه, واتجرت له من وراء كل تاجر, وأتته الدنيا وهى كارهة وإن لم يردها”.

  وهذا هو الدعاء الذي استجابه الله عندما دعا به أدم حين كان موجوداً خلف المقام, أى في المكان نفسه الذى وضع فيه المقام فيما بعد والله أعلم:

   “اللهم إنك تعلم سرى وعلانيتى فأقبل معذرتى, وتعلم حاجتى فأعطنى سؤالى, وتعلم ما فى نفسي فأغفر لى ذنوبي”.

  “اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبى, ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبنى إلا ما كتبت لي, ورضا بما قسمت لي يا أرحم الراحمين”(1).

   وهكذا, منذ خلق الله آدم, والدعاء خلف المقام مستجاب, بإذن الله.

   روى الفاكهى عن سفيان قال: سمعت إعرابياً عند مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول:

   “اللهم لا تحرمنى خير ما عندك لشر ما عندى, اللهم إن كنت لم تقبل تعبى ولا نصبي, فأعطنى أجر المصاب على مصيبته”.

   “اللهم إن لك عندى حقوقاً, فأسألك أن تهبها لى, وأن للناس عندى تبعات فأسألك أن تحملها عنى, ولكل ضيف قرى, فأجعل قراي في هذه العيشة الجنة”.

   .. هذه هى بعض دعوات المصلين خلف المقام, ذلك المقام الكريم الذي وقف عليه إبراهيم الخليل نبى الله, بينما كان يقوم ببناء بيت الله. وكان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قدوة في صفاته الحميدة, وأخلاقه المجيدة, فقد كان حنيفاً مسلماً “وما كان من المشركين” بل كان خاشعاً لله, شاكراً لنعم الله الذى نجاه من النار ﴿قلنا يا نار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم﴾ [الأنبياء:69].

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص172 بلفظ مقارب للحديث الذى معنا.

   وهكذا, جاءت الآيات تتالي واحدة تلو الآخرى, آيات تثبت وتؤكد أن المقام الذى وقف عليه إبراهيم نبى الله حين كان يدعو إلى الحج, هو المقام نفسه الذي ظل قبله إلى ما شاء الله, منذ قام سيدنا إبراهيم يصلى إليه مستقبلاً باب بيت الله, والذى قال عنه سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة, ولولا أن طمس الله على نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب”(1).

   عن أبن عمر رضي الله عنهما, أنه كان إذا قدم حاجاً يصلى ركعتين عند المقام, ويقول مراراً طالباً حاجته:

   “اللهم أعصمنى بدينك وطاعتك, طواعية رسولك صلى الله عليه وسلم, اللهم جنبني حدودك, اللهم أجعلنى ممن يحبك ويحب ملائكتك, ويحب رسلك, ويحب عبادك الصالحين. اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين, اللهم يسر لي اليسرى, وجنبنى العسرى, وأغفر لي في الآخرة والاولى اللهم أجعلنى أوفي بعهدك الذي عاهدت عليه, وأجعلني من أئمة المتقين, ومن ورثة جنة النعيم, وأغفر لي خطيئتى يوم الدين”.

 

كلمات من نور

﴿قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده﴾ [الممتحنة:4].

 

*     *     *

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البيهقى في السنن الكبرى جـ5 ص75 والحاكم في المستدرك على الصحيحيين ص456, واتحاف السادة المتقين بشرح علوم الدين للزبيدى جـ4 ص276.

..عام الوداع!

   رغم برودة الأجواء.. إلا أن شمس الشتاء أحياناً تمنحنى إحساساً رائعاً بالدفء والإنتعاش, فكم أحب أن أطالع كتاباً والشمس تحيطنى بنورها في ذلك الوقت القارس البرد, اللاسع الهواء, ورغم البرد القاسى, إلا إنني أجلس استمتع بصحبة كتاب, وأناس, وأزمان.. أعيش معهم بحب أتجول بينهم بشغف واشتياق..

   إليكم بعض ما قرأت:

   قال ابن عباس: لما نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم ” إذا جاء نصر الله والفتح” [سورة الفتح] نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه, فأخذ في أشد ما كان إجتهاداً في أمر الآخرة. قالت أم سلمة: كان النبى صلى الله عليه وسلم في آخرة أمره لا يقوم ولا قعد ولا يذهب ولايجئ إلا قال: “سبحان الله وبحمده” فذكرت ذلك له, فقال: “إني أمرت بذلك”.

   وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعتكف في كل عام في رمضان عشراً, ويعرض القرآن عل جبريل مرة, فاعتكف في ذلك العام عشرين يوماً وعرض القرآن مرتين, وكان يقول: ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلى, ثم حج حجة الوداع وقال للناس : “خذوا عنى مناسككم فلعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا”(1) وطفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع له, ثم رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله إليها, وقال: “أيها الناس إنما أن بشر يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب” ثم أمر بالتمسك بكتاب الله, ثم توفى صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة بقليل.

   هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, يؤمر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان فكيف يكون حال المسئ الظالم نفسه؟!

   قال لقمان لإبنه: يا بنى لاتؤخر التوبة, فأن الموت يأتى بغتة, وقال بعض الحكماء: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل, ويؤخر التوبة لطول الأمل..

       ألسنا نرى شهوات النفوس

                                          تفنى وتبقى علينا الذنوب؟

      يخاف على نفسه من يتوب

                                          فكيف يكون حال من لا يتوب؟

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه البيهقى في السنن الكبرى جـ5 ص125 وفتح البارى بشرح صحيح البخاري جـ1 ص183, 410 وجـ3 ص5, وجـ5 ص 85 والبداية والنهاية لأبن الأثير جـ5 ص 184و215.

   وهذا هو دعاء في طلب التوبة لأحد الصالحين: (اللهم أجعل لي عندك زلفى وحسن مآب وأجعلنى مما يخاف مقامك ووعيدك ويرجو لقائك وأجعلنى آتوب إليك توبة نصوح وأجعل لي عملاً متقبلاً وسعياً وتجارة لن تبور.

   والتوبة النصوح هي التى يمن الله بها على عبده فلا يعود إلى المعاصى أبداً, ويظل في طاعة حتى نهاية عمره.

   نعم.. إن الأعمال بالخواتيم, ففي الحديث: “إذا أراد الله بعبد خيراً تمسك قالوا: وما تمسكه؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه”.

   عن عبد الله بن عمرو بن العاص, قال: من تاب قبل موته عاماً تيب عليه, ومن تاب قبل موته شهراً تيب عليه, حتى قال يوماً, حتى قال ساعة, حتى قال فراقاً “وهى المسافة التي بين الحلبتين” قال: قال له إنسان : أرأيت إن كان مشركاً فأسلم؟ قال: إنما أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).

   قال صلى الله عليه وسلم في دعاء مأثور: “اللهم أجعل خير عملى خاتمته وخير عمرى آخره”(2).

 

كلمات من نور

﴿رب أجعلنى مقيم الصلاة ومن ذريتى ربنا وتقبل دعاء * ربنا أغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب﴾ [إبراهيم 39 :41].

 

 *      *      *

 

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ مقارب جـ2 ص206 واتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين جـ8 ص525.
  • الحديث في مجمع الزوائد جـ10 ص110 وفي كشف لخفا حديث رقم2154.

 

تلك الرحلة الروحية الربانية

   في لحظة واحدة.. انمحت حدود الزمان والمكان. في لمحة واحدة اختفت الحجب التى تحدد قدراتنا المحدودة في هذه الحياة الدنيا المحدودة.. في ساعة واحدة تداعت الحدود أمام بصيرة محمد صلى الله عليه وسلم.. واجتمع الكون كله في روحه!

  هنا.. عجز من اتبعوا محمداً عن استيعاب هذا الحدث! فالطبائع الإنسانية لا تستطيع أن تستوعب ذلك السمو الروحانى, لذا لم يتمكنوا من متابعته في سمو فكرته, وقوة إحاطته بوحدة الكون قال تعالى: ﴿وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس﴾ بالإسراء:60].

   فنحن عندما تعجز قوانا عن تخطي حدود قدراتنا البشرية.. نعجز بالتالي عن الأمور فتضللنا عن ماهية الحقيقة.. وكيف يمكن أن نفهمها كما هي!!

   إليكم تلك الحكاية التى توضح بعضاً مما يدور في رأسي حول هذا الموضوع. بالطبع مع الفارق في التفسير, وإن كان المغزى موجوداً, وهو, عندما لا نستطيع أن نلم بالحقيقة كاملة, لعدم قدرتنا على رؤيتها, أو إدراكها, فإننا نفسر ما نجد أمامنا.. بما تستطيعه قدراتنا.. وإمكاناتنا.

   .. يحكى أن أربعة من المكفوفين التقوا يوماً حول فيل ضخم, فأرادوا أن يعرفوا الفيل.. ما هو؟!

   فقال أحدهم: أنه حبل طويلو لأنه صادف ذنبه, أى ذيله. في حين قال الآخر: إنه مدبب كالرمح لأنه صادف سنه. بينما قال الرابع: إنه مستدير ملتو كثير الحركة لأنه صادف خرطومه!

   هذه الحكاية البسيطة, تفسر لماذا انقسمت الآراء عند العرب آنذاك, حول رحلة الإسراء والمعراج, فيما إذا كانت تمت بالروح وحدها.. أم بالروح والجسد؟!

   والعلم الحديث يقر الإسراء بالروح, والمعراج بالروح, فها هى قراءة الأفكار, وها هو انتقال الأصوات عبر الأثير, وها هي طريقة انتقال الصور والمكتوبات كذلك.. مما كان يعتبر قديماً ضرباً من الخيال واللامعقول!

   لكن.. هناك أدلة تثبت أن الإسراء تم بالروح والجسد معاً, لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف لأهل قريش عيراً مر بها في الطريق, فضلت إحداها فدلهم عليها, وأنه شرب من عير آخرى وغطي الإناء بعد أن شرب منه, فسألت قريش في ذلك فصدقت العيران ما روى محمد عنهما.

   حقيقة.. إن قدرة الله سبحانه وتعالى لا حدود لها.. صدق الله العظيم إذ قال :﴿سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا ﴾ [الإسراء:1].

  

 

   نعم.. إن هذا فضل من اله اختص به نبيه وحبيبه بهذه الرحلة الروحية التي أراد أن يسرى بها عما في نفسه من آلام وأحزان, فلم يقف أمامه حينئذ حجاب من الزمان أو المكان, أو غيرهما من الحجب حين أرتفع الله به حتى زصل إلى سدرة المنتهى.. حيث رأى ما رأى, مما لاتناله الاوهام, ولاتبلغه الخواطر, مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولاخطر على قلب بشر!!

  

كلمات من نور

﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ [البقرة:285].

 

*     *    *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث عن ذلك الشعور المفقود!

   أحياناً تلم بنا لحظة تأمل, لسبب ما لا ندري كنهه.. أحياناً أخرى تداهمنا لحظة حزن أشبه بالحداد على ما كان وفات فنبدأ في الحال النظر إلى ما مضى من شريط حياتنا, ومن ثم نبدأ نعيد ترتيب أوراقنا, فيستغرقنا تفكير جديد, ربما يطرأ على بالنا لأول مرة! فنعاود النظر – من جديد – دخال أنفسنا, ونحن نعد دقات قلوبنا خوفاً وهلعاً مما كان, وقلقاً وخرفاً مما سيكون..!

   وهكذا, نظل نأمل ونرجو الحصول على صفحة جديدة ناصعة, صفحة ناجية من دموع الحسرة والندم, والتوتر والألم, صفحة نقية نظل نحرص كل الحرص على صقلها وصفائها, لأننا في الواقع نبدأ عندئذ البحث عن ذلك الشعور المفقود.. الشعور بالأمن, والأمان. ذلك الشعور العظيم الذى لا ينبع إلا من نبع واحد.. نبع الإيمان بالله, الذى ينجينا من سخط الله, وغضب الله. والعياذ بالله.

   عندئذ.. تتلاطم داخلنا العواطف, فتختلط مشاعر الخوف بالأمل, ويمتزج الرجاء بالإنتظار, ومن ثم تظهر أحاسيس جديدة تطرأ فجأة, وكأنما أنفجر داخلنا بركان, فيطفو الدم, ويسيل الحزن, وشيئاً فشيئاً تنشط أفكار أخرى غير عادية, أفكار تدور في معظمها حول محور التوبة والرجوع إلى الله, أملاً في دخول الجنة, طمعاً في النجاة من النار ﴿وفي ذلك فليتنافس المتنافسون﴾ [المطففين :29].

   .. وما أن نصل إلى تلك المرحلة الحاسمة من التفكير حتى تبدأ تتفتح أمامنا أبواب الرحمة ذاتها, فالله غفور رحيم, وما أن يشعر الإنسان بحاجته إلى المغفرة, حتى تدركه رحمة الله واسع المغفرة, فالله غفور رحيم, والله سبحانه وتعالي يقول في حديثه القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي” فننطلق حينذاك نحو بوابة هذا الأمل العظيم, ونحن نحرص كل الحرص على صدق القول, وحسن العمل, وقبل ذلك كله حسن الظن بالله الذي لا يخيب من يلجأ إليه, فيغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ﴿إن ذلك على الله يسير﴾ [العنكبوت:19].

   .. فمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر, ويعمل على طاعته وينته إلى أمره ونهيه, يغفر الله ذنوبه عنه ذنوبه ﴿يغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم﴾ [آل عمران :31] ويدخله جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبداً, لايموتون, ولا يخرجون منها, وذلك هو الفوز العظيم.

   نعم.. هذا هو الفوز العظيم الذي لا يتأتي لنا إلا بأن نحب الله ورسوله. وفى هذا قال الحسن البصرى وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله, فأبتلاهم الله بهذه الآية: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله﴾ [آل عمران:31] أى إن هذا الحب لا يحصل إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في ذلك سهل ابن عبد الله:

 

    علامة حب الله: حب القرآن.

    علامة حب القرآن: حب النبي صلى الله عليه وسلم.

    وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم: حب السنة.

    وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة: حب الآخرة.

    وعلامة حب الآخرة: أن يحب نفسه.

    وعلامة حب نفسه: أن يبغض الدنيا.

    وعلامة بغض الدنيا: ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة أى ما يتبلغ به.

   وهكذا.. يقنع المؤمن بحاله, ويرضى بنصيبه, ولايطمع إلا فيما قسم الله له, فينصلح باله, وهي نعمة كبرى من نعم الإيمان. نعمة ذات قدر وقيمة وأثر. فها هي ظلال الرشا والطمأنينة والراحة والسكينة تتبدي على الذات, فيرتاح القلب ويسكن الضمير, وتهدأ الأعصاب, وترضى النفس وتقنع.. فيستمتع حينئذ الإنسان بالأمن والسلام.

   وهذه هي قمة الشعور بالأمان, النابع رأساً من عمق الإيمان.

 

كلمات من نور

  ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم﴾ [محمد:2].

 

*        *       *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحجر الأنصع سواداً!

   من منا لا يتمني الرحمة والمغفرة من الله خالق السماوات والأرض؟! ومن منا لا يحب أن تحذف أخطاؤه, وتمحى ذنوبه, ويعود ثانية كيوم ولدته أمه؟! من منا لا يريد أن يحظي بذلك العطاء, خاصة وأننا نري أحوال الدنيا حافلة بكل ما هو مفجع ومحزن ومثير للخوف والقلق؟!

   ألا يجدربنا أن نصحح فعلاً أوضاعنا عملاً بقول الله سبحانه وتعالي: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين﴾ [آل عمران: 133].

   أعتقد أننا كلنا نتمني ذلك, وها هي الطريق واسعة ممهدة للعودة إلى الله بالتوبة والإنابة, وطلب الرحمة والإكثار من الدعاء, وها هي ( العمرة كفارة لما بينهما)(1) صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وها نحن ننتقل الآن إلى الكعبة المشرفة, حيث نرى الناس يتزاحمون حول الحجر الأسود, اقتداء بقول رسول الله عنهما ” أن جبريل عليه السلام وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار, فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ” ما هذا الغبار الذي أرى على عصابتك أيها الروح الأمين؟ قال: إني رأيت البيت فأزدحمت الملائكة على الركن, فهذا الغبار الذي ترى مما تثير بأجنحتها”(2).

   إذن.. ما هو هذا الحجر الأسود الذي يحظى بكل هذه المكانة حتى تتزاحم حوله الملائكة؟!

   ..إنه حجر نزل من الجنة, وهو مودع بأمر الله لنبيه إبراهيم الخليل في الركن الجنوبي الشرقي من الكعبة الذي يبتدأ منه الطواف, وكان لونه أبيض من الثلج, وأنصع من الحليب. لكن, سودته خطايا المشركين, وهو مغروس في بناء الكعبة المشرفة, وطوله حوالى ذراع, ومازال لونه أبيض إلا رأسه الذي أسود.

   وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحجر في مكانه حيث هو – لا يزال – وكان ذلك في يوم مبارك هو يوم الاثنين, فقد روى الإمام أحمد وغيره عن أبن عباس رضي الله عنهما قال: ” ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين, واستنبئ يوم الاثنين, وتوفي يوم الاثنين, وقدم المدينة يوم الاثنين, ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين”.

   روى الإمام الشافعي – رحمة الله – قال: أخبرت أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا الحجر؟   

 

 

 

ــــــــــــــــ

  • أخرجه الإمام مالك في موآه حديث 346.
  • الحديث في الدر المنثور للسيوطي جـ1 ص132.

قال: “قولوا: بسم الله والله أكبر, وإيماناً بالله وتصديقاً بما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم “.

كلمات من نور

﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنظل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أوليؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ﴾ [فصلت: 30-31].

 

 

*        *       *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة البيضاء

   أحياناً يحلو لى أن أحادث نفسي بما يجول في خاطري.. فجلست ذات يوم من أيام الشتاء البارد استمتع بدفء مصباح قريب من وجهى, وأخذت أكتب على ضوئه ما يفيض به الله على من أفكار..

   نظرت إلى ضوء المصباح الحاني الذي يفترش مكتبي في آنس وبهاء, ثم نظرت إلى تلك الصفحة البيضاء التي تربض ياكنة أمامي بإنتظار ما يجود به قلمى من أحرف وكلمات..

   ثم عاودت النظر مرة آخرى.. بتمعن أعمق هذه المرة. وأنا أسائل نفسي, في صمت مطبق, وهدوء ساكن: ماذا يمكن أن يفعل الإنسان ليحظى آخر حياته بمثل هذه الصفحة البيضاء؟! ألا يدعو الناس قائلين: اللهم بيض صفحاتنا؟! ألا يطلبون ضارعين : اللهم أمحو ذنوبنا؟!

   يا الله!

   كيف نستطيع حقاً أن نظفر بمثل هذه الصفحة البيضاء؟! وهنا.. خطر ببالي هذا السؤال: لماذا لانقتدى بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولنا فيه القدوة والأسوة؟! ألم يكن رسول الله صلوات الله عليه وسلامه على خلق عظيم؟!

   وفي الحال, تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم “أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له”(1).

   فها هي شهوة الطعام مثلاً, ترى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاومها, بل يقومها, فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا, ولو شئنا لشبعنا, ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا(2).

   وذات يوم, نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف, فلم يجد عند أهله شيئاً, فدخل عليه رجل من الأنصار, فذهب بالضيف إلى أهله, ثم وضع بين يديه الطعام, وأمر امرآته ان تطفئ السراج, وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل, وهو في الحقيقة لا يأكل, وفعل ذلك حتى أكل الضيف وشبع.

ـــــــــــــــــــــ

  • الحديث في كنز العمال حديث 43112.
  • الحديث أخرجه الترمذى حديث رقم 2358 وابن ماجه حديث 3343.
  • الحديث أورده القرطبي في جـ18 ص24, طبع بيروت. في تفسير الآية 9 من سورة الحشر.

   وفي صباح اليوم التالي, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد عجب الله من صنيعكم الليلة إلى ضيفكم” وهنا(3) ..نزلت تلك الآية ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ [الحشر:9].

  حقاً.. إن السخاء خلق عظيم, وهو صفة من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ قال فيه الله تبارك وتعالي : ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [القلم:4]. 

  إليكم هذه الحكاية التي تثبت أحداثها قيمة السخاء كخلق عظيم حقاً:

  خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه, فدخل الحائط كلب واقترب من الغلام, فرمي إليه بقرص فأكله, ثم رمى إليه الثانى, والثالث فأكله.. وكان عبد الله ينظر إليه, فقال له: يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت الكلب؟ فقال الغلام: ما هى بأرض كلاب, إنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً, فكرهت أن أشبع وهو جائع!

   فسأله عبد الله: وماذا أنت تصنع اليوم؟ قال: أطوى يومي هذا. فقال عبد الله لنفسه: إن هذا الغلام لأسخى منى, فأشترى الحائط والغلام.. ووهبه له.

 

كلمات من نور

   ﴿إن الأبرار لفى نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون﴾        [المطففين : 16 : 22].

 

*       *      *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصبر.. سلاح

   كل لحظة في الحياة تأتي بجديد.. وكل ساعة يتبدل فيها الحال, والإنسان يعايش هذا التغيير ﴿كل يوم هو في شأن﴾ [الرحمن:29] وهو معرض دوماً لتلقى صدمات ومفاجأت تقض مضجعه.. وتؤرق راحنه!

   ففي الحقيقة.. خلق الله الإنسان في كبد, فها نحن نجد أنفسنا في سراع ضد تيارات عنيفة عاتية, تأتي أحياناً في شراسة الاعاصير, وضرارة الفيضانات, وعلى الرغم من ذلك الخطر نجد أن البعض يفلح في النجاة والعيش بسلام!! كيف؟

   في ذلك؟! ..

   نعم.. كيف أفلح في ذلك؟! .. لأن هذ البعض المحنك عرف حكمة الحياة, فتعامل مع الأحداث بصبر وضبط نفس, وهدوء وسيطرة على الأعصاب, وهذا هو السلاح الوحيد المستمد من ذخيرة الإيمان العميق بقدرة الله ﴿وكان ربك قديراً﴾ [الفرقان :54] وهي تلك القدرة التى لا يعادلها شئ.

   من هذا المنطلق.. تتعامل النفس المؤمنة الراضية مع الواقع, فتساير الحياة بسلام وفي داخلها أمل وتفاؤل دون يأس أو تخاذل, وبالتالي.. تتخطي عقبات الدنيا مهما بلغت صعوبتها.. ونتعايش بشرك وامتنان مع الظروف الحسنة طلباً لدوامها واستمراريتها.

   هكذا نلحظ كيف أن الصبر والشكر ركيزتان أساسيتان في تعامل الإنسان مع الحياة. وفي ذلك حكى أبو الفرج الجوزى ثلاثة أقوال, أحدهما: ان الصبر أفضل , والثاني أن الشكر أفضل, والثالث: أنهما سواء, وفي ذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت.

   وفي الواقع.. المعروف عن الصبر عند وقوع الظلم أنه من أمر أنواع الصبر, لذا جعل الله لعبده المظلوم دعوة لا ترد.

   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث أقسم عليهم وأحدثكم حديثاً فأحفظوه: فإنه ما نقص مال من صدقة, ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عز وجل بها عزاً, ولايفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر”(1).

   وقانا الله وإياكم شر الظلم, والفقر, ونجانا من الهم والغم, ورزقنا الله وإياكم بركة هذا الدعاء لأحد الصالحين: “اللهم يا مجلى العظائم من الأمور ويا منتهى هم الهموم يا مفرج الكرب العظيم ويا من إذا أراد أمراً فحسبه أن يقول له كن فيكون, أحاطت بي الذنوب يا مدخر لكل أمر عظيم وكل صعب وشدة يا من لا إله إلا أنت لا إله إلا أنت”.

ـــــــــــــــــ

(1) الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده جـ4 ص231, والدر المنثور للسيوطى جـ1 ص359.   

كلمات من نور

﴿وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً﴾ [ الإنسان : 12, 13].

   نعم .. إن الصبر صفة من صفات الله الحسنى.. إنه الصبور تبارك وتعالى.

   قال النبي صلى الله عليه وسلم “إن لله عز وجل تسعة وتسعون إسماً من أحصاها دخل الجنة”(1)

 

هو الله الذى لا إله إلا هو

 

الرحمن الرحيم   الملك   القدوس    السلام   المؤمن   المهيمن   العزيز        الجبار  
المتكبر   الخالق   البارئ   المصور    الغفار    القهار   الوهاب    الرزاق       الفتاح
العليم    القابض   الباسط   الخافض   الرافع    المعز    المذل      السميع     البصير     
الحكم    العدل     اللطيف   الخبير     الحليم    العظيم    الغفور    الشكور     العلى
الكبير    الحفيظ   المقيت    الحسيب   الجليل    الكريم    الرقيب    المجيب     الواسع
الحكيم    الودود   المجيد    الباعث    الشهيد    الحق    الوكيل     القوى      المتين
الولى     الحميد   المحصي   المبدئ    المعيد المحيي المميت الحي القيوم
الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول
الأخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو
الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغنى المانع
الضار النافع النور الهادي البديع الباقى الوارث الرشيد الصبور

 

*       *      *

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه جـ2 حديث 3861 عن أبى هريرة رضي الله عنه صفحة 1269, 1270 تحقيق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي .

 

فهرست المصادر المراجع

مرتب على حروف المعجم

  • القرآن الكريم.
  • اتحاف السادة المتقين للزبيدي طبع بيروت.
  • البداية والنهاية للإمام ابن كثير الدمشقي الطبعة الثانية ببيروت سنة1977م.
  • تاريخ بغداد ومدينة السلام للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي نشر دار الكتاب العربي بيروت.
  • تذكرة الحفاظ للإمام الذهبين نشر دار أحياء التراث الإسلامى.
  • تفسير القرآن العظيم للإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبى الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي طبع دار الفكر.
  • تهذيب تاريخ دمشق الكبير للإمام ابن عساكر.
  • التمهيد لإبن عبد البر طبع القاهرة.
  • جامع البيان عن تأويل أى القرآن للإمام الطبرى طبع الحلبي 1388 هـ.
  • جامع بيان العلم وفضله للإمام ابن عبد البر نشر دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
  • الجامع لأحكام القرآن الكريم لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى طبع دار إحياء التراث بيروت لبنان.
  • حلية الأولياء وطبقات الأحفياء للحافظ أي نعيم الأصفهاني طبع مطبعة السعادة بالقاهرة 1394هـ 1974م.
  • دلائل النبوية للإمام البيهقى طبع بيروت.
  • سنن الإمام ابن ماجه مطبعة الحلبى ترتيب الأستاذ / محمد فؤاد عبد الباقي.
  • سنن الإمام أبى داود السحستاني تحقيق عزت عبيد الدعاسي نشر محمد علي السيد بحمص مطبعة دار المحاسن – المدينة المنورة.
  • سنن الترمذي مطبعة البابي الحلبي بالقاهرة.
  • سنن الرمام الدارمي.
  • سنن الدار قطني للرمام علي بن عمر الدار قطنى طبع المدينة المنورة 1386هـ 1966م.
  • الإمام النسائي مطبعة الحلبي القاهرة.
  • السنن الكبرى للإمام البيهقي نشر دار الفكر ببيروت.
  • شرح السنة للإمام البقوى نشر المكتب الإسلامي 1391هـ بيروت.

 

  • شرح صحيح الإمام البخاري مقتصراً على الكتب وأمهات الأبواب والتراجم طبع الشعب.
  • الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ترتيب الأمير الدين على بن بلبان الفارس طبع الفكر ببيروت.
  • صحيح بن خزعة نشر الكتب الإسلامي ببيروت.
  • صحيح الإمام مسلم بن الحجاج تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
  • الطبقات الكبرى لإبن سعد طبع لاكتب الإسلامي ببيروت.
  • الدر المنشور في التفسير المأثور للإمام جلال الدين السيوطي طبع دار الفكر.
  • العلل للإمام علي بن عبد الله المديني نشر الكتب الإسلامي ببيروت.
  • العلل المتناهية لإبن الجوزي طبع الهند.
  • فتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام بن حجر العسقلاني.
  • فيض القدير شرح الجامع الصغير للإمام النووي طبع دار المعرفة ببيروت.
  • كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للشيخ إسماعيل محمد العجلوني طبع حلب.
  • كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للرمام المتقى الهندي البرهان طبع حلب.
  • مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي طبع دار الكتاب ببيروت.
  • مسند الإمام أحمد بن حنبل طبع دار الفكر ببيروت.
  • مسند الربيع بن حبيب تصدير مكتبة الثقافة.
  • الفردوس بمزثور الخطاب للديلمي تحقيق السعيد بن بسيونى زغلول طبع بيروت.
  • مصنف ابن أبي شيبة في الأحاديث والأثار.
  • المصنف لعبد الرزاق الصنعاني.
  • معظم الطبراني الكبير تحقيق حمدي عبد المجيد السلفى نشر الدار العربي للطباعة ببغداد سنة 1938م.
  • موطأ الإمام مالك مطبعة الحلبي بترتيب الأستاذ / محمد فؤاد عبد الباقي.
  • ميزان الإعتدال في نقد الرجال للإمام الذهبي تحقيق علي محمد البجاوي طبع بيروت.
  • المستدرك علي الصحيحين للإمام الحاكم طبع دائرة المعارف العثمانية بالهند 1344هـ.
  • المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر طبع التراث الإسلامى ببيروت.
  • الموضوعات الكبرى للإمام بن الجوزي طبع المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.

*       *       *


فهرس الكتاب

م الموضوع الصفحة الملاحظات
1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

 مقدمة الكتاب

الطريق إلى حب الله

أفضل الأنبياء والرسل

لك الحب .. ياحبيب الله

في خيمة قائد الأعداء جاء اللقاء!

ثلاثة أنواع من النعم

رب أسألك الشكر في قلبى

كلمة تغلق دونها أبواب السماء

المدائن من الذهب والقصور من اللؤلؤ والذهب

عندما يخطر بالبال هذا السؤال

حديث إبليس الخبيث

تلك الأسئلة الأربعة .. بما نجيب عليها؟!

الخروج من الخوف

دعاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

حتى .. لاينعدم الاستمتاع بالحياة

ثم طعنه ثلاث طعنات!

ودعا عليه.. بطول العمر!!

والتقيا.. علب باب الجنة

حين تجئ لحظة الإحتياج

ثم قال صلى الله عليه وسلم : الحمد لله أني لأرجو أن يموت جميعاً

صاحب القصر المحروق!

هزيمة الخوف من.. الموت

جاء.. حتى وقف على باب الكعبة

أنه الباب المفتوح .. دائماً

آية.. في جوف الليل

هذا النوع المرفوض من الدعاء!

كيف يكون الحج  مبروراً؟

   

 

 

 تابع فهرس الكتاب

م الموضوع الصفحة الملاحظات
28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

مؤمنون ورب الكعبة

هدف الشيطان الأعظم

التسابق إلى الخيرات

دعاء.. تعجبت منه الملائكة!

هذا الزمن الردئ.. برئ برئ!!

.. فأخبرهم ما الذي أبكاهم؟!

من هو.. شر الناس؟!

فلنجعله هماً واحداً.. فقط لاغير

عودة العبد العاضي

هذه الدرجة من الحب..!

ثلاثة لايعرفون إلا عند ثلاثة!

لماذا صار الناس غير الناس؟!

لا .. ليست أساطير الأولين..

فلنبحث عن شئ خطأ داخلنا

ثم قطف رمانة ثالثة!

حين تجئ لحظة الاحتياج!

ذلك الماء المالح

تلك الأسس الأساسية السبعة!

شئ.. أشد من الجبال!

تلك المعادلة العادلة!

ليلة قد تفترس .. ثلاثة ليال!

نحن حتماً نحتاج هذا النوع من الحب ..!

ما هو عدد حروف آيات لانصر

حين احتار المسلمون ماذا يفعلون؟!

بفضل الله إنطفأت نيرانهم

إنهم يريدونها اجازة خاصة جداً

باب الرحمة  

سلاح المؤمن..

   

 

تابع فهرس الكتاب

م الموضوع الصفحة الملاحظات
56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

ذاك الإحساس الحافل بالنجاح والفلاح

حج الراكب والماشي

دعاء كشف البلاء

لمن .. تلك الدرجات المائة؟

حين يتدافعون نحو تحقيق حلم حياتهم

ألا يعلم أن ..؟!

صيام الخواص

بين الإنسان والشيطان

دعاء آدم ينزع الفقر نزعاً

عام الوداع

تلك الرحلة الروحية الربانية

البحث عن ذلك الشعور المفقود

الحجر الأنصع سواداً!

الصفحة البيضاء

الصبر سلاح

أسماء الله الحسنى

فهرس

   

 

 

 

 

 

 

([1])  الحديث فى كتاب العلل المتناهية لابن الجوزى طبع الهند برقم 879 وميزان الاعتدال فى نقد الرجال للذهبي ج4 ، ص 185 .

([2])  الحديث أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب على كل مسلم صدقة جـ2 ، ص143 طبع الشعب .

([3]) الحـديث أخـرجه أبو داود في سننـه جـ 5 كتاب الأدب باب حسن الظـن حديث 4993 عن أبي هـريرة بلفظ ( حسن الظن من حسن العبادة ) طبع دار الحديث .

([4]) الحديث أخرجه القرطبي فى تفسير الآية 31 من آل عمران جـ3 ، ص 59 ، 60 طبع دار أحياء التراث ببيروت .

أحرف وكلمات

Featuredأحرف وكلمات

 

 

 

 

كريمة شاهين

أحرف وكلمات

 


بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

يؤكد أكثر علماء النفس والاجتماع على أن المشكلة الاجتماعية تأتى في مقدمة هموم الإنسان وهى بعد هموم الغرائز الفطرية من مأكل وأمن وعليه فإنها مصدر أساسي من مصادر الكآبة النفسية وعامل فقال من عوامل الإعاقة الإنتاجية ولقد أهتم الباحثون بالمشكلة الاجتماعية واعتبروها الطريق السريع للسقوط الاجتماعي وعدم الانتماء والتقوقع والانتحار البطئ .

وأخذت الدول المتقدمة على عاتقها الاهتمام بالمراكز الاجتماعية العامة علها تجد حلا جذريا لهذه المشكلة فأوجدت المؤسسات الاجتماعية العامة والفروع الخاصة لتتبع المشكلة وملاحقتها أولا بأول ووأدها فى مهدها أو شل فاعليتها والحد من خطورة انتشارها . كما قامت كثير من المعاهد المتخصصة والجامعات على الاهتمام البالغ فى تطوير المراكز الاجتماعية ودعمها بالكفاءات الخاصة والخدمات الفعالة لرفع كفاءتها وقدرتها على القيام الفعال .

ولقد أتت مثل هذه الاهتمامات كلها فى المجتمعات الحديثة وساعد على ذلك حل كثير من المعضلات مما ترتب عليه زيادة فى الإنتاج وتقدم إلى الأمام وما الفرق الذي نشاهده بين الدول المتقدمة والدول النامية إلا مؤشر أساسي على قدرة المجتمعات المتقدمة على التعامل مع المشكلة الاجتماعية وإيجاد الحلول المناسبة وتعتبر الكتابة أحد الأساليب والأدوات الفعالة فى تمهيد الطريق للتعامل مع المشكلة الاجتماعية وعليه تبنت تلك المؤسسات والمعاهد مبدأ الكتابة المتخصصة للتعامل مع المشاكل الآتية التي يتعرض لها الأفراد والرد عليها بأسلوب علمي متخصص وثبت من الدراسات أيضا أن هذا الأسلوب له أثره  المباشر فى تحجيم وحصر المشكلة إضافة إلى تلك الحلول المقترحة التي غالبا ما تساهم بشكل فعال فى معالجة بعض المشاكل وما تقوم به الأخت الفاضلة كريمة شاهين فى زاويتها ” أحرف وكلمات” إلا أسلوب ناجح من أساليب العلاج الاجتماعى ولقد قمت بمراجعة أكثر ما كتبته بهذا الخصوص وتبين أنها قامت بدور اجتماعي هام لمساهمتها الفعالة فى تحليل المشكلة الاجتماعية وعرضها ثم إيجاد الحلول لها ولقد أعجبت حقا بتلك الحلول التي تنسجم مع ديننا وتقاليدنا وواقعنا الاجتماعي وهو منحى مهم فى التعامل مع المشكلة ولا شك أنه يساعد بشكل مؤثر فى تخفيف تلك المشكلة ولقد كان لأسلوبها الشيق والمحدد والواضح أثره المباشر أيضا على تلك النفوس القلقة . وإنني على ثقة من أن الاستمرار فى هذا الاتجاه من شأنه أن يسهم فى حل كثير من المشاكل ويطور المفهوم السليم للتعامل مع المشكلة الذي أصبح ضروريا فى خضم هذه الأمواج المتلاطمة عبر هذا البحر الاجتماعى الهائج و إنني أدعو كافة المهتمين والمتخصصين فى العلوم الإنسانية بشكل علم والدراسات الاجتماعية بشكل خاص إلى الإطلاع على هذا الكتاب للوقوف عن كثب على ما يدور حولنا من مشاكل اجتماعية لتحقيق الفهم والتبصر الاجتماعي المطلوب .

د . محمد صالح المهينى

لو كان الحب هو الحب ..؟!

       أمسك القلم برهة وهواجس الحيرة تعصف بى .. فأنا قليلة الحيلة “الحديث الرسمي ” والأسلوب المنمق ” الذي تستلزمه وتتطلبه مقدمات الكتب !

       كم أشعر أنني مقيدة عند كتابة ” المقدمة ” لست أدرى كيف أفسر ذاك الشعور الثقيل , ولست أفهم لماذا أحس وكأنني مضغوطة داخل ” قالب ” محدد يتحتم علىّ ألا أحيد عنه , أو كأنني ” محبوسة ” داخل ” إطار” معين يملئ علىّ ألا أخرج منه ؟!

       ولكن بما أن طبيعتي تنفر من هذه القوالب , وتفرّ من تلك الأطر , ما أنا أحلق بعيدا عنها , وأكتب ببساطة وعفوية دون تعمد أو تكلف .. وأقول :

       إنني سعيدة جدا بلقائى معكم من جديد عبر ( الجزء الثاني ) من كتاب ” أحرف وكلمات ” وأعلن بمنتهى الصدق أنني عشت الفرحة كلها , ولم تسعني الدنيا كلها وأنا أرى ” الجزء الأول ” يخرج إلى النور ويلقى منكم التشجيع الكبير .. والإقبال الكثير مما أدى إلى طباعته مرة أخرى فى وقت زمن قصير …

حقاً ..

       إنه الحب الذي يربط بيني وبينكم .. حمداً لله .. ألا يقولون أنه بين القلب والقلب رسول ؟! … والآن

       لن أخفى عنكم سرا يتعلق بكتابي هذا الموجود بين أيديكم فى تلك اللحظة , عندما أصرح أنه جاء ” مصادفة ” أثر النجاح الباهر الذي لاقاه شقيقه الأول , مما شجعني وحدا بي إلى التفكير جديا فى إصدار كتاب آخر يحوى مجموعة مشاكل جديدة , وإن كان يحمل نفس العنوان .. ذاك الذي أحب وأتفاءل .

وقد يتساءل البعض عن السر فى هذا التفكير , والسبب وراء هذا الإصدار ..؟!

إنها مشاكل أتت من الحياة , وانبثقت من الواقع الذي يبدو أحيانا , وكأنه يتصارع مع الخيال .

هذه المشاكل تلتقي هنا وتتركز بمثابة خلاصة تجارب ذاتية . ونتاج مواقف حية , أحيانا ما تتشابه فى ظروف المجتمعات المتقاربة العادات والتقاليد  .. وبالتالي نرى كثيرا ما تتكرر نوعية المشاكل , وإن اختلفت طريقة مواجهتها وتضاربت أساليب معالجتها … وهنا يصبح للتجربة قيمة , وللخبرة فائدة ومعنى , فليس من المفروض أن يمر كل من بنفس الظروف الخاصة الحرجة , كى يخرج بنفس النتيجة أو أخرى تقاربها .. ليس من الضروري على الإطلاق أن يعايش الحدث ذاته . وأن يحرق أعصابه , ويبيد راحة قلبه  , ويشتت هدوء نفسه .. ولكن .. بالقراءة الذكية . القراءة الواعية المتبصرة يمكنه أن يستوعب . ويستفيد من نتاج تجارب الآخرين .. ” فالسعيد من اتعظ بغيره , والتعيس من اتعظ بنفسه” واعتقد أن نشر هذه المشاكل يفيد فى إضافة المزيد من الخبرة والمراس . ويوضح كيف يمكن تجنب الخوض فى الموقف الصعب والقاسي والحزين دون مشاق التعرض الذاتي عبر ” التجربة الشخصية ” .

وأقتنع بمنطق هذه الرأي .. وأنا ألمس الصدى الكبير الذي انطلق مواكبا الجزء الأول من ( أحرف وكلمات ) .. جاء الصدى كبيرا وجاء انفعالي عظيما , وأنا أسمع النقاش يدور . يحتدم بين مصدق ومكذب لما احتوى من مشاكل . هي بعينها مواقف صعبة وقاسية واجهها بعض الناس فى لحظة ضعف عبرت حياتهم .

.. لا يمكن أن أنسى ذلك ” السؤال ” المكرر المعاد . ذاك الذي سمعت من كل قارئ يمسك بين يديه الكتاب ” المشاكل هذه كلها حقيقة ؟! ” .

وأقسم وأؤكد أنها فعلا مشاكل حقيقية مائة فى المائة , فالحياة تحفل بالكثير الكثير الذي يقف الخيال أمامه عاجزا واهنا معترفا بالقلة والضآلة .

وهنا .. أهمس جذلة أنني حرصت على إضافة بعض من ( همس الحب ) الذي ينبثق ويزدهر من حدائق الشعر , وضممته إلى صفحات هذا الكتاب كي  يضفى عليه بعض الطراوة ويضيف إليه بعض الحلاوة . فيصبح حافلا بواحات ظليلة وارفة يرتاح فيها القلب ويسكن , إثر لهاث مع الألم الطويل عاشه عبر مواقف حية نابضة تتوهج بالتجربة وتنطفئ بالخبرة . فلو كان الحب هو “الحب ” .. لغاب عنا العديد من تلك المشاكل .

فمع الحب .. تحلو الحياة . وبالحب ترتاح النفوس وتهدأ . وتمسى أقدر على المعيشة فى سلام مع الذات . مع الحب .. تتألق الحياة . وبالحب تبدأ الحياة . وتبسم الدنيا وتحفل بالخير و السكينة والمودة .

ومع الحب .. تنبض الحياة بالحياة . وبالحب تذوى المشاكل وتتضاءل الصعاب وتتلاشى الشدة . حقا .. إن لله محبة .

عصابة الأربعة !!

أنا فتاة أدرس فى الثانوية تعرفت على شاب كلن زميلا لأخي وكان يحضر عندنا فى المنزل مرات عديدة مما جعلني أحبه وأنظر إليه طوال الوقت من الباب  خفية دون أن يراني أخي , وهو أيضا أحبني لأني كنت أكلمه عندما يخرج أخي ليشترى بعض اللوازم له ولزميله , ولا يوجد فى البيت غيري فأمي مريضة فى الدور الثاني وأبى يذهب إلى عمله , وأيضا حدثته بالهاتف وقد تقابلت معه خارج المنزل مرات عديدة وكنت أخرج معه فى السيارة إلى أن أتى ذلك اليوم الذي لا أنساه مدى حياتي عندما اتصل بى فى الصباح ووعدته بان أخرج معه بعد العصر ويا ليتني ما خرجت .. خرجت وذهبنا إلى منزلهم وكان لا يوجد فيه أحد وجلسنا نتكلم وفجأة لعب بعقله الشيطان وحصل ما حصل , لقد سلبني عذريتي وزينة شبابي , ولكمن لم يكفه هذا بل كان يخفى فى البيت ثلاثة من زملائه لا أعرفهم وبرضاه هو دون رضا منى أيضا فعلوا مثل ما فعل بى فقد كنت فى غير كامل قواي الجسدية , خفت أن أصيح وعندما طلبت منه أن يأتي و يخطبنى قال لي كيف تريدينني أن أخطبك ونحن أربعة شركاء ؟ هل تريدين أن نتزوجك نحن الأربعة ؟ ومن يومها فكرت فى الانتحار بسكين المطبخ أو المرور أمام سيارة مسرعة ولكن كانت كلها تفشل لا أدرى لماذا ؟ وأخيرا فكرت أن أرسل لأخبرك بما حدث لى ولأقول لك أن زميلة لي وصفت لي خطة للانتحار لا تفشل أبدا وذلك لان الخطاب كثروا على المنزل ولكني كنت أرفضهم أو هم ينسحبون لان الأربعة كانوا يقولون لهم الحادثة وأتمنى من الله أن لا تقع فتاة فى مثل مأساتي هذه .

ملاحظة :

عندما سألته لماذا فعلت هذا ولماذا أيضا بزملائك قال لي : إن لهم جمائل على وأردت أن أرد لهم بعض هذه الجمائل . المعذرة لطول الرسالة أنا لا أخاف من كتابة أسمى كاملا لانى سوف أصبح تحت التراب بعد لحظات أرجو أن تنشرى الرسالة كاملة والاسم كذلك .

عزيزتي ..

أكتب إليك و قلبي يحترق , وكل أمنيتي أن تكوني ما زلت على قيد الحياة , وها هو ردى إليك يخبرك كم حاولت أن أتفادى الوقوع تحت السيطرة هذه الفكرة .. فكرة انتحارك لا قدر الله  .

طبعا عزيزتي باستنكار شديد المرارة قرأت رسالتك البسيطة العفوية رسالة تحكى قصة فتاة بريشة طاهرة شعر قلبها يوما بالحب الرقيق النظيف , فانصاعت له , وتمادت فيه دون أن تشعر بخطر الموت الدامي يتربص بها ..

كان يمكن لهذا لحب أن يتطور ويتقدم لك هذا الشاب خاطبا , لكنه كان من نوعية رديئة , نوعية سفلى من حثالة البشر , فحطم فتاة مسكينة بريئة ساذجة لا تفهم فى أمور الدنيا شيئا !!

بل لم يكتفي بنفسه , لكنه مساق إليها ثلاثة وحوض آدمية أخرى أخذت تنهش وتنهش فريستها الدامية الممزقة العاجزة تماما عن الدفاع عن نفسها  .

عزيزتي ..

لا تيأسي من رحمي الله .. فالله شديد العقاب , وثقي أن هؤلاء الأربعة “العصابة ” لن يفلتوا من طائلة القانون وسوف يسقطون يوما لينالوا أقصى عذاب يليق بأفعالهم الشوهاء إن لم يتوبوا ويصلحوا أنفسهم ويستغفروا ربهم ..

عزيزتي ..

لا تندبي حظك حتى الموت .. وفكري فى أمك المريضة العاجزة التي هي فى أمس الحاجة إليك فكرى فى أبيك الرجل المحترم الذي يفخر بك ويعتز , وفكري فى أخيك الذي يجهل ما حدث لك ولن علم ما كان سكت على فعلة صديقه الخائن الخبيث , الذي فتح له بيته على الآخر … وهذا خطأ أحسبه عليه  ..

فكرى فى هؤلاء .. ثم أعيدي اختيار القرار .. حياة أو موت ؟ وكم أتمنى لك الحياة فأنت بريئة لا تستحقين هذه الميتة المنتحرة , التي ستفجر فضيحة كبيره لأهلك , فى الدينا .. وعذابا مقيما لك فى الآخرة .. فكرى عزيزتي أرجوك .. واصرفي نظرك تماما عن الزواج فى هذا الفترة وانكبي على دراستك ومع الوقت ربما تحدث أشياء أو مفاجآت لا تتوقعينها الآن , فقد يصحو ضمير هؤلاء الأربعة ويتقدم لك أحدهم مصلحا ما فعلوا بك , متندما كيف أجرموا إلى هذا الحد فى حق عذراء بريئة , عذراء نقية لا تستحق عقابا شنيعا كهذا عندما اخضر قلبها .. وأحس يوما بنبض الحب ..!!!!

 

 

حطام الأحلام

أنا شاب وسيم من أسرة عريقة وغنية جدا . فى  إحدى سفراتي تعرفت على صديق من بلد والدتي وصرنا نتقابل فى كل يوم وتوثقت عرى الصداقة بيننا وأصبحنا الكاد نفترق وفى أحد الأيام أدخلني إلى بيته فى عرفني على أهله ورأيتها , ويا ليتني لم أرها , وبدأ قلبي يخفق . أحببتها بصدق وبادلتني الشعور نفسه بحب طاهر , نقى من كل غاية . وأخذت أعد الدقائق والساعات على أمل بان أجتمع بها , قد كنت فى آخر مرحلة تعليمية فأخذت أدرس بجد ونشاط وفى بالى هدف واحد ونجحت بتفوق وصممت على أن أكون نفسي دون الاعتماد على مال أو مركز أبى وذهبت إلى بلادها وأسست مكتبا ونجحت فيه وعندها أخذت فى تأسيس عش الزوجية الذي سيجمعنا وأخبرت أخاها بقصة حبنا وعزمي على الزواج منها ورحب بالفكرة ووافق فسافرت لأخبر والدي ووافقوا على زواجنا ولم تسعني الدنيا من الفرحة  .. ومن هنا تبدأ اللحظات المرّة فى حياتي .. فى أحد الأيام وأنا داخل إلى مكتب والدي أصابني إغماء وحالة إعياء شديدة ولم أتمالك نفسي واستيقظت وإذا بى فى المستشفى , سألت والدي عما أصابني فطمأنني عن حالتي ولاحظت بعد ذلك زيادة فى العطف والرعاية من أهلي , وفى أحد الأيام اكتشفت الحقيقة بالصدفة , وصعقت من وقع الخبر لم أتألم على نفسي بمقدار ألمي على حبيبتي . فقد كتب علينا القدر الفراق بعدما كمنت على وشك الزواج منها , وهذا قضاء الله وأنا مؤمن ولا اعتراض لي على مشيئته وقد كتب على هذا ولا مفر منه فقد علمت أنني مصاب بمرض لا شفاء منه إلا من عند الله وأصبحت أيامي معدودة فى هذه الدنيا ولم انطو على نفسي بل صممت على ممارسة حياتي الطبيعية , فذهبت إلى بلادها وأصبحت أذهب إلى مكتبي بصورة طبيعية وأخذت أبتعد عن حبيبتي بلباقة وبعثت لها رسالة وأفهمتها بأني لم اشعر بأي عاطفة نحوها وبأننا يجب أن نفترق ولكنها كانت تحبني بشكل قوى جدا ولم تقبل فراقنا وصرت أهملها وهى متعلقة بى . ولا تدرين كم هذا يحز فى نفسي من ألم وعذاب شديدين وأصبح كل تفكيري منحصرا بها ولا يعلم أحدا إلا الله مقدار حبي لها ولماذا أفعل هذا كله ؟ لأجلها كي لا أربط حياتها بحياة إنسان منته وأسبب لها التعاسة هي فى بداية عمرها وأحطمها .. فالحب تضحية قبل كل شئ . وحضر أخوها ذات يوم إلى مكتبي ولكنني أقدر شعوره , فلم يدر بحقيقة مرضى مخلوق سوى أهلي وخم يعتقدون بأني لا أعرف الحقيقة وتكررت سفراتي إلى الخارج للعلاج ولكن كل التقارير تؤكد بأنه لا علاج لهذا المرض فقد يوجد مسكنات وعند عودتي من إحدى سفراتي من الخارج سمعت بأنها حاولت الانتحار وبأنها بحالة خطرة وفى المستشفى ولا تدرين كم بلغ بى التأثر , فوق عذابي الجسدي أضافت لي عذابي النفسي وذهبت إلى المستشفى كي أراها فمنعني أخوها ولم أستطع أن أشرح له قصتي فأنا لا أريد أن يشفق على احد وتدهورت صحتي بعدها بشكل ملحوظ ودخلت المستشفى وأنا أكتب لك بعد أن يئست من كل الحلول ولا اعرف كيف أتصرف بعد أن حاولت بكل وسيلة ممكنة بأن أجعلها تكف عن حبي وتفكر فى مستقبلها , فالحياة أمامها طويلة وتستطيع أن تكمل بدوني . لا تقولي لي أخبرها بالحقيقة فأنا لن أقدر وعذرا على طول الرسالة .

أخي العزيز

فى كلمات رسالتك صدق كثير . صدق مؤثر محزن . فأنا الآن أمام نهايتين أليمتين لشاب وشابة فى ربيع العمر ومقتبل الحياة . كلاهما مصارع  الموت فوق الأسرّة البيضاء    !

حقا .. الموت علينا حق والموت قضاء الله وقدره , فلا يجب أن تشعر بالخجل أو الحرج منه , فليس هناك الإنسان الخالد السليم الصحيح ..

أنا أعلم أنك تتعذب , وأدرى أنك تتألم , ربما بقدر يفوق الوصف  فعذابك مزدوج لك ولها . لأنك قد أحببتها بصدق .. فأشفق عليها وارحمها من الموت بسببك ومن أجلك .

كن صادقا معها .. فلا عذر لمداراة الواقع مهما كانت حساسيته , ولا تتصور أن تكتمك حقيقة مرضك تضحية ! بالعكس .. بل هو الظلم بعينه , لأنك تهدم فتاتك التي أحببت , تتسبب فى جعلها تموت حزنا وحسرة من جراء حب صادق الشعور , أمين المضمون تظنه هـي ويا  للأسف حبا كاذبا غادرا خسيسا فلماذا ؟! تظلمها وتظلم نفسك زورا و بهتانا ؟!

أخي …

لن ينجو من الموت إنسان , ولو كان فى آخر الدنيا .. هو قادم , وكل نفس ذائقته لا محالة . فلنعش بصدق . ولنمت بصدق . فالرجولة فى الصدق والصراحة والإحساس بالمسؤولية ومواجهة الواقع بكل قسوته وصعوبته .

فكن رجلا قويا قادرا حتى وأنت تصارع ضراوة الضعف والمرض .. وصارحها أخبرها بشجاعة بكل شئ .. أخبرها بالحقيقة مهما كانت مريرة قاسية فهي الأخرى جديرة بالشفقة والرحمة واعمل أنك بذلك ستنقذ حياتها , وستنقذ نفسك من نصف عذاباتك وسيرتاح قالبك وتهدأ روحك .. صدقني .

وتأكد أنك لو نظرت إلى عذابها فسيهون عليك عذابك , ولن تحس بمأساتك وحدها ,.. عندما تحس بهول آلامها التي هانت معها حياتها . من أجلك .

دعها تعيش معك .. إلى جانبك , دعها تمضى معك لحظات زمانك الحافلة بالحب , المشحونة بالحنان .. دعها تجاورك وأنت فى حاجة لها لتمنحك حب الدنيا كله ..

ومن يدرى يا أخي .. ألم يقولوا : بالحب تخضر الصحراء ؟! من يدرى .. فقد يمن الله عليك بالشفاء وهذا ما أتمناه لك من أعماق قلبي فلا تيأس أبدا من رحمة الله فهو الرحيم الرءوف العطوف .. والله معك .

 

إغراء !

أنا شابة فى الثالثة والعشرين من العمر تخرجت من الجامعة وتوظفت فى إحدى الشركات مشكلتي أن كل شخص أكلمه فى الشركة يتصور بأني أحبه ويبدأ يغازلني ويظهر لي حبه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حتى أن بعضهم يرسل لي رسائل تحمل كلام حب أو أبيات شعر لعاشق أضناه السهر والعذاب وهؤلاء الأشخاص من أنواع مختلفة منهم أعلى من درجتي الوظيفية ومنهم أقل وكذل بينهم متزوجون وبينهم عزاب ولا أدرى ماذا أفعل وبأي طريقة أتعامل معهم حيث أنهم جميعا فى مخيلتي دائما وأطيافهم تطاردني . وفى كل لحظة بأتي أحدهم فى خيالي وأفكر فيهم وهم قد شغلوا حياتي ولا أدرى أيهم أحب و أيهم اختار فأرى نفسي تارة أمير إلى أحدهم وتارة أميل إلى الآخر وكلها بطرق خاصة لا يشعر بها أحد كما أ، كل واحد فيهم لا يعلم بالثاني .. وهكذا .

وعندما أراجع نفسي وتصرفاتي أرى بأني أتعامل مع الجميع بطريقة واحدة حيث أنني دائما طبيعية فى كلامي ومعاملتي , كما أن جمالي متوسط وملبسي اعتيادي فيه شئ من الذوق والأناقة وأرى نفسي لا أقوم بالإغراء التصرفات الأخرى التي أريد أن أثير بها الرجال حولي فماذا افعل وكيف أتصرف فإني أتعذب كثير لأن الأشياء التي تحصل حولي ليس لي فيها أي ذنب سوى أنني هادئة وذكية وحاصلة على ثقة الجميع واحترام وتقدير الجميع وهذا ما يجعلهم ينجذبون إلى فهل هذه الصفات تجلب المتاعب لأصحابها ؟؟

أرجو أن تدليني على طريقة أتصرف بها هل أتزوج شخص إن تقدم لي بشرط أن يكون من خارج الشركة لكي هؤلاء أشخاص وقد أصبحت امرأة متزوجة عندها لا يكلموني أم هل لديك حل آخر ؟؟

عزيزتي

مشكلتك تذكرني بقول أحد فلاسفة الإغريق حينما تكلم مخاطباً حواء : ” أنت الباب الذي يقود إلي الشيطان .أنت التي فتحت الطريق إلي تلك الشجرة المحرمة . أنت أول من عصي أمر الله . أنت التي أغريت الرجل حين عجز الشيطان عن أن يغريه ” وفي العشرين قال زكي مبارك : ” المرأة تملك أصول الشهوات . والمرآة في جميع أحوالها مصدر فساد ولها مداخل إلي الفتنة يعجز عنها إبليس”.

أنا لا أقصدك تماماً بهذه المقتطفات ذات المعاني القاسية على المرآة : ولكني أقصد طريقك سلوكك الغربية في العمل !! إذ يستحيل أن تكوني جادة حازمة صارمة مع الزملاء ، ولا أقول كئيبة عابسة .. ثم تلقين كل هذا الولع والهيام !!

مستحيل عزيزتي ، مستحيل ، وأنت نفسك تقولين ” جمعهم في مخيلتي دائماً وأطيافهم تطاردني .. وأفكر فيهم وهم قد شغلوا حياتي “.

ومن هنا بدأت مشكلتك .. فأنت حائرة تتساءلين ، لا أدري أيهم أحب وإيهم أختار ؟ فضلت أن تختاريهم كلهم وأن تحبيهم كلهم ، وأن تغريهم كلهم .. والشاطر هو الذي يسبق الآخرين .. أليس كذلك ؟؟

أنت تنكرين وتنفين أنك لا تقومين بحركات الإغراء ، ولا التصرفات الأخرى التي تريدين أن تثيري بها الرجال من حولك .. ولكن الحقيقة هي أنك تفعلين ذلك عمداً ، ومع سبق الإصرار.. والترصد !

لماذا ؟!

لأنك يا فتاتي الذكية الهادئة فاتك أن تعرفي أنك بلا شعور واع تبحثين عن “زوج ” ولذا استقطبت كل هؤلاء المتزوج منهم والأعزب ، على أمل أن يتقدم واحد منهم زوجا لك .. وهذا ما تنشدين وتتمنين .. وتنتظرين !

ولكن .. بأسلوبك هذا يقطر إثارة وفتنة وإغراء ، لن تجدي حولك سوي العذاب والوحدة والشيطان ، الذي أخشي أن يجرفك إلي تيار أكثر عمقا ، تغرق فيه سمعتك وسنوات شبابك . فغيري من نفسك حتى يغير الله ويبدل أحوالك إلي الأفضل والأحسن.

 

همسة حب

جنتي

جنتي كوخ وصحراء وورد                  وحبيب هو لي رب وعبد

وصبـاح شـاعـري حالم                     أتغني فيه بالحب وأشـدو

وأرد القيد عـن حـريتي                             كاذب مـن قال إن الحب قيد

وأري الصحـراء ملكي وأنا                  وحبيبـي بالأمـان نستبــد

يـا لعينيـه ويـا لي منهما                     فيهما دفء وإشراق وسعد

وأري الرمل قصورا ، وأنا                  بذراها في جلال الملك أبدو

وأري الصبار أحلي زينتي                  فهو لي تاج وخلخال وعقد

وأرش الحنظل المر مني                          فإذا الحنظل في كفي شهد

وأري القفر رياضا غضة                   أنا فيها ظبية تلهو وتعدو

*********

يا حبيبي ، هذه أحلامنا                          آه لو يصدق للأحلام وعد

د. سعاد عبد الله المبارك الصباح

عين الشيطان

مشكلتي تقص مضجعي حيرة وقلقاً وهي تدفعني للجنون ، فأنا شاب في الثانية والثلاثين من عمري من ذوي الدخل المحدود ، فتحت عيني على هذه الدنيا لأجد نفسي مسؤولاً عن عائلة ، والدتي وأخواتي الخمسة ، بعد أن توفي والدي ولم يترك لنا من حطام الدنيا شيئاً وأنا أعمل منذ عشرين سنة ومع ذلك لم أستطع أن أوفر أي مبلغ يمكنني من الزواج والاستقرار بعد هذا التعب الطويل نظراً لضخامة مسؤولياتي ولا أخفي عليك يا أختاه أني أعاني من فراغ عاطفي لا يطاق ومع هذا لم أرتكب الفاحشة في حياتي لأني رجل مؤمن أخاف الله.

ولكني لم أعد أحتمل فأنا بشر ولكل شيء نهاية . فهناك امرأة شابة تسكن في نفس الحي الذي أسكنه تراودني عن نفسي وكدت أضعف أمامها في كثير من الأوقات ولكني كنت أتمكن من كبح جماح عاطفتي في الوقت المناسب. وفي نفس الوقت لي جار عجوز ، بخيل أقصي درجات البخل ، يعيش كما تعيش البهائم والحيوانات ، بيت خال من أي أثاث يذكر اللهم إلا من خزنة حديدية كبيرة مليئة بالمال كنت أراه دائما وهو يضع فيها النقود بكميات كبيرة . المهم أني أراقبه منذ زمن لأن نافذتي مواجهة لنافذة بيته وقد تمكنت بواسطة المنظار المكبر من معرفة أرقام الخزانة وأنا أفكر الآن بسرقته ، نعم أفكر بالسرقة فما فائدة هذه الأموال وهي تابعة في مكانها لا يستفيد منها أحد اللهم إلا هذا العجوز اللعين الذي يأتي لخزنها والفرجة عليها صباحا ومساء وأنا والكثير من الشباب لا نستطيع أن نؤمن عيشنا إلا بكل مشقة وتعب ؟!

أنا واثق أنني بهذا المال سأكمل نصف ديني وسأساعد الكثير من الشباب الذين تتشابه ظروفهم وظروفي غير مباشر.

أختي الفاضلة : إن كان لديك حل لمشكلتي أرجو أن تسعفيني به فأمامي حلان لا ثالث لهما فإما أن اسرق وإما أن أنقاد وراء تلك المرأة لأطفئ نيران عاطفتي فأي الحلين أختار؟

أنجديني بربك قبل أن أبيع نفسي للشيطان.

اسمع يا أخي

لن أنصت لكلامك ، ولن أدخل زاويتك الضيقة التي تحاول أن تحصرني بها .

إن أمامك عدة طرق للخلاص من مشكلتك وليس طريقان لا ثالث لهما كما تعتقد .. بالطبع لن أوافقك على موضوع سرقة العجوز البخيل ، أو على إنشاء علاقة محرمة بالمرأة الشابة .. فكلاهما حرام ، وأنت مؤمن وتدرك ذلك جيدا .. فهل تخدع نفسك ؟! أم تبحث عن تبرير لمنطقك هذا ؟!

” أنا سأغلط .. لكن .. الظروف .. القدر .. ليس بيدي ما أفعله .. سأساعد المحتاجين أمثالي من الشبان ” ……. الخ !!

لا يا أخي لا .. أنت لست أرسين لوبين ، ذلك اللص الشريف الذي يسرق الأغنياء بهدف “نبيل ” ألا وهو مساعد الفقراء …!!

أترك الملك للمالك ، ودع الخلق للخالق ، وتعال معي إلي الطريق الواسع النظيف بعيدا عن زاويتك الحادة المسننة.

والآن أبدأ فورا البحث عن فتاة شريفة في نفس مستواك المادي فتاة تقبل أن تعيش مع أخواتك وترضي أن تشارككم حياتكم ومن يستطيع أن يطعم خمسة أفواه يستطيع أن يطعم ستة أو سبعة .

فاتكل على الله وابحث عن تلك الفتاة بإصرار وسوف تجدها ، فكل من يبحث عن شيء بإصرار سوف يجده حتى ولو كان إبرة في كومة قش ..

ملحوظة : لا تنس أن تكسر المنظار ، عين الشيطان هذا ، قبل أن يفقدك البصر والبصيرة .. حفظك الله..

تنازل !

أنا طالبة في الثانوي ، أحببت أبن عمي وقد بادلني نفس الشعور وتقدم طالبا يدي من أب فوافق الجميع.

وقد كنت ألاحظ على أختي كلما رأت خطيبي ، تغيراً واضطرابا كما كنت ألاحظ أنها تميل نحوه فأزعجني هذا الأمر وحاولت مصارحة خطيبي ولكنني لم أستطع لأنه كان يعتبرها أختاً له . وعندما أحسست أنها تحبه قررت فوراً التضحية فأخبرت والدي بأنني لا أريد خطيبي بحجة أنني أعتبره كأخي وقد تعجب لهذا الرفض وأعطاني مهلة للتفكير سنة كاملة وقد كنت أحبه حبا لا يوصف وفي خلال هذه السنة عادت المياه إلي مجاريها وعدت لحبيبي ولكنني لاحظت نفس الشعور والاضطراب من أختي فرثيت لحالها وقلت لها أنني أعتبره كأخ لي فلو أنه خطبك قبل أن يخطبني فهل ستوافقين فردت من غير أن تفكر طبعا سأوافق .. فشجعتني على هذا الرفض وطلبت مني أن أكتب له رسالة أبين له فيها أنني لا أريده ففعلت وقد أملتني الرسالة وأوصلتها هي له ولم أجعل أختي تشعر بأنني أحبه بل العكس وكنت أكتم هذا الأمر سراً بيني وبين نفسي ، فانزعج هو لهذا الرفض وحاول محادثتي ولكنني لم أعطه أي فرصة وانتهت المدة المحدودة وكان ردي الرفض وبعد أسبوع تقريبا خطبني ابن عمتي فلم أكن أحبه أبداً لأنني أحب خطيبي السابق فأخبرني والدي بذلك وقال لي إن رفضت ابن عمتك سأزوجك من شخص لا تعرفين عنه شيئا أي مجهول الشخصية

وبالطبع وافقت على ابن عمتي لسببين

  • لاعتقادي بأنني سوف أنسي خطيبي السابق ولكن كان العكس.
  • خوفا من والدي وتهديداته لي.

وتمت الخطبة الرسمية بيني وبين ابن عمتي وقد كتب الكتاب مع أنني كنت لا أحبه أبداً .

وبعد شهر تقريبا تمت خطبة أختي لخطيبي السابق . فأصبحت لا أطيق شيئاً من هذه الدنيا وأصبحت دائمة التفكير والسرحان وقد حاولت مراراً الانتحار ، بربك دليني على الطريق الصواب

وأرجو أن تردي على رسالتي في أقرب وقت لأنني في أنتظار ردك على نار وشكراً

انتهي الموضوع .. وأسدل استار !! فأنت قدمت التضحية عن طيب خاطر دون إجبار من أحد . ومعني كلمة تضحية أن يقدم الإنسان الشيء تطوعاً.

وهذا النوع من البشر .. أمثالك ، عنده عطاء غير عادي ، عطاء فوق مستوي البشر.

وأنت .. بعد أن أديت هذه التضحية الجسيمة ، وبعد أن خضت هذا الموقف الكبير ، الذي ربما جاء أكبر منك .. لن يمكنك التقهقر والانسحاب الآن .. فقد فات الأوان .. فابن عمك خطيبك لم يتركك بل أنت التي تركته ، هو لم يخنك ولم يهجرك ، بل أنت التي فعلت ذلك من نفسك .. وبنفسك !! أما أختك فهي على خطأ فلم يكن يجدر بها أن تنظر إلي خطيب أختها أبداً ، مهما كان الموقف سواء كانت تحبه أم لا ، هي غلطانه 100%… وللأسف أنت أعطيتها الفرصة لتمارس غلطها فيحقك وحق ابن عمك .. وحق نفسها فهي لن تنجو من عذابات الغيرة والندم ، وتأنيب الضمير.

واليوم .. عليك أن تقبلي الأمر الواقع ، مهما كانت شدته وقسوته ولا تظلمي ابن عمتك زوجك الحالي فليس من السهل أن تحكمي على مدي صلاحيته زوجا لك عبر مدة قليلة لا تتجاوز شهراً واحداً!

حاولي الآن الهرب من مشاعر الغيرة الجوفاء ، والحسرة الكاذبة على الخطيب السابق . كفي فوراً عن رثاء النفس فلو كنت تحبيه حباً صادقا لما تخليت عنه أبداً . او تنازلت عنه بحال من الأحوال .. فهو أولا وقبل كل شيء إنسان . وليس شيكا أو كمبيالة يصلح للتنازل أو التحويل !!

أرجوك…

إنسي ما كان .. وانظري إلي مستقبل مشرق أمامك ، وعيشي راضية مع زوج يحبك ، بعون الله سوف تحبينه بالعشرة والزمن….

وأرجو أن تحرصي قدر الإمكان على عدم الالتقاء بزوج أختك الحالي ، خطيبك السابق حتى لا تشعلي النار الكامنة تحت الرماد .. وخشية أن توقظي ماضيا عملاقا جباراً، لو صحا من سباته لفتك بكم جميعا ولحطمكم واحداً تلو الآخر…..

أرجوك ابتعدي عنهما … وعيشي حياتك التي اخترتها لنفسك بكامل رغبتك فلم يغصبك أحد ، ولم يضطرك مخلوق لهذا التنازل الشاذ المهين

الغطاء

تزوجت من طفلة عملاها حين الزواج 12 سنة وعشنا في مشاكل ، ومرت السنون وكبرت ، ولي منها الآن 3 أولاد وبنت والمصيبة أنني لا أحب هذه المرأة ولكني أحترمها واعطف عليها ، فهي قبيحة ، ليس فيها أي نوع من الجمال ، وأمية لا تقرأ ولا تكتب ، وأنا عشت وزرت أقطاراً كثيرة وعرفت الكثير من البنات الحلوات ، والبعض منهن ، عرضن على الزواج وبما أني الآن مسافر وهارب من زوجتي المذكورة وأولادها ، فكرت في الزواج ، ولكن أتردد وأقول ما ذنب زوجتي وأولادها ثم ما ذنبي أنا ، فأنا لم أخترها بل أهلي أصحاب العقلية القبلية هم الذين اختاروها لي مع العلم أنه بإمكاني أن أعيل الأولي والثانية في حالة الزواج ، ولكني خائف أن أترك وأنسي الأطفال الأبرياء إذا تزوجت ، إنني أريد زوجة على الأقل تجيد القراءة والكتابة وجميلة ، وأحيطك علما بأن الأهل غير موافقين على زواجي من أخري لأن والدي يحبانها وهي تحترمهما وأيضاً مشهورة بأدبها ومحسودة من الناس لأني أعطيها بدون حساب عشرات الألوف وأرسل لها الثياب بالدرزن وكأنها أميرة ولكن ينقصها الجمال وأولادي لا يشبهونني بل يشبهونها وحتى الآن لم أسمع منها كلمة أحبك ولا أعرف هل تغار إذا خنتها مع امرأة جميلة ؟

فكلما رجعت من سهرة تشم ثيابي وتتكلم بأسلوب قاس وأسكت حرصاً مني على الأولاد ثم أقدر مشاعرها وأعرف أنني غلطت في حقها ولكن الذنب ذنبها فهي لا تسمعني الكلمة الحلوة بالرغم من أني أجاملها وأظهر لها المحبة أمام الجميع وجوابها السكوت . السكوت دائماً.

لم تحاول أن تشعرني بأنها تحبني ولا تحاول إثارتي بأي شكل من الأشكال وهي لا تحب التبذير فهي تحافظ على النقود وتتصرف بحكمة وتعاتبني عندما أبذر الفلوس ، فما هي النصيحة ؟! احكمي بالإنصاف هل أحرم شبابي وهل إذا تزوجت أظلم المسكينة ؟!

بل أنت تحب هذه المرأة .. ورسالتك هذه تعتبر رسالة مديح لزوجتك وليس ذما فهي في نظرك سيدة محترمة .. تحظي بحب أهلك .. مشهورة بأدبها بين الجميع محسودة من كل البنات على حبك لها وعطائك لها !

تتصرف بحكمة .. مدبرة تكره التبذير .. لا تحاول بشكل من الأشكال إثارتك !!

وأنت .. تبقي تجاملها وتظهر لها المحبة أمام الجميع ، وهي تسكت !!!

أنت في أعماق نفسك تحبها ، بل تعشقها ، وكل ما تتمناه أن تثير غيرتها .. أن تشعل نارها بامرأة جميلة تحرك فيها شعور الحب الجارف نحوك ، كي تنطق أو تعبر عما تحمله من حب لك.

أنت تبحث عن شيء تكشف به الغطاء عن أتون الحب الملتهب واخترت أن يكون هذا الشيء امرأة أخري.

زوجتك تحبك وتحبك .. وتحرص على بيتك ومالك وأولادك .. وتصونك في نفسها وبيتها ، ولن تحس بالحب إلا في قلبها .

فابق عليها معززة مكرمة ، ولا تشمت فيها حسادها . واسمع عزيزي قول الشاعر :

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى                 ما الحب إلا للحبيب الأول

اللعبة

أنا فتاة متزوجة عمري 25 سنة ، تزوجت من رجل يكبرني بسبع عشرة سنة ، قبل زواجي منه كنت على علاقة حب مع شاب من نفس جيلي جاء ليخطبني فلم يوافق أهلي لأنهم عرفوا أننا على علاقة حب ثم جاء زوجي الحالي ليطلب يدي واتضح لنا بعد عقد القرآن أنه متزوج وله أولاد . في أيام الخطبة كان يحبني حباً كثيرا ولم يدم هذا الحب طويلا فبعد أشهر من الزواج أصبح كلامه معي قليلا لا يهتم إلا بتجارته ولا يتواجد في البيت إلا نادراً وحين يعود في المساء يتعشي وينام ، أصبت بصدمة من جراء تصرفاته هذه ، حتى الكلمة الحلوة افتقدتها منه وصرت أرجوه عندما نكون مع بعض أن يسمعني كلمة حبيبتي ولو مجاملة فيقول لي هذا كلام مراهقين ، صدقيني يا أخت كريمة لم أفكر في بداية الأمر أن أخوانة فكرت كثيراً في حياتي معه خاصة أنني أصبحت حاملاً منه . كثيرا من الأوقات كان خيالي يسرح إلي البعيد وأتذكر كلمات حبيبي الأول الذي لم يكن يبخل على بكلام الحب والعطف والحنان ، وفي حياتي الآن مع زوجي الذي حرمني حتى الكلمة الحلوة ، وبعد أن وضعت مولودي الأول ، أصبح كل اهتمام زوجي بالمولود وأنا شبه موجودة في البيت . عندها فكرت في أن أخونه خاصة وعندي في البت جهاز الهاتف . حملت سماعة الهاتف واتصلت بحبيبي الأول ففوجئت بأنه غادر البلاد ليلة عرسي ولم يعد لها ، صرت أبحث عن أصدقاء صديقاتي وأتل بهم ليسمعوني الكلام الحلو الذي اشتقت طويلا لسماعة ولم يبخلوا علي في الكلام . المهم أنني استمريت لغاية الآن في تصرفاتي هذه أنتقل من شاب إلي شاب وأقضي معظم وقتي على التليفون وطلبت منه الطلاق عدة مرات ولم يوافق على الطلاق وكان يقول لي اعتبرك مربية لطفلي وكان كلامه هذا يجرحني ويحثني على الاستمرار في علاقاتي مع الشباب .

يمكنك يا أخت كريمة أن تتصوري أنني لنفسي من زوجي بهذه التصرفات وأنا الآن صرت أمارس هذه اللعبة ولا يمكنني الابتعاد عنها إذ أصبحت هوايتي وسلوتي الوحيدة ، علماً بأنني حملت وأنجبت طفلي الثاني ولغاية الآن أقسم لك أنني لا أستطيع الابتعاد عن تصرفاتي هذه فإن روح الانتقام في دمي تسري وأريد أن أنتقم من كل الرجال هذه هي مشكلتي فاحكمي فيها وأرجو أن يكون حكمك عادلاً.

عزيزتي ..

أنت تمارسين لعبة خطرة ، هي لعبة النار ، التي ستشب يوماً فتحرق وتدمر كل شيء .. فلا تستمرئي الاستمرار ، وكفاك ما كان ، وأرجعي قبل فوات الأوان..

مشكلتك هي الإحساس بالغيظ الحبيس من جنس الرجال ، فأبوك حرمك حبيبك ، وزوجك خدعك ، أخفي زواجه وإنجابه حتى عقد القران ، وحبيبك غادر البلاد ولم يعد ، فراراً من عذابات الهجر والغدر والفراق ..

هذه المواقف الثلاثة .. مع كل ما فيها من أحاسيس تضج بمرارة الظلم، وقسوة العذاب دمغت روحك بالضني ، وحفرت نفسك بمعول الأسى…

لا تستسلمي .. ولا تأتي حججاً واهية باحثة عن كلمات حب من فم زوج متعب غائب طوال النهار ، عائداً طالباً الراحة والهدوء ، لا شاكيا تباريح الهوى وقسوة الغرام …

حاولي أن تتخلصي من عقدتك .. ومع الوقت سوف تستغربين ما تفعلين ، سوف تعتادين أسلوب حياتك ، وتكيفين نفسك تبعاً لظروفك الحالية .. وتعودين أما حنوناً .. زوجة مخلصة وفية.

طاقة !

أنا شاب من عائلة مرموقة ومعروفة .. أحببت فتاة تصغرني بثلاث سنوات هي ابنة عمي، أحببتها حب الجنون ، وكانت تبادلني نفس الشعور ، كنا نتقابل كثيراً بعيد عن البيت وهذا ما كان له الأثر الأكبر لكي أبوح لها بكل ما يجول بخلدي ، وقد تعاهدنا على الزواج وكنا نحلم بالمستقبل والسعادة ، وذات يوم قررت الزواج منها فذهبت إلي عمي وخطبتها وكانت فترة الخطوبة من أحلي وأمتع الأوقات ، حيث زادت مكانتها بقلبي وحبي لها ، وما أن اقترب موعد الزواج حتى بدأت أعد الثواني والدقائق التي بعدها سوف نجتمع تحت سقف واحد وليلة الدخلة حدث ما لم يكن في الحسبان ، حيث اكتشفت أنها ليست عذراء وعندما سألتها عن ذلك لم تجب بل أجابت دموعها العزيزة .. ولم أستطع أن أفيق من هول الكارثة . ولا أن أتجاهل الموقف بل ألححت على أن تبوح لي بالحقيقة ولكنها بعد بكاء طويل أخبرتني أنها كانت على علاقة مع شخص آخر خذلها وأقسمت أنه لم يكن برضاها وعندما سألتها عن عدم إخباري بهذه الحقائق قبل الزواج قالت أن حبها لي قد أعماها عن حقيقتها المؤلمة .. وأن حبي لها سوف يزيل ذلك الكابوس المظلم ، ولكني لم أستطع أن أقف مكتوف الأيدي وصممت على إخبار عمي بذلك ولكنني ترددت ، لأن سمعة عمي من سمعتي وأخاف عليه أن يموت من هول الكارثة ، بالله عليك إنني لا أدري ماذا أفعل .ز لقد حاولت مراراً أن أقتل الشخص المعتدي ولكنني أتراجع ..

أرجوك أن لا تهملي رسالتي لأنني أنتظر الرد عليها بفارغ الصبر ..

أنت تحب بنت عمك كل الحب . وهي تبادلك الحب نفسه منذ ثلاث سنوات .. ولأجل الحب .. ولأجل صلة القرابة يجب أن تصفح عنها .. فعارها عارك ، وعيبها يعيبك ..

صحيح هي أخطأت بإخفاء الأمر عليك .. وكان من حقك عليها أن تخبرك صراحة بكل شيء قبل الزواج ، كي تتيح لك حرية الاختيار ، حتى لا تشعر أن في الأمر خدعة أو نوعا من التوريط أو الإجبار ..

وتأكد يا عزيزي أنك لو عرفت حقيقة الأمر في وقت مبكر كنت حتما ستستر عليها ، فالله قد أمرنا بالستر ، وأنت ابن عمها وتخاف أن يمس سمعتها سوء ، لأن شرفها هو شرفك وكرامتها هي كرامتك..

حاول أن تنسي ما كان وابذل قصارى جهدك لتجاهل هذا الموقف رغم قسوته ، فإن لم تستطع فلتنفصلا في صمت وهدوء ، وأيضاً لك عذر في ذلك ، فلكل إنسان طاقة محددة ، وكما يقال للصبر حدود .. ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها..

سرقة !!!

لا أدري كيف أبدأ مشكلتي فهي كالجمرة على قلبي ، لا أدري ماذا أفعل .. وأعدك بأن أعمل بما تقولين . أحببت شاباً حبا جنونياً وأنا متأكدة أنه يحبني ، وكنا متفقين على الزواج والآن كل أهلي تقريباً عرفوا بعلاقتي معه وأنه كان يحبني وأنا أحبه ، وبعد مضي سنة على حبنا أخذ يطلب مني مطالب غريبة بأن أحضر له بعض النقود ، وقال لي بأنه محتاج ويريد مني مبلغاً من المال ، وسألته لماذا يريده قال لأنه يريد أن يسافر وأنا كنت أخجل أن أرده فقلت له أن شاء الله ولكني تحيرت فما باليد حيلة غير أن أبيع عقداً ثميناً كان عندي وفعلا بعت العقد ولم يكمل النقود التي طلبها مني . حاولت ومددت يدي إلي مال والدتي وسرقت منها ما يكمل النقود وأعطيته ، وبعد أيام طلب مني مبلغا آخر ومددت يدي إلي مال أمي مرة أخري وأخذت المبلغ الذي يريده وانتهي الأمر ، ومنذ أيام طلب مني بعض الملابس ودبرت المبلغ واشتريت له هذه الملابس التي يريدها من فلوس أمي وانتهي الأمر ولكن منذ أيام طلب مني طلباً غريبا يريد العقد الذي ألبسه ، العقد ( ذهب) كانت الوالدة قد اشترته لي ، لا أدري يدون شعور عندما طلبه مني أعطيته والآن الوالدة اكتشفت أمر الملابس التي بعثتها له والمال الذي سرقته منها ، فقط بقي أن تعرف أنني بعت ذهبي وأعطيته عقدي . وهو إلي الآن لا يعرف بأن أهلي عرفوا بعلاقتنا . أخاف أن أقول له فيتركني بحكم أن أهلي يقربون إلي أهله ونسيت أن أقول لك بأنه شاب متدين ومن عائلة ليست فقيرة وأريد أن أخبرك بأن الوالدة جاءت تهددني وتقول أنها ستخبر والدي بأمره ، وتقول لأمه كي تتصرف مع أبنها . لا أدري ماذا أفعل . لا تقولي لي اتركيه لأنني لا أستطيع ، وفي نفس الوقت أريد أن أرضي أمي وأسكت ألسنة أخواتي في المنزل لأنني أصبحت شاذة بينهم ، قولي لي أرجوك يا أخت كريمة ماذا أفعل وأنا لا أستطيع أن أتركه ولا أستطيع أن أكمل معه لأنه لن يقدر أن يتزوجني إلا بعد 5 سنوات تقريبا ولا أستطيع أن أري أهلي يعاملونني بهذه الطريقة ولا أريد أن تذهب أمي إلي أمه لكي تعمل لي فضيحة بين الأهل ، وكيف أمي منذ أيام طلبت مني العقد الذي أعطيته له فقد قالت بأنها تريده . لا أدري كيف أقول له أن والدتي تريد العقد ، صدقيني يا أخت كريمة ضحيت بكل شي بمالي بوقتي بسمعتي بنفسي من أجله ولم أقصر معه .. ولكن لا يوجد باليد حيلة..

أرجوك أعطيني الحل المناسب لهذه المشكلة ولهذه الاستفسارات إنني أنتظرك على أحر من الجمر لكي تردي على وسامحني على خطي لأنني لا أستطيع الكتابة لأن يدي صارت ترتجف من شدة خوفي من المستقبل..

فعلا أنت لم تقصري معه .. لكنك قصرت مع نفسك جدا ، فمددت يدك إلي مال أمك وسلبتها ممتلكاتها دون إذن وأعطيتها لمن لا يستحق !!

يا للهول !!

فتاة في مثل سنك متعلمة مثلك تسرق أمها !! هذا عمل فظيع يا فتاتي ، وأتمني أن تندمي عليه ، لأنك تعلمين عقاب السارق ، هو قطع اليد ، فحذار تكراره مرة أخري .. طبعا .. الآن .. أعتقد أنك فهمت أن ذلك الشاب يستغلك بطريقة واضحة كالشمس ، فيسخرك لتلبية رغباته ، يخسرك براءتك وكرامتك .. واحترامك لنفسه..

وهذه أشياء لن تعوضيها كنوز الدنيا كلها .. أنت مازلت تنوين الانتظار خمس سنوات أخري على أمل أن يتزوج بعد انقضائها .. لكن .. هل سألت نفسك كم سرقة أخري .. تنوين ارتكابها لإرضائه ؟! وهل سألت عن المصير المظلم الذي ينتظرك عقب ذلك !!

وإذا كان هذا الشاب المحترم يدفعك لسرقة المال لجلب المال له ، بعد إلحاحه عليك ، فيا تري من ستسرقين إثر افتضاح أمرك بين أفراد أسرتك !!

أعقلي يا فتاتي .. وعودي إلي عقلك ، وابتعدي عن هذا المستغل السفيه قبل أن ينفذ صبر أمك ويحدث ما لا تحمد عقباه..

 

شيء !

أنا رجل أبلغ من العمر حوالي أربعين عاماً ، متزوج ولي أربعة أطفال أحب زوجتي وهي كذلك تحبني ولم أبخل عليها بأي شيء مطلقا ولا علي أولادي .. وأحمد الله أننا نعيش في راحة كاملة ، إنني بنيت لهم بيتاً كبيراً ولا ينقصهم أي شيء من متطلبات الحياة، ولكن فجأة ومنذ خمس سنين ماضية تغيرت زوجتي من جهتي وأصبحت ترفض مجامعتي وتقول بأن صحتها لم تعد تسمع بذلك . عرضت هذا الموضوع على أقرب الناس إليها وهي أمها ولكنها لم تستجب لكلام أمهما .. وأصرت على رأيها وأنا كرجل أحتاج لإشباع هذه الرغبة الغريزية بصورة مستمرة ، وإذا لم أمارسها أصبح مريضاً ، وأنا لم أتعود استعمال القوة مع زوجتي ، وأميل إلي السياسة ولكنها لا تستجيب لي وقد مرت الأيام والشهور والسنون وأنا أعاني من هذه المشكلة المرهقة حتى تركتها وسافرت إلي الخارج كي تعرف بأن للزوج واجباً كبيراً عليها وعدت إلي أولادي بعد غياب عدة شهور ، ولكن بعد هذه المدة الطويلة لم أر أي تغير في سلوك زوجت حول هذا الموضوع فعدت وسافرت إلي الخارج بعد قضائي شهرين معها وأنا في أشد الزعل والحيرة والقلق..

أختي الكريمة / كريمة شاهين

أرجو من حضرتك أن تساعديني ” ماذا أفعل مع زوجتي علماً أن لي أولادا كبار ” وليس في نيتي زواج آخر _ كيف أتصرف إذا استمرت على هذه الحالة – مدة أخري ؟!

والله الموفق..

في مشكلتك نقطة حيوية أثارت اهتمامي .. وهي انقطاع زوجتك المفاجئ عنك ، بعد هذه السنين الطويلة من المعاشرة الزوجية !!!

فإذا افترضنا أنه لا يوجد سلوك إلا وراءه دافع، لأدركنا إذن أن وراء تصرف زوجتك هذا سبباً معيناً ، سبباً مؤكدا يدفعها لرفضك كرجل وليس كزوج .. فما هو هذا السبب يا تري ؟!

هل هو سبب عضوي نابع من مشكلة صحية تؤثر على مقدرتها الجسمانية ؟! فيجعلها ترضي بك زوجاً ، ولا تقوي عليك رجلاً ؟! أم هو سبب آخر ؟!

بالطبع لن أقول أنها امرأة مطحونة تعاني من طبيعة العصر التي تجعل المرأة مرهقة بسبب أعباء العمل سواء داخل البيت أو خارجه ، وبالتالي تقل رغبتها الجنسية ، وقد تصاب بالبرود الجنسي .. لن أقول ذلك لأنك توفر لها كل شيء ، فيبدو والحمد لله أنك ميسور الحال ، لا تبخل عليها بشيء .. إذن .. نعود لنتساءل مرة أخري .. ما هو السبب يا تري ؟!

من تحليلي لرسالتك لاحظت أنك رجل ذو غريزة متميزة تحتاج لإشباع دائم ومستمر . ويبدو أنك كثيرا ما تفاجئ زوجتك بهذه الرغبة المتأججة في أوقات قد تكون هي غير مهيأة نفسياً لها ، أو غير مستعدة جسمانياً لها …

أيضاً ربما تكون قد أغضبتها دون أن تدرك ، أو زعلتها دون أن تشعر .. وبعد ذلك تأتي تطلب منها أن تلبي رغبتك متي شئت وبلا سابق تمهيد ؟!

لذا يجب أن تسأل نفسك : ما هو السبب يا تري ؟!

وقبل ذلك يجب أن تعرف أن المرأة إنسان ذو إحساس ومشاعر ، قبل أن تكون حيواناً ذو رغبات وغرائز ..

يجب أن تلتفت إلي قلبها قبل أن تنظر إلي جسدها . جب أن تهتم بحالتها النفسية / كما تهتم بحالتها الجسدية !

عاملها بمحبة وعطف ومودة ، عاملها بلين وشفقة ورحمة ، ولا تفرغها من إنسانيتها وتحولها إلي شيء أو أداة…. شيء لإمتاعك . وأداة لخدمة شهوات ورغباتك !

ولا تنس أبداً قول الرسول الكريم : ” لا ترتموا على زوجاتكم كالبهائم “. وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.

 

كارتون !!!

إليك هذه المشكلة من واقع أليم أعيشه أرجو نشرها على كل الملأ ليعرفوا مأساتي ويغيثوني قبل أن ألجأ إلي الانتحار ..

إنني فتاة تجاوزت الثامنة عشرة من عمري ، تعلمت حتى الصف الثاني ثانوي ، متوسطة الجمال ، أعيش في عائلة متوسطة الحال وإنني خائفة وخجولة فإليك حكايتي كما أعانيها وأنا أمامك .. أنا فتاة ضائعة بين أمواج الحرمان والألم .. والعذاب هل هذا ممكن أن يحدث ؟؟! وما هو ؟؟! رجل كبير .. يناهز الخمسين من عمره .. متزوج .. وله أبناء ” بنين وبنات ” ولكن ما الغريب في هذا ؟! إن هذا الرجل الذي يسمونه من ذوي الخبرة الطويلة في الحياة .. ولكن هذا الرجل .. أو بالأحري زوج أمي فعل ما لا يمكن تصديقه على الرغم من أنه متزوج ، لكنه لم يكتف بزوجته وأم أبنائه ، هل تعلمين إلي ماذا لجأ هذا الرجل ليشبع شهوته ؟؟ لقد لجأ إلي شيء لا تصدقينه ، لقد اغتصب الطفلة البريئة ، لا إنها لم تكن طفلة، بل غبية .. غبية جدا ولكن كيف سمحت له بمثل هذا العمل الفظيع ؟ ألم تقاومه ؟؟

عزيزتي :

إنك لا تعلمين الرجال .. إن لهم طريقتهم بالسيطرة على المرأة .. والفتاة .. والآن بعد أن انتهي كل شيء .. ونفذذ رغبته وأشبع شهوته .. فماذا تفعل هذه الفتاة المسكينة ؟ بعد أن فقدت أعز ما لديها .. وهي في ريعان شبابها !! ماذا تفعل ؟ أتصبر على ما تراه في الدنيا من خيانة ؟ فعلا هذا ما فعلت أصبحت إنسانة أخري .. أو بالأحري حيوانه .. إنسانة ميتة .. لا تحس ولا تشعر بشيء لديها سوي دموعها وأحزانها تساعدها على ما بها .

ولا يفوتني أن أحكي عن معاملة زوج والدتي الآن فأنا مهما أخالف أو أرتكب من أخطاء لا يردعني فكأن هذا مكافأة على ما بيني وبينه فما رأيك في هذه الحياة البشعة التي أعيشها ؟! وهل تستحق أن أستمر ؟! أم أن الخلاص منها أفضل ؟! لك تحياتي …

أنا في رأيي لا وألف لا للانتحار . لأن كل الأديان السماوية ترفض قتل النفس نهائياً .. فبالانتحار تخسرين دنياك وأخرتك . فمهما فعل الإنسان ومهما بلغت ذنوبه ، فإن رحمة الله واسعة إذا تاب وأقلع عنها توبة نصوحا لا رجعة فيها .

المهم….

أن تكوني جادة رافضة لهذه الحياة البشعة الشنيعة ، وأعتقد أن كتابتك لي وطريقة تفكيرك الجديدة الثائرة هذه ، تعتبر ظاهرة صحية ، لأن بداية العلاج هو الإحساس بالمرض والاعتراف به ، ومن ثم اللجوء إلي الطبيب بحثاً عن الشفاء ..

وحمداً لله أنك صحوت من غفوتك الآن ، بدأت تطلبين الحياة الطبيعية الكريمة غير الملوثة بالدنس والخيانة ….. و…. …. !

واعلمي أن المجرم ضعيف دائماً وخائف أبداً ، مهما كانت سلطته وقوته الظاهرة ، فهي سلطة هشة . وقوة كارتونية من السهل عليك الوقوف أمامها بقوة صادقة حقيقة مهما كلف الأمر ، لأن الحق معك ، والصح إلي جانبك ..

فهددي هذا الوحش بفضح أمره ، وارفضي نهائيا الانصياع لرغباته البشعة الدنسة التي لم ترحم طفولتك ولا صباك . ارفضي . ارفضي حتى لو أدي بك الأمر إلي قبولك الضرب أو الموت دفاعاً عن عرضك وشرفك.

ثم … رغم الخوف والخجل لماذا لا تلجأين إلي أمك ؟ لتحميك من هذا الوحش المسمي زوجها ؟!

استنجدي بها وتأكدي أنها ستقف إلي جانبك وأبداً لن تخذلك ، فأنت ضحية الطلاق ، وضحية انعدام العناية من والدتك نفسها ، التي كان يجب أن تسهر على راحتك وعنايتك .. وليس تركك طفلة صغيرة مهملة مما أدي إلي حدوث ما حدث . من اغتصاب مبكر متكرر لنفسك وجيدك !!

وها هي كبرت الطفلة بعدما فقدت نقاء النفس ، وسلامة الجسد … كبرت ونضجت فقرفت وندمت وتمردت على ما يفعل بها ، ويرتكب في حقها من موبقات ..

الجأي إليها فوراً يا صغيرتي فهي كفيلة بتعويضك عما عانيت وقاسيت . وهي قادرة على حمايتك مما تعانين وتقاسين .. كان الله في عونك …..

 

 

همسة حب

نداء القلب

أحبك لكنني موجع                               فهل أنت يا هرجري تسمع

صددت فأدميت مني الفؤاد                        ولم تهدأ النفس والأضلع

ولم أر بعدك ما يستطاب                         ولم أر بعدك ما ينفع

ولا الليل ليلي إذا ما أطل                         ولا الصبح صبحي متي يطلع

وما الروض إلا هشيم كئيب                       بهجرك في ناظرك مفزع

وإن غرد الطير فوق الغصون                     عجبت له صادحا يسجع

وهيهات أنشد غير النحيب                        وإن خفي الحزن والأدمع

لك الشعر وحدك كيف الغناء                      لغيرك لا جاد لي مطلع

عبدتك يا كل شيء لدي                          لعينيك يا فتنتي أركع

فلا عيش دونك إن الحياة                         عذاب إذا أنت لا ترجع

لقد أصبح الفكر رهن الشرود                      كثير التشتت لا يجمع

وأصبح قلبي كطفل ينوح                          تحير في الدرب ما يصنع

يطوف ويطلب من ضيعوه                        فهل يحمد العيش من ضيعوا

وهل يستلذون طعم المنام                         ويهنأ في نومهم مضجع؟

أحمد السقاف

عزوبي

تبدأ مشكلتي منذ شهر تقريباً عندما كنت أسكن عند إحدى العائلات ” سكن عزابي ” لأنني كنت خاطباً وأحب خطيبتي ، وكان جميع الجيران يحترمونني لأنني لم أثقل على أحد منهم، وكان لصاحب البيت الذي اسكنه ابنة في التاسعة عشرة من العمر تدرس في إحدى الكليات وفي يوم طلب مني والدها أن أدرسها لأنني جامعي ، ولم أرفض الطلب وقمت بذلك ومكثت أدرسها حوالي خمسة شهور ، ولم أعرها أي انتباه ، وكنت جديا معها وكان شقيقها الكبير يدخل وأنا أدرسها ثم يغلق الباب ويخرج لأنهم يثقون مني كل الثقة . وكان كل يوم أنها طلبت أن أشرح لها درسا ولم أعلم أنه لا يوجد أحد من أهلها في البيت ، وحتى لو علمت لأخذت الأمر ببساطة ، وقرعت الباب ففتحته لي ودخلت إلي غرفة الضيافة وأخذت الكتاب أقلب صفحاته بحثاً عن الدرس المطلوب ، وما هي إلا لحظات وإذا بها تدخل الغرفة وفي يدها فنجان من القهوة وترتدي الملابس الشفافة الفاضحة لجسمها فأدرت وجهي وطلبت منها أن تستر نفسها وكنت أكلمها كلام الأخ لأخته ولكن دون جدوى وأخذت تعانقني ، وما كان مني إلا أن صفعتها على وجهها وهممت بالخروج ولكن كانت صيحتها أسرع من خروجي ثم إنها خلعت ثيابها فتجمع الجيران وهي تبكي وتقول لقد عملها السافل وأقسمت لهم أنني شريف ولا أستطيع عمل ذلك فقسم منهم صدقني والآخر كذبني ، وطلبت منهم أن يعرضوها على دكتور اختصاصي حتى تثبت براءتي وكانت الطامة الكبري والدكتور يقول أن الفتاة ليست عذراء فشاع الخبر بين أهلي وأهل خطيبتي وبين جيراني وكلهم بين مكذب ومصدق وحاولت جاداً أن أقنع خطيبتي بالأمر ولكن كانت إرادة والدها أقوي من ذلك وطلب مني أن أطلقها وأصبحت لا تطيقني إذا اقتربت منها صارت تكرهني أكثر من نفيها وفعلا طلقتها ولكني أحبها من كل قلبي وإنهم يريدون مني أن أتزوج الفتاة فكيف أتزوج فتاة لا أحبها وأكرهها أشد الكرة لأنها غدرت بي وشوهت سمعتي وجعلت مني إنساناً عالة على المجتمع لا أطيق نفسي.

بربك إرشديني إلي الطريق الصواب وأرجو أن تجدي الحل المناسب لمشكلتي فقد فكرت كثيراً في الانتحار ولكني لأنني مؤمن بالله عدلت عن ذلك وأرجو أن تكون مشكلتي عبرة لكل شاب تخدعه الظروف المحيطة به … بربك أنقذيني وقولي لي ماذا أفعل ؟!

أتعرف يا عزيزي أن مشكلتك برغم تركيبتها العجيبة إلا أنني أحسست أنك صادق فعلاً.

لست أدري لماذا .. لا تسلني .. فهو إحساس داخلي أعجز أحياناً عن تبريره .. لذلك أقول لك أيا كان الوضع ، ومهما كانت قسوة الظروف عليك ، إياك أن تتزوج إنسانة بهذا السلوك؟!

إنسانة مجردة من إنسانية معدومة الأخلاق ……إنهـا سيئة للغاية لا كرامة لها ولا حياء … فكيف فقدت عذريتها ؟! وفي أي ظروف كانت؟؟!

وإذا كانت لديها القدرة على المكر والدهاء والخبث إلي هذا الحد ، سوداء .. والله عندي السجن أهون وأرحم مائه مرة من زواجك منها …

ثم إنك ما دمت متأكدا من نفسك ، فلماذا لا ترفع عليها دعوى ؟! لماذا لا تطالب بإعادة الفحص الشرعي عليها من جديد ؟! فالطب الشرعي قادر على سرد جميع التفاصيل .. وقادر على تحديد أدق البيانات .. ففتاة خليعة إلي هذا الحد المؤكد أنها فقدت عذريتها من زمان !! رما منذ عدة سنوات وقبل مجيئك للسكن عند أهلها …

فحذار أن ترمي نفسك في النار ، حذار أن تحطم مستقبلك وتقبل بهذه اللئيمة ، المليئة بالغش والغدر زوجاً لك ، ولا تتصور أنها قد أحبتك أو عرفت معني الحب السامي لحظة في حياتها …

فامرأة هذه صفاتها هي أخت للشيطان ، هي امرأة مخادعة تجيد تمثيل دورها تماماً ، ولكن صدقني .. أمثال هذه الخدع الخسيسة سرعان ما تنكشف ويسقط القناع .. قناع العفة الزائفة ..

فأين هي من حياء العذاري ورقة الفتيات وخجل البنات ؟

أين هي من الأب والصدق والإيمان ؟!

إنها أبعد ما تكون عن هذه الصفات.لأنها إنسانة بلا قلب ولا ضمير .. فلا تقبل بها زوجة مهما تكالبت عليك الظروف .. لأنها لن تكون أمينة عليك ولا علي أطفالها .. وأما خطيبتك التي كانت ضيقة الأفق ، وصدقت الهول الذي سقطت فيه ، فعندما تعلن براءتك تأكد أنها ستعود إليك إذا كانت حقاً تحبك .. إذا لم تعد فيكفيها الندم الذي ستعاني منه طويلاً . وأنت لا تضعف ، ولا تخف ، ولا تتخاذل ، ودافع عن نفسك بكل قوة وبسالة ، ويكفي أن الحق معك .. والله معك .

حقا .. ” إن كيدهن عظيم ” صدق الله العظيم.

خريف .. وربيع

أنا طالبة جامعية ، باختصار شديد ودون مقدمات أحببت دكتوري ، وهو أكبر من أبي وهو أيضاً يبادلني نفس الشعور . أهملت دراستي وصحتي تنهار يوما بعد يوم.

إنني محتارة .. من ذلك الشعور الذي يراودني في كل لحظة من لحظات حياتي وفي كل موقف حتى أن اسمه أردده كاغنية وهو أجمل لحن أعزفه على أوتار قلبي الجريح المعذب المتيم بحبه . في محاضرته أسرح في عينيه والكل ينظر إلي مندهشا باستغراب لهذه النظرات وكأنه لا يوجد أحد في المحاضرة سوانا أنا وهو.

عزيزتي ، هو رجل تعدي الخمسين ، وأنا مازلت في العشرين من عمري فكيف يجتمع الخريف مع الربيع .. أنقذيني فإن قلبي معذب وأعصابي منهارة وجسدي نحيل وعقلي توقف عن التفكير ، أنا لا أنشد العاطفة فأبي وأمي يمنحاني كل حب وليس لدي أي مشاكل في محيط الأسرة ، أقول هذا كي لا تظني أنني محرومة عاطفياً كما أنني لست مراهقة وأقول هذا الكلام بكل قواي القلبية والعقلية ، أرجو ألا يكون ردك أن نفترق فهذا أكبر المستحيلات لأن الفراق سهل قوله ولكن صعب تنفيذه ، فالحب الصامت الصادق لابد أن أصرخ وأقولها لأهلي لأنني أحبه وأريده بأعلى صوت وكلي ثقة بأن هذا الحب هو عنصر وجودي ، فكيف أهدم وجودي لكي أنساه وأبتعد عنه ؟ مستحيل مستحيل.

أرجوكي أنقذيني فأنا أكتب إليك هذه لرسالة وقلبي يتمزق وينزف دما ودموعاً.

أنت فعلاً عزيزتي لا تنشدين العاطفة . ولكنه تنشدين المشاكل . فهذا الدكتور العظيم الذي تعدي الخمسين لا بد أنه متزوج وله عدة أبناء .. أليس كذلك ؟!

أيضاً .. لنفرض أنني وافقتك على فكرة الزواج .. فهل تتخيلين منظرك بعد عشر سنوات وأنت في الثلاثين قمة الأنوثة .. وهو فوق الستين .. في طريق الشيخوخة ؟! أن الطبيعة نفسها ترفض أن يجتمع الخريف والربيع معاً .. فكيف تفعلين ذلك أنت ؟!

أنك ستنسين الحب حينئذ ، ولن تشعري إلا بطعم المرارة والألم والندم . حينما ترين هذه الشخصية العظيمة التي بهرتك وقد تحولت كتلة من الغيرة العمياء والتسلط الأصم اللذين سينسجمان معاً قيدا رهيباً يخنق حريتك ويزهق أنفاس حياتك ؟!

أما هذا الإطار اللامع المبهر الذي يحيط تلك الشخصية بهالة من العظمة داخل المدرج فهو نفسه الذي سيحيطها بهالة من الكآبة والضيق داخل البيت .. أثر ظهور الاختلاف الغائر بين شخصيتين وعقليتين يفصلهما بعد زمني عمقه ثلاثون سنة ؟!

معذرة لرجائك ، فردي لك هو أن تفترقي عن هذه التخيلات العاطفية الجامعة .. وأملي أن تحتفظي لمشاعرك بكرامتها فلا تفضحيها أكثر من ذلك بين الزملاء والزميلات!

 

 

 

شراهة !!

مشكلتي تبدأ بزواج والدي من فتاة أوروبية تصغره بسنوات عديدة .

مرت الأيام تلو الأيام وهذه الفتاة تعيش بيننا ، وبصفتي الكبير من بين سنة أولاد وأختين بدأت أهتم بها وبدأت تهتم هي بدورها بي ، كان اهتمامي بها ولا زال اهتماماً بمنزلة الأم . طبعا بصفتها امرأة أبي ولكني لاحظت أن اهتمامها بي قد تعدي حدوده هذا الاهتمام بحيث أصبح بطريقة الإغراء المعتمد كالجلوس أمامي مع كشف الساقين أو الظهور بملابس شفافه للغاية تكشف عن مفاتها .

وذات يوم حدث ما لم أتوقع حدوثه . حدث أمر ولا أدري ماذا أفعل أو أقول ،حدث أن دخلت غرفتي هذه المرأة الأوروبية زوجة أبي بملابس خفيفة جداً وارودتني حتي كان ما كان وأصبحت تأتي دائماً ، وعندما أرفض تهددني وتتوعدني بأن تقول لوالدي كل ما حصل وأنا محتار .

أرشديني جزاك الله ألف خير ..

عزيزي ..

لا أظن أنه من الممكن الآن .. وبعد وضوح موقف زوجة أبيك منك ، أن تقدر على الاستمرار في هذا الوضع المشين . فهي بمجيئها إليك وإلحاحها عليك تحلم بالمتادي في هذا الوضع حتى آخره .. وأخره مجهول يا عزيزي .. مجهول .. ولا يمكن لأحد بحال من الأحوال أن يعلم بالتحديد ماهية هذا المجهول البشع الشنيع .. شهوة هذه المرأة فيك لن تبرد ولن تفتر ، وستحاول أن تفقدك إرادتك في الرفض برغبتها غير المحدودة والمستمرة.. والشرهة ! وعليه .. يجب أن تتحرر منها ، أن تقوم بفعل يردعها ، يخيفها ، أن تجد أحداً تخبره بهذا السر ليساعدك في تعريف أبيك بسلوكها اللعين ، كي يتخذ موقفاً حاسماً يخلصكم منها جميعكم .. وقبل أن تنجب من أشقاء شياطين يسومون التعاسة والعذاب والشقاء .. مدي الحياة !.

 

الجريمة الناقصة

كنت فتاة عادية أميل إلي الزواج من أحد أقاربي ، ولكن في يوم من الأيام تقدم لخطبتي أبن عمي ، وكان بينه وبين والدي خلافات قديمة تلاشت مع الأيام ولكنها تجددت عند تقدمه لخطبتي إلي حد أن هدد والدي بالقوة فتوسط بعض الأقارب حتى وافق والدي .. فلم أجد بدا من الموافقة ليس رغبة فيه وإنما قطعاً للنزاع .. وكان والدي قد استغل ابن أخيه ففرض عليه مهراً لم يفرض على أي مسلم ، ولكنه دبر المبلغ وسلمه لوالدي .. وحدد موعد الزواج .. وزف العريس .. فبت معه هذه الليلة المرة ، وفي الصباح فوجئت بما هو أمر ، إنها الصدمة العنيفة والشقاء الذي سيرافق حياتي كلها ، فقد قام زوجي وارتدي ملابسه وأخرج من جيبه من المال وبرفقته ورقة طلاقي .. بعد أن أفقدني عذريتي وقال لي بكل برود سلمي لي على عمي وأعطية هذا المبلغ وقولي له بأنني أشتري كشف عاره بأكثر من ذلك كله ، وأنت يا بنت العم سامحيني .. لأن والدك الذي رباني وعشت تحت سقف بيته علمني هذا الحقد والانتقام .. أما أنا فإنني سأخرج من هذا البيت ولن أعود إليه وسأسعى في الأرض لأسدد ديوني .

وأنا ما هو ذنبي لأكون ضحية الانتقام وماذا سيقول عني الناس .. لقد ظلموني وتكلموا عني أبشع الكلام فلا أحد يصدقني حتى أهلي في البيت .. لم يصدقوني ، غير والدي ، وبأي شيء أثبت لهم براءاتي ؟ ثم إنني أمضيت مدة ثلاث سنوات ولم يتقدم لي أحد ..

عزيزتي لقد نفذ صبري وأفكر بأشياء لا تخطر على بال . إنني التجأ إلي الله إليك لتجدي لي حلاً ولن أنسي لك هذا المعروف ما دمت حية .

عزيزتي ..

لم تخلق بعد الجريمة الكاملة ، فمهما أجاد المجرم واتقن ، إلا أنه ينسي ويسهو عن جزء ما ، يكون هو مفتاح الجريمة الذي يقود إلي كشفها ..

ومفتاح مشكلتك هو ” التاريخ ” .. نعم تاريخ زواجك وتاريخ طلاقك الذي كان معداً مسبقاً ، بحث وضعت قسيمة لطلاق في يدك صباح اليوم الثاني لزفافك !!

والدك .. الطرف الأخر في الجريمة ، المسؤول الأول والجاني الأكبر ، عليه أن يتحرك فوراً ودون إبطاء ليدعو رجال العائلات المحيطة بك ، حاملا بيد قسيمة الزواج ، وباليد الأخرى قسيمة الطلاق.

عليه أن يتكلم ، وأن يوضح معترفاً ما كان بينه وبين أبن أخيه من حقد وكراهية وعناد ، عليه أن يشرح كيف حاول رفضه زوجاً لك ، وكيف استمات في تعجيزه بذاك المهر الكافر الذي لم يفرض على مسلم من قبل .. وكيف قبل ذاك العناد والتحدي بهدف واحد هو الانتقام من عمه في شخص ابنه عمه !!

بعد ذلك .. أدعوك أن ترفعي رأسك ، وأن تبذلي جهدك لإزاحة حمل الظلم الثقيل هذا عن نفسك ، وأن لا تستسلمي بتخاذل وهوان ، لواقع يلصقك بقاع الخطيئة ، ويدمغك بخاتم الرذيلة ..!!

قاومي الإحساس بالخطيئة ، فأنت كنت عذراء بريئة تحلم بزواج من تحب ، فأصبحت مطلقة مهينة ، تتجرع عذابات مرة لا شأن لها بها .. ولا ذنب !!

لا تفكري في شيء الآن .. سوي تبرئه نفسك ، وحتما ستجدين أذناً صاغية بين الزحام تلتقط رنة الصدق في صوتك ، وتلمح حقيقة البراءة في عينيك . وكان الله في عونك.

عذاب شاب عازب!

أنا شاب مسلم مؤمن ، على خلق والحمد لله . اجتماعي محبوب من الجميع . هذه هي صفاتي التي لم أبالغ فيها والحمد لله على هذه الثقة من الناس.

في المجال الذي أعيش فيه توجد فتيات جميلات ، ونساء عديدات منذ صغري وأنا أتجاهل الاحتكاك بهن وأتغاضى عن النظر إليهن حتى لا أنخرط في انحرافات أنا في غني عنها . توجد أكثر من واحدة كلهن شباب وفتنة يحاولن إغرائي بكل ما تملك المرأة من وسائل إثارة وإغراء ، حتى أن إحداهن قالت لي إنني أحسد الإنسانة التي ستتزوجها .. و.. وغيرها من أشياء أخجل من ذكرها أو البوح بها ..

ومع كل هذا لم أضعف أو أتهاوي أمام كل هذه العوامل المشجعة على الانحرافات ، فأنا أتقي الله فيما أفعل واخشي غضبه.

سافرت إلي الخارج وهناك تكررت لمأساة وزادت الإغراءات ، أمام طبيعة المجتمع تعددت العلاقات مع البنات لكن كلها علاقات بريئة تخلو من النزوات الطائشة ، المهم أنني لم أخطئ مع أي واحدة منهن لأنني متمسك بالعقيدة وأؤمن بالحكمة القائلة ” أفعل ما شئت كما تدين تدان “.

اعذريني أخت كريمة لطول رسالتي وصدق صراحتي لأختي وعزيزتي فأنا أتعرض لضغوط لا يتحملها شاب أعزب في مثل عمري ، فأنا شاب مكتمل الرجولة لكن ظروفي العائلية لا تسمح لي بالزواج في الوقت الحاضر .. فكيف أستطيع مقاومة تلك الإغراءات التي تحيط بي من كل جانب ؟!

كيف أقاوم الرغبة في داخلي نحو الجنس الآخر وأنا أري أمامي أفلام الغزل والحب المكشوف دون حساب ؟! كيف أطفئ النار التي تنقد في داخلي وتحرق أعماقي وتلك الصور الخليعة منتشرة في الأسواق بلا حساب ؟!

أرجوك يا أخت كريمة تحمليني ، هذه هي أول رسالة أكتبها وأبوح بكل ما يجول في نفسي إليك أنت ، وذلك لثقتي الكبيرة بك .. وأعذريني لأنني صريح مع نفسي وبالتالي مع الآخرين .

ماذا أفعل وكيف أتحمل هذه الإغراءات في كل وقت وفي أي مكان ، والبنات يبرزن مفاتن أجسادهن في البنطلون الضيق والثياب التي تبرز تفاصيل الجسد والعطر الفواح الذي يملأ أنوف الشباب ويثير غرائزهم ويشعل عواطفهم ؟!

إنني أنتظر جوابك أخت كريمة لأنه البلسم الوحيد لجراحي .

مع وافر شكري وتقديري واحترامي .

” أنا شاب مسلم مؤمن على خلق والحمد لله ” هذه أول عبارة كتبتها لي في رسالتك ، وطبعاً يا أخي أنت تلم أن الشباب المسلم المؤمن يجب عليه يمنع نفسه من الحرام وارتكاب الفاحشة ، وهذا ما فعلته أنت طوال حياتك وما حرصت عليه طول عمرك والحمد لله .. وهذا يعني أنك شاب تخشي الله ، ويرهب عقابه ، وعليه ، لابد أن تحاول أن تعتصم بالله ، وأن تكبح جماح نفسك قدر الإمكان ، وأن تسمو بغرائزك قدر المستطاع .. فتجنب النظر إلي الصور الخليعة والبنطلونات الضيقة ..

فالمسلم الحق هو الذي يغض البصر ، ولا ينظر بشهوة إلي المؤثرات التي تثير الغرائز وتحرك الرغبات ..

أيضاً يجب أن تعمل على إعلاء وتسامي هذه الغرائز والرغبات عن طريق ممارسة الرياضة .. كرة القدم مثلاً كي تستنفذ طاقتك الزائدة .. أو أن تزيد من ساعات عملك إذا أمكن هذا .. وأن توجه اهتمامك لقراءة القرآن الكريم والكتب الدينية والصوم مما يعصمك عن الوقوع في الخطأ .. وبهذا تشغل نفسك عن التفكير ف مثل هذه الأشياء ، لأن كل شيء ينبع من العقل ، فهو الذي يصدر الأوامر للجسم .. في كل الاتجاهات .

فإذا شغلت وقت فراغك ، سوف ترتاح ‘ فالفراغ هو آفة الشباب ، وهو مصدر كل المصائب والبلايا.

وحاول يا أخي أن تحافظ على تمسكك بالدين ، ولتحاول الزواج بأسرع ما يمكن ، وبأي شكل كان .. فليس هناك متنفس للغرائز إلا عن طريق الزواج ..

حفظك الله .

العذراء .. والخمر الأسود !

أنا فتاة جميلة ، توفي والدي وأخ يصغرني واثنتان من أخواتي في حادث سيارة ، ولم يبق من أسرتي سوي أنا وأخي الذي يكبرني بثماني سنوات ..

تزج أخي من ابنة خالتي وأنجبت منها طفلا هو في العام الأول من عمره . وفي إحدى الليالي ذهبت زوجته وطفلها إلي بيت أهلها ، وبقيت في المنزل وحدي ، عندما انتصف الليل سمعت أصواتاً عالية وضجة فخرجت من حجرتي ، ويا ليتني ما خرجت ، فلمحت أخي ومعه شلة من الشباب الضائعين يشربون الخمر ، وهم فاقدوا الشعور فعدت إلي غرفتي أحاول أن أنام .

وبعد فترة  من الوقت فتح باب الغرفة ، وإذا بواحد من هؤلاء الشباب الفاسدين يتهجم على ، فحاولت أن أصرخ ، أن أستغيث بأخي ولكنني لم أفلح ، عملت المستحيل لأدافع عن نفسي وما قدرت ..

فقدت عذريتي ، فقدت شرفي ، في نفس اللحظة التي كان أخي فاقدا فيها وعيه ، سلبني صديقه أعز ما أملك ..

بعد ذلك تقدم ابن عمي ليخطبني وهو الذي أحبه حباً جنونياً ، وكذلك هو ، فرفضته ولم يصدق عندما سمع الخبر ، أغمي عليه ، وقال أنا سوف أنتحر لو تزوجت غيري ، فقلت له لن أتزوج مدي حياتي.

أخي يحاول أن يعرف سبب رفضي لابن عمي ، حبيبي ، وهو يضربني بشدة كل يوم ليعرف السبب ويسألني هل هناك رجل آخر في حياتي ؟! فقلت له أنا لا أحب سوي ابن عمي ، فيعود يسألني ولماذا لا تتزوجينه ؟! فأسكت ولا أعرف بماذا أجيب غير الدموع .

وسألتني زوجته فأخبرتها بالحقيقة لأنني أثق بها ، فأخبرت زوجها ” أخي ” الذي صمم أن ينتقم بقتل صديقه الجاني .

أنا أموت في كل لحظة حزناً على نفس الضائعة ، وعلى ابن عمي حبيبي الذي يتعذب من المرض والحسرة كل لحظة .. وعلى أخي الذي سيصبح قاتلا يدخل السجن في أية لحظة وهو عائلنا الوحيد..

حياتي أصبحت جحيما لا تطاق ، فأنا لا أفعل شيئاً سوي البكاء والخوف والحزن ولا أعرف كيف أعيش وكل هذا العذاب يحيط بي .

أخبريني يا أخت كريمة ماذا أفعل قبل أن أصير مجنونة أو عمياء جزاك الله كل الخير .

بكل الحزن والأسى أمسك القلم لأجيب على رسالتك الحزينة الدامية ، فالصدمة عنيفة قاسية، والموقف مرعب فظيع..

عزيزتي .. مشكلتك المتشعبة الأطراف لن تكفيها الكتابة على الورق ، فهي تحتاج إلي بحث ومواجهة ونقاش ..

عليكم باللجوء إلي شيخ وقور ، رجل مسن فقيه في أمور الدين كي يهدئ من روع أخيك ، عندما يسمع كلام ربنا ويهتدي بالله ، فينزع من رأسه فكرة قتل صديقه ، قبل أن تتمكن من نفسه وتسيطر عليه ..

بعدها .. يبحث الأمر في هدوء بدون خجل ، بدون مماطلة ولتعلمي أنه من حق ابن عمك عليك باسم الحب الطاهر النقي الذي يجمع بينكما أن يعلم بكل ما حدث .. وبكل شيء مهما واجهت في ذلك من الصعوبة والحياء والخجل .. لكنه يجب أن يعرف بأسرع ما يمكن، وقبل أن يدمره الرفض والهجر والمرض.

بعد ذلك .. عليه أن يختار ، بعد أن يختبر نفسه ، يري هل يستطيع قلبه أن يسامح وأن يغفر أم سيمتلئ حقدا وغيره وكراهية ؟!

رغم صعوبة الموقف صارحيه بمنتهي الصدق والأمانة ، قولي له أنك  تحبيه كل الحب ، لذلك لا تستطيعين ولا تريدين أن تبدأي حياتك معه على الغش والخداع .. ودعيه يقرر وأنا متأكدة أنه لن يتركك ، ولن يفكر في أن يعاقبك لأنك ضحية بريئة ، مظلومة ، لا ذنب لها ولا يد فيما حدث .. وأنا على يقين بأنه سيسامح ما دام قلبه يعرف الحب .. فهو حتماً سيختار طريق الحب ..

ثم ليتفق الاثنان أخوك وابن عمك ، على طريقة التي يعالجان بها موضوع الصديق الخائن ، هل يقدمانه للعدالة ليأخذ جزاءه إذا ما توفر الدليل الكافي ؟! أم يتركانه لعدالة السماء تقتص منه حفاظاً على السمعة ، وتكتماً لها حدث بسبب الخمر الأسود اللعين ، وطيش الشباب الأهوج المهين ؟!

وليكن ذلك تحت رعاية ذاك الشيخ الوقور ، الذي تضعون في يده الأمنية هذه المشكلة العويصة ، شيء مفروغ منه أن لن يبوح بهذا السر لأي محلوق .. والله معك

 

البحث عن التعاسة

أنا زوج وأب لأربعة أولاد أمضيت فترة من حياتي الزوجية على أحسن ما يرام ونتيجة لظروف الحياة ولأسباب كثيرة وجدت نفسي على حب شديد مع شقيقة زوجتي ، حاولت إخفاء هذا الشيء مدة طويلة لأنني كنت في حساب شديد مع نفسي وضميري لأنه شيء مستحيل الحدوث ولا يقدر أي إنسان الأفصاح عنه وبعد فترة من العذاب والألم لم أجد وسيلة إلا أن أواجهها بالحقيقة فكان الجواب منها بالاستغراب لهذا الكلام أو هذا الحب ، وبعد فترة ، ونتيجة الاختلاط والصفات الحميدة من جميع المستويات والتي تتفوق بها عن زوجتي أعتقد أنها هي السبب في هذا الحب التعيس.

في آخر لحظة عرفت أنها تحبني وتخفي الحقيقة عني مثلما كنت أخفيها في السابق.

ونتيجة لهذا العذاب المستمر قررت السفر بعيدا عن أولادي وزوجتي وبعيدا عن محبوبتي . سافرت لمدة سنة كاملة ورجعت في إجازة وحاولت نسيان هذا الحب ولكن عبثا ، كان رجوعي باعثا على تجدد الحب بيننا أقوي من السنين الماضي ، والذي يعذبني ويعذبها أن هذا الحب من نوع المستحيل لا سيما أن شقيقتها على ذمتي ، وها أن أكتب رسالتي هذه بعد سفري ثانية عن أولادي وزوجتي والعمل خارج بلدي مع أنني كنت أعمل في بلدي وقرب أولادي .

إنني أتعذب من هذا الحب اللعين حتى أنني دخلت المستشفي من كثرة القلق والتفكير.

إنني خائف على نفسي وعلى ضياع أولادي إذا استمر الوضع على هذه الحال إنني أعرف أن حل المشكلة هو في زواجها .

وهي من جانبها قد رفضت من تقدم لها لأنه غير مناسب . إنني أري أن الوقت يسير من سيء إلي أسوأ بعد أن أصبح عمرها 28 سنة ، ارجوكم حل هذه المشكلة التي يستعصي على حلها ولو أنني قدرت على عمل شيء لما كتبت إليكم لا سيما أنني أخجل من نفسي.

ألا تعرف يا عزيزي السر في عدم القبول أو السبب في رفض الخطاب الذين يتقدمون لها من زمان وحتى بلغ عمرها 28 سنة ؟! أنت يا سيدي الفاضل .. يا زوج أختها لأنك قد ملأت رأسها بصورتك .. وحشوت وجدانها بحبك ..

أنك تعذبها وتسممها بمشاعر خبيثة إذا نمت وترعرعت لن تطرح إلا التعاسة والألم والضياع.

وسيكون أول التعساء المتألمين هم أبناؤك الأربعة ، الذي ستذهلهم الصدمة عندما يرون خالتهم وأباهم .. يمزقان حياة أمهم أحب الناس إلي قلوبهم !

أعقل يا أخي .. ودعك من هذه الشهوة التي تنهش أعصابك ، وتكاد تحطم عقلك ، وركز تفكيرك على أسرتك ، وحاول أن تراسل زوجتك وتخبرها فيها بضرور السعي جدياً ، لتزويج أختها أو أن تجد لها طريقة للحاق بك حيث تعيش وتعمل دون أن تصطحب أختها معها .. وحتى لا يتكرر المشهد المعاد الممل

وصدقني .. ستخف حدة هذه المشاعر إذا عرفت كيف تتحكم في نفسك .. ولا تنس يا عزيزي أنك رجل .. والرجل يعرف بقدرته على ضبط النفس وأتحكم في نفسه ، واستخدام إرادته.

 

التوبة

أسطر مشكلتي بعدما يئست من إيجاد حل لها ولا أطيل عليك يا أختي فمشكلتي تتلخص بأنني منذ خمس سنوات سافرت للدراسة للخارج وبعد فترة أصبحت غارقة في الحياة الأوروبية بكل معانيها حتى أنني صرت وكأنني إحدى هؤلاء الأوروبيات فأصبحت من هؤلاء المدنين على الخمر والمخدرات بسبب الغربة والجهل والوحدة التي عانيت منها.

أختي كريمة صدقيني أنني في بعض الأحيان كنت أنهار من أجل الحصول على المخدرات ولكن بعدما رجعت إلي بلدي صدمت بالواقع لأنني أصبحت غريبة على بنات جنسي وعلى مجتمعي رغم أنني احب هذا المجتمع الذي أشعرني بمدي فداحة خطئي ، فقد أحببت أحد شبابه وكانت نيته شريفه ويريد الزواج مني . بالله عليك كيف أتخلص من هذه المشكلة التي لا تغتفر من المجتمع . وحبيبي . أرجوك لا تطلبي مني مصارحته أو مصارحة أهلي لأن أهلي يثقون بي ثقة عمياء وأنا لا أريد أن أحطم حياة أهلي بمصارحتهم أو مصارحته لأنه يحبني كثيراً .. فماذا أفعل ؟!

عزيزتي ..

أنت بعذابك الحالي وبإحساسك النادم الذي جسم لك فداحة خطئك .

تبحثين عن حقيقة نفسك أثر تلك الصدمة النفسية التي تعرضت لها حينما اصطدم ماضيك بحاضرك مجتمعك الطيب الحنون .. فنشب هذا الصراع الذي يدفعك إلي الإحساس بالانهيار أو الرغبة في الانتحار.

جان بول سارتر يقول : أفعالنا هي نحن .

وبول تليش يقول : أن الإنسان لا يصبح إنساناً حقيقة إلا في لحظة اتخاذ قرار بالفعل.

وأنا عزيزتي المعذبة .. أصدقك بكل جوارحي ، وأعيش معك مشكلتك بكل خلجات نفسي .. ولهذا .. دعيني أطمئنك بأنك عدت الآن إنسانة جديدة تتخذ قراراً جديداً عظيماً.

الشاب الذي يريدك زوجة له .. قد أصبحت جديرة بهذه الثقة حقاً . وعليك أن تسدلي ستاراً حديديا على ما فعلت ، واحذفي تلك الفترة السوداء من حياتك . ولا تبوحي بها لمخلوق حتى أنت نفسك ..

وحمداً لله أن ربنا سترك ، ولا داعي أن تسيئي إلي سمعتك أبداً ، فالمصارحة في مثل هذه الأمور وخيمة العواقب ، لأن الرجل الشرقي لا يغفر لزوجته ماضيها . ولا ينسي لها نزواتها .. مهما أدعي المدينة ، ومهما تستر برداء العصرية..

إنه مهما تساهل في البداية ، وتظاهر بتبسيط الأمور .. وتقبل الأمر الواقع بدافع من الحب ، إلا أنه سرعان ما يتبدل ويتغير حين يقل تأثير الحب ويضعف .. ويتلاشي.

حينذاك ينكشف الغطاء . ويظهر المستور .. وتنكشف الأخطاء .. وتبدأ المعايرة والمهاترة .. وأسوأ الألفاظ !

جحيم وحرمان !

أنهيت تعليمي الجامعي ، وعملت بإحدى الشركات الكبرى وهناك تعرفت على فتاتين في آن واحد وفي ظروف واحدة ، أحببت واحدة منهما حباً لا حد له . وأحسست منها بذلك فطلبت يدها وكانت المفاجأة ، أنها مخطوبة بل ومكتوب كتابها وعلمت أنها هي وصديقتها لا يفارقان بعضهما على الإطلاق بل أنهما جارتان أيضاً ففكرت في أر كي لا أترك حبيبتي دون أن أراها في أى لحظة . فتوجهت إلي الثانية وخطبتها وكتبت كتابي عليها . وهنا حدثت صدمة كبيرة للأولي أي التي أحبها ومخطوبة فدخلت المستشفي وعندما ذهبت لزيارتها صارحتني بكل شيء وبحبها لي .. وصارحتها أنا أيضاً وقلت أن السبب الذي جعلني أخطب هذه هي أنت وحتى أراك . وبعد ذلك تعاهدنا على المقابلات خار المنزل دون علم خطيبها ودون علم خطيبتي وازدادت المقابلات وكل يوم يشتعل ذلك الحب . والعكس كل يوم عن يوم تكره هي خطيبها وتعترف لي بذلك وأنا أيضاً أكره خطيبتي وأعترف لحبيبتي أيضاً بذلك . وكل يوم عن الثاني يضيق النطاق بي وبحبيبتي . وقد قررت عدم الزواج من خطيبتي وهي قررت عدم الزواج من خطيبها . وخفت أن يعلم أحد بذلك كله فتركت وطني وسافرت إلي الخارج وكل يوم أتصل بحبيبتي وهي تتصل بي وتقول أرجع ..

فماذا أفعل ؟ دليني يا أختي كريمة .

أنت يا من أحببت وتولعت .. فتسرعت وتهورت .. وتورطت !

ماذا أقول لك ؟! لا أقول شيئا .. فلا سلطان على القلوب !

ولكن .. أتعرف أن أسوأ نقطة في المشكلة هي أن الفتاتين تربطهما علاقة صداقة متينة وأكيدة ، مما يزيد الموقف حرجاً وتعقيداً ؟! وأيضاً حبيبتك مرتبطة برجل يحبها ويقدرها ويريدها زوجة وأما لأطفاله !!

أري أن استمرار العلاقة على هذا المنوال ، سوف تؤدي إلي موقف رهيب . موقف فظيع . وعندما يكتشف الاثنان أنهما كانا يعيشان في وهم وخداع ، هما خطيب فتاتك وخطيبتك ، اللذان تستهتران بمشاعرهما  ، وتشوهان أخلامهما ..

الحل ..!! ؟

المواجهة .. المواجهة الصريحة الشاملة ، رغم ما فيها من حرج وخجل ، فهو أهون ألف مرة من الوهم بوصمة العار والخيانة والخداع !!

عليك أن تميط اللثام عن تلك الأمور ، وأن تحدد موقفك في نقاط صريحة واضحة .. ولكن قبل أن تقدم على أي تصرف ، انتظر بعض الوقت حتى تنتهي فتاتك من حل مشكلتها بنفسها ، وبعد أن تحصل على الطلاق فعلاً ، يبدأ دورك أنت .. فتقوم بفسخ خطبتك من تلك الإنسانة التي لا تحبها ، والتي اتخذتها ستاراً تتخفي وراءه بحبك ، وتكمن خلفه بحقيقة مشاعرك ..

فخطيبتك لا شك ضحية بريئة لتسرعك وسوء تصرفك ، هي حتما لا تستحق ما حدث لها ، أو ما سوف يحدث لها لو استمر هذا الوضع الملتوي المعوج ..! ؟!

أتركها .. دعها تبكي الآن قليلا ، بدلا من أن تبكي بعد ذلك كثيراً عندما تري بعينيها الدامعتين تعلق زوجها وهيامه بأعز صديقة لها .. فالحب لا يخفي يا عزيزي ، دائماً يكون المتفرج هو الأقدر على سبر غور هذا الغرام وكشف ذاك الهيام ..

وحينذاك سوف تجعل من زوجتك بؤرة مسمومة للشك القاتل ، والغيرة المجنونة ، التي ستحيلها وحشا جريحا ضارياً لا يملك أمام طعنات الخيانة سوي لعق الدم النازف ممزوجا بالأسي والحزن والمرار .. ولكن إلي حين .. فبعد ذلك قد يصبح هذا الدم النازف دمك أنت ، فما أدراك بغيرة امرأة عروس ، جريحة القلب ، كسيرة النفس ، امرأة مرفوضة .. امرأة ملفوظة ، امرأة مجروحة .. تري كيف زوجها وصديقتها يغدران بقلبها .. ويلهوان ويعبثان !!

حذار .. حذار من هذا التورط ، ومن هذا التهور ، تحرر حالا من هذه القيود النارية التي لن تجرك إلا إلي الجحيم . جحيم حياة مع من لا تحب ولا تريد ولا ترغب .. وحيم حرمان ممن تعشق وتهوى وتتمني ..

وبعد ذلك ..

وعندما يتحرر كلاكما من هذه القيود الثقيلة التي تجذبه إلي الوراء ، وتقعده على حافة الهاوية ، هاوية الغدر والخيانة ، تستطيع أن تسافر وحبيبة قلبك معك ، لتعيشا الحياة الحلوة التي يحلم كل منكما أن يحياها في كنف الآخر ..

أدعو الله أن يهون حدة الصدمة على من لا ذنب لهما في هذا الموقف الشائك الشائن ، هذين البريئين التعيسين ..

كما أدعو الله أن يوفقكما إلي ما فيه راحة القلب ، وهدوء الضمير ، بعيداً عن بؤرة العذاب والشك والغيرة ، وبعيداً عن هاوية الحرمان والخيانة والشقاء ..


همسة حب

سواقي الحب

تثاءب الحب أم جفت سواقية                      أم أننا لم نعد نحيا أغانية

كأننا في عباب زاخر أبداً                                لم نعرف اليم حتى في شواطيه

قد تاه منا على الأنواء زورقنا                            وضاع مجدافنا يا فتنتي فيه

هذا الفراق الذي عانيت لوحته                            لم يخمد الشوق بل أمسي يرويه

فلا تظني بأني قد صددت ما                            صدي عن المنهل الريان يشقيه

بل الشقاء لبعد عن موارده                               ويحي وما أثقل الأيام تزجيه

حتى لقلب يري في الحب موئله                          ويبتغي من سناه ما يحاكيه

حسناء والليل ساج دون موعده                           والحب كالنور يسري في دياجيه

لا تجعلي مشعلي تخبو ذبالته                            ورددي أنني أحيا لياليه

وداعبيني بلحن كنت أعزفه                              عند التقائي بذات الحسن والتيه

لينعم القلب خفقاً في جوانحه                             وتسبح الروح نشوي في معانية

فأسكت الشوق في أقداحنا نغماً                           ينساب من حولنا زهوراً نغنيه

إني مللت بحق الود فرقتنا                               ما أعذب الوصل في اسمي تجليه

يعقوب عبد العزيز لراشد

من أنا ؟!

بدأت مشكلتي منذ عدة سنوات

هو قريب لي .. أحببته بكل كياني وعقلي حباً صامتاً لم أملك أن أزيله أ و أن أدفعه فدفنته في قلبي إلي أن ساعدتنا الظروف وتصارحنا بحبنا وطلب يدي فرفض والدي بحجة عدم التكافؤ العلمي بيننا فصدم عندها ولجأ إلي أمال تضر بصحته وترك الدراسة وترك كل شيء فنصحته أن يهتم بمستقبله وشيئاً فشيئاً عاد بعد عام من الضياع ليكمل تعليمه بناء على طلبي حتى يثبت وجوده وأن يكون جديراً بأجمل البنات .. وتحول هذا الحب من أمل يلوح في الأفق إلي أمل ميئوس منه . تزوجت بعدها من رجل كفء وتحت ضغط من والدي ، شاءت الظروف أن يكون مقر زوجي هو نفس المنطقة التي يقطنها حبيبي .. وبحكم الظروف أصبحت أراه ويراني عند أهله وأقاربنا مراراً وتكراراً .. وكان لهذا كله أثر في تجديد العاطفة التي نمت وتعمقت جذورها بعيداً .. وبعيداً جداً .. في قلبينا وأنجبت طفلين وأملت أن يصبح فيما عزاء لي عنه .. ولكن لم يغير ذلك في الأمر شيئاً وحاولنا دفن عواطفنا ولكن دون جدوى .. وابتعدت فساءت صحتي فلم أقدر .. دعوت الله كثيراً .. صليت وصلي .. وكان آخر ما فكرت فيه أن يتزوج لعل الزواج يبعدنا فتزوج من فتاة جميلة ولكنه وهو الآن متزوج .. لم يوفق معها فهي لا تلبي طلباته وتعانده كثيراً ..

أنا الآن أعيش حياة كلها تناقض ، حياة كلها زيف وخداع لزوجي الطيب الذي حاولت كثيراً أن أحبه .. أن يدخل قلبي فلم أفلح ، بسطت حسناته ، نظرت إليه .. فازددت احتقاراً لنفسي فأنا أخوانة بعواطفي .. قلبي يملكه إنسان آخر .. منذ دخلت عليه حتى الآن .. أتساءل كثيراً ماذا وجد في وأمامه الكثير من الفتيات ممن هم أصغر وأجمل .. كنت أردد أمامه مدفوعة باليأس والحب معاً .. لأدخل في قلبه اليأس هو الآخر .. بأنه لن يجني من امرأة مثلي لو جمعنا القدر غير الذبول والأمراض مستقبلاً ، فيرد أنه يريد الجوهر لا المظهر ويريد الصح لا الغلط .. وها أنا بعد أن سردت لك مشكلتي فقد قررت أن أطلب الطلاق لأنه رغم صعوبته فهو راحة لي في نفسي وضميري .. وأترك السبيل لزوجي ليجد الإنسانة التي تستأهل حبه وطيبته .. حتى لو قضيت بقية عمري بلا زواج فهل أنا مخطئة ؟!

وصدقيني أنا إن فعلت هذا فهو من أجل زوجي لا من أجل قريبي فأنا أرفض أن أهدم بيت أنا من أشار ببنائه ولأبعد عن قريبي فأريح نفسي وأريح غيري وأستريح . كان هذا بعد أن فشلت كل محاولاتنا في النسيان ..

بربك هل أنا إنسانة غير طبيعية فأنا في قراره نفسي بت أجهل من أنا ؟!

أنت امرأة مشحونة بالعطر والحب والتأمل .. أنت شعاع من الضوء يرتعش ، يرتجف ، يترنح .. لكنه ينير ولا يحرق ، يضيء ولا يظلم ..

أنت ثمرة شهية ناضجة في بساتين التفاح والدراق .. والعطور ، أنت زهرة جميلة ندية في رياض الربيع الدائم الاخضرار .. أنت قلب نابض . يحس ، يشعر ، يذوب ، قلب يفكر بالهجرة إلي الشواطئ المهجورة المجهولة خوفاً من لحظة ضعف .. وهلعاً من ساعة استسلام ..

ولكن سيدتي لن تستسلمي

فمن تحمل هذا القلب العامر بالحب .. وهذا العقل الزاخر بالتأمل .. وهذه النفس الصافية الشفافة الغنية بالطهر والنقاء والجمال .. هي إنسانية لا تخون ولا تضعف ولا تستسلم ..

عفواً سيدتي ..

ستبقين بعض الوقت تعانين العذاب ، ستمضين ليلك ساهرة تتأملين ولادة الفجر .. تترقبين همسان النجوم ، تنصتين لسمر القمر ، تتيهين في همهمة السحر ، لكن ستظلين، تصبغين الكون من حولك بلون أبيض عاجي كلون قلبك الصافي النقي ، وسترين الدنيا عبر بريق وردي هو بريق عينيك الجميلتين اللتين لن تريا إلا السعادة والهناء بعون الله.

فلا وألف لا لطلاقك من هذا الزوج المحب الوفي ، لا وألف لا لضياع زمانك كامرأة مطلقة مطحونة تتنازعها الرغبة بين طفليها وبين رجل تحب وتعشق.

فأنت أسمي من ذلك .. أنت أعظم من ذلك .. أنت أرفع من ذلك .. فابتعدي سيدتي بعينيك الجميلتين عن عيني من يهوى قلبك .. اجتنبي رؤياه إليه .. واتركيه يلم شتات ذاته ، ويمضي راحلاً يركب حياته .. بزوجته ، بأطفاله . فبعادك عنه ، وغيابك عن ناظرك سيخفف من حبه لك ورغبته فيك .. فإذا غاب المؤثر فسوف يزول الأثر .. وبتوالي الزمن .. سوف تخبو جدوة الحب القديم ..

وحينذاك

سوف تمضي بك الحياة هادئة محتملة . وحتما ستخبين زوجك .. وهو الرجل الطيب الحنون .. المهذب المحب .. الأب والوالد لطفليك !!

والله معك.

أحب ابنة صديقي

دخلت بيت أسرة طيبة ، واعتبرت أفرادها أهلاً لي .. وبعد أن تداخلت أكثر مع هذه الأسرة ، أسرة صديقي الذي يكبرني سناً ، بدأت أهتم بابنته ، التي أكبرها بسنوات عديدة، فلقد وجدت نفسي أفكر فيها بطريقة غير عادية .. حتى اقتنعت بها تماما .ز ولكن لم يكن الوقت مناسباً لأن أتقدم لخطبتها ، وفضلت الانتظار قليلاً ، بعد ذلك سافرت ومكثت طويلاً في الخارج لأتابع دراستي وحضر صديقي بعد ذلك بمفرده ، وعندما التقيت به .. أخبرني ضمن الأخبار العامة .. أن ابنته قد قرأت فاتحتها على ابن صديق له فصعقت لهذا الخبر ، وتمنيت لو حدثت معه دون انتظار .. قبل أن يتم أي ارتباط ولكن هذا ما حدث ، فسلمت أمري لله ، واقتنعت بأن الزواج ” قسمة ونصيب ” وفي ثاني أجارة لي ، ذهبت لزيارة أسرته .. وكلي ندم من الداخل، ولكني ذهبت عندما وجدت الفتاة ” المقصودة ” تشكو لي من تصرفات ذلك الشاب الذي يكبرها فقط بثلاثة شهور ، تشكو من تصرفاته الصبيانية وقلة خبرته في الحياة .. وأخبرتني بأنها لا ترغب في الارتباط به .. لعدم التكافؤ الذهني بينهما .. وغير ذلك .. وذات يوم .. وبعد حديث طويل .. أخبرتها بأنني كنت أفكر في الزواج منها ، فرحت جداً وبدأت تبوح لي بمشاعرها نحوي ، منذ أن رأتني أول مرة بيتهم.

ولكني أخبرتهم بأنني لا أجرؤ على خطبتها وهي على ارتباط مع آخر ، ولن أتقدم لها إلا بعد أن تنتهي الارتباط بينهما رسمياً .. وبعلم الجميع .

وفي الأسبوع التالي .. وأثناء زيارتي لهم في منزلهم .. لاحظت أنها على خلاف مع والدتها .. وعندما سألتها بعد ذلك في الهاتف .. أخبرتني بأنها صرحت لوالدتها بعدم رغبتها في الزواج من ذلك الشاب .. فسألتها الأم .. إن كان هناك أحد في حياتها .. وصارحتها الفتاة بأنها ترغب في الزواج مني أنا ..

فقالت الأم وكيف هو لم يتقدم لك ؟ .. هل ترمين بنفسك عليه ؟ وعندما أخبرتني بذلك .. ظننت أن والداتها تنتظر أن أتقدم لها ، وفعلا ذهبت إلي والدتها طالباً يدها فقالت بعد المدح الكثير كالعادة في شخصي وأخلاقي .. قالت : لقد ارتبطنا فعلا مع أهل الشاب .. ولقد أعدوا كل شيء لإتمام الخصوبة ، بعدها ذهبت أنا تاركاً كل علي ما هو عليه .. ولا أعرف ماذا حدث منها أو منهم ولا أعرف حتى ماذا أفعل وسافرت ثانية ، حيث زاد البعاد من عذابي وبقيت أعاني الألام والأحزان وحدي .. دون معين.

لذلك سطرت لك هذه السطور الطويلة .. متمنياً أن أجد الحل الأمثل لديك وأعدك مقدماً بأن أسير خلف كل حرف من كلماتك التي أنا متيقن من صوابها راجياً نشر ما يمكن اختصاره .. فربما أطلت الموضوع .. ولكن أعذريني .. وأنا آسف على أزعجك .. وشاكر لك مساعدتك التي أنا في أشد الحاجة إليها .. مع تحياتي.

بلا إبطاء ..

انهض فوراً وانقض عنك عذاب الآلام ، وداوها بالتي كانت هي الداء .

عد إلي أرض محبوبتك ، وأدخل ديار ليلي خاطباً يدها ، مخاطباً أباها بلهجة الجد والحزم .. وليكن اللقاء لقاء رجل برجل . عد حالاً لإنقاذ حبيبتك التي تهواك وتريدك ، والتي خاضت حرب العناد لأجلك ، فتخلت عن خطيبها ، ورفضت كل التحديات حولها . فلا تكن أقل منها حزما أو شهامة ، وواجه الموقف بكل حماسة وشجاعة ، ولا تدفن رأسك في الرمال كالنعامة حتى لا تخذلها وتحرجها أمام أهلها بعد أن صرحت بسرها لأمها التي من المؤكد أنها حكت لزوجها كل شيء ..

فلا تتهاون ولا تتخاذل كي لا تتسبب في إحراجها أكثر من اللازم ..

لك تحياتي.

الحجر

أنا فتاة من عائلة محافظة اجتزت المرحلة الثانوية هذا العام . عشت طفولة بريئة وكنت محبوبة من الجميع لحبي لمساعدة الغير ووحي المرحة المتفائلة، عشت هكذا إلي أن تعرفت على شاب كان صديقاً لصديقتي ويعاملها كمعاملة الأخ لأخته ، أختلي بها عدة مرات ولم يحاول استغلال ذلك . أوضح لها مراراً أنها بمثابة أخته. أحببته ، أحببت رجولته وصدقه وشهامته ومساعدته للغير ، وهو قد رأي أنني النصف المكمل له ، تعاهدنا على الصدق والإخلاص والوفاء ، سألني إن كنت أقبل به ووعدني أن يتقدم لي فهو يريدني بالطرق الشرعية وليس من وراء أهلينا ، ولكن في هذه الأثناء توفي والده ثم توفي أخوه وأصيبت والدته بصدمة شديدة وبعد فترة طلبت منه الزواج من قريبة لها فرفض وحاول إفهامها أن قلبه ملك لغيره . لم تتفهم وهددته بالغصب عليه . طلبت منه أن ينقذ طلبها ، فتزوج بمن أرادته أمه ، ولكن هذا الزواج لم يدم غير ستة شهور زوجته الطلاق بعدها لأن كل تصرفاته لم يكن يعنيها بها حتى أنه في بعض الأحيان كان يناديها باسمي ، والله يعلم أني ابتعدت عنه منذ خطبته لتلك الفتاة ، سمعت بكثرة الخلافات بينهما وجاءني فطلبت منه الرجوع لزوجته لأنه رجل مسؤول ، ولم أعلم بالطلاق إلا بعدما وقع ، ورجع إلي نادماً على كل ما حصل . عندما رأت تزوجه بمن يريد ولكن المرض كان أسبق منا إليه . أصيب بمرض خطير ، حال أن يبعدني عنه خلال مرضه خوفاً أن أندم وأن يسبب لي أي عذاب ، أراد خطبتي ولكن والدته ما زالت تمانع مع العلم أنه لا يعيبني شيء فأنا فتاة من أسرة معروفة ذات أخلاق ودين ، حاول العديد من أخوانة إقناعها لكنها تصر على ذلك وهي الآن تريد أن تزوجه لأخرى. أرجوك ماذا نفعل أمام إصرار هذه الأم على تحطيم مستقبل ولدها مرتين ؟ ولماذا ؟ هل لأننا رفضنا أن نتبادل الحب في الخفاء ولأننا أردناه بالطريقة المثلي ؟ لا أعرف . أهلي لا يعلمون شيء عن هذه القصة ، أرجوك اعطينا الحل فمشكلتنا هذه دامت ما يقارب أربع سنوات حاولت خلالها نسيانه فلم أستطع وشغلت نفسي بالقراءة والكتابة وبكل شيء فلم أنسه وخرجت إلي المجتمع فلم أنسه وهو أيضاً حاول نسياني فلم يستطع ، أما من ناحية أهلي فأنا واثقة من موافقتهم عليه ، فهو شاب مهذب على أخلاق حميدة تندر هذه الأيام.

ملاحظة :

أنا لم أخرج معه أو أتحدث إليه ولا مرة واحدة على انفراد لأني أعرف أنه ما اختلي رجل بامرأة إلا حدث شيء لا أحب أن يحصل ليقل احترامي له أو احترامه لي فنحن في سن الشباب وعواطفنا ممزقة حائزة ..

أرجوك رجاء حاراً لا تهملي هذه الرسالة لتسعدي شابين في مقتبل الحياة.

” لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين ” وقد لدغ حبيبك مرة ، ودخل زواج مظلماً كئيباً إصابة بانهيار عصبي كاد يذهب به إلي حافة الجنون !!!

إذن في هذه التجربة شيء ما يجعلنا نتعظ به !! شيء واقع دامغ ودليل وبرهان ساطع على خيبة هذه الأم الجبارة المتسلطة التي تريد أن تتحكم ، حتى المرض والجنون ، في حياة ابنها ؟! إلي هذا الحد ؟! أعوذ بالله .. فليكن حبيبك رجلاً صارماً . رافضاً هذه المرة ليتمسك برأيه واختياره مهما كانت حالة التعنت عند أمه .. فهو لا يخطئ عندما يريد الزواج من فتاة لا يعيبها شيء مثلك . فتاة عفيفة شريفة كل ما في الأمر أنها لم تأت باختبار أمه !!!

وإلي هذه الأم ومثيلاتها أقول : الزواج مرحلة هامة ، وتجربة أساسية وضرورية في حياة الإنسان .. وأهم ما يحتاج إليه الابن أو الابنة في هذه الفترة هو الترشيد والتبصير ، وليس التخويف والترهيب ، ولفرض والإلزام ..

دعي ابنك يختار يا سيدتي .. دعية يمارس حياته بإرادته وليس بإرادتك الظالمة التي حطمت سنوات شبابه وشرخت أيام عمره . وأصابته بالمرض، دعية يعيش هذه المرة حياته بحب ..  بدلا مـن أن تفقديه في مرض قـد يؤدي به لا قدر الله …

وحينذاك لن يكفيك ندم الدنيا كله .. ولن تخفف عنك أحزان العالم مجتمعة .

 

دون كيشوت

قبل ثلاث سنوات عزمت على السفر إلي أميركا للدراسة وقبل أن أسافر تعرفت على صديق طلب مني أن أسكن معه في بيته لأنه يعيش وحيداً فقبلت طلبه وسكنت وأصبحنا كالأخوين وأطلعني على جميع أسراره الخاصة فعرفت أنه على علاقة غرامية ببنت الجيران التي تذهب إلي شقته الخاصة من غير علم أهلها وتعتقد أنه يحبها وينوي الزواج منها ولكنها كانت بالنسبة له مجرد وسيلة تسلية . وأخيراً تقدم لها شخص وزوجها والدها غصباً عنها .

فاتفقت هي مع صديقي هذا أن تعذب زوجها وتحرمه من حقه لشرعي معها حتى يطلقه في أسرع وقت .. وفعلاً عذبت زوجها وتركته يعيش لوحده وحضرت إلي بيت أهلها لتكون قريبة من صديقي واتفقت معه أن يخلقوا ثمرة الحب ، ثمرة الفساد ، أن يخلقوا طفلا بالحرام عناداً لزوجها حتى يطلقها.

وفعلاً أنجبا الطفل .. طفل الحرام ؟

فلما علم زوجها بالموضوع طلقها فوراً بعد الولادة ولم يعترف بهذا الولد وطلبت هذه الفتاة من صديقي أن يتزوجها ويستر عرضها ولكنه لم يقبل الزواج منها.

وأخيراً عرفت صديقي على حقيقته وصارت مشاكل بيني وبينه بسبب الفتاة واستطعت أن أطرده من البيت والحاره وكونت مع الفتاة علاقة شريفة لمدة سنتين وبعد ذلك طلبت مني أن أتزوجها وحلفت اليمين أنها مخدوعة وأنها نادمة على ما فعلت ووعدتني أن تكون خادمة لي لو تزوجتها وسترت عليها فوافقت على شرط أن يأخذ أهلها ولدها . ولكن المشكلة أن جميع أهلها لا يدرون أن هذا الطفل غير شرعي ويعتقدون أنه من زوجها الأول ، إن جميع أهلها يحبون هذا الطفل جداً لأنهم لا يعرفون حقيقته ولو كانوا يعرفون لطردوه من البيت هو وأمه.

المشكلة الآن أني حرمت نفسي من السفر إلي الخارج من ابنة عمي الشريفة التي ترفع رأسي أمام الناس.

ولكن هذه غلطتي لأنن اندفعت وراء العاطفة !!

هذه هي مشكلتي .

أنا أحب الفتاة ومقتنع بها زوجة لي .. ولكنني أكره هذا الطفل ولا أحب أن أراه.

لا استطيع أن أعيش معها وهذا الطفل يعيش معنا في بيت واحد .

فأنا عندما أراه أكرهها وأكره حياتي معها لأني أتذكر ماضيها الأسود.

المشكلة أن هذا الطفل يعيش معي ومع أمه في بيت واحد.

وكلما أراه أندم على الزواج من أمه.

وأنا لا أستطيع أن أعيش مع هذه الفتاة في بيت واحد وعندي هذا الطفل ابن الحرام. ماذا أفعل ؟ هل أطلقها وأريح نفسي من عذاب ماضيها ومن طفل الفساد وأبعدها من حياتي علماً أني لن أستطيع أبداً أن أعيش معها طالما أن هذا الطفل يعيش معي في بيت واحد فلا أحد يريده فزوجها الأول برئ منها وأهلها لا يرغبون في رعاية الطفل وفي تنشئته عندهم ..وإذ عشت معها فهذا الطفل يعيش في قلبي ما دمت أعيش معها . ماذا أفعل وهل هذا جزاء شهامتي وتضحيتي ؟!

بعد ما كان وكان وكان .. تأتي تشكو الآن ؟! إنك عزيزي تذكرني بذاك البطل الأسطوري دون كيشوت الذي كان يحب الناس إلي درجة الوله .. فكان يبذل نفسه وزمنه من أجل حل مشاكلهم وإسعادهم .. ولكنه كان يسقط

 

 

دائماً صريع ترك المشاكل في النهاية !

أنا لن أحلل ولن أسترجع تفاصيل مشكلتك . ولكني سأدعوك لإتمام جميلك ، وتحاول حل ” المشكلة ” ذاك الطفل البريء ، الذي لم يختر قدره ، ولم ينتق والديه ، في حين أنك أنت أخترت أمه المذنبة وغفرت لها وأحببتها واقتنعت بها !!

وهذا مدعاة إذن لأن تحب ابنها وتعطف عليها ، وتعوضه عاطفة الأبوة التي يحتاجها . وتأكد أنه سيحبك لو أحببته ، وسيقدر تربيتك له عندما يشب ويكبر ويفهم .

وأعلم أن هذا الطفل الصغير هو أكثركم بؤساً وشقاء وعذاباً ، فلا أحد يريده ولا يقبله من الآن .. فما بالك عندما يدرك حقيقة نسبه ، ويعلم قصة وصوله إلي هذه الدنيا بعد بضع سنوات ؟!

فلترحم من في الأرض ليرحمك من في السماء !

همسة حب

المرفأ الأخير

قلبي الذي هام بالتطواف والسفر                   القي مجاذيفه في شطك العطر

لم يبق من أمسه الصخاب غير صدي             وذكريات زمان باهت الصور

ونجمة من حدود الأمس راعشة                    تأتي –إذا نامت الدنيا–على حذر

بحيرة الحسن لم أقصد شواطئها                    لكن أشرعتي قد ساقها قدري

رأيتها فنسجت الشوق أشرعه                      بيضاء ، تبحر للأتي من العمر

وجدت فيها خيالاتي مجسمة                      تزهو بروضة عمر مشرق نضر

نهاره ملعب للشمس تعشقه                        وليله خيمة للحب والسمر

أنا الذي عشت أيامي كأغنية               تطير من وتر شاد إلي وتر

سكبت قلبي في قيثاركم نغما                      كما وهبت لآفاق الهوي قمري

عرفت مذ لونت أقماركم أفقي                     أسرار شوقي للإيجار والسفر

يا موجة النور قلبي في مسائكم                    عطشي أزاهيره للنور فانكسري

قد أينع الشوق في الأعماق فانسكبي               يا غيمة العطر في قلبي وفي بصري

مرافئ عشقتني بت أنكرها                         وجنة فتنتني ملها نظري

بحيرة الحسن في عينيك موطنة                    قلبي الذي هام بالترحال والسفر

د: عبد الله العتيبي

عذراء .. ولكن !!

أنا فتاة مراهقة جدا أحب الحياة وأقبل عليها بكل سعادة وسرور ، ولكني لم أحتفظ بهذه السعادة طويلاً . أحببت شاباً يكبرني بثلاث سنوات حباً صادقاً عذرياً كأحلام الربيع ، دامت مدة حبنا نحو ثلاث سنوات كنا نتبادل الرسائل وأحياناً أصعد سطح منزلنا وأتكلم معه لأنه جاري وحائطنا بجانب حائطه تماماً ، ولكن شقيقة حبيبي لم توافقه على هذا الحب لأنها غارت مني لأنها أكبر من شقيقها ولم تعرف الحب بعد ، فأحبت أن تفرق بيننا ولا تسعدنا فأخبرت والدي بأمر حبنا وكان أب لا يعرف فانزعج وأخبرني بأن أبتعد عن حبيبي ، ولكني لم أستطع لأني أحبه حبا لا يوصف ، ولا أقدر أن أفارقه أبداُ ، فأرسلني أبي إلي بيت جدي كي أبتعد عن حبيبي ولا أرجع إلي بيتنا ، فتعذبت عذاباً لا يوصف وبعدها رجعت إلي البيت مرة ثانية ورآني فجأة وأنا أكلم حبيبي من نافذة غرفتي فضربني بشدة وأرجعني مرة ثانية إلي بيت جدي وبدأ يشك بي وقال لي أنني لست عذراء ، وذلك بسبب حبيبي ، وزادت شكوكه ولم يطمئن إلا عندما ذهبت إلي طبيب ليراني إن كنت عذراء أم لا ، وأخبر الطبيب أبي أني ما زلت عذراء وندها اطمأن أبي ولكنه لا يزال غير راض عن حبنا كلما ابتعدت عنه ، فرجعت شكوك أبي إليه ، وعاد يقول لي أنني لست عذراء ، أخيراً ذهب بي أبي إلي رجل يخط الرمل وطلب أبي منه أن يري لي ولكني لم أصدق هذا الرجل لأنه قال لأبي أنني لست عذراء ، ولكني كرهت أبي نعم أحسست بكره نحوه رغم أنه يقول لي أ،ه يفتش عن مصلحتي .. أي مصلحة هذه التي تزيد من همومي ؟ وأخيراً أتي أبي بامرأة تري البنات إن كن عذراوات أم لا ، وأخبرت هذه المرأة أبي أنني عذراء 100% نعم أني عذراء ولكني أزداد هموماً يوماً بعد يوم ، نعم إن همومي تزداد وأنا حالياً أفكر في الانتحار وأرجوك ساعديني على حل هذه المشكلة .

يا فتاتي المراهقة …

بالله عليك يا صغيرتي كفي عن هذا العبث مع ابن الجيران فلو كان جادا لكان تقدم لك وانتهي الموضوع ! وهذه المشاعر التي تحدث لك الآن هي عبارة عن اندفاعات فترة معينة في حياتك ، إن لم تتحكمي في نفسك خلالها .. ستخسرين أشياء كثيرة ثمينة أنت لا تقدرين قيمتها الآن ..

أولاً .. سمعتك .. والسمعة الطيبة هي التاج الخفي الذي تتحلي به كل فتاة ، فإذا فقدته ، ضاع منها جمالها وبهاؤها ..

ثانياً .. ثقة أبيك وأهلك ، فإذا هم ارتابوا بك ، تأكدي أنك سوف تتعبين جداً حتى تستردي تلك الثقة الضائعة ..

ثالثاً .. وهو شيء أثمن من ذلك كله .. عذرية نفسك وصفاء روحك ، وذلك شيء لا يعوض .. وإنما يضيع منك شيئاً فشيئاً عبر بحر هادر من المشاكل .. وعبر هذا الكشف المذل والمستمر على عذريتك .. فبالله .. اعقلي .. وعودي تلك الفتاة المطيعة المهذبة ، وارحمي أباك من عذابه ، ودعيه يعمل في سلام ، ويكد من أجل تربية أخوتك الصغار في هدوء وراحة بال .

وحينئذ .. عندما يطمئن إليك ، وتستردين ثقته بك ، سوف يكف عن الكشف عليك من وقت لآخر .. وبذلك تحلين مشكلتك ومشكلته ببراعة كمن يصيب عصفورين بحجر واحد .

المقهور

كنت أعيش في هدوء وسلام ولكن ذات يوم أتت إلينا فتاة ابنه أحد أقاربنا ، وسكنت معنا في منزلنا وكنت لا أهتم بها لأنني أميل إلي القراءة .

وفي أحد الأيام دخلت غرفتي وجلست معي تحدثني عن الحب وعن الروايات العاطفية . ومن ثم رأيتها تتصرف أمامي تصرفات غريبة وتقول لي : أنا أحبك . فلم أجبها بشيء فخرجت وهي غاضبة وبعد مضي شهرين دخلت مرة ثانية إلي غرفتي وقالت لي نفس الكلام : أنا أحبك لماذا لا تجاوبني ؟ قلت لها : أنا طالب ولا أستطيع أن أحب لأن مشوار العلم أمامي طويل ولا أفكر في مثل هذه الأشياء . فردت على تقول إن لم تحبني مثل ما أريد سأشيع خبر أنني حامل منك فذهلت من هذا الاتهام الكاذب وضربتها لأنني مؤمن ولا أريد أن تنهان كرامتي . وفي اليوم الثاني شاع الخبر في الأسرة كلها ، وكاد والدي يضربني فشرحت له الحقيقة ولكنه لم يقتنع بكلامي ، فقلت له اعراضها على طبيب اختصاصي ، واكتشف الطبيب أنها حامل في الشهر الثاني وفعلت المستحيل لكي أبرهم لهم أنني لم أرتكب مثل هذه الجريمة الشنعاء لأنني أخاف الله وأعرف حدود ديني ، وللأسف لم يصدقني أحد واتفق والدي مع والدها على أن يزوجوني إياها بأسرع ما يمكن درءا للفضيحة ، وفعلاً تم الزواج بيننا وأجبروني أيضاً على ترك الدراسة والعمل مع والدي . والآن أنا في حيرة لا أعرف ماذا أفعل . زوجوني امرأة كاذبة وخائنة وأيضاً حامل من رجل آخر وكذلك تركي للدراسة التي كانت تشغل كل اهتمامي والتي كنت أبني عليها مستقبلي ، أرجوك يا أخت كرمة غاية الرجاء أن ترشديني ماذا أفعل بعد أن أهينت كرامتي وانهارت أمام الجميع ؟ أرجوك للمرة الأخيرة يا أخت كريمة أن تجدي حلا لهذه المهزلة المستمرة حتى الآن والتي تفتك بأعصابي وتقهر نفسي خاصة إذا وقعت عيني على هذه المرأة المخادعة ، علماً بأنني لم أمسها أبداً ولا أجد في نفسي القدرة على مجرد النظر إليها لفرط كراهيتي ومقتي لها .. فماذا أفعل بها والجميع يقف معها ضدي ؟! أرجو أن ترشديني إلي طريق الصواب.

.. بعد أن قرأت رسالتك شعرت بغيظ شديد جعل الدماء تغلي في عروقي بسبب هذه المدعية الكاذبة الظالمة ، التي نسبت لك جريمة أنت برئ منها كما نسبت إليك طفلاً ليس من صلبك !!

فاصبر يا أخي واعلم أنه مهما كانت صعوبة الوضع الحالي ، فلا بد من إثبات الحقيقة لأن صوت الحق لا يخفت أبداً ولا يضيع وإن كان كامناً لوهلة بسبب الظروف المحيطة فلا بد أن يأتي يوم يظهر فيه ويعلو ويرتفع .. فاهدأ واطمئن ولا تيأس أبداً من رحمة الله الذي يمهل ولا يهمل ..

والآن ..

يجب أن تطلقها فوراً ، لأن حياتك معها قاع العذاب ، وقمة الظلم ..

شعورك بالتقزز تجاهها ، وكراهيتك ومقتك لها سيفتكان بأعصابك ويستهلكان قدرتك على الاستمرار .. ويمتصان رحيق شبابك .

طلقها فوراً ..

ولا تسكت أبداً على الظلم والجور ، ولا ترضي بالذل والهوان الذي تعيشه مع هذه المرأة المجردة من الضمير ..

ولتعلم يا أخي أن صوت الحق عال ولا يعلي عليه ، فابق على رفضك لتلك التهمة الظالمة ، وحتماً ستجد من يسمعك ويصغي إليك حتى ولو بعد حين ..

والله معك .. وهو العلي القدير ، خير نصير للمظلومين المقهورين .

فادعه يستجب لك ، فدعوة المظلوم لا يحجبها عن الله حجاب.

 

 

الدرع !

قصتي غريبة .. ولكن ها هي أسردها كاملة .. أنا في العقد الثالث من العمر ، شكلي ومظهري الخارجي يخفي عمري الحقيقي انضم إلينا في العمل شاب وسيم في العشرين من العمر ، ولكن اتضح أنه ناضج في تفكيره العميق وبعد نظره وشهامته وخلقه وخبرته ، ويتعالي الهمس من حوله ” لم لا يعيش هذا الشاب كمن هم في سنة ؟ لماذا يظهر ويتكلم كأنه في الأربعين من عمره؟ “

وما أن مضي على عمله معنا شهر ، وكنت أنا أكثر الزملاء اتصالاً به وتعاملاً معه ، ما أن مضي شهر حتى صارحني بعمق شعوه نحوي ، فأشرت إليه أني أكبره سناً وإن كان شكلي يدل على غير ذلك .

هذا وابتعدنا قليلاً ولا أعرف كيف عدنا من جديد وإن كنت بين الحين والآخر أعود إلي الابتعاد عنه بدافع العقل.

ولكن ثقاته ، سمعة اطلاعه .. كلامه .. تصرفاته .. تبهرني وتظهر إعجابي به .. وإن كنت أخفي ذلك بكل ما أستطيع .. أما هو فالحب فاض منه .. إلي أن صرت أشعر به وألمسه حقيقة واقعة.

وبعد كذا شهر سلمني رسالة معترفاً بحبه لي ، وما يكنه من مشاعر حب صادق .

وجعلني في حيرة من أمري ، ما بعدها حيرة . فقد فتح أمامي باباً لا أدري مخرجه إلي أين وطريقاً لا علم لي بنهايته.

أجل إني معجبة به كل الإعجاب ، فهو الذي استطاع أن يكسر القفل الذي وضعته على قلبي منذ زمن بعيد .

ولكن كلام الناس يجرني بعيداً عنه ” أنها استغلته وأوقعته في شباكها متناسية الفارق بينهما في العمر ” .. اقرأها على وجوههم وأحسها في تعاملهم معي ..و .. و.

وسوف يلازمني إن قبلت به .. إنها مشكلة أهله .. وأهلي كذلك ، هو يريد جواباً .. وأنا في حيرة من أمري .. أفكر كيف أعطيه كلمة وأربط نفسي به ومصيري بمصيره وبعدها يقترض لي أن أضع درعا واقياً من تلك القذائف والسهام . أو أن أنهي الموضوع نهائياً معه ، وشكي يقول لي لا يمكن أن يكون هو قـدري .. ورفيق دربي ؟ وأسـأل ما القرار ؟ .. أين المخرج؟ . إلي أين النهاية ؟

أنا في انتظار رأيك.

منذ يومين قرأت مصادفة مقالا مصوراً عن امرأة عجوز في الستينات تزوجت شاباً يافعاً في العشرينات !!

وحكت هذه المرأة المحبة حكايتها للصحافة وكيف كانت تسمع ” نصائح ” الناس بأذنها وهي تنطلق في أذن زوجها الجميل تطلب منه أن ينجو بحياته من براثن هذه العجوز !!

واستمر زواجها .. ونجح رغم غرابته وشذوذه ! فما بالك أنت يا فاتنتي ؟! يا من تعيش سنوات الأنوثة الناضجة بكل معانيها ؟!

طبعاً وافقي .. فالعمر في حياتك لا يعد بالسنوات ، وعلي رأي المثل الإنجليزي العمر يقاس بالشعور .. بالإحساس ، فهم يسألون .. ” بأي عمر تشعرين “.

عزيزتي ..

لا تضيعي ” فرص العمر ” على نفسك بأن تخسري هذا الشخص الناضج ، العميق المثقف .. الذي يسبق بعقله الكبير سنوات عمره الصغير .

وثقي .. أنك سوف تسعدين معه كثيراً ، وتهنأين معه طويلاً ، فلقاء الفكر ، لقاء العقل ، لقاء الروح .. هو أروع وأنضج وأسمي لقاء ..

وإن شاء الله تعيشين راضية مرتاحة البال ، خصوصاً إذا صنعت لنفسك درعاً واقياً من سموم الهمسات ، ووضعت في أذنيك قطناً عازلاً يرد عنك غريب التعليقات ..

طبعاً ستواجهين هذه المواقف السخيفة المستنكرة في البداية فقط ..

والتي سرعان ما تقل وتنتهي وتتلاشي  .. فالناس تعتاد بسرعة .. وتنسي بسرعة .

 

هلاك هولاكو !

قبل خمس سنوات أحببت فتاة حباً ملك قلبي وروحي .

تقدمت لطلب يدها ولكن والدها رفض طلبي ، وكررت الطلب عدة مرات ولكنه واصل بإصرار موقفه المتعصب. وبعد مضي سنتين من حبنا سافرت حبيبتي برفقة والديها للهند لعلاج والدتها المريضة.

وبعد سفرها بشهرين وصلتني برقية تخبرني أن والدها عاد للبلاد بينما بقيت هي ووالدتا هناك.

فسافرت واتفقت مع حبيبتي أن نقنع الوالدة للموافقة على زواجنا – وبعد جهد وافقت والدة الفتاة على طلبنا – وهناك وعلى الطريقة الإسلامية تزوجنا ، ومرت الأيام وبعد شهرين أعلمتني زوجتي بأنها حامل.

ومضت سبعة أشهر على زواجنا ، وإذ بكتاب يصل من والدها يخبرها أنه قادم للعودة بها مع والدتها التي تشافت من مرضها ، وأصبحنا في حيرة من أمرنا وطرقنا كل الأبواب لإيجاد حل لهذه المشكلة ولم نجد إلا حلاً واحداً وهو الإجهاض وأخبرنا الطبيب أن الطفل يمكن أن يعيش بعد الوضع .

  • وفعلاً تمت الخطة بنجاح وبقي الطفل في عيادة الطبيب ليكمل نموه.

وأتي والد زوجتي بعد وضع الطفل بأسبوع وأخذ زوجته وابنته وعادوا للبلاد بينما بقيت أنا هناك أدفع ثمن غلطتي وتعجلي .. بقيت عند الطفل حتي أكتمل ، وأخرجته وذهبت به إلي إحدى المربيات وأعطيتها مبلغاً من المال مقبل تعهدها بتربيته.

وعدت للبلاد ، وبعد مضي أربعة شهور تزوجت حبيبتي من ابن عمها الذي كان والدها يرفض طلب بسببه.

جربت حبيبتي شي الوسائل للخلاص منه ولكنها لم تفلح.

أما أنا فبقيت ذاهباً وآتيا بن الهند وبلدي ومرت الأيام وأنا أتعذب أري زوجتي ليست لي وأري طفلي ليس لي. لا أدري ماذا أفعل بعد هذه المشاكل التي تتراكم على تراكم الجبال

أنا بين مشكلتين – مشكلة حبيبتي وزوجتي التي سلبت مني ومشكلة طفلي الذي لا أستطيع أن آتي به لعدم إثبات هويته.

أطرح لك مشكلتي هذه يا أختي العزيزة أملا أن ترشديني لحل مناسب وسريع.

قرأت عن زعيم من التتار كان يشيع الرعب والفزع بين الناس .. بما عرف عنه من قسوة وجبروت كان اسمه هولاكو. أما أن أسمع عم هولاكو جديد ينشر كل هذا الرعب ، وكل هذا الفرع بينكم ، إلي درجة تخرسكم وتلهيكم هن النطق بالحق .. فهذا وأيم الحق هو عين الباطل والزو والبهتان !!

أنت يا أخي يجب أن تعلن الحقيقة بجرأة وقوة شخصية وشجاعة .. ففي الطريق يوجد طفل برئ يعيش حياة اللقطاء وأبناء السبيل .. مع أنه ابن حلال مائه في المائه فما ذنبه؟!

المعالجة الهادئة البعيدة عن الضجيج والصراخ ، هي التي يجب أن تتم فوراً ، وتأكد أن والد زوجتك لن يقتلك على أية حال .. فلماذا هذا الخوف والوجل ؟!

وحتى لو وصل الأمر إلي أقصي درجاته ، فزوجتك تعتبر مقتولة بمعاشرتها ” الحرام ” وغير الشرعية لابن عمها ، لأن زواجها به يعتبر باطلاً ، لأنك لم تطلقها حتى الأن .. فأصبحت بذلك معرضة للمقاضاة القانونية للجمع بين زوجين ..!!

تدخل بقوة وحسم ، واعلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس واعمل جهدك أن تتفاهم مع هذا الهولاكو ، وقبل أن تهلكه ابنته بالإنجاب السفاح من ابن أخيه .. وحينئذ تصبح المصيبة مصيبتين .. زواج باطل .. وابن حرام ، فيا للهول !

وأما طفلك المسكين هذا ، فيجب أن تثبت هويته ، وأن تعيده إلي وطنه وأهله ، ليربي بين عشيرته .. بدلاً من تركه شريداً يعيش بين غرباء عيشة التعساء اللقطاء !! لا حول ولا قوة إلا بالله.

 

 

 

ساهر الليل !

أنا شاب أدرس بالمرحلة الجامعية من عائلة محترمة والحالة جيدة جداً والحمد لله .. أحببت فتاة تصغرني بعامين من عائلة غنية . تدرس في المرحلة الثانوية ، تعرفت عليها صدفة منذ أربع سنوات تقريباً ولقد صارحتني في البداية بأن معرفتها لي مجرد صداقة أو إعجاب . ولكن بعد مضي أشهر أحسست بأنني أحبها من كل قلبي وعندها قررت أن أصارحها . ولكن بعد فترة قصيرة أحببتها حباً خيالياً لا أستطيع أن أصوره في كلماتي هذه.

فقررت أن أطلب يدها ، وسألتها عن رأيها فكانت تتهرب كلما أردت أن أفتحها بهذا الموضوع ولقد كان ردها بأنها تريد تكمل دراستها ، وأحياناً تقول بأننا لا نصلح لبعضنا ، ولقد حاولت مراراً أن أعرف السبب الذي يمنعها من أن توافق فلم أفلح وأخيراً ذهبت إلي أخيها الأكبر لأن والدها كان مسافراً وصارحتها بحبي لأخته وطلبت يدها منه فأجابني بأنه لا مانع لديه ولكن إي أن يأتي والدها وعلى شرط أن توافق هي ، ذهبت إلي فتاتي وأخبرتها بما قاله لي أخوها فلم ترد على إنها تحبني ولا يمكن أن تتخلي عنى وتجاهلت كلامي لها بموضوع الخطبة ومضت الأيام ونحن على هذه الحالة . وفي يوم من الأيام طلبتني بالتليفون وسألتني أسئلة غريبة : جعلتني أفكر في كل شيء لقد سألتني بأننا لو تزوجنا مثلا ووجدتني لست بعذراء ماذا تفعل عندها ؟! ؟ والسؤال الثاني أو الطلب الثاني قالت لي إنني أحبك وإذا كنت تجبني فتعال اخطب أختي الصغري فسألتها ما معني كلامها وغضبت غضباً شديداً وحاولت أن تهدئني فقالت لي أنني أريد أن أعرف هل أنت تحبني أم لا ؟! وبعد هذه الأسئلة بمدة حصل خصام بيننا فلم تعد تكلمني وحاولت أن أعرف السبب فلم أستطع ومضت مدة طويلة وأنا على هذه الحالة أحاول بشي الوسائل أن أكلمها أو أراها . أني أفكر فيها كل لحظة وكل ثانية إلي حد الجنون والوسواس . نعم لقد أصبحت كالمجنون لا أفكر إلا فيها وتركت كل شيء وانقطعت عن الدراسة بسببها وتخاصمت مع أهلي .

ولم أستطع أن أنساها بالرغم من محاولاتي العديدة وأنا مستعد بأن أضحي بكل شيء من أجلها مع العلم أن والدي يعطيني الحرية الكاملة في اختيار شريكة حياتي . والآن يا عزيزتي هل أجد عندك حلا لهذه المشكلة التي جعلتني أحطم كل شيء بنيته وجعلتني أضيع مستقبلي وأهمل دراستي وجعلتني أعيش في دوامة لا أستطيع الخروج منها ؟ ولقد فكرت مراراً بالانتحار لأرتاح من العذاب الذي أعانيه في كل ثانية وفي كل لحظة.

يا أخي .. يا سهر الليل .. هذا الحب الكبير الساكن في قلبك علاجه الوحيد الزواج من حبيبتك . عملا بالقول : وداوها بالتي كانت هي الداء . إن فتاتك تحتفظ بسر تخجل أن تخبرك به . فهي على ما أظن ليست عذراء . هذا ما فهمته من رسالتك ، وإن كان بعض الظن أثم.

فإذا كان قلبك يتسع لمثل هذه التضحية . فاخبرها أنك تقبلها كما هي . واستر عليها ، والله ستار العيوب . وانقل لها رأيك بدماثة ولباقة ، وتجنب أي إثارة أو اندفاع في الكلام حتى لا تخاف منك وتعاود الاختفاء والهروب رغم حبها الواضح لك.

وكفاك سهراً مع الليالي ،وكفاك دموعاً تذكرني بقول الشاعر :

صدغ الحبيب وحالي                      كلاهما كالليالي

وثغره في صفاء                          وأدمعي كاللألي

وأجعل من لقائكما معاً ملحمة جديدة للنجاح ، وعسي أن يوفقكما الحب إلي أسرة سعيدة تصون فيها زوجتك واسمك وشرفك ، وأن يجازيك الله خيراً على معروفك وحسن صنيعك . والله معك.

مني

أنا فتاة في التاسعة عشرة من العمر ، خطبت منذ عامين لشاب يندر أن يوجد مثيل له ، فهو مهذب ذو أخلاق عالية ومكافح وفوق هذا من عائلة عريقة ، فأحببته حباً جارفاً إنساني كل من حولي ، وكان هو أيضاً يحبني حباً جما . فكان من المفروض أن يتم زواجنا بسرعة . ولكن الأقدار هت التي تتحكم في مصير الإنسان . فقد وقع حادث أليم لخطيبي ( حادث سيارة ) ونجا من الموت بأعجوبة حيث نقلوه إلي مستشفي وبقي فيه أسبوعين تقرر بعده وجوب سفره إلي انكلترا للعلاج . وبقيت أنا في قلق وضيق .. طيلة شهرين بالتمام والكمال ثم عاد من الخارج ، ففرحت فرحاً عظيماً ، شعرت بأن أبواب القدر فتحت لي من جديد . لقد عاد سليماً معافي ولكن (بدون ساق) طلبت منه أن أكلمه ، لكن أخته أخبرتني أنه يرفض مقابلة أحد وبالذات مقابلتي .

فبكيت من كل قلبي ، بكيت حسرة وأسي . فأنا أحبه الآن أكثر من أي وقت مشي ، حاولت كثيراً أن أراه .. أو أكلمه بدون فائدة .. وظللت على هذه الحال مدة أسبوع كامل منذ عودته من الخارج .. وكانت أخباره تصلني عن طريق أخته التي كانت تحكي لي عن حالته النفسية العصبية . وزاد الطين بله أن طلب أهلي منه أن يفسخ خطوبته مني ، لأنني ابنتهم الوحيدة . ورفضت تدخلهم فيما يخصني ولكن بدون فائدة . وقبل يومين اتصل بي .. وأخبرني بأنه قرر أن يفسخ الخطوبة وأنه مكره في ذلك . لأنه يري أن في هذا مصلحة لي وضماناً لمستقبلي . وتحدثنا طويلاً ، وكان مصراً على فسخ الخطوبة ، وطلب مني أن أفكر بعقل وأن أحكم عقلي على عاطفتي . كما أنه أكد لي أنه يحبني وسوف يحبني للأبد . وهو سيكون سعيداً لو قبلت بالعيش معه شرط أن يأتي قبولي هذا عن اقتناع مائه في بالمائة وليس عن شفقة أو رحمة مني .

أرجوك .. أنا في حيرة من أمري .. أنا أحبه جداً ، وأريد أن أحيا معه للأبد .. ولكن كل من حولي يخالفونني الرأي ويقولون أن هذا شفقة ورحمة لا غير .. ارجوك ماذا أفعل؟ أنني كالغريق الذي يتعلق بقشة . أرشديني ماذا أفعل .. ولك مني جزيل الشكر.

الأخت العزيزة مني ..

قبل أن أتطرق إلي حل مشكلتك .. أحب أن أقل لك أن جسد الإنسان ما هو إلا (وعاء) للروح والنفس التي هي أهم من الجسد بكثير . فإذا كانت روح خطيبك بهذا السمو ونفسه بهذه الأخلاق .. فما بالك تترددين في إتخاذ موقف جاد لمجرد أن عضواً وأحداً نقص من جسمه ؟! .. وأثر حادث عارض لا إرادة له فيه ولا اختيار ؟!

لا يا مني .. لست أنت التي تفعل ذلك ، فهو خطيبك منذ عامين ، وكان يمكن أن يصاب بهذا الحادث القدري وهو زوجك ، فهل كنت ستتنكرين له وتطلبين الطلاق منه ؟!

ثم .. من منا نحن بني الإنسان يضمن قدره وغدة ؟ أليس من الجائز أن يصاب أحدنا فجأة بحادث مشابه ربما نخرج منه عجزة أو مشوهين ؟!!

لا يا عزيزتي .. خذي موقفاً جاداً من أهلك وأقنعيهم برأيك ، وأخبريهم بأنه لو كنت أنت التي أصابها الحادث لا قدر الله هل كان يرضيهم أن يتخلى خطيبك عنك ويزيد من مشاكلك النفسية بدلاً من أن يقف إلي جانبك يساندك بحبه وقلبه ؟!

مني .. أنت فتاة رائعة .. فعلاً تعرف كيف تحب . وكيف تختار الإنسان الذي تشاركه حياتها . ولذا أقول لك بكل قلبي : تزوجي خطيبك فليس الذي في قلبك نوعاً من الشفقة أو الرحمة فقط .. وإنما هو نوع من الحب النقي .. الحب الصافي .. الحب الطاهر البريء .. الذي يعيش عليه إنسان أشد ما يكون حاجة إليه .ز فبالله عليك لا تتخلى عنه ولا تتركه يتعذب بسببك ، ويكفيه ما ناله من عذاب . وأصري على الزواج منه .. وبسرعة .. حتى تنسيه مرارة الحادث .. بحلاوة الحب ..

ولكما مني .. أنتما الاثنان المحبان .. أطيب التمنيات بالسعادة والهناء !

 

 

همسة حب

قبلة وعينان

عيناك نبع هوي تصب كؤوسه الراح العتيق

والنجم خلف الغيم يدمي قلبه عشق البريق

وأقول للقمر الذي قد عب حتى .. لا يفيق

يا ليتنا كأسين تنسكبان فوق دو البروق

للحب صلينا بمحراب التناجي … للشروق

والشوق يشدو في حنايانا فتشتعل .. العروق

عيناك سهد نهاري الغافي على شفة القمر

جفناك رفا فارتوي بغرامك القلب المشوق

نهداك غفوتي التي ضمت وسائد من عميق

والثغر برعمي الذي نسي الربيع به الرحيق

والقبلة العذراء تحصد في دمي النبض الدفيق

والياسمين الغض أقطفه من الخد الأنيق

وشذاه رفاف يضم نعومة القد الرشيق

وقصيدتي كفراشة رقصت بأغوار الحريق

عيناك زادي حين شح الزاد واحتدم السفر

عيناك ظل وارف وغناء عصفور طليق

بجناحه الذهبي يمزج أمتي بدم الشروق

ويداك لمسة ياسمين الشجر للغصن الوريق

وإذا همست انساب غصنك من فم الغيم الرقيق

أنت الهوى المحبود في دنياي والحب العريق

وربيع وجهك لا يزال يقبل الثغر الأنيق

يحكي له أسطورة الأموال في قلبي المشوق

عيناك لحن عشه في القلب رفاف العصر

رضا الفيلي

لا لزوج أختي

أكتب لك مشكلتي هذه التي أصبحت بسببها لا أعرف طعم النوم وقلبت حياتي إلي جحيم . تقدم أحد معارفنا لخطبتي وذلك قبل عام من الآن ، وهذا الخاطب شاب محترم وخلوق ولا يوجد به ما يعيبه ، بل تتمناه كل فتاة ، ولكن أهلي رفضوا طلبه لأن أختي الكبيرة لم تتزوج ، وقالوا له إذا أردت الكبيرة فما عندنا مانع فتردد ، ولكن بضغط كبير من والده وافق أن يتزوج أختي الكبيرة ، طبعاً أختي الكبيرة لم ترفضه لأنها لم تستطع ذلك ، المهم تزوجاً ومضت الأيام وأصبحت اعتبره بالنسبة لي كأخي الكبير ، ولكن بعد أن مرت فترة بعد الزواج بدأت المشاكل تظهر بين أختي وزوجها ، وبعد مرور عام على زواجهما ، وكانا في زيارتنا ، فوجئنا بطلاقهما وذلك بطلب من أختي التي لم تنجب منه أطفالاً بعد. ولكن المفاجأة الكبيرة التي لم تكن تخطر على بالي أنني فوجئت به في اليوم الثاني على الطلاق يطلب يدي من والدي الذي وافق من غير تردد لأنه أقنعه أنه لم يكن في البداية يريد إلا أنا .

صدقيني لما علمت بالخبر أني فوجئت وصدمت صدمة كبيرة ، لأنني لم أفكر أو أتخيل أن هذا الشخص سيصبح زوجاً بعد كل هذه المدة التي انقضت ، وتعاملنا مع بعض أكثر من الأخوان . والله العظيم ماذقت النوم من كثرة ما زعلت وضاق صدري من المفاجأة المؤلمة . وأصبحت أنظر إلي الماضي لأستشف منه كل ما حدث خلال هذا العام وأحلل كل تصرفاتي مع زوج أختي ، أنه دائماً في أكثر الصور التي نصورها مع العائلة يكون إلي جنبي وأنا والله العظيم لم يخطر على بالي أي شيء ، ولم أستنكر منه أي تصرف ولم أشك في أي تصرف منه ، كذلك أختي التي لم أر منها أي نظرة غريبة لي من ناحية تعاملي مع زوجها إلا بعد الطلاق ، فقد قالت كلمة لن أنساها أبداً “الآن ارتاحوا مع بعض ” والله يوم سمعت منها هذه الكلمة أني تمنيت الموت ، لأني لم أتصور أنها تشك في إلي هذه الدرجة . صدقيني أخذت أبكي مما سمعت بعدما أصبحت طرفاً في مشكلة ليس بها أية علاقة ولم أكن أتوقع أنها ستحصل لي . أختي تشك في وزوج أختي يخطبني هل هذا معقول ؟ أنا غير مصدقة ما يحدث والله العظيم حرام . أختي التي أحبها مثل نفسي تتهمني بحب زوجها وأنا التي لم أسمع منها هذا من قبل فجأة يحدث كل هذا في لحظات ؟

المهم يا عزيزتي اتضح أنه لما يتخاصم معها كان يقول لها ” أنا أصلاً ما خطبتك أنا خطبت أختك ” والله العظيم أنا في حيرة ، أنا التي لم تمر على لحظة واحدة توقف فيها تفكيري عن الشخص هذا ، وكل تصرفاتي معه كانت تصدر بعفوية وحسن نية وبحضور كل الأهل .

أختي أرجوك ساعدديني كيف أتزوج ، مثل هذا الشخص الذي كان يفكر في أختي زوجة له ثم بعد ذلك يطلقها ويريد أن يتزوجني رغم أني لا أتخيل نفسي زوجة له أبداً . أرجوك ساعديني فأنا رافضة أن أتزوج منه رغم موافقة والدي ، أما والدتي فهي بين الرفض والإيجاب . أرجوك يا أخت كريمة أريد رأيك وبأسرع ما يمكن فأنا بانتظار جوابك على رسالتي هذه أرجوك أنقذيني من هذه الدوامة.

فلتعودي إلي النوم ملء جفنيك يا عزيزتي .. ولتعد حياتك نعيماً لا جحيماً .. كيف ذلك ؟! لأنك يجب أن ترفضي هذا الزواج.

نعم .. هذا هو الحل الوحيد لمشكلتك . فليس من المعقول أو الممكن أن تتزوجي رجلاً أنت تعتبرينه أخاً لك ، أيضاً لأنه كان زوج أختك حبيبتك التي سوف تعيش حياتها تحترق في بوتقة الغيرة والعذاب ، لو قدر لك هذا الزواج ..

وأعتقد أن من حقك الآن أن تعلني هذا الرفض ، ولا أعتقد أن والدك سوف يرغمك على ذلك ، بعد أن أرغم أختك من قبل ، وإلا سوف يخسر في كل سنة واحدة من بناته !! وكفي تدخلاً من الآباء في حياة الأبناء ، فلولا ضغط أبيك على أختك ، ولولا ضغط والد الشاب عليه ، لما اضطره إلي الزواج من فتاة لا يرغبها قلبه ولا تشتهيها نفسه ..

وبعد عملية التصحيح والوضوح هذه .. سوف تعلم شقيقتك مدي صدق مشاعرك ، وكيف أنك كنت لها أختاً نقية مخلصة ، وليست أختاً عابثة مستهترة تطمع في زوج أختها !

أيضاً .. اشرحي لوالدك بهدوء ، أنك غير قادرة على ممارسة هذا الزواج اللا إنساني ، لأنه سيفقدك أختاً حبيبة مدي الحياة .. وبذلك الرفض عزيزتي .. سوف تربحين نفسك ، كما تربحين أختك ، ومع الأيام سوف تنالين زوجاً يناسبك ، زوجاً قادراً أن يسعدك بلا مشاكل ولا خلفيات في الماضي أو المستقبل.

 

 

حبيبتي والحياة !

أنا إنسان بلا جنسية ، حالتي المادية ضعيفة جداً .. أحببت فتاة حلوة الوجه تحبني كثيراً كما أحبها ، انتهيت من المرحلة الثانوية وكان أملي كبيراً بأن أعمل وأجمع المال لكي أجعلها شريكة حياتي .. ولكن للأسف جلست سنتين بدون عمل ، ذهبت إلي جميع الوزارات لكي أعمل ، ولكن كانت الأبواب تقفل في وجهي بالرغم من أني أحمل الشهادة الميلادية الكويتية وشهادة الرابع الثانوي.

واستمر حبنا ، وكان يزيد يوما بعد يوم بالرغم من ظروفي وحالتي المادية وكانت هي تعلم كل شيء عني .

أصبحت الدنيا أمامي ستارة سوداء ، فقدت الأمل من الناحيتين ، حبيبتي والحياة السعيدة .. كنت أتمني الموت .

وكانت تقول لي ” أصبر سوف يفرجها الله علينا ” كانت تقولي لي هذه الكلمات فيعود الأمل مرة أخري .. حتي بحثت عن عمل .

ولكن عندما استلمت راتبي وجدته زهيداً جداً ورحت أفكر ليلي مع نهاري كيف سنعيش بهذا الراتب الضعيف .. فعرضت عليها حلين هما : أن نبتعد عن حبنا وكل واحد يسلك طريقه – أو أن تصبري وتنتظري خمس سنوات أخري !

وأتي أناس كثيرون في طلب يدها وكانوا أفضل حالاً مني ولكن رفضت كل من أتي إليها. ضحت بسعادتها من أجلي .. ولكن أردت أن أضحي بسعادتي من أجلها فرفضت .

هل أنا أخطأت عندما قلت لها أن نفترق ونبتعد ؟ أم ماذا أفعل ؟! فأنا أتعذب كثيراً.

أخي هذا هو الحب الحقيقي .. لأن الحب يقاس بقدر التضحيات .. وأنت ضحيت من أل سعادتها عندما اخترت أن تبتعد وتبتعد.

لأنك تعلم جيداً أنك غير قادر على إسعادها من الناحية الواقعية .. فالمسافة بينكما شاسعة .. والزواج تكافؤ قبل أي شيء .. وهو يتكون من عدة عناصر مشتركة من بينها الحب .

والحياة الزوجية لا يكفيها الحب وحده وأنت كنت في منتهي التعقل والتروي عندما بحث لها برغبتك في الابتعاد ، وذلك كي تترك لها المجال واسعاً لتمارس حياتها دون ارتباط أو تقييد …

دعها تمضي إلي مستقبل أيامها دون أن تعيقها بمشاعرك ودون أن تجعلها تنتظرك خمس سنوات أخري .. يعلم الله وحده ما يمكن أن يأتي من مواقف وأحداث .. لك كل تقديري ، وإعزازي لشعورك بذاتك وإحساسك بكرامتك .. كان الله معك ..

 

 

 

 

 

 

قاتل .. قتيل !

ترددت كثيراً قبل أن أكتب لك هذه الرسالة لما وصل إليه تفكيري من تشتت وضياع ، وعدم قدرتي على اختيار الجهة التي يمكن أن أطرح عليها مشكلتي ، وأخيراً استقر رأيي ولجأت إليك طالبة منك يد العون وأملي فيك كبير بعد الله يا أخت كريمة أن تساعديني في حل مشكلتي ، وأحب أن أوضح لك وأقول لكل جواد كبوة حسب ما يقول المثل .. أنا فتاة في الثامنة عشرة ، طالبة . أسرتي محافظة جداً ولكنني أحس أنني جلبت إليها العار.

مصيبتي أنني أحببت ابن الجيران وهو شاب معروف في المنطقة بحسن الأخلاق ويضرب به المثل، وكم مرة كنت أسمع أبي يلوم أخواتي لأنهم ليسوا مثله في تصرفاتهم وأفعالهم وكم ترددت على مسمعي مثل هذه العبارات ، وليس أهلي وحدهم الذين يشيدون بنبله ورجولته بل وكل هذا جعلني أحبه أكثر وأكثر وأثق به أكثر . أنني أحببته بكل جوارحي وبادلني نفس المشاعر ، وفي ذات يوم طلب أن أخرج معه في نزهة قصيرة وأبلغته أنني لا لن أستطيع لأن أهلي لن يسمحوا لي بذلك فقال لا تخبري أهلك بشيء وقولي أنك ذاهبة عند صديقتك أو إلي المكتبة وسوف أنتظرك في السيارة على الشارع ، وأكد لي بأن ذلك من أجل مستقبلنا نحن الاثنين ، وبعد تردد فعلت ذلك ، وترددي كان خوفاً من أهلي وليس عدم الثقة به ، بل إنني واثقة به جداً وكذلك واثقة من نفسي ، فذهبنا إلي إحدى الحدائق وجلسنا وكان كلامه موزوناً وكان يتكلم عن مستقبل بهدوء ، قال لي أنه سوف يتكلم مع والدي بشأن زواجي منه، وكان لكلامه ذاك صدي كبير في قلبي . وقمنا وركبنا السيارة ولكنه لم يتجه صوب البيت بل سار في شارع معاكس ، سألته إلي أين أنت ذاهب قال سوف يمر على بيت شقيقته المتزوجة لإحضار شيء ما ولن يتأخر فلم أعارضه ولم أسأله عن شيء ، وحين وصلنا أوقف السيارة وكلب مني أن أبقي في السيارة حتى يزور شقيقته وذهب ولم يتأخر ثم عاد وطلب مني أن أذهب معه إلي الداخل لأن شقيقته تطلب أن تراني فنزلت من السيارة ، وعند دخولي البيت شعرت بشيء غير عادي لكون البيت يبدو غير مسكون فلم أتمالك أعصابي وصرخت أين شقيقتك قال مسافرة فأسرعت إلي الباب ولكنه كان مغلقاً فأمسك بي وحاولت أن أقاوم ولكن تمكن مني وأخذ كل ما يريده بدون رحمه أو شفقة أو خوف من الله وبعد كل شيء خرجنا من البيت وكنت مكسورة الخاطر وأتقطع من البكاء طلب مني بكل بساطة أن أركب سيارته ليوصلني فرفضت أن أركب معه وانطلق بسيارته طائراً في الهواء فتمنيت من كل قلبي أن يقع له حادث ، وبعد ذلك استوقفت تاكسي وعند وصولي ، وقبل أن أدخل البيت سمعت أصواتاَ وصياحاً وفهمت من الناس أنه قد توفي في حادث ، لا أخفي القول أنني شعرت براحة جامحة وأخفيت كل ما صار لي بالرغم من أنني كنت مصرة على أن أخبر والدتي بذلك والآن الظروف التي أنا فيها لا تسمح لي بالسكوت لأنني أحس بشيء يترعرع في أحشائي . أنا حامل ولا أقدر أن أتحمل الصدمة لهذا أنا ملازمة الفراش بسبب الخوف والوحام ، وأبي وأمي مصرين أن أذهب إلي الطبيب أو سيأتون به وأنا أرفض ذلك ولكن إلي متي سأرفض وماذا أفعل ؟! إذا كان الفاعل قد مات هل أنتحر وألحق به أم أكشف فضيحتي وأجلب العار لأسرتي ؟ أم أدع الجنين الذي يزيد من انتفاخ بطني يوماً بعد يوم هو الذي يخبرهم بما حدث ؟ وقد سمعت أن هناك طرقاً لإخراجه ولكنني لا أعرفها دليني يا أخت كريمة ماذا أعمل وأملي فيك كبير.

لا وقت للتأنيب أو العتاب ، ولا للأسى أو اللوم على تفريطك في نفسك وتوريطك لأهلك بما فعلت ، فهم سوف يتحملون إثماً لذنب لم يقترفوه ، وسيدفعون ثمن مصيبة لا دخل لهما فيها .

فلو كانوا من الأهل المهملين الغارقين في شؤونهم الخاصة لهان الأمر بعض الشيء ولكنهم من الأهل الواعين الحريصين على مصلحة أبنائهم بدليل متابعة والديك لتربيتك وتربية أخواتك واختيار المثل الصالح ليكون قوة لهم…

ولكن ما خفي كان أعظم .. المهم فليرحمه الله ويغفر له ما فعله بك … فأنت القتيلة الحية، التي تتمني الموت رحمة لها مما هي فيه من معاناة وعذاب ..

والآن ..

هل تريدين أخفاء الأمر ، وترك الأيام تمضي بك إلي هوة الفضيحة وسحيق العار ؟! هل تريدين البقاء هكذا حتى يتفشى الخبر ويذيع بين الناس ومن ثم يكون أبوك آخر من يعلم وأمك آخر من تدري ؟!

لا يا عزيزتي …

أنت أخطأت بسكوتك منذ البداية ، فقد كان يجب عليك إخبار أمك فور وقوع الحادث ، أو على الأقل فور التأكد من الحمل ..

والآن …

ليس هناك مفر من مواجهة الواقع بكل مصيبته وبلواه ، وإخباره أهلك بما حل بك ، واتركي الأمر لهم كي يحلوا المشاكل بالطريقة التي يختارونها .. وابعدي عن ذهنك تماماً الانتحار فهو يجلب الفضيحة لك حية أو ميتة ، والعار لأهلك الأحياء والأموات!

وأنت يا ليتك تقدرين أن تتعرفي على المكان الذي أخذك إليه هذا الشاب وقت الحادث ، فربما يكون قد ترك هناك أثراً يبرهن على صدق كلامك ، ويثبت روايتك .. فقد يكون له أخ يقبل بك زوجة ستراً لما كان وخوفاً مما سيكون …

فأرجو أن تحاولي التذكر لتصلي إلي هذا الدليل . خاصة أن الفتي الفقيد كان صاحب سمعة طيبة بين الناس ، لذا سيصعب تصديقك في البداية الأمر ، وستلقين صعوبة في إقناع كل من حولك بواقعة حكايتك ، حاولي وحاولي .. فالحق يعلو ولا يعلي عليه ، الله معك ..

 

 

 

 

غراميات زوجتي

أنا إنسان متزوج من فتاة لها ماض ، تعرفت عليها ، تبادلنا الإعجاب ، أحببتها من كل قلبي، واستمرت علاقتنا مدة سنة ونصف .. تقدمت لها ثلاث مرات إلي أن حصلت عليها في النهاية بعد أن تجاوزت كل الصعاب التي تحول دون زواجي بها . في لحظة صراحة .. اعترفت لي بأنها كانت قبل مرتبطة بعلاقة عاطفية مع اثنين !

صدمت ، وثارت شكوكي كلها دفعة واحدة ، فتحول كياني إلي أنوار كاشفة تبحث عن مخابئ هذا الماضي اللعين ، إلي أن اكتشفت أنها كانت على علاقة بستة رجال وليس اثنين كما ادعت في اعترافها الكاذب.

فجعت بها .. أحسست أنني محاصر بقصة عذاب طويلة مليئة بالقلق والسهر والغيرة والشقاء ، أصبح ماضيها العربيد يعذبني ، كلما أغمضت عيني بت أري سلسلة من الصور تحرقني ، بت أتخيل سلسلة من التجارب تكويني ، صرت أشعر وكأن الظروف كلها تمزقني، تتحداني ..

ماضي زوجتي العابث الذي استقر في عقلي ، وثبت في ذهني ، أصبح قيوداً من نار تشدني دوماً إلي الوراء وتدفعني إلي أن أهرب بعيداً عن الأرض التي ولدت عليها ، وعن الناس الذين أعيش بينهم ..

إنني أتعذب …

أتعذب وأنا أري رفاقي يستمعون بعذاب الاحتقار ، فكل أصدقائي يعرفون ماضيها العابث اللعين ، كلهم أشعر بهم كأنهم يتغامزون على ويتساءلون .. كيف تزوجتها ؟! كل هذا العذاب يطحن رأسي ، دون أن تدري هي بي ، فأنا لم أصارحها بما عرفت ، لأنني لا أريد أن أجرح شعورها بهذا الاكتشاف الخبيث …

أنا أعترف بكل ضعفي أنني أحبها ، ولا أطيق الحياة بدونها ، فه إنسانة خفيفة الظل ، حلوة اللسان ، رقيقة المعاملة ، نظيفة ، مرتبة في بيتها ، أنيقة في ملبسها .. أهلي كذلك يحبونها كل الحب ..

المصيبة أنني بعد الزواج أصبحت أشك فيها ، صرت أقتفي أثرها في كل مكان مثل المباحث ، أخذت أطارد الماضي وأنبش فيه . لأبحث فيه عنها ..

بقيت أتابع القضية كمن يلاحق مجرماً ، اكتشفت أنهم كانوا ستة رجال بأدلة ثابتة قاطعة ، فأنا من النوع الذي ثبت الدليل قبل كل شيء.

والآن أنا متضايق جداً بيني وبين نفسي ، ولا أدري ماذا أفعل بعد أن انعدمت الثقة بيني وبينها ، فها أنا دائماً أترسم خطاها ، ها أنا دائماَ أمشي وراءها كأني ظل ، في كل لحظة أخشي الخيانة ، إذا غابت عن عيني ساعة يوسوس لي الشيطان أنها تقضي هذا الوقت مع أحد من هؤلاء الستة ، فيجن جنوني ، ولا أهدأ إلا إذا وصلت إليها ، وعرفت أين هي ، ومع من تكون ..

عذاب .. عذاب . فالزوج إنسان حساس ، والجرح ما يحس فيه إلا صاحبه .. والعذاب مستم، وأصوات شديدة تندفع في أذني ، كما تتدافع دقات طبول الحرب ، أصوات صارخة تقول لي طلقها ، طلقها ، ولكني لا أقوي على ذلك فأنا أحبها ، ولم أشعر بالملل معها رغم مرور حوالي ثمانية أشهر على الزواج . ألزمتها بالصلاة ولبس الحجاب ، فأطاعتني ونفذت ما طلبته منها ..

ومع ذلك أظل أسائل نفسي . هل أسأت الاختيار ؟! هل ما فعلته معها كان مجرد حماقة وسذاجة ؟! هل كان يجب أن أنبش في ماضيها بهذا الإصرار ؟!

… حتى الآن أكاد أغيب عن الوعي كلما رأيت السخرية في عيون الناس ، فلا أكاد أحس بمن حولي ، ولا بمن أمامي … وأعود أتطلع إلي الوراء . إلي الماضي لأحفر فيه بحثاً عما دفنته الأيام ، ووارته السنون .. إنني أخشي هذا الحاضر الذي يولد منه المستقبل .. فأنا قلق على مستقبلي معها .. وأسائل نفسي .. هل ستبقي حياتي عبارة عن قصة أليمة مليئة بالسهر واليأس والقلق والشقاء ؟!

أخشي أن أعيش معها حياة هي انتحار طويل .. دليني بالله عليك يا أخت كريمة .. ماذا أفعل وأنا أنظر إلي الناس ، ثم أنظر إلي نفسي ، فلا أري إلا كذباً ونفاقاً وامتهاناً .. فإلي متي يظل في داخلي هذا العذاب ؟!

عزيزي أيها المعذب …

أنا معك في كل ما تشعر به من لوعة وألم وعذاب ، فالإنسان بطبع ضعيف وحساس مما يجعله ضحية سهلة للغيرة والسهر والأرق والعذاب .. أنا معك في كل ذلك .. أحس بك وأقدر شعورك فعلاً .. لكنني أختلف عنك في نقطة جوهرية فاصلة .. بل ألومك فيها .. وهي تتعلق بماضي زوجتك الذي تحرجت أن تخبرك به بكل تفصيلاته المرعبة …

فكيف بالله تعطي نفسك الحق في أن تصبح بين ليلة وضحاها رجل مباحث مدرباً ذا خبرة وطول باع حتى أنك اكتشفت بكل الإصرار والتحدي المخابئ الخفية لذلك الماضي البعيد ، وكشفت بكل العناد والتصميم الأسرار المخفية لتلك المراهقة الصبية التي حرصت على سترها وحجبها عنك بعدما كبرت وفهمت ونضجت .. لماذا ؟!

ألا تعرف هذا القول المأثور ” من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر “.

أنك عزيزي تذكرني بحادثة ذاك الرجل الموسوس الذي أراد أن يضمن لنفسه زوجة نقية خالصة النقاء فذهب إلي المستشفي وانتقي طفلة رضيعة وأخذها ليربيها في بيت مغلق ألبواب كي يضمن أن لا تقع عينها على رجل آخر غيره ..

وما أن نضجت الطفلة وكبرت حتى سارع بإحضار المأذون ليعقد قرانه عليها .. لكنه لم يتوقع تلك النهاية المفاجئة .. فقد اختارت الصبية الحسناء المأذون زوجاً ورفضته !!

وأنت أيضاً .. كانت أمامك فرصة الرفض .. فلماذا لم تفتش وتبحث وتنقب عن هذا الماضي العربيد كما تقول طوال ذاك العام ونصف العام حينما كانت تربطك بها علاقة حب وهيام وغرام ؟!

لماذا نسيت طوال سنة ونصف السنة أن تسألها هذا السؤال الجارح عن ماضيها ؟!

ألانك لم تكن تمتلكها بعد ؟! وبالتالي لم تكن تمتلك ماضيها ؟! أم أن الحب كان سلطاناً عاتياً أعجزك عن التفكير ؟! وأعماك عن الرؤية ؟!

اسمعني .. لقد أخذتها بلا سؤال .. فلا داعي للخوض في هذه المواضيع المزعجة ، المثيرة للأعصاب .. كن زوجاً عادياً طبيعياً وعش حياتك بلا تهيؤات تحرق دمك ، أو تلهب دماغك .. ومع الوقت ستزول هذه التصورات كلها ، وستتعمق ثقتك بها ، مادامت قولك .. واعلم يا أخي أن الله سبحانه يقبل توبة عبده الصادق  فكيف بالعبد نفسه يرفضها ويلفظها ؟!

يا أخي .. كن شهماً شجاعاً ، أصيلاً ، كريماً ، والتجئ إلي الله طلباً لمزيد من الهداية والمغفرة ، والصبر والإيمان ، كن قدوة حسنة لها ، تقيم الصلاة ، وتلتزم بحدود الدين ..

وحينذاك سوف تهدي نفسك وترتاح وتطمئن . وثق يا عزيزي بأن بيتاً نقياً نظيفاً طاهراً تدخله الملائكة حتماً وبعون الله ستهرب منه الشياطين .. كل الشياطين.

الكلمة والتجربة

 

الحب ، يا نعومة الكلمة

ياسحرها ، ويا جمال الجمال

من قبل أن تحرقنا التجربة

إذ مضي يلفظها الآخرون

رفت على صحرائنا نسمة

وأغدقت في بالنا نعمة

وانكشفت للخيال

مربع سحرية مخصبة

ينعم في غطبتها العاشقون

نسمعها نغمة

تنساب في لين ، حريرية

فترعش الخضرة فوق التلال

ويستفيق الجمال

ويستحيل الكون أغنية

وفي الليالي الموحشات الطوال

نلمحها نجمة

تشع في الأفق الخفي البعيد

تومئ في صمت إلي عالم

ضاع جديد

تحلو المني فيه ، وتسخو الوعود

ويزهر الحلم ، ويزهو الوجود

وذات يوم تقبل التجربة

غنية ، معطاء

بنظرة تطرق أبوابنا

تطرقها بنظرة حلوة

تومض عن عينين معبودتين

وهاجتين

تطرقها بضحكة طائره

ساخنة ، بنكية بارعه

ذكية ، بلفتة من جبين

غض ، فتي زئبقي الرواء

فتنفتح الأذرع في نشوه

نعانق الحلم الذي أوغلت

رؤاه في أعماق أعماقنا

يوم ، وتعري الكلمة الناعة

من ظلها ، من سحرها الباني

يوم ، ويبدو وجهها الثاني

عبر مسافات جليديه

خلف متاهات ضبابيه

وجه كئيب الروح ، وجه حزين

مرت عليه لفحات الظنون

فأذبلت زهوته الباسمه

وأطفأت فيه شعاع اليقين

وجه شقي ، في التفاتاته

كل أسي الدنيا وثقل السنين

يوم ، وتنهار سماواتنا

وتنتهي الدنيا التي أمرعت

وأيعنت فيها خيالاتنا

يوم ، ونريد حياري الخطي

نسأل عن أشواقنا الرائعة

نبحث عن أشيائنا الضائعة

أين مضت ؟ كيف استحالت هبا ؟

أهكذا نفقد أحلامنا

أهكذا لا شيء يبقي لنا ؟

بلي ، بلي ، لا شيء يبقي لنا

لا نجم ، لا نغمة

لا ظل ، لا نسمة

ترف في صحرائنا المجدبه

بلي ، بلي ، لا شيء لكنما

يا تعسنا ، يا فقر أعمارنا

إذا انطوي العيش ولم تخترق

أرواحنا في لهب التجربة

فدوي طوقان

مشكلة!

أنا فتاة بنت عائلة كبيرة ومحترمة ، ولدت على هذه الدنيا باسم ” مشكلة ” لأنني قبل أن أكمل سنة من عمري انفصل والداي وأصبحت مشردة بين بيتين وقلبين .. قضيت طوال هذه المدة بين أمي وأبي أعاني الضياع وعدم الاستقرار .. فكل منهما ينظر ” بنت الطرف الآخر التي تسبب له التعاسة ” مرت السنون الأولي من عمري وأنا لا أفهم ماذا يجري حولي وأقنعت نفسي بأن هذا روتين اعتدته ولن أستطيع تغييره أبداً .. وعندما بدأت أفهم الحياة .. بدأت أبحث عن حب نقي صاف .. وتعرفت عليه ، بدون شعور بدأت أميل نحوه ميلا شديداً ، وكأن هناك تيار في عيني يشدني إليه .. ووجدت منه اهتماماً لم أحلم به قط .. حتى أحببته .. أحببته حباً شديداً لا أستطيع وصفه .. وقضيت معه أجمل أيام عمري .. فقد أيقنت بأن للحب معني آخر لم أكن أعلمه .. وباختصار وبعد هذه الأيام السعيدة علم أبي بهذه العلاقة ، ومنه تسربت الأنباء إلي أخوالي وأعمامي أي رجال العائلة وبدأت المشاكل ، وقابل أبي ” حبيبي ” وتفاهم معه بدون شجار على أن يقطع العلاقة بينه وبين أكبر بناته التي كانت محل ثقة في نظره . وبعد مقابلته لأبي انقطع عني دون سابق إنذار وإخبار لي ..

أرجوك .. ماذا أفعل ؟ أشعر بالهم يفترسني .. اشعر بالضيق ، كرهت أب كرهاً شديداً .. كرهت الدنيا .. كرهت نفسي .. حاولت الانتحار أكثر من مرة .. وكل محاولاتي فاشلة .. أريد الموت أريد أن أصرخ وأفجر قنابل ليعلم الجميع عن حزني المكتوم .. أريد أن تخمد الآهات وتشتعل النيران في كل مكان .. اريد أن أنتقم من هذه الدنيا التعسة .. تولدت عندي هواية الشعر الحزين .. لعلي أعبر عما في داخلي .. فأنا أحب حبيبي ولا أعلم ماذا أفعل . لا تطلبي مني نسيانه لأني لم أستطيع فهو حبي الأول والأخير .

عزيزتي مشكلة .. مع خلص تحياتي وتقديري .. إليك رجائي بألا تصنعي من حياتك كلها ” مشكلة ” بسبب انفصال والدك عن والدتك .. فأنت لست أول واحدة في الدنيا تعيش في هذا الوضع ، ولست آخر واحدة.

حكاية حبك ، وبحثك عن الحنان ، هي في الواقع بحث عن الاهتمام ليس إلا . فأنت لم تفتقدي شيئاً غيره طوال سنوات عمرك .. أما الحب والحنان فهو موجود في قلب أمك .. وقلب والدك .. الذي تصرف برقة وهدوء ودبلوماسية ، فلا تنسي أنه لم يضربك ولم يشتمك، ولم يسجنك.

كل ما في الأمر أنه بحث عن الشاب حتى اهتدي إليه. وهناك .. أقنعه كرجل أمام رجل بعدم جدوى علاقتك معه ، ويبدو أن والدك كان ناجحاً جداً في مهمته إلي درجة أصابت الشاب بالخجل والحرج من علاقته معك .. فتركك احتراماً لأبيك.

وبمنتهي الصدق .. أقول لك .. لو كان فتاك يحبك حقاً لما تركك وتخلي عنك ، وإنما كان قد أستغل هذه الفرصة ، وطلب يدك ، من والدك عندما التقي به .

والظاهر .. والعلم عند الله أن المسألة كانت مسألة حب ولعب ، لذا تراجه وهرب بعد أن رأي أمامه رجلاً محترماً وقوراً مهذباً لا يصح أن يلهو مع أبنته ، ويفسد سمعتها.

دعائي أن تمشي مرحلة أحزانك هذه ، وتعبر سريعاً من حياتك .. وأملي أن تتفوقي علي نفسك وتحلي ” مشكلتك ” بالنجاح في الدراسة وفي التعامل مع أهلك.

 

الزواية الضيقة

أنا شاب أبلغ من العمر عشرين عاماً وقد كنت منذ صغرى مشتركاً أنا وأخي في أشياء كثيرة، منها صداقة الفتيات لدرجة أننا نشترك في سيارة واحدة لذلك لم نفترق في أي لحظة من اللحظات وكانت لنا صداقات كثيرة مع فتيات كثيرات وفي مرة من المرات أثناء وجودنا في عيد ميلاد أحد أقاربنا استطعنا أن نستدرج إحدى قريباتنا وحصل ما حصل .. ولم يعلم أحد بقصتنا.

وفوجئنا قبل أيام بأن والدي يطلب مني أن أتزوج هذه الفتاة وإذا لم أقبل سوف أطرد من منزلنا وتقطع عني المصاريف وأنا شاب لم أزل في دراستي الجامعية وتجدر الإشارة إلي أم أخي في الثامنة عشرة من عمره والسؤال :-

كيف أتزوج فتاة مارست معها أنا وأخي ” الجنس ” ماذا تراني أجد عندكم من حل لمشكلتي مع العلم أنني لا أستطيع رفض طلب أهلي فلذلك أرجوكم أن تدلوني على الحل.

ماذا أقول لك ؟! هل أقول تصرف بنفس الطريقة التي اتبعتها من قبل مع قريبتك وتزوجها أنت وأخوك ؟!

طبعاً هذا لا يصح . ومن البداية كان لا يصح أن تعتدي أنت وأخوك ” جنسياً ” على إحدى قريباتك !!

أنا أحملك المسؤولية الأكبر ، لأنك أنت الأخ الأكبر ، صاحب التأثير الأقوي على أخيك الذي يتتبع خطاك ويسير على نفس منوالك عموماً .. أنت الآن محصور في زاوية ضيقة خانقة . وانا لن أعتب عليك أكثر من ذلك فكفاك إحساساً بجسامة ما فعلت وهوله ، عندما سطعت الحقيقة أمامك فأدمتك ، فأنت لا تتصور أن تصبح هذه الفتاة بالذات زوجتك ، ولكن كنت لا تعبأ فيما لو أصبحت زوجة لرجل آخر!

أنت في مأزق حرج وسخيف ، وفي موقف صعب وشائك ، لن تخرج منه إلا بمصارحة والدتك وإخبارها ” تلميحاً ” ببعض ما حدث حرصاً على سمعة الفتاة.

وأمك ستتخذ اللازم وستعرف بطريقتها كيف تقنع أبيك بغض النظر عن هذه الزيجة المستحيلة بالنسبة لك على الأقل ، ويمكنها التذرع بأنك لا تزال طالباً جامعياً وفي حاجة إلي التفرغ لإتمام دراستك .. ثم الزواج بعد التخرج.

وأتمني أن ” تتخرج ” من هذه الورطة ، وأن لا تعود إلي مثيلتها ، وأن تكف أنت وأخوك عن هذه الأفعال الصبيانية التي لا تليق بطلبة الجامعات .

شرط أن لا تكن قد سلبت الفتاة عذريتها ، سواء أنت أو أخوك . فإذا كان الاعتداء كاملاً والفتاة خسرت كل شيء فلتتحمل الموقف إذن رغم صعوبته ، ولتطلقها فيما بعد إذا كانت عيشتك معها ستسبب لك الإحراج والإحباط أمام أخيك .. وأما نفسك .

نجوم!

أبعث إليك برسالتي هذه بعد أن ضاع أملي في الحياة ، وتهدد مستقبلي بالفشل ..

أنا فتاة من عائلة متوسطة ، عمري حوالي عشرين سنة ، أحب شخصاً حباً جنونياً . شخصاً لم أراه في حياتي ولا مرة واحدة سوي في التلفزيون كل ما أعرفه عنه مجموعات من الصور والأخبار أخذتها من الصحف والمجلات ..

استمر حبي هذا طوال أربع سنوات ، وهو لا يعرف عني ، ولا يدري عني ، أصبحت أبكي بدل الدموع دماً ، وبسببه فشلت في دراستي وفي حياتي .. حاولت بكل طريقة أن أصوم عن هذا الحب وما أفكر فيه أبداً لكني لم أقدر ، أصبحت عصبية ، عاجزة عن التفاهم مع أهلي ومع صديقاتي ، لا أطيق الكلام مع أحد ، ولا أحتمل الجلوس مع أحد ..

أنا يائسة من حياتي .. في هذه الايام تقدم شاب لي ، أقسمت بيني وبين نفسي أن تكون ليلة فرحي هي ليلة موتي .. وسوف أنتحر إذا أجبرني أهلي على الزواج من أي إنسان .. فأنا لا أحب سوي هذا الشخص، الذي لا أقدر على الاتصال به ، فأنا أخشي لو قدرت واتصلت به ، علماً أنني حاولت وفشلت ، أن يأخذ عني فكرة سيئة ، علماً بأن كل من يراني ينبهر بجمالي ، وأنا ل أعرف كيف أتصرف ..

فأرجوك يا أخت كريمة أن تنقذيني من عذابي ويأسي وجنوني .

يا عزيزتي ..

حالتك هذه التي تعانين منها سمة من سمات المراهقة ، مثل اللاتي أحببن عبد الحليم حافظ حتى انتحرن من أجله عندما توفاه الله .. مثل اللاتي يحببن نجوم الكرة ونجوم السينما والمشاهير .. فأنت الأخرى تعلقت بأحد النجوم المجتمع ، الذي تألق في خيالك كنجم من نجوم السماء السابعة !

.. حبك هذا خيال ، والإنسان الذي يضعف أمام خياله ، ويترك له السيطرة عليه ، لن ينجح في حياته . مستحيل أن ينجح في أي عمل يؤديه طوال عمره .. لأنه هنا يلغي نفسه . يلغي ذاته يتخلص من شخصيته .

يتجاهل واقعتيه .. وبالتالي ينسحب في قمة الصراع واليأس من حياته كلها .. وهذا هو الانتحار الذي تفكرين فيه كعلاج لخيال مريض محموم !!

أنت يجب أن تقاومي هذا الهوس الذي يطحن عقلك ، ويذيب ذاتك ، ويمزق مشاعرك ..

يجب أن تعالجي نفسك من هذا الشعور بسرعة ، وأن تنهي هذه المراهقة في التفكير في الحال . لا تستغربي ، ولا تقولي أنك تجاوزت مرحلة المراهقة ، فالإنسان قد يكون مراهقاً في تفكيره حتى وعمره سبعون سنة .. !!

يجب أن تتصرفي بنضج وإدراك ووعي ، فالنضج الحقيقي أن يعيش الإنسان على أرض الواقع ، بلا أحلام يقظة ، وبلا أوهام تورثه الخبل والجنون ..!!

فالحب الحقيقي عزيزتي لا يقوم على الأوهام ، وإنما شرط من شروط الحب هو التبادل والاختيار ، فالحب بين إنسان وإنسانة يصبح حباً بقدر ما لديهما من قدرة على الحرية والإرادة والمسؤولية .. وهذه مقومات جميعها منعدمة لديك .. لذا نشأت مشكلتك ، ونبعت معاناتك ، أصبحت منطوية على ذاتك ، عاجزة عن التفاهم مع الناس لأنك صرت عاجزة عن التفاهم مع نفسك ..

لقد تراكم يأسك ، وتزايدت عملية الهدم داخلك ، بعد أن وصلت إلي مرحلة خطرة وحرجة ، مرحلة هدم وتدمير يقتل فيها الإنسان نفسه شيئاً فشيئاً ..

فأرجوك .. أرجوك .. قاومي هذا العجز ، ولا تستسلمي للهزيمة ، أوقفي عملية الهدم ، وابدأي بإرداتك وعزيمتك عملية البناء .. والله معك.

 

الحزن ينزف!

كنت في السابق متردداً وأخشي الكتابة لك عما أعانية حتى لا تظني أنه من نسج ” الخيال ” أو الخرافة ولكن بمتابعتي لك استطعت أن تجعليني أمسك بالقلم وأقول ما كتمته بقلبي مدة سبع سنوات وثلاثة أشهر و 17يوماً فأنا إنسان رقيق جداً ، طوح ، متحرر وصريح إلي أبعد الصراحة .. فلقد اعترفت لك بأن .. حلولك هي أكثر الحلول الواقعية .. فأرجو أن توفقي معي كما وفقتي مع غيري.

مشكلتي هي أنني من عائلة لها مكانتها الاجتماعية البارزة ، عندما وضعتني والدتي على ظهر هذه البسيطة .. كانت السعادة تقدم لي مع الوجبات الثلاث يومياً وعندما بلغت سن الثانية عشر من العمر وحصلت على الشهادة المتوسطة وأصرت والدتي ، يرحمها الله ، بأن أتزوج وأنا في هذا ” السن ” ، استسلمت للأمر الواقع وزفت إلي عروستي في تلك الليلة وكنت محتاراً ماذا أعمل ؟؟

كنت أختلي بنفسي ساعات طوالاً أفكر في دراستي ، فعلاً واصلت دراستي حتى حصلت على الثانوية العامة وكنت الأول .. وأثناء ذلك جاء أول باكورة زواجنا ” خالد ” وبعد رزقت بثلاثة أبناء خلال أربع سنوات .. وفي نشوة الفرحة بحصولي على الشهادة الثانوية العامة .. حل القضاء الذي لا راد له وانتزع أفراحي وأحلامي كلها في لحظة فتوفيت والدتي ، وبعدها سافرت للخارج لإكمال دراستي العليا مع زوجتي وأولادي وبدأت مشواري لتحصيل العلم .. واتجهت قدماً في دراستي حتى حصلت على شهادة ” الماجستير” وكنت ناوياً أن أحصل على شهادة الدكتوراه .. وفعلاً حصلت على إجازة لمدة ثلاثة أشهر ورجعنا إلي بلدنا حيث لاحظت تغييراً كبيراً على زوجتي .

لقد تحولت هذه المرأة إلي امرأة أخرى شرسة الطباع .. حادة المزاج تثور لأتفه الأسباب .. وفي خضم المعاناه ثبت لدي خيانتها وكانت الأخبار تصلني بأنها على علاقة مع ابن خالها الذي يعتبر ” ابنا لها ” لم اعتبر هذه الأقاويل صادقة إطلاقاً ولم أعرها أي اهتمام .. وعندما قمت بجمع كتب المراجع التي سوف آخذها معي إلي أميركا لتقديم رسالة الدكتوراه قالت أريد ورقة طلاقي وحاولت إقناعها بالعدول عن رأيها ولكن مع الأسف لم تعد لصوابها فنزلت إلي المحكمة وكتبت طلاقها وفي نفس ذلك اليوم ذهب ابن خالها ووالده إلي والد زوجتي وطلبوا يد مطلقتي .. انكشفت مطلقتي لوالدها فقام عليها ضرباً وهدد خالها وابنه بعدم دخولهم منزله أو الاتصال بابنته وفعلاً أخذ عليهم تعهداً من قبل السلطات.

أنا لم أسافر إلي أميركا لتقديم رسالة الدكتوراه .. ودارت الأيام ومضت السنوات فإذا بولدي ” خالد ” يبحث عن زوجة ، فعلاً تدخل القدر ، وأخذ يشير لي على بنت خال ” والدته ” رفضت ولكن لم يطاوع أمري فتزوج بابنة خال والدته .. إنني الآن أعيش في دوامة .. وانعزالية عن العالم .. وكذلك مشاعر حزن كان وما زال ينزف حتى كتابة هذه الأسطر ؟ تري من سيخفف عني وأنا أشد العذاب ؟ أنني الآن أعيش في كابوس وليس لي منطلق من أسر عثرتي إلا ببنت الحلال التي تشاركني همومي وأحزاني . أن ليلي أقضيه طويلاً مظلماً حافلاً بالذكريات .. فلقد أمنت بأنه لا أمان لبنت “بلدي ” وأن التضحية من أجلها مضيعة للوقت . تري من سيقف معي في موقفي الرهيب هذا ؟؟

الله سبحانه وتعالي هو من يقف معك يساندك في موقفك الرهيب هذا !

بل لقد وقف فعلا معك عند سلط والد زوجتك عليها ، وجعله يرفض ابن خالها زوجاً لها ، وقطع اتصاله بها نهائياً .. ورسمياً عن طريق السلطات المسؤولة ؟ أتـريد أكثر من ذلك بعد ؟! أليست هذه عدالة السماء ؟! أليس هذا قصاصاً شافياً لم تكن أنت تنتظره أو تتوقعه ؟! فما بالك لو كانت قد تزوجته وعاشت إلي جواره سعيدة هانئة .. وأنت وحيد تعس مهجور ؟! ألم تكن لتتألم ساعتها أشد الألم ؟! أتصدقني لو قلت لك أنها حتماً نادمة أشد الندم ، حزينة أعمق الحزن ، على ما فعلته بك وبأولادها .. نفسها ؟! إنها من المؤكد قد صحت إلي نفسها، وتعيش هي الأخرى نازفة للحزن والأسى والأسف .. حيث لا ينفع الندم !!

فهل تطاوعني لو قلت لك : لا تفكر في الماضي الأليم ، ولا تدع زواج خالد يحي ذكريات الحزن تلك ، دعة لحياته الخاصة ولتبدأ أنت حياتك الخاصة .. الجديدة الحلوة ؟!

من الآن .. من هذه اللحظة ، اجمع كتبك ومراجعك وسافر لتكمل رسالة الدكتوراه لا تحطم نفسك دون ذنب ، ولا تقتص من ذاتك دون سبب !!

سافر ، أرجوك سافر .. مع تغيير الناس والمجتمع .. ومع انشغالك بالدراسة التي تحب سوف تنسى الكثير من أحزانك وتعاستك ، وسوف تضيء بنور العلم لياليك المعتمة .. فأنت إنسان حساس رقيق وطموح .. ولن يرضيك غير العلم بديلاً .. بالطبع لن أنصحك بالزواج الآن ، فجرحك ما زال ينزف حزناً ، ولكني سأترك هذه المسألة لوقتها وعندما تأتي لوحدها ، فقط ثق وتأكد بأن بنات بلدك فيهن الكثيرات العفيفات الشريفات .. وليس كلهن خائنات غادرات .. لك قلبي وتحياتي.

 

 

 

بقايا رؤي

غرست غصن وردة في وهج النار

حتى إذا ما اشتد عوده

وألف الخطر

طار إلي نجوم واستقر

وصار حقل أنوار

ياغصن وردتي

قل لي .. ما الخبر

يا هل تري .. عرفت بعض أسراري ؟!

قلت لنا الخيام

إذا رأيتم القمر

قولوا له : أنديه السمر

غطت عليها سجف الظلام

ونام فيها الكأس والوتر

وماتت الأحلام !!

سلمت يا عمتنا النخلة

سلمت يا كريمة الأيادي

تمرك الشهي كان الطريق زادي

لولاه ما طابت لي الرحلة

ما أقدس الصحراء !!

حين رأت أشواقي

تفجرت ناراً على باب السماء

كشفت الغطاء ..

إذا بها .. ظل وروضة وماء !!

النادمة

أختي كريمة : أطرح عليك هذه المشكلة التي ظلمت بها إنساناً بريئاً وأنا السبب في كل شيء .. أختي أنا فتاة في السابعة عشرة من عمري تقدم لخطبتي شاب وطلب يدي فوافق والدي ، أنا في أول الأمر لم أوافق ، وبعد أن ألح على أبي وأمي وافقت وتزوجت الشاب وهنا بدأت المشكلة فاستغللت طيبة قلبه وخدعته ، وفي ليله الزفاف قلت له تحبني قال: نعم ، مستعد أعمل المستحيل لأجلك فقلت له : لو طلبت منك طلباً ، هل ستنفذه ؟ قال نعم حتى لو كلفني عمر وكل ما عندي ، فقلت أريدك أن تتركني لمدة ثلاثة أشهر لا تقرب مني لأني مازلت صغيرة على الزواج ، فوافق الإنسان ويا ليته لم يوافق على هذا الطلب الصعب.

وبعد فترة شهرين ذهبت إلي أهلي وادعيت بأن زوجي عاجز جنسياً ولا أستطيع العيش معه لأنه فوق ذلك كان يضربني ويعذبني وفعلاً نجحت وحصلت على الطلاق وبعدما علمت كل هذا ندمت على خطأي فأرجو أن تساعديني لأن ضميري يعذبني .

حمداً لله أن ضميرك قد استيقظ سريعاً وقبل أن تصحي النادمة النادبة سوء الحظ وعذابات الأيام..

سارعي بالاعتراف بالحقيقة في أقرب فرصة واتصلي به معتذرة . نادمة .

آسفة .. وإذا كنت تحبينه فعلاً ، أعلني رغبتك في العودة إليه حالاً ..

ثم اتركي له حرية الرأي .. وحرية اختيار القرار ، حتى تبرأي من ذنبه ، فإن غفر لك وسامحك وقبل بك زوجة بعد هذا الموقف المخزي المخجل الذي وضعته فيه ، قيدته أسيراً داخله .. أثر تلك المكيدة الأليمة التي دبرتها له فبذلك تكونين قد كفرت عن ذنبك ، وعشت مرتاحة الضمير ، هادئة النفس ، بعد أن محوت عنه الاتهام الباطل ، الكفيل بهدم حياته الزوجية وتحطيم سمعته كرجل سليم قادر إلي الأبد .

فأنت وحدك الشاهد الأكيد على براءته .. لأنك الجاني والقاضي معا..

فلا تحبسي نفسك داخل قفص الاتهام ، وأخرجي إلي ساحة العدالة ، واعلني الحكم بكل نزاهة .. وشرف .. وأمانة . ويكفيه ما نال من عذاب وظلم على يديك ، عندما طعنته كذباً في صميم رجولته ، وعندما أهنته عمداً في عمق كبريائه وكرامته ..

حقاً .. ومن الحب ما قتل !!!!

الصاعقة !

لا أدري من أين أبدأ رسالتي بسبب هذه المشكلة التي حيرتني وجعلتني دائم التفكير بها .

أختي كريمة ، لقد جعلت مني هذه المشكلة شبحاً لا إنساناً . أن دوامة التفكير والحيرة في هذه المشكلة التي برت لحمي وجعلت مني شبحاً كما أسلفت أبدو أمام جميع الناس تائها وخاصة معارفي . إن كثرة التفكير بهول هذه الصاعقة كان السبب فيها والدي ، صدقيني إنه والدي الذي تلفظ بكلمة وهو هائج وفي حالة غضب وهيستريا ، عندما بدأت أتناقش معه في أمور تخص العائلة ، وبالتحديد والدتي التى تزوج عليها امرأة تصغر والدتي بسنوات قليلة جداً إلا أن لها شخصية قوية جعلته كالخاتم في إصبعها إي أنه لا يتصرف هجرانه لوالدتي خمسة عشرة عاماً بالتمام ، وحرمانها خلال هذه المدة الطويلة أبسط حقوقها عليه ، ومعرفة سبب هذا الهجران ثار في وجهي غاضباً ومهدداً وقال كلمته التي لم يدر أنها سوف تكون سبب شقائي وتعاستي ما دمت حياً . أغرب عن وجهي يا لقيط فلان ابن فلان ؟! فاسودت الدنيا في وجهي وتمنيت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبلعني ولا أواجه هذا الموقف الرهيب وهذه النهاية الأليمة فبلغت مأساتي وكتمتها في جوفي ولم أبح بها لأحد ، إلا إليك لعلي أجد حلاً لها . حدث هذا كله يوم كان عمري 17 سنة وعمري الآن يقارب الرابعة والعشرين عاماً ، أي أنني أعاني من هذه المشكلة وأعيشها منذ سبع سنوات ، كما أحب أن أخبرك أن هذا الرجل الذي أنا أعتبره ولده بناء على قول أبي ، هو من نفس القرية التي نقيم فيها ، ثم لا توجد هناك أي صفة أو أي شبه بين هذا الرجل وبيني ، كما أحب أن   أخبرك، وأكون صريحاً أكثر معك أن هذا الرجل غير متزوج ، وكان دائماً يطلب من والدتي أن تعتني بمواشيه خلال غيابه القصير عندما يكون خارج قريتنا . مع أن له أقارب كثيرين في هذه القرية . أنني حائر ماذا أفعل أهرب وأترك بلدي الذي أحن إليه كثيراً . أم أنتحر وأريح نفسي من هذا العذاب المضني ، إنني أري الحل الأخير المنفذ المتنفس الوحيد إذا لم يصل ردك سريعاً مع الحل الذي أتمناه منك وأرجوه كما أفيدك أن المناقشة بين والدي وبيني لم يحضرها ولم يسمعها أحد وإلا لازداد العذاب والشقاء أكثر ولاقتربت معها نهايتي أسرع.

لن يفهم أحد مأساتك ، وحزنك ، وسبب رغبتك في الخلاص من الدنيا سوي أمك ‘ فالجأ لها، وحمدا لله أنها لا تزال على قيد الحياة ، حتى تستطيع أن تخبرك بالحقيقة مهما كانت قاسية ومريرة وأليمة.

فإذا عرفت أن مشكلتك لا أساس لها من الصحة ، وأنك ابن أبيك الذي رعاك ورباك ، ستتأكد وتهدأ وترتاح ، وتزول عن خاطرك تلك الوساوس السوداء.

وإذا اكتشفت أنك ابن الرجل الآخر ، صاحب المواشي ، فاعلم أن لا تبني في الإسلام . وقد قال سبحانه وتعالي : “ادعوهم لآبائهم ” وفي هذه الحالة ، إذا رضي والدك الحقيقي أن يعترف بك ابناً تكون المشكلة قد حلت ، وحتماً لن تنسي فضل الرجل الذي رباك صغيراً ورعاك كبيراً.

وأما لو رفض الاعتراف بك ، ولم يرض بذلك ، فمهما كانت ألآمك فإن اليأس إحدى الراحتين ، فأصبر على ألآمك وحال أن تتعايش ، ودعك من فكرة الانتحار فأنت لا ذنب لك لا حول لك ولا قوة . ولعل مأساتك هذه ، تكون درساً وعبرة لكل امرأة استسلمت في لحظة ضعف للشيطان ، فهذه اللحظة تمر وتمضي .. ولكن ذكراها وبلواها تبقي تتوالد مأساة وراء مأساة ، ليس لها علاج مدي الحياة

 

أم حائرة !!

أنا سيدة متوسطة العمر أحببت شاباً كان طالباً جامعياً وكنت أعمل بوظيفة لا بأس بها ، واتفقنا على الزواج رغم معارضة أهلي هذا الزواج لأنه كان طالباً ، ورغم ذلك تزوجنا وصرفت عليه حتى أتم تعليمه وتخرج واستمرت حياتنا تغمرها السعادة ، وأنجبنا طفلين كانا بهجة حياتنا طوال 14 سنة ، وكبر زوجي في عمله وأصبح رجل أعمال وساعدته بجهدي ومالي في شراء أراضي وعقارات دون أن أهتم بتسجيلها باسم أي منا . ومرت الأيام وزارته آنسة في مكتبه تطلب منه عملاً أو أي عمل في مكان آخر.

وتعددت اللقاءات بينهما وبدأ يتغير من ناحيتي ، وناحية أولادي وتركني وتزوجها في الوقت الذي أنجبت فيه طفلتي الصغيرة ، التي كان يتمني من الله أن يرزقه ببنت وترك البيت ليعيش مع زوجته الجديدة . وتركني مع أولادي الثلاثة دون أن يتحمل عبء مصاريفهم ، ولا حتى السؤال عنهم . فأرسلت له أن يعطيني نصيبي من ممتلكاتي لأتمكن من الإنفاق على أولادي . فرفض وقال إن كل شيء باسمه وملكه هو ، وأنا ليس لي أي شيء فيها . ورغم هذا فوجئت به يوماً يعود لي بعد مشاجرته مع زوجته الثانية التي أنجبت منا ولداً ! ليطلب الرحمة والغفران ليعود إلي أولاده بعد أن طلق الثانية بالثلاثة ، فأنا حائرة ماذا أفعل هل أعود إليه بعد كل هذا ؟؟

سيدتي .. من توقيعك لرسالتك بكلمتي ( أم حائرة ) ومن خلال أحداث حياتك التي سردتها . فهمت أنك من هذا النوع من النساء ، الذي يصنف تحت عنوان (المرأة الأم ) وبما أنك أم يا عزيزتي ، وزوجة محبة مخلصة ، أدعوك لإكمال رسالتك النبيلة رغم ذلك الحادث الأليم الذي نغض عليك صفو حياتك ، وكدر بها أيامك . فحاولي أن تتجاهلي الخوض في هذه الذكري الأليمة قدر الإمكان . حتى لا تتعمق رواسبها في نفسك وتؤذيك ، وحتى لا تتوالد منها مواقف سخيفة قاسية ، تفعل في وجدانك فعل السهام السامة المسنونة .

ولكن .. لا تزال لك كلمة عندي .. كلمة تتعلق بجزء من مشكلتك يتعلق بك أنت شخصياً ، وهو أن لا تنسي نفسك ثانية وأن تأخذي دوماً جانب الحذر خصوصاً في النواحي المالية. وبالذات بعد أن اكتشفت معدن زوجك . الذي أعتقد أنه من النوع المادي.

ولذلك .. انتبهي لأموالك يا عزيزتي ، وحاولي أن تدخري شيئاً للغد يقيك شر الحاجة . وكفاك ذلك الدرس الذي تعلمته . ولذا لن أستطرد في الحديث ولن أخبرك بالمزيد .. فقط .. تذكري أن المؤمن لا يلدغ من حجر واحد مرتين .

 

 

رصيد من الحق

أنحدر من عائلة محافظة جداً ومتوسطة الدخل ، منذ خمس سنوات تعرفت على فتاة جميلة ومتعلمة عندما كنت أعمل نائباً لوالدها المدير في أحد مشاريع التنمية . أحببتها بكل معني الكلمة وقبل نهاية المشروع تكلمت مع والدها وشرحت له حبي لها ففاجأني بأنه عالم بهذا الحب ويباركه ووعدني بأنه موافق على الزواج ولكن بعد سنة على أقل تقدير وبعد أن يتأكد بأني أودعت في حسابي مبلغاً معيناً من المال.

المهم .. ساعدني الحظ وسافرت للعمل وتخطيت المبلغ المطلوب مرة ونصفاً ، وإذا به يطلب أن أمده بالمال لعمل مشروع يؤمن به المستقبل لي ولابنته فأرسلت له شيكاً على بياض ، ومنذ شهر عدت إلي بلدي وذهبت إلي البنك فإذا بي أفاجأ بأنه سحب معظم المبلغ وترك لي الفتاة وعند ذهابي لمقابلته تنكر وعرفت أنه زوج ابنته قبل عام أي قبل أن يطلب المال الذي اشتري به عدة سيارات تجارية باسمه وقالها لي بالحرف الواحد ( والله لقد تزوجت البنت وإن كنت تريدها أستطيع أن أطلقها من زوجها ).

وعندما سألته عن أموالي ومستقبلي قال أفعل ما تريد ورفعت أمري لله بعد أن هددني بالقتل إن نطقت باسمها وبعد أسبوع انتحرت محبوبتي المتزوجة التي غشوها بأني أرسلت وقلت بأني لا أريدها زوجة لي بعد أن اكتشفت الحقيقة.

واجتمعت أسرتي وطلبوا مني أن أتناساها رفقاً بروح محبوبتي التي بنيت مسجداً على نية التكفير عن قتلها نفسها.

والآن لا أملك في رصيدي غير الحقد والكراهية على كل ما حصل بعد أن فقد محبوبتي وبعد أن فقد أموالي .. أموال عرقي وشقائي طلية 3 سنوات .. وهأنذا في طريق الجنون لا أدري ماذا أفعل ؟!

أخي العزيز ….

نحن هنا أمام تجربة مريرة . تجربة الثقة العميقة التي تفيض أماناً واطمئناناً وحباً وعطفاً على كل الأشياء .. على اليوم والمستقبل .. على الأمل والفرحة .. على البيت والزوجة !!

وإذا بها أثر الخديعة تنقلب حقداً وكرهاً ومقتاً وهذا ما يتضح من مشاعرك المطعونة والتي تعبر بها بصدق عن عنف المعاناة التي عشت وتعيش.

إن التجربة الرئيسية في الحياة الإنسان لا يمكن أن تمحي وتزول بسهولة .. وخاصة إذا كانت من هذا النوع المرعب المرير !

سأحاول تهدئتك .. وسأقول لك ابدأ من جديد .. وسافر للعمل ثانية .. وستقدر على تعويض أموالك بعون الله.

أما مشاعرك فأدعو الله أن يعوضك عنها حتى تستطيع أن تحب من جديد .. وأن تعود إليك الثقة في النفس وفي الناس من جديد..

ومهما كانت البداية جافة باهتة لا طعم لها .. فاعلم أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن تسلك .. بدلا من القعود وحيداً عاجزاً .. لا تملك سوي رصيد من الحقد والمقت والكراهية ، أخشي أن يتوطن في ذاتك فيؤذيك ويرهقك .. لك عميق تقديري وغزير دعائي بالتوفيق والنجاح وهدوء النفس وراحة البال.

 

 

 

 

 

كمين

أقول مشكلتي وأنا في غاية الحيرة والحزن والندم .

تعرفت على شاب وبعد أن عرفته جيداً وعرفت عنه كل شيء ، ولم يكن من نفس جنسيتي تعلق بي أكثر وكل يوم يزداد حبه لي وكنت أعطف عليه لكني لم أحبه ولم أستطع أن أقول له ذلك لأنه يحبني حتى فاتحني في موضوع الزواج وقال لي أن أمه تطلب مني أن آتي إلي المنزل لتحكي معي عن موضوع الزواج ، وأنا لا أدري كيف ذهبت معه وهذه أكبر غلطة فعلتها في حياتي لأني ذهبت معه إلي المنزل وعندما دخلنا قلت له أين أمك قال لي الآن تأتي ولم تأت وأدخلني غرفته وحاولت معه أن يخرجني لكن لم أستطع وكل هذا بسبب أنه يريدني بأي شكل حتى يتزوجني فقد سبق له أن فاتحني في موضوع الزواج ولكن قلت له أن أهلي لن يرضوا عنه لأنه ليس من جنسيتي لكنه يردني له ويريد أن يأخذني بأية وسيلة وقال لي هيا نذهب إلي المحكمة كي نتزوج فقلت له لا لن أذهب من وراء أهلي وقال إذا لم ترضي ، سأفقدك عذريتك ونتزوج ونضع أهلك أمام الأمر الواقع ، فرفضت وحاول معي بكل قوة أن يسلبني عذريتي لكن الله ستر ولم يأخذ مني شيئاً وما استطاع عمل شيء ، ولكنه فعل شيئاً لم أكن أتصوره ، كان يخفي عنده كاميرا وصار يصورني وأنا مكشوفة الأرجل والملابس ، وحاولت أن أخذ منه الكاميرا لكني لم أستطع وخرجت من المنزل وأنا في غاية الندم والحزن والخوف من الذي فعله معي ، حاولت بعدما حدث أن أتصل به وأقول له أن يعطيني الصور لكنه رفض وقال لي أن عنده أشرطة مسجلة بصوتي وفعلاً سمعت الشريط وصار يهددني بالصور والأشرطة ويقول أن هذه الأشياء الوحيدة التي تربطني به ويقول كذلك إما أن ينتقم بهذه الأشياء أو نتزوج، فكيف أتزوجه وأهلي لن يرضوا به ولن يقبلوه ، وأنا صرت أكرهه ولم أعد أحبه وهو كل يوم يتصل ويهدد ويقول ” طول ما أنا حي لازم أؤذيك وأفضحك ” وعلى فكرة الصورة أنا شاهدتها لأنه وضع نسخة منها في السيارة التي توصلني للمدرسة ، وكل مرة يتصل بأهلي ويطلبني منهم وأهلي سألوني من هذا الشخص الذي يطلبك أقول لهم ما أدري ، فأنا لا أستطيع أن أصارحهم لأني أعرف طبع أهلي وشدتهم وأخاف منهم ، وحتى الآن هو يتصل ويهدد . وأنا والحمد لله تبت إلي الله وندمت . وأطلب من الله أن يسامحني على هذه الفعلة السوداء ولن أكررها أبدا ما حييت وهذه هي المرة الأولي والأخيرة . أرجوك أن تساعديني يا أخت كريمة ، على حل هذه المشكلة فأنا خائفة وما أدري كيف أتصرف ، بدأت أكره نفسي وأكره الدنيا لأني خائفة أن يفعل شيئاً ويؤذيني ،قولي لي بالله كيف أتصرف مع هذا الشخص النذل ، أرجوك الجواب بسرعة لأن هذه المشكلة بدأت تكبر وتزعجني وترعبني ، حتى صرت ما أعرف أنام ولا آكل ، وطول الوقت قاعدة أرتجف من الخوف.

ولك جزيل الشكر .

عزيزتي ….

قرأت الرسالة ، وفي الحقيقة انزعجت جداً مما جاء بها . وضايقني للغاية أن أشعر بك خائفة كل هذا الخوف الطاغي ، ترتجفين رعباً كاسحاً وقلقاً مميتاً مما يمكن أن يفعله هذا الحقير بك !!

فحمدت الله أن رسالتك وصلت إلي الآن ، ولم تبق في مكتبي سوي ساعات قليلة وعلى كل حال يجب أن تتأكدي أن الدنيا ليست فوضي ، حتى يأتي مثل هذا النذل فيلعب هكذا ببنات الناس ، فيستغلهن لإشباع أغراضه الدنيئة سواء بالزواج منها ، أو التسلق على أكتافها باستثمار عواطفها الساذجة ، ومحاولة استدرجها إلي كمين أعده لها مسبقاً ، وجهزه بأجهزة التسجيل والكاميرا .. والأفلام ليصوره في أوضاع مهينة يستغلها فيما بعد ، لأغراضه الخبيثة الشريرة !

إنني أحس بنفسي أشتعل الآن غضباً ، وأشعر بيدي تهتز من شدة الانفعال والتأثر لحالتك الصعبة ، ومشكلتك القاسية .

فاسمعيني فتاتي الصغيرة جيداً .. افتحي أذنيك ، ونفذي حالاً ما سأقوله لك حرفاً حرفاً ، دون خوف أو رهبة ، أو قلق .. أسمعي ..

أنت لا بد أن تتصرفي بحكمة وتعقل ، فقومي وادخلي على غرفة أمك ، واروي لها القصة كاملة ، واطلبي منها أن توسع صدرها وتسمعك دون ضجيج أو انفعال ، وطمئنيها أولاً على سلامة عذريتك ، وعلى أن هذا الشاب لم يسلبك شرفك ، وألف حمد لله وشكراً على ذلك.

ودعيها تخبر أخاك الأكبر ، وتطلب منه أن يكون متفهماً للأمور ، فأنت مراهقة صغيرة ، وقاصرة عن فهم كثير من أسرار الدنيا ، وبالتالي أسرتك وأمك أولاً ، يشاركونك مسؤولية ما حدث ، فلا تخافي .. أرجوك لا تخافي .

وأرجوك أرجوك أن تفعلي ما أقوله لك بكل دقة ، فأنت مهما لاقيت ، ومهما تعرضت من ضرب وشتم ، كله سيهون في مقابل راحتك النفسية ، وخلاصك من هذا التهديد والابتزاز .. وهو أخف وطأة من الصخت والوقوع فريسة للرعب والخوف ، طوال الليل والنهار..

اشرحي مشكلتك لأمك كاملة ، ودعيها تتصرف مع أخيك ، الذي سيعرف تماماً كيف يتعامل مع أمثال هؤلاء الأنذال ، وسيعرف كيف يسترد جميع الصور ، بل الفيلم ، والأشرطة وكل شيء يمتلكه ضدك ، ويهددك به .

وحتما سيعرف أخوك ماذا سيفعل ، بل أمك نفسها ستعرف كيف تتصرف ، وحتى لو لجأت إلي رجال الشرطة لنصب كمين لهذا المحتال ، ولمداهمة منزلة واستخلاص كل الأدلة التي لديه.

وبعد ذلك

وبعد أن ينال هذا المجرم عقابه ، أرجو أن تكوني أنت قد أخذت درساً نافعاً حتى لا تعطي الآمان ثانية لأي شاب مهما كان إلحاحه على حبك ، مهما أظهر أمامك مظاهر الوداعة والرزانة والشرف.

فالشاب عندما يريد الزواج من الفتاة ، جرت العادة أن يأتي هو إلي منزلها يرافقه أهله طلباً ليدها ، لا أن يأخذها هي إلي بيته لتطلب يده من أمه !!

عموماً ..

لن أطيل عليك حتى لا أطلك عن اللجوء حالاً نحو حضن أمك ، كي تحكي لها وتروي ما حدث لك عزيزتي الصغيرة ..

وأدعو الله أن يبعد عنك هذا اللص ، المخادع ، أدعو الله أن لا تخذليني ، وأن تدعي الخوف يسيطر عليك فلتتكلمي مع والدتك وتفتحي لها قلبك .

أرجوك أرجوك ..

بل أتوسل إليك أن تهبي الآن صغيرتي ، وتذهبي حالاً لأمك تحكي لها كل شيء واطمئني .. اطمئني تماماً فهي لن تؤذيك ولن تضربك .. بل ستساعدك وتنجيك من هذه الورطة ، وتخلصك بعون الله مما أنت فيه من خوف وعذاب .

قلبي معك.

لا أدري …

يا روضة أنغام الشعر                            يا ضوءاً من وهج الفكر

يا همسا من وتر حان                            يا وحي الشعر إلي الشعر

يا نسمة عطر ، يا غيما                          ينساب رخاء في قفر

يا نفخة أحلام تشدو                              تسري في الروح إذا تسري

الليل جليس في صحوي                          والوجد ندمي في سكري

يدنو أم ينأى ما أهوى                      إني من شك لا أدري

فالكأس مذاقات شتى                             من حلو شهد أو مر

لكن الساقي لا يدري                              من كرم تعصر أم تمر

إني لأنام على وهم                               وأفيق على حلم بكر

فأري أقداحي في كفي                            نشوي تتساقي من خمري

وأراني حينا لا أدري                              ما أعرف عن عطش النهر

أو أدرك أني لا أقوي                             أن أعصر عطراً من صخر

أو أحصد غرساً في بحر                         أو أغرس في ليل بدري

هذي أهوائي إذ أهوي                      أم أغلاق في سحب  العطر

وأهوم في أسني حلم                              وأعربد في حجب السحر

وأذوب بجدول أضواء                            والظلمة حولي تستشري

إني سأحاول أن أدري                            ما الدر ، وما صدف البحر

ما الليل كواكبه تسري                            حينا ، وتغيب بلا عذر

فلعل يقيني أن يبقي                              وتراً يترنم في صدري

د. خليفة الوقيان

الشياه !

أختي الكبرى خطبت لشاب غني ووسيم ومنذ الخطبة وهو يتردد على منزلنا وجميعنا نرحب به ثم أخذ في الفترة الأخير يصطحب أخاه معه وهو كذلك على درجة عالية من الأناقة والوسامة وبدأ خطيب أختي يطلب من أهلي أن تخرج أختي معه والأهل بطبعته حال لم يرق لهم أن تخرج أختي مع خطيبها لوحداهما .. ولذا أمرتني والدتي بأن ارفقهما وألازمها وذلك منعاً لحدوث شيء لا تحمد عقباه .. وذات مرة عرج بنا خطيب أختي متحججاً بإحضار شريط يجب سماعه وما أن وصلنا إلي منزلهم حتى كان أخوه باستقبالنا حيث رحب وأصر على نزولنا لشرب العصير .

ثم أرادت أختي وخطيبها الخروج وتركاني رغماً عني بالبيت ، فاستسلمت للأمر الواقع واتفقنا على أن يعودا ليأخذاني معهما إلي منزلنا حتى لا تفطن أمي إلي شيء مما حدث.

والحقيقة أنه عاملني عند ذهابهما معاملة طيبة تفيض رقة وحناناً فهو في العشرين وأنا أصغر بعامين .. وتتابعت بيننا اللقاءات حتى حصل ما تخشاه كل فتاة عذراء!

وبعد تفكير عميق أخبرت أختي في الموضوع لأنها تعلم بقصة حبنا منذ البداية وأخبرت أختي بدورها خطيبها لكي يتفاهم مع أخيه ولكنه رفض إصلاح خطئه الذي اشتركنا جميعاً في صنعه ، ومما زاد الطين بله أنني علمت فيما بعد بأني حامل .. مما دفعني إلي السفر عند ابنة خالتي .. وأخبرتها بالقصة كاملة ، فعرضت على أن تجعل زوجها يتزوجني شكلياً من أجل أن تتستر على فقط ولكنني رفضت ذلك لما فيه من مخاطرة كبيرة .. وأنا الآن في جحيم لا يطاق فإذا علم أهلي بالموضوع ما هو مصير أختي وخطيبها ؟!

فكرت كثيراً في الأنتحار ، لكنني في النهاية أتراجع عن خطوتي هذه .. وأنا الآن أبحث عن الحل وأتمني أن تستطيعي مساعدتي .

عزيزتي ..

مشكلتك نتاج خطأ مشترك أعظم ، ارتكبه جميع الأطراف المعينة . أنت وأختك وخطيبها وأخو خطيبها وأمك وأبوك .. جميعكم .. جميعكم بلا استثناء شاركتم في حدوث هذا الخطأ، ووقوع هذه الكارثة !!

وعليه .. يجب أن تتحمل جميع الأطراف المعينة نتاج ما حدث .

فلتصارحي أمك يا فتاتي ، كي تعلم أنها أسلمت القط مفتاح  “الكرار ” أي الخزين ، أو كلفت الذئب برعاية القطيع .. وبدلا من أن تفقده شاة واحد .. فقدت اثنتين !!

كان على أمك أن تدرك أن شقيق خطيبك شاب وسيم في عز الشباب ، وأن تخاف عليك أنت الأخرى .. بدلا من أن تركز كل تفكيرها في أختك .. بسبب دبلة الخطوبة ! فيا ليتها تنبهت قبل أن يحدث ما حدث !

عزيزتي ..

الوقت ليس في صالحك ، وهذا الشاب النرجسي عليه أن يعرف أن الدنيا ليست فوضي ، وأنه يجب أن يتحمل نتيجة عمله ، وأعتقد أن أخاه سيلزمه بالتصرف المناسب لو أحس ببعض الضغط والتخويف من الأهل الكبار .

كما قلت لك .. أخبري والدتك .. لأن الخطر أصبح يتهدد أختك هي الأخرى ، واخشي أن يصيبها مثل ما أصابك .. ولهذا سارعي لنجدتها ونجدة نفسك قبل أن تتفاعل الأحداث ، وتتفاقم الأمور من السيئ إلي الأسوأ …

 

 

 

صفعة !!

تزوجت بأمرأة منذ حوالي عشر سنوات وكنت في ذلك الوقت طالباً في الثانوية العامة ثم ذهبت لإكمال دراستي في الخارج وسافرت معي إلي أوروبا . ثم أنجبت الطفل الأول وأنا لا زلت صغيراً لا أعرف المسؤولية وليس لدى مصروف ، وكان أهلي المشرفون على دراستي بالخارج .

وتخرجت وأتيت إلي بلادي منذ 5 سنوات ومنذ السنة الثانية من زواجنا أدركت أني ارتكبت أكبر غلطة وهي أني تزوجت وأنا صغير ، والآن لدي أربعة أطفال .

وكل هذه السنين العشر لم أشعر بأني أحبها مع أني أقدم لها كل احترام وتقدير ولكن لا أجد عندها الحنان الكافي فهي ليست متفاهمة معي .. ومنذ أكثر من سنة تعرفت على فتاة على درجة عالية من الجمال والذكاء ، أعجبتني وأحببتها منذ أول نظرة رأيتها فيها ، وتطورت علاقتي بها وخرجت معي وكان حبنا فوق الوصف ولكن في المدة السابقة كلها لم أقل لها أنني متزوج ولدي أطفال لأن هذه نقطة سلبية وأنا لا أريدها أن تبعد عني أبداً .

ولكن منذ حوالي شهرين عرفت أني متزوج ولدي أطفال ، فغضبت وكتب لي رسالة كلها شتائم واتهام بالخداع وغير ذلك .

فكلمتها في الهاتف فردت بشيء من العصبية ولكن عندما فاتحتها في الموضوع بهدوء أعصاب فهمت وقدرت ظروفي ، وزادت علاقتي بها وأحببتها أكثر من الأول عندما وافقت على استمرار العلاقة وكلمتها في موضوع الزواج ولكن إلي الآن لم تقل لي الكلمة النهائية . وأنا أتمني أن أعيش إلي جوارها لأنها أروع إنسانة رأيتها في حياتي من كل النواحي .

هل أستمر في علاقتي بها وأتزوجها إذا وافق أهلها أم ماذا أفعل ، عاماً بأن زوجتي تعلم بأن هناك علاقة تربطني بفتاة ، وأنا حائر ماذا أفعل !؟؟

عشر سنوات زواج !! كافية طبعاً لتجعلك تزهق من زوجتك . ومن أطفالك ، ومن حياتك كلها !!

وبالتالي .. تبحث الآن عن الجديد ” المناسب ” بعد التعليم العالي في أوروبا ، وبعد النضج في الشخصية ، والارتقاء في المركز ، والتحسن المالي !! إنك تتمرد على واقعك ، وتحاول أن ترتدي ثوب الضحية ، المسكين ، التلميذ البريء المغلوب على أمره ، الذي زوجه أخوه ” غصباً عنه ” .. يا حرام !!

ولكن .. تري لو عدت ذلك التلميذ المسكين طالب الثانوية العامة الذي يذاكر ليل نهار ، المرهق ، الكادح ، المفلس الذي ينفق أهله عليه .. هل لو كنت تقدمت بحالتك السابقة إلي فتاتك الحالية التي تحظي ” بدرجة عالية من الجمال والذكاء ” .. هل كان جمالها وذكاؤها يقبلك زوجاً لها وأنت تعاني وتقاسي من ظروفك السابقة التي بدأت من خلالها السير في طريق النجاح ؟!

طبعا لا .. بل كانت سترفضك وترفضك ، لأنك لم تكن لتملأ عينها الحلوة يا عزيزي . ولم تكن لتقتنع بك زوجاً يتناسب ودرجة جمالها أو ذكائها ، الذي كان سيبحث حتماً عن الزوج ” الأفضل ” ولا شك .

فلتبق مع زوجتك الطيبة التي سهرت الليل معك ، وذاقت الفقر والعناء ، وعاشت الغربة إلي جوارك حتى أصبحت أنت الآن .. هي إذن المرآة التي لا تقدر بمال ، والتي قبلتك لذاتك .. لنفسك .. لشخصك أنت دون بريق المغريات .

وحينما جاء الوقت لترد لها الجميل ، لتكافئها .. أيكون ذلك بصفعة ؟!

لا يا أخي .. لا تلطمها .. ولا تلفظها .. هي أم أولادك .. وهي أحق الناس جميعاً بمحبتك ومودتك ، فابق عليها ، وأذكر لها كفاحها ونضالها .. ولا ترمها وفي حجرها أربعة أطفال بؤساء .. هم أبناؤك الذين سيعانون مر العذاب .. وهم يرون جزاء الوفاء الغدر .. وجزاء الإخلاص الخيانة !!

احفظ زوجتك وارعي أولادك ولا تهدم الدنيا متأثراً برغبة سرعان ما تزول ، وشهوة سرعان ما تخمد .

الأمومة والأنوثة

انا امرأة متزوجة منذ تسع سنوات ، عندي طفلان ، كان زواجي رغم إرادتي . فعشت حياتي تسع سنوات كاملة دون أن أشعر بالسعادة في يوم من الأيام ، وتحملت وصبرت من أجل أطفالي .

ولكن منذ سبع شهور تعرفت على شاب أخلاقه حميدة ، صفاته طيبة ، تبادلنا الرسائل في الأول وبعد ذلك بدأت اللقاءات . وأقسم لك لم يحدث أي شيء بيننا يغضب الله ، هذا رغم أن زوجي لم يلمسني منذ أربع سنوات.

وقد عاهدت هذا الشاب بالتضحية حتى النهاية . وفي الحقيقة أنا ما فكرت في الطلاق لأني أحب أن أضحي من أجل أطفالي ، وأستمر في حياتي حتي يأتي الفرج من عند الله سبحانه وتعالي وإن كنت أحب حبيبي حباً لا يوصف ، وبيننا تفاهم تام ، خاصة وأنا بدايات العشرين من عمري ، وزوجي مصاب بمرض السكر ، وعاجز جنسياً ، وحينما أقول له اعرض نفسك على طبيب يقول لا ، أنا ما فيني شيء.

صدقيني يا أخت كريمة أنا أتعذب ، فأنا لم أعر الحب ولا السعادة إلا مع هذا الحبيب الذي يريدني زوجة له في المستقبل.

فيا تري ما هو الحل لمشكلتي هذه التي تعذبني ، علماً بأن هذه أول مرة أرسل لك وأرجو أن لا تخيبي ظني.

فأرجو لا تهملي رسالتي ، واعطني الحل السليم ، لأني دائماً حائرة في أمور كثيرة ، وخاصة بأنني أستعمل حبوب منومة في الليل كي لا أشعر بشيء.. سأكون في انتظار الجواب العاجل ، وشكراً لك يا أخت كريمة .

أنت كأنثى شابة تعيشين التعارض بين رغبات جسدك وبين دورك المقدس كأم مطلوب منها أن ترعي أطفالها .. مهما كانت ظروف حياتها.

وهذا وضع طبيعي تعاني منه شابة في عمرك ، وزوجة لرجل عاجز جنسياً . فالطاقة الجنسية في الإنسان ، رجلا كان أو امرأة ، طاقة جبارة لا يمكن تجاهلها .. وكما قال “نيتشه” : ” أن الطاقة الجنسية في الإنسان تمتد بطبيعتها إلي أعلي قمة في نفس الإنسان وروحه وكيانه “.

ولكن .. ما رأيك لو نفست هذه الطاقة الزائدة في أعمال متعددة ، كشغل البيت ، أو مواصلة تعليمك أو ممارسة أية هواية تشغلك ؟ عموماً إن لديك ما هو أهم وأسمي وأنبل من تلك الطاقة أو الرغبة ..

لديك ” الأمومة ” بكل قداستها ، وهي أيضاً غريزة تولد مع الأنثى .. فيا تري من سينتصر في هذا الصراع ؟!

هل هي الأم ؟!

أم هي الأنثى ؟!

أنا قلبي يحدثني انك إنسانة فاضلة سامية . إنسانة مؤمنة قادرة على التحكم في رغباتها ، والسيطرة على لحظات ضعفها .. إنسانة عظيمة ترعي حرمة بيتها ، وتصون عفة نفسها ، وتتقي الله في صغارها ..

فأنت طوال السنوات الأربع الماضية .. سنوات العجز ، لم تشكي ولم تتذمري ، وصبرت وتحملت .. ومضت بك الحياة بحلوها ومرها .

إلي أن التقيت بذاك الشاب ، الذي فجر في داخلك شعوراً جارفاً بالحرمان ، لقد أثار وجوده عاصفة في سكون حياتك .. عاصفة عاتية كادت تطيح بك ، وبكن خلقك الكريم ، وطبعك الأصيل قاوما هذا الانجراف ، ووقفاً سداً منيعاً أمام هاوية الانحراف..

سيدتي ..

أنت امرأة فاضلة لا شك ، امرأة من المستحيل أن تخطيء في حق زوج عليل مريض يحتاجها جواره ويعتازها صغاره ، امرأة تكتم آلامها ، وتكبت رغباتها ، من أجل الحفاظ على أسرة أمانة في عنقها .. امرأة تتقي الله في كل أفعالها..

وما دمت أنت قد قررت التضحية من أجل ولديك ، فلا بد أن تكون التضحية في صورتها الحقيقية حفاظاً على مستقبل الطفلين يا أم الصغيرين الحبيبين ..

أتمني من الله يا أختي أن تبتعدي عن رؤية هذا الشاب الذي يلهب مشاعرك ، ويرهق أعصابك ، فالحبوب المنومة ستضرك أشد الضرر على المدي الطويل ، فحاولي أن تقلعي عنها واستبدليها باللبن الرائب والحمام الساخن ..

وفقك الله إلي سبيل الخير ..

وفي النهاية .. إن شعرت بالعجز ، والإعياء التام ، وعدم القدرة على التحمل والاستمرار ، واستحالة البقاء على هذا الحال ، فلك العذر في ذلك ولقد قال الله في كتابه الكريم (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ) .. فاختاري الطريق الذي يهيديك إليه قلبك .. وعقلك .. واعلمي أن الله سبحانه وتعالي قال : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها )

صدق الله العظيم.

 

قشة الغريق

أنا طالب جامعي سافرت للدراسة بالخارج . أحببت فتاة جميلة قبل سفري إلي حد أني أحببت معها الحياة بحلوها وسيئاتها وتم الاتفاق بيننا على الزواج نظرا لأنها تحبني كما أحببتها وقد باحت لي بذلك عدة مرات ، ومرت الأيام حلوة صافية لا يشوبها أي حساب حتى كان يوم وصلتني رسالة لا أعلم مصدرها علمت فيها بما أصبحت عليه حبيبتي من سوء سلوك وبدخولها في جو لا يليق بمثلها من البنات حيث أصبحت من بنات الهوى ومن الساهرات في الليل – لم أصدق أول الأمر وتملكتني غيره كبيرة على فتاة أحلامي فأرسلت إلي عائلتي لأثبت من الأمر فأكدوا لي صحة ما وصلني من أخبار.

رجعت إلي وطني وما أن وصلت وسمعت بمجيئي حتى خفت لمقابلتي فملكت نفسي وكظمت غيظي واستقبلتها كعادتي فروت لي مشكلة وهي أنها تعرضت لاغتصاب جنسي من أربعة من الشبان والحمد لله نجت بأعجوبة عندما أرسل لها الله رجلاً كبيراً أنقذها ورفعت قضيتها للعدالة وبذلك شاع الخبر وسقطت سمعتها بين الناس ومشكلتي أن عائلتي رفضت رفضاً تاماً زواجي منها فاحترت في أمري وأغرقني في حزن كبير حتى كدت أفقد توازني وأتخلى عن الدراسة لأني أحبها حبا ملك على حياتي وأطلب منك أن تنصفي بالحل بين التخلي عنها وإرضاء والدي وكلاهما صعب جداً على نفسي.

الحل : 1+1=2 .. بالفعل عليك أن تختار وبشجاعة أحد الطرفين .. إما والدك الرافض لك هذه الفتاة زوجة .. وإما فتاتك  التي لن تنال معها رضا أهلك أبداً !! والاختيار صعب جداً يا عزيزي .. ويحتاج منك شجاعة خاصة جداً جداً .

والرأي هو رأي قلبك أنت ، وليس رأيي أنا .. فانظر من تحب أكثر ومن لا تطيق أن تبتعد عنه أكثر ثم اختر.

فبصراحة لن يقبل أب في الدنيا أن يتزوج ابنه من فتاة مغتصبة مفضوحة أمام كل الناس والأسوأ أن الألسنة بدأت تلوك سمعتها وتدمغها بوصمة .. بنات الليل !! فإذا كانت البنت مظلومة ، وتعرضت لاغتصاب جسدي ونفسي جعلها تفقد توازونها .. بعض الوقت .. وعادت بعد ذلك إلي طبيعتها البريئة الصافية .. فاعلم أنك المنقذ الوحيد ، والمنجد الأخير لها من حياة الضياع والبث التي سيحاول المجتمع كله أن يضعها فيها .. رغماً عنها !!

فإذا كنت شجاعاً مقداماً ، فأنقذها وانتشلها من هذا الوضع الخانق الرهيب ، فأنت لها تلك القشة التي يتعلق بها الغريق.

 

أماني أرملة !

أجبرني أهلي علي الزواج من أحد أقاربي وأنا صغيرة جداً . عشت معه أسوأ أيام حياتي . وقد توفي في حادث قضاء وقدراً.

أصبحت أرملة في سن مبكرة . كان الناس يشفقون على حالتي .. وبعد ذلك حاولت أن أنسي الماضي ، وأعيش حياتي بطريقة طبيعية ، ولكن الناس لم ينسوا ذلك ، فعندما ذهبت إلي المدرسة سمعت أسئلة تثير في نفسي الإحراج والإحساس بالنقص . مع أن الزواج لم يكن بيدي ولا الموت بيدي .

منذ وفاة زوجي لم يتقدم لخطبتي شاب ، مع أنني أحلم بأن يكون لي زوج يفهمني وأفهمه ويقدر الحياة الزوجية . وأتمني أن أعيش معه في سعادة.

أحببت شاباً في الجامعة ، وكنت أحاول إشعاره بالحب ولكنه لم يبد أي اهتمام ، بل كان يتهرب مني ، وكأ،ه يريد أن يثبت لي أنه لن ينظر لواحدة مثلي.

بعد ذلك قابلت شاباً صديقاً لأهلي وكنت معجبة به ، وكان يبادلني النظرات ، وقد بنيت عليه أمالاً كبيرة .. وبعد فترة سمعت أنه تزوج ، فحزنت وبكيت وتحطم قلبي.

ساءت صحتي ، وأدمنت المهدئات ، خاصة بعد أن تقدم شاب لخطبتي ولكنه عندما عرف أنني أرملة تحول عني وتركني.

سافرت لزيارة أقاربي في بلد آخر .. وقضيت فترة نقاهة وهدوء أخذت أنظر بعدها إلي نفسي .. تلك النظرة التي يطالعني بها المجتمع .. نظرة غريبة مستريبة متشائمة .ز حالتي تزداد سوءاً ولا أعتقد أن هناك أملاً .. فهل لديك بعض الأمل ؟!

توقيعك باسم ” حيا ” يجعلني أعتقد أنه من اسمك يجب أن تستوحي الإصرار على الحياة من جديد.

عودي فوراً إلي مدرستك ، ولا تضيعي زمانك في الرثاء لنفسك والتحسر على ما فات ، كي لا تزدادي شقاء وتعاسة . وتجاهلي تعليقات الآخرين وأسئلتهم المحرجة . وامتنعي عن إهدار نظرات عيونك الحلوة كالسيل الذي لا ينقطع . فأجمل ما في الأنثى هو الفخر والحياء .. والاحترام والكرامة لذاتها وكيانها.

إن ظروف حرمانك من الحياة الزوجية ومراهقتك هي التي تجعلك تتصورين الحب لأول شاب تلمحينه . وهذا خطأ فادح لا أريدك أن تكرري الوقوع فيه ، رحمة بقلبك وأعصابك.

تفكيرك في الزواج يجب أن يتغير فهو لا يمكن أن يحدث بإغراء من مفاتنك وحلاوة عيونك ، وإنما اتركيه بعض الوقت .. وفكري حالياً في البديل وهو الدراسة ، فهذا هو الدرب الأفضل الذي يجب أن تطرقيه هذه الأيام .

وأحب أن أطمئنك بأن نجاحك في الدراسة سيصقل عقلك ويعمق شخصيتك ، وسيجعلك رزينة هادئة .. بلا مهدئات ولا منومات ، فابتسمي .. وانظري إلي الدنيا بتفاؤل ولا تعجلي الارتباط حتى لو أتاك عشرات الخطاب ..

ويا سيدتي : ” كل فوله ولها كيال “!

 

 

هموم ..

تبدأ قصتي عندما خطبت ابنة عمي ودامت خطبتنا ستة شهور كنت خلالها من أسعد من خطبوا . عاداتنا وتقاليدنا لا تسمح بالخروج مع الخطيبة ولهذا كنت فقط أشاهدها في بيت عمي عندما أزورهم وبنيت عشنا الزوجي وأعددت كل شيء للزواج ويا ليته ما كان . ليلة الزفاف وجدت زوجتي فقدت أغلي شيء تعتز به الفتاة فقد عذريتها ، وكان وقع ذلك على نفسي كالصاعقة وحاولت أن أعمل شيئاً ولكن العار يرجع على وعلى أهلي جميعهم . بكاؤها ونحيبها جعلني أصدق بعض الشيء من روايتها . حاولت أن أعرف من يكون بحياتها ولكنها أقسمت لي أنه لا يوجد إنسان لمسها وإنما فقد عذريتها نتيجة خطأ منها . لم أصدق ولكنها أقسمت لم أدر ما افعل ، فكرت قليلاً وأنا أسمع أهلي وهم يزغردون ويغنون فرحين بزواج ابنهم الأول فكيف أقلبه من عرس إلي مأتم ؟ وأخفيت الأمر وجعلت كل شيء كما كان ، جعلت الأهل يكلمون فرحتهم علي حساب قلبي وجرحي وسترت علي ابنة عمي ومضي كل شيء . ورزقت بطفلة ثم بطفلة أخرى.

المشكلة يا أختي أنني من ليلة الزفاف وأنا معقد وجريح الفؤاد . الشك يقتلني . أشك بزوجتي حتى ولو ابتسمت مع أخي . أشك فيها حتى لو تكلمت مع أي إنسان من أهلي وأقاربي وهي تشعر بشكي نحوها ولكنها تقسم لي أنها بريئة ولم يلمسها أحد غيري . أصدقها وأقول لها بأني أحبها ولا أشك أبداً ولكن الصحيح هو العكس ، اشك فيها  بكل لحظة . إنني حزين يا أختي . إنني منذ تلك الليلة وأنا حائر لأن شكوكي تقتلني . المشكلة أنني لا أعرف طعماً للراحة من هذه الشكوك والتفكير بأشياء غامضة لا تقبلها نفسي ولا يقبلها إنسان.

انصحيني يا أختي بأي دواء بأية نصحية حتى تبعد عنى هذه الهموم .

إن قلت لي تمسك بها فأنا فاعل من أجل بناتي وقد سترت عليها حتى يستر الله سبحانه وتعالي على بناتي . ومن ستر على بنات الناس ستر الله على بناته. أريد شيئاً واحداً يا أختي كريمة هو أن تنصحيني ماذا أفعل وكيف أنجو من عذاب الشك بزوجتي التي هي فكري بالليل والنهار لك مني ألف تحية.

قلبي معك يا أخي .. فالهموم تفترسك ، والشك يعذبك طوال الأيام والليالي القاسيات.

إن ما فعلته هو الصواب ، والتصرف الأمثل والأنبل . أنك رجل ولا كل الرجال . وقد سترت على زوجتك ، ابنة عمك ، وصنتها من الفضيحة وكلام الناس ، وسيكافئك الله خير الجزاء.

حزنك العميق الذي يطحن قلبك يحزنني ويضايقني ، فأنت لو استمررت على هذا الحال ستصبح الكآبة ملازمة لك ، وستنقلب شخصيتك وتختلف تماماً

حاول أن تقنع نفسك بأن فتيات كثيرات يفقدن عذريتهن نتيجة أخطاء بسيطة يجهلن عواقبها تصيبهن أثناء الطفولة أو المراهقة . وليس شرطاً أبداً أن تفقدها بفعل رجل.

 ومن رسالتك .. شعرت بأن زوجتك امرأة فاضلة لم تأت خطأ أو ذنباً . فأنت لم تشك منها ولله الحمد ، وإنما هي مجرد شكوك سوداء وهموم صفراء تسممها الغيرة النابعة من الحب .

فاجعل من الحب نبراساً لحياتك ، وكن كريماً معها . ودوداً عطوفاً وعسي الله أن يعينك على عذابك وينجيك ويخلصك منه بعونه وتوفيقه.

 

 

همسة حب

الحب الحزين

سأروي قصة الأحلام والأوهام والحسرة

حكاية حبي المحزون والعثرة

حكاية عمري المنهار والخمره

سأروي .. قصتي المرة

سأرويها ..

بلا حرج ، وأحكيها

ففيها بعض تعزبتي

ومنها كل تجربتي

خرجت بها من الدنيا

فيا لهفتي على عمري الذي ضاع

ومات على هوي الأطماع

يا حسره !!

خالد سعود الزيد

شرك !!

عشت أيامي في صفاء ونقاء .. وشاءت الأقدار أن أقع في يدي إنسان حقير كنت أكرهه وما زلت ، فهو حبيب صديقتي ، رأني معها عدة مرات ، وكان دائماً ينظر إلي نظرات الشهوة بالرغم من أن صديقتي أجمل مني وهي تعطيه كل ما يريده ، حتى .. سافرت صديقتي للدراسة بالخارج وبقيت أنا هنا للعمل .. وأخبرتني في رسالة أنها بعثت لي بعض الأغراض مع حبيبها عندما زارها ورجتني أن آخذها منه .. وفعلاً اتصل بي وقال لي سآتي اليوم لأعطيك الأغراض وبحسن نيتي ذهبت معه ولكني وجدته يتجه إلي منزله فحاولت أن أسأله لماذا فقال أن الأغراض هناك .. ولما وصلنا قال لي اطلعي خذيهم فأنا لست بمجبر أن أحضرهم لك .. وفعلاً ذهبت وهناك حاول أن يمسكني فقاومته وأخبرته أنني صديقة حبيبته وإن ما يفعله لا يجوز .. فقال إنني منذ زمن طويل وأنا اشتهيتك فرجوته أن لا يفعل .. فأنا لا أزال عذراء ومحافظة على شرفي .. ولكنه صمم وكانت مقاومتي ضعيفة ، وباعدته ، وبعدها قال لي .. وعلي ماذا تحافظين فأنت لست عذراء .. كدت أقع من غيظي وخوفي ، ولكني تماسكت وخرجت ولحقني ليوصلني للمنزل .. وبدأ يشرح لي عن كثير من الفتيات اللواتي ليس لهن غشاء بكارة .. فأقسمت له أنني لم أغلط مع أي إنسان .. ولكني تذكرت أنني منذ كنت في الحادية عشر وقعت من على (البايسكل ) ونزل مني نقاط دو ، منذ ذلك اليوم وأنا في حيرة من أمري .. لم أذهب للطبيب لأنني أخاف أن يقول لي نفس الكلام ووقتها سأتحطهم .. فأنا رفضت كل العرسان الذين تقدموا لي بسبب الشك فلو صار يقيناً فلن أتزوج طول عمري .. مع أنني أحلم بالمنزل الجميل والأطفال .. فهل أنا حقاً فتاة بدون غشاء بكارة وهل يمكن أن أخلق هكذا .. أو إنه يضحك على حتى يأخذ ما يريده مني؟!

أرجوك ساعديني يا أخت كريمة فأنا أعرف نفسي مازلت طاهرة.

وأنا بانتظار ردك فأنت آخر أمل لي في هذه الدنيا فأرجوك ساعديني ….

اسمعي يا عزيزتي .. أنا لست مقتنعة أبداً بهذه الفكرة التي تأخذينها عن نفسك . فمحاولة الاغتصاب هذه لم تكن كاملة أو تامة بفضل مقاومتك .. وبالتالي .. كيف استطاع أن يتهمك بعدم العذرية !!

عندي قناعة بأنها تهمة أشبه بالشرك ، يريدك أن ينصبه لك ليوقعك فيه .. وها هو الآن يحاول استدراجك وإيهامك بأنك واحدة من البنات اللواتي ليس لهن غشاء بكارة !!

نصيحتي أن تذهبي إلي الطبيب للتأكيد ، والمهم أن تقطعي صلتك نهائياً بهذا النذل الذي يرتبط بصاحبتك عبر علاقة جنسية تعلمين أنت بها .. وها هو الآن يبحث عن علاقة مماثلة لديك .. أثناء غيابها!!

فإذا كنت حريصة على نفسك وسمعتك ابتعدي عنه .. وابحثي عن الحل لمشكلتك عند الطبيب!

النسب !

أنا رجل في الثامنة والثلاثين من العمر ، تزوجت وأنجبت طفلين ، كنت أشعر بأن زوجتي تخونني مع زوج أمها الشاب ولكني كنت أكبح جماح رغبتي في الانتقام خوفاً من أن أظلمها .. فإنه كان مجرد شعور بالخيانة فقط.

ومنذ أربع سنوات سافرت إلي الخارج لبعض الأعمال وعندما عدت وجدت أن زوجتي تركت المنزل وتقيم مع أمها بعد أن هجرت بيتها الذي كانت تقيم فيه مع أمي العجوز وإضافة إلي ذلك فإني سمعت الكثير من القصص عنها نحو قسوتها على الأولاد ومعاملتها لهم بأسلوب لا يمكن لأم في الدنيا أن تعامل به أولادها !

ومن خلال عتابي لها وجدت أن طريقتها معي تغيرت تماماً وأصبحت مستهترة بالحياة الزوجية القائمة بيني وبينها .. فانتهي كل شيء بالطلاق .

هذا وأني لا أشعر بأي عاطفة أبوية نحو الطفل الأخير . وأشك تماماً في نسبه إلي .

وأنا مطلق هذه المرأة منذ ثلاث سنوات وهي أيضاً طيلة هذه المدة لم تسأل مرة واحدة عن أولادها .. بل تتهرب منهم حينما أعرض عليها أن تأخذهم وأعطيها النفقة التي تريدها .. للان لم تتزوج وبالتالي أنا لا أريد إرجاعها إلي عصمتي لأنني أشك فيها تماماً.

شيء واحد يخيفني من الزواج بامرأة أخرى .. وهو أن تسيء الزوجة الجديدة معاملة أولادي الصغار باعتبارها زوجة أب بينما أكرس حياتي كلها لتربيتهم تربية حسنة وعلى مستوي رفيع . وذات الوقت أيضاً أرفض رفضاً تاماً إرجاع مطلقتي خوفاً من أن أتهور يوماً ما ألقي بنفسي وراء القضبان في لحظة  غضب أو انفعال.

فأرجوك أنقذيني من دوامة التفكير والحيرة والعذاب وساعديني في إيجاد حل لهذه المشكلة التي سيكون ضحيتها طفلات بريئان .. ليس لهما أي ذنب في الحياة.

أخي العزيز .. إذا قلت لك أن حياتك السابقة مع مطلقتك حياة منتهية تماماً . فإنا إذن لم آت بجديد ، فأنت تعلم ذلك جيداً وتؤكده أكثر من مرة عبر رسالتك .

الجديد هنا هو أنك تتلفت حولك حائراً ، تبحث عن حياة مريحة لك ولطفليك . وهذا إحساس نبيل تحمد عليه.

أعظم ما في مشكلتك أنك قد استطعت كبح جماح غضبك ، وكتم إحساسك بالندم على ما كان فيما عدا شعورك بالشك في نسب ابنك المسكين الذي يعاني من قسوة الأم وشكوك الأب .. فإلي أي مدي يستمر هذا العذاب ؟!

وإذا طلبت منك أن تكون أبا رحيماً عطوفاً .ز فهل أكون منطقية في طلبي هذا ؟!

فكرة زواجك من جديد .. وبناء حياة طبيعية عادية هي الصح الآن .. وهي الحل الوحيد السليم لوضعك الحالي . وإذا كنت قلقاً على طفلي فأن بمعاملتك الرقيقة لزوجتك الجديدة ، وبحنوك عليها وعليهما ، ستملأ حياتكم حباً وعطفاً ينعكس على أجواء البيت كله .. وخاصة إذا أحسنت اختيار الإنسانة المناسبة التي تعرف الله وترهب عقابه.

والبركة في أمك العجوز أطال الله عمرها ، فهي لن تتواني عن رعايتهما ، ولا تنسي أنه ” ما أعز الولد إلا ولد الولد “.

الصخرة !!

تبدأ مشكلتي بزواج قريب وصديق لي من فتاة جميلة ذات أخلاق عالية ، وكنت أنا بطبعي أذهب إلي بيت صديقي في المناسبات والأعياد ،  وفي أحد الأيام ذهبت إلي بيته ولم أجده ولكني وجدت زوجته ، فجلست أترقب مجيء زوجها وأخذت أتحدث معها بحسن نية وإذا بها تقترب مني أكثر وأكثر وتقول لي لماذا لم ترد على رسائلي التي بعثتها قبل زواجي ؟؟ فأخذتني الدهشة ووقفت مذعوراً مرتبكاً وقلت أي رسائل التي تتحدثين عنها ؟ ولماذا هذا الكلام في بيت زوجك ؟؟ فأخذت تبكي وقالت إنني متزوجة غصباً عني وأنا لا أريده ولا أستطيع أن أعيش معه ومع أهله إنني أتعذب كل يوم .

وفي تلك اللحظات أردت أن أخرج من المنزل ولكنها اعترضت سبيلي وأخذت تبكي وتقول إني أحبك أحبك .. وكنت أحبك قبل زواجي وأبعث لك الرسائل مع بنت خالك .. وتحدثت في الهاتف وقالت سوف تأتي بنت خالك وتخبرك بنفسها وبعد حوالي ربع ساعة طرق الباب ودخلت ابنة خالي وعندما شاهدتني ارتكبت وتغير لون وجهها وقالت لها أي رسائل التي أعطيتني إياها فزاد ارتباكها وإذا بها ترتمي على زوجة صديقي وهي تبكي وتقول لها سامحيني فأنا لم أوصل له الرسائل ولقد كذبت عليك وبعدها تحولت إلي وقالت لي بلهجة مليئة بالحزن والشقاء إني أحبك ، أحبك ، وسأظل أحبك مدي عمري فأرجوك لا تتركني ، فإن تركتني سأنتحر وأتخلص من هذا العذاب وارتمت على صدري وأخذت تبكي بكاء حزيناً حتى كدت أبكي معها .

أختي كريمة إني أكاد أموت من الهموم التي انصبت على من السماء فأنا لا أنام الليل وأصبحت دائم التفكير في تلك الفتاة التي لو تركتها ستنتحر وإذا أخذتها سأصبح خائناً لصديقي .

أختي كريمة لا تقولي اشرح له القصة من أولها إلي آخرها فأنا لا أستطيع أن أجرح شعور أعز أصدقائي إنني حائر وتعيس خصوصاً أن الفتاة تخاطبني بالهاتف كل يوم وترجوني أن لا أتركها.

فماذا أختار الصديق أو الحبيبة ؟!! إنني إنسان بعدما كنت أسعد إنسان .. ماذا حل بي ؟ أرجوك ردي على.

أتصدقني يا أخي لو قلت لك أنك لا تحب هذه الفتاة ؟! .. كيف ؟! لأنك الهش من الرثاء والعطف سرعان ما تتساقط وتتداعي .. وتمحي !!

حكايتك ذكرتني بقصة ذلك الرجل الماشي في الدرب الطويل ، لا يعلم مما حوله شيئاً ، وإذ بصخرة تسقط على رأسه تكاد تودي بحياته .. وهو في ذلك لا يعلم كيف سقطت ، ولا يدري من أين وقعت ؟!

ولذلك .. اندهشت جداً عندما ألقت عليك بنفسها كالصخرة ، وفاتحتك بحبها المتربص بك منذ زمان ، فأشفقت عليها .. لا أكثر .. لأنك في الأصل لا تحبها ، ولا تشعر بوجودها ، وإنما تحب صديقك وتعتز بعلاقتك الحميمة به . وتقدر عمق الصداقة التي تربطكما معاً .

ولهذا .. وفي مثل حالتك .. كان يجب أن تجري من أمامها ، وتهرب من وجهها فالمرأة التي تعرض وتبذل نفسها بمثل هذا الإلحاح ، جريئة إلي حد الخطورة .. وأنت نفسك غير مقتنع بها ، وتشعر في داخلك بأنها يوماً ما سوف تمارس جرأتها مع آخرين !!

لماذا ؟! لأن الزواج الواقعي عادة يصدم الكثيرات من البنات الصغيرات ، فهي ما زالت مراهقة في عوالم الخيال بقوة العاطفة الثائرة التي تتناقص والواقع الحالي .

وأنت حتى لو تأثرت بها تماماً ، وتزوجتها .. سوف تمر معك بنفس الموقف .. وستصدم بالواقعية ، وتبدأ تحلق بعواطفها المجنحة ، مع خيال آخر جامع .. خلاب ومثير !!

والصداقة هي الحب .. وإخلاصك لصديقك أهم وأبقي .. وكم يندر الإخلاص .. وأنت الإخلاص!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بلا استثناء !

التقيت بشاب من مدة 4شهور ، هو يكبرني بعشر سنوات ويتمتع بالأخلاق الحميدة ومشهور بأخلاقه الكريمة .. نحن من عائلة محافظة لا أقابله ولا يقابلني ولكن بيننا التليفون أكلمه دائماً ويكلمني ، استمرت علاقتنا شهرين بعدها درسته وفهمته تماماً وسألت وعرفت كل شيء عنه ، وجت فيه الصفات التي أريدها لفارس أحلامي .. وأنا باقي لي سنتان وأنتهي من الدراسة . وكان كل أملي من الله أن نتزوج .. ولكنني في آخر امتحانات العام الماضي علمت بأنه متزوج وله بنتان وبنته الكبيرة تبلغ من العمر 3 سنوات ، وهي مصابة بمرض شديد عسير ولا تتحرك ولا تمشي مما سبب لي ألماً كبيراً بالنسبة لوالدها ووالداتها .

وأنا صدمت صدمة عظيمة حطمتني وكسرت آمالي ، فتركته وقررت أن لا أتكلم معه بعد اليوم ولكنه أصبح يتصل بي لأن حبنا أقوي وشديد يحطم كل جدران الأسى أمامنا ، فاستمريت معه وها أنا الآن معه, مشكلتي أنني أحبه وهو يحبني بنفس القوة ، وصدقيني يا أختي لقد حاولت نسيانه بأن أحب غيره ، ولكن للأسف الشديد كل محاولاتي باءت بالفشل .. أرجوك وأرجوك ، أرشدينا إلي الطريقة توصلنا لبعض .. ومن ناحية زوجته فهو من حقه بالشرع أن يطلقها لأن الله أمر بالاستمتاع بالمرآة ، من ضمن شروط الزواج ، ولكنه لم يجد أي استمتاع معها .. لا تقولي لي أتركية فأنا من قبل حاولت وتركته لفترة طويلة ولكني يئست ولا أطيق الدنيا كلها بدونه .

مع تحياتي وشكري الكثير.

وما أدراك يا فاتنتي أنه ليس مستمتعاً مع زوجته ؟ ألم يخطر ببالك أنه قد قال لها ذات يوم كلاماً أجمل وأحلي مما يسمعك إياه الآن ؟!

رجائي .. ألا تكوني أنانية ، لا تفكر إلا في نفسها فقط ، وحتى لا تصبحي ذات يوم في مثل هذا الموقف الصعب عندما يقول عنك لأخرى .. أنه ليس مستمتعاً وسعيداً معك . ثم .. ألا يكفي زوجته هماً .. ابنتها المعوقة ؟ وزوجها المشغول عنها بك ، والرافض لها بسببك ؟ ألا تتصوري أنك عندما تتركينه سوف يعرف كيف يستمتع مع زوجته المحتاجة له .. هي وابنتاها ؟!

كم أتمني أن نبقي آدميين ، وليس وحوشاً يفترس بعضنا بعضاً .. خاصة عندما يسقط أحدنا جريحاً طريحاً !

كوني إنسانة يا فتاتي ، وانظري إلي أيامك بعين المحبة والأمل ، وحتما ستجدين من يناسبك .. ومن يبقي لك وحدك دون مخلفات أو ضحايا .. ضحايا آدمية مريضة مهيضة !!

وهذا ما أتوقعه منك .. لأنك إنسانة عرف الحب طريقاً إلي قلبها .. وترك بصماته على نفسها .. فليكن في قلبك مكان يضم هؤلاء الضحايا جميعهم .. وبلا استثناء.

زوايا وأضلاع

أنا طالب جامعي بقي لي إن شاء الله حوالي سنة واحدة وأتخرج من كلية الهندسة ، تبدأ المشكلة منذ عامين حيث أحببت فتاة تكبرني في السن قليلاً ، استمرت علاقتنا ، وقليلاً قليلا وقعت في غرام هذه الفتاة وتبادلنا جميع الأحاسيس والأشواق ، وبعد شهر تقريباً اكتشفت بأن هذه البنت أخت لزميل لي بالدراسة تربطني به معرفة بسيطة.

اتصلت بها تليفونياً وطلبت منها أن نقطع علاقتنا دون إبداء الأسباب لها . المهم الفتاة عندما سمعت كلامي هذا بأن نقطع علاقتنا خوفاً مني أن يعرف أخوها بذلك أصابها مرض وكادت تجن ، فعطفاً عدت إليها وليتني لم أعد فحاولت أن أصلح الموقف ولكن أصبح الموقف معقد قليلاً واستمرت علاقتنا من بعد ذلك عامين وقد يزيد وأحببتها يوماً عن يوم وهي كذلك لدرجة الجنون.

وقد نظرت إلي علاقتنا من عدة زوايا ووصلت إلي حل هو ” كيف لي الزواج بها وأنا إلي الآن طالب وبقي لي فترة من الوقت حتى أتخرج ثم فترة أخرى لتكوين نفسي وهي تكبرني في السن فكيف أقدر على الزواج منها في ذلك الوقت وعمرها قد يصل الثامنة والعشرين ؟ وليت الموقف يصل عند هذا الحد ولكن لها أخت أكبر منها بسنتين أصبحت أختها عثرة في طريقها وكما هو معروف في عاداتنا بأن تتزوج الكبرى ثم الصغري أو أنني أخسر مستقبلي على حسابها برغم حبي الشديد لها ضحيت بذلك وقلت لها :

” تزوجي ولا تنتظريني لأن مشواري طويل جداً وشرحت لها الموقف كاملاً ولكن لم تقتنع وقالت لي بالحرف الواحد ” سوف أنتظرك العمر كله “..

احترت معها كثيراً وحاولت إقناعها فلم ترض بكل الحلول التي قدمتها لها بالرغم أنني أقول ذلك لها لا لشيء ولكن تضحية مني ، حتى لا أظلمها معي وأظلم أختها وأظلم نفسي أيضاً ولم أجد إلي الآن حلاً لهذه  المشكلة ….؟!

كما أن الموضوع بقية فكل أسبوعين لي معها لقاء منفرد وأختلي بها ونجلس مع بعض في بيت أحد الأصدقاء ، بعيداً عن جميع الأنظار ومن كثرة هذه اللقاءات كادت أن تفقد الكثير بسببي ولكن قدرة الله أكبر من ذلك وسترت علينا رغم كثرة وجودنا مع بعض وهي تقول لي عمري وشرفي وكل ما أملك لك وحدك إن طال الزمان أو قصر ..

أنا حقيقة الآن أعترف على نفسي وأقول بأنني مجرم بمعني كلمة الإجرام لأنني أحبها وهي تحبني حباً شريفاً ولا يمكن للحب الشريف أن يخالطة شيء آخر ودائماً أنكسف من نفسي على ما أعمله رغم مبادلتها وإصرارها على ذلك.

أخيراً وأنا الآن مشغول بالدراسة وقد أكذب عليك إن قلت لك أنها هي شغلي الشاغل كل وقتي ودراستي وفراغي ومنامي وأحلامي وعندما أروح وأجيء أراها أمامي يومياً أتصل بها تليفونياً هي لا يطيب لها النوم إلا بعد سماع صوتي وتطمئن على مسيرتي اليومية أين أذهب وأروح وما هو برنامجي اليومي ؟!

كما أسلفت لك حبي لها شديد وهي أيضاً ، ولا أقدر أن أفارقها ولا أستطيع الزواج بها في الظروف المحيطة بي الآن وأضيفي إلي معلوماتك بأنها ليست من العائلة حتى تندمج مع عائلتي رغم قولها سأعيش أنا وإياك في خيمة في وسط الصحراء وسنكون سعداء.

إن كان لي عندك رجاء فهو إجابتي وأن تعطيني الإجابة الشافية وسأعمل بكل ما تقولين ومنتظر ردك على أحر من الجمر . ولك خالص تحياتي .

يا عزيزي ..

مـع اعتزازي بتوقيعك ” المـعذب الحائر : إلا أنني فعلاً لست معذباً ولست حائراً .. لماذا ؟! لأنك عزيزي قد قررت بينك وبين نفسك منذ البداية عدم انتظارها سنوات الدراسة ، ثم سنوات التخرج .. وحتي تجهز نفسك للزواج ..

ولنرجع من الأول .

نرجع لخطة البداية..

لأذكرك برغبتك في فراقها عندما عرفت بالصدفة أن أخاها طالب ، وزميلك في نفس الكلية ..وفي الحال قررت مقاطعتها .. لماذا ؟!

لأنك تعلم تماماً بما يدور داخلك ، تعلم أن نية الزواج معدومة لديك منذ عرفتها .. فلماذا عدت إليها ؟!

لماذا كل هذه المهاترات والمغالطات ؟!لماذا كل هذه اللقاءات العابثة الآثمة التي ينهي الله عنها ورسوله ؟! والتي ستجر عليكما عذاب الدنيا والآخر ؟!

لماذا لا تكون صادقاً مع نفسك ، صريحاً معها ، وتريحها  وتريح ضميرك المرهق المعذب ؟! هل سترجع وتقول لي أنك قد صارحتها ، وقد طالبتها بإنهاء هذا الوضع المهترئ المهزوز ، ولكنها هي التي رفضت وتمسكت بك ، وتعلقت بأذيالك ؟!

أنه سبب واه ، مشوه ، ولا يعطي أدني مبرر لاستمرار مثل هذه العلاقة الضعيفة الآثمة ؟! إن رد الفعل عندك هو شعور بالعطف ، بل بالندم ، وليس أبداً بالحب كما تتوهم ، ولذا استمرت المأساة سنتين أخرتيين .. المسكينة الهائمة تحبك حتى الجنون وحتى الموت .. إنك تعرف جيداً أنك تخدعها كما تدرك تماماً أنك لن تتزوجها .. ولهذا تندمت على عودتك إليها ، وعدت تنظر من جديد بمنظار الهندسة إلي علاقتك بها ، عدت تنظر من “عدة زوايا ” كما تقول .. فاكتشفت للمرة الثالثة والأخيرة أنها لا تصلح لك ..

الأولي لأنها تكبرك في السن وهو الضلع الأول . والثانية لأن أختها الكبرى لم تتزوج بعد وهو الضلع الثاني ، والثالثة لأنها لن تنسجم مع عائلتك مستقبلاً وهو الضلع الثالث .. وبذلك اكتملت معطيات النظرية الهندسية يا باشمهندس .. وهي :

” بما أن ” أضلاع المثلث متساوية ” إذن ” الزوايا متساوية والنتيجة تطابق المثلثين .مثلت الواقع بأضلاعه الرافضة الثلاثة والمتساوية تماماً مع أضلاع مثلث أنت الداخلي .. الرافض أيضاً ، لهذه الوقائع الثلاث !!

و … و .. و… !!!

أنا فتاة كويتية من أب كويتي وأم مصرية ، نزلت أمي إلي القاهرة وهي حامل بي لكي تضعني ومنذ ولادتي وأنا موجودة في القاهرة وصار عمري الأن 15 عاماً . وفي هذه المدة دخلت المدرسة الإعدادية وفي عام 1982 نزلت أبي إلي القاهرة وتقابلت معه في منزل والدتي وقال لي أنني سوف أسافر إلي الكويت وأرجع لآخذك معي لتعيشي مع أخواتك وأهلك وحتى هذا الوقت لم يتصل بي ولم يقم بالصرف على علماً بأني صرت عروساً وفي حاجة ماسة لكثير من الطلبات وقبل كل شيء أنا أدرس في المدرسة ، فبالله عليكم دلوني ماذا أفعل وجميع ما كنت أمي تمتلكه قد نفذ منها وأصبحت أعيش على الكفاف ، أكاد أتسول لأنفق على نفسي ، علماً بأن أبي كويتي غني ومتيسر الحال وأنا أعيش محرومة أعاني الفقر والضيق والعذاب ، علماً بأن عندي وعند خالي الموجود في الكويت حالياً جميع الأوراق الرسمية الدالة على أن أبي هو والدي فعلاً بحكم الشرع والقانون . فماذا أفعل؟؟

وكيف أعيش حياتي دون عطف الأب ورعايته ؟! ودون أن يكون مسؤولاً عن الأنفاق على أبنته الفقيرة المعدمة ؟! كيف أتصرف ؟!

هذه هي مأساة ..

هذه المرة .. يعلمها الكبار ويقع فيها الصغار !! عكس المثل الدارج .. يا للعجب !!

حقاً يا فتاتي .. هي مأساة وكارثة ، أن توجد بنت شابة يافعة ، تتمني أن تبتسم لها الدنيا فتتعلم ، وتعيش حياة كريمة ، تنعم فيها بحب الأم ورعاية الأب … لكن .. هذا وضعك الأليم ، لا يسعني إلا أن أنشر مشكلتك لعل أباك يقرأها فيرق قلبه لك ، ويغدو إليك يتفقد طلباتك ، ويرعي أحوالك ، فأنت ابنته من صلبه ودمة .. واطمئني فلا يمكن أن تصبح الدماء ماء .. سوف يسأل عنك أبوك بعون الله ، فهو لن يرضيه أن يتركك عرضه للفقر ، فريسة للجهل …و… و … و …!!

تذكر أن ابنتك ، شرفك ، عرضك تعيش عيشة البؤس ، العذاب والحرمان .. وأنت تعيش عيشة الترف والرفاهية والإسراف .. فهل يرضي الله ذلك ؟! وهل تقبل أنت ذلك ؟!

كن أباً كريماً شهماً ، وصن ابنتك حاملة اسمك ، واحفظ ماء وجهها واكفها شر الحاجة وذل السؤال .. وإذا كنت تنحرج من إحضارها فلا مانع من أن تتركها تعيش في بلدها مع أهل أمها الفقراء على أن تتكفل مصاريفها وتسد احتياجاتها ، حتى ولو كان مبلغاً بسيطاً بالنسبة لك ، فهو حتماً سيقيها شر العوز ، ويحميها من مرارة الفقر ،

جزاك الله ألف خير .

 

حساسية !!!

أنا مؤمن والحمد لله إيماناً كاملاً بالقدر والنصيب .. أحببت قريبتي وأحبتني حباً طاهراً.. عفيفاً .. وقد تعاهدنا معا على أن يتم زواجنا أو خطوبتنا بعد عودتي من السفر إن شاء الله .. وقد مر على حبنا 7 سنوات الآن .

وكان عهدي .. معها ووالدتها وأختها الكبرى .. لأن والدها متوفى .

وقد عاهدتهم بيني وبينهم .. أمام الله سبحانه وتعالي بأنها ستكون زوجة لي حينما عدت في إجازتي العام الماضي بعد عامين من وجودي في الخارج عرضت الموضوع على أهلي .. أي ” والدي ووالدتي ” فكانت المعرضة الشديدة منهما .. بسبب أنها مريضة .. وللعلم إني كنت أعلم بمرضها الذي كانت تعاني منه .. وهو ضيق في التنفس عند القيام بأي مجهود .. ويعتبرون هذا سبباً في منعي من الزواج منها .

رغم أن هذا المرض غير معد .. ورغم التحاليل الطبية والأشعة المرئية المصورة أن تحول إلي حب طاهر .. شريف بقصد الزواج على سنة الله ورسوله.

وبعد خيبة الأمل .. وتحطيم الأماني .. والأحلام .. التي كنا ننسجها .. طيلة ال 7 سنوات .. بسبب معارضة أهلي .. لا أستطيع أن أفعل أي شيء في سبيل تحقيق أحلامنا.. علماً بأني أكبر أخواتي.

وللعلم .. فإن أهلها وهم أقاربنا متمسكون بي ويكنون لي كل التقدير والاحترام .

وهم مستعدون أن يفعلوا من أجلي أي شيء في سبيل تحقيق أحلامنا .. حتى لو كان زواجي بدون علم أهلي لأن فتاتي مصممة على زواجها مني .. وهي مخلصة جداً في حبها لي ، أكثر من حبي لها .. وقد أرسبت لها عدة خطابات بقصد قطع علاقتنا ما دمنا لم نجد حلا لرضاء أهلي .. ولكن رغم تلك الخطابات التي أرسلها إلا أنها تأبي وترسل لي خطابات توضح لي فيها مدي وفائها .. وإخلاصها للعهد الذي بيننا.

بالله عليك .. أرشديني لأني محتار !!

حيرتك دليل على أنك صاحب قلب طيب .. قلب يحن ولا يقسو .. يداوى ولا يجرح .

لذلك لا أتخيلك تهجر فتاتك بعد سبع سنوات انتظارك .. فقط لأنها مريضة بنوع من الحساسية غير المعدية ، والتي كنت تعلم بها منذ البداية !

أنا أعرف زوجات كثيرات أصبن بهذا المرض ، ومارسن حياتهم بنجاح وسعادة ، لأنه في الواقع لا يعتبر سبباً مانعاً لعدم الاقتران بها لأنه ليس بالمرض الخطير المميت.

وأنت .. ضع نفسك مكانها ، فلو كنت أصبت بحادث أو مرض لا قدر الله .. هل كنت تقبل منها أن تتخلي عنك وتهجرك وأنت في أدني لحظات الضعف والحاجة لها ؟!

لا أيها الطيب ، كن طيباً مؤمناً تقياً كما أنت ، فالله سبحانه وتعالي يحث عباده على الوفاء بالعهد فيقول جل جلاله : ( وأوفوا العهد إذا عاهدتم ) فلا تهتز لكلمات الآخرين ولا تتأثر بآرائهم مادمت أنت لا تغضب الله في شيء . وتزوجها .. واسعد بعمرك معها ، فهي ستعوضك خيراً بحبها الكبير عن مرضها الصغير الذي قد تشفي منه بعد الزواج والاستقرار الجسدي والنفسي .. لك تحياتي.

 

الخيانة ليلة الجمعة

ترددت كثيراً قبل أن أكتب ولكن لا بد من الكتابة أو الكلام مع أي شخص لأني لو أستمريت أكتم في قلبي فسيؤدي ذلك إلي نتيجة لا أرضاها لنفسي .. أعذريني إذ أني سأكتب لك الكثير ولك أن تلقي الأوراق في سلة المهملات أو تختصري الكتابة وتعطيني إذ أن هذا الكلام المكتوب مخزون في قلبي منذ سنوات فلا أستطيع الاختصار ، كما أني سأتكلم معك بصراحة لا يمكن أن أنطقها ولا أذكرها لأحد يعرفني شخصياً حتى أمي ، لذا يجب أن تطلعي على جميع التفاصيل فليس هماك من أحي له بصراحة سواك واختاري للنشر ما يناسب .. أعذريني مرة أخري لطول الرسالة ..

تزوجت منذ سبع سنوات ، مرت السنة الأولي وكأنها شهر عسل تحققت جميع أمالي وأحلامي ثم وضعت مولودي الأول واستمرت الحياة طيبة وحملت بعد سنة أخذ خلالها زوجي بالسهر أحياناً خارج المنزل إلي الساعة الحادية عشرة ليلاً بتقطع حتى وضعت مولودي الثاني . كان خلال فترة النفاس يسهر وخاصة ليلة الجمعة حتى وقت متأخر ولما جلست معه جلسة لطيفة عاتبته بلطف ومودة على السهر وهل هناك أسباب تدعوه لذلك فذكر لي أنه أسعد إنسان وما من سبب إلا أن ينضم لمجموعة من أصحابه.

فسكت وكنت مشغولة جداً بالطفلين وكنا نبني بيتاً جديداً بتعاوننا وكان يشغلنا معاً . وبعد ذلك حملت بطفلي الثالث .. وهنا ابتدأ كل شيء بوضوح : السهر غير شريف ، شرب وفساد ونساء فاسقات ، وأهملني من الناحية العاطفية وكثر سهره خارج البيت ، ولما ناقشته حلف يميناً بأنه لم يمس امرأة غيري ! ولم أصدق وابتدأت أذاد قلقاً وبكل وضوح وعدم حياء أكتب لك ، ليلة الجمعة يستحم ويتزين ثم يخرج ولا يأتي إلا الفجر فأصابني نزيف دموي من القهر استمريت ثلاثة أشهر حتى وضعت وكانت والدتي تقول لي زوجك تأخر فأقول لها ليس معه أحد في البيت ويمكن يتسلي في الديوانية . وأنا أعلم كل العلم أين يكون وماذا يفعل وصبرت .. وصبرت ، واستمر بعد ذلك على هذا الأسلوب سنوات وسنوات كنت عندما أمل الصبر أكلمه وأناقشه بدون خناق ، بتفاهم ، أستفسر منه عما إذا كان هناك تقصير مني يدفعه إلي ذلك عندها يحلف بأنه أسعد الأزواج وأنه محسود على استقرار حياته .. الاستقرار الذي أوفره على حساب صحتي ونفسيتي وكتمي للموضوع وصبري ودعائي في كل صلاة بأن يهديه الله ويحلف ” كاذباً ” بأنه لم يمس امرأة حتى لو جلس بين نساء عاهرات مع أصدقائه فهو يجلس وحيداً واعترف لي بأن سهراته في مزارع يمارس فيها كل ما هو محرم وهو متفرج فقط ! هات من يصدق ، ولكني تظاهرت بالتصديق وأعطيته الثقة به على ألا يتردد على هذه الأماكن مرة ثانية ووعدني وصدق في وعده عشرة أيام فقط ثم عاد كما كان . ومرة من صعوبة الحالة التي تتصارع في نفسي أدخلت المستشفي لأزمة قلبية . فأنا أعيش صرراعاً دائماً بين زوج أحبه وأخلص له وأحاول الاحتفاظ به وبين أولاد ثلاثة ما مصيرهم لو دست على قلبي وعواطفي ؟ وهل أنسحب وأترك الميدان لبنات فاجرات يتمنين ذلك ؟ ! صراع أحس وأنا أفكر به بأني أحياناً سأطير من على الأرض بدافع قوة متفجرة تتضارب داجل جسمي .. الصداع النصفي مستديم .. القلق .. الإحساس بعدم الأمان والثقة بالمستقبل وعدم الاستقرار النفسي .. وأخيراً أجد معه أفلام فيديو خليعة ، إباحة كلها ، كل ذلك لا يعلم به أحد حتى هو لا يدري بأني أعرف عنه ذلك . ولمدة أشهر مضت صار يدفع مبلغاً معيناً أحسست بأن ذلك ثمن لشقة استأجرها ربما مشاركة مع أحد لممارسة شهواتهم حيث يدفع شهرياً قسطاً ثابتاً كي يشرب الخمر ويمارس الزنا وإحساس يخالجني بأنه عندما ينام معي ويعاشرني بين فترات متباعدة فقط أداء لواجب وحتى لا أقول أنه أهملني .. أصبحت أقشعر منه إذا لامسني وأشمئز إذا دنا مني دون أن أظهر أي أحساس أو شعور بذلك بل أتقبله مجاملة ضاحكة وأبين له حبي .. وازدادت عنايتي به حتى لا يجد لي عذراً يعتذر به ، وواجب أن أوضح لك أشياء مهمة أخرى بأنه يحترم وجودي بين أهله ، كريم أحس أنه يحبني ويلبي كل رغباتي ويستشيرني في كل شي حتى عمله يعتمد على أعتماداً كبيراً .

وضع لي الخدم وقدم لي المال دون حساب كي يطيب خاطري ويحرص على عدم زعلي من أي شيء في الحياة اليومية وكلما أقول له شيئاً يقول حاضر ، يمدحني ويلبي طلباتي في الحال أمام أهلي وأصحابه ويصفني بأني امرأة مثالية وأنا أبذل الجهد حتى تستمر ثقته بي هكذا ولكن كل سهرة من سهراته التي أعرف مسبقاً أنه سيذهب إلي وكر الفساد تقلب كياني وأحاول أن أجد له غلطا آخر لكني لا أجد ولكنه غلطه أكبر غلط وأقذره وأصعبه على إحساس زوجة شريفة مخلصة ومحبة جداً لزوجها.

احترت كثيراً فميزاته كثيرة ومساوؤه صعبة جداً . أحس بإهانة دائمة لكرامتي وأنوثتي وإذا أصبح الصباح يكلمني بطيبة وكأنه لم يعمل شيئاً في الليل حاولت أن أتبلع آلامي وأكتمها عنه وعن أي إنسان ، والآن أريد أن أعرف رأيك بعد أن عرفت حالتي ، فأنا أحس بأنه لا أمل في إصلاحه فهو فاسد بالرغم من أنه يمتاز في كل شيء في حياتنا أجيبيني بصراحة أخت كريمة .

  • هل أستمر بمضغ الآلام والعذاب والإحساس بالإهانة مقابل كل ما أحصل عليه من أهتمام بحياتنا اليومية وعلاقتنا العائلية وعناية الزائدة بي وبأبنائي وحفاظاً على الحياة الزوجية من أجل الأبناء ؟؟
  • هل أتركه وأنفصل عنه وما مصير أبنائي الصغار؟!
  • هل أصارحه بأني راضية عنه تمام الرضا في كل تصرفاته الحلوة ما عدا هذا العيب الفاسد وأطلب منه معاملتي كأخت في البيت (لأني بت أشمئز من معاشرته جنسياً حيث أحس بأني على الفضلة) وإذا رجع عن هذا الأسلوب في الحياة فسيجدني الحبيبة المنتظرة عودة زوجها الصالح ؟!

لقد فقدت الأمل به بعد أن وضع له وكراً خاصاً يقوم بصرف مبلغ شهري عليه ويحمل مفتاحه معه ؟!

ساعديني .. ما هو الحل وأعذريني فقد اختصرت الكثير بالرغم من طول رسالتي .. لك تحياتي ..

نعم..

الحل هو الاستمرار حفاظاً على الحياة الزوجية من أجل الأبناء ..

 

ولكن ……..

ليس بهذا الأسلوب القاتل لنفسك ، الناسف لصحتك ، الهادر لشبابك ….

يجب أن يكون استمراراً مشروطاً ، لا تبلغين فيه آلامك ، لا تمضغين فيه إحساسك بالغيظ والظلم والألم وحيدة ، حزينة ، معذبة .

ومن الآن .. كفي عن ” بذل الجهد حتى تستمر ثقته بك ” امتنعي نهائياً عن الضغط على أعصابك المشدودة المتوترة . أصرخي في وجهه ثائرة غاضبة كلما أحسست الحاجة إلي ذلك ، حذار من كبت إحساسك الحارق داخلك ، وإلا انفجرت يوماً وتطايرت أشلاء ، إنسانة مريضة معتلة عاجزة ….

عبري له عن ضيقك وألمك وعذابك . فقد يكون هو في ” واد ” وأنت في ” واد ” آخر . نعم بالتأكيد هو لا يشعر بعذابك هذا كله ، ولا يتوقع إطلاقاً حجم المعاناة الرهيبة التي تمرين بها، وتعانين منها .

من الواجب أن يعرف .. وأن يشعر .. وأن يحس …..

وثقي … وتأكدي أنه ما دام يحبك ويقدرك فسوف يعدل عن الكثير من التصرفات التي تضايقك وتعذبك ، وسوف يقلل حتماً من اندفاعه وتهوره .. ومع الوقت سينصلح حالة وسوف يراعي شعورك ، ويكون أكثر حرصاً ، وأكثر احتراماً وتقديراً لك ولأطفاله ولبيته .. وعسي الله أن يهديه لما فيه الخير الفلاح .. وإن لم يغير من نفسه ، ولم يرتدع رغم كل هذه التضحيات الصادرة منك ، فلتكوني أكثر حزماً ولتسارعي باتخاذ موقف جاد حاسم منه ، ولتأخذي أطفالك وتذهبي إلي بيت أهلك طالبة منه الطلاق .. فحياة مثل هذه تعد مستحيلة ، ويصعب الاستمرار فيها إلي الأبد ..

والله لا يكلف نفساً إلا وسعها .. لك تحياتي .

 

 

 

 

 

 

أناشيدي لعينيك

كل دول في العالم ، لها عاصمة ..

وجهك وطني ، يا حبيبة ، له عاصمتان

هما عيناك!

****

طويلاً انتظرتك ،

وطويلاً اشتقت لثرثرة عينيك الأسطوريتين

تزغردان بالفرح والطفولة ، كمهرجان شروق.

وطويلاً دامت خيبتي ، وحسرة قلبي

فقد طال الفراق ، وبرحت بي أشواق لا تنتهي …

كنت أعرف أنك آتية في الريح والذكرة

كنت وأنا معك أشتاقك ، فكيف إذا غبت عني ؟

أيتها الرائعة حتى الوجع ،

كم أحبك …

وكم يضنيني حبك ، فأخشاك ، وأفر منك

إليك ، وأحتمي بأجمل حصنين في الدنيا : عيون

المها …

يا ست الصبايا أنت

ما أضيق الدنيا وما أتعس الحياة لولا حنانك يدفئ صقيع اغترابي

ويبدد وحشة أيامي!

****

كنت أدرك أنك لا بد عائدة ، لن تبرحيني

فأنت تسكنيني ، أشواقاً ولهفات …

وأنت حرماني الأبدي ، وأجمل من الحب الحرمان

لأنه خفق لذيذ يعذب قلبي ويستعذبه ….

وأنا على مثل اليقين ،

أيتها الطالعة من حقول الكستناء …

والمبحرة مع حلو الممني وحرقة الأشواق

موقن بأنك لن تستطيعي إلا أن تكوني لي

مهما ابتعدت ، ومهما قسوت ….

وأنت وحدك كل النساء … في العالم !

وكل عذارى المروج الخضر …

يا ست الصبايا الفاتنات ،

كم أحبك

أحتاج إلي جميع مكبرات الصوت في العالم كي أهتف

باسمك ….

مجنون بك ، أبقي …

وشفائي منك ، أن يستمر جنوني !

*******

أفقت مبكراً ذلك الصباح الوردي ، في لون

الأرجوان ….

وعلى حافة النافذة المشرعة على البحر

والفجر ………

زقزق عصفور حزين مهاجر ، وتراءي لي طيفك

مثل الشهاب ………

وأدركت أن قلبي ، هو ذلك العصفور المزقزق

بالحزن والفراق داخل صدري ،

وشجرة السنديانة الكبيرة ، في حديقتنا ، وقد

شاخت …………

مالت على أذني ووشوشت لي اسمك ،

وارتعشنا ثلاثتنا : أنا والشجرة والذكري ………

************

يا أحلي الصبايا ، لو كانت الأعمار تعار ،

أعرتك عمري ……..

أخيراً

لم يبق من ” متسع ” سوي كلمة

واحدة بحجم الكون كله : أحبك !

عبد الله الشيتي

قبح !

أنا شاب أشأت علاقة مع ابنة خالي منذ سنتين تقريباً وكانت جميلة جداً ، وكنت أحبها جداً وحدث في يوم من الأيام أن شاركنا الشيطان واختليت بها … ونلت منها ما أريد . وذات يوم قالت لي أمي بأنها خطبت لي عروساً جميلة .. وكانت ابنة خالي ؟ فضاقت الدنيا من حولي وأظلمت الدروب في وجهي ولم أعد أدري ماذا أفعل فأنا شاب كان كل أملي أن أحظي بزوجة وفيه طاهرة وأبني بيتاً على الطهارة وحتي لو رضيت بابنة خالي زوجة لي فإن التقاليد عندنا تقتضي بأن تتأكد النساء ليلة العرس من طهارة الفتاة وعذريتها..

فأرجوك أن تساعديني وتدليني على حل فأنا تائه في بحر مظلم وأحاول الهروب من العائلة بأي طريقة .

وأنا بانتظار ردك لتدليني على طريق الخلاص من محنتي هذه .

وشكراً ..

تقول يا عزيزي ” ضاقت الدنيا من حولي ، وأظلمت الدروب في وجهي ، ولم أعد أدري ماذا أفعل ” ؟!

لماذا ؟!

وهل كنت تدري ماذا تفعل عندما اختليت بابنة خالك وأنشأت معها علاقة في الحرام ؟!

يا لك من إنسان أناني لا تفكر إلا في نفسك فقط !!

عجبي …..

كنت تحبها وكانت جميلة ، فماذا حدث إذن ؟! هل تبدل حبك كرهاً ؟!

أم أنها فقدت جمالها ؟! لا يا أخي …

لقد واجهت أنت “قبح ” عملك ، لقد ذعرت عندما وقفت أمام ماضيك وجهاً لوجه . فصعقت من هول فعلتك !!

ألم تفكر في الفتاة ؟! ألم يخطر على بالك لحظة كيف تواجه هي رجلاً آخر بعد أن سلبتها عذريتها ؟! وكيف تجاوبه تلك النسوة اللأتي سيتثبتن من طهرها ليلة عرسها ؟!

أنت الوحيد القادر على مساعدتها . زواجك منها سيسترها وسيداري فضيحتها وسيمحو خطأك فلا تتراجع . ولا تتخوف . وهي حتماً تجبك وإلا لما رضيت لك .. وبك .

فاتكل على الله واعلن موافقتك ورضاك بها زوجة .. ولا تنسي أنك أنت الفاعل .. فلم يمسها أحد غيرك فلماذا هذا التخوف وهذا التراجع ؟!

أصلح خطأك يا أخي ، وكن رجلاً يواجه الواقع بشجاعة لا أن تحاول ” الهروب من العائلة بأي طريقة ” ؟!

أرجوك أن تكون مشكلتك هذه عظة وعبرة لكل فتاة تفرط في نفسها مهما كان السبب .. فليس لها في ذلك أي عذر…

 

 

غلطة أم !

تعرفت على شاب من قبل صديقة لي أغرتني بكلامها وإلحاحها ، فاقتنعت وقبلت وأخذت رقم هاتفه واتصلت به وتفاجأت إنني أول مرة أتصل كان يرحب بي ويقول لي مللت وأنا أنتظرك فقلت له هل عرفتني ؟ قال نعم كيف لا أعرفك وأنت حبيبتي التي عذبتني وطلعت روحي حتى رضيت أن تكلمني ؟ المهم استمرت اتصالاتنا فطلب مني أن يراني ، في البداية رفضت وفي الأخير طلعت معه وتكررت طلعاتنا وصرنا نتكلم في التليفون بالساعات ولا نحس بالزمن المهم أحببته إلي درجة الجنون ، أصبح هو كل شيء بالنسبة لي ، أصبح أمي وأبي وكل شيء ، وكنت أعتقد أنه يبادلني نفس الشعور والإحساس بعد أن استمرت علاقتنا خمس سنوات ، أخرج معه على طول معظم أوقاتي وما أكذب عليك لقد سلمت له كل شيء ، ولكني الحمد لله ألف مرة أنه نجاني قبل أن أفقد عذريتي . صدقيني كنت أنفذ له كل شيء دون أي محاولة للرفض . صدقيني كان أول إنسان عرفته بحياتي وأول حب صادفته في حياتي ، المهم في أخر السنة الخامسة من علاقتنا بدأت أكتشف أشياء لم أعرفها من قبل ، اكتشفت أنه متزوج واكتشفت أن له علاقات كثيرة مع بنات ضحايا أمثالي كلهم يجبونه وكلهم وعدهم بالزواج وخطبهم من أهلهم مثل ما خطبني ، فهو لما كلم أهلي قال إن عنده ظروف تمنعه من الزواج حالياً ولما يحلها سوف يتزوجني ، وأقنع أهلي مثل ما أقنعني ومثل ما أقنع البنات الضحايا اللاتي عرفت بمصائبهن فأصبت بانهيار عصبي وحاولت الانتحار ، خمس سنين وأنا مخدوعة ، خمس سنين وهو لابس ثوب العفة والطهارة وهو لا يعرف شيئاً عن الطهارة والعفة ، خمس سنين وأنا أخرج معه وأعمل كل شيء لكي أريحه وأرضيه وفي الأخير خسرت كل شيء : سمعتي ، وأهلي عرفوا الموضوع ، عرفوا أنني غلطت معه ، وهو بنفسه اتصل وقال لأهلي إن بنتكم ليست شريفة لأنني فعلت بها كل شيء والسبب أنني وجدت دفتر التليفونات في سيارته ووجدت أرقام البنات واتصلت بهن وكشفت لهن عن حقيقته حتى لا يغلطن معه ، فاتصلوا به وتفلوا في وجهه وعرف أنني أنا التي عملت ذلك فأحب أن ينتقم منى وهانت عليه العشرة فأخذ يتصل ويهددني ويقول لي سوف أفضحك في كل مكان سوف أبعثر صورك في كل أنحاء العالم ، وأعطي رقم تلفوني لصبيان يتصلون ويقولون كلاماً أكبر عليه.. المهم قولي ما العمل أنا بعذاب ، والله بعذاب وقولي هل إذا طلبت الغفران والتوبة الله يغفر لي ؟ وأرجو أن تكتبي لي الرد بسرعة…

وأرجوك اكتبي قصتي لكل البنات كي يأخذوها عبرة ودرساً ولا يثقوا في أي شخص حتى لو كان خاطباً رسمياً لأنه الخطبة حجة حتى تثق به البنات وتعتقد أنه يحبها وتسلمه كل شيء فأرجوك إنني أنتظر ردك بفارغ الصبر وشكراً …

أنا لن أخفف عنك مأساتك . ولن أقول لك أنت قليلة الحظ في الدنيا لأنك وقعت في يد من لا يرحم قلباً ، ولا يحفظ شرفاً ، ولا يصون عفة أو عرضاً ولا يذكر الله ولا يخاف يوم حسابه ..

فهذا الشاب المخادع لم يدع فتاة من حوله إلا أنشأ معها علاقة ما ، أنشب أظافره في جسمها وأطلق لسانه باسمها !!

وأنت كنت واحدة من هؤلاء الضحايا الساذجات ، اللاتي استغل عواطفهن نحوه ، ففعل بهن ما فعل …!!

طبعاً لن ألقي المسؤولية كلها عليك ، خاصة بعد تصوري لتلك الشواهد التي قرأتها في رسالتك ، وإن كنت ألومك الآن على ما فعلت بعد أن كبرت ونضجت إلا أنني ألوم أمك وأعتب على أبيك وكل أسرتك عندما أهملوك وأنت طفلة صغيرة لا تعرف من أمور الدنيا شيئاً …

فإذا افترضنا أن عمرك الحالي حوالي 18 سنة على أكثر تقدير ، وهو عمر أي طالبة بالمرحلة الثانوية ، ولو طرحنا خمس سنوات من هذا العمر سيكون الناتج 13 سنة فقط !!!

و13 سنة هو عمر طفلة ساذجة ، صغيرة العقل ربما كبيرو الجسم ربما …

فأنت حتماً كان حجم جسمك ، أكبر من حجم رأسك ، لأني لن اسألك أين عقلك حينذاك ؟!

لكنني سأسأل بكل الإصرار والإلحاح أين كانت أمك عندما كنت تخرجين طوال النهار من البيت ؟! بل أين كان أبوك عندما كنت تتكلمين في التليفون بالساعات الطوال ؟!

لقد غفلوا عنك طفلة صغيرة ، تركوك مهملة دون إشراف أو رعاية لا أحد يدري بك ، ولا أحد يسأل عنك ، فضعت .. وضاع معك مستقبلك وأحلام عمرك الوردي !!!

كم أنا حزينة لما أصابك ، كم أنا حزينة وأنا أكتب لك لا لأعاتبك ، فأنت بكل الأسف ضحية لم تجدي من يرشدك ، من ينبهك للخطأ ، من يحول بينك وبين طريق الأنحراف .. ولكني أكتب لم لأعزيك فيما ضاع وراح منك …

فالآن .. وبعد أن فات الأوان ، أراك سجينة ذليلة ، محطمة يائسة تعيشين الأم والعذاب والشقاء ..

أراك تفكرين في إرشاد الأخريات ، وتنبيه الفتيات الصغيرات لخطورة الذئاب والضباع ، التي ترتع في المجتمع دون رقيب أو حسيب ..

أنت في هذه اللحظة تنشدين التوبة ، وترغبين في فعل الخير ، واعلمي أن الهادي إلي الخير بمنزلة فاعله .. وإن الله يقبل دعاء عبده ، وتوبته إذا جاءت صادقة ، نابعة من نفس ظامئة إلي الإيمان ، متعطشة للراحة والسكينة والأمان ….

وإن الله غفور رحيم …

 

سرداب

أنا موظف دخلي محترم جداً ، تزوجت وأنجبت طفلين لكن زوجتي تشك بي إلي أبعد الحدود علماً بأن مستوي تعليمي جامعي وأصلي جميع الأوقات ولا أشرب الخمر وأحب زوجتي حباً شديداً ، ولكن للأسف الشديد عجزت كل العجز عن الطريق التي أثبت لها بأني أحبها وأخلص لها.

المهم أن زوجتي بدلاً من أن تستفيد من المدة التي قضيناها مع بعضنا وتتدعم علاقتنا إلي الأقوى ، فالذي يحدث هو العكس ، حيث بمرور الأيام تزداد حياتنا تعقيداً وأصبحت زوجتي تشاكسني لأتفه الأسباب وتطالب بالطلاق وتتلفظ بألفاظ جارحة ، عندما أسألها عن السبب تقول لأنك غير مخلص لي وأنت مخادع .. وألخ من هذه العبارات ، ولما اطلب منها أن تبين لي الجوانب التي لمست منها خداعي وخيانتي لها تسكت ..

أنا أرفض الطلاق من أجل أبنائي وحبي لها الذي عجزت كما أسلفت عن إثباته لها ، في الحقيقة أصبحت حياتنا لا تطاق فأرجوك أختي أن تهديني إلي الطريقة التي أقنع بها زوجتي بعد فشلي في ذلك كي أبعد شبح أبغض الحلال عند الله عن بيتي وأعيد حياتي مع زوجتي إلي مجاريها وإلي مسارها الطبيعي الذي يجب أن يكون والذي عليه كل رجل وامرأة سعيدان علماً بأني أسكن في بيت هو ملكي الخاص ، وأملك سيارة ، وأنا موظف ومتعلم أي لا ينقصني إلا السعادة الزوجية عن طريق زوجتي التي أتمني من كل قلبي أن تفهمني وتبادلني نفس العواطف والأحاسيس ، فهل أطلقها ؟

نحن لن نختلف معاً في أنك تحب زوجتك حباً جماً ، ولكن .. هل تعرف كيفية التعبير عن هذا الحب الكبير ؟! .. أم أنك تقنع بحفظه وتخزينه في سرداب قلبك الكبير ، ثم تغلق عليه .. وتفقد المفتاح ؟!

عزيزتي …

هذه ليست مشكلتك أنت وحدك . وإنما هي مشكلة الكثير من الناس الذين يفيضون مشاعر .. ومع ذلك لا يعرفون كيف يعبرون عن هذه المشاعر !!

النوايا الطيبة وحدها لا تكفي . المهم الفعل والعمل ، المهم التعبير ، الحب وحده هنا لا يقدم ولا يؤخر . فحاول أن تخلق الفرصة المواتية للتعبير الحقيقي الملموس ، ولا تقنع بالصمت فقط … بل يجب أن تتكلم . تعبر عما تحس وتشعر . أن تفصح لها عما بداخل نفسك ..

أخيراً …….

أدعوك أن تعيش ذكريات الحب من جديد . وأن تقارن بين حاضرك وماضيك بصدق . وأن تكتشف الفرق لتعمل على إزالته وأبادته .. كي تعود من جديد ذلك الزوج المحب العاشق الولهان .. الطلق اللسان .

حينئذ ستنسي زوجتك كلمة ” طلاق ” وستسعد بزمانها معك . بل ستحسد نفسها على حبك وتقديرك لها .. فأكثر من عبارات الحب والوجد ، وزدها من كلمات الهوى والهيام .. ولا تنسي ” الدوى على الآذان يفعل فعل السحر “.

الحمراء والسوداء !

أنا امرأة جاوزت الثلاثين بقليل ، متوسطة التعليم ، لي ستة أخوة وخمس أخوات كلهم خريجو جامعات ما عداي أنا التي عشت الحياة ببؤس وشقاء منذ تركت دراستي وأنا طفلة وعشت مع أخي الطبيب وربيت أطفاله وكنت لهم جميعاً الأخت والأم والأب والخادمة ، أحببت أحد أبناء بلدي وتزوجته بموافقة الأهل ولكن مع مرور الأيام أكتشفت أن حبه لي كان قد ولي وذهب وتخلي عني ، طلقني وتركني للعذاب والألم ، ومن خلال الأيام التي عشتها بحرمان من كل شيء أحببت مرة أخرى ولكن الأهل لم يقتنعوا بمن أحببت رغم أنه ذو مركز جيد ، وحاولت الهروب من نفسي وتركت أهلي وبلدي وسافرت للعمل رغم أن المرتب قليل لكي لا أمد يدي لأهلي وعدت في إجازتي والتقيت بالذي أحببته ، وفي لحظة ضعف نسيت نفسي وضميري ، نسيت حتي أهلي ومعتقداتي ، وعدت من جديد لعملي ومضي على شهران اكتشفت أني حامل وحاولت المستحيل لكي أجهض نفسي دون جدوى فادعيت أنني عدت لزوجي .. لم يكن بيدي أي شي وأكملت التسعة أشهر وعدت لبلدي ومن خوفي لم أذهب لأهلي والتجأت لعائلة كريمة وولدت عندهم وتركت البنت التي ولدتها يربونها وعندما عدت لأهلي أخبرت الذي أحببته بكل شيء فرفض حتى سماع ما أقول : فهمت على وجهي من جديد للعمل لكي أعيل ابنتي التي رفض والدها أن يعترف بها وأنا اليوم أصبحت أخاف أن يعلم بها أهلي بعد أن أصبح عمرها سنتين ونصف السنة فلا أستطيع الظهور معها وعندما أذهب لأراها تتعلق بي مما يزيد عذابي وهي كل حياتي ووجودي ، وعندما أفكر بها يتقطع قلبي وتتعثر أنفاسي فكيف ستعيش ابنتي في المستقبل دون أب يعطيها اسمه أنا أعلم جيداً أني أخطأت وكان خطأي فادحاً ولكن ماذا أفعل لابنتي لقد عجزت عن كل شيء ..

عزيزتي …

أنت مغذبة بلا شك ، ومشكلتك حلها الوحيد هو الشجاعة وتعريض نفسك لضراوة التضحية ، ومواجهة أهلك ومجتمعك في سبيل ابنتك ..

لك أن تختاري بينك وبينها ، فأما محاربة حتى الموت مع ذلك الرجل الجبان كي يعترف بأبوته لها ، أو صمت حتى قاع العذاب ، والتضحية بها ، بتلك المظلومة الصغيرة التي تجهل حقيقتها .. وكيف دلفت إلي دنيا الجحيم !!

من رأيي أن تحاربي الخوف في نفسك .. لتحميها من عذاب وضياع العمر كله ، وكي لا تعيش لقيطة بلا نسب ، تنتظرها حياة الليل الحمراء والسوداء بعد أن يلفظها المجتمع ككل .. فلن يضمها بيت ، ولن يقبل بها إنسان !

ولعل ما حدث لك يكون درساً واضحاً ، لكل الشباب من الجنسين ، حتى لا يأتوا بالمزيد من أمثال هذه الضحية البريئة ، التي ستدفع عمرها كله ثمناً باهظاً للحظة لذة عابرة لم تتعد دقائق قليلة …

 

 

 

 

نظارة !!

أنا شاب ناضج وأعرف كيف أعالج الأمور ، لي اللسان ، أستطيع الحصول على كل ما أريد بدبلوماسية وحلاوة لسان ، وبعد لعب وضياع مدة ثلاث سنوات قررت أن أبحث بجد عن فتاة لتكون لي “زوجة ” ولكن كلما تعرفت على واحدة وربطتنا علاقة قوية وصار ما صار من رسائل وخروج وقبلات حتى أنه تسلم لي نفسها بكل بساطة وبعدها احتار .. هل تصلح زوجة أم أنها فقط للتسلية .. كلهن .. كلهن تقريباً يتمنين الخروج معي ومستعدات لقبول الزواج مني ، لكن كلهن “حفيفات ” وهذا الصنف لا أستطيع الزواج منه .. لا أستطيع … فما هو العمل ؟

لقد تعقدت ، كلهن في نظري سهلات الصيد .. فكيف إذا تزوجن ؟

هذا هو أبسط عقاب يمكن أن ينزله بك الله جزاء على تعديك وعبثك ببنات الناس !

وإليك هذه الحقيقة المعروفة .. من يثق في نفسه يثق بالناس .. وشاب مثلك لا يمكن أن يثق بامرأة مهما كانت ، قبل أن تنصلح أفكاره ويصحو ضميره .

أنت ، لأنك تفعل هذه الأشياء ، تبحث لا شعورياً عمن هن على شاكلتك ، وتعميك نظارتك الحمراء عن رؤية الأخريات الصالحات ..

والرسول الكريم يقدم نصيحة معناها عفوا تعف نساؤكم ، يوم أن تكف عن هذه الأفعال ، ستعرف كيف تختار ، وستجد من تصد وترد .. وتليق أن تكون زوجة صالحة لك .

فمن غير المعقول ، وغير المنطقي أن كل البنات خفيفات وسهلات كما تقول ، فالمثل يقول : ” أصابع اليد الواحدة ليست مثل بعضها “.

فغير أفكارك يا أخي .. تغير الدنيا وأعلم ( أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) صدق الله العظيم .

 

 

 

 

الرعديد !

أنا امرأة دام زواجي حوالي 6 سنوات لم أنجب خلالها ، تغير زوجي فجأ ، ولا أعرف السبب ، مع العلم أنني كنت ألبي جميع طلباته ، فأهملني وأصبح يسهر خارج المنزل ويأتي في منتصف الليل يشتم ويضرب بدون سبب . بقد تعذبت كثيراً فبحثت عن قلب حنون ينقذني من هذه الحياة ، أنها حياة جحيم لا تطاق أبداُ ولا أستطيع أن أعيش فيها أبداً…

المهم إني وجدت هذا القلب الحنون في شاب تكتمل فيه جميع الصفات فأحببته من كل قلبي أحببته أكثر من زوجي وهو كذلك ، لقد أحبني من كل قلبه ولم أخدعه ، لقد شرحت له جميع الظروف ، وتعاهدنا على الزواج . إن حبنا طاهر وشريف بهدف الزواج وليس التسلية، لقد خرجت معه عدة مرات ولكنه لم يلمسني أبداً ثم طلب حبيبي أن أطلب الطلاق من زوجي لكي نتزوج وتم كل شيء ووافق زوجي على الطلاق وأخبرت حبيبي أني انفصلت عن زوجي من أجله ، من أجل حبي له ، لكنه تغير فجأة ولم أعرف السبب ، وقال لي انتظري قليلاً كي أسأل عنك ، وبعد فترة قال لي أن شاباً قال إن حبيبتك ليست شريفة وأقسم لك بالله العظيم أن هذا الشيء لم يحصل أبداً لأني فتاة من عائلة شريفة ومحترمة .

أنا أكتب لك هذه الرسالة وأنا في مستشفي الطب النفسي ، لقد صدمني صدمة قوية فقد تخليت عن زوجي من أجله وعملت المستحيل لأرضية ولم أعرف ولم أحب أحداً غيره ، ولكنه لم يقتنع ، لقد تعذبت وامتنعت عن الأكل وعن الشرب وعن الناس وعن العمل لأني أشتغل موظفة ، لقد تركني أقاسي العذاب المر الذي لا يطاق أبداً بعد أن حطم حياتي ، وقد طلبته الباحثة الاجتماعية التي في المستشفي وقالت له كل شيء لأن الحل بيده هو فقال  لها لا بد أن ننفصل نهائياً قالت له الباحثة لقد ضحيت بحياتها من أجلك قال إذا تزوجنا قد تحب غيري وتطلب الطلاق مني كما فعلت مع زوجها ، أنا على وشك الموت وما زلت في المستشفي أعاني من العذاب والمرض وأرجو أن لا تقولي أنسيه لأني لن أستطيع أبداً مهما عملت لأني أحبه . أرجو الحل بأقرب وقت ممكن واعذريني لأني طولت في الرسالة ولك مني تحياتي …

إذا لم اقل لك أنسيه … هل تتصوري أن هناك حلاً ، أخر ؟! شاب بهذه النوعية لا أمل منه، أنه كان يريد أن يلهو معك ويتسلى بك ، مطمئناً آمناً من تحمل أي مسؤولية ، لأنك امرأة متزوجة ولن تطالبيه … بالزواج ..

ولكن … عندما أراد يشعل نيران حبك أكثر كذب وطلب منك الطلاق من زوجك ليتزوجك .

وكانت هذه هي الخدعة التي انطلت عليك ، والتي صدقتها بقلبك الطيب .. ولذلك أحس بالخوف والفزع ( وتغير فجأة) كما قلت لأنه جبان لا يتحمل مسؤولية قول أو فعل !!

صحيح يا عزيزتي .. لقد نجح تماماً في تحطيم حياتك الزوجية ..

ويجب أن لا تدعيه يفلح أكثر وأكثر في تحطيم حياتك الذاتية .

قاومي مرضك ، وعودي إلي عملك .. وابحثي هناك عن ذاتك .. وإن شاء الله ستجدينها ، بعدما تنسين هذا المخلوق الرعديد الذي لا يساوي قيمة كلمة تافهة . أو دمعة باهتة ..!!

فتحملي هذه الأزمة .. وصممي على أن تعبري تلك الفترة بقوة وشجاعة ..

واختصري مدتها بإرادتك ، وأعلمي أن الإنسان يعني الإرادة والشجاعة فتجلدي .. قلبي معك..

هدية !!!

أنا شاب في الرابعة والعشرين من عمري .. علي أبواب التخرج من الجامعة.

حياتي هادئة ..مع العلم أني أملك من المشاغل والهموم الكثير .. أحب فتاة بين خمس أخوات .. أتساوي معها في الدراسة والمشاعر تقريباً .. وهذه الفتاة قريبة لي جداً .. واعتقد أن هذا هو السبب في مشكلتي .. حيث حاولت عن طريق أخت لي ” طيبة وعاقلة” أن تفهم حبيبتي ما في قلبي نحوها .. وقد بذلت شقيقتي قصاري جهدها في محالة إفهامها ما في نفسي تجاهها.. والحمد لله نجحت في ذلك بسبب ذكائها وبراعتها..

ولكن المشكلة ليست هي .. بل صارت المشكلة أو المفاجأة بالأصح .. عندما اشتريت هدية متواضعة .. وقدمتها إليها .. عن طريق شقيقتي .. ولكن مع الأسف فوجئت بما لم أتوقعه .. حيث رفضت الهدية بسبب أنها لا تريد الارتباط الآن .. وهذا لا يعني أنها ترفضني أبداً لأني متأكد من مشاعرها نحوي ولكن بنفس الوقت خائف أن يكون في نفسها شيء لا أعلمه أكثر مما أخاف على نفسي..

أرجو أن تخبريني يا عزيزتي .. عن الطريق الذي أتبعه لكي أضع يدي بيدها ولو نتزوج هذه السنة .. ولكن المهم أن أضمنها وأتأكد بأنها تقبلني .. ولا تفضل أحداً على وشكراً ..

 

أتعرف يا أخي ما هي أحسن هديه قدمتها لك فتاتك ؟! .. حسناً .. سأخبرك أنا . أحسن هدية هي رفضها لتلك الهدية التي أرسلتها لها فلو كانت قد قبلتها منك لكان ذلك دليلاً على أنها فتاة طائشة أو مادية لا تحسب ولا تزن خطواتها وتصرفاتها.

أحمد الله على أن تصرفها جاء هكذا عاقلاً .. أديباً رزيناً .. فهي لا تريد أن تتورط في أشياء أو مواقف تشينها أو حتى تحرجها . فحافظ عليها ، ولا تقلق فهي تحبك وتريدك ، ولن ترفضك.

اطمئن .. وهدئ نفسك هذه السنة الباقية على زواجكما وقدر ظروفها ، ولا تزعجها بالهدايا ، فيكفي أنها هي نفسها .. أحسن هدية …

 

 

 

بلا مقدمات

عرفته منذ أربع سنوات وأحببته حباً كبيراً ، وأعطيته من وقتي ومن نفسي ومن مالي فأحب كل شيء في أو هكذا أوهمني في أول سنتين من تعارفي به . جعلني أسعد امرأة في العالم ، جعلني أحس بأنوثتي وكنت بالأول كثيرة التزمت معه حتى بقلبي ، فأصبحت قوتي عليه ضعفاً ووهناً ، وعندما أحس أنه هو المسيطر بدأ يعذبني ، ورضيت ، لأن حبه أصبح يملأ قلبي وعيني حتى أعماني عن رؤية حقيقته فتحملت وصبرت . بالصدفة اكتشفت أنه متزوج ولديه أطفال فصعقت وتمنيت موتي ، كيف خدعني ؟ وفوق كل هذا كان حيه الأقوى وابتعدت وبقلبي شرخ هيهات أن يزول .

ولكنه استطاع أن يقنعني بأعذاره وفعلاً رجعت ومشيت بدربه في النار حتى أحرقت نفسي . فقد نذرت عمري له مع أني أعرف سوء أخلاقه ولكن ماذا أفعل فالحب بقلبي بلغ ذروته واستمرت معه وكانت في عقلي فكرة تسيطر على لأني ما زلت أحبه بأن أحاول المستحيل لإصلاح وإرجاع ثقته بنفسه.

وفي يوم أتاني بلا مقدمات قال لي أنه يريد أن يتزوجني فلم أصدق أذني ، طلب مني هذا الشي بعد أن طلق زوجته ودخلت بيته زوجة وعشت معه ، ورأيت ويا لهوي ما رأيت ، صرت أري كل شيء على حقيقته فلم أعرفه .. هذا الإنسان أعطيته دم عمري لا يريدني لشيء وإنما يريد مالي الذي أتقاضاه من الوظيفة وأغلق على جميع الأبواب لا أخرج .. لا أتكلم .. لا أضحك .. وهو لا يشبع ، يريد كل شيء له حتى المال الذي يعطيني إياه والدي ، وصار يأخذ كل شيء ، ومن يومها أصبحت عيشتي معه هي العذاب وبدأت أفيق بذهول من حبي وهو لا يكف عن الضرب والإهانة وليتني فوق كل هذا أري منه شيئاً طيباً .. ومع الأيام أنجبت طفلاً وقلت بنفسي أنه يمكن أن تتغير طباعه ولكن لا فائدة . ولمشكلتي هذه بقايا كثيرة فأنا ذكرت بعضها لتري الحل المناسب وأرجوك يا أختي كريمة الرد بسرعة ولك جزيل الشكر ….

هناك أناس يستمرثون العذاب ، ويتلذذون بالقسوة ، ويستهويهم السهر والقلق والسهاد . هؤلاء الناس يعتقدون أن الحب الحقيقي ، هو الحب القاسي ، أي كلما قسا المحبوب عليهم ، وكلما عاملهم بعنف وسخف ، وكلما أتقن تعذيبهم وتفتن في جرح إحساسهم وامتهان كرامتهم .. كان ذلك دليلاً على عمق الحب وقوته وسطوته !!

.. تقولين حبه أعماك عن رؤية حقيقته .. وتقولين : وبالصدفة اكتشفت أنه متزوج ولديه أطفال .. ولكنه استطاع أن يقنعني بأعذاره .. وفعلاً رجعت ومشيت بدربه في النار حتى أحرقت نفسك ..!!

.. وكانت النهاية الأليمة عندما دخلت بيته المقوص الأركان ، المهدم المحطم .. فوق بقايا زوجة وأشلاء أطفال !!!

نعم … لقد كنت سبباً مباشراً في هدم أركان هذا البيت وفي تشريد تلك الأسرة ، سواء كانت سعيدة أو تعيسة .. لا تحاولي أن تنكري أنك ألححت عليه بدل المرة عشرات المرات ليتزوجك ستراً لما كان بينكما ، وتتويجاً لعلاقة ما .. استمرت أربعة أعوام متتاليات !!!

لا تحاولى إنكار دورك الهام والمؤثر في إفساد العلاقة بينه وبين زوجته ، ولا تظني أبداً أنه قد فاجأك بطلب الزواج ” بلا مقدمات ” كما تقوليين .. لقد كان لهذا الطلب مقدمات ، وخلفيات .. و .. و ……و …

عزيزتي …

بعض الناس قد يتصفون بصفات سمحة طيبة ، تتيح لهم القدرة على تقدير ظروف الآخرين ، وعلى الإحساس بإحساسهم .. وهذه الصفات الحلوة منبعها الأساسي هو الحب العميق ، الحب الصادق الأصيل .. وليس الأنانية أو الرغبة في التملك ، وإيثار النفس عن باقي خلق الله.

لقد سلبت زوجة زوجها ، وحرمت أطفالاً من والدهم ، طمعاً في مزيد من الحب ، بحثاً عن الشرعية والاستقرار ، حلماً في بيت هانئ وديع يضمك ورجل تحبين وتعشقين … دون أن تقدري ظروف أهل هذا البيت.

فكان أن أصبح البيت سجناً مقيتاً ، يسلبك حارسه القاسي القلب إنسانيتك وكرامتك ومالك وعزة نفسك وشخصيتك ..

وهذا ما جنب يداك .. ويا للأسف لقد أضفت إلي عناصر المأساة عضواً جديداً ، طفلاً رضيعاً لا ذنب له فيما حدث أو يحدث ، وإنما ذنبه أن أمه أرادت أن تجعل منه أداة تغيير نحو الأفضل !! لكنها للأسف نسيت أن الزوجة السابقة كان لديها الكثير من تلك الأدوات الآدمية .. والتي لم تجد نفعاً .. فأرجوك لا تحاولي إنجاب المزيد رحمة بهم وبك ..

الحل المناسب ..

هو أن تصبري على ما ابتليت نفسك به ، فعسي أن يتغير ، فإن لم يفعل فانتظري حتى يلتقي وأخرى أكثر منك مالاً وجمالاً .. وبعدها سيصبح من السهل عليك أن تغادري حياته بلا مشاكل .. كي تحتلها زوجة أخري ربما يكون قد تزوجها بنفس الطريقة …. بلا مقدمات !

الحب في بلدي

أنا أهوى

أجل أهوى

وحبي فاقد السند

لأن فوارق الأديان

والطبقات في بلدي

لأن قيود مجتمعي

لأن رواسب الأبد

تحطمني

كأن الحب في كبدي

على قصد وعن عمد

أتت أمي تكلمني

تقول بنيتي مهلاً

يراك الناس يا بنتي

فتاة باعت العقلاً

ولم تسمع لوالدها

وترعي في الهوي الأهلا

أطاعت نبض خافقها

أطاعت حبها الضحلا

وكان الحب خداعا

وكان القيد منحلا

ولم تدر مكلمتي

بأن الحب قد كانا

مع الأحباب ريحانا

سقيناه رعيناه

حفظناه بتقوانا

فلما شب عن سبع

قضيناها بنجوانا

أردنا جمع شملينا

على تشريع مولانا

فثار الناس في بلدي

وكان الغيظ بركانا

وجاء أبي يكلمني

بغيظ كان يلعنني

ويلعن حبنا السامي

يظن الحب يخدعني

ولكني أري عجبا

فحيناً كان يحضنني

بعطف إذ يكلمني

فأدري أن مقده

ألا ليت الهوى بيدي

وأدري أنه يخشى

كلام الناس في بلدي

ويؤلمه بأن أهوى

وقلبي غير منسعد

فيبقي الحب في بلدي

قعيداً فاقد السند

لأن الفارق الطبقي

لأن رواسب الأبد

تحطمه

تحطمني

كأن مصير قلبي

لم يزل بيدي

د. كافية رمضان

رجل وامرأة

مشكلتان توأمان كل منهما تبحث عن رفيق الدرب العزيز وشريك العمر الحبب الذي يسعد النفس أن تمضي معه راضية لحظات حياتها …

كانت مفاجأة أن يحملها البريد لي معاً ..

صادقتان عفويتان نابضتان بالوحدة والأسى والضياع ..

فأمضيت لحظات مشحونة بالانفعال مليئة بالأحاسيس .. فإحداهما تنقل معاناة رجل وثانيتها تحمل معاناة امرأة..!!

أدعكم الآن تقضون بضع دقائق معهما .. وفي النهاية .. سأترك الرأي لكم .. ولهما !!!!!

أين هي  !!

لقد ولدت والعذاب والشقاء قدر مكتوب علي .. لم أذق السعادة أو الراحة أو الأستقرار طعماً .. تغربت في بقاع الأرض وعشت مجتمعات عديدة ومختلفة !

اليوم عيد ميلادي الثاني والثلاثون ومع ذلك أردد ” ليتني لم أري هذه الحياة “.

الفراغ والوحدة .. وحش يفترسني ينهش أعصابي بلا رحمة .. حياً أعيش بين الأموات الأحياء الذين فقدوا كل الأحاسيس بعذاب الآخرين .

النوم …. البسمة … الطعام … أمنيات أشتهيها .. أنواع الأدوية المعسولة المهدئة تنخر جسدي ولكن لا فائدة ترتجي .. أطباء العصر الأفاضل تشخيصهم  ” الزواج .. الحل الوحيد لأزمتك النفسية ” وضحكت كثيراً في أعماقي .. الزواج نعم .. ولكن أين هي ؟؟ لقد اختفت ” بنت حواء أصبحت أسطورة أرددها ليل نهار”.

ومع الأيام بدأت حالتي النفسية تزداد سوءاً مما بدأ يؤثر على عملي ، علماً بأنني ” أشغل مركزاً جيداً ووضعاً مادياً جيداً “.

كرهت نفسي وأهلي وأصدقائي وكل العالم .. الظلام الدامس يغلق أيامي .. جيوش اليأس تقرع طبولها في أعماقي .. وفجأة كان بصيص شمعة .. ليتها لم تتقد “.

تعرفت عليها .. أجنبية تعمل في إحدى الشركات التي أتردد عليها .. وبين الأخذ والعطاء .. وسلام وكلام . بدأت خيوط من العلاقة تنسج حولنا ، ولم أرد أن أطيل الوقت أو المماطلة فطلبت منها الزواج .. هل تسمعونني يا سادتي الأطباء ” علاجكم الزواج “.

ولم تمانع مبدئياً بشرط التفاهم على نقطة بسيطة وهي ” أختلاف الدين ” وشرحت لها موقف ديننا الإسلامي من هذا الشأن ولكن وجهة نظرها مصيبة كبري ” لا يمكن ذلك .. إذا تريدني …. وتجعلني في موقف قوة حتى يوافق أهلي هو أن تترك دينك وتعتنق ديانتي “.

وعدت أجـر أذيال الخيبة والألم واليأس ” من ليس له حظ في هذه الدنيا لا حق له أن يعيش “.. فعدت إلي الفراغ والوحدة القاتلة وكان السؤال الكبير يطرح نفسه بواقعية مريرة .

هل أستمر على موتي البطيء ؟ أم أترك ديني ؟

وكلاهما حرام … حرام … في حرام ؟!

سيداتي … آنساتي سادتي .

لا أريد حلاً .. بل أريد كلمة حق !!

أين هو ؟؟؟!

قبل عامين خطبت لشاب يكبرني بسبع سنوات .. أنا من عائلة محافظة معروفة بالأصل العريق . في البداية رفض والدي هذا الرجل بسبب اختلاف الأصل ، ولكن فجأة حصلت على الموافقة وهذا نصيب.

ولم أشعر بحب أو ميل نحوه لمدة شهرين تقريباً ، وبعد شهرين أحببته لأنه عاملني معاملة طيبة ، والحقيقة أم مدة الساعتين التي كان يتقضيها معي كل يوم لم تظهر لي حقيقته.

لم يكن زوجي وسيماً ، وقد استغربت جميع صديقاتي كيف أوافق على رجل مثله ، ولكني لم أكن أهتم بالشكل قدر اهتمامي بالأخلاق الحسنة ، فأنا لم أكن أؤيد ولم أكن أشجع الزواج الذي يسبقه حب .. فالحب والتفاهم يأتي بعد الزواج.

وبعد أن انقضي شهر العسل ، مرت الأيام بيننا . رأيت في زوجي أشياء لم أتوقعها منه أبداً ، مثلاً بدأ يشتمني بأقذر الشتائم أمام الجميع ، ويضربني ضرباً مبرحاً لأتفه الأسباب . وعشت في عذاب مستمر ، غيرة شديدة وشك أشد ، وحاولت جاهده أن نعيش في سعادة ونعيم ولكن لم أستطع .. مع الأسف كان أنانياً جداً قاسي القلب لا يرحم .. معاملته لي جعلتني أنفر منه .. وسألته مرة لماذا تزوجتني قال لي : لكي تحمي شرفي وكرامتي وتكوني أماً لأولادي.

كنت أعلم أن زوجي يحبني ، ولكن أي حب هذا الذي لم أشعر به إلا عند النوم حين يكون سكراناً فيقبل قدمي ويدي ويقول أنا قاس معك يا حبيبتي أرجوك تحمليني.

أن زوجي لم يجعلني أشعر أنني زوجته التي تشاركه أفراحه وأحزانه والمثل يقول ” اللي ينعاف أوله ينعاف تاليه ” فطلبت الطلاق وصممت عليه .. شتمني بأقذر الشتائم وقال أنا أعلم أنك لا تحبينني ولكني سأعملك لك عمل ” أسمرك ” خيالي لن يفارق وجهك وتفكيرك سيظل معلقاً بي .. وستندمين .

وطلقني .. ما أصعب هذه الكلمة وما أقساها وأنا ما زلت في العشرين.

أختي كريمة .. لا تتصوري مدي التعاسة التي أعانيها منذ تزوجت وحتى الآن .. ورغم أنني عدت لدراستي في الجامعة إلا أنني لم أعد أستطيع التركيز أثناء المذاكرة ، ولا أسمع كلمة واحدة من المحاضرة.

أفكر في حياتي ، في نصيبي ، في قدري ، في مستقبلي الضائع ..

وأحزن .. قررت أن أحب وأن أتزوج عن حب .. ولكن … أين هو الرجل الذي سأحبه .. ومن هو ؟!

وكيف أحب ؟ هل أحب أول رجل أعجب به أو يعجب هو بي ؟!

أنا أريد رجلاً بكل معني الرجولة يغمرني بحنانه وبعطفه وسأهبه حياتي وعمري وأضحي من أجله بكل شيء .

فقلبي يحمل الحب والخنان لهذا الرجل المجهول الذي أنتظره ليكون شريكاً لحياتي وأباً لأطفالي.

أبحث عن الاستقرار والحياة الهادئة فقد ضقت بحياتي الراكدة التي أقضيها بين أربعة جدران .. وحيدة داخل غرفتي !

عزيزي .. عزيزتي ..

هذا كلام مقنع جميل يسري ليس على الرجل وحده ، وإنما يسري على المرآة نفسها . فالمرآة إنسانة لها آدميتها تماماً كالرجل .

وأنا معك ومعها .. أؤيدك في إحساسك كرجل عبر مشكلتك ” أين هي ” وأشعر بإحساسها كامرأة عبر مشكلتها ” أين هو ؟! ” فيتنازعني لذلك ألم طاغ يتمزق له قلبي .. ولذا أعاني أحياناً من كآبة ساحقة توشك أن تهدر مرحي وتبيد لهجتي لكثرة ما أعيش العذاب مع تلك الرسائل التي تأتيني .. طافحة بالألأم صارخة بالأسى.

فلماذا لا نذكر جميعاً أن أول مبادئ الإسلام هي أن يستخدم الإنسان عقله ويفكر بتمعن في ما حوله من أشياء .. ومشاكل بمنتهي الحرية وبمنتهي الصدق ؟!؟

ونحن لو عدنا إلي الوراء بذاكرتنا ، لو تجاوزنا ثلاثة عشر قرناً من الزمان لوجدنا أن حياة المرأة بل والرجل في أيام الرسول محمد صلي الله عليه وسلم كانت أكثر إنسانية وأكثر آدمية ! نعم .. هذه حقيقة.

ولذلك أتصور هذا سبباً مقنعاً ودافعاً أكثر إقناعاً لك ولها ولهم ولهن ولي .. كي نبدأ بكشف وإزالة الغموض عن الأسباب التي تسلب المرأة آدميتها وإنسانيتها . بل تسلب الرجل أيضاً !

وأترك ” أين هو ” و ” أين هي  ” أمام أعين القراء فهي أمانتنا جميعاً رجالاً ونساء .. آباء وأمهات ، نفكر ونقلب الأمر علنا نهتدي إلي الحق والصواب .. وهذا هو الحل.

الفأر !

أنا فتاة كبيرة في السن ، ضاعت مني فرصة الزواج لتقدمي في العمر .

لدي مشكلة بل مصيبة من أكبر وأعظم المصائب التي تواجه أي إنسان ، فأنا يا أختي قد تعرضت لاعتداء من شخص مجهول وفي مكان مجهول ، صدقيني أنا لا أبالغ ولا أكذب عليك ولكن هذه هي الحقيقة بعينها لأن الشخص لا أعرفه والمكان أخذت إليه دون أن أراه أو حتى أتعرف عليه وهناك حدث الذي حدث ، ولم أعرف كيف أتصرف ولا ماذا أفعل فأصبحت حاملاً من ذلك الشخص ولم أبح بأمري لأحد من أهلي لسوء علاقتي معهم ولأنهم قساة بمعني الكلمة.

ولذلك وجدت نفسي أصبر وأتحمل وأحاول الذهاب للأطباء المتخصصين لمثل هذه الحالات ، لهذا تحملت حتى وضعت الطفل ميتاً ثم وجدت بعضاً من الراحة ، وكل هذا لم يعلم أحد بأمري سوي صديقتي الحميمة جداً ولكن بعضاً من الشكوك كانت تدور في رأس أهلي ما برحت أن ذهبت أدرج الرياح بمجرد الانتهاء من العملية كلها ثم عدت لحياتي العادية فإذا بي أجد وحشاً آخر يقف عثرة في طريقي حياتي هو أحد أقاربي وقد حاول معي أكثر من مرة بحجة أنه يحبني ، تصوري ، ويريد اللهو معي علي هذه الطريقة ، وقد كرر لي أكثر من مرة بأنه يحبني ويريدني لنفسه فقط ولا أستطيع أن أبوح بهذا الأمر لأهلي لأنهم لن يفهموا ذلك خصوصاً وقد حاولت سابقاً ولم أفلح بل تعقدت المسألة جداً علماً بأني فتاة عادية لا ألفت النظر ولا أقوم بأعمال الإغراء ولا حتى أفكر فيها مطلقاً مع أي أحد فكيف الحال مع أقاربي ؟. ى أعرف كيف أتصرف وأنا خائفة جداً ومشتتة التفكير وأري الدقائق أمامي سنوات تمضي دون الوصول إلي حل ، وأنت تعلمين حالتي فأنا لست عذراء بعد المرة الأولي من ذلك المجهول والآن قريبي ، وأخاف قريبي ، وأخاف أن أدخل عناصر جديدة في الموضوع خوفاً من الفضائح التي ستكثر وتصبح كلها عائدة لي ولأسرتي ولا أريد القضاء ولا الشرطة لأن الموضوع لن يفيدني بشيء .. أخيراً أود أن أطلب منك طلباً وهو ألا تهملي رسالتي هذه لأني حائرة ويائسة وشديدة القلق وقريباً سوف أصبح مجنونة تماماً من كثرة الهواجس التي أحسها ، ثم إني فتاة على مستوي تعليمي لا بأس به وأنا كبيرة ولست صغيرة لكي أبلغ أو أتخيل اشياء لم تحدث ، فصدقيني يا أختي كريمة أن هذه هي المشكلة بواقعها الأليم على فأرجو منك مساعدتي وسأرضي بالحلول التي يمكن أن تحل هذه المصيبة المعقدة.

لقد صدقتك عزيزتي .. وها أنا أبحث في مشكلتك كما تطلبين وإن كان أكثر ما يحيرني في تلك اللحظة هو أحاسيس الخوف الشديدة التي تحسينها الآن .. فكيف يحدث لك ذلك؟!

فأنت كبيرة في السن كما تقولين .. وعلى قدر لا بأس به من التعليم ، فكيف بالله تشعرين بكل هذا الفزع من قريبك الجبان .. والأجدر منك بالخوف والقلق ؟! قفي وجهه ، وعامليه بقسوة وشجاعة واعلمي أنه سيهرب كالفأر ولن يعاود محاولاته الدنسة معك.

وغذا كان الخجل يمنعك من مصارحة أمك لقرابتها الوثيقة بهذا الرجل .. فكري في إبلاغ أخيك وشرح هذه الظروف له ، فهو حتماً سيساعدك وسيقف إلي جوارك ، وسيكون أكثر فهماً لك.

وإن كنت أخشي أن يكون ذلك الرجل القريب لك هو نفسه الذي ارتكب معك تلك الفعلة الشنيعة القذرة ، ولهذا يصر على ملاحقتك ومطاردتك بلا هوادة.

طبعاً هي مجرد شكوك لا أكثر ، ولكني أخبرك فقط لتأخذي الحيطة والحذر ، ولتكوني قوية الشكيمة وتواجهي الواقع بصلابة حتى تطردي عنك ذلك الوحش الآدمي ، حتى ولو استعنت في ذلك بصديقتك الحمية جداً .

أخيراً .. حذار من الخوف المستمر فهو يستهلك الأعصاب ويجلب المرض ، فاجتنبيه هو وتلك الحيرة اليائسة .. والله معك.

جمرة الثأر ..!

كانت البداية حين علمت أن هناك شابا يغازل أختي واستطاع فعلاً أن يوقعها في حبه وأن يطلع معها ، في كل مكان دون علمي .. فصممت على أن أحاربه بنفس السلاح.

فهو له أخت جميلة تصغرني بحوالي ثلاث سنوات .. كنت أعلم أنها تحبني بعنف ولكنني لم أكن أستطيع أن أفكر فيها أو أرد على إعجابها بي حتى لا تشغلني عن دروسي وأنا طالب في الثانوية العامة .. ثم تقدم هذا الشاب ليخطب أختي .. ووافقنا جميعاً رغم عدم استطاعته تحمل مسؤولية الزواج .. وكنت أنا أول المتحمسين لأن يقف معه حتى يكون على المستوي اللائق … وساندته .. وعاونته .. ووقفت معه كثيرا .

كان من الممكن أن ينتهي حب الأنتقام داخلي لأنه دخل علينا من الباب .. ولكنه كان دائماً يذكرني بخيبتي .. بعدم استطاعتي التحكم في خط سير أختي .. فمثلاً يردد لي باستمرار تلك العبارات .. هنا كان لقاء مع أختك .. وهنا وعدتني ولم تجيء .. هنا .. وهنا .. وهنا !! كانت كلماته يا عزيزتي تمزقني ، تشتتني .. فأزداد عزمي وتصميمي على أن أحاربه بنفس سلاحه .. وكانت أخته بالنسبة لي صيداً سهلاً .. وأحبتني تلك المسكينة بسهولة وهي لا ترعف ما يدور في ذهني .. وتعلقت بي بجنون غريب .. كانت مستعدة أن تضحي بكل شيء .. وأن تفعل أي شيء حتى تنال رضاي .. أما أنا فلم أكن أحمل لها في قلبي أي شيء .. إلا رغبة انتقامي من أخيها .. وتمنيت أن يعلم الناس بعلاقتي بها حتى أرد شرفي وكرامتي .. وليتني ما فعلت !! ليتني ما فعلت !! ليتني !!

فقد رسمت خطة محكمة التنفيذ يعلم أخوها أنه وقع في المحظور وفي نفس المصيدة وجاء وقت التنفيذ !!

وعلم أخوهما بكل شيء .. وثار .. وثار …. وثار !! يومها أحسست ما في داخلي ينفجر وينهرني ويهزني هزاً عنيفاً !!

وعاتبني ضميري بشكل غريب .. وقلت ما ذنب المسكينة في صرعي مع أخيها !

وبرغم أنني وقتها لم أكن على استعداد للزواج أو حتى لمجرد الخطوبة إلا أنني تقدمت- بمفردي – لوالدها المنفصل عن والدتها لكي أقرأ فاتحتها ولكن حدث بعدها شجار بسيط بيني وبينها لعدم التزامها بالزي الشرعي .. وتركتها لفترة طويلة .. أعترف أنني أخطأت في تركي لها .. لأنها لم تكن تعمل أي شيء إلا إذا قلت لها رأيي فيه ، فهي قد تعلمت كل شيء على يدي .. وفي هذه الاثناء .. تقدم لأمها شاب ليخطبها وبدون علمي أو أخذ رأيي وجدت الفتاة موافقة .. بعدها أحسست بشيء عظيم يسري في كياني يقولون عنه أنه الحب .. ولكنني لم أستطع أن أتحمل هذه الصدمة فسافرت وتركتها تعيش حياتها كما تريد.

وبعد سفري أرسلت رسالة تخبرني فيها أنها قطعت كل ما كان يربطها بخطيبها وطلبت العودة إلي .. والحق يقال يا سيدتي لقد رفضتها ..

رفضتها بشدة وعاتبتها عتاباً شديداً .. لأنها وافقت على الخطوبة من البداية .. كانت رسائلها لي كثيرة .. ورسائلي لها قليلة جداً وكلها كلمات مسممة .. ولكنها فجأة انقطعت عن مراسلتي واندهشت لذلك .. فطلبت من أحد أصدقائي أن يخبرني عن السبب .. فكانت الصدمة .. أنها بدأت تسير في طريق الخطيئة بسبب عنادي معها بعدما مرضت دون علمي مرضاً شديداً ..

فأرسلت لها رسالة حتى أنقذها من هذا الطريق الخاطيء وطلبت منها أن تنسي الماضي بكل ما فيه ، ولكنها ما ردت على حتى الآن .

هذه هي حكايتي يا أخت كريمة .. إنني أحبها حباً يعجز القلم عن وصفه حباً لو وزع على طبقات الأرض لملأها وبقي منه الكثير .. فماذا أفعل ؟!

فماذا أفعل ؟! أأتنازل عن شيء من كرامتي مرة أخري ؟! أن أتركها للضياع والخطيئة !!

فبالله عليك يا سيدتي .. أخرجيني من حيرتي وعذابي ودليني على الطريق السليم .. أرجوك لا تغلقي آخر باب في وجهي فأنا ما لجأت إليك إلا بعد أن سدت جميع أبواب الرحمة أمامي

لك تحياتي .. وتمنياتي بالتوفيق … والسلام

عزيزي …

اسمح لي أن أكلمك بمنتهي الصراحة …لأقول لك أنك غلطت غلطاً كبيراً لسببين :

أولاً :

غلطت عندما حاسبت نفسك على تصرف أختك حساباً عسيراً ، ونقصت سوء تصرفها من رصيد رجولتك ونخوتك ، فأثار ذلك ضغينتك ، وشوة الحقد نفسيتك .. مما عمق رغبتك في الثأر والانتقام !!!

وثانياً :

عندما أسقطت سطوة انتقامك على طرف محايد ، طرف ضعيف لا حول له ولا قوة ، طرف ساذج بريء ملأ قلبه الحب ، في حين عض قلبك بنزعة الحقد ونزوة الثأر !!

ففعلت بالفتاة ما فعلت .. فضحتها بكل خسة ، ليس أمام أخيها فقط ، وإنما أمام الناس .. كل الناس !!

وكانت المسكينة تجهل ما يحاك حولها ، ولا تعرف ماذا يدبر لها ، ولم تفعل شيئاً أمامها .. غير أن تحبك وتحبك وتحبك .

ثم تركتها ، تركتها ضحية مغدورة لا تقوي على موجهة المجتمع الثائر ضدها ، ولا تفهم كيف تسير أمور حياتها ولا تدرك كيف تتصرف حيال المصيبة التي لوثت شرفها بعد أن عودتها أن تفعل كل ما تمليه عليها .. ” لأنها لم تكن تعمل أي شيء إلا إذا قلت لها رأيي فيه ، فهي قد تعلمت كل شيء على يدي “..

والله وحده يعلم ماذا علمتها يداك .. وماذا فعلت بها يداك . حين استنجدت واستغاثت بك ؟! بعد أن هدمت خطبتها لذلك الشاب ، ورفضتها بكل نذالة . رفضتها ، وصممت أذنيك عن نداء استغاثتها ، وسددت قلبك أمام نحيب لوعتها .. ومضيت في غيك متباهياً بلهفتها عليك .. متجاهلاً احتياجها وشوقها إليك !!

ومضيت .. مضيت تدوس قلبها بقدميك وتستحق كرامتها برد مسموم على رسائلها إليك !!

وفجأة صحا ضميرك .. لكن يا خسارة .. بعد ماذا ؟ بعد أن علقت الضحية قرباناً في بوتقة الثأر المتعفن داخلك .. علقتها جثة هامدة تنهش جسدها العاري الغربان والديدان في دنيا الخطيئة والاسى والأحزان.

ولكن .. شاءت سخرية الزمان أن ترد لك بعض ما فعلت .. فها أنت قد أصبحت صريع هواها وصرت تتمني بعض رضاها . وبت تنتظر بشوق الدنيا رسالة منها إليك .. فلا تكابر .. ولا تعاند ؟! لأنك لا تعاند إلا نفسك ..

فعد إليها .. بسرعة ارجع إليها ، واصلح الخطأ الذي فعلت وبدأت قاصداً متعمداً .. واستر فضيحتها بزواجك منها ، وأمح عارها الذي كشفت أمام أخيها وأمام الناس .. كل الناس !!

ولا تنسي أن تتأكد من الأمر بهدوء واهتمام وتروي .. فقد يكون كلام صديقك عنها مغرضاً هادفاً .. أسوأ الأحوال ومهما كانت النتيجة مشين مهينة .

فحذار أن تتغاضي عن مسؤوليتك الشخصية فيما حدث ، ولتكن محاسبتك نابعة من ذات نفسك ، فقمة الأخلاق أن يكون الإنسان شجاعاً في الحق ، قوياً ضد الباطل ، لا يحسب في تصرفاته لغير الله والضمير حساباً.

وهذا ما وصلت إليه أنت الآن .. بعد أن ندمت كل الندم على ما كان ، وبعد أن أدركت أن علاقة هذا الشاب بأختك كانت صادقة ، وكان هدفها شريفاً ، فهي بدأت بالحب .. وانتهت بالزواج.

على العكس من علاقتك أنت … تلك التي بدأت بالغش والغدر … وانتهت بالفضيحة والعار ، فأصلح ما أفسدت . وأستغفر ربك على ما فعلت عجل ، فخير البر عاجله.

يعود أو لا يعود

أنا فتاة في زهرة الشباب من أسرة محافظة ومقبلة على الدراسة الجامعية . تعرفت على فتي يكبرني بست سنوات وذلك عن طريق الصدفة حيث كان يتعرضني في طريق المدرسة. كنت في بادئ الأمر أتجاهله ولكن مع كثرة إلحاحه وجدت نفسي أقع في شباكه التي كان ينصبها في طريقي ولقد كان في بادئ الأمر شاباً رفيع الأخلاق وطيب الأصل ومثقفاً حيث كان في نهاية دراسته الجامعية . ومع مرور الأيام زاد تعلقي بهذا الشاب وأصبح بالنسبة لي همي الوحيد وهو أملي الوحيد في هذه الحياة ، وكما ذكرت فلقد كان شاباً ذكياً طموحاً أغراني بصفاته الجذابة . ولما علم تمكنه من نفسي وكوني لا أستغني عنه حاول استغلال هذه النقطة ، ففي أحد الأيام عرض على الذهاب معه في سيارته بحجة النزهة وتحت إلحاحه وثقتي به وافقت ، ودون علم أهلي خرجت معه عدة مرات وكان خروجي معه كخروج الأخت مع أخيها . وبعد هذه الفترة زادت ثقتي به حتي أصبحت أخرج معه بدون تكلف أو قيود وكان أثناء هذه الفترة يعدني بالزواج ويقص لي القصص التي ستكون عليها حياتنا في المستقبل والأطفال .

وفي أحد الأيام وبينما نحن نسير في السيارة ذهب إلي مكان مهجور ولم أكن أستغرب هذا وذلك لثقتي به التى تندمت عليها حيث عندما نزلنا في هذا المكان ومع تتالي الأحاديث بيني وبينه والتي كانت عن الزواج والإنجاب فوجئت به يقبلني فذهلت لذلك ولكنه قال لي أن هذا شيء بسيط بين الأحبة وتحت تأثيره على بالكلمات العاطفية الرقيقة فلقد استمر في تقبيلي إلي أن تمادي ولم أعد أستطيع كبح جماحه الذي كان له الدور الكبير في استسلامي له والذي كان قسراً عن إرادتي . وحدث ما لا تحمد عقباه ، علماً بأنني فتاة عذراء وعندما أخذ مطلبه أخذ يتأسف إلي ويقول أن هذا فوق إرادتي ، وقال لي بالحرف الواحد ( لا تندمي لأننا سنكون زوجين في المستقبل ) وبعد هذه الكلمة اطمأن قلبي بعض الشيء ورجعت إلي منزلنا . ولم أره بعد هذا الحادث أبداً …

وبعد مدة انقطعت عني العادة الشهرية واستغربت ذلك ولم يطرأ على بالي فكرة الحمل إلا أنني تأكدت بعد ذهابي للطبيبة التي أخبرتني بالحمل .

وليتني مت قبل أن أسمع هذا الخبر والذي سوف يدمر عائلة بأكملها . ولم تنته المشكلة فلقد حاولت الأتصال به ولكني فوجئت بخبر سفره إلي الخارج لتكملة دراسته العليا وفي نفس الوقت علمت بذهابه مع زوجته التي تزوجها قبل سفره مباشرة ، عندها فكرة بالانتحار فهو الحل الأمثل لمشكلتي العويصة أو الهروب لأي بلد . هذه مشكلتي أضعها بين يديك راجية من الله ثم منك الحل في أسرع وقت ولك خالص تحياتي.

هناك كثير من الحكايا الباهتة التي تبدأ بأحداث خافتة .. ثم ما تلبث أن تستحيل إلي قضايا فاضحة . ذات أحداث مدوية يعلو طنينها وضجيجها على كل الأصوات ..

وأنت .. وبكل الأسف يا فتاتي مررت بواحدة من هذه الحكايا الباهتة الفاضحة التي لو كنت قد عرفت تتحكمين في سلوكك خلالها ، لكنت قد أصبحت الآن تلك الزوجة الحبيبة التي سافرت مع زوجها حبيبها لتكملة دراسته بالخارج .

نعم

فلو افترضنا أنه كان يحبك أو على اقل تقدير ، كان معجباً بك لا يملك إلا أن يراك ويراقبك ويعترض طريقك طوال هذا الوقت وهو الشاب المتعلم المثقف الذي يوشك على السفر للخارج لتكملة دراسته .. لو أفترضنا أنه كان يفعل ذلك لأنه كان يريد زوجة تمنحه الأمان والثقة والإخلاص ، وتعنية بعفتها وطهرها وصدقها طوال سنوات اغترابه بعيداً عن وطنه …

إذن .. لكان عليه أن يختبر ” نوعية ” هذه المرأة التي يرغب ويريد ….

كان لا بد من إجراء امتحان عاجل فاحص لتلك الرفيقة التي ستشاركه رحلة العمر الطويل …

فكان الامتحان … وكان الرسوب.

فانتقي غيرك . واحدة أخرى بلا تجارب غرامية معه ، أخذها بريئة نقية وسافر بها ، معتقداً أنه لم يسلبك شيئاً ثميناً ، فهو قد تركك ” فتاة عذراء  ” كما كنت .. ولكن شاء الحظ العاثر أن تدفعي ثمن هذه الخطيئة وحدك ، فهو قد غادر دون أن يدري ماذا فعل بك . ودون أن يعلم ماذا خلف وراءه !!

في الواقع يا فتاتي ليس أمامك من حل سوي محاولة الحصول على عنوانه في الخارج بأسرع وقت ممكن وإخطاره فوراً بنتيجة فعلته ، فإذا كان شاباً طيباً ذا قلب وذا ضمير سيعود سريعاً إليك ، أما إذا كان من النوع العابث الذي يضرب ضربته ويهرب ، كأي مقامر محترم ، فلن يعود إليك أبداً .

وهنا .. لا بد من مصارحة أمك ، كي تري بخبرتها ودرايتها ماذا تفعل معك درءاً للفضيحة وخوفاً من العار.

 

 

ورقة … من سفر الانتظار

تجمل بالصبر ثم ارتدي                   محاسنه يرصد الموعدا

ستأتي غداً .. آه يا للمني                  أما سئمت موجعاً مجهداً

أما هرم الصبر في صدره                  وشاخ به الأمل المفتدي

لقد جاء صوتـهـا دافـئاً                      أنيق المسار رهيف الصدى

غداً .. هي تأتي إليه لقد                   وعي الدهر أمجاد جيداً

ستأتيه في موعد … ربما                  يكون على عصره سيداً

وأشعـل في كـفره جذوة                      ليبني على ضوئها مسجداً

وأسرج في الصدر قلباً هفا                 إلى موعد قد أضاء المدى

وراح يسـوى بأعـمـاقه                       ركاماً فصيرهـا معـبداً

وعـاد يـهـذب أشواقـه                        ويغمسها في ابتسام الندى

وكحل أجـفانـه بالـرؤى                      منسقه .. مشهداً .. مشهداً

بغير المنى كان لون الـدنا                  ظلاماً ، وكان الوجود سدى

غداً سوف تأتيه في موعد                  بكل عصور الأسـى يفتدي

سيطـرح في كـفها قلبه                      إذا هـي مدت إلـيـه يـدا

ويسكب في كأسها روحة                   لترشفها .. موعـداً .. موعدا

فيرقى السماء كـعاداتـه                     ليفتح بـابـاً بهـا موصـداً

ويـدخل قـبتـها ظافراً                        ويقطف من نـجمـها الأبعدا

ألا حبذا مـوعـد قد دنا                      ونادى … فكان الضياء صدى

أتأتي غداً ..؟ليتها ..ليتها                  وأصبح كل الزمان … غدا

يعقوب السبيعي

لماذا وجع القلب ؟

أحببت فتاة من عائلة محترمة من أقربائي ، حاولت مراراً أن أقترب منها وللأسف لم تشاركني إحساسي وأنا أحبها حباً لا يضاهيه حب أبداً ولكن لم تبادلني حبي ، وقد فعلت ما يثبت لها حبي وخطبتها من أهلها رسمياً فوافق أهلها ولكن لم أعرف هل وافقت هي بمحض إرادتها أم لا ، وهي خطيبتي الآن ، وما جعلني أكتب إليك أخت كريمة هو سوء معاملتها لي ، أنها لا تطيق رؤيتي ، إذا جئت أزورهم في البيت تهرب مني ، وذلك لأنني عندما أكلمها عن مستقبلنا تقول مالك شغل ، والآن عقد قراني وقلت يمكن أن تتغير تصرفاتها ولكن لم يحدث شيء جديد بل كثرت قساوتها معي وليس هناك شيء يبرر الموقف . وقد وسطت امرأة لها كي تعرف منها هل تريدني أو هناك أحد آخر في حياتها ، ولكنها لزمت الصمت ودائماً تقول مالي رغبة في الزواج وهي في سن كبيرة وليست صغيرة ولا زلت أصبر على تلك القسوة منها وأقول يمكن تتغير بعد الزواج ، أرجو منك أن تهتمي برسالتي إنني لواثق من قدرتك على الحل السليم.

يا سيدي الجواب واضح من عنوان .. فأنا لا أستطيع أن اصدق أن أمرآة لا تطيق رؤية رجل ، امرأة تتهرب منه كلما جاء إلي بيتها ، رغم أنه خطيبها وزوجها والمفروض أنها تفرح بمجيئة وتسعد لرؤياه ، ولكن الظاهر والعلم عند الله أن أهلها قد ضغطوا عليها لإتمام هذا الزواج والمؤكد حتماً أن الزيجة قد تمت ضد رغبتها ، فقد تكون متعلقة بشخص آخر ولا تستطيع أن تفصح عن ذلك .

أنا لا أستطيع أن أصدق أنها يمكن أن تحبك في يوم من الأيام . فبعد عقد القران لم يحدث جديد . وأيضاً بعد الزفاف لن يحدث جديد .. بل ستزيد قسوتها عليك ، وستضاعف نفورها منك فلماذا وجع القلب ؟!

بصراحة .. هذه الفتاة لا تحبك ولا تريدك ولا ترغبك زوجاً . فوفر على نفسك عناء التعب ، وارحم قلبك من مشاكل كثيرة آتية أنت في غني عنها ، لأنك تبدو لي طيباً جداً ، وبسيطاً جداً ، وحرام أن تبدأ حياتك مع إنسانة سخيفة كهذه .. إنسانة يجب أن تعامل بقسوة تتماثل وقسوتها وبطريقة تتطابق وقسوة وسوء طباعها !!

فأنت تبدو غير قادر حتى على مواجهتها أو سؤالها عما إذا كانت تحبك وتريد أم لا ؟!

وقد تكون اعترفت لتلك المرأة التي لم يرد أن تخرب زيختك ،وأن تحطم علاقتك بها ، فربما تكون أخفت وأنكرت ما قالته فتاتك ، فاتركها  ولا تندم ، لأنك ستنجو بجلدك من قرفها وسوء طباعها ‘ وفساد أخلاقها .. فاتركها لنفسها .. ولن تندم.

 

 

 

 

مطاردة

أنا طالبة في الصف الثاني الثانوي في أحدى الثانويات ، ذات يوم أتت زيلة لي قاصدة التعرف على فرحبت بها وعرفت أنها بمرحلة دراسية أعلي مني .

ودارت الأيام وإذا بها تأتي لتقول : الصراحة أن الذي دفعني للتعرف عليك أخي الذي يحبك والمعجب بك وهو يريد التعرف عليك ، وقتها رفضت وتكرر الرفض إلي أن ظلت تطاردني وتكو لي عن حاله . وقتها لم أستطع أن أمسك نفسي بل قلت لها اتركيني وأمهليني لأفكر.

بعدها وافقت فتعرفت عليه عن طريق الهاتف إلي أن تعلقت في حبه كذلك هوم تعلق بي بحيث أنه تعرف على أخي وظل يأتي ويذهب مع أخي وأخي لا يعلم بالأمر ، فذات يوم جاء أحد رفاق أخي وقال له أن فلانا يعرفك ويسير معك قاصداً مصلحة وهي أختك فوقتها أخي لم يتمالك أعصابة بل ذهب وشتمه إلي أن تشاجرا.

والآن فإنهما متخاصمان وهما لا يكلمان بعضهما ومضت عليهما مدة (3) شهور على الأقل ، أما أنا فلا أستطيع الابتعاد عنه وأتركه لأني أحبه .. وكذلك هو رسب وأنا نجحت وذلك لأني أحببته لمدة سنتين والآن سأدخل السنة الثالث…

هذه هي مشكلتي يا عزيزتي لعل أجد عندك الحل .

لا تقولي لي أتركية لأني قبل التعرف عليه سألت بنت جيرانهم عن أخلاقه التي هي صديقتي في الصف .

وكذلك معي أبنة أخيه توصل لي رسائل منه وأخباره .. هذا قبل التخاصم أيام الدراسة .. أقسم لك أنه يحبني حباً شريفاً قصد الزواج مستقبلاً.

مشكلتك العاطفية لها حل واحد هو تركه حتى ينهي دراسته فإذا كان غرضكما شريفاً فلماذا لا تتركيه بدون إلحاح وإزعاج حتى ينهي دراسته ؟! المفروض أن تطلبي منه أن يهدأ نفسياً فشجعية عوضاً عن ذلك على المذاكرة والدراسة كي ينجح .. بدلا من مطاردته لأخيك والتصاقه بكم يومياً … نتيجة لتشجيعك المستمر له على ذلك.

فما رأيك عزيزتي الآن في رسوبه وفي شعوره الانطواء والعزلة نتيجة أن أخيك وبخه وعنفه ؟ أرجو أن تبعدي عنه لفترة وأن تنصحيه بأن يهتم بدراسته ولا مانع من أن تطمئنيه على حبك له وموافقتك على الارتباط به وأن تعطي أخيك الانطباع بأنه أخطأ في التصرف مع هذا الصديق الذي يحمل للأسرة كل تقدير واحترام .. واتركي الأمور بدون تعقيد ، وتفرغي للاهتمام بدروسك في هذه المرحلة الحالية.

 

ارحم زوجتك

أنا رجل في العقد الرابع من عمري . متزوج ولي خمسة أطفال أحب زوجتي وأولادي ككل البشر . لي بيت ودخلي أحمد الله عليه . أعيش حياة  سهلة ميسورة.

مشكلتي أن الله زاد على بنعمة وأحمده دائماً على كل النعم . أنني أجب الجنس بشكل غير عادي ، وأنا شاب متمسك بديني ولا أريد الوقوع في الحرام على مدى الحياة وأم اولادي تتحمل العبء الكبير بين تربية أطفالي وبين رغبتي الجنسية.

خلاصة المشكلة أنني أريد أن أتزوج ثانية على سنة الله ورسوله ولكن للأسف لم أجد الفتاة التي تقبل الزواج مني لكوني متزوجاً ولي أطفال.

يا سيدي الله يزيدك من نعيمه .. وحمداً لله أنك تحمده وتشكره وترعي شؤؤون بيتك وتحفظ أصول دينك..

لكنني اعتب عليك .. فبدلاً من أن تفكر في الاقتران بزوجة ثانية تجلب لك قدراً من المشاكل لا يمكن بتاتاً الاستهانة به ، عليك أن تعمل على راحة زوجتك ، توفر الوقت اللازم لها لترعي نفسها ، وتهتم بشكلها .. وتنال القسط الكافي من الراحة والنوم والهدوء والاسترخاء …فليس من المعقول أن تتركها مطحونة طوال النهار ، ترعي شؤون خمسة أطفال وأبيهم وتبقي تدور طوال الوقت هنا وهناك كالساقية تغسل وتطبخ وتكنس وتنشر وتنفض .. وتربي وتهذب وتعل …

ثم تأتي أنت إليها آخر الليل تطلب منها أن تسهر على راحتك …

وتلبي رغبتك !!! مستحيل أن تقدر على سد طلباتك وطلبات أولادك ليل نهار .. مستحيل فهي أولاص وأخيراً يشر ذات طاقة محدودة.

حرام عليك يا أخي ، هذه قسوة مبالغ بها وأنانية منك لا تغتفر ، فبدلاً أن تبحث لها عن خادمة تساعدها وتخفف عنها أشغال البيت التي لا تنتهي إذ بك تفكر في مكافأتها خير مكافأة .. تفكر بالزواج عليها !!!

يا سلام ..؟! هلي تريد أن تقهرها ؟! تميتها غيره وغماً وهي أم أطفالك الخمسة الحنون الطيبة التي لم تتأخر يوماً عن تلبية طلباتهم ولا توانت ليلة واحدة عن تلبية طلباتك ؟! يا رجل اتق الله وابدأ حالاً البحث لها عن خادمة قوته البنية تتحمل أعباء شؤون جيشك الجرار هذا ، كي تستطيع أن تتحمل هي فيما بعد ولعلك ودلالك…

 

أنها ليست نهاية!

كنت طموحة لدرجة كبيرة ، كانت الأماني والأحلام تتزاحم بصدري ، أقبل على الدراسة بشهية كبيرة لدرجة أنني أحس أن عقلي أكبر من سني ، فكنت الطالبة المثالية في جميع مراحل دراستي الابتدائية والمتوسطة والثانوية ، وكنت سعيدة بالمدرسة .. ولكن في البيت احس بالتعاسة بسبب معاملة أمي وأبي ، كنت أعيش معهم لوحدي لأني وحيدتهم ، الكل يحسدونني ويرجعون تفوقي في المدرسة بسبب معاملتهم الحسنة لي … والعكس صحيح.

فمعاملتهم لي كلها شك وريبة ، سلوكي لا يدل على هذا أبداً ، وكنت ألجأ إلي الله وتعالي فأصلي وأطلب من رب العالمين أن أكمل طريقي وأصل إلي هدفي وأطلب منه أن يصيرني ويجعل هذه الظروف لا تؤثر على دراستي ومستقبلي .. ولكن يا أختي تحطمت أحامي وآمالي عندما عقدوا قراني على شخص لا اعرفه ولا عمري رأيته ، وفي لحظة كان كل همي دراستي ، ولكن رغبتهم كانت أقوي من توسلاتي وبكائي وسخطي وثورتي . كنت وقتها في ثالث ثانوي ” علمي ” تزوجت وعشت مع زوجي حياة لم أقتنع بها حتى هذه اللحظة وتوسلت له أن يتركني أكمل تعليمي فرضي بذلك على وأكملت رابعة ثانوي ” مسائي ” ونجحت ونويت أن أدخل أي كلية ولكن زوجي رفض بحجة أنني يجب أن أتفرغ لتربية ابنه ، والآن ابني عمره ثلاث سنوات وعندما أردت أن أرجع لإكمال تعليمي بعد جهد جهيد في إقناع زوجي فوجئت بأن الجامعة لا تقبلني لأنه فات زمن طويل على شهادتي الثانوية فتحطمت آمالي وشعرت أنها نهاية العالم ونهاية الطموح والآمال وكل شيء جميل في نفسي كنت أحلم به وأنتظر اليوم الذي يتحقق به حلمي ولكن اليأس انتصر علي.

أصبحت الآن فريسة للحزن واليأس الذي يعتصر قلبي ويجعلني أكره حتى نفسي لأنني إنسانة فاشلة برغم كل التعب الذي تعبته والصبر الذي صبرته.

إنني لا أحب زوجي ولا أمي ولا أبي فكلهم السبب في تحطيمي فكيف أعيش مع ناس أكرههم ويسخرون مني عندما أتحدث عن إكمال تعليمي ؟.. أشعر أن نفسي هدمت ولا تقوي على الحياة لأني أعيش بلا هدف بل أمل أنتظره .. ماذا أفعل ؟.. هل أنا مجنونة كما أظن نفسي أحياناً عندما أغرق في هستيريا البكاء ؟..

أرشديني ماذا أفعل .. أرجوك يا أختي ؟!

الاخت الطموح ..

أنها ليست نهاية .. بل بداية . بداية العودة إلي الطموح . ونهاية العيش في الزن واليأس .

ولذا لن أواسيك بعد عملية الاغتيال البشعة هذه لعقلك وطموحك وإرادتك . فانهيار معنوياتك وإحساسك الطاغي بالظلم بسبب بعض أفكار عتيقة مقيتة هو ظلم آخر لنفسك.

استمري في المقاومة إذن اشغلي عقلك العميق الكبير بالكتب والدراسة فهذا أفضل لك من اليأس وهستيريا البكاء .

اشبعي الأمل بأماني المستقبل . وأغلقي فوهة الأسى وبئر القنوط وانطلقي واضعة أمام عينيك هدفك المضي ثانية..

وليكن هذه المرة هدفاً مزدوجاً يحوي طموحك الشخصي ، ونجاحك الأسري كزوجة صالحة وأم ناضجة لطفل صغير.

 

أريدك شاعراً عاشقاً

تحرقت بي حباً

تمنيت لي وصلاً

تغنيت بي شعراً

لكنك .. عاشقي

أتيت تسائلني وداداً .. وحباً

فجنيت بعاداً وهروباً وصداً

أنسيت أن لي قلباً … وعهداً؟!

لماذا عاشقي .. لماذا تبقي

محباً تحلم بلقائي … رغم المسافات ؟!

عاشقاً تنبذ الصمت .. تطلق الآهات ؟!

شاعراً جهوراً … تفضح سره الأبيات ؟!

لماذا عاشقي …؟!

آه …. دعنا من العشق والنوى والفتون

رجاء …. تماسك

لا تمس قيس ليلي … بالهوى مجنون

حذار أن تسلني :

هل أصابك الوله بمس من غرور؟

أو تسائلني :

أليس الهوى نوعاً من جنون ؟!

وإليك أدعو

اتبقي رمزاً للصلابة . للعناد .. وللصمود

أنا جيك ..

لا تتقتل الحب بنشوي اللقاء

لا تطفئي الشوق في الأحداق

أنا .. أدمنك شاعراً بي مفتون

أهيم وأهوى لوعة الحب في العيون

فدع الحب حبيبي …

دعه يسافر .. يرحل في الفضاء

اطلقه طائراً حراً .. يلحق حيثما شاء

أبقه فرحاً سعيداً .. بلا رباط أو قيود

أتركه طائراً شريداً .. لا مسافات .. لا حدود

لا تقيده الأحرف

لا توثقه الكلمات

… فأنا إن لقيتك شاعري

تتداعي الأشياء … كل الأشياء

وتنشغل بي عني … حين اللقاء!

وتصمت في قلبك الآهات .. والأنات

وتسكن قصائد الحب عينيك والأشواق

وتهمل الشعر .. والقلم .. والأوراق

وتتوه المعاني .. تضيع المني وتخفت الأضواء

والأصداء

… وتخسر الدنيا شاعراً قادراً متفرداً

غني قصائد البعاد والهجر والفراق

لا عاشقي … لا

أريدك شاعراً عاشثاً .. غزي العطاء

أريدك نجماً ساطعاً … باهر الضياء

تحفة الرؤى .. تحيطه الأضواء

أريك شاعراً عاشقاً .. عبق الأجواء

تملأ قصائد الدني .. تجوب الآفاق

فلا يقولون عنك حبيبي

هزمته نشوة الحب .. حين اللقاء!!

طرزان!

خطبت قريبة لي فوافق والد فتاتي على الزواج بعد سنة فقبلت بهذا الشرط ، لأنني أريد أن أسافر للعمل ووفقت وعملت وبعد ما يقارب السنة جمعت مبلغاً من المال لا بأس به ، وقد اقترب موعد زواجي ولي صديق أستشيره في بعض الأمور وعندما سمع حديثي عن الزواج سألني هل خطيبتك متعلمة قلت : لا ، فقال : عندي شخص طيب له بنت يريد أن يزوجها وهي جميلة ومتعلمة ولأنني أعجب بالمتعلمة فقد وافقت وذهبنا أنا وصديقي إلي هذا الشخص الذي قابلنا بالاحترام وكلمناه فقبل بشرط أن أسكن معه . وافقت وتزوجت من ابنته وبعد مضي شهرين فوجئت بعمتي التي هي أم زوجتي تحضر عندي بعد أن ذهبت زوجتي إلي المدرسة وطلبت من أن أشاركها الخطيئة فلم أوافق على طلبها وقررت إذا لم أطعها فسوف تفتن بيني وبين زوجتي التي تحبني وحاولت أن أنتقل من عندهم إلي مكان آخر ولكنهم رفضوا لأن زوجتي صغيرة وتجهل بعض الأشياء فتطيع أهلها ، وحاولت الكرة مرة أخرى وهددتني وقالت هذه آخر مرة أكلمك إذا لم تقم معي فسوف أريك بعينيك وأعمل لك فضحية ، فشردت وتركت لهم البيت وكل ما أملكتع فيه وذهبت لصديقي وأرسلت شخصاً آخر ليحضر ملابسي فقط وتركت زوجتي الحبيبة وممتلكاتي وسافرت حافي القدمين إلي أهلي . لم أخبرهم بواقع بل ذكرت لهم أنني طلقت زوجتي وعدت إليكم حتي عملي تركته .. وأرسلت لها ورقة الطلاق بالبريد وبعد ايام كلمت الوالد لكي نجدد الخطوبة على قريبتي ولأن أهلها علموا أني تزوجت من فتاة رفضوا زواجي بعذر أني قصرت في حقهم مع العلم أن خطيبتي تحبني ، فحضرت إلي بعد أن أنتهزت فرصة من أهلها ، والحقيقة أقولها بصراحة سلمتني نفسها ، فلم أفكر في عواقب الأمور . وأخبرت أمها بواقع الأمر وتحملت من العذاب ألواناً ولكن لم تخبر والدها فيقتلها ولا زال والد فتاتي مصراً على عدم زواجهامني وأنا في حيرة لا يعلمها إلا الله وأرجو أن تدليني إلي الطريق الصحيح لأن الانتظار طال ولا أدري بماذا أتصرف وأخاف أن يطلع على حقيقة الأمر ويحصل ما لا تحمد عقباه والله يحفظكم …

في النصف الأول من مشكلتك أنت لم تخطئ ، بل على العكس تصرفت بشهامة ونخوة ، وأبيت أن ترتكب المعصية مع أقرب الناس إلي زوجتك ..

ثم تأتي حكاية طلاقك ، وهي حكاية أؤيدك فيها رغم قسوتها على زوجتك المحبة ، والتي كان يجب عليك أن تمهد لها ، حتى لا تصدمها هذه الصدمة العنيفة والتي لا تستحقها..

المهم …

ما حصل قد حصل ، والله يتولي الجميع بعطفه ورحمته …

ونعود الآن إلي النصف الثاني من مشكلتك ، ولست أدري وأنت الرجل العاقل المتماسك ، كيف أنهرت بهذا الشكل ، وكيف أخطأت بهذه الطريقة .. ومع من ؟!

مع الفتاة التي أحبتك ، وبقيت تدافع عنك أمام أهلها ، وظلت تتمني الأرتباط بك ؟! مهما كان الواقع ومهما كان السبب فأنا لا أعفيك من المسؤولية والجرم علة ما فعلت بفتاة صغيرة عاشقة .. فتاة تنتظرك زوجاً محباً غيوراً ، لا حبيباً مختلساً هارباً !!!
عموماً … ليس أمامك إلا الذهاب إلي والد الفتاة ومقابلته واستدرار عطفه ، وأرسل إليه كبار العائلة فربما يستحي منهم ، ويكف عن مغالاته في الرفض…

استمر في الضغط عليه ، أنت من جهة ، وفتاتك من جهة ، وبعون الله يقبل ويوافق ، وتنحل المشكلة ، ولا داعي لهذه الأخطاء الغرامية الطرزانية مرة ثانية أرجوك ..

 

الشك

أنا شاب متعلم تعرفت على فتاة أصبحت تحبني وأحبها أيضاً تقدمت لخطبتها لكن أهلها شعروا أن هناك علاقة بيني وبينها فرفضوني .

لم نستطيع قطع علاقتنا فهذا شيء صعب ، هي أنهيت دراستها الجامعية .

مشكلتي هي الشك . في بعض الأحيان يراودني شك لا أعرف مصدره هل بسبب ما عملته معها من محرمات أو بسبب أنها تمشي مع فتاة لعوب ، هي تحبني بشدة لكن الشك موجود وأنا واثق أنها تحبني . أنا إنسان تستطيعين القول بأنني أخاف الله كثيراً لأني تربيت في بيئة دينية ، لذا دائماً أفكر في أمرين :-

أولاً : أتزوجها بسبب ما ارتكبته من حماقات محاولة لإرضاء الله ولأنني أحبها.

ثانياً : لا أتزوجها لأن الشك موجود ولأنني أحبها فلا أحب أن أراها تتعذب أمامي مستقبلاً نتيجة شكوكي.

أفيديني وأريحيني.

أخي …

لن تندهش مثلي لو عرفت أن بعض الرجال في القرن العشرين لا تختلف عقلياتهم كثيراً عن عقليات الرجال في العصور القديمة !!

والرجل الشرقي مسكين يعاني من تمزقه بين أساليب القرن العشرين وتقاليد العصر القديم !! وهو بكل علمه وتعلمه ، بكل انفتاحه وتطوره، يحمل بين جنبيه الرجل القديم المتعصب ، الذي لا يغفر ولا يقبل ” علاقة ” ما للأنثي بالرجل مهما كان الحب سائداً!

فأنت بحبك العارم لفتاتك ، ورغم تثبتك من حبها ، إلا أنك تسقط فريسة للشك ، لأنها سمحت لك بارتكاب حماقات معها !!

وهذا هو أفدح الخطأ الذي تسقط فتاة ، ولعل مشكلتك تنبع من هذا الصراع .. فاسع إلي فهم نفسك وسبر أغوار ” شكك ” وبعدها قرر الزواج ، والله سيقف إلي جانبك لأنك تخشاه وتخافه.

أما مشكلة ” صاحبتها ” فهي ليست بذات أهمية ، لأنك لو طلبت منها مقاطعتها فستفعل لأنها تحبك فلا تقلق…

انتظر الأيام

شاءت الأقدار أن ألتقي بها ، فهي خجولة ومؤدبة وبكل ما تحمل هذه الكلمة من معني . صارحتها بحبي ووجدت نفس الشعور من جانبها . علمت بأنها مطلقة ولها بنت ولم يتغير شعوري نحوها . وذات يوم وكنا نسير معاً صادفت في الطريق أحد الزملاء وتصافحنا ولكني لمست بعض الارتباك عليها ولم أسألها ، وعند ذهابي للعمل في صبيحة اليوم الثاني قابلت هذا الزميل الذي أوضح لي أسباب ارتباكها وأنه التقي بها قبل فترة ، ولم أصدق حتى أكدت لي هي ذلك وبرزته بأنها فعلت ذلك ” انتقاماً ” من زوجها الذي بدأ بالخيانة ودارت الأرض بي .. ولكنها أكدت لي أنها أول غلطة في حياتها ولن تتكرر مرة ثانية . وغفرت لها واستمر حبنا أربع سنوات إلي أن حدثت مناقشة حادة وقررت الانفصال عنها وقبلت ذلك . وافترقنا لمدة تسعة أشهر وفكرت في السفر وفعلاً سافرت ومكثت عشرة شهر وأرسلت لها ما يقارب العشرين رسالة ولم ترد على واحدة منها . صدقيني لقد تعذبت كثيراً وأخيراً فكرت في الزواج من إحدى بنات العائلة مع أنني لا أحمل لها أي حب واتصلت بالوالدة لإتمام الخطوبة وفعلاً تمت الخطوبة .. وعند رجوعي إلي أرض الوطن في أول إجازة ، صممت على زواجي من حبيبتي ولكن يا أخت كريمة .. ينتابني بعض الأوقات شعور بأن زواجي منها لن يدوم طويلاً وتمر بمخيلتي أحداث ماضيها ومشكلتي هل أتزوجها وأعيش مع خيالات الماضي المؤلم أم أتزوج من قريبتي دون حب ؟! إنني أحبها حباً يعجز القلم عن وصفة . دليني بربك وليوفقك الله.

أخي العزيز …….

حبيبتك لا تحظي بثقتك . والزواج ، أي زواج ، لا يمكن أن يقوم على عدم الثقة . فهي بمثابة الرأس من الجسد.

وقريبتك لا تنعم بحبك . وزواج بلا حب ماسخ ، لا طعم ولا نكهة له.

وفي كلتا الحالتين لا يوجد الأساس المقنع ولا الدافع القوي لقيام الحياة الزوجية ، كما لا يوجد الاستقرار العاطفي الذي تحتاج له كزوج وإنسان . لا داعي لأن تبدأ حياتك بالمشاكل . ولا تورط نفسك مع هذه أو تلك .

 

رجاء…….

لا تتعجل ولا تتسرع كي لا تعايش الندم في الآخر ، وانتظر مع الأيام فالمستقبل عريض أمامك.

 

كريمة شاهين

 

قلبى وقلمى

قلبى وقلمى

 

 

 

 

 

 

قلبى وقلمى

 

 

 

 

 

 

كريمة شاهين

 

 

 

 

 

مقدمـة

عندما غزوا قلبي ..

.. كانت الأمور عادية جدا فى نظري، فأسلوب الحياة كما هو، لاتغيير، لاتبديل      .. لاشيء غريب على الإطلاق يثير الريبة أو يلفت النظر، سوي السرعة والهمة والحماس فى إعداد حاجيات السفر ..!

وكما يحدث كل سنة، في هذا الوقت من الصيف بالذات، غادرت الكويت إلي        القاهرة، ومنها إلي لندن، حيث الأهل ومعظم الأصدقاء هناك. كان ذلك في النصف الثاني      من شهر يوليو، حين غادرنا كلنا، الأولاد والمربية وأنا، في حين بقي أبو أحمد، زوجي العزيز، في الكويت علي أمل أن يلحق بنا يوم 5/8 وهو اليوم الذي حدده لبدأ عطلته الصيفية المرتبطة بظروف عمله في ديوان المحاسبة.

كان كل شى علي مايرام، الأمور مثل ماهي عادية، بل وأكثر من عادية ولاشيء-  كما قلت- يثير الريبة أو يلفت النظر.

بدأت العطلة فى لندن ما بين زيارات الأهل والأصدقاء، والتسوق والتنزه في المتاحف والمطاعم والحدائق، وهكذا، قضينا معظم الوقت بإنتظار وصول أبو أحمد، وبذلك يلتم شمل  أسرتنا، وتكتمل فرحتنا.

لكن .. للآسف! لم تسر الأمور حسب توقعاتنا، فقد حدثت كارثة الغزو!! وكان الذهول أكبر من تصديق الخبر!! مستحيل مش ممكن مش معقول!!

ولم تكن تكفي كل أنواع أدوات الإستفهام للبحث أو العثور على إجابة هذا السؤال!

.. والباقي طبعا معروف للجميع، فبعد إتصالنا بالكويت فى أول الغزو، وبعد أن   كلمنا أبو أحمد وسمعنا صوته الذي جاء مكتوما مختنقا، مما أعطانا إنطباعا مرعبا كما لو كان هناك جندى مسلح يقف بجانبه، مصوبا فوهة البندقيه إلي رأسه ..!

و.. كالمقصلة .. أخذت الأيام تسقط ساعاتها واحدة وراء الأخرى، تقصف كل منها نبتة أمل غضة كانت تنمو فى نفوسنا، تورق فى قلوبنا، تبشرنا بقرب إنحسار العدو ..  وسحب قواته!!

وبعد صدمة الصدمة، وبعد أن أفقت إلي نفسى، تذكرت إننى صحفية تذكرت إنني كاتبة لي قراء – ما شارالله مرتبطين بى، يبادلونني حبا بحب، كما تذكرت إنني لم         أكتب لهم كلمة واحد عن مكانى تطمئنهم علي سلامتى .. فأيقنت أنهم لابد وأن يكونوا قلقين على يودون معرفة مقرى .. وأين يمكن أن أكون..!!

 

وعلى الفور، بمجرد أن طرأت الفكرة ببالى، إتصلت بالأستاذ الله باجبير رئيس  تحرير مجلة “سيدتى” فى ذلك الوقت، طالبة منة على إستحياء أن يسمح لى بنشر خبر  وصورة كى أخطر قرائى إني موجودة الحين فى لندن، وإننى بخير والحمد لله.

.. وكانت المفاجأة الحلوة حين أصر الأستاذ عبد الله باجبير – حياه الله – على أن أحضر بنفسى إلى مقرالمجلة 184 شارع “هاى هولبورن” كي أكتب لقرائى وكى أطل    عليهم .. عبرنا نافذة “سيدتى” التى فتحت لى باب القلب على مصراعيه ترحب وترحب بي..!

آه .. مستحيل أن أصف قدر الإرتياح الذى أحسست به فى تلك اللحظة! مستحيل أن أعبر عن الفرحة التى تملكتنى في ذلك الوقت الصعب البغيض، وأنا أمسك القلم وأعود أكتب بقلبي لقرائى أشاركهم مشاعرهم، وأنقل لهم شيئا من مشاعرى فى تلك الظروف الرهيبة التى زلزلت النفوس، وهزت الرؤوس .. وحطمت القلوب!

حقا .. كانت محنة! وأى محنة! لن نختلف على ذلك أبدا، ولن أخوض الآن فى تفاصيل طويلة، أعتقد إننى كتبت الكثير عنها من قبل، فقط .. أحب أن أقول اننى كنت    على بقين تام، مطلق وعميق بأن الحق حتما سوف ينتصر مهما طال الزمن، وإن الباطل  مهما طال فإن عمره قصير .. قصير!

أيضا .. أود أن أضيف إننى كنت أشعر براحة القلب والضمير، عندما عدت للقاء قرائى أحبائى، الذين أتيحت لى فرصة لقائهم، إعتبارا من الأسبوع الخامس بعد الغزو .. لأكون معهم، أصحبهم، أخفف عنهم رحلة عذاب لم يكن أحد يعلم وقتها، إلى أى مدى    سوف تطول .. أو تستمر!!

وفى العدد رقم 496 فى مجلة “سيدتى” نشر لى مقال “حتى أعود الى الكويت” بتاريخ 10/9/1990 ، ومن بعدها توالت المقالات دون توقف، حتى يوم 7/6/1992 وهو اليوم الذى نُشر فيه مقالى “كنت أود أن ..” فى العدد رقم 586 ، والذى أعلنت فية عجزى عن متابعة العمل الصحفى بهذا القدر، نظرا لتغير ظروف الحياة حولى، بعد تغيير موقع   معيشتى، وخوفا من توقف تدفق خواطرى، بعد ان أحسست بضغوط ضخمة، ومسئوليات صعبة، بدأت تجفف نبع مشاعرى ..!

ومضت سنوات وسنوات، بحلوها ومرها، وها أنا أُعايش الآن ذلك الحدث الأليم مرة أخرى بكل تفاصيله المرعبة وأحاسيسه المحرقة، التى حركت مشاعرى حين بدات أكتب   تلك القصة التى أثرت كثيرا فى نفسى، فآلمتنى، وأوجعتنى، وجعلتنى أتجرع مرار العذاب مرة أخرى ..!

وكما يقولون، الشئ بالشئ يذكر، ها أنا أجمع بعض مقالاتى التى كُتبت بدم قلبى،    ومداد روحى، وطبعت بأحرف إحساسى، ورسمت بريشة مشاعر .. علها تضيف عمقا، وتُضفى معنى، وتوضح موقفا عاشقا للكويت، جاء صادقا، صريحا، ساطعا، لم يكن          يخفى حبه على أحد، ولم يكن يخاف من سطوة أحد بفضل الله وسنده، حتى صدام نفسه!

نعم .. اذكر ضاحكة فى عز وقت الأزمة، كيف كان بعض الأصدقاء يحذرننى أكثر من مرة من صدام وأعوانة الكثار! وكيف كانوا يخوفوننى من عاقبة هذا التهور والتهجم! وكيف كانوا ينصحوننى بالإعتدال فى الكتابه والكلام، إذ أن أعدادا من التابعين المنافقين        فى كل مكان..!

رغم ذلك لم أهتم بقولهم، كنت مقتنعة فعلا بما أقول وأفعل فقد كنت غاضبة،      حانقة بسبب إستمرار هذا الظلم الواقع، كما كنت مؤمنة بقدرة الكلمة، وقيمتها، وتأثيرها،     بالذات فى ذلك الموقف، وفى ذاك الظروف، الذى كانت تسعى العراق فيه لأن تؤكد حقيقة الوضع القائم، خلال زمن بائس قاتم كانت تعتبر دولة الكويت فيه .. “المحافظة 19” فى       جو إعلامى معتم مُغرض يجعل .. صدام حسين .. ملء سمع العالم وبصره!

ومع ذلك لم أخش فى الحق لومة لائم اتكلت على الله وكشفت واضحة          مشاعرى، وأظهرت صادقة احساسي، وعبرت صراحة عن أفكارى دون أهاب            تهديدا، أو أرهب وعيدا .. فكنت أقول ضاحكة لمن يحاول أن يخوفنى:

– ياللا.. بسيطة العمر واحد والرب واحد .. محدش بيموت ناقص عمر..!

وهكذا .. مضيت أتابع قضيتى .. وبقيت أعانى محنتى، واقاسى مصيبتى فلقد كان الوضع النفسى الموجع فوق كل تحمل .. وأصعب من كل قدرة على الصبر .. والاستمرار!

مضيت ..كما أردت وتمنيت ان اكون الحب نبراسي الامل رفيقى ،التفاول           طريقى .. الى ان عبرت الازمة وراحت المحنة وأنقضت المصيبة والحمد لله. حقا..”      أشتدى يا أزمة إنفرجى.”

فقط .. يبق فى القلب الاثر غائرا بين حنايا الروح محفورا فوق جدران الوجدان     .. فهذا الشعور لانملك حيالة شيئا فهو أبعد من الوصول الية ،وأصعب من محوه         والتخلص منه ،وأقوى من القضاء عليه ..!

لذا .. بهذا الاثرالرهيب لذلك العدوان العراقى الغاشم على دولة الكويت ،مازلت      أحيا، وفى الروح غصة تجعلنى أحيانا أعانى، أقاسي، فالنفس بيد خالقها .. والشعور        لايملك الإنسان حياله صنعة ولا إعتراضا .. ولاإختيارا !

                                                                                                                                                                           كريمة شاهين


حتى أعود إلى الكويت.[1]

قرائى الاحباء ….

من قلب القلب أكتب لكم، بعمق الشوق والخين والحب التقى بكم، لا لأواسيكم معاذ  الله ولا لأعزيكم لا قدر الله ولكن .. لأكون معكم لابقى إلى جانبكم رغمم قساوة الحدث وبشاعة الواقع وصعوبة الأتصال.. فالبعاد عنكم لا يعنى إلا الموت بالنسبة لى .. فهل تؤيدون رغبتى .. فى الحياة؟ أومن بذلك.

والأن .. أنا هنا فى لندن .. مازلت منذ حضرت قبيل الغزو ببضعة أيام وحيث التقى بكم “موقتا” عبر الشقيقة العزيزة مجلة “سيدتى” وحتى أعود الى الكويت. لن أقول حتى    تعود الكويت فالكويت لم تذهب لأقول حتى تعود.. ولن أقول حتى تعود الكويت .. فالكويت لم ترحل لأقول حتى تعود.

ولكن سأقول حتى أعود إلى الكويت، فأنا التى سافرت .. أنا التى ذهبت .. وانا التى سأعود .. سأعود إلى الكويت باذن الله.

وفى الحقيقة .. أود أعبر عن عميق تقديرى وبالغ امتنانى لرئيس تحرير” سيدتى” 0 على اتصاله الدمث بى، وعلى دعوته الرقيقة لى لأستضافتى لحين عودة “اليقظة” الغالية    إلى قواعدها سالمة بإذن الله تعالى، ولكى لا أغيب عن القراء الكرام حفظهم الله.

ولهؤلاء القراء الكرام، هؤلاء الناس الطيبين أدعو الله أن يرفع عنهم هذا البلاء، وأن يرحل ذاك العناء بعون الله القادر لنعود جميعا فى أقرب وقت، إلى الحبيبة الحبيبة … الكويت.

***

 

نحن نتنفس هواء الكويت ..[2]

قال لى صديقتى أنها مع كل يوم يمضى تزداد ضيقا وأكتنابا فالمدارس بدأت    لأطفال ما زالوا فى البيت. من يصدق أننا نعيش بعيدا عن الوطن؟ الشهر الثانى بعد      الغزو الملعون؟ من يصدق؟ تتنهد فى أسى. تعود تقول فى وجوم: وكل يوم يأتى بمشاكل  أكثر من اليوم الذى سبقه. ولكن .. عندما أشعر بأنى بدأت أعجز فعلا فأنى أغمض عينى .. وأرى الكويت.

نعم .. أغمض عينى الكويت. أرى بحرها وسماءها وأشعر بحرارة شمسها.

وهنا ..احس بارتياح، أتنفس بهدوء، ابتسم .. وأكمل بقية يومى ..

****

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولسوف تستمر الحياة.[3]

تمضى الأيام وأنباء العدوان الغاشم على شعب الكويت ما تزال تتصاعد          مصحوبة برائحة الغدر والقتل والهوان حتى صارت تشمئر منها النفوس، وتستبشع نذالتها القلوب والعقول.. تلك التى تأبى أن تصدق ما يحدث وما يكون!!

ومن ثم بدأ اللعب على أوتار الخوف وتمادى الظالم وأعوانه فى أبتكار أساليب الأرهاب لكسر طوق المقاومة الشعبية من حول عنق رجالة المعتدين المحتلين المدججين بالسلاح لكنهم رغم ذلك لم يستطيعوا أن يسكتوا الصوت العذب الصافي النقي الرافض الإستسلام للواقع المؤسف، الطامح فى إسترداد الأرض .. وعودة الوطن بعون الله.

فللأسف، حاول الهدام صدام بكل صلف ووقاحة وتمنى هو وأعوانه اللئام محو هوية الشعب الكويتى الأصيل لكنه مؤكد لم يكن يعلم كيف أن هذا الشعب طول عمره شعب صلب قوى صبور. شعب0 طول عمره فى صراع مع الطبيعة مع البحر مع، الشمس مع الرياح مع الصحراء …

أن شعب الكويت مع ظهور النفط تأقلم مع الواقع الجديد وصنع واحة من الرخاء فى الصحراء العربية، صارت محط الأعين، ومهوى الأفئده ومطمعا يسيل له لعاب أصحاب الجشع الجوع والغدر والنفاق!

الآن .. الشعب الكويتى يمر بأزمة حقا كبيرة لكنها ليست أزمة قاتلة بالنسبة له،    فالشعب الكويتي في ثقافته في تاريخه شعب مخضرم، إنه مرة أخرى قادر على أن يتحمل أن يصبر، أن يناضل أن يكافح أن يقاتل .. وأن يحيا مع الأمل القريب في إسترداد الوطن   الحبيب السليب.

أن الشعب الكويتي لن يدع واحته الخضراء اليانعة ينعم بها الغاصب المعتدي، ذاك الذى يغالط ويعاند ويكابر ولا يريد أن يعترف بالفارق بين الحق والباطل .. لكن لن يموت حق وراءه مطالب.

وليعلم الجميع أن لكل ظلم نهاية ولكل ظالم جزاء وعقابا ولن يفلت أبدا هذا الصدام المصدوم من نتائج فعلته، المبهوت من وقفة أمم العالم ضد عدوانه الغاشم لغادر على شعب أمن مسالم، ذلك العدوان العدائى الذى أراده ليبتلع كتان دوله، وليمحو هويه شعب!!

لكن .. لا.. مهما فعل فبأذن الله، سيبقى الشعب، وتعود الأرض ..ولسوف       تستمر الحياة!

 


اغلى من الحب .. والحياة![4]

أخت كريمـة ..

   أكتب لك للمرة الثانية من لندن، ولعلك تذكرين رسالتى السابقة التى كتبتها لك منذ فترة طويلة عندما كنت تحررين باب “أحرف وكلمات” فى مجلة “النهضة” بالكويت، ونشرت    حينئذ مشكلتى تحت عنوان نافذة على الوطن .. فهل ما زلت يا ترى تذكرين قصتى؟!

على أية حال من باب الإحتياط سوف أذكرك سريعا بها وعسى أن لا أطيل عليك أو أضايقك بسردها، لكنها الضرورة تحتم ذلك لتكوني معى في الصورة .. ولترى ماذا فعلت بي الأيام خلال تلك السنوات! قلت لك في ذاك الوقت اننى شاب فى مقتبل العمر على قدر كبير من الثراء.

ووصفت لك كيف كنت ألعب بالملابين لعبا، كيف أننى تزوجت عن حب من فتاة على قدر كبير من الجمال، وأنجبت منها ثلاثة أطفال هم لى قرة عينى والحمد لله.

كما ذكرت لك أننى تخرجت من أحدى كليات انجلترا حيث درست علوم الطيران، ومارست عملى بعدها فى الكويت. ثم أستقلت بعد عدة سنوات، وتابعت أعمالى الحرة بنجاح منقطع النظير، إذ كانت شركاتى التجارية تدر على أرباحا هائلة.

بعدها .. دفعنى الطموح إلى تحقيق المزيد من النجاح والمال، والثراء فاقتحمت لجة سوق المناخ، واشتغلت، وتضاعفت ثروتى عدة مرات .. حتى حصلت الكارثة وخسرت أموالى وأموال الناس وغرقت فى طوفان الديون!

وللأسف .. عجزت عن السداد فصدر ضدى حكم بالسجن، فاضطررت إلى الهرب من البلاد والفرار إلى الخارج حيث عشت طريد العدالة أخشى العودة إلى الكويت كى لا تنفذ ضدى عقوبة السجن.

و.. مضى بى العمر هنا، وأنا أعانى من البؤس والضياع وأوارى الحزن فى ضباب لندن حتى أصابتنى الكآبة والوحشة بالمرض لفراق الأهل والبعاد عن الوطن. والشوق إلى الأسرة والأبناء .. وخاصة زوجتى .. حبيبتى.

حكيت لك مأساتى وشرحت لك كيف أننى كنت أكاد أجن بسبب قلقى الشديد لفراق زوجتى الجميلة الشابة. وقلت لك كيف أننى أفكر فى طلاقها، لأننى أخشى من وقوعها فى الفتنة وسقوطها فى هاوية الخيانة. وكيف أننى لا أطيق نفسى ولا أستسيغ حياتى وكل هذا الشك ينهش قلبى ويفتك بعقلى ويحطم أعصابى.

وجاءنى ردك بلسما يشفى جراح روحى، عندما قلت لى ساعتها: “أنة يستحيل على المرأة أن تخون وقلبها يمتلئ بحب رجلها، وأنها مهما ابعدتها الظروف عنك ستبقى تحبك وتخلص لك فى البعد تماما كما كانت تحبك وتخلص لك فى القرب، فاهدأ، وأطمئن، وابعد  عن نفسك اشباح الخيانة المفزعة.

ارتاح قلبى لقراءة ردك وهدأت نفسى فعلا بعد سماع كلماتك المطمئنة. وشاءت الصدف أن تقرأ زوجتى رسالتى اليك، وعرفت من طريقة كلامى أننى صاحب تلك المشكلة فكان أن سارعت بالحل من جانبها فى السر، دون تخبر أحدا من أهلها بعزمها وقرارها.

نعم أخت كريمة .. أنا مدين لك بمساعدتى بعد تلك الفترة العصبية التى لا يعلم غير الله كم عانيت خلالها، وكم قاسيت أثناءها، وكيف أننى كنت أعيش ذليلا منبوذا مشردا بعيدا عن الوطن، بلا مال ولا جاه ..

ولا حتى أسرة يضمنى واياها بيت كباقى الرجال!

جاءت زوجتى فى عطلة الصيف مباشرة ومعها أطفالى الثلاثة، وفى حوزتها كل أموالها، وكافة الأوراق الرسمية المطلوبة لأدخال أبنائى المدارس هنا فى لندن.

ولم ترجع زوجتى إلى الكويت بعدها أصرت أن تعيش معى هنا بعد أن قدمت استقالتها من عملها وبعد أن رفضت محاولات الأهل المستميتة لأبقائها إلى جانبهم لحين عودتى والأكتفاء برؤيتى فى الاجازات فقط.

حقيقة .. فرحت بوجودها معى كما لو أنى ولدت من جديد خاصة خاصة وأن الحب بيننا زاد وتضاعف طوال فترة انقطاعنا عن بعضنا البعض، لم يطفئه الفراق والحمد لله، بل لقد أجج ناره وزادها وهجاو لهبا واشتعالا.

ومعا .. عشنا والحمد لله فى راحة واستقرار، وكلانا حريص على أن يضحى من أجل الأخر حتى استدعى ذلك أن يفديه بعمره وأن يهبه، عن طيب خاطر حياته ..ومضت بنا الأيام عذبة شجية وما لبثت أن عادت إلى صحتى التى كدت ان أفقدها، بعد أن تدهور بى الحال من القمة إلى القاع.

و.. رجعت إلى ممارسة أعمالى من مقرى فى لندن، وبعون الله استطعت أن انهض من جديد وعرفت كيف أسير بشركتى الأوربية نحو طريق الثروة الجاه بعد طول فقر وهوان. بعدها .. التحقت زوجتى باحدى الكليات هنا، وشغلت نفسها بدراسة فنية تحبها وتهواها وعرفنا معا كيف نصوغ حياتنا بطريقة ما تقربنا قدر الأمكان من الوطن الحبيب وانتظرنا بفارغ الصبر والأمل فى ان تسقط مدة غيابى عن الوطن الحكم الصادر ضدى بالسجن هناك ثم .. ثم وقعت أخير أزمة الكويت .. سقطت على قلوبنا أنباء الغزو الغاشم مصيبى لا حد     لها، كارثة لم نتوقع حدوثها .. توالت الأخبارعنيفة أليمة موجعة حتى نفد صبرى وفرغ مخزون قدرتى وطاقتى على الأنتظار أكثر من ذلك ..

وفى المساء .. شاهدت زوجتى تبكى بعد أن تابعت نشرة الاخبار ورأت كيف يمارس العدو المغتصب أساليبه القذرة ضد شعبنا الطيب المسالم، فقرت أن أصارحها برغبتى فى العودة إلى الكويت للأنضمام إلى صفوف المقاومة الوطنية هناك.

وفى حماس جارف أيدت زوجتى قرارى وقالت فى فرح ظاهر وهى تجفف دموعها: وأنا لا بد أروح معك .. لازم كلنا نقاوم العدو ما فى فرق الحين بين رجل وإمرأة كلنا فداء الكويت والكويت إن شاء الله سترجع لنا.

صراحة .. فوجئت بموقفها فهذا الشئ لم أعمل لة حسابا أبدا، لم أتوقعه أبدا فى الحقيقة .. صعقت لما سمعت كلامها، انبهرت من تصميمها فقد كان تخطيطى أن تظل هى هنا ترعى الصغاروتشرف على تربيتهم فهم أطفال مازالوا عاجزين عن العيش بمفردهم فى دوامة هذة الحياة الغريبة عليهم.

حاولت معها مرة ثانية وعاشرة أن أقنعها بالبقاء هنا حتى أستطيع السفر لاداء       مهمتى السامية نحو وطنى الحبيب، وأنا مطمئن مرتاح البال عليها وعلى أطفالى وكى اتفرغ تماما لتنفيذ مهمتى فى النيل من العدو، حتى يعرف أن للكويت رجالها، وأنها ليست فريسة سهلة لكنها .. ابدا لم تسمع ولم تطع مرة ثانية حاولت معها لأقناعها بأن هذه مهمة دفاعية حساسة تقع على عاتق الرجال وحدهم لأداء واجبهم نحو بلدهم بهذا العمل الفدائى الوطنى الخطير، دون أى عاتق أخر يعوقهم، ويعرقل حرية الحركة فى تنفيذ خططهم ..

وأفهمتها أنها وهى المرأة، معرضة لاحتمالات الأذى البدنى والأغتصاب على ايدي هؤلاء الأنذال الذين أعتدوا من قبل على بعض النساء والاطفال!!

لكنها .. أيضا..لم تسمع .. ولم تطع!

لذلك ..فى ليلة لم أنم ليلها، حزمت أمرى على الرحيل فى الصباح التالى وصممت على عدم أخبارها بعزمى وقرارى لكن .. لا أدرى كيف أحست زوجتى بحالى، إذ باتت طوال الليل إلى جوارى مسهدة تفكر وظلت تسائلنى: هاه .. عساك نويت تسافر وحدك؟! فكنت أنكر بشدة وأقول لها: لا.. لا.. خلاص .. هونت .. ماتفكرى فى هذا الموضوع.

ولم تنم هى الأخرى بدورها، كأن ارقى وقلقى قد تسرب منى وتسلل اليها رغما عنى نعم .. كان هناك إحساس خفى روحى يصل بيننا، ينقل أفكارنا دون بوح كلام!

وفى الصباح نهضت مبكرا بعض الوقت ودخلت غرفة أولادى اقبلهم وهم نائمون فى فراشهم. وجلسنا أنا وزوجتى نشرب الشاى صامتين مشغولى البال وكنت اتحاشى انظر نحوها حتى لا أطالع عيونها خشية أن تقرأ أفكارى، وتكشف سرى وتعرف نيتى.

و..ودعتها كأى يوم عادى .. وإن كان قلبى بفى يضمها بشوق كأنه يودعها نيابة عنى فقد كنت حريصا ألا أشعرها بأى تغيير قد يوحى لها بأن هذه هى ساعة الوداع .. ولحظة الفراق.

حاولت أن أضاحكها أداعبها لكنها كانت شاردة شاحبة، ساهمة واجمة .. وكأن    قلبها يحدثها هو الآخر .. بأنه قد حانت حقا.. لحظة الفراق!!

يا الله! .. كيف عرفت نيتى؟ كيف أدركت أننى أودعها .. ربما بلا عودة اليها رغم أنى تظاهرت بالذهاب إلى المكتب بطريقة عادية لا تختلف عن كل يوم حتى لا أثير ريبتها .. فهل يا ترى رأتنى وأنا أقبل عيالى مودعا؟ .. لست أدرى.

والحين .. ها أنا أجلس فى مكتبى أكتب لك هذة الرسالة ذهابى الى المطار مباشرة وكلى أمل ورجاء أن تنشريها بأسر ع ما يمكن، كى تقرأها زوجتى فأنا أعرف أنها تتتبع نشاطك الصحفى من زمان وتعرف أنك تكتبين الآن في مجلة “سيدتى”.

واسمحي لي أخت كريمة أن أخط لها تلك الكلمات وأن أرجوها أن تسامحنى على سفرى دون أخبارها .. وعلى تركى لها وأن تعذرنى فى ذلك. وهى حتما ستفعل لأنها تعرف أن حبى لوطنى يفوق حبى لأى شئ أخر فى الدنيا .. حتى حبى لها. وحبى لحياتى من أجلها.

أيضا .. أريدها أن تعرف اننى سأعيش ما بقى عمرى وفى قلبى حبها كبيرا كما    هو وتقديرى لتضحيتها من أجلى وتقديمها لى على أهلها وعملها ومالها مستحيل ان يمحى من ذاكرتى .. أبدا ماحييت.

إننى فى الحقيقة أريدها أن تغفر لى عدم اصطحابها معى إلى الكويت فى هذه المرحلة الحالية لأننى أخشى أن تعوقنى عن التصرف بحرية، وأن تعطلنى عن التنقل بخفة من مكان لمكان دون أن أحمل هم حمايتها وايوائها، والإنشغال بالدفاع عن عرضها والذود عن شرفها. أريدها أيضا أن تعرف .. أننى لست أنانيا حرمتها شرف الدفاع عن الوطن ذاك الشرف العظيم الذى قد تعتقد اننى ادخرته لنفسى دونها .. لا والله .. وإنما فقط لأننى أب يحب أولاده ويخاف عليهم ويريد أن يطمئن على حياتهم وعلى مستقبهم فى حضن أمهم .. وبعد رحيل والدهم وغيابه عنهم فى مههة تبذل فيها الروح رخيصة من أجل الدفاع عن الوطن ..لكى يتركهم مرفوعى الرأس .. مدى الحياة.

****


ليلة …. لم يطلع لها نهار![5]

هذ الحكاية الأليمة التى أفرزتها نتائج العدوان الغاشم الآثم على دولة الكويت سمعتها من امرأة فاضلة جمعتنى الصدفة معها، بينما كنا نقف عبر طابور طويل فى احد محلات لندن تحدثت السيدة معى بصراحة وكأنها كانت تنتظرمثل هذة اللحظة السانحة للبوح والتنفيس عن هذا الكم الهائل من الآلم والعذاب والمعاناة التى تضج بها نفسها والتى تكاد أن تذهب بثباتها، لولا ايمانها بالله سبحانه وتقبلها لإرادته ورضاها بحكمة وحكمته.

قالت حزينة بائسة: “والله أنا مصيبتى مصيبتان .. خسارة وطنى .. وخسارة أهلى. وما أنا عارفة أين أروح ولا كيف أتصرف مع عيالى واخوتى؟ حتى أمى نفسها صارت عاجزة عن تحمل هذه المشاكل التى تشوفها وتسمعها كل يوم عشرات المرات”.

تدمع عيناها، تختلج ملامح وجهها، يرتجف صوتها وهى تقول: “والله أنا صرت ما أقدر أتكلم مع أحد … خلاص كلنا صرنا مو قادرين نصبر على بعض ولا أن نتغاضى عن كلام بعض .. صراحة .. أعصابنا كلها مشدودة، وحالتنا لا يعلم بها الا الله”.

تنظر نجوى فى أسى، تعود تقول وكأنها تسال نفسها هل تصدقين أن أخى يمكن أن يقتل إبنى أو زوجى؟ وأن إبنى يمكن ان يقتل أخى أو أبى أو عمى؟ هل تصدقين هذة المصيبة؟

ثم بدات تحكى مصيبتها بعد أن انتهينا من دفع الحساب وجلسنا معا فى كافيتريا بنفس المحل نحتسى الشاى الذى أحسسنا بطعمه فى حلقينا مرا كالعلقم.

“وكانوا أصدقاء لنا فى الكويت فوالدى يشتغل بالتجارة وكان يسافر كثيرا إلى العراق وكانوا يزوروننا كثيرا بالبيت، وبدأت بعد فترة الاحظ أن إبنهم الشاب مهتم بى ومنجذب ناحيتى لكنى لم أعره أى إهتمام إلى أن أفصح عن حبه وأعلم والده ووالدته بأنه يحبنى ويريدنى. فتركت الأمر لأهلى الذين وافقوا عليه دون اعتراض من ناحيتهم كما كنت أتوقع. تم الزواج، واستمرت الحياة رضية بيننا وأعطانا الله ثلاثة أبناء وبنتين حرصا على أن نربيهم أحسن تربية وأن نعلمهم الأدب والطاعة والإيمان. كما حرص زوجى طول الوقت على أن يزرع فى نفوسهم حب الوطن، فقد كان مصرا على أن يوعيهم أنهم عراقيون. وأن إنتماءهم وولاءهم لوطنهم الأم هو الاساس!

لم أعترض على ذلك، ولم أعارض رغبته، وأعتبرت أن هذا حق من حقرقه لا      يصح لى أن اسلبه اياه فتركت له مسئولية تربية عياله كما منعا للمشاكل وحرصا على تجنب العناد وما يسببه من مواقف قد نندم عليها لو حصلت فيمــا بعد.

وبهذا المفهوم عشنا فى سلام ومضت الحياة بنا سلهة لينة. فكل ما نحتاجه متوفر وموجود بزيادة والخير كثيروالحمد الله، وعيشتنا رغدة مرفهة والرزق من عند الله.

كبر إبنى البكر إلى أن بلغ سن التجنيد الإجبارى فى العراق فأردت أن ندفع عنه مبلغا من المال ليتم اعفاؤه منه إلا أن زوجى رفض وأصر على أن يسافر إلى العراق ليؤدى واجبة نحو وطنه وليشعر بشخصيته مثل باقى الشباب الذين فى مثل عمره.

سافر إبنى و يدي على قلبى الملهوف لفراقه لكن تأكيد زوجى أن هذا الواجب المقدس شئ ضرورى ولازم على من هم فى مثل سنه وأننى “عيب” على أن أعترض وأن أدفعه إلى التقصير فى حق وطنه، والأولى بحب ووبذل الروح فداه.

سكت وحمدت الله فى سرى أن حرب العراق وايران قد انتهت وطمأنت نفسي أن بغداد قريبة وأنى أقدر أروح أشوف إبنى وإطمئن علية. وارتحت وتفاءلت بالخير وقلت خلاص .. ما عادت فيه حروب ثانية مع العراق والحمد الله.

ولكن قلبى إنقبض عندما بدأ صدام يهدد أسرائيل فى مطلع هذا الصيف وخشيت على إبنى أن يصيبه مكروه لا قدر الله، لو نفذ صدام وعيده وحارب اسرئيل وقعدت أصبر نفسى وأقول عساها ما تقوم الحرب، وتكون المسألة بس كلام فى كلام.

وجاء الصيف حارا هذه السنة فسافرنا إلى لندن مبكرا ليس كعادتنا لنقضى الصيف هنا بصحبة الأهل أمى وأخواتى كما هى عادتنا إلا ابنى الذى التحق بالتجنيد قبل عدة أشهر، وزوجى الذى ظل بالكويت إلى أن يحصل على أجازة من عمله ويلحق بنا، وولدى الذى كان مشغولا بادارة مؤسسته التجارية هناك.

بدأت الإجازة سعيدة هادئة فالأتصالات مع زوجى وولدى مستمرة والأحوال عادية، والأمور مستقرة لا يعكرها شئ سوى غياب إبنى عنا لأول مرة فى حياته …!

كانت هذه هى الغصة العنيفة التى أحسها فى صدرى تنغز قلبى وتسمم حياتى لكنى تصبرت وأخفيت الآمى ومخاوفي حتى لا أسبب مشاكل أخرى مع زوجى الذى يؤيد هذا الموضوع ويتحمس له.

وفجأة فى فجر ذلك اليوم المشؤوم ولا أعرف كيف أتحكم فى أعصابى جاءنا الخبر الأسود أن العراق غزا الكويت!! إتصل بنا والدى ومن بعده بقليل زوجى!!

صرخت .. صرخت وبكيت وأنا أكاد أشل من شدة الخوف والفزع بعد سماع هذا  النبأ الفظيع الذى وقع علينا كالصاعقة! فجاة .. فى ليلة واحد تنقلب بنا الدنيا فوق تحت ؟

معقول هذا الكلام ؟ العراق يهاجم الكويت ؟ والكويتيون يتقاتلون بالرصاص مع العراقيين ؟ يا    مصيبتى يا بلوتى ؟

آه يا قلبى .. ترى .. من أبكى أولا ؟

ضياع وطنى .. أم فقدان إبنى . أم هلاك أبى وزوجى وأهلى وعشيرتى؟

واستمرت المصيبة عنيفة أليمه طاحنة وتعذبنا ونحن نسمع أخبار الغزو الملعون الذى فى كل يوم تزداد وحشيته وبشاعته، وعرفنا كيف يفتك الجنود العراقيون بالكويتيين الآمنيين وعلمنا بذلك الدور البطولى الذى تقوم به المقاومة الكويتية من شجاعة واستبسال لصد هذا العدوان الملعون على أرض الوطن الحبيب!

رأينا فى التليفزيون هؤلاء الشباب الصغار وهم يركبون الدبابات والعربات المدرعة.. وتخيلت ابنى بينهم تصورته واحد منهم جاء يهاجم وطنه الثانى الذى رباه ورعاه ..          آه مصيبتى… وأمام هذا الوضع الخطير لم يعد أخى الأصغر يطيق الصبر وفى يوم ودون أن يخبرنا لا أنا ولا أمى ولا أحد من العائلة سافر وتركنا وكلف واحد من أصحابة بان يتصل بنا من المطار ليخبرنا بأنه مسافر إلى السعودية هو وأصحابه ليتسللوا من هناك ولينضموا إلى المقاومة الكويتية داخل الوطن.

وبكيت … بكيت بدم قلبى كما لم أبك طوال عمرى وازداد جزعى وعذابى وأنا أرى أمى تسقط مريضة أمامى وهى لا تكف عن الدعاء على صدام وعلى عسكر صدام وتطلب لهم الموت والهلاك.

وكانت عندما ترانى أبكى وأكاد أن أقع على الأرض من شدة الضعف والحزن والهزال تقول لى: “سامحينى يا بنيتى، أنا ما قصدت ولدك .. أنا قصدت هذا الظالم اللى ما يخاف ربه .. هذا الصدام الجبار اللى نسى نفسه وظلم عباد الله وياه”.

ويأتى الليل .. كئيبا أسود مرعبا .. ليل طويل فظيع لا أعرفه ليل تخلو سماؤه من النجوم ليل أسود حالك السواد .. كله كوابيس وأحزان كله أفكار سوداء .. فهل يمكن أن يقتل إبنى خاله أو جده؟ أم أن أخى الفدائى سيقتل ابنى .. أو زوجى؟

وأعود أتساءل وأنا أكاد أجن: من منهم سوف يقتل الثانى ؟ أنهم جميعهم مصيرهم أما قاتل .. أو مقتول والعياذ بالله . آه .. يارب .. الرحمة بعبادك يا أرحم الراحمين، أخرجنا من هذا العذاب بقدرتك وعظمتك يا قادر يا قوى يا عظيم.

وأنهض فى منتصف الليل أتوضا وأصلى .. فتهدأ نفسى قليلا ويسبغ الله على من رحمته صبرا وسكينة وأقعد من الفجر أتكلم مع أمى أشكو لها همى وهى مسكنية رغم مرضها لا يغمض لها جفن بل تسهر إلى جوارى تحاول أن تخفف عنى وتهون على فأقول على فأقول لها أطمئنها: إن شاء الله المسألة ما راح تطول .. وكل شئ سيرجع الى حالة بعون الله.

ونجلس معا نحاول أن نصبر أنفسنا على بلوتنا فأمى قلقة خائفة على ولدها وزوجها وأنا خائفة على ولدى وزجى، لا أقل عنها قلقا، فأنا خوفى يتزليد أيضا على أخى ووالدى.

وأخير استعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأطرد الوسواس عن رأسى وأبعد الهواجس عن فكرى علنى أهدأ وأرتاح.

ونجلس حول طعام الأفطار، وما فى أحد منا قادر يأكل ما فى نفس عنفا الطعام، ومثل ماينحط يرفع، بس نشرب الشاى لا نعرف له طعما ونطالع نشرات الاخبار.

وهنا.. تتقطع قلوبنا عندما نرى مناظر الظلم فى ديرتنا فتفزع أمى وتأخذ هى وأخواتى وأولادهم يسبون ويشتمون صدام والعراق والعراقيين على مسمع من عيالى الجالسين بيننا فألاحظ أنهم منكسرو الخاطر ذليلون، متضايقون من اللى يشوفونه ويسمعونه،   ومحرجون لانهم عراقيون!

وأحيانا تصير خناقات بينهم وبين أولاد خالاتهم وأخوالهم عندها يسبونهم فى الوجه وعلى الفور تنشب مواقف محرجة ما نعرف كيف نحلها وما نقدر نتحملها.

تغيرت الحياة علينا فجاة. غابت البسمة عن وجوهنا، صرنا كلنا أعصابنا مشدودة ونختلف على كل كبيرة وصغيرة أى كلمة تقال ولو من غير قصد تتسبب فى خناقة وهوشة وصراخ وبكاء ونكد لا يعرف مداه إلا الله.

وما عدت أقدر أصبر على هذا العذاب المهول، ففى كل يوم خناقة وفى كل ساعة بكاء وفى كل ليلة سهر وفى الصباح نرى وجوهنا صفراء وعيوننا كليلة من شدة النوح طوال الليل، وكأن صدام زرع قنابله ورصاصه داخل صدورنا وبيوتنا بعدما حرق قلوبنا وعيوننا. وصرنا بين ليلة وضحاها كأننا أعداء نتربص ببعضنا البعض!!

فهولاء الجهال لا الصغار الله يهديهم لا يسكتون أبدا ولا يكفون عن السبب والشتم والخناق مع بعضهم ونحن الكبار غصبا علينا نتأثر بكلامهم بعدما نسمع شتائمهم وخناقهم، وبعد أن شعرنا بأن العداوة بينهم كبرت وزادت!

بعدها .. ما عاد أحد فى البيت قادر يتحمل عيالى صاروا منبوذين مكروهين من الجميع وكأنهم هم السبب وحدهم فى إحتلال الكويت أو كأنهم هم اللى صنعوا هناك كل هذه المآسى التى تعذبنا وترهقنا وتقضي على راحتنا!

بعدها .. فلتت أعصابى، صرت كل شوية أضرب عيالى وأسبهم كى أسكتهم وأخرسهم وأخليهم ما يردون على عيال خالاتهم. لكنهم صغار ما يقدرون وما يطيعون صدق.. ما قدرت عليهم بل قاموا يعاندون بزيادة، ولازم يردون لما أحد يشتمهم وسيبهم. 

“والحين .. تلاقينى محتارة ماأنى عارفة أين أروح ولا أين اتى”. فالعيش هنا مع أهلى   وعيالى صار عذاب فى عذاب، والعودة إلى الكويت فى هذا الوقت مستحيلة بالنسبة لى لأن أخوتى يرفضون سفرى ولا يوافقون على رجوعى خوفا على من الأذى هناك.

والشئ الفظيع الذى يحطم أعصابنا الآن ويكاد يقتلنا ويقضى علينا ويجعل حياتنا كلها كوابيس وأفكار سوداء، إننا لا نعرف أى شئ عن أبى ولا أخى ولا حتى زوجى .. ولا عن إبنى ..! كلهم أخبارهم مقطوعة عنا والشوق إليهم يعذبنا وللأسف ما نقدر نعمل لهم أى شئ بس قاعدين هنا ننتظر على نار ونظل نضرب أخماسنا فى أسداسنا ولا عارفين كيف نخلص من هذه المصيبة ولا هذه البلوى التى دمرتنا وزلزلتنا وخربت حيانتا ودمرت سعادتنا .

اننى منذ تلك الليلة السوداء ليلة الغزو المشؤوم التى لم يطلع لها حتى الآن نهار وأنا لا أعرف طعم النوم وأقعد أسهر أفكر إلى أن يغلبنى النعاس بعد التعب والإرهاق فأنهض أسهر وأفكر وأدعو ربى أن يفرج كربتنا، وأن يفك بلوتنا حتى أتعب وأنعس، ثم أنهض بعد دقائق أفكر مرة ثانية وثالثة .. حتى أصابتنى الدوخة والدوار، وانقلبت معدتى التى أصلبها غثيان فظيع جعلنى أخرج كل ما فى إمعائى إلى أن حل بى هزال عنيف ما عاد يخفى على عين أحد. والحين .. لم يعد عندى ما افعله سوى أن أدعو الله ليل نهار أن نعود إلى وطنى الحبيب وأن يعود إلينا وأن يلتئم الشمل مرة ثانية وأن تزول هذه الغمه عنا.

آه .. ياربى .. أني أتحسر على حياتى، فها قد أصبح إبنى عدوا لأخى وصار زوجى عدوا لأبى وأمسى عيالى أعداء لأقاربهم وأبناء أخوالهم وخالتهم!!

وأنا .. يا ربى ..؟

ماذا أفعل وأنا أسمع أمى تدعو الله أن ينجي ولدها، وأن يكون الموت نصيب صدام وجنوده الكفرة اللى ما يخافون ما يخافون ربهم وعسى أن يأخذهم كلهم وما يخلى منهم أحد ؟!

وهنا .. يقفز قلبى هلعا، وأكاد أن أصرخ لا يا أمى لا تدعى على ولدى .. ابنى حبيبى فهو واحد منهم أرجوك يا أمى أدعى الله أن ينجى ولدى دونهم.

وأدخل غرفتى، وأتمدد على فراشى أبكى بلوتى وأدعو الله أن يفرج كربتى وأن يعود وطنى وأن ينجي رجالنا كلهم، ومعهم ولدى وأخى وزوجى ووالدى .. يارب ياقادر يا كريم.

****


زوجى …ليس جبانا![6]

كنت طالبة بجامعة الكويت فى السنة الثانية – كلية العلوم ورغم دراستى العلمية التى هلنى لمتابعتها مجموعى العالى الذى حصلت عليه فى الثانوية العامة – مقررات إلا أننى باعترافى وباتفاق الجميع عاطفية جدا بل … وشاعرية جدا. ومما ساعد على إثراء          مشاعرى، قراءاتى الأدبية الكثيرة المتنوعة فى الجامعة .. رأيتة ولا أدرى كيف تعلق قلبى به من أول نظرة تلاقت فيها عيوننا شعرت خفقة قوية داخلى وكأنى رجعت على الفور مراهقة مرة أخرى!

تعجبت من نفس .. ما هذا ؟ أيكون هذا هو الحب الذى يسمونه “حب من أول نظرة؟ تجاهلت الموقف، مضيت فى طريقى إلى الداخل حتى لا تفوتنى المحاضرة التالية وحاولت أن انسى أمرهذا الشاب الذى رأيتة اليوم لأول مرة .. منذ دخلت الجامعة!

انتهت المحاضر خرجت مع بعض الزميلات. ركبت سيارتى. اتجهت إلى البيت       وكم كانت دهشتى بالغة عندما وجدت سيارته تصطف خلف سيارتى وأنا أقف عند الإشارة المؤدية يسارا إلى منطقتنا!

خفق قلبى ثانية. انتقض بدنى وأنا أحس نظراته تخترق المرآة بحثا عن عيونى أضطربت صدق والله ارتبكت .. لكنى نجاهلت الموقف للمرة الثانية أيضا وبكل تقل تعمدت ألا التفت ناحيته وألا أنظر يمنا أو يسارا .. كأنه لا وجود له على الطريق جوارى!

وتكررت نفس الأحداث . اللقاء الصدفة (!!) بين ردهات الكلية المتابعة من بعيد بنظرات حانية نارية الملاحقة عن بعد .. حتى ادخل باب البيت!

وذات يوم .. دق جرس الهاتف. وفور سماع صوته عرفت على الفور من هو لم أدعه يتكلم كثيرا. بذوق ولطف أفهمته أننى لست من هذا الصنف من البنات المستهتوات التى ما أن تعرف الواحدة منهن أن شابا معجبا بها حتى تطيح فى غرامه وتقع فى بحور هواه. طلبت منه بتصميم على الحفاظ على سمعتى وعلى الاحتفاظ بثقة أهلى بى فسألنى سؤالا وحدا قال: حسنا .. هل تسمحين لى أن أكلمك ولو خمس دقائق فى الجامعة؟ فقلت له: لا أستطيع فعاد يسأل: حتى لو عرفت نيتى وأنى أريد أن أتزوجك؟ فقلت له بإستخفاف: تفضل الوالد موجود .. والباب مفتوح .. وياهلا بك فى أى وقت.

بعد هذه المكالمة انقطع عن الحضور إلى الجامعة عدة أيام فأصابنى القلق العميق لغيابه واعترانى الشوق الأعمق لبعاده. لكن ما باليد حيلة مستحيل أن أتراجع عن موقفى مستحيل أن استسلم لرغبته. آه .. يبدو أنها مناورة من مناورات هؤلاء الشباب المدربين على طرق الايقاع بالبنات، لن أشغل بالى به بعد اليوم، وسأحاول أن لا أفكر به أكثر من ذلك.

لكن .. كم كان ذهولى وكم كان سرورى وأنا أراه يأتى بعد أيام الغياب مع والده ليخطبنى من أهلى آه .. يافرحتى .. يافرحتى! 

وفى حفل كبير تمت مراسم الخطبة وتلقيت بكل فخر وفرح تهانى الأقارب والصديقات. فهو خريج جامعى سابق من نفس الجامعة ومن نفس الكلية وسيم متدين ابن  عائلة عريق الأصل طيب الأخلاق الصراحة شعرت أن صديقاتى يحسدننى عليه وعشت ساعات الحفل بكل فرح وفخر ولبسنا الدبل وأنا أحس كما لو كنت أحلم. بعدها بعد الخطبة صارحنى بكل شئ، عرفت كل شئ بعد أن إنتهى من دراسته بالكلية بحوالى سنة       ونصف أراد أن يتزوج فتمنى بنتا حلوة متعلمة مؤدبة متدينة ليست من هؤلاء البنات السهلات اللأتى لا يمانعن فى إنشاء علاقات عابرة مع الشباب بغرض الزواج!

وصارحنى بأنه أبدى رغبته هذه لبعض معارفه وأصدقائه فرشحنى البعض له مؤكدين أنهم لم ينجحوا فى إنشاء صلة معى ويئسوا من التعرف على واننى أنسب بنت تصلح له .. فقط لو قبلت أو رضيت به لأننى متعالية مغرورة لا يملأ عينى أحد كما يقولون عنى يبتسم يتابع كلامه وهو ينظر نحوى فى شوق وحب، يقول: ولم يبق عندى شك فى سلوكه بعد أن سألت عنك كل من يعرفك، وسمعت عنك كل خير. بعدها قدرت أن أتقدم لك، وبعد أن   شعرت باعجابك وموافقتك، ولم تبق عندى رغبة فى الانتظار كما لم تعد عندى مقدرة على مقاومة الصبر، فقد وقعت صريع غرامك حبيبتى .. من أول نظرة فى عيونك الحلوة وهنا .. شعرت بالدوار. كنت أنا محور هذا القرار إذن؟ وكنت .. دون أن أدرى، معرضة لهذا الاختيار؟ حمدى الله كثيرا الذى هدانى إلى حسن التصرف وأهدانى هذا الشاب الطيب الأخلاق وشكرت أهلى الذين أحسنوا تربيتى وأطلقت لقلبى فى حبه .. العنان!.

نعم .. أحببتة حب الجنون. صار هو عنوان أيامى، عبق ذكرياتى، معنى حياتى، فما عدت أذكر اسما غير اسمه صرت أحيا فى زمانه، صرت أدور فى فلكه واعتبرت زمتى الذى مضى قبل أن أعرفه وقتا مهدرا وعمرا ضائعا.

ومع الليل .. أمسيت استأنس بصوته اسمع النغم فى الشعر واللحن فى حديثه ولم ندع الزمن يسلبنا الفرصة الحلوة لنهنأ بحبنا عقدنا القران وسط فرحة الاهل بنا .. وبدأنا  والعائلتان معا نستعد جميعا لحفل الزفاف وذاك الذى أردناه حفلا كبيرا أسطوريا يكون حديث المجتمع كله.


وبعد فترة سافرت أمى وأختى الصغرى إلى باريس لاستلام فستان الفرح الذى انتقيت موديله بنفسي فى عطلة الربيع هو ومجموعة أخرى من فساتين صممت على أحدث خطوط الموضه من بين أزياء عالمى مشهور.

وبقيت أنا بالكويت لأنى كنت مشغولة على الآخر بانتقاء أثاث بيتنا الجديد، وكنت أنا وسالم راحين جايين طول الوقت على المحلات لاختيار قماش الستائر والسجاد والتحف وكل هذه الأشياء التى يحتاجها تأثيت بيت جديد.

وتحدد موعد الزفاف .. الخميس التاسع من شهر أغسطس كى نسافر بعدها فى رحلة حب، خلال شهر عسل نطوف خلاله مدن أوروبا ننشر عبير حبنا بين ربوعها، وننهل من ابار شوقنا بروى عطش قلوبنا دون رقيب يحسدنا أو يحصى علينا أفعالنا وضحكاتنا.

انتهينا من كل شي تقريبا اكتمل البيت بكل ما تشتهى الأنفس والأعين الشئ الوحيد الذى لم نشتره ولم تضعه داخله هو نباتات الزينة فقد أجلناها لحين عودتنا لأن العناية بالنباتات المنزلية هوايتى المضلة.

اتصلت أمى تطمئن على أخبارى وتقول لى انها استلمت كل الفساتين فى الموعد المحدد، وأن فستان الفرح “يهبل” وطالع أحلى مما كانت تتوقع وسألتنى إذا كان ينقصنى أى شئ لتحضره معها وهى جاية، وقالت لى أختى انها اشترت لى تحفا حلوه للبيت وأحدث أنواع العطور التى ما نزلت أسواق الكويت بعد ..

وبت أعد الساعات .. فالباقى لا يزيد عن عشرة أيام .. عشرة أيام ويتعطر الليل برائحة الحب، وتسرى فى عروقى فرحة الحياة فى قرب زوجى حبيبى.

اه يا للحب فى عطائه الحانى .. ويا للقلب عندما يعشق، فتبقى داخلة صورة الحبيب وحده، لاتغيب، وأبدا لاتضيع.

ونمت .. أحلم بالبيت والفرح، والحب والحياة لكن .. ويا لها من لكن هذه. صباح الخميس الذى كانت ستعود فيه أمى وأختى من باريس والذى يسبق موعد فرحى بأسبوع واحد صحوت بعد أذان الفجر على صوت حبيبى يحذرنى من الخروج من البيت ويصبح “انتظرينى.. الحين آجيك .. ترى العراقيون هجموا على الكويت!!.

صرخت .. بكيت عراقيون؟ هجموا على الكويت؟ لا أصدق .. غير معقول؟0.

رد باصرار “اسمعينى لاتطلعى قبل ما آجيك .. انتظرينى لا تخافى .. لا تخافى”

وانقلبت الدنيا أضحى الصيف لهبا وشواظا .. بات الليل سوادا وبأسا ورمادا ولاحت لنا الشمس كرة نار تحرق أحلامنا وأشواقنا وتكوى قلوبنا!!

وتحت أعيننا. تتابع الأحداث عنيفة فظيعة طاحنة، فالقتل هنا، والموت هناك والغدر والسلب والنهب والفوضى فى كل مكان. انعدم الأمن وضاع الامان.

ياربى أين كان ينتظرنا كل هذا الهول والخراب والدمار؟ ياالهى ماهذه اللعنة التى حلت بنا فوأدت أمانينا ودفنت آمالنا وقبلات أحلامنا؟

وانقلب سالم فجأة رجلا آخر لم يعد يضحك أو يتكلم أصبح عابسا صامتا نضم إلى المقاومة واستبسل فى الدفاع عن الوطن بكل طاقته وقوته، لم يعد ينشغل عنه بأى شئ آخر تحولت أحلام أفراحنا انهارا من دماء وأصبحت الذكرى العذبه عندى مجرد ظلال وسراب وظلام!

وبعد أيام من الغزم العراقى الملعون، أتانى سالم ليلا، وطلب من والدى أن يسمح له ليأخذنى معه، لابقى عند أهلة لأن منطقتهم أبعد قليلا عن بؤرة الأحداث وآمن بعض الشئ كما أن بقائى مع أمه واخواته فى مثل هذة الظروف أفضل من وجودى فى البيت وحدى خاصة أن أمى وأحتى لم تتمكنا من العودة إلى الكويت بعد اغلاق المطار.

وفى اليوم التالى أوصلنى أخى إلى بيت أهل زوجى ومضى مسرعا إلى صفوف المقاومة بعدها لم أعد أرى زوجى إلا قليلا لأنه كان مشغولا مع باقى الشباب الأبطال بمهمة الدفاع عن الوطن.

مضت الأيام علينا عصيبة عنيدة ، كأن الشمس هى الأخرى قد ضاقت بالنهار فصار زماننا ظلاما فى ظلام وضقت بكل شئ حولى صراحة خفت من مفأجاة الحزن الآتى،    خفت من فقد الأحباب بعد ضياع الأمان وغياب الاطمئنان وحلول الظلام ذاك الظلام المخلوط بالخوف والقلق والترقب والانتظار!. 

آه أملا توارئ يا فرحا راح وغاب يا حبا أخشى أن يضيع فى تبه العذاب آه .. قلبا واجفا يرهب سطوة القهر وقسوة الاحزان.

يارب متى ينتهى هذا الكابوس الأسود الذى طال وطال وطال .. بكيت من القلب وأنا    أفكر فى خوف أمى وأختى وذعرهما علينا وفزعهما بعد انقطاع أخبارنا عنهما .. آه ماذا تراها           أمى تفعل بعد أن تعرف ما حدث لأخى؟ للأسف .. لم يرحم المعتدى شبابه. استشهد أخى حبيبى راح فداء للوطن بعد أن فجر ببطولة واقدام مدرعة مليئة بجنود العدو اللعين.

بكيته .. بكاء قلبى قبل عينى الكل بكاه، حتى البحر بكى شبابه الغض ، فبللت دموعه رمال الشيطان .. الا أبى الذى لم يقبل فيه العزاء، والذى أوصانى خيرا بنفسى، وطلب لى الصبر من الله وقال صابرا متصبرا: ” ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء  عند ربهم يرزقون ”                                     

“صدق الله العظيم “

 

وظل أبى صامدا فى بيتنا رافضا تماما فكرة ترددى عليه لأرعى شؤونه وأشرف على راحته وقال لى أنه لايريد سوى راحتى، وأنه يكره خروجى من بيت زوجى، وانى لايجب  أن احضر إلى بيتنا مرة ثانية لأن البيت والمنطقة كلها مراقبة، وأنه يخشى على أن يصيبنى مكروه .. وبقى وحده لايؤنس وحدته الا تلاوة آيات الذكر الحكيم ليل نهار.

وبعد عدة أيام من استشهاد أخى حضر أبى الينا ورجانى أن أخبر زوجى أن يخرجنا       من الكويت بأقصى سرعة لأن العدو عرف أن أخي قد شارك فى تلك العملية الفدائية وأنه يخشى من انتقامهم منى وهدرهم لشرفى أو قبضهم على سارك الذى بدأت الشبهات تحوم حول نشاطه الفدائى هو الأخر.

انتظر والدى وصول زوجى بفارغ الصبر، وبصعوبة اقنعه بضرورة تهريبنا إلى الخارج، أنا وكل نساء اسرته أن تقع فريسة بين أنياب هؤلاء الذئاب البشرية التى تفترس الشرف والكرامة وتقهر قلب الإنسان وتطعن كراميه.

وأطاع زوجى رغبة والدى .. طلب منا جميعا أمه وأخوته وأنا أن نستعد للرحيل،  وفى هلع دبرنا حالنا حتى لا نضيع الوقت خاصة وأنهم قد بدأوا يضيقون علينا الخناق وباتوا يحاصرون المناطق بحثا عن الفدائيين الأبطال، أو أهلهم ليقتصوا منهم بطريقة قطاع الطرق والأعناق!

اه .. ياللهول بالعذاب .. كيف صار البحر قبرا؟ وكيف تناثرت جثث الرجال الأبطال كالحجارة على الطرقات؟

ياربى كيف ماتت الرحمة فى قلوبهم؟ كيف نسوا دينهم؟ وكيف تناسوا الأسلام .. دين السلام وأخيرا .. وصلنا إلى بر الأمان إلى المملكة العربية السعودية وهناك ذقنا النوم بعد السهد والسهر وعرفنا الراحة بعد التعب والشقاء والارهاق ونعمنا بمعانى الأمان والعطف والتراحم والمشاركة والاخاء ..

الحمد لله والشكرلله.

اطمأن زوجى علينا وأراد أن يرجع ليتابع نشاطه الفدائى مع باقى الأخوان لكنى صرخت وبكيت استرحمت، قلت له لو رجعت سأرجع معك لن أخليك بروحك .. رجلى على رجلك.

وحاول سالم المستحيل ليقنعنى بتركه يرحل وحيدا دونى، حاول بشتى الطوق أن  يثينى عن عزمى، مبررا لى موقفه ضرورة الرجوع حتى لايتهمه الأخوان بالتخاذل،  ويظنونه جبانا هرب وقت الدفاع عن الوطن، فصرخت فى وجهه باكية لا أنت بطل ياسالم مافيه أحد فى الدنيا يقدر ينكر عليك بطولتك، أنت لست جبانا ولايستطيع أى انسان أن يتهمك  بما ليس فيك، أنت لست جبانا.

بكيت، ترجيت توسلت أن لايتركنى لوحدى قلت له أنا محتاجه لك ياسالم وما أقدر أعيش من غيرك، وأمك وأخوتك البنات كلنا محتاجين لك أرجوك خليك معنا.

ارتميت على الأرض أخضن ساقيه أقبل يديه له بيكفى أخي بيكفي واحد مات شهيدا، وأنا لاتحكم على بالموت بعدك ياسالم أتوسل اليك.

لكنه بقى واقفا شامخا كالجبل مصرا على العودة إلى الوطن فلم تثنه دموعى عن عزمه، ولكن خالتى دخلت علينا بعدما سمعت صراخى، وقالت له: سالم حرام عليك ياولدى .. حرام عليك تموتها، ألاتعلم أنها حامل والبكاء خطر على صحتها؟

وهنا بهت سالم وقف بطالعنى بعينين واسعتين فيهما عمق البحر، ونقاء السماء وتساؤل المساء وانحنى يضمنى إلى صدره وفى رفق، يربت على ظهرى فى رقة بضمنى إلى قلبه فى شوق وحنان وأنفاسه تتهدج حارة ساحنة حول عنقى، تطلع من صدره تقتحم صدرى حاملة همومه وأحزانه وحيرته داخل وجدانى وروحى ونفسي.

يصمت بعانقنى كأنه يعتذر عن شقائى معه عبر رحلة الصحراء ورمال الصحراء وحرارة الصحراء التى لفحتنا ولوحتنا لكنها فى النهاية حمتنا واراحتنا.

وفى هذة اللحظة الحائرة الحانية بدأت أحس الحياة فى جسدى من جديد بدأت ارتاح بدأت أشعر أننى طير عاد الي مأواه فأصبح لايرى شيئا سواه.

همست له: نعم .. سيكون لنا نفس المصير حبيبى، وسنعود معا ومعنا الفرح إلى الوطن .. نربى طفلنا بين ربوع ديرتنا ليلعب ويلهو مع رفاقه وأصحابه وأخوانه. فابق معى فأنا أحتاجك حبيبى .. وما عاش ولا أتولد من قال عنك جبانا!

****

 

 


الحسام الاسمر![7]

فارس أسمر، فارع الطول، أسود الشعر والعينين، نحيل القامة فيه صلابة       الصحراء وبأس الصخر وحدة الصقر وفراسة العربى ذى الطبيعة اللماحه الفائقة الذكاء.

فى مقر الخطوط الجويه الكويتية فى شارع “بيكر” بلندن ..قابلته لبضع دقائق لكنها… كانت كافية تماما لتكوين فكرة صادقة عن شخصيته طبيعته نوعيته كان ذلك بعد أيام طوال من الغزو المشؤوم الملعون لأرض الكويت الغالية.

هو واحد من شباب الكويت الأبطال الذين يوحون لمحدثهم فى هذة الأثناء بعدى إصرار هذا الشعب الأصيل على المقاومة والتحدى والأستمرار فى النضال والقتال.

بعد حوار سريع عرفت منه أشياء كثيرة تشكل عناصر هذه الحكاية الواقعية التى تثبت للجميع كيف يمكن أن يقدم الانسان ذاته راضيا قانعا ساعة الخطر فداء للوطن دون تردد ودون أبطاء واليكم حكايه هذا الشاب الفارس المغوار.

شاءت الظروف أن أكون موجودا فى الكويت حين وقع الغزو علينا. صدقينى لم استوعب حقيقة الوضح ساعة سمعت الخبر المؤسف قبل مغادرتى البيت فى الصباح الباكر متجها الى مقر عملى بالمطار.

فى الحال قفزت من فراشى كما لو أن لدغتنى عقرب. أرتديت ملابس العمل على عجل وخرجت مسرعا لأتمكن من متابعة الأحداث عن كثب. حملت سلاحى معى واتجهت بسيارتى إلى طريق المطار ولكن … كان الغزاة قد سبقونى إلى هناك وكانت أصوات طلقات الرصاص ودوى القنابل تسمع على بعد كيلو مترات!

صراحة .. انبهرت لما أسمع وأرى خيل إلى لوهلة أننى أمام أحد أفلام المغامرات الخيالية . صدق .. لم استوعب ما أمامى على الفور عجزت عن تصديق عيونى وأنا أرى أمامى طوابيرمن مدرعات العدو ودباباته تملأ الطريق الدائرى السادس!!

بعد وهلة قررت أن اتصرف بطريقة ثانية أفضل. فمن الحماقة كل الحماقة أن يفقد الأنسان حياته ببساطة ودون أن يحقق فى صفوف العدو خسائر تساوى بل تفوق قيمة هذه الحياة التى تهون وترخص فى سبيل الوطن.

لذلك استدرت على عقبى، رجعت إلى البيت أستبدلت زيي الرسمى الذى يشبه زى العسكريين بالدشداشة، حتى لا يلقى العراقيون القبض على واقع أسير بين أيديهم فأعجرعن الدفاع عن الوطن ثم أخفيت سلاحى فى مكان أمن بسيارتى واتصلت بأمى لأطمئن عليها فقد خفت عليها من هول المفاجأة وتأثير الصدمة وحاولت أن اطمئنها وأن أخفف من قلقها وذهولها فأخبرتها سأمر عليها بعد قليل.

خرجت إلى الشارع فرأيت مرة أخرى منظرا مهولا من الصعب أن ينساه الانسان … كمية من الدبابات والمصفحات تحيط بالطرق من كل أتجاه وعدد غزير من العسكر المنتشرين فى الشوارع كالذباب!

وإذا بأحدهم يطلب مني فى صلافة أن أرجع من حيث أتيت وألا أطلقوا علي النيران فانصعت لأوامرهم مرغما ورجعت والدم يغلي فى عروقى، وحاولت أن أفكر بترو وأن  أتدبر أمرى بتعقل كى لا أندفع خاطئا فيها لا ينفع ولا يفيد.

اتصلت فى الحال ببعض الأخوان واتفقنا أن نلتقى فى بيت أحدهم باليل بعد أن نتنكر ونتخفى مستترين بالظلام لنفكر معا ونقرر ماذا يمكننا أن نفعل وكيف نتصرف مع هذا العدو الذى فاجأنا بهذا الموقف المذهل والغريب!!

اتفقنا على أن نقتص من هؤلاء الأعداء الأوغاد بأقصي سرعة ممكنة على أن يحاول كل منا أن يحصل على السلاح بأى طريقة. حمدا لله .. كان أحدنا من العاملين فى وزارة الدفاع العارفين بمخازن السلاح والقادرين على تزويدنا بما نحتاجه منه.

بدأنا الجهاد .. عملنا كمائن لتدمير مدرعات العدو واصطياد رجاله الأدعياء المعتدين على أرضنا وكرامتنا وسمعتنا.

أستمرت المقاومه عنيفة ضارية ووفقنا الله فى أنزال خسائر لا يستهان بها فى  صفوفه، وكان لي وحدي شرف الفتك بثلاثة من هؤلاء الغزاة اشباه الرجال ….!

كان أحدهم قد جاء بكل قحة وبحاجة يطلب منى طعاما وماء فادخلته بحجة اعطائة ما طلبه وقتلته فى عقر دارى وفى الليل سحبته سحبا والقيت بجثته فى بالوعة المجارى كالفأر الأجرب.

تعجبت .. كيف بالله يأتى اللص يقتحم دارى ثم يطلب منى اكرامه واطعامه؟! يالها من سفالة ونذالة لم يسبق لها مثيل فى التاريخ!!

بعدها بدأ مسلسل العته والجنون. أخذ هؤلاء الجند المشردون فى إقتحام البيوت كالشحاذين يتسولون الطعام والشاى والماء وتحت صليل السلاح قاموا يسرقون الأموال ويستبيحون الأعراض ويفتكون بشرف النساء ويسلبون حرية الاطفال!!

جن جنونى انصب خوفى عظيما على أهلى أمى أخوتى البنات زوجة أخى بناته الصغيرات أطفاله الأبرياء طيف نتقذهم .. كيف ننقذهم .. كيف نخلصهم من هذا البلاء؟!

وقررت أن أبذل كل ما فى جهدى لأخراجهن من الكويت فى الحال، فاتفقت مع أخى الأكبر على ذلك قبل أن يتعرض للأذى على أيدى هؤلاء الأنذال البخساء!

احضرت سيارة كبيرة وعباتها ببعض المؤن وزجاجات الماء وطلبت منهم سرعة الاستعداد للسفر قبل فوات الاوان ، الا أن أخى الاكبر فاجانى برفضه وأصر على البقاء فى البيت مهما كانت الاحوال .

اخدتهم معى وعشنا جميعنا ساعات عصبية مريرة قاسينا فيها شتى صنوف الخطر حتى وصلنا بسلام الى الحدود السعودية .

وهناك استقبلهم الاخوان جزاهم الله خيرا وقاموا بكل اللازم فارتاحت نفسي وهدا بالى وسكن خاطرى بعد أن أطماننت عليهم فى ماواهم الجديد ،ورجعت بعد عدة أيام الى الكويت من خلال طريق نعرفها جيدا فنحن أهل الكويت أحبر الناس بها الا يقولون (ألميه تعرف مجاريهــا) .

رجعت دخلت الديرة متسللا تحت جنح الليل .. الله يازمن ” عبيب أمرك أمرك أدخل وطنى متسترا بالظلام متواريا بالليل عن أعين الاعداء الذين لو رأونى أعبر حدودك يا وطنى لفتلونى أى والله .. دنيا “

اخ .. بسطية سؤف يحين حتما ؤقت الحسا الايقؤلؤن اللى ما يعرف الصقر يشؤ ية المهم  أ خت كريمة دخلت الديرة ؤفؤجيت با لمزيد من مناظر التخريب والدمار وقد برزت وتضاعفت فى كل كمان صارت الشوارع مثل سوق الغنم كل يروح ويجى وهو لا يعرف ماذا يمكن أن يحدث .. أوماذا يكمن أن يكون ”

دخلت بيت أهلى لم اعد الى مسكنى الخاص فانا أعزب لم أتزوج بعد ان كنت قد خطبت فتاة من عائلتنا قبل عدة أشهر بعد أن أقتنعت عقلا وقلبا بها وتوقعنا أن نتزوج قريبا ونبدا طريق حياتنا معا لكن الاحداث سبقتنا والظروف غدرت بنا وصيعت كل تصور اتنا الحمد لله على كل حال وان شاء الله تاتى العواقب سليمة ونسترد الوطن الحبيب من أيدى الاعداء الظالمين .

دخلت البيت فهالنى ما رأيت عليه حال أخى ،اصبح وحيدا بعد أن هرب الخدم كلهم كانت الفوضى والمعاناة واضحة للاعين لكنه ظل عنيدا شامخا كالجبل يرفض بقوة ان يستسلم لاى محاولات أنثناء أو أذلال .

ولاول مرة أراه يقوم بتدبير شؤونه بفسه يغسل ثيابه ينظف البيت يعد المتوفر من الطعام . لم أشعره بضيقى واسفلا على حالة وساعدته فى ذلك لابدد عنه الحرج وخرجت اقضى له بعض حوائجة بعد أن طمانتة على سلامة الاهل كلهم ثم انطلقت فى طريقى الى الاخوان لا ألوى على شى .. لنتابع مع أعمال المقاومة .

بعد  فترة استطعت بطرقى الخاصة ان أستخرج هوية باسمى الجديد وان انتكر فى مهنة تاجر أغنام لتمرير هذا الامر على المعتدين حتى لا أقع صيدا سهلا لهم

لو عرفوا حقيقتى واطلعوا على مهنتى .

واطلنا جميعا أداء رسالتنا السامية واستشهد البعض منا فى سبيل الوطن وجرح منا الكثير وحرنا فى طريقة علاجهم ، فالمستشفيات قد احتلها جند العراق الجبناء بعد أن طردوا المرضى منها ونهبوا محتوياتها وسرقوا أدويتها ومعداتهــا”

ولكن .. كما يقولون أبو الخبز يندل أبو المرق عرفنا بطرقنا الخاصة التى ما أقدر أشرحها لك الحين حفاظا على اسرار المقاومة هناك عرفنا كيف نحصل على الدواء اللازم لعلاج مثل هذه الحالات كما استطعنا مداواة معظم هولاء الجرحى بفضل لله وبفضل معاونة الاخوان الاطباء الذين ساندونا فى أزمتنا وساعدونا فى محنتنا ، وكانوا لنا نعم النصير .

وشاء الله أن تتعرض أحدى الاسر الكويتية القريبة لنا للتهديد بعد أن قتل عائلهم برصاص الغدر والخيانة ، ولم يبق فى البيت معهم رجل يحميهم بعد أسر ولدهم الطيار بالجيش فخفنا عليهم من احتمالات الاغتصاب فكلفنى الاهل بمساعدتهم واخراجهم الى حيث الامان لان لى خبرة فى طرق الخروج والدخول من والى الكويت عبر دورب الصحراء .

وكما حدث أول مرة نجحت بعون الله وفضلة فى مساعدتهم وانقاذهم من ذاك المصير البغيض الذى كان يمكن أن يصيبهم .. لا قدر الله .

وهناك رأيت أمى عرفت أنها مريضة فجلست الى جانبها أهون عليها ، وأسرى عنها لكنها كانت فى حال عسرة عصيبة يصعب وصغها ، كانت فى حالة يرثى لها من القلق والانشغال على حياتنا أنا واخى وباقى أفراد عائلتنا بعد أن تسربت اليها تلك الاخبار الوحسية المشوشة عما يحدث داخل الوطن من قتل وهلاك دون أى أسباب ” كانوا فى الواقع كلهم منز عجين خائفين علينا فطمانتهم ، وسكنت روعهم وصبرتهم على فراق الوطن والبيت والاهل والجيران واكدت لهم أنهم بخير وفى أمان فى وطنهم الثانى السعودية وبين أهلهم الذين قدموا لهم كل العون اللازم والموازرة المطلوبه واكثر .. صدق ةالله الاخوان هنا ما قصروا معنا .. حياهم الله. وبعد أن ارتحت قالت لى أمى أن خطيبتى فى لندن اتصلت بهم عدة مرات تسال عنى وتريد أن تطئن على أخبارى وتستحلفهم بالله أن اتصل بها فور وصولى عندهم وانها ظلت تترجاهم أن يبلغونى طلبها باى طريقة والحت على أمى أن أسافر لها وان لا أتاخر عليها حتى لا يصر فيها شى ، أو تمرض من شدة الحزن والخوف على .
واتصلت بها .. حبيبتى ، خطيبتى .. تلك التى كانت ستزف الى فى مطلع هذا الشتاؤ سمعت صوت بكائها فرق قلبى لها . وبعد الحاح وعدتها بسفرى لها تتركنى الا بعد ان أقسمت لها اننى ساحضر لاراها فى أقرب وقت ممكن .

وسافرت .. جئت الى لندن لاقابلها كما تعتقد ، لكننى بينى وبين نفسى أعرف اننى جئت لاودعها .. نعم .. لاودعها فقد حضرت لاوكد حبى لها وشوقى اليها ورغبتى فيها كما لم أرغب أى أخر فى حياتى .

لكننى ولتسامحنى حبيبتى لا استطيع البقاء ولا اقدر أن اقنه بحبها وحده فهناك فى القلب مازال .. ذاك الحب الخالد الكبير الذى لا يضاهيه حب أى انسان حتى لو كانت خطيبتى .. أو أمى حفظها الله واطال فى عمرها .

نعم .. أنه حب الوطن الذى يجرى فى الدم فيلهب الروح ويدفع الفرد لان يقدم حياته رخيصة فداء لتراب الوطن الغالى الحبيب .

والحين .. بعد أن أمضيت هنا بضعة أيام نعها حاولت خلالها المستحيل لتبقينى الى جانبها الى أن نتزوج بعد انفراج الازمة باذن الله والا اننى اعتذرت لها وتعللت باتى عندى شغل فى جنيف وضررى أسافر لانهائة على أن اعود لها بعد ذلك .

وفى الحقيقة .. أنا اضطررت لان أخفى الامر عنها لاننى فى الواقع ساعود الى السعودية ومنها ساتسلل الى الكويت لاتابع اعمال المقاومه من هناك دون امر على امى كى لا اودعها فانا احشى ان يزيد القلق والخوف والمرض عليها لو عرفت وجهتى وفهمت نيتى وعسى ان يوغفنا الله اداء رسالتنا وان يساندنا من اجل تحرير وطننا من هذا العدو الغادر الذى فاق بخيانته وحقدة وقذارته ودناءته كل ما يمكن ان يتخيله انسان قد يعيش مثل هذة الظروف والاحوال .. والاهوال

وعندئد .. سوف نعرف كيف نذيقة صنوف الذل والهوان .. بينما نحتفل نحن بانتصارنا واستعادة امجادنا واسترداد ارضنا والثار لكرامتنا وعزتنا .. والانتقام لشرفنا .


أم البطـــل

فى شقتها المفروشة المطلة على نادى الصيد بالمهندسين .. جاء لقائى بها امراة فى منتصف العمر ام لستة ابناء ثلاث بنات وثلاثة صبيان اكبرهم ضابط طيار فى الجيش الكويتى حديث التخرج ما زال حتى لحظة أجراء هذا اللقاء يمارس واجبه البطولى فى الدفاع عن الوطن .

تركت سمعى لها لم افاكعها بكلمة اصغيت لحد يثها الحافل بالاحساس والاحداث بكل حواسى فقد كانت كلماتها تعبر عن اروع حب .. حب الابناء .

اليكم حكاية الحب الخالدة هذة كما سمعتها من أم البطل الكويتى الشاب التى تكلمت بقوة وثبات دون بادرة واحدة قد بنفس مزعزعة يائسة أو قلب واجف .. ابدا .. وانما أوحت بوجود روح رفيعة وثابة تبحث عن أفاق جديدة عامرة بالامل والتفاول والغريمة والاصرار على افتداء الوطن بكل غال ونفيس فليس هناك شى أغلى من الوطن .

قالت كما لوكانت تسترجع ذكريات مضى عليها سنوات وسنوات : قبل سفرنا من الكويت هذا الصيف جاءنى احساس لاول مرة بحياتى احس به احساس غريب بالضيق والانقباض فاخذت أضم عيالى الى صدرى المهم بكل قوتى فى حضنى وانا اقول لهم عسى الزمان ما يفرقنا . عسانا ناتى على خير ان شاء الله .

سافرت مع زوجى وبناتى وولدى الصغير وتركت ابنى البكر الطيار واخاه الاصغر منه الطالب بجامعة الكونت . خرجت من الكوالكويت وانا اسال نفسي : ياترى سارجع تانى واشوف عيالى أم الزمان سيفرقنا ؟ والا راح يجمعنا بعد فرقة طويلة ؟

وصلنا الى مصر فانا طول عمرى احب مصر واستانس بمصر لكن .. هذة المرة لم تكن عندى رغبف فى الخروج أو التنزة كان فى قلبى احساس غامض بالخوف والرهبة لا ادرى سببه ولا أعرف مصدره .

كادت الاجازة تنتهى وكنا ننوى ان نحجز للعودة الى الكويت أخر الشهر السابع . أنهينا كل شى واشترينا اغراضا للعيال وبقى معنا مبلغ من المال هممت ان اشترى به هدايا واغراضا أخرى للبيت لكنى قلت ساصبر قليلا ، لا ندرى كيف تكون الظروف ؟

بعدها ولمدة ثلاث ليال متصلة صرت أحلم كل يوم وجة الصبح نفس الحلم رأيت فى منامى وكان واحدا يقول لى : قومى .. عيالك ماتوا فقعدت وانا أبكى واتفقد عيالى فطمانتنى ابنتى وقالت لى : يا أمى اطمئنى أخوانى ما فيهم شى .. ما فيهم الا العافية .

***

وتعود ابنتى تطئننى وتقول لى: يا أمى استانس . أنت تحبين مصر ومكا باقى لنا فيها الا كام يوم ونمشى ولكن فى اليوم الثانى حلمت نفس الشى .. واليوم الثالث ايضا حمت نفس الشى ”

فى اليوم الثالث ، وجه الصبح سمعت وكان واحدا يقول لى : قومى .. عيالك كلهم ماتوا فى نفس اللحظة سمعت زوجى يقول : الكويت راحت يعنى ؟ كان هذا فجر يوم الازمة . تخيلى … فى نفس الوقت انت تحلمين فى كابوس .. وفعلا يصير كابوس تخيلى .. أنت نائمة وفى لحظة ترين نفسك واقفة على رجليك صرخت : الكويت راحت عيالى ماتوا ؟

وللحين .. لا أدرى كيف أغتسلت كيف لبست كيف وقفت . لا أدرى عن نفسى شيئا انتابتنى حالة هستيريا جعلتنى لا أحس بروحى .. كيف وصلت الفندق لا تصل بعيالى كيف كلمتهم لا ادرى .. لا ادرى .

وفى الفندق ، اسم الله عليهم ما قصروا معنا ، فهذا يجيب لى ليمون وهذا يهدينى وذاك يطمئننى . وكان قدامى طابور طويل من الناس قدمونى عليهم وخلونى اتصل ببيتى اسال عن عيالى واهلى فردواعلى : لا تخافين أحنا ما صارفينا شي … يقولون الجنود العراقيبن يدخلون الكويت ”

طلعت من الفندق ورجعت الى البيت وانا أصرخ وابكى واصبح : ديرتنا راحت عيالنا راحو ؟ لكن .. مانى مصدقة فطلعنا رحنا السفارة وانا ما أصدق نفسى أنى كلمت عيالى وسمعت صوتهم باذنى .

كنت مثل المجنونة كلنا ، كنا مثل المجانين شوية نبكى وشوية نقعد نكلم أنفسنا عشنا فترة اليوم هذا للدقيقة هذه .. واحنا ما قادرين نصدق أن هذا الشى حدث .. وصار ويوم السبت انقطع الاتصال بيننا وبين الكويت وكنت كل ما أقول عيالى اسمع الله أكبر اسمع الاذان فادعو ربى واقول ك

يارب .. أنت  خير الحافظين أحفظ الجميع يارب .

وانا .. والله .. الحين كانى فى حلم كابوس ، كانى اتخيل أنا ما أقدر أصدق أن هذا الحاقد الذى يدعى انه عربى مسلم يسوى كل هذة الافعال فى الكويت

نحن نقعد نسال أنفسنا .. يا ترى ما هو السبب الذى جعله يفعل فينا فى ديرنتا فى أهلنا فى عيالنا كل هذة الاهوال ؟ ونرجع نقول ، التاريخ يعيد نفسه وهذا حقد مركون من سنين فى قلبه ؟

وانت … وانت يا العراق ، اذا تطالع خيرات الكويت بعين الجشع والطمع فنحن الكويتيين ، اباؤنا واجدادنا تعبوا . الخير هذا ما جاءنا بين يوم وليلة . الحمد لله ، الله أنعم

***

علينا بعد تعب . لما صرنا الحمد لله شعب مدلل نحنى صدق تدللنا بطريقة ما فى دولة فى العالم دللت شعبها مثل الكويت ما دللتنا .

نحن شعب مرفه صدق شعب تريف ، شبابنا صدق اتربوا على الغزبكل المعانى الحلوة ربينا عيالنا . والغزاة دخلوا علينا بالغدر ، والحمد لله شبابنا اثبتوا بطولتهم ، ورجولتهم ومنهم ولدى الكبير اللى رافض يغادر الكويت ومصمم يظل يدافع عنها بكل طريقة يقدر عليها حتى هذة اللحظة .

والحين .. نقول رب ضارة نافعة هذا شى من الله أراد يصحينا من غفوتنا بهذه الازمة اللى صارت عشان تصحى قلوبنا مرة ثانية عشان نرد الى صفائنا الى أحساسنا ببعضنا .. عشان نرجع مثل ما كنا بالكويت أول الجار يحس بالجار قبل ما يحس فيه أهله وترجع بيوتنا مفتوحة ،وقلوبنا مفتوحة .. مثل ما كنا طول عمرنا .

وفى هذا الوقت الصعب من أول ما بدات الازمة صرنا مثل ما كان فى السابق ..شوفى ..فى الكويت تباعدنا وايد .. لكن … هذة الازمة جمعتنا قربتنا من بعضنا لبعض ، صرنا نحس ببعضنا مثل السابق واكثر .

ومصر … مصر رايتها بيتها صدق رايتها ، صدق رايتها بيضا الصراحة هم بكل احترام قاعدين يعاملونا صحيح الشين ينعد على الاصابع لكن الحكومة والشعب رايتهم بيضا .

وانت … وانت يا العرق .. كيغ عطاك قلبك تشيل أجهزة الاكسوجين من الصغار ؟ أنت تدعى الاسلام .. المفروض هذا السيف اللى سلطته على مسلم المفروض تحارب به عدو المسلم كنت سلطته على اليهود ؟

نحن على حق يا صدام وانت على باطل عمر ما كان أحد معه .

نحن انظلمنا لكن الظلم عمره قصير وراح تعود الكويت .. الكويت عروسة الكويت محروسه وان شاء الله ربنا سيرفع هذا الظلم عنا باقرب مما تتصور

الله قادر أنه ينصفنا بعدما قتل كل الامانى الحلوة فى قلوبنا فلا لحقنا نفرح بعيالنا ، ولا نطمئن على اهلنا دمرة واحد .. ولدى الطيار ما لحق  يلبس البدلة العسكرية يلمع فيها وفرحان بيها .. ما لبسها .

والكويت دولة تعبت على شعبها طلعت رجال وانت يا خاين انت لم ترب رجال لكنك ربيت وحوش يضربون شبابنا .. لانك اتجردت من الانسابية ونحرمت من الخير وما عاد فيك انت واتباعك الا المكر والحقد واكره .

اى والله ماتت قلوبهم ماتت ضمائرهم الحسد عمى عيونهم .. طردونا من فراشنا فى ليلة مظلمة وخلوا ايامنا كلها ظلام فى ظلام ؟

أنا من يوم الازمة ما اقدر انام ولا قدر أكل واقول يا ولدى .. انت أمن ببلدك ؟ انت نايم مستريح ؟ ما أفتكر سيف الغزاة فى بلدنا ، ولا أو لادنا مرتاحين ولا بناتنا ولا حريمنا ما فى أحد مرتاح انت يا ولدى فى بلدك وما تحس بالراحة ؟ والله قهر صدق قهر .

نحن طول ليلنا قاعدين ماننام ونهارنا شوية تغمض عيوننا حتى لو تمشينا ما فى القلب وما فى المخ موجود كله خراب دمار اه .. اقعد اقول .. وياى أهلى ويلى ضاى ويلى بلدى ويلى عيالى اللى تشردوا ويلى اهلنا اللى ما ندرى عنهم شى .

فى أشياء كثيرة ما يقولها لنا صدق أنا لحوحة لكن .. أنا ام هذا بلدى صح ولازم ندافع عن بلدنا لكن .. الكثرة تغلب الشجاعة ؟

احنا ربينا عيالنا من قلب من سهر الليالى وهذا قاعد يذبح فى عيالنا ؟ احنا ننعد على الاصابع بالنسبة للدول التانيى ؟ فكيف يكون حالنا لما يخلص على شبابنا كلهم ؟

ماذا بقى ؟ ماذا نقول ؟ عيالنا صح شهداء عند الله وعند الرسول لكن يعز علينا انفسنا . صدق .. يا ليتنا كنا مقصرين .. المصيبة ثمانى سنوات وقفنا أيدنا بايدك . ساعدناك . اعطيناك . للاسف احنا اللى رفعنا مستواك أنت فى الحقيقة ولا شى ولا شى ولولا الامل بالله ما كان العمل أيماننا بالله ورسوله كبير نحن الله ونشكر فضله على هذا الايمان المنزرع بقلوبنا واللى ما تنزعه المصائب مهما كانت .

وان شاء الله ما راح تطول فهذا الصدام مثل الفار اللى دخل المصيدة وعساها كسر على راسه هو ومن معه من ” الذين صدق لا بد يندق على رأسه ويتحطم مرة واحدة ولا بد أنه ينسحب / ما دام شهادة لا الة الا الله محمد رسول الله تتردد على كل لسان واحد فينا / وعلى لسان كل مسلم وقف مع الحق معنا .

وفى أقرب وقت راح نشوف نهايه هولاء الظالمين لاهل بيت الرسول اه .. يا اهل العراق يا اهل الغدر والنفاق أنهم بكاؤهم كيثر وضحكهم قليل والله يفكنا منهم ومن شرهم . وانا الحين افكر فى ولدى اللى قاعد يلم الزبالة وحرقها خوفا على وطنه من الامراض ويقول هذا شرف لى وهو منضم للمقاومه بعد ما أخفى بدلته العسكرية من البيت ، حبيبى دفن بدلته تحت الارض بعدما كان لمعها وعلقها .. دفنها لانهم لو عرفوا انه طيار عسكرى راح ياخذوه ويقتلوه أو ياسروه  “

اعوذ بالله منهم ومن أفعالهم والله قادر انه يخلصنا منهم ونرد لبلدنا ونفرح بعيالنا واهلنا اللى صابرين على هذا الظلم والعذاب .

وانا .. أدعو ربى انه يصبرنى على بعدى عن وطنى وعسى ينجى فى ولدى واعود أضمه الى صدرى أخذة فى حضنى وافرح به اشوفه ما شى ببدلته العسكرية فرحان بنفسه وفخور بوطنة الذى نال شرف الدفاع عنه فى اصعب الظروف وافظع الاحوال .

وفى الحقيقة أملنا بالله كبير وعسى ينصلح الحال وكما يقولون يا ازمه اشتدى تنفرجى وراح تنفرج فى اقرب وقت أن شاء الله وانا اطمانيت على اخبار ابنى البكر من أول كما رجع ولدى خالد من هنال قبل يومين وحكى لى كيف أن شبابنا صاروا كلهم لبطالا وكيف تعودوا على سماع أصوات القنابل وطلقات الرصاص وكيف انه اضطر يخرج من الكويت بعد ان الح عليه أخوه الكبير رحمه بحالى ورافه بى وخوفا عليه بعد ان بدا الغراة يطارد ونه ويحاولون صده .

وعرفت من خالد كل شى عن اخيه وكيف انه يفضل الشهادة داخل الوطن على الخروج منه مهما كانت الاسباب وقال لى أنه مصر على البقاء مع الاخوان هناك الى ان يساهم بدراسته العسكرية فى معركة التحرير باذن الله . صراحة .. أنا كام فرحت بوصول ابنى خالد . وفى اللحظة نفسها فرحت اكثر بكلام ابنى الكبير اللى صمم على الدفاع عن الكويت بكل قوته .. وحتى تعود الكويت وهى فخورة ببطولة أبنائها اللى اثبتوا للعالم كله ان شباب الكويت رجال فرسان أبطال وأنهم قاموا بواجبهم ودافعوا عن وطنهم بشرف وكرامة وبطرلة راح يحكيها التاريخ لكل الاجيال .

***

 

ابى الكويــت

هذه حكايتى ، حب من نوع أخر نوع يخترق القلب ينمو مع الزمن كنبتة خضراء وتخرق سطح الارض السمراء .. وتبقى نرمز الى الخصب الخير العطاء .

 هذه حكاية بطل كويتى شاب اخضر العود مازال فى أوائل العشرينات ورغم ذلك سطر بساعده قصة بطوله صادقة صادرة عن حب عميق لارض الطيبة وعشق كبير لكل ذرة من ترابها اليكن الحكاية كما سمعتها ذات مساء فى أحد فنادق القاهرة الكبرى .

يوم الغزو فوجئنا باصوات طائرات تروح وتجى وهى على ؟أرتفاع منخفض فقالت لى زوجتى : قم كانها حرب فقلت لها : نامى لا تعورين راسى هذه مناورات عسكرية.

بعدها بقليل اتصل بى نسيبى وقال لى : انت بعدها نايم قوم .. ترى العراق دخلت اليوم فقلت له : يا اخى ما هذا المزح ؟ فقال لى : والله العراق دخلت الكويت فقلت له : لحظة شوية وقمت فتحت لبشاك فشفت العسكر قدام الباب فقلت له : اقفل التليفون وقلت لزوجتى العروس : قومى خلينى أخذك لبيت ابوى .

وهناك .. جلست وانا لا اصدق نفس قعدت شوية لكن .. لقيتنى ما عارف اقعد فقمت رحت المحافظة وسالت الشاب هناك عن الوضع وكيف هى الامور فقالوا : ترى العراق دشا الكويت ”

سالت وانا متلهف : والامير .. ما هو وضعه ؟

قالوا : ما ندرى ” قلت : والشيخ سعد .. ما هو وضعه  ؟

قالوا : ما ندرى ”

فخرجت ورحت قصر السيف ويوم وصلت عند القصر شفت جنود واقفين فارتحت نفسيا وشفت دخان طالع من المسجد الكبير فسالت :

 ما هذا الدخان ؟ فقالوا لى : هذا صاروخ فقلت : ولادالكلب وصلوا هنا ؟ فصرخ فى وجهى احدهم وقال لى : حرك .. ياللا .. قبل .. قبل ”

وهنا .. صعقت .. عراقى ؟ لانهم كانوا لابسين نفس مغاوير الكويت فاخذت سيارتى ورجعت الى المحافظة مرة ثانية وسالتهم : ما هى السالفة ياجماعة ؟ فقالوا لى : ترى الشيخ سعد بعده موجود أما الامير فما ندرى عنه شى والحين نريد نطلع الشيخ سعد فرحنا وقفنا على باب قصر الشيخ سعد فى منطقة الشعب واقفلنا الشارع وانتظرنا الى ان شفنا السيارات طلعت حوالى الساعة الثانية عشرة ظهرا .

***

وبقيت الى الظهر وانا غير مستوعب حتى هذا الوقت ما حدث ” ولما شفت بعدها ان الوضع صار بهذا الشكل قلت للشاب شيلوا سلاحكم الحين يا اما نموت .. والا ماكو يا للا قوموا خلونا نطلع نشوف كيف نقدر نتصرف .

رحنا المحافظة كنا نريدهم يوزعون علينا اسلحة لكنهم لم يعطونا قالوا لنا ما عندنا أوامر ولكن لانى اشتغل بمحافظة حوالى فانا أعرف مكان الاسلحه وفى نفس اللحظة جاءت مظاهرات وقالوا ماكو سلاح فقلت لهم تعالوا أنا ادل مكان الاسلحة تعالوا كسروا الباب وخذوا اسلحة .

فجاء مدير المحافظة وقال لى : أنت كيف تتصرف هكذا ؟ فقلت له : هذا السلاح خليهم ياخذونة يدافعون به احنا لن ننتظر اكثر من ذلك .. نحن لسنا حريم لازم نتصرف وبسرعة فقح المسوولون مخازن السلاح ووزعوه علينا . ولكن لم نكن حاسبين حسابنا .. كان السلاح بدون ذخيرة فهم اعطونى رشاش المانى كان به 24 طلقة فقط فبماذا يفيد الرشاش بدن

ذخير ة ؟ فقد استخدمناه .. وخلصت الطلقات ” وفى اليوم الثالث للغزو قمنا بعملية انتحارية طلعنا اربعة شباب .. رحنا الى مستودع الداخلية بالشويخ ولم يكن العراقيون للحين عارفين مكانه .. طعنا باليل اخذنا ذخيرة كثيرة واسلحة خفيفة ومسدسات صغيرة وعمرت الرشاش الالمانى القوى الذى كان معى يصل مداه الى 1800 متر.

واحمد لله ان الشباب رفاقى وانا كنا كلنا عسكريين او مجندين مدربين على استخدام السلاح صدق والله هذا التجنيد الالزامى الذى بدا منذ ثمانى سنوات أفاد الشباب فعلا فقدرنا نقود بعمليات عنيفة كنا نطلع فيها ونحن نعتقد اننا لن نرجع الى ان جاءتنا أو امر عقب الغزو بثلاثة أسابيع قالوا لنا لا تقومون بشى اول نظموا عملياتكم واخفوا الاسلحة 

جاءتنا هذة الاو امر من الناس الذين نتعامل وياهم والذين لهم اتصالات مباشرة مع الامير شخصيا فقالوا جاءتنا تعليمات من الامير .. وانتم لا تحاولون تضربون احد وركزوا على الاسلحة الموجودة عندكم ووزعوها بالتساوى على المناطق الموجودة للدفاع عن النفس وعلى اساس لو صار هجوم خارجى احنا نهتم  بالداخل فى نفس الوقت .

وقدرت المقارمة الشعبية ان تثبت وجودها وتقوم بدور كبير فبعد الغزو باسبوع بدا تنظيم العمليات ، فكانت تاتينا أو امر أنتم تضربون هذا الحاجز وبنفس اللحظة تلقى حاجز ثانى مضروب زحاجز ثالث مضروب ..صار فى تنسيق وقدرنا نسسطر عليهم وقدرنا نسوى شغل عدل .

والدليل على ذلك ان القوات العراقية اول كانت اول اسبوع تمشى بدون حماية لكن ثانى اسبوع بعد تنظيم العمليات هذه صارت سيارات القوات العراقية تمشى رونج سايد اى فى

***

الاتجاه المضاد بوجه السيارات كى تضمن لا توجد سيارات وراء هاتتبعها زائد انهم حماية لهم صاروا يقعدون فوق رافعين السلاح جاهزين للرماية وماقاموا يمشون واحد او اثين مثل الاول .

وللحق كان معنا بنات كان لهم دور كبير صراحة .. البنت الكويتية ساعدتنا كثيرا وقدرت تسوى اشياء ما كنا نحن نتوقع ان تقوم بها القوة والشجاعة وفى بنات احرقن كارجو مشحون اسلحة فى الجابرية وبقى ينفجر ساعة وهز السالمية هز وانا واحد من الناس احرقت تاكسى عراقى نحن صدناه كمدنى ويوم يبكى وقال انه ما جاء الكويت زيارة .. لا .. قال : أنا جاى ادور على ابنى .. راح يلعب كورة واخذوه ومن ساعتها ما رجع ابنى طفل عمره 14 سنة .. اخذوه جندوه وهو ما يدرى عن الحرب بشى فقلنا له : ما دنم وضعك روح . رق له قلبنا نقتله لكن .. دمرنا سيارته ….

ومن المفاجات التى صارت وتثبت مدى دور المقاومه وفى نفس الوقت تثبت كيف ان الجندى العراقى جبان .. ضربنا حاجزا كان عليه حوالى عشرين جندى كلهم ماتوا ما عدا واحد جاء وهو يبكى ويتوسل بطريقة كانه يبوس لبيد ويقول الله يخليكم لا تقتلونى لا تقتلونى الله يخليك .

.. لكن طلعا قتلناه .. قتلته انا بنفسي .

ومن المواقف التى صارت معنا والصراحة افتخر فيها لكونى كويتى ضربنا حاجز فى بيان فاصيب واحد اللى كانوا معه الا هو فقعد يصرخ اى .. اى فاسعفوه اللى ضربوه الكويتيون أسعفوه واوصلوه للمسشفى فسالتهم : فسالتهم : لماذا اسعفموه ؟ فقالوا : لا .. كان قاعد يتالم . اسعفه والله صبى ما يتعدى عمره 16 سنة واوصلوه لباب المستشفى وتلاكوه هناك واختفوا …

واستمرت المقاومة تقوم بدورها فى الدفاع عن الوطن وفى كل يوم نسمع عن قصص بطولات خارقة اثبتت شجاعة الشاب الكويتى وانا اقول ان الشاب الكويتى صدق انه اللى عمر هم 14 ، 15،16 ، كانوا يشاركون باعمال البطوله والمقاومه بكل كفاءة .

مثلا ..كنا نسوى جرائد رسمية نوزع فيها اشارات خاصة . وفى خلال ساعة ونصف الكويت عرفق ما فى هذة النشرات وكانوا يحملون الطعام ويوز عونه على البيوت ويساعدون الاسر المحتاجة اللى ما عندما اكل ..

وفى يوم قالوا لنا راح يلقلون كيماوية وفى اقل من ساعتين الكويت كلها كان عندها علم بطرق الوقاية من هذة القنبلة كان هولاء الشباب الصغار يطرقون الابواب ويلقون رسالة الوقاية كل واحد قعد ينسخ ويوزع باليد وبالتليفون .

***

وفى مرة جاءنا لغر مبارك طالع البر والشعلة فى يد فهد واعنهدنا انها شفرة لازم توصل لشخص معين سيعرف بها مكان اسلحة .. وخلال ربع ساعة فقط كنا نقول هذا اللغز لكل الكويت .. وفى الاخر اكتشفنا أنها لعبة عراقية للعب باعصابنا ”

وفى شاب منا فجر سيارة وقاعدة تجمع عسكرى لهم وفى واحد ثانى قتل خمسة وثمانين عراقيا فى دوار الصليبخات نزل بسيارته على أساس انه يبيع بيبسى فاقتلاب منهم ويوم انفتحت تفاجاوا ان بها شبابا ماسكين سلاح رشوا كل الجنود الموجودين فى الشارع فى ذاك الوقت … واستشهد الشباب السبعة الكويتيين استشهدوا جمعهم حتى الذى كان كان يقود السيارة

 رحمهم الله .

وتستمر المقاومه الباسلة فى كل مناطق الكويت وانا قدرت ان اقتل ثلاثة عشر عراقيا ومازلك احس انى مقصر وايد لانى ما بقيت بالكويت للحين فانا قعدت بالكويت شهر وعشرين يوم بعد الغزو بانتظار او امر تاتينا من الخارج الى ان جاء ناس يدورون على بالاسم فجاءتنا تعليمات اخذوا اغراضكم وطلعوا بره … تدرين ليش ؟

لان العراقيين صادوا منا ثلاثة واعدموهم فى اليوم السابق لمغادرتى الكويت كنت انا بالمسجد فقالوا كما ترى قتلوا زميلكم .. فانتبهوا .. ترى اكيد عذبوه عشان يعترف باسمائكم وفعلا ثانى يوم على طول قالوا لنا فى ناس قاعدين يسالون عنكم ونبهنا لذلك ربعنا ” واصدقاونا قالوا لنا ان لن العراقيين يدورون عليكم .. اهربوا بسرعه .. ولذلك خرجنا من الكويت .

وصغاه فى سيارات قديمة تقف فى مواقف عامة نحن نعرفها .. فلم يجدوا غير ابى واخى فاخذوا اخى الصغير ضربوه وعذبوه ولكنه لم يعترف لهم بشى فتركوه .. وبعد ذلك قدر يدعم بسيلرته الخاصة كارجو شاحنة مليئة بالجنود المعتدين .

وقبل خروجى بيوم اخذوا ولد خالتى عمره 16 سنة اخفوه قدرنا نعرف مكانه فجاءتنى خالتى تبكى وتقول لى دور عليه انت عندك ناس ولك معاوف حاول تعرف مكانه لكنى ما قدرت استدل علية فجاءتنى ثانى وقالت وهى تبكى خليهم ياخذوا الفلوس ياخذوا الذهب ياخذوا البيت خليهم ياخذوا كل شى عندنا بس يجبيبون لى ولدى .. وظلت تلف وتدور الشوارع تبحث عنه بدون فايدة

وفى يوم ثانى نفس اليوم اللى طلعت فيه جابوه الى البيت واوقفوه على الباب بعد ان ضربوه وعذبوه وقامواثانى قدام اهله وابوه يضربوه وعلى الباب قدام عيون تمه قتلوه ….

على مراى من الكل قتلوه ويوم طاح صرخوا فيهم لا تقربون عليه .. وظلت الجثة أربع ساعات مرمية فى الشمس واهلة مو قادرين يقربون يشيلون جثة ولدهم اللى سيتقرب

***

منه راح ينضرب بالنار ” وفقدت خالتى عقلها مرة واحد فهذا هواصغر ولادها واحب اولا دها

وحتى الفن ممنوع .. فهم ياخذون الجثث يجمعونها فى الايس سكيتننج

( صاله التزتلج على الجليد ) وانا شفتها بعينى لانى رحت افتش على نسيبى ملازم اول بالجيش رحنا … والا جبل جيث فى الساحة كلها .. ويقول لك اتفضل دور بس ممنوع أخذ الجثث وممنوع الدفن ”

ورغم كل ذلك … هزيمو العراقيين سلهة جدا فهم معنويات ما فى جيش متذمر غير راض عن رئيسه جيش ملزم بحمل السلاح مجبر على تنفيذ او تمر غير مقتنع بها .. وفى قائد موجود بالجيش العراقى برتبة كبيرة جدا جدا كان يتناقش مع ناس فقال لهم اخذوا الدربيل ( نظارة مكبرة ) وطلوا وشوفوا البحر هذا كلام كويتى يحكى يقول : اخذت الدربيل والا الاسطول الامريكى والفرنسى يبين على مدى البحر ”

فقال العراقى للكويتى : شفت …. صدقنى .. أول مدفع يجينى راح ارفع الراية البيضاء قال له : شفت هذة ؟ وطلع له فانلة بيضا محضرها جنبه ورفع له هذة الفانلة له : انا وجنودى كلهم محضرينها جنبنا .. وقال له : الكلب ابن الكلب اخذ اصدقاءه كلهم فى الحررس الجمهورى وخلاهم عنده هناك … وحلانا نحن بوجه النار :

 هذا الكلام قائد كبير تحت يده كذا الف جندى وفى مرة قابلنا ضابط ملازم أول كان موجود فى حاجز بمنطقة من مناطق الكويت وفى ليلة من اليلة من الليالى كان متضايق فقام يشتكى لنا وبكى ودموعه نزلت سالناه عن المشكلة اللى يعانى منها فقال لنا : لنا عندى اختين متزوجين من كويتين وعلاقتى مع انسبائى طيبة طول عمرنا واعتبرهم مثل اخواتى الحين اتصل معهم اقول ازوركم يقو لون لى اذا جئتنا سنقتلك .

ويعود ويقول لنا وهو يبكى شنو اسوى بهذه البدلة لو ارميها يقتلون أهلى اللى هناك ولو البس الدشداشة يقتلونى اللى هنا .. انا مو عارف شنوا سوى مع العلم أن جاءتنا أو امر صريحة باضطهاد الكويتييين : بلسانه قالها لى وهو ضابط برتبة ملازم أول واسمه عندى .

واذلك .. صاروا يدخلون البيوت ويغتصبون النساء اللى ما عندهم رجل وحتى لو وجدوا الرجل يا أما يقتلونه أو ياخذونه تحت تهديد السلاح .. ويغصبون الحريم ”

وهذه المسالة شهود عيان كثيرين سمعوها ، أو شافوها ”

وفى مستشفى الصباح كنا نشوف الجنود يصحبون النساء ويمشون معهم .. وكان الهدف واضح .. فهذا طبعا شى مفهوم .

وسمعنا من ناس فى بنت عهرها 15 سنة أخذوها من اهلها عند الحدود وقالوا لهم يا للا امشوا فجاء الاب يتناقش معهم فقالوا له اذا ما مشيت راح نقتل الباقى اللى معك فتركوها

ومشوا والظاهر انهم اغتصبوها وبعدها سابوها فطلعت تمشى مسافة اثين كيلو .. وبعدها وصلت عند الحدود السعودية ماتت ”

صراحة .. الوحشية والنذالة تزعل لو شبهتيها بالعراقى ومع ذلك .. فى نقاط ضعف كثيرة فى المقاتل العراقى أهمها المادة نحن دخلنا الكويت مرة ثانية بعد أن اخرجنا الحريم خفنا عليهم من هتك العرض وضياع الشرف فانا زوجتى صبية عمرها تسعة عشر عاما عروس تزوجنا بعد الغزو بايام تزوجنا بدون فرح عشان احميها واحفظها فى بيت اهلى خوفاعليها من الوقوع بين ايدى الجنود العراقيين لان معظم أهلها كانوا مسافرين يحضرون لها ملابس الفرح وفستان من الخارج .

اخرجنا الحريم وأوصلناهن سالمات والحمد لله الى أهلنا فى المملكة ورجعنا دخلنا الكويت مرة ثانية بوسط الدبابات وبين الجيش العراقى مرينا ما دخلنا بالمظلات اشتريناهم بالفلوس والضابط قال لنا اتفضلوا (دشوا ) داخل .. كل ضابط مسوى له خط بالفلوس … وبخمس دنانير جندى يبيعك سلاحه ”

اى جندى ممكن يعطيك سلاحه مقابل كارتون فاكهة لانه حامل سلاحه وموعارف ما هى أهميته ما فى ارتباط ما فى قناعة ما فى دافع كانه يحمل شى يتسلى فيه … وليس جاى للحرب لانه جاى وهو مو راضى  .

الجندى العراقى عنده مرارة داخلية يعانى من الشعور بالهزيمة بالانسحاق بالذل والحياة العسكرية صارت عندهم روتين بلا معنى فهو شخص مهتز من الداخل شخص تربى على الخوف على القهر والانسان اللى يتربى على الخوف يكبر جبان يصير مثل الصفيحة الفاضية أو الطبل الاجوف … هو ما عنده ايمان بشى لذلك يخافون من كلمه الله أكبر …

كنا لما نطلع فوق الاسطح ونقول الله اكبر كانوا يجنون بطريقة فظيعة ويظلوا يضربون مدافع بوازيك رصاص اى شئس عشان ما يسمعون الله اكبر .

أما نحن فنعلم اننا على حق وهم على باطل ونعلم ان الله سينصرنا والكويت سترد باذن الله وانا متندم لانى ما بقيت فى الكويت حتى هذة اللحظة مع انى رجعت بعدها اخرجت حريمنا كلهن الا خالتى قال لى نسيبى هذة لو طلعت معانا راح تفضحنا وتكشف امرنا ونموت كلنا ….

خرجت من الكويت ثانية ومعى رسالة قالوا لى خذ هذة الرسالة وبلغها بره زانا اليوم كلمت الملحق العسكرى هنا فى سفارتنا بالقاهرة وقلت له أنا بارجع الكويت فقال لى : لا .. اوقف .. انتظر … وراجعنى بعد كام يوم وساراجعه وأنا اتمنى أن ياذن لى بالرجوع إلى الكويت لافديها بروحى ولا روى ابها بدمى .

هذا هو شعورى نحو وطنى .. وهو شعور كل كويتى . فنحن تربينا على حب الارض هذة وأر تباطنا بها عميق وهذا شى نختلف فيه عن العراقى الذى يرفع علم أو صورة فهو يرفعها عن خوف وليس عن حب من داخله .. الوضع يختلف كثيرا فنحن صدق عددنا قليل لكن بالغريمة اللى فى قلوبنا والقوه والايمان اللى فى نفوسنا الله يضاعف من عددنا وسينصرنا على عدونا .

ونحن كلنا يا الكويتيين مستحيل ان ننسى كيف بكينا لما عرفنا ان الامير بخير وان الحكومة موجودة والله بكينا لاننا ارتحنا نفسيا لاننا متاكدين ان الامير ما راح ينام كلنا عارفين كيف اميرنا يحب شعبه وكيف يسهر على راحته ورعايته حتى فى اسوا الظروف .. وكيف يحب الكويت .

الكويت بالنسبة لكل كويتى اب .. ام .. كائن من لحمك ودمك .. انا الحين قاعد هنا فى الامان وحاسس ان تمى مغتصبة هناك فى الامان وحاسس أن امى مغتصبة هناك .. تصورى كيف يكون شعورى ؟

وبعون الله الكويت سترد وما اعتقد انهم سيقدرون على الكويت مادام فى كويتى موجود يتنسم هواء رغم كل ما فلعلوا بقصد تحطيم المعنويات وتطفيش الشعب من الكويت عقب كل ما فعلناه من اجلهم ”

انا نفس مستغرب ” .. متعب ” فنحن كحكومة وشعب وقفنا معهم طوال حربهم مع إيران زكنا فى الدواوين لما نتكلم يقولون لنا باكرإيران راح تيجى على الكويت كنا نرد ونحن نتباهى بالعراق ونتفاخر بقوتها ونقول .. ترى العراق موجودة تقدر اير ان تقرب من الكويت وتفاجانا بالعراق .. ونحن للحين مستغربين ومندهشين .. ومو مصدقين ”

وانا الحين فى مصر  احس بكل مصوى واقف معى الشعب المصرى يحب من قلبه رجوع الكويت ويحب الكويت وأهل الكويت.

***


الخوف تحت السحاب “

الحلقة الاولى

هذة احداث ماساه حقيقية تعرضت لها زينب عيد المضيفة بالخطوط الجوية الكويتية التى عاشت لحظات الغزو البشع منذ أزيز الطائرات فى سماء الكويت المسالمة وحتى خروجها من الحدود الاردنية الى أرض مصر الامنة بعد أيام طوال عرفت خلالها معانى الرعب والفزع والخوف والقلق .. حتى الموت .

اليكم الحكاية الماساة التى بدأت المضيفة كتابتها بعد يومين من الغرو فهذه هى هوايتها وهذة هى طريقتها فى تسجيل شتى المواقف التى تعبر حياتها والتى تعتبر هذة الحكاية من أهمها لانها عاشت الخوف على الارض وليس فوق السحاب ”

بدات حكايتى ، أو حكايتنا نحن المقيمين معا فى سيارة تتجول بين أصوات الرصاص والمدافع فى الكويت ”

حقيقة .. لا توجد عندى مقدمات قبل أن ابدأ سرد الاحداث . فكل ما استطيع أن أقولة عن نفسى أننى أعمل مضيفة طيران لدى الخطوط الجوية الكويتية التى التحقت بها منذ أربع ستوات ، حصلت خلالها على عدة امتيازات أدبية أدى اليها تعلقى الكبير بعملى وحرصى عليه وحبى له .

بدأت الحكاية كما عرفت بسبب خلافات بين الكويت والعراق حول الحدود على ما اعتقد فانا لا أهتم بالسياسات مطلقا ولا افهم وأن كنت لا أعرف لماذا ” ظن أنه يوجد كثيرون مثلى .

عموما .. لم أهتم فحالى حال معظم العرب حتى الجريدة لا اقرأها حتى لا تثير اعصابى لما أجده بها من اخبار وضرب بين العرب بعضهم بعضا فهذا مسلم يقتل أخاه المسلم ولا أعرف الاسباب

واحيانا .. يكون هذا المسلم البسيط ضحية لغرور غطرسة انسان واذ به وهو انسان مكافح مسالم يجد نفسه فجاة فوق حافة هاوية ”

المهم .. كنت بالرحلة التى اقلت الوفد المفاوض الى جدة برئاسة الشيخ سعد ولى عهد الكويت جلست يوما واحدا بجده التى كان مقررا أن نمضى بها ثلاثة أيام هى فترة أنعقاد الموتمر واذ بى افاجا بانهم يتصلون بى صاحا ويقولون لى سوف نغادر الى الكويت اليوم ”

كانت أول مرة فيها جدة ولكم تمنيت أن أقوم باداء العمرة لكننى لم أتمكن من ذلك حيث أننى لا استطيع مغادرة الفندق تحسبا للسفر فى أية لحظة ولم يسعدنى الحظ بذلك. 

***

للاسف اتصلت باهلى من الفندق للاطمئنان عليهم وكان هذا يوم الثلاثاء 31/7/1990 . وكم كانت حسرتى كبيرة لاننى سمعت منهم أخبارا سيئة أن اكمل حديثى معهم انقطع الخط وحاولت الاتصال بهم ثانية لكن عامل التليفون قال لى الخط مشغول ”

حاولت الاتصال عدة مرات لكننى لم افلح فى ذلك فاصابتنى حالة ضيق فظيع واكتئاب . وحاولت أن انام على أن أحاول من جديد فى الصباح لكننى استيقظت على صوت رئيس الطاقم يقول لى :

استعدى سنغادر الفندق خلال أربع ساعات : ”

غادرنا الفندق اقلعت الطائرة فى الرابعة وصلنا فى السادسة الى الكويت .. لم أكن اعلم شيئا لم أكن أعرف أن المفاوضات لم تنجح .. ولكن كان يخيم على جو الطائرة صمت ثقيل وعلامات غضب وضيق وأن كنا جميعنا لم نعرف ماذا حدث بالتحديد …

غادرت المطار عدت الى السكن مساء يوم الاربعاء الموافق 1/8/1990 وكنت فى حالة قلق شديد على أهلى وافكر كيف أتصل بهم فالسكن الذى اقطن به هو لجميع المضيفات المغتربات اللاتى لا أهل لهن فى الكويت .. وكنت أنا واحدة منهن كما لا يوجد به خط تليفون دولى .

جلست اتحدث مع بعض صديقاتى حتى الرابعة صباحا وفى قلبى قلنعلى أهلى وعزمى على أن اتصل بهم فى الغد عن طريق السنترال ونمت وأنا أفكر فى أمورهم .. واذ بى اصحوا على صوت طائرة حربية نفاثة كاد يهد المبنى من كثرة الاهتزاز ….”

بعدها .. انطلق صراخ البنات وبكاؤهن وصوت اقدامهن وهن يجرين هنا وهناك وعلى الفور هبطت بالمصعد لارى ماذا حدث .. واذ بى اجد كل البنات الموجودات بالسكن فى البهو واذ

بالمشرفة المسؤولة عن السكن تقول لنا : انتم نائمون ؟

العراق دخلت الكويت ”

فقلت متى واين ؟ كيف ؟ جئت مساء البارحة فمتى حدث ذلك ؟

فقالت : دخلوا الساعة الثانية بعد منتصف الليل …. ”

كان هذا الموقف فى حوالى الساعة التاسعة صباح يوم الخميس الموافق 2/8/1990 ولا أقدر أن أقول لكم ماذا حدث بعد سماع لك الخبر الرهيب  “

أخدت الافكار تتخبط تتثتت كاننى فى حلم بل كابوس بعد ذلك بدأت البنات فى الانهيار والاغماء والهستريا ، اصابتنا اصابتنا حالة خوف شديدة جدا خصوصا اننا بنات لوحدنا لا أهل لنا ولا اسرهنا كلنا عزل لا حول لنا ولا قوة …”

اه .. ماذا نفعل ونحن لا ونحن لا نعرف لمن نلجا واين نذهب فقد تغربنا عن اهلنا لنساعدهم ونقف بجوارهم وكل واحدة منا وراءها قصة بل ماساة فكنا تركنا بلادنا بعد أن ضاق الخناق بنا وبعد أن فكرنا فى مستقبل أفضل .

المهم … مر أول يوم كانت اعصابى متماسكة ولا أعرف كلما شعرت بالخوف لجات الى الله وحده وصليت ودعيت . والحمد لله وقف الله بجانبى فهدأت نفسى بعض الشى وبدأ كل همى يتركز فى أن ابلغ أهلى اننى بخير ولكن .. كيف ؟ فلا يوجد سوى خط تليفونى واحد بالسكن لثمانين بنتا .. كما أنه محلى فقط ”

ولكن .. استطعنا أن نتصرف فاتصلت كل واحد منا بمن تعرفهم فى الكويت واعطيناهم ارقام تليفونات اهلنا ليطمئنوهم علينا .. وهكذا فعلت فعلت أنا .

وفى اليوم التالى ضرب برج الاتصال وانقطعت الخطوط الدولية ، وبعدها قيل لنا اذهبوا الى الجمعيات لاحضار طعام وخبز فذهبنا كل مجموعة فى  سيارة تاكسى الى الجمعية ؟ .. وهباك .. تسمرت من الدهشة .. كان الازدحام شديدا كاننا فى يوم الحشر العظيم ”

تهافت الناس لاخذ الطعام بل وتقاتلوا عليه ذهبت لاحضار الخبر فقالوا لنا خلص خلاص . ولم أدرك حقبقة الماساة الا وأنا فى طابور للدفع كما لم أدرك قيمة الخبز ألا ونحن نبحث عنه فى كل مكان .. ولا نجد له أثرا ”

وجاءت الصدمة الاخرى ، إنه أول الشهر وجميع مرتباتنا فى البنوك لم نسحبها بعد واذ بنا فى حصار أخر وهو عدم وجود نقود ”

مضى اليوم الاول والتالى والامل يتضاءل مع مرور الوقت بسبب بشاعة الاشاعات وكثرة الاقاويل لكننى لم أياس أبدا من رحمة الله .

وجاءت الليلة التالية : اه .. ما أطول الليل وأفظعه فى هذة الايام المخيفة التى يسيطر فيها الرعب على بنات عزل بدون رجال بدون أهل فى سكن قفر لا يحرسه سوى رجل هندى ضعيف البنية .. ولم أمامنا سوى انتظار المجهول ”

اجتمعت البنات فى الليل معا حتى يشعرن ببعض الامان كن يبكين يضحكن يتكلمن يصمتن واذ بفتاة تصرخ وتقول : حريق .. حريق فى المنزل المقابل لنا واذ بنا نجرى فى ذعر ونحن نسمع طلقات الرصاص واصوات القنابل تحيط بنا ”

مضت الليلة علينا طويلة مرعبة وجاء الامل مع الصباح قويا فى  أنهم سينسحبون من الكويت ولكن .. اتضح فيما بعد . أنه قول وليس فعلا وان الاوضاع كما هى وان اخذت اساليب السلب والنهب تتضح فهولاء هم مجرمو الحرب يستغلون الفرصة .. ويسرقون كل شى تقع عليه ايديهم وأعينهم ”

وبدأنا نسمع عن اقتحام البيوت وعن جرائم القتل والاغتصاب فقضاعف خوفنا وجاء رابع يوم واذا بشاب يدخل علينا يطلب منا اخلاء السكن فورا لانه يحتوى على مجموعة من البنات ويمكن أن نتعرض للاعتداء فكل شى فى الحرب مباح حتى .. هتك العرض ”

اه .. ماذا اقول ؟ اتهمناه بالجنون وطردناه واذا بعساكر من جيش العراق بعدها ياتون الى السكن يطلبون الماء فاصابت الفتيات حالات من الذعر والهلع وأخذن يتصلن باى أحد يعرفونه حتى ياتى لنجدتنا ويقف بجانبنا ، فالحارس الهندى الوحيد هو ذاته يكاد يقتله الرعب كما أنه لا يستطيع أن يدارى خوفه عنا .. مسكين يكان يموت من الخوف والرعب .

وبعدها .. بعد خروج العسكر اخذت البنات فى مغادرة السكن واحدة تلو الاخرى لكننى رفضت أن أغادره فهو بالنسبة لى بيتى . بعدها حضر أناس لاخذ صديقة مصرية والحوا على لياخذونى معهم لكننى شكرتهم وقررت القاء مع زميلات لى فى إحدى الشقق القربية .

وفى الصباح اتصلت برقم السكن فرد على شخص غريب قال لى لا يوجد احد .. هرب الحارس وترك الابواب مفتوحة فقلت له لو سمحت اقفل الابواب فجميع اشيائنا هنا وحتى لا يستغل أحد الموقف .

ذهبت إلى السكن لا جمع حاجياتى واذا بالجيران يقولون لى أن مجموعة من المجرمين وليس الجيش العراقى حاولوا سرقة السكن كان مغادرة الفتيات السكن كانت مؤامرة مدبرة حتى يقوموا بنهبه وسلبه ،فالسكن به 86 غرفة تحمل كل ما غلا ثمنه وخف حمله ثمرة شقاء فتيات مغتربات .. وعندما عرفت ذلك انتابنى الغضب والغيط والغل .

اخذت اجمع حاجاتى وتوافدت الفتيات كل تاخذ حاجاتها لانها جزء منها .. فجاة ضاع كل شى  ولم يعد يبقى لنا سوى أشياء بسيطة لكنها تعتبر ثمينة فى وقت عصيب كهذا الوقت. تجمعن نحن السبعة فى السكن بعد أن جمعنا امتعتنا وكان من بيننا اثنتان مصابتان بالام فى العمود الفقرى (ديسك ) وكانتا ممنوعتين من الحركة لكنهم أمروا باخراج جميع المرضى من المستشفيات لاخلائها وقصرها على جرحى الجيش العراقى ”

المهم .. ذهبنا كلنا الى الشقة بعد أن تاكدنا أن الحياة فى السكن محفوفة بالمخاطر خاصة وانه قد اصبح معروفا للجنود العراقيين وغيرهم من المجرمين ورجعنا ونحن نتلفت حولنا خوفا من الموت الذى بدأ وكانه يتربص بنا فى كل لحظة ”

وهناك .. اتصلت بالسفارة حتى اسال أن كان يوجد أمل واعطيت اسماءنا وارقام هواتفنا فى مصر حتى يطمئن أهلنا علينا خاصة بعد سماع الاخبار التى لا تسر والتى جعلتنى أموت داخلى الف مرة ، بعد ذلك أديت الصلاة وأنا أسطيع أن أمنع نفسى من البكاء بين يدى الله ، وقمت بقراءة القران حتى يطمئن قلبى .

اطفانا الانوار ، وكل واحدة منا تدعو الله لينجينا مما نحن فيه وكانت واحدة اخرى تبكى وثانية تصلى وثالثة تحاول أن واثنتان تتاوهان من شدة الالم فهما ممنوعتان من الحركة بسبب الام العظام واذ بهما معرضتان للجرى والطلوع والنزول .. كان الله فى عونهما

. وتمضى اللحظات علينا ونحن غارقات فى الخوف والظلام كانها سنوات وأعوام .. الموقف فعلا فظيع ، وها نحن نجلس بجوار الراديو ، تلتقط الاخبار من إذاعة لندن تارة ومن إذاعة مصر تارة ولا توجد أى أخبار تطمئن فبقيت كل منا تسترجع ذكرياتها وتستعيد ما ضى حياتها ”

واحدة تريد أن ترى ابنتها الوحيدة فلا يوجد أحد يرعاها وأخرى تفكر فى أمها المريضة بالقلب والتى تخشى عليها من التعرض للخوف ولبقلق بسبب هذا الموقف المقلق المتازم …”

لاه .. لحظات قاتلة نموت ونحيا فيها الف مرة فى كل دقيقة معاناة ، قلق ، خوف ، عذاب اه .. يللها من ليلة مريرة لا تريد أن تمضى .. أو تنقضى ”

لكن .. وبينما نحن جالسات فى الشقة نحن الفتيات وفى حوالى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل اذ بنا نسمع خبطا شديدا على باب الشقة بطريقة عنيفة كان هناك هجوما عنيفا على الشقة .. أطفانا الانوار بسرعة وأحسسنا بخطوات تجرى فى هرولة وطرقات متصلة على الباب .. اسرعنا بوضع شنط سفر كبيرة وراء باب الشقة لتعرقل من يقتحمة واقتربنا من الباب لنسمع أى صوت ، فسمعنا دوى خبط هائل ، ونظرت احدانا من الشباك فلمحت الحارس الصعيدى يخرج جاريا من غرفتة وهو يحمل فى يده سكينا طويلا بعد ذلك سمعنا خبطات متتالية .. وطلقات رصاص ”

جرت أحدانا إلى التليفون وانصلت بخطيبها كى ياتى لنجدتنا مع انه خطر جدا أن يخرج فى هذا الوقت من الليل بسبب حظر التجول الذى يبدأ بعد السابعة مساء …

تجمدنا فى أماكننا ونحن لا حول لنا ولا قوة ضعيفات ، خائفات مذعورات .. باكيات جزعات ونحن نسمع فى رعب تزليد الخبط والطرق على الباب الذى يهتز بعنف .. ويكاد أن ينكســر …”

***


الخوف تحت السحاب .

الحلقة الثانية 

فتحنا باب الشقة فى حذر بعد أن سمعنا صوت الحارس الصعيدى الجدى ينادى اسماءنا فاطمانت قلوبنا وعرفنا أن الخطر قد زال … رأيناه واقفا بالباب مشهرأ سكينا طويلا وحماسا هائلا يشع من عينيه وكانه يوكد لنا أنه مستعد للموت دفاعا عنا وعن شوفنا.

قال لنا : أطمنوا .. .. متخافوش مشوا خلاص وفعلا اطماننا وحمدنا الله على السلامة وقلت لصديقتى أن تتصل بخطيبها وتقول لا تحضر ولكن قد فات الاوان وغادر البيت وخرج لنجدتنا تاخر .. فازداد خوفنا وقلقنا عليه وظللنا نجوب المنزل يمينا ويسارأ داعيات له أن يصل بسلام وأن لايفقد حياته بسببنا حقا .. كم هو إنسان شهم وقف معنا وقفة أخ أصيل كريم وساعدنا بكل طاقته وبكل امكانياته المحدودة .

حمدا لله . أخيرا حضر بالسلامة .. تنفسنا الصعداء بعد لحظات مظلمات كدنا نفقد فيها عقولنا لعدها جلسنا واخذنا نسترجع صوت الجلبة التى سمعناها  وتساءلنا : هل كانوا الصوصا أم جنودا ؟ لم نعرف ولم نملك سوى انتظار المجهول .. ذلك المجهول الذى يشقينا ويعذبنا فنحن نكاد نموت جنونا .. قبل أن نموت فى الحرب.

يارب .. ساعدنا يا ربنا فانت ملجؤنا وملاذنا واحمنا من غدر ايامنا وشر زماننا يارب يزداد عاؤنا فالايام القادمة أصعب من التى قلبلها فالخطر يتزايد ويتفاقم .. والامل فى الله وحده .

بدأ يوم جديد من القلق والتوتر فقد صحونا يوم الخميس 9/8/1990 على صوت طلقات رصاص ورنين مكالمة تليفونية تقول انه توجد مقاومة عنيفة فى منطقة الجابرية ويوجد جيران لى فى مصر يسكنون هناك .

اصابنى الهلع فجريت إلى التليفون واتصلت بهم فوجدتهم سالمين حتى الان وبعد ذلك وجدت واحدة من زميلاتى تعالى من الام فى صدرها .. وانهارت تماما واجذت تصغط على قلبها وتبكى وتهلوس وتصرخ : بنتى .. بنتى .. اروح لبنتى.

فقدت الوعى فقد كانت ابنتها فى مصر وحيدة لا عائل لها غيرها وبينما هى تصارع سكرات الموت حضر طبيب قريب لاحدى زميلاتنا وفحصها وطماننا عليها وحاولنا أخذها

إلى المستشفى لاسعافها لكن .. لا يوجد أمل فالضرب ياتى من كل جهة ولا توجد بقعة واحدة امنة ”

كانت الناس تقاوم ببسالة وكنت اسمع صوت الطلقات حولنا .. أما نحن فماذا نفعل كان أملنا الوحيد معلقا بالموتمر الذى سيعقد فى القتهرة ، موتمر قمة عربى عاجل حتى ينتهى هتلر العرب وعسى أن يهديه الله وينهى هذا العذاب .. فلم هذا الدمار والهلاك ؟ لا أعرف شيئا سوى الدعاء فالحل بيد الله تعالى وحده.

جاء يوم الجمعة ، يوم مبروك باذن الله أتمنى أن نسمع فيه بشرى طيبة فسوف يقوم هتلر العرب بالقاء خطاب الساعة السادسة مساء . عسى أن يكون خيرا شاء الله .

وها هو يقتل كل أمل فى حياتنا قتله الله كما يريد قتلنا ، فهو يريد أن يشتت العرب ويدعى انه حامى الحمى ” أنه يريد أن يثير الشعوب على حكامها بعد أن فشل فى اقناع القاع أو بعد أن خدع القادة يريد أن يخدع الشعوب أيضا ”

نعم .. فبعد ذلك بدأ الاعلام يمارس دوره كما فعل من قبل .. بدأ يدس برامج دينية وبدأ يذيع الاذان من مكة وقبل ذلك بيوم واحد لم اسمع أو أر أذانا واحدا فى تليفزيونات العراق ”

تحول فجاة الى واعظ ” ياله من مخادع ” أحرق الله قلبه ودمره وخسف به يابع أرض لانه ظلم ناسا مسالمسن وخرب لبوتا وشرد عائلات .. لماذا لم يذهب لم لنجدة فلسطين اذا كان هو حقا ذاك الشجاع الهمام ؟ ولماذا فعل هذا بنا وافترى علينا ونحن ابرياء ؟ اه .. نحن لا نعرف مصيرنا وهل سنصير قتلى .. ام أسرى ام ..؟ الله وحده يعلم .

ادعو الله ، اصلى ، اقرأ القران ، اتوسل الى الله أن يساعدنا فى محنتنا هذه سلمنا أمرنا إلى فهو قادر على كل ظالم .. اه.. ياله من ظالم ؟ اننى لا ألوم احدا على تدخل القرات الاجنبية بل اويد من كل قلبى وجودها فهو قد وعد وكذب .. وخان فكيف يثق به العرب بعد الان ؟

اليوم صباح السبت 11/8/1990 صدقونى اعرف الايام من خلال الكتابة فالساعة تشير الى التاريخ والكتابة تشير الى اليوم .. اننى أكاد ان افقد الزمن ” اشعر اننى قد مر على حتى اليوم .. الف عام ”

اه .. هذا هو اليوم العشر … ولا أعرف الى متى سيطول هذا العذاب ولكن لا يسعنى سوى الانتظار . احمد الله انه قد مر علينا يوم بسلام ، يوم أخر من ايام الانتظار الطويلة الرتيبة المملة .. يارب دع الايام تمر بسلام حتى نعبر هذا الخطر على خير يارب .

***

اليوم الاحد 12/8/1990 لقد صحوت على صوت التليفون  يحمل لى خبرا جميلا جدا فها هو أحد زملائنا فى تاشركة يقول فتحنا خط السعودية فكلمت السفارة اتاكد .. لكن … للاسف قالوا ..خبر كاذب ”

وعرفنا أن الهاربين من الحرب يذهبون إلى حدود البصرة وهنا ياخذون منهم كل اشيائهم ويفرغ الهواء من عجلات سيارتها ويتركون فى خيام فى الصحراء “

جاء الليل لتكثر الصدمات يسارع الى ترك الكويت فالوضع يزداد سوءا فالله وحده أعلم ماذا سيحدث غذا واناس مهددة حياتها وأعراضها والكل يسارغ الى أخذ عائلتة والخروج بها لانه يريد يحمى أسرته لان حالات الاعتداء كثيرة وحالات الاغتصاب اكثر واكثر .. اه.. ساعدنا يا الله فلن يقف أحد غيرك .

اليوم فجر الثلاثاء 14/8/1990 ، فى الصباح الاكر سمعت صوت العرب واعلنت الاذاعة عن هتك عرض مضيقات جويات بالخطوط الكويتية أثناء مغادرتهم الكويت الى مصر فى الطريق بين الكويت والعراق ”

طبعا بعد أن هذا الخبر هجم  الحزن علينا وبكيت خوفا على أهلى لانهم سيظنون اننى واحد من هولاء المضيفات المغصبات …. “”

كان الله فى عونهم وفى عون زميلاتى الضحايا تولاهم الله برحمته ورعايتة فانا لا أعرف حقيقة الموقف الذى تعرضواله ةلكنى أتخيل نفسى انعرض لما تعرضواله … اه … اعوذ بالله .. أكيد أنه شى بشع.

نبدأ بانهيار واحدة وراء الاخرى احاول أن اتماسك اكتم عصبيتى ادارى خوفى داخلى ولكن .. الاخبار لا تطمئن وحوادث القتل والسلب والاعتداء بكل انواعة تصل الينا مفرعة مرعبة .

 اليوم السبت 18/8/1990 .. طيلة الايام الماضية لم استطع الكتابة من شدة الخوف والقلق .. ولكن ها هو الامل جاء اليوم وعرفت اننا يمكن ان نسافر عن طريق السعودية برا .. ولكن .. كيف ؟ فلا توجد سيارة لنقلنا ، وحتى لو وجدت فانا لا أعرف القيادة حتى لقود اى سيارة اجدها فى الشارع لننطلق ننقذ انفسنا بها … قبل ان نسقط ضحايا لمن لا يرحم ”

اه… ماذا أفعل ؟ نحن نساء لا حول لنا ولا قوة ولا يوجد رجل معنا .. ماذا أفعل؟ لجات الى بواب العمارة ذلك الرجل الصعيدى الطيب الجدع وجلست على نفس مقعده الخشبى وأخذت أنظر الى الشارع والى السماء وأدعو ربى .. وأبكى أبكى وأنا أدعو على هذا المعتدى الاثيم ان يعذبنا ويقهره كما قهرنا وقهر قلوب أهلنا علينا وأذلنا وشردنا دون وجه حق.

سارعت زميلاتى الى ندائى كى اصعد الى الشقة فقلت انا لا أبكى خوفا من الحرب لكننى أبكى ضيقا من غلبى ومن عجزى عن القيادة وذلى واحيتاجى للباس كى امجو بعمرى فهل اخذ حقيبتى واقف فى عرض الطريق عسى ان يرفق احد بحالى وياخذنى معه ؟

الموقف متازم وانا عاجزة تماما عن التحرك والانتظار حافل بالمخاطر والمفاجات ففى كل يوم ياتى خبر جديد واليوم تتفتح أزهار الامل أمامى ، فقد جاء أحد زملائنا وقال أ؟نه يود سائقا ونستطيع ان نؤجر باصا ونرحل عن طريق العراق.

وافقت حتى لا ينقطع الامل وفرحت رغم ان الطريق طويل جدا ، لكننى صممت ان اتحمل أى شى حتى لو اضطررت ان ازحف على قدمى ويدى حتى أصل الى بلدى واخرج من هذا الجحيم المحموم .

جاء الرجل … صدق وعده … واحضر الباص فى الساعة الخامسة والنصف صباحا يوم 20/8/1990 ، اننى فرحة جدا وعلى استعداد لاى مخاطرة فى سبيل العودة الى الوطن ساصمد حتى اعود بعون الله .

بدات الرحلة بداية مريرة فقد سمح اليوم فقط لبعض الجنسيات الاجنبية بمغادرة البلاد وانعكس ذلك على الطريق الذى كان مزدحما ازدحاما شديدا زائدا عن اللزوم فالكل يريد ان ينجو بعمره ويا روح ما بعدك روح كما يقولون ….

وهنا أهلكنا الزحام الفظيع والحر الحارق والعواصف الترابية الللاذعة فقلت معلهش الواحد يستحمل اى شى بس نمشى تحولت السيارة الى فرن بشرى فهى غير مكيفة وكادت ان تشتعل ن شدة الحر فوقفنا حتى تبرد ونضع بها مياها …

ثم بعد ذلك وقفنا حتى نضع بنزين وقفنا ضمن الالوف المكدسة وبعد ذلك سرنا فى طريقنا بعد أن فقدنا العربات الاخرى التى كانت تسير معنا .. وفجاة .. تهتكت العجلة وكادت السيارة أن تنقلب لولا أن الله ستر علينا .. ووقفنا فى قلب الصحراء ، ونحن لا حول لنا ولا قوة والسائق يحاول أنقاذ الموقف بكل كا فى وسعه فى حاجة الى معدات خاصة ..لا يمتلكها …”

تلفت حولى فلم اجد غير الصحراء القاحلة والحر الحارق والخوف العارم .. والذعر من دخول الليل علينا ونحن فى هذا المكان النائى المعزول .. فانهمرت دموعى وغرقت فى بكاء محزون يكاد يمزق قلبى  وعقلى ..

وبعد لحظات ياس قاس قاتل وقفت سيارة لمساعدتنا بالفعل حمدا لله طلعوا ناس طيبين واستطاع السائق ان يضع العجلة الاضافية وان ننتهى من هذا الموقف العصيب .

بعدها .. يدأ الغذاء يقل واماء يشح زبدأنا ترشيد الاستهلاك فلا بد أن تكفى لقمات خبز   وقطرات ماء لتبقنا على قيد الحياة .

واخيرا .. وصلنا الحدود العراقية فرأيت منظرا رهيبا السيارات تغطى مسافات مهولة وتكاد تقف فوق بعضها فى صفوف هائلة لا نهاية لها .. وعندما راينا هذا المنظر بهت بصيص الامل فى تاخروج من هذة المحنة .. حتى كاد أن يتلاشى .. ثم جاءت المفاجاة الصاعقة حين طلب منا الرجوع الى الخلف .. لانه غير مسمةح للمصربين بالعبور …. ”


الخوف تحت السحاب

الحلقة الثالثة :

صدمت .. بكيت .. بعد أن تقطعت أخر شعيرات الامل فى النجاة من هذا الجحيم ” .. اجبطت نفسية زميلاتى تلاشت روحهن المعنوية حتى الحضيض وقلن : سنعود الى بغداد كويت فالموت هناك افضل الف من الموت جوعا وعطشا فى حرها .. ”

اه … ياله من منظر لا أقدر على وصفه إنه منظر يبين مدى ظلم الانسان لاخيه الانسان فما ذنب هؤلاء الناس ما ذنب الاطفال تموت من الجوع والعطش والحر”

أمام اصرار زميلاتى الاربع بعد فقدنا أثر الثلاث الباقيات اللاتى ركنى سيارة أخرى ضاعت منا وسط الزحام ، أمام اصرارهن على العودة فقدنا بدات احس بهزيمة ساحقة وامال حارقة اشعلت قلبى بغضا وسخطا ورفضا

الرجوع الى الوراء قررت أن نستمر مهما كانت المخاطر فالمهم الانرجع ونعود نقبع فئران فى المصيدة .. لكنهن لم يجبن وصممن على العودة لاننا وحدنا ولان السائق مرهق حتى الموت لم ينم ابدا منذ بدأنا رحاة الفرار .

تشتت تفكيرى كدت انهار تجمد عقلى عند فكرة الرجوع رأيت أن أطلب منهن الانتظار بعض الوقت الى ان نلتقى بزميلاتنا الاخريات وبعدها نقرر من جديد ماذا نفعل وكيف نتصرف .

حدثت نفسى .. لبعد هذة المخاطرة الشاقة .. وبعد هذه المسافة الشاسعة اعود بسهوله ؟ ” لا .. لن أنهزم فقد بدلأت الطريق ولا بد لى من المقاومة انى على استعداد لان أموت عطشا وجوعا ولا اضيع بصيص امل يرجعنى الى بيتى ..

اه .. أكاد افقد ارادتى انهار وهن يصررن على اخذى معهن نفعلت صرخت فى وجوههن قلت انا لست صغيرة ولست قاصرا ومستعدة ان اموت هنا لكنى لن ارجع فكل منا مسؤولة عن نفسها فى هذا الوقت العصيب .

وعدت افكر .. لا بد أن اكون مع مجموعة حتى اكون فى مامن فالطريق حافل بالمخاطرة وملى بالمحن والمفاجات ..اه .. ماذا فعل فى هذا الموقف المؤسف ؟

نظرت خلفى حائرة يائسة فرجدت اسرة مصرية فاقتربت منهم وسالتهم ان كان يوجد لى مكان معهم فنظروا نحوى فى عطف واشقاق .. وهنا لم استطع ان امنع دموعى زانا احس ان كيانى يموت ذلا وأشعر بعجزى وانعدام حيلتى وضالة قدرتى ..

المهم وافقوا ان ياخذونى معهم وحاولوا تهدئتى والتخفيف عنى وطمانتى لكن .. ها هو فرج الله قريب اذ جاء احد اقرباء زميلة لنا قد سار معنا لتوصيلنا الى الحدود ليطمئن علينا جاء وعرض علينا ان يتابع الرحلة خلفنا لنكون تحت رعايته.

اطمانت البنات لوجود رجل معنا يحمينا وازداد الامل فى تكلمة المسيرة التى بدأناها تابعنا الطريق الذى بدا ينفتح شيئا فشيئا وكان المرور مرهونا بمزاج الجنود ،فمرة هم متعاونون ومرة هم كار هون يفيضون مقتا وكراهية لهولاء العابرين الذين يعاملونهم وكانهم حيوانات لا تدرك ولا تفهم ”

أخذت الناس تتصارع وتتقاتل .. فالموقف متازم ، وكلنا نحاول معا عبور عنق الزجاجة فالكل يريد أن ينفذ بعمره قبل أن ينفجر الموقف فوق رؤسنا كالبر كـان ”

ظلت الاحداث تتلاحق واحدة تلو الاخري مجهوله لا اعرف ما تخفيه لى الدقائق القادوه أن معنوياتى تهبط يدى لا تقوى على الكتابه لكننى أبذل كل الجهد كى أحول بين نفسى والانهيار فلا وقت ولا مكان ولا زمان يسمح بذلك .

نعم .. يجب أن اتماسك وأن اتمالك كل حواسى حتى استطيع التفكير خاصة واننا قد وصلنا الان الى حدود العراق … ”

الامل كبير فى النجاة .. اه .. كنت أظن أن المسالة مجرد عبور حدود وكنت اعتقد أن الهم الاكبر هو عبور الحدود العراقية فقط لكننى لم أكن اعرف ان هناك حواجز كثيرة اصعب كثيرا من مجرد عبور الحدود حواجز عبور العقول البشرية ذاتها .. فكيف أمر خلال عقرل قاسية متحجرة تعرف اى شى فى العالم سوى الحرب وانتهاك العرض والقتل والسلب والنهب

اه .. تفكيرى يخوننى ولا بدلى من التفكير السليم بعد أن فتحت الحدود .. وبعد أن تركنا السائق وعاد من حيث أتى ” كنت اظنه لكن الاصل يحكمه فتركنا نحن وحقائبنا بالقرب من الحدود .. ورجع ”

كانت احدى زميلاتى كما قلت من قبل مصابة بدسك والاخرى منهارة فى حالة هلع وذعر وعدم تركيز فاخذت احمل حقيبة كل واحدة منهن وامر بها فنظر نحوى العسكرى الواقف على الحدود نظرة مريبة تحمل امارات الطمع مع انى وزميلاتى كنا نرتدى عباءات سوداء كما كنا نغطى شعورنا فذخبت إليه وطلبت منه السماح لى بنقل الحقائب لان زميلتى مريضة ولا تستطيع رفع اى شى تقيل نظر العسكرى الى نظرة لا تطمئن على الاصلاق وقال لى عبرت الحدود لن تمرى مرة أخرى واخذ يتحامل علينا ويسخف معاملته لنا فنظرت حولى فابصرتضابطا برتبة لم استطع تمييزها تبدوا على وجهة ملامح التهذيب فقلت لنفسى ساجرب حظى مهه .

ذهبت اليه وقلت له أن زميلة لا يريد عبورى ويجب أن احضر امتعتنا فهلا يساعدنا 

نظر الى وقال معتذر لقد انتهت نوبتى الان وليس بيدى شى توسلت اليه ان ينتظر بعض الوقت ليحمينا من زميله الذى يبدو الشر فى عينيه .. نظر الضابط نحو العسكرى ووجد فعلا علامات الغدر تبدو فى نظراته فانتظرنا حتى نعبر وشكرته كثيرا من قلبى .

لكن .. بعد الحدود حضر العسكرى حتى ينتقم منا وسالنى فى غيظ ماذا تحملين معك ؟ ” طبعا ذهب وفيديو فقلت له فتش اذا اردت ان تتاكد فانا لا املك هذه الاشياء كنت احمل نوتة مذكراتى بيدى وكانت الصدمة .. لقد طلب ان يراها سالنى ..ما هذا ؟ كادت زميىتى يمتن رعبا وكان لزاما على أن اتصرف بهدوء وحكمة وذكاء فلوا متنعت ورفضت تقديمها له ستكون هذه هى نهايتى الحتمية فما كنت فيها عن صدام كفيل وحده باعدامى .

اعطيته اياها بعد طلب ان يراها قدمتها له بسهرلة وقلت له تفضل انها مذكرات شخصية ليست بها اى شى راقبقه فى حذر وكم كانت سعادتى بالغة وانا اراه يفتحها ويقبلها دون ان تبدوا على وجهه امارات المعرفة .. تاكدت انه لا يعرف القراءة فاطمان قلبى .. وتنفست الصعداء .

بعد ذلك اخذتها منه وقلت له شكرا كثيرا وكان قد دخل علينا الليل ونحن مازلنا فى وسط الصحراء بين سيارات كثيرة متناثرة تحمل عائلات أو رجالا أما نحن فقد كنا نساء لا رجل معنا بعد أن فقدنا أثر قريب زميلتنا الذى ضاع بين الناس والزحام ”

جلسنا فوق رمال الصحراء وحيدات خائفات عاجزات فسالتنى احدى زميلاتى هل سنبيت الليل هنا ؟

لا .. لن استطيع ساموت من الخوف ساعود للكويت .. لن ابق … وأيدتها لباقيات فى موقفها

اه.. انهن يستبدلن الحماس بالياس داخلى .. قلت لهن باصرار سول انام فى الصحراء وسالتحف السماء ..

لكننى لن اعود ومن تريد ان تتابع فلتبق معى فانا ساستمر حتى النهاية حاولت ان اعطيهن دفعة امل فقلت لهن اننا بالقرب من منطقة الرويشد على الحدود الاردنية لكننا نحتاج وسيلة لتنقلنا اليها واذا برجل يعرض علينا المساعدة بعد أن رانا بنات وحيدات بائسات فاحضر لنا تاكسى بسائق عراقى .. لم نعترض فقد كان كل همنا ان نكمل مسيرتنا.

 تشجعت زميلاتى أمام إصرارى ورغبتى فى الاستمرار حتى اكمل ما بدأت 0 وضعنا الحقائب فى السيارة وانطلقنا والفرح يعربد داخلنا .. لكن ..

لم تكد تمر دقائق حتى قال الجنود الاردنيون للسائق ” اركن ” الحدود مقفولة للمصريين ” تعججت .. حتى الاردن ايضا ؟ ياه ماذا نفعل اذن ؟

اعترانــى ياس مقيت كاد ان يهد كميـانى بعد ان وقفت السيارة مجمدة بلا حــــراك ”

****

وهنا .. نظر السائق نحونا وقال هذا ما فعله بكم رئيسكم انتم مشردون بسببه ، لم استطع ان افتح فمى ، اكتفيت بهز رأسى  ولكن .. لسانى لم يستطع ان يسكت امام جهل السائق بما يحدث حوله وبعد أن ظل يتكلم بحقد قائلا لقد مات ابن عمى واخى وفلان وفلان وذكر تقريبا كل افراد عائلته الذين استشهدوا فى حرب العراق وايران .. وهنا قلت له جملة واحدة كادت تجعله يجن قلت له حاربتم طوال ثمانى سنوات وخسرتم ارواحا واموالا .. بعدها اعطيتم  ايران كل شى فى دقائق .. فما رأيك فى هذا الموقف ؟

لم يستطيع الرد وبدأ انه يفكر ويفكر فاكتفيت انى ساعدته على ادراك هذا التصرف الاخرق لسياسة رئيسة الاحمق .. وبعدها التزم الصبق وكانه بقى يتحدث مع نفسه نادما على موت هولاء الشباب الذين راحوا ضحايا القرار الخطا للشخص الخطا .

الان .. الساعة الثالثة صباحا يوم 22/8/1990 لقد فتحوا الحدود هيا بنا ، فسرنا فى  طريقنا بالسيارة وكانت تسبقنا سيارة أخرى تحمل اسرة مصرية .

سرنا فى الطريق سويا مرت السيارة الاولى بعد أن فتشها رجال الحدود الاردنيون ثم مرت السيارة الثانية وكانت سيارتنا هى الثالثة .. واذ بالجنود الاردنيين يوقفون سيارتنا وهم ينظرون داخلها ليسالوا اسائق عن هوية الركاب فقال له : مصريات

وهنا .. كانت الفاجعة الكبرى .. فبعد أن توقعت أن نمر بسلام بعد عبور الحدود العراقية والتى كانت هى الهم الاكبر اذ بنا نقف مذهولات امام ذلك القرار بمنع عبورنا بعد أن اخبرنا الجنود الاردنيون ان المصريين غير مسموح لهم بالمرور”

تعججنا .. وقلنا لهم أن السيارة التى سبقتنا كانت تقل مصربين وقد مروا فعلا فلماذا يمنعونا نحن .. ألسنا جميعنا نحمل جوازات سفر واحدة ؟

لم يردوا علينا وامروا السائق أن ينحرف بنا عن الطريق وان يتجه نحو الصحــراء”

 

 

 

 

كانت الساعة حوالى الرابعة صباحا .. ياه .. ماذا نفعل معهم ؟ وماذا يريدون أن يفعلوا بنا ؟

ما هذا الموقف المرعب ؟

وبلغ الذهول بنا مبلغه ونحن نسمع الجنود يامرون السائق بالتوقف فى منتصف الصحراء وكانت سيارتنا هى السيارة الوحدية التى وصلت الى هذا الموقع المتطرف .. فى عز الليل بعيدا عن الناس .. والعمران ”

وهنا دهمن خوف فظيع خوف بغيض مقيت فاخذت زميلة لى تلطم وجهها واخرى تصرخ فى هستيريا واخرى تبكى فى رعب وتكاد تروح فى اغماء .. اما انا … فقد اعترانى

صمت كالموت …. وعجزت تماما عن الكلام … او البكاء .

 

***

                                                              


الخوف تحت السحاب[8]

الحلقة الأخيرة

اعتراني صمت كالموت وعجزت تماما عن الكلام أو البكاء لكنى حيال الخطر الداهم الذي يحيق بنا وجدتني استمد قوة هائلة منبعها الدفاع عن النفس بعد أن صار مفهوما وواضحا الهدف من إبقائنا هكذا وحيدات وسط الليل والصحراء … والرجال الغرباء!!

صرخت في وجه الجندي: إيه الحكاية “! أنتم ناويين على إيه “!

وتجاهل الجندي المتهجم الوجه سؤالي كأنه لم يسمع حرفا مما نطقت لكنني عاودت السؤال تلو السؤال، لماذا نحن هنا “! ولماذا نحن فقط هنا “! لماذا أبعدتمونا عن الحدود “! فرد قائلا: لأن الحدود مغلقة الآن فعدت اسأل : وكيف مرت باقي السيارات “! قال : كلهم سوف يأتون الآن هنا.

نظرت إليه غاضبه ثائرة بعد أن شعرت به يستمر في تضليلي ووخداعي كأني تلميذة في مدرسة ابتدائية. وهنا .. إلى الدم في عروقي صرخت وأنا انفجر في البكاء : احضر جميع السيارات هنا وأنا مستعدة لأن أظل حتى الصباح يا إما تتركنا مع باقي السيارات وأنا مستعدة انتظر إلى الوقت الذي تسمحون .. وان شاء الله بعد شهر.

سكت لم يرد ابتعد قليلا وما لبث أن عاد ليقف على مقربة من السيارة فقلت له: تصرفكم هذا مثير للشك والقلق ونحن لن نسكت على هذا الوضع أبدا فقال: اهدئي، فقلت : كيف أهدأ؟ أليس لديك أخت أو أم ؟ وثم كيف نهدأ ونحن في مثل الوقت من الليل في الصحراء ؟! أرجوك .. أنقذنا ساعدنا لكنه بقي صامتا كالحجر الأصم ، فعدت اصرخ من جديد بينما زميلاتي في حالة هيستيريا مستمرة بكاء صراخ شد شعر لطم خدود وكأنهن يوشكن على الموت خلال لحظات فرجعت أقول له: أرجوك .. ساعدنا … نحن قلنا خلاص عدينا من الحدود العراقية تقومون انتم تعملون معنا هكذا ؟ هذا معقول ؟!

أخيرا .. حضر الضابط تكلمت معه فسمح لنا بالمرور … آه …. الحمد لله عبرنا هذه المحنة المخيفة بسلام بعدها .. أخذت أسائل نفسي : ماذا كان غرضهم ؟ على أي حال أنهم تركونا نعبر الحدود بسلام .. حمدا لله.

       عند الحدود طلبوا منا تسجيل أسمائنا وذلك بعد أن فتشونا بطريقة دقيقة جدا وقالوا لنا انتظروا بعض الوقت وفي هذا الوقت لم تكن توجد لدينا قطعة خبز واحدة أو حتى رشفة ماء. وسألنا عن كيفية رجوعنا فقالوا سوف نرحل في “باصات” كبيرة مرسلة من مصر.

***

وشعرت ببعض الاطمئنان لأنني سوف أكون بين يدي أولاد بلدي وصنا حوالي السابعة والنصف صباحا وكان علينا الانتظار حتى العاشرة موعد رحيل الأتوبيسات عرنا بالجوع يقرص امعاءنا لكن ماذا نفعل ؟ وكيف يمكننا الحصول على طعام؟

تلفت حولي فوجدت طابورا طويلا جدا، سألت ما هذا فقالوا أنهم يعطون وجبات مجانية لكل فرد فرحت ولكن فرحتي لم تطل إذ إنني وجدت بعد تلك الوقفة الطويلة المملة في الطابور أن الوجبة عبارة عن قطعة جبن نستو ورغيف خبز واحد ! المهم أخذته وحمدت الله على ذلك فنحن مازلنا نصارع من اجل البقاء ولقيمات تكفى لأن تقم أولادنا.. وتبقي على حياتنا.

ركبنا “الباصات” مع مصريين صعايدة وكانت المسافة من الرويشد الى العقبة عشر ساعات بدون توقف ولكن كنا نسير بعض الوقت وعند أول استراحة تأمرنا السلطات بالتوقف حتى يفتحوا الطريق؟!

       ومع الوقت أخذ المال يشح بل يحتفي فكنت أنا المسئولة عن الميزانية كنت اشترى الأشياء الضرورية فقط للإبقاء على حياة الإنسان، فالبيبسي بها سكريات ولكن لا لمزايد من الأنفاق على الطعام، فبسبب الجوع الشديد على مدى يومين التهمنا قطع الجبن النستو والأرغفة الأربعة في لمح البصر أيضا لم تشبعنا ومع ذلك لم نفكر في شراء المزيد من الطعام لابد من التشقف فالطريق مازال طويلا .. والله وحده يعلم ماذا ينتظرنا به من مفاجأت.

تحركنا بعد فترة لكن طلب منا التوقف مرة أخرى وهكذا كنا نقف نصف ساعة ثم نسير وهكذا طوال خمس استراحات حتى أصابنا الضيق والملل إلى أن حدث لنا موقف إنساني مستحيل أن أنساه موقف يثبت مدى أصالة الشعب المصري ومدى طبته ونخوته في استراحة من الاستراحات جلست البنات وطلبن منى احضار شاي وقفت ضمن الجموع لأحضر الشاي وإذا برجل مصر وزوجته وطفليه يأتي هو وزوجته ويقول لي: انتم لم تأكلوا شيئا نحن معنا نقود خذوا بعضا منها، ثم ألا تردون أي مساعدة أي خدمة ؟!

لم استطع أن أمنع دموعي من الأنهمار فقد وضعت في موقف لا أحسد عليه موقف محرج صعب لكنه أكد لى اصالة المعدن المصرى وطبة قلب الشعب المصرى بارك الله في مصر والمصريين.

شكرتهما كثيرا وتمنيت في نفس اللحظة ان أرى صدام واقول له في وجهخ حسبي الله ونعم الوكيل فيك، شردت ناسى بدون وجده حق، وعذبت ناسي بدون مبرر.. تمنيت له الهداية من الله حده .. أن يهديه الله الى طريق الحق والخير وكفاه عنادا وضالا.

بعدة عدة استراحات ووقفات وصلنا الى العقبة أخيرا .. وصلنا الى العقبة فازداد الأمل داخلى وقلت : فات الكثير ولم يبق الا القليل وبرغم التعب فالرحلة كلها تمت بدون أى استراحة أو التقاط انفاس فقد كانت متواصلة مرهقة.. متتابعة برغم التعب الا أننى احسست الفرح والبهجة بالخلاص والنجاة.

       في العقبة كانت هناك طائرات مرسلة من مصر للطيران لتحمل المصريين عائدة بهم الى أرض الوطن الى جانب عبارات تحملهم الى السويس ونويبع.

وطبعا لأننا كنا بدون سيارة فقد ركبنا الطائرة وكان ذلك يوم 22/8/90 ، آه .. كم كانت فرحتى وأنا أركب طائرة مصر .. المتجهة الى أرض مصر !! آه ا للفرح .. الحمد لله الحمد لله.

       استغرقت الرحلة حوالى أربعين دقيقة وأقل . وعندما حانت لحظة الهبوط الى أرض مصر الحبيبة ملأت الدموع عينى ونظرت الى زميلتى الجالسة بجوارى وسألتها: صحيح هذه مصر يا عبلة؟ هل عدنا الى مصر فعلا ا عبلة؟ حمدا لله على السلامة .. حمد لله على السلامة. تعانقنا في فرح ونحن لا نكاد نصدق أنفسنا أن عجلات الطائرة تلامس الأن أرض مصر الحبيبة واننا قد عدنا أخيرا الى الوطن الغالى بعد كان هذا الشوق والخوف والعذاب والغياب .. الحمد لله ، الحمد لله.

       آه يا مصر .. يا أم الدنيا .. آه وطنى .. كم اشتاق الى رؤيتك يا هبة النيل .. آه .. أخيرا تحقق الحلم .. حلم عمرى ورجعت اليك مرة أخرى .. آه كيف سيكون اللقاء ؟ هل سأشحك أم أبكي أم ازغرد؟؟ آه …

أننى لا أتمالك نفسي من دة الأنفعال لكننى أحس اليوم .. يوم عيد .. عيد جميل ليس له مثيل بين باقي اليام .. الحمد لله.

       آه يامصر .. كنت يئست حقا من رويتك، وانتابتنى كثيرا لحظات خوف مميت حين كنت أعانى من وحشتك وغربتك .. لكن أملى في الله كان أكبر بكثير من أى شىء . وها أنا وصلت الى حضن أهلى وبلدى وعيرتى. حمدا لله حفظ الله مصر كنانة النيل أرض الأديان وهناك .. دعوت من كل قلبي أن أعيش لأرى وأشهد لحظة اللقاء مع الفرح اللقاء مع الأمانى عندما يعود شعب الكويت الحبيب الى ديرته الغالية الحبيبة بعد زوال تلك الأزمة العنيفة اللعينة. دعوت الله كثيرا أن يفرج الله محنتهم وأن ينعموا بالعودة الى وطنهم فليس هناك    أغلى من الوطن .. وأحب من الوطن.

***


العذاب .. في معتقل البصرة!

       هذه حكاية شاب كويتى كويتى تعرض للاعتقال والتعذيب على ادى القوات العراقية طوال ثمانية وعشرين يوما قضى أكثر من نصفها في “معتقل البصرة” الذى شيد وأعد خصيصا لتحطيم معنويات الداخلين اليه هؤلاء الذين قد يسوقهم سوؤ الحظ للوقوع بين ادى زبانته الذين يستخدمون تى وسائل التعذيب بالضرب والكهرباء وغيرها وكأنهم يستخدمون أدوات تسلية وملهاة.. فيا لها من مأساة!!

       نبيل جاسر خالد الجاسر شاب في أوائل العشرينات نجل عضو سابق في مجلس الأمة وعضو حالى في المجلس الوكنى كان واحدا من هؤلاء الشباب الأبرياء الأثرياء السعداء الذين حباهم الله حب الأهل ورعياة رجال الوطن فبوا والطموح يملأ نفوسهم الأبية بشتى صفوف المنى والأمانى والفرح والنجاح.

       لكن .. بل لكنها تلك الظروف العصبية العنيفة التى صبغت امانى الفرح في قلوبهم بلون الحزن والقهر القاتم السواد، حتى جاءت لحظة الحسم التى احتار فيها قلب هذا الشاب الطب الطموح بين حبه لأمه التى تكاد أن تموت لفراقه وحبه لوطنه الذى يكاد أن يموت هو لفراقه!

       اليكم حكاية الحب الحائر هذه كما يرونها نبيل بنفسه حياه الله وكثر من أمثاله وحفظه الله هو واقرانه من ايدى العدو والظلم والعدوان.

يقول نبيل: قبل الغزو كنت رايح مزرعة عندنا في العبدلى لأقضي عطلة نهاية الأسبوع فشفت جنود بعدها اتصل بنا اخوى عبد الله من المطار فهو يتغل ضابط أمن ف الجوازات هناك.

       كان دوامه في نفس ليلة الغزو حتى الساعة الخامسة صباحا فاقترح عليه زملاؤه ان يخبرنا لنطلع الى السعودية لكننا فضلنا الانتظار حتى نتبين حقيقة الأمر فرجع اتصل بنا الظهر وقال لنا أنه سمع من الضابط الكبير في المطار ان بيوت اعضاء المجلس الوطنى مستهدفة فقل لأهلك أن يطلعوا من البيت بأرع وقت.

       ولكننا انتظرنا رجوع أخوى من المطار الذى ظل به حتى الساعة السابعة مساء. كنا خايفين عليه لأننا سمعنا أن المطار انضرب ! رجع عبد الله وقال لنا: كنت اشوفهم بعينى يعتدون علينا. قدامى انضرب الدفاع الجوى بالمطار وكان يتكلم ثائرا حانقا غاضبا بعد أن جاءنا بالبيجاما.. ترك أغراضه كلها وطلع بالبيجاما لأنهم قاموا يصيدون العسكريين ويقتلونهـم !!

***

       تركنا البيت طلعنا ورحنا عند بيت ناس نعرفهم قعدنا عندهم لمدة خمسة أو ستة أيام ورجعنا البيت بعدها وكانت عندنا كاميرا فيديو صورنا بها الاحداث فقد كنت اشوفهم يمشون في فيالق قدام بيتنا بالدائرى الرابع.. وصورت كل هذه الأشياء.

بعد فترة قصيرة عرفنا أن الوالد على الأخص مستهدف هو وأخوى يوسف لأنه رائد في وزارة الداخلية ومدير مكتب الوزير لشؤون المواطنين وأكيد أنهم دخلوا المواقع العسكرية وشافوا مكتبه وعرفوا انه خص مهم بعد أن عرفوا كل شىء عنه فقعدوا يدورون ويسألون حتى عرفوا البيت.

       ومن حسن حظنا اننا كنا قد غيرنا هوياتنا يوم 17/8 وهم داهموا بيتنا ودخلوا علينا يوم 18/8 فلم يعرفوا حقيقة شخصياتنا ولا من نكون وهذا هو الذى ساعد على الافراج عنا وخروجنا من المعتقل فلو كانوا قد اعتقلونا باسمائنا الحقيقية حتما كانوا سيساوموننا على حياة أبي واخى يوسف هذا شىء أكيد.

       المهم .. خالى قال لنا خلينا نطلع من البيت فطبعا ثرنا عليه ورفضنا بعدها بربع ساعة ضربوا طلقة ذخيرة حيه على نافذة اختى كانت قاعدة معها واحدة من أقاربنا والطلقة مرت بجوار رأسها ضربت بالحائط ثم خشب الدولاب فانتشرت نشارة الخشب في الغرفة كلها فنزلت قريبتنا بالسرادب وطاحت قدامنا غيانة فقال خالى خلونا نطلع من البيت فرضنا وقلنا له هذه رصاصة طائة فسكت ولم يعترض على كلامنا.

       ولم تمض الا خمس دقائق حتى سمعناهم يضربون الباب بصوت عال فصعد خالى وابن خالى وبقينا نحن بالسرداب فنزلوا علينا تحت .. كانوا حوالى 12 أو 13 جنديا مسلحين أول ما نزلوا صرخوا فينا ارفع ايدك .. ارفع ايدك .. تجمعوا كلكم في زاوية!

وسألوا: بيت من هذا ؟ فقلنا لهم احنا جايين هذا البيت لنحمى فيه فسألوا مرة ثانية بيت من هذا فقلنا لهم: والله احنا مو عارفين فقالوا: اذا ما تقولون الصدق الحين كلكم تأخذكم.. فصار فينا ارتباك. بالذات لما سألونا فين هوياتكم؟! فلما لاحظوا ارتباكنا قالوا لنا تعالوا معنا. واخذونا نحن الخمسة. انا واخوى نواف الصغير اخوى عبد الله وخالى وابن خالى.

       كان الموقف عصيبا لعينا عنيفا على أعصاب اختى الحامل في هرها التاسع التى هافت وفزعت لما شافتهم يقبضون علينا ويأخذون معهم تحت تهديد السلاح بينما ظلت هى في البيت وحيدة ليس معها احد فوالدى ووالدتى واخى وليد كانوا في القاهرة بعدها قامت وهى تبكى ولا تدرى عن نفسها يئا بتمزظيق كل جوازاتنا والبطاقات المدنية لنها كانت خايفة انهم يرجعون ويكفون اننا زورنا بطاقاتنا فيقتلون.. صدق .. اعصابها انتهت مرة واحدة..

***

       وبدأ الاعتقال .. أول ما أخذونا في الريق الى المعتقل أدخلونا مخفر السالمية لمدة ساعتين ونصف بعدها أخذونا الى كلية الشرطة فابقونا فيها يومين في الزنزانات هناك وكان الفطر والغداء بديخ.. كان هذا هو طعامنا الوحيد. بعد اليومين اخذونا الى الجهراء قعدونا في سرداب أحد البيوت هناك لمدة يوم ونصف اليوم بعدها أخذونا الى البصرة وبقينا بها لمدة 17 يوم آه.. لو أقدر أوصف لك حالتى!!

       صراحة .. كنت قاعد أحس اننى أموت في كل يوم درجة يعنى بمعنى أصح قاعد أموت موتا بطيئا فقد كنا في كل يوم نضرب أكثر من اليوم اللى قبله وكل شوية تحقيق وتعذيب. نعم .. تحقيق وتعذيب فأثناء التحقق لازم يستخدمون الكهرباء أولا. يأخذونا من المعتقل يودونا غرفة خاصة وهم يغطون عيوننا ما نشوف ولا شىء وايدينا مكلبشة بالحديد خلف ظهورنا.    

       يبدأ التحقيق .. وأنا ما اشوف شكل اللى يكلمنى ولا شكل اللى يضربنى .. ولا اللى يعذبنى .. يستمر الموقف الشاق المهين يستمر الضرب والتحقيق التعذيب والأصوات الجافة المجهولة ونحن نقف لا نتوقع ولا ندرى من أين تأتى الضربة التالية ولا نعرف على يد من تكون!!

       كان الحديد محطوطا في يدى المقيدة وراء ظهرى بينما يثبتون عليهما الأسلاك ويفتحون الكهرباء كنت أحس قلبي ينشلع كأن قلبي يطلع من صدرى الصراحة .. الكهرباء تعذب.. تعذب .. تنفض الجسم كله وكان أكثر شىء يحطون الأسلاك حول رقبتى صوب اليمين وصوب اليسار ويفتحون التيار .. كأنه نار جهنم صدق جحيم.

كنا نتعذب ، نتعب حتى النوم كان عذابا في عذاب فالأرض التى ننام عليها كانت بلاط (كاشى) وحاطين فوقها أسمنت يابس على شكل أمواج البحر فكنا لما اننا نقعد وجسمنا متكسر ما كان الواحد فينا يقدر يحرك جسمه من شدة الألم والعوار حوالى ساعة ساعتين فهذا الموج الأسمنتى يشل الجسم ويعجزه عن الحركة.. قاصدين يعلمونها بهذا الشكل.

       كانوا طول الوقت يعذبوننا كنا نضر أكثر مما نقعد كانوا يضربوننا بالخرطوم السود اليابس، ومن قوة الضرب كان “الهوز” أى الخرطوم المطاط يتمزق وتتناثر منه القطع ومعها جلودنا أشلاء!

       كان هذا هو العذاب الجسدى .. نحن رجال نقدر نستحمل ما يهم مو مكلة لكن كان العذاب النفسي أشد وأقسى وأصعب فقد كنا مو عارفين مصيرنا ولا ماذا سيفعلون بنا خاصة وانى شفت واحد كويتى شاب اعتقلوه وعذبوه وقتلوه جاءته طلقة على رأسه وطلقة على صدره وتركوا جثته ملقاه أمامنا أربع وعشرين ساعة بدون دفن!!

***

       كنا لما نصلى جماعة يقولون لنا اقطعوا الصلاة وكنا لما نقول بصوت علا “الله أكبر” أو سبحان الله” كنا نلحظ أنهم يخافون وكان “الزميتون “أبو سيف (أى السجان أو الجلاد) كنا نلاحظ أنه هو أيضا يخاف يصيبه رعب فكان يضربنا على وجهنا أو ظهرنا المهم .. لازم نقطع الصلاة وكان يصرخ علينا: أنتم تصلون عشان مين؟! عشان مين تصلون؟!

آه مضت علينا ايام المعتقل بغيضة مقيتة فينا الأمل في النجاة والحياة كل دقيقة قضينا به أكثر من أسبوعين والألم النفسي والجسدى يفتك بنا يكاد أن يدمر عقولنا..

       كانت أعصابنا منهارة فنحن لا ندرى ما هو مصيرنا لكن الحمد لله كان ايماننا بالله أقوى من أى قوى ضاربة على وجه الأرض .. واحد صمت وكان معنا خالد السلطان عضو مجلس الأمة السابق كان معتقلا معنا شيخ متدين رجل مدين حقا فعرف انى صائم فقال لى اطلب من ربك تطلع قبل ما تفطر وبعد ما تفطر .. سبحان الله .. عرفنا ظهر اليوم التالي اننا سنطلع تقبل الله منا الدعاء.

       المهم .. رجعونا نفس المكان الذي كنا فيه في الجهراء . قعدونا ثلاثة ايام ثم أخذونا الى منطقة الروضة وتركونا في الشارع كنا نازلين حفاة بدون نعلا والدشدشة صار لها 28 يوم ما انغسلت. كنا غارقين في القرف والوسخ واللحى والأظافر طولة يعنى أشكالنا كانت غريبة وأى واحد يوشوفنا من جماعتنا مستحيل يصدق أننا نفس الأشخاص اللى يعرفهم!

نزلنا .. كانت مو قادر امشى من كتر ما انا موصدق ان احنا طلعنا.

       وخالي اشوفه يركض بروحه ويرد قف بنفس المكان يركض ويرد يقف… ما درينا عن نفسنا ولا حسينا كيف وصلنا الديوانية!

       اتصلنا ببيت أخوى كانوا موصديقين حتى اختى اقول لها: هاه امانى عرفتينى؟! فكانت تصرخ تبكى تقول: ما أصدق انت نبيل اخوى؟! ما أصدق ا أصدق!!

       كلمت اخوى الكبير باسل فقال لى: لازم تيجوا عندنا الحين طلعوا من البيت بسرعة .. رحنا عندهم وعرفنا ان اختى طلعت وقعدت عند اخوى وعرفت ايضا انهم دخلوا بيتنا بعد ما اعتقلونا حوالى ثلاث أو أربع مرات وقال لى أخى مومعقول انك تقعد بالبيت اكيد راح ردون مرة ثانية فقلت له بس بأخذ هدومى وغيارات لى واجيكم.

       كان معى صاحبى فنزلت معه البيت فتحت الدولاب .. أريد أخذ هدومى .. ماقدرت ما قدرت أمد يدى لاخذها حسيت بارتباك خفت يدخلون البيت فجأة ويقولون هذا حرامى ما قدرت .. ما قدرت فقلت لصاحبى خذ لى انت هدومى وتعال لى عند السيارة .. أنا ما أنى قادر امد يدى..

ولاحظت ان اشياء كثيرة اتفقدت من البيت لها قيمتها بس هذا كله فداء الكويت يهون .. فالهم أن ترجع ديرتنا.

       بقينا بالكويت حتى يوم 15/10 تاريخ خروجنا .. وكانت تطلع اشاعات تقول انهم يعتقلون الشباب عند الحدود ، وانهم لو لقوا معهم شريط تصوير فيلم وثائقي أو شىء عن الأحداث التى تصير ينفذون فيهم الأعدام على الفور.

       ونحن كان عندنا ثلاث أشرطة تصور أحداث وضرب بالذخرة الحية .. صراحة .. أنا تأسفت لأنى لم اخذهم معى ندمت لأنى تركتهم بس نحن كنا خايفين ونريد أن نطلع بسلام عان خاطر أمى فانا كنت لاغى فكرة الخروج رافضها تماما بس سمعت في النداءات بالراديو صوت امى وهى تقول طلعوا الله يخليكم … طلعوا بأى طريقة .. وما قدرت تكمل .. وقفت .. قعدت تبكى وكملت عنها زوجة أخوى.     

       صراحة .. حبى لامى وخوفي عليها ان يصير فيها شىء هو سبب طلوعى من الكويت بعدها عرفت من اخى في القاهرة بعدها قعد يسولف لى قال لى عرفنا انكم اعتقلتم في نفس اليوم في نفس الساعة صرخت والدتى وقالت لابوى عيالى صار فيهم شىء.

الغريب ان ما كان عندها اى كرة ان احنا معتلقين او فينا شىء ، بس سبحان الله احساس الأم لا يمكن ان يخيب فهو احساس صادق قوى فوق ما يتصور الانسان فيعنى بصراحة امى تستاهل ان الواحد يطلع عشانها والكويت امى الثانية تستاهل ان الواحد يقعد عشانها .. لكن الظروف اقوى من الانسان .. اقوى من الانسان.

       فأنا شفت مآسى وعشت مواقف لو شخص ضعيف كان ممكن يموت من القهر بس الحمد لله أن اتضح عكس هذه الفكرة التى عند الناس ان الكويتيين شعب ترف وعايشين في رخاء .. أو كانوا عايشين في رخاء لكنهم اثبتوا رجولتهم وصلابتهم وصمودهم وقت الشدة وصبرهم على كل صنوف الأسى والعذاب.

       وأنا بعد أن اكمانيت على امى حاولت مرة ثانية انى راجع لكن للأسف ما في مجال وأنا عن نفسي لو في مكان ادخل منه الكويت مستعد احط عمرى كله عشان ارجع وفعلا استفرت فقالوا لى عن طريق الخفجى لكنها الحين صارت ممنوعة بس الموظفين الذين في المركز نفسه هم الذين يقدروا يخلوا .. فحاولت وحاولت ولم اجد أى مجال وأنا عندى اد الرغبة في الرجوع الى الكويت .. لا موت فداء الكويت .. وان شاء الله ترد الكويت.

       ونحن نحمد الله ونشكره على أى حال ونطلب منه سبحانه أن يفرج علينا هذه البلوى والله كريم ان شاء الله ويحفظ سمو امير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح وولى عهده الشيخ سعد العبد الله الصباح يحفظهم من كل مكروه وتجيهم النخوة من كل مواطن كويتى وكل مواطن عربى .. وان شاء الله ترد الكويت .. الله كريم يمهل ولا يهمل .. يمهل الكلب .. ولكن لا يهمله. يعطيه فرصة يمارس حيوانيته وبغية وكغيه.

       ولكن في يوم سيثبت للعالم كله انه وقح قذر يستحق اقسي أنواع العقاب.


التحقيق والتحريق .. في مخفر النزهة !

       هذه حكاية شاب كويتى في مقتبل العمر تحت العشرين مازال يتعرض لصنوف تعذيب عنيفة ورغم ذلك لم تنل من أرادته كما لم توهن من عزيمته الثابتة امثابرة على قهر العدو وتحرير الوطن واستعادة الحق السليب.

       هذا الشاب البطل يحكى لنا تلك الحكاية البطولية التى تظهر الى أى مدى كان هذا الشعب الكويتى طيبا مسالما وكيف تحول فجأة سطوة الظلم والعدوان يصر ويصمم على النيل من الاعداء والانتقام لكرامته بكامل ارادته ، حتى لو كلفه ذلك حياته.

       بدأ هذا الشاب حكاتيه قائلا: يوم الغزو كنت في الشاليه، ونزلت منه الساعة الثالثة فجر الربعاء ، ثم عدت اليه ثانية. وأنا في البيت سمعت أصوات ارتطام مكتومة ، فما توقعت شيئا غير عادى تصورت انها أغراض طاحت من السطح ، سيارات كثيرة نازلة بالخط السريع في اتجاه الديرة.

       وقبل أن اصل الى الشاليه تبينت أنها سيارات عسكرية واوقفنى عسكريون وسألونى وين رايح؟ قلت لهم رايح عند ربعى فتركونى، وأنا في الطريق فتحت الراديو وسمعت ناطقا عسكريا يقول ان القوات العراقية دخلت الكويت!!

       بداية كذبت نفسى لم أصدق سمعى. فقد كان هذا الشىء يبدو لى مستحيلا فذهبت عند رفاقي واخبرتهم بما سمعت وما كانوا يدرون بشىء .. كانوا يحلبون الغنم كى يوفروا حليبا طازجا للافطار.

       تعجبنا كلنا .. صحيح كانت هناك اخبار تقول بوجود حشود عراقية واحنا حسيا انه يجوز تصير عداوة بيننا وبين العراق لكننا لم نكن ندوى ولا نتوقع ان تصل الى حد الهجوم العسكرى!! بعدها .. تأكدت بنفسي ورأيت بعينى الدبابات ، وهذا الىء جعلنا ننصدم مرة واحدة فمنها كان نحن مسلمون وعرب وهذا الغزو كان مستبعدا تماما بالنسبة لنا!!

       ويوم الخميس الساعة العارة صباحا رأيت طيارة عراقية قذفها العسكرية بقاعدة بنيدر فطاحت بالبحر ساعتها .. حسيت ان الائعة صارت صدقا بعد ذلك رأينا سيارات تطلع ناحية السعودية.. كان هذا على طول الطريق المتجه الى المملكة اشتغل الخط ونحن هناك في الشالية لكننا ما فكرنا في الطلعة مرة واحدة لاننا اعتقدنا ان المسألة لن تطول اكثر من يومين او ثلاثة.

***

       لكن .. الأحداث تتابعت بسرعة وبدأت اخبار القتل والسرقة والاغتصاب والارهاب تنتر بين الناس في الكويت. لذلك ساعدنا الأهل بكل طاقتنا وقوتنا على الخروج عن طريق الخفج وبقينا نحن نقوم بدورنا المطلوب منا.

       وبدأت انا ورفاقي نؤدى اعمالا جعلت الأماكن التى يتجمع فيها جنود الاعداء تتحول الى قبور جماعية ام نسكت عليهم استمررنا في الكفاح ورغم وقوع بعضنا في قبضتهم الا اننا لم نيأس ولم ننهزم امام قوتهم وكثرة عددهم.

       وكنت انقل الذخيرة بسيارتى من البيت اتجه بها الى مقار تجمع ابطال المقاومة في قلب الليل بعد أن اطفئ انوارها واخفض راسى واصعد بها الأرضفة وانزل الى ان اصل الى المنطقة المطلوبة. فنحن ابناء الكويت. وخير من عرف طرها ودروبها، الا يقولون “الميه تعرف مجاريها”.

       المهم … استمرنا أنا وربعى ف أعمال المقاومة بصبر وايمان بالله وبتصميم على الكفاح من أجل تحرير الوطن الحبيب الى أن حدث في يوم أن امسكونى عند البيت اللى كنت قاعد فيه صادونى عند الباب كنت مطلع السيارة من الجاراج وما في دقيقة الا وسيارة “جيمس” ورائى فيها عسكريون عراقيون ، نزلوا الى وأول ىء قاموا به انهم فتشوا السيارة تفتيشا عاديا ولما رأوا الذخيرة عندى بالسيارة قبضوا على.

ومنذ اللحظة التى صادونى فيها اخذونى الى مخفر النزهة وظلوا يضربوننى من الساعة 12 بالليل حتى الساعة الثامنة صباحا طول الليل استمر الضرب وبعدين ريحونى وخلونى تحت لثانى يوم السجن تحت كله بصل وثوم بارتفاع نصف متر تقريبا. والرائحة كريهة لا تطاق حاولت أن أنام لكن ما قدرت واظنهم كانوا يخزنون هذا البصل والثوم عشان اكلهم.

       وفي مخفر النزهة اختلفت الحاة مرة واحدة كانت يداى مربوطتين بالكلبشات، وكانوا يطفئون السجائر في رأسى وجبهتى ووجهى وأسفل بطنى وكانوا يضعون على الطاولة امامى زجاجة بها ماء نار ويهددون بشتويه وجهى وطول الوقت كانوا يضربوننى بقسوة ووحشية ساعات كانت تصل الى عشر ساعات مستمرة!

       وبعد التعذيب والحرق بالسجائر والتهديد بالتشوية بماء النار اخذونى الى مخفر الضاحية. بعدها بثلاثة أيام وجاء اهلى يسألون عنى وكنت سامع صوتهم فكان العراقيون يردون عليهم بقولهم “مو موجود هون” وأنا قاعد في الداخل سامعهم وحتى والدتى جاءت وقالوا لها “موهنيه” وأنا لا استطع ان اصرخ وارفع صوتى لانى ورائى جندى مسلح قاعد فوق رأسى.

***

       ومرة ثانية جاء خالى الى المخفر يسأل عنى فقال له نقيب المخفر: انه موجود بس الحين مو عندى تعال باكر وأنا أحاول اجيبه لك هنا وبعدن لما مشى سألنى ” شو يصير لك؟” فقلت هذا خالى فاعطانى صابونا وقال لى : ” اغسل دداشتك لانه باكر راح ييجى لك” فغسلتها لأنها كانت مبقعه بالدم وان كانت الشارة ظلت واضحة عليها.

       جاء خالى اليوم التالي وقعد يكلمنى ويسألنى وهو متأثر عن أحوالى وقال لهم : “ب ما يخالف يقدر يكلم امه في التليفون تطمئن عليه؟ ” فقالوا له: ” لا ممنوع. بكتب لها ورقة” فكتبت الى امى العزيزة وقلت لها: اكمئنى انا بخير ووقعتها وبعد مخفر النزهة اخذونى الى ذاحية عبد الله السالم وابقونى هناك أربعة أيام وبعدها 11 يوما في بلدية الجهراء.

       كانت ايام السجن حرق أصعبا لان السجن مغطى بصور صدام وكانوا طول الوقت يضربونى ويداى مكلبشة وراء ظهرى حتى ما كنت اقدر اغسل وجهى، أو اغتسل او حتى انظف نفس.

       وكانوا يعطونى مكنسة اكنس بها داخل السجن وفي يوم جائنى خالى يزورنى في مخفر الضاحية وحدث في نفس اليوم ان حدثت عملية مقاومة على المخفر وفي الليلة نفسها جاءنى الضابط وقال: “هؤلاء أكيد أصحابك … هاه؟! ياللا اعترف عليهم احس لك”.

       وهذا بدأ مسلسل تعذيب من نوع اخر رعيب فهم اعتقدوا أن الهجوم على المخفر هذا حدث بسببى مع انه كان بالصدفة البحتة. ولما لم اعترف بهم بشىء زادونى تعذيبا وضربا وحرقا وكان العن شىء هو التعذيب بالكهرباء!!

       نعم … كان هذا افظع ىء فقد كانوا يرشون على جسمى ماء ويحطون “ربر” (أى مطاط) عليه لصاق (بلاستر) ويوصلون الأسلاك في مترك متصل ببطارية وعاملينه بطريقة أول ما يحطون الحددة على البطارية تشب الكهرباء .. فكنت أحس بأن رأسى ينتفخ مرة واحدة وانفى يسيل على طول من تأثير الكهرباء. وكانوا يستعملونها باستمرار!!

       وامام عينى فت زميلى وهو مثلي في السن عندما ربطوه بالمروحة وظلوا يلفونها وهم يضربونه مرة ثانية.. الى أن مات من شدة التعذيب .. الله يرحمه.

       كان عددنا 19 شابا كانوا يعذبونا كلنا بوحشية وبصراحة كان معنا رجل دين عرف كيف يموت قلبي مرة واحدة فكان ينصحنا ويقول لنا سلموا أمركم لله وعليكم بالصوم والصلاة وحقيقة .. تصبرنا تقوينا والله وقف معنا، وقدرنا نتحمل هذه المصيبة وهذه البلوى اللى طاحت فوق رؤوسنا بقوة وشجاعة والحمد لله.

***

       وكان العراقيون لا يكفون ابدا عن السؤال : وين رئيس المقاومة ؟ وين السلاح؟ وأنا كنت متوقع الاعدام لذلك تحملت كل اللى حصل لى لأنه مهما حصل كلها واحد فما في أصعب من الموت. بعد أن شفت الموت قدامى عدة مرات.

       فأنا فقدت أعز أصدقائى أوقفوا ثلاثة منهم وأطلقوا عليهم النار في منطقتنا فلما طاحوا كان رفيقي الواقف في النصف غشيان عليه فقد الوعى بعدها اطلقوا على كل واحد رصاصة في رأسه وبعدها بربع ساعة صحى من الاغماء وظل يهزهم ويقول لهم: “قوموا .. قوموا العراقيون راحوا” لكنهما كان قد ماتا أما هو فقد كتب الله له عمرا لأنه أولا سقط مغيا عليه وثانيا لأن الرصاصة التى أطلقت على رأسه مرت من الخارج وسببت له جرحا سطحيا فقط وأنا نفسى تعرضت لموقف مماثل فقد ربطونى بصارى العلم في مخفر النزهة “وغطوا وجهى بالغطاء وأطلقوا على أربع طلقات وبعدين العسكرين قال: سيدى … هذا الله كاتب له عمر. وفكوا عن رأسى الغطاء وظلوا يضربونى في ساقي وبعدها صحبونى الى غرفة التحقيق وأول مرة أطلقنى العسكرى خلونى أركض في الغرفة وهم يقولون لى “أنجز” (أى اقفز). بعدها جاءنى حانقا وقال لى: “أي تأكل أنت؟! ” وراح يضربنى مرة ثانية بغيظ وعصبية.

       وقضيت في معتقل الجهراء اياما عصبية سوداء كأنى غائب عن الدنيا ففى ناس في المعتقل كانت تجيئهم حالات هستريا من كثرة التعذيب والتخويف والتهديد بالقتل بل ورؤية أمامهم يتساقطون واحد وراء الاخر.

       وفي يوم حطونا في باص وتركونا على دوار العظام ، كنا 16 واحدا انزلونا عند تمثال صدام حسين وكانت الدنيا ليل فحملنا شخص ف سيارته الكبيرة نقل ثمانية فقط الى منطقتنا اما الباقون فما ندرى كيف وصلوا.. كان هذا عابر سبيل اراد ان يساعدنا .. حياه الله. بعدها ..

حسيت كأنى اتولدت مرة ثانية حسيت انى كبرت في العمر مرة واحدة كأنى صرت ايب فجأة بعد هذه التجارب الكثيرة التى عتها والتى تشب شعر الرأس فأنا ما توقعت بهذه الدنيا في ناس متوحة والحمد لله على كل شــىء فبعد هذه المحنة اتوقع ان الشاب الويتى اصبح اكثر صلابة وقوة وخصوصا بعد هذه المفاجأة التى حدثت واثبتت للعالم كله ان الشاب الكويتى بكل يضع حياته في كفه ويبذل عمره رخيصا من أجل النضال والثورة دفاعا عن وطنه وان الاحداث مهما كانت صعوبتها وضراوتها الا انها لم ولن تنل من عزيمته او ارادته. حقا .. الظروف حكمت علينا وقدرنا نقوم بالواجب والحمد لله.

       وحتى فى أحلك الظروف وأنا أؤدى واجبى نحو وطنى كنت اقوم باغلب أعمال المقاومة دون أن أخبر امى وأنا يوم كنت في السعودية كنت أريد ارجع عشان أساعد اسر ثانية

***

حالتها تعبانة بس ناس كثيرين قالوا لى لا تروح تاى لان اسمك مسجل عندهم وسهل يتعرفون عليك.

       والحين .. أهم ىء عندى احب اقوله لربعى ولشعب الكويت الحبيب ان شاء الله كلنا رادين الكويت والذى حصل هذا قوانا ولم يضعفنا بعد أن قدرنا نثبت للعالم كله كيف يعمل الشباب الكوتى ببطولة وشجاعة وكيف يقوم الشعب الكويتى ويصبر ويتحمل.

***


دون وداع أعز الناس!!

       ترددت قبل أن أكتب لاننى لم ابعث بمثل هذه الرسالة أو بغيرها من قبل الا أننى هذه المرة أصررت على الكتابة اليك ايتها الأخت كريمة شاهين بعد أن اعتصرتنا الظروف وقضت على ما تبقي لنا من صبر الا أقل القليل لحين عودة أرض الوطن الكويت قريبا باذن الله.

أنا فتاة عراقية فرد من عب المة خنقته وأحزانه أعدمته وكيانه ووجوده المتبقى تجدونه في المنفي .. باختصار .. اليكم قصتى..

       عمرى واحد وعشرون عاما منها 11 سنة قضيتها في الوطن العراق والباقي في الوطن الكويتي من والجين عراقيين واجداد كذلك.

       أبى رجل مثقف هو كاتب مؤلف واعلامى ناجح وصحفى معروف في مجالات الصحافة والأعمال الفنية وهو مشهور داخل بغداد وخارجها وحصل هذا ايضا داخل الكويت والدتى امرأة متعلمة فى احدى المدارس الخاصة في الكويت وقد انتهت اختى الكبرى تعليمها في المعهد العالى للفنون المسرحية في الشامية واختى التى تصغرها فهى لا تزال تتلقي التعليم في جامعة الكويت اما انا البنت الصغرى لوالدى فقد انهت تعليمى وحصلت على دبلوم في العلوم التطبيقية من كلية الدراسة التكنولوجية في الشويخ.

       والحمد لله اختى الكبرى تزوجت وانا واختى مخطوبتان لشابين عراقيين يعملان في الكويت في وظائف مرموقة وكان قد تحدد موعد الزفاف قريبا الا أننا لا نعلم شيئا عنهما الان:

  • هل هما في المقاومة ؟ ان انهما قتلا لأنهما مثلنا معارضان؟

كانت حياتنا تسير في هناء وسعادة كأى بيت عربي يسوده النقا وتبادل الآراء وابداء النصائح والتوجيهات من قبل الب والأم وفجأة .. وقع الغزو فخنقتنا عبرات الحزن ورعشات الخوف على الوطن وعلى النفس تعزنا.

آه … دموع تذرف لكن … ما فائدة الدموع والانسان في هذه الكارثة لا يستطيع حتى ان يتنفس الصعداء أو يتكلم ليفي غليله؟ وياليت الكلام في هذه الكارثة يجدى نفعا فكم مرة تكلم ابى وكانت نهاته السجون والتعذيب!

كم من أيام وأعوام مضت حتى كاد أبي ان ينسى ما به من الالام وهو يرى ابناءه قد كبروا وسوف يعوضنه عن الايام الصعبة والمريرة حتى اوصلنا الى مراتب العلم والمعرفة لنتسلح بها فقد كانت غاية والدى في حياته ان يسعى لتعليمنا وان يغرس فينا حب الوطن.

***

وهكذا فعل مع أخي الوحيد الذى يدرس الان في الخارج بعد أن أتم دراسته الثانوية في الكويت واحبها كما حببناها لكننا حرصنا على ابعاده عن التجنيد الالزامى للابن الأوحد لأننا مقتنعون أن حروب صدام مقبرة للشباب.

نعم فمنذ كان صدام نائبا للرئيس ونحن نرى الكبار قد وضعوا ايديهم على قلوبهم مما سوف يحصل منه، فهو لا يتورع عن أى عمل حقير فهذا هو مستواه، وكم رأوا من مخازى تمئز منها النفوس، وقد كنا نحن صغارا حين ربانا ابي وعلمنا على حب الوطن، الوطن الذى أوانا على أرضه أحن اليه واشتاق لرؤيته وتعطش لشرب مائه وشم هوائه.

مضت بنا السنوات ونحن في الكويت وجوهنا صفراء حائرة نفوسنا خائفة من مصير قريب معروف لكل عراقي معارض أعلن رأيه المضاد لسياسة صدام وكان أبى لا يفارق الراديو ونحن أيضا وكانت أذاننا على الباب لا تعرف ماذا نفعل حين يطرقه أحد غريب! كانت اتصالاتنا في التليفون مستمرة مع الأصدقاء والأحباب ومع زميلات كويتيات صدقات لى ، لا أكذب عليك ان قلت لك يا أختى إنهن يحببنني حتى أكثر مما أحبهن، وفي هذه المحنة كان قلبى معهن وقلوبهن معي.. لكن .. ماذا نفعل؟ أن الموقف اكبر وافظع مما يمكن تصوره!

ظل أبى منزعجا يفكر ويفكر ونحن جميعا نفكر لكن دون جدوى اشتد علينا الخوف يا الهى.. بمن نحتمى؟ أن كل مواطن اعتاد ان يحتمى بوطنه وحكومته .. أما نحن لا هذا ولا ذاك موجود .. ماذا نفعل؟ اننا خائفون كما لو كنا مجرمين .. ونحن لسنا بمجرمين . أأنت مجرم حين تحب وطنك؟ أم أنت مجرم عندما تقول الحق؟

حقا .. اننا نتوقع كل ىء وليس غريبا علينا الخوف طالما قاد حكومتنا صدام. فالموت سهل عنده وكأنه يعمل الواجب نحونا!

أتعلمين كف كان عور الشاب أو الشابة منا حين يفكر أنه فاقد لكل شىء؟ أنه الموت بعنه فقدان المستقبل ، ضياع الأمل في التعليم في العمل في الزواج في أى ممارسات للحرية أو حتى الهوايات. وقبل هذا كله فقدان لوطنين نعم والله وطنى العراق مفقود ، ونحن العراقيين نحلم أن يعود كما نحلم أن تعود الكويت آه.. لو تعرفون مرارتي والمى واسفي. آه لو تعرفون حزننا جميعا.. حزننا على كب ئ في الكويت.

آه .. سأعود لأكمل لكم قصتي .. بعد الغزو بقليل اتصل بأبي شاب كوتى نعرفه على ثقة شديدة به أخبره بضرورة المحاولة لإخراجنا الى السعودية بالرغم من الصعوبة الشديدة جدا لكلا الطرفين .. آه .. كم كان صعبا أن يقدم الانسان على اتخاذ مثل هذا القرار! كان من السهل أن نهلك كلنا كان شبح الموت يحوم حولنا. اذن .. فلتكن هناك محاولة للنجاة فهذا هو الموت قادم نحونا .. لابد من الهرب إذن .. كان هذا هو القرار.

***

وفي الساعة المحدودة من النهار قبيل الظهر ذهبنا الى الأخ الشاب الكويتى الذى ابدى تضحيته لان يخرجنا الان وبهذه الساعة من النهار. ذهبنا ونحن نودع بيتنا وذكرياتنا وأشياءنا البسيطة الثمينة في قلوبنا وكنا كلما مشينا “مترا” مبتعدين عنها حبيبتي الكويت.. كلما سالت دموع عيوننا وكأنها تتسابق في النزول.

وقلنا نواسي أنفسنا ، إن هذا الوضع لن يستمر أكثر من يومين أو أسبوع على الأكثر كان اعتقادنا وايضا كان رأى الجميع لهذا ذهبنا دون أخبار أو إعلام أحد حتى أقرب الناس لنا حتى خطيبى نفسه لم يعلم شيئا عن خروجنا والله أعلم ماذا حدث له الآن.

لم يكن عدم اخبارى له لأننى لا أثق به ولكن لأن قرار الرحيل جاء معه قرار الكتمان حفاظا على السلامة والنجاة وحرصا على حياة الشاب الشهم الذى تبرع وتطوع لاخراجنا وترحيلنا.

سبحان الله .. هكذا خرجنا من العراق تقريبا قبل عشر سنوات بمحض ارادتنا لكن بفقدان كل شىء البيت الذكريات. الأهل الأصدقاء .. خرجنا حتى دون وداع لأحب الناس وأعز الناس الذين مضى على فراقنا لهم سنوات طوال لم نرهم لأننا خارج العراق!

هكذا رحلنا وكلنا أمل بأن العودة قريبة جدا وكذلك نقول للكويت بأن أهلك وأبناءك عائدون بإذن الله ومشيئته.

وبصحبة هذه الأفكار التى توالت على خواطرنا وذكرتنا بلحظات خروجنا من ديرتنا الى احدى نقاط التفتيش وهنا ارتعدنا خوفا كلنا ونظرنا نحو الشاب الكويتى الذي بصحبتنا ولم نلحظ عليه ابا أى مظهر من مظاهر الخوف والتردد.

لكن هكذا كان حالنا .. فماذا لو عرفوا اننا عراقيون هاربون والى أين؟ الى السعودية؟.

لكننا كنا حرين فقد لبسنا الزي الكويتي الي لا يختلف عن زينا أعني العباءة وطريقة وضعها وأبي ارتدي الغترة والعقال وكنا قد أخفينا الجوازات الخضراء والهويات في أماكن متفرقة في السيارة وحرصنا على أن لا نحضر أى دليل قد يدلهم علينا سواء كان صورا أو فيما أو أي ذكرى أخري وحين وقفت السيارة أمرنا الشاب الكويتي الا نتكلم وهكذا فعلنا أما هو فقد كلم الجندي العراقي الي كان يقف مع مجموعته وسأله: الى اين ؟ فأخبره: الى السعودية … أوصل الأهل قال له الجندي: لا… الطريق مغلق ، اذهب إلى صفوان.

تراجعنا عدنا في الطريق المعاكس وقلنا خلاص نرجع إلى بيتنا وننتظر فرصة أخرى. لكن الأخ الكويتي أصر على أن يحاول من طريق ثان وطبعا لم تكن لنا خبرة مثل خبرته أو دراية بمعرفة هذه الطرق الصحراوية لكننا وافقنا.

***

وعند وصولنا إلى منطقة صحراوية رملية لا أعرف اسمها وجدنا العشرات من السيارات الكويتية المحملة بالعائلات من رجال أو أطفال ونساء ، كانت قد قررت منذ الصباح الرحيل لكنها كانت منتظرة أن ترحل أفواجا لكي تساعد العوائل الأخرى إذا ما حصل عائق أو أصابهم مكروه لا سمح الله.

وبهذا المنطق إنضممنا إليهم دون أن يعلموا أننا عراقون وكانوا يقدمون لنا الأكل ونحن نعطيهم الماء. وكأننا لا نزال في الكويت نمثل الكويت كما كانت دائما بأهلها الطيبين المتعاونين وهكذا فعلوا في خارجها ومثلوا الكويت أحسن تمثيل. سرنا كالقوافل المتتابعة تعلو وتهبط بنا السيارة ونغرز في الرمل ونعود إلى المسيرة مرة أخرى وهكذا ثم نتوه حتى نتوهم بأننا قد وصلنا إلى الحدود المعاكسة ثم نعاود المسير حتى أصبحت الشمس في منتصف الظهر في عز الصيف.. حارقة كالنار.

ظلت السيارة تسير حتى بدأت الشمس في المغرب ونحن لا نستطيع أن ننطق كلمة واحدة إلا أن كل منا كان يقرأ القرآن في سره ويدعو الله سبحانه وتعالى أن ينجينا مما نحن فيه حتى الخادمة التي لم نتركها عرضة للضياع في الكويت وحدها لأنها أمانة في أعناقنا وأخذناها معنا حتى هي كانت تدعو الله من أجل النجاة.

آه .. ماذا لو لاقتنا مجموعة من الجنود العراقيين في الصحراء هذا ما حصل بالفعل لكن بعض الشباب الكويتيين الذين تطوعوا لكي يرشدونا إلى الطريق والذين كانوا قد سبقونا في السير لكي يعودوا ويخبرونا بما ينتظرون هناك على مسافة بعيدة أخبروا الشاب الكويتي الذي معنا فاستدار بكل هدوء إلى طريق أخرى دون أن ثر أي شكوك في نفوسنا.

الحمد لله.. الحمد لله ياربي.. هانحن قد وصلنا إلى نقطة عبور بين الحدود الكويتية السعودية مرة أخري الحمد لله علي كل شئ.  

والآن.. وقد رأينا كيف كانت الفرحة على جميع الوجوه وشعرنا بسعادة الوصول بالسلامة رأينا أيضا كيف خيم الحزن على جميع الوجوه، وكيف تجلى ألم الفراق والبعد عن الوطن، وعندما اطمأن الشاب الكويتي الشهم على سلامتنا واستقرارنا وامننا تركنا وعاد إلى الوطن الكويت حيث كانت لديه مهمات يجب أن يؤديها كعضو في المقاومة.

وبعد الاستقرار المؤقت الذي نشكر الله عليه، قام أبي باستعادة توازنه وبدأ في العمل حتى حصل على قروض من بعض الأصدقاء اعتبرها ديونا عليه حتى لا يعتمد على أحد ونحن شاكرون لكل من ساعدنا.

وبدأ أبي يفكر في الإقامة الدائمة أو المؤقتة هنا م، أجل دوام مستقبلنا ولا تزال الإجراءات تبشر بشكل ايجابي بالقبول حيث أن الوقت والموقف صعب بالرغم من ثقة المسؤولين هنا بأبي وتقديرهم له..

***

وها نحن ننتظر والله في العون مجيب وقريب والله وحده هو الناصر.

عدت إليك يا أخت كرمة وأنا أحمل الآما ليست للنشر لكن بصفتي مواطنة من شعب عراق عربي لا أستطيع السكوت وسوف أثور صدقيني سوف أثور على الطغاة.. فقط في الوقت المناسب وكفي تدميرا وقطع رؤوس كفي تعذيبا وسفك دماء.

أيها العالم وليس مجلة “سيدتي” وحدها أن الكلام يطول وجميعنا يقرأ الصحف والمجلات ويسمع ويرى الأخبار لذلك فإنني مهما كتبت لن يكفي حتى ننتهي من أمر ذلك الصدام ذلك ذلك النازي الذي لن نذكره بعد ذلك ألا على الصفحات السوداء وفي الحققة..

 أريد أن أعلمك أن ما جعلني أكتب قصتي هذه هو قراءتي لموضوعك في العدد 502 “ليلة .. لم يطلع لها نهار” قصة تلك السيدة الفاضلة التي جسدت خوفها بقولها: “ابني يمكن ان يقتل أخي”

 

 

 

– صديقي أننا حين قرأنا هذه الحكاية المؤلمة كانت دقات قلوبنا تخفق مع كل كلمة كتبت ومع هذه السيدة ولا أخفي عليك أن هذا هو شعورنا من قبل أن نقرأ هذه الحكاية فمثلها المئات بل الألوف بل أننى أقول ذلك من دافع حب شعب العراق للكويتيين وبالعكس.

       وليكن الله في عونها وعوننا جميعا. أرجوك أخبريها أن الكوت عائدة بحول الله وقوته وأننا عائدون معا نبني ونشيد ونعلم أجيالا ونربي أطفالا وأنا المرأة العراقية معكم حتي لو أزلت بيدى الأوساخ التي تراكمت في كل منطقة في الكويت مثلما فعل أبي قبل أن نخرج من الكويت.

دامت الكويت ودام العراق..

ودامت الأخوة الحقيقة بين الشعبين.

***


غدر بنا الغزو الملعون

إلى الأخت الكريمة كريمة شاهين:

       أبعث إليك هذه الرسالة من … بعد أن خرجت من الكويت أثر الغزو العراقي الملعون واعذريني اذا كنت قد كتبت رسالتى تلك بالقلم الرصاص ولكن صدقنى هذا هو القلم الذى استطعت الخروج به من الكويت!

       أريد أن أحكى لك قصتى.. قصة قلب مجروح من ثلاث سنوات وزاده جرحا احتلال الكويت.

       منذ ثلاث سنوات تقريبا كنت في الثامنة عشرة من عمرى تخرجت في الثانوية العامة في الكويت وكنت كأى فتاة تنهى دراستها الثانوية مسرورة بهذا النجاح الذي تعقبه حياة جامعة مستبقلية حافلة بالنجاح والأمانى والأحلام.

       وذات يوم اتصل بي بالتليفون ليهنئنى بنجاحى شاب أعرفه ويعرفه أفراد عائلتنا جميعهم نظرا للعلاقة الوطيدة التى تربط بين عائلتنا وعائلتهم.

       في البداية.. لم أكن أعرف ماذا يريد منى ولكنى شعرت بالهدف من وراء اتصاله بي وانه يرغب في إنشاء علاقة عابرة ولكن بالجدية والفهم أثبت له أننى لست من هذا النوع من الفتيات العابثات اللاتى يخرجن مع الشباب أو يتكلمن معهم في التليفون وأوضحت له موقفي من أي شاب وشرحت له أن الطريق السليم الشريف والوحيد هو التقدم بطلب الزواج. 

       وهنا.. شعرت به مترددا كما لو كان غير مقتنع ولكن مع الوقت والاصرار على الرفض (فقد رفضت لقاءه أو حتى محادثته بعد ذلك) وبتأثير من صدى كلماتى اقتنع بأننى أصلح له كزوجة ووعدنى بأنه سوف يخطبنى.

       فرحت كثيرا لأننى انتصرت على الشيطان في داخله وغلبت الخير عنده على الشر وحققت لنفسي كل ما أريده.

       و.. وفي بوعده. جاء هو وأهله متقدما لأبي طالبا منه الاقتران بي… ولكن .. وقعت الطامة الكبرى التى لم يكن يتوقعها أحد لا أنا ولا هو!

       لم يرفض أبي طلبه لكنه بالغ كثيرا ف المهر الى درجة يعجز عنها أي شاب في مثل عمره فمن أين له تدبير كل هذا المال؟

       أيضا تعلل بحجج واهية وقال أن البنت الآن صغيرة على الزواج ولا يوجد أى داع للاستعجال!

***

       لم تكن صدمتى لهذا الموقف مثل صدمته هو فقد أحس بخيبة أمل وباحباط شديد وشعر بأن كرامته قد اهدرت وانه استعجل في هذا الطلب ولكن بعض الكلام منى خفف عنه وجعله ينسى أو يتناسي ذلك الشعور باليأس والأحباط ويعاود المحاولة مرة ثانية لطلب يدى.

       ولكن … هذا هو نفس الموقف يتكرر والاصرار على طلب نفس المهر الباهظ المغالى فه يتكرر. وهكذا .. جاءت الظروف بالفراق والانفصال عن أحلامنا وأفراحنا بسبب المال.. ليس الا! بعد ذلك بفترة وجيزة أصيب والده بمرض شديد الزمه الفراش وجعله ترجى ابنه كى يسرع ف الزواج ليرى أبناءه قبل أن يموت فحاول اقناع أهله بأنه يريدنى أنا ويرغب في زواجى أنا ولكن أهله واجهوه بقوة وصراحة قالوا له بكل وضوح “كل شئ له حد فأهلها يرفضونك ويعجزوتك بهذا المهر العالى المبالغ فيه فكيف تنتظزها وتريد أن تترجاهم مرة أخرى ؟! أليست عندك عزة نفس؟! أليس لديك ئ من الكرامة؟!.

       لم يستطع الصمود أمام موقفهم هذا طويلا وحدث ما خشيت حدوثه. تزوج من اختارها له أهله وانصاع لأوامر ابيه رحمه الله.

       وهنا انصدم كل شئ. انصدم حبى الكبير له أحسست منذ الوهلة الأولى بمدى الطعنة النافذة التي طعنني بها من وراء ظهري.

       ولكنه أكد أنه عند وعده وأنه مازال يتمنى أن أكون زوجته ولن تكتمل سعادته في هذه الدنيا إلا إذا تم زواجنا.

       بعد هذا الكلام زال غضبي وفي النهاية يبتعد ووافقت على زواجى منه بموافقة أمى ومباركة خالى كى نجنبه موقف الرفض من جديد وكى لا نسبب له مشاكل مع زوجته أو أسرته.

       ولم أندم على زواجى منه بهذه الطريقة عشنا معا سنتين من أحلى سني العمر بالنسبة لى وله جسدنا فهما أروع حب حب اكتمل فيه أروع عطاء بين زوجين في هذه الدنيا. لم يكن بيخل على شئ ولم أكن أبخل عليه بشئ كان عطاؤنا بلا حدود ودون قيود .. وأن كان قد تخلل ذلك الحب الآم ومشاجرات وأحزان كثيرة تقاسمناها معا بكل حب وسعادة.

       تقاسمنا المسرات والأحزان تبادلنا المشاعر حيال الحدث الواحد فرحت له كثيرا عندما رزق ببنت من زوجته فرحت كثيرا بقدومها وأن كان قد انتابنى احساس بالخوف من أنه سوف يتغير بعد مجئ تلك الأبنة ولكن أبدا .. زاد حبه لى وتمسكه بى واستمر الاحترام والمودة والتقدير بيننا والحمد لله.

       وقبل الثاني من أغسطس بشهرين وعدنى وعدا قاطعا بأنه لن يتركنى ابدا وانه ليس هناك شئ في هذه الدنيا سيفرقنا. ثم جاء الثانى من أغسطس بكل ما يحمل من وحشية الغازى

***

ليفرق الزوجين الحبيبين عن بعضها فلقد سافرت الى وطنى وظل هو في الكويت لم يستطع أن يفعل شيئا لم يستطع أن سافر معى ويترك أسرته ولم يستطع أن يبقينى معه في الكويت.

       لم تكن نعتقد بأن هناك شيئا سوف يفرقنا. ولم نكن نتوقع أن يكون الغزو الملعون والغدر المشؤوم هو السبب في فراقنا وبعادنا.

       عندما حانت لحظة الوداع بكل ألامها وأحزانها وعدنى مرة أخرى بأنه سوف يأتى الى عندما تتحرر الكويت.. سوف يأتى ليأخذنى وأعيش معه في الكويت لنستعيد معا لحظات الحب والسعادة والاستقرار التى ذقناها وعشناها في ظل الكويت.

       أننى اجلس يوميا على أمل رجوع الكويت وأمل العودة اليها لقد مللت الانتظار ولكن ما احلى الأمل خصوصا في الرجوع الى الزوج الحبيب الذى حتى كتابة هذه الرسالة لا أعرف عنه شيئا ولا أعلم اذا كان بخير أم اصابة مكروره فالأخبار مقطوعة منذ غادرت ذلك البلد الغالي الحبيب. أرجوك اخت كريمة حاولى أن تنشرى قصتي تلك فربما يقرأها زوجى الحبيب الذى لا أعتقد أننى سأعيش من دونه والذى أحس بأننى بدأت احتضر نظرا لطول غيابه فهعل يا ترى يمكن أن يسمعنى وأن يصله صوتى وأن يجيب ندائى ؟ اننى انتظر وكلى أمل ورجاء.. ودعاء.

***


بكــاء بلا دمـــوع!

ترددت كثيرا قبل أن أكتب لك حكايتى مع الحياة التى تحولت فجأة جحيما لا يطلق.. في لحظة واحدة انتهى كل شئ.. تحطمت حياتى وأصبحت أعيش بلا معنى ولا هدف ولا أمان ولا أحلام ، لقد صرت أعيش ببقايا قلب معذب مسكين.

       هذه حكايتى التى أتمنى أن تنشر حتى يقرأ الكل معاناتي مع الزمن الذي صار ضدى .. إليكم قصة حياتى وذكرياتي .. وحطام قلبي.

       أنا فتاة في بداية العشرينات، بدأت قصة عذابي منذ كان عمرى تسعة عشر عاما، عرفت شابا يكبرنى ببضع سنوات شابا مؤدبا مهذبا طيب القلب فاضل الأخلاق، ومن عائلة كبيرة. وكان يحكى لى عن آماله وطموحاته، وعن اليوم الذى سيجمعنا فيه سويا عش الزوجية.

       مضت بنا الأيام بديعة جميلة مشرقة والأحلام الحلوة المشرقة تقترب من أرض الواقع شيئا فشيئا ، حتى أتى لوالدى يخطبنى.

       لن .. الوالد رفض وأعتذر بأعذار واهية وحجج ليس لها معنى .. وسقط هذا الرفض كالصاعقة على لكنه لم ييأس بل تقدم مرة أخرى محاولا المستحيل ليجعل والدى يعدل عن رفضه هذا .. ولكن والدى أصر ، ومع ذلك لم أستطع أن أنساه وأعتبره مجرد ذكرى عبرت حياتى.

       وعقب سنة من تقدمه لخطبتى ، اتصل بى وطلب مقابلتى على عجل ، لأن عنده موضوعا مهما يجب أن يكلمنى فيه وعندما رآنى قا: الموضوع اذى سأكلمك فيه يجرحنى قبل أن يجرحك.

       وهنا وقع قلب من كلامه خوفا مما سوف أسمعه، فقلت: خير تكلم ف الموضوع، وما فيه داع للمقدمات. قال: أمى وأخى الكبير رتبا لزواجى، واذا رفضت ، الوالدة ستقاطعنى، وأخى سيطردنى من البيت ، لأنهم مستحيل يتقدموا لوالدك ثانى بعد رفضه القاطع لما رحت أخطبك.

       عقب كلامه هذا قامت الدنيا تلف بى، وقلت له محاولة أن ادارى ألمى وأخفي حزنى : هذا الموضوع يخصك أنت وأنت أدرى بمصلحتك. وتحولت الدنيا الى كتلة من السواد الحالك.            

       وفعلا، بعد هذا الموقف بثلاثة أشهر اتصلت بى أخته تعزمنى على حفل زواجه. كان هذا الخبر أقسي خبر سمعته في حياتي.

       تقدم لى الكثيرون بعد ذك لكننى رفضتهم جميعا وفي يوم من الأيام، بعد زواجه بعدة شهور، سمعت الخبر الذي يعتبر أقسي من خبر زواجه، فقد اتصلت اخته بي، وطلبت منى أن أذهب الى المستشفي لأن (…) أخاها مريض بالقب يريد مقابلتى .. بقيت فترة من الوقت مترددة: فكيف أزوره وأنا متأكدة أنى سأقابل زوجته عنده؟ لم أحتمل الفكرة، وأخذت أتهرب وأتنصل من الوعد بالذهاب، وكلما اتصلت أخته كنت اعتذر لها، وأنا .. الله وحده يعلم بحالى من يوم سمعت خبر مرضه.

       وبعد عدة أيام من دخوله المستشفي اتصل بى الدكتور المشرف على حالته وقال لي: أرجوك لازم تيجى ن حالته حرجة جدا. وربما يساعد حضورك في عبور مرحلة الخطر هذه بسلام.

       فقلت له: سأحاول ، وان شاء الله يأحضر.. ولكنى مع ذلك بقيت حائرة مترددة. حكيت لبنت عمى التى تعتبر صديقتى الوحيدة، وقلت لها هذا الخبر فأنزعجت وقالت: هذا انسان مريض بين الحياة والموت.

       تأثرت جدا بكلامها، ذهبت الى المستفشي وطلبت مقابلة الدكتور وعرفته بنفسي فأخذنى ف احال الى غرفته..

       أيقظه الدتور وقال له: لك عندى مفاجأة.. التفت .. وعندما رأنى بكي.. نعم .. بكى وهو لا يصدق نفسه أننى أقف الآن أمام عينه ، سأله الدكتور: هاه.. ما رأيك بهذه المفاجأة؟ لم ستطع الرد. واستمر يبكى عاجزا عن الكلام. لما رأيته بهذه الحالة التى هو عليها لم أستطع أن أتمالك نفسي، أنهمرت دموعى، أرتجف قلبي، أرتج سانى، ضاقت نفسي بعذاب السنين الذى عانيته وقاسيته.

       رجعت البيت والله يعلم بحالى فقد أحسست عقب هذه الزيارة أن لن أراه أبدا ، فقد عرفت وأنا عنده أنهم سيعملون له عملية في القلب ، ولكن نجاحها غير مضمون لأن حالته ميئوس منها، على حد قول الدكتور المشرف على حالته، ولكن أهله طلبوا من الدتور أن يعمل له العملية على مسئوليتهم الشخصية.

       بعدها.. جاء اليوم الحزين في حياتى، جاءنى الخبر المفجع بالهاتف في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل بأن (…) مات .. يا الله.. مات؟ نعم .. مات وترنى أعانى الأمرين .. وفور أن سمعت هذا الخبر أصبت بحالة اغماء، غبت عن الوعى حتى أيقظنى أخى وبقيت ابكى بحرقة ومرارة. بكيت بدون دموع لأن حتى الدموع لم تستطع أن تنزل أو تسيل من هول الصدمة!

والآن.. ها أنا أعيش بلا هدف بلا معني بلا طموح بالعكس، أعيش العذاب والحرمان والوحدة والآلام. أنن في وحدتي وحزنى أفكر.. أفكر كثيرا وأسأل نفسي كثيرا: من هو الذى ظلمني؟ هل هو أبي ؟ أم هي ظروفي؟ أم هي الحياة؟ الحمد لله على أى حال فهذا هو نصيبي المكتوب لى في هذه الدنيا، وعسي الله لهمني الصبر لأتحمل أقي الأيام. هذه هي حكاتي التي كانت مترددة في أن اكتبها، والتي تعتبر اليوم شاهدا علي كل الذي حصل لي.

خرجت من البيت .. قتيلة!

       اكتب لك بدماء قلبي حكاية جنيت منها جروحا تنزف.. وما زالت تنزف ، الآلام تحنقي وتلقي بي في بحر العذاب المتلاطم الأمواج.. فقد تعرضت لأهوال جسام لا تخطر بالبال ولم تعد لدى طاقة لتحمل نتائجها.

       إنن أقاسي أشد العذاب النفسي وأقضي الأيام والليالي في حسرة وبكاء. فما حدث لى يؤرقنى يحرقنى، ينزق قلب يشتت أفكارى و.. يطعننى في اليوم مئات المرات.

       حقيقة.. لم أفكر يوما ف أكون ضيفة عليك، بل قنعت أن أكون قارئة دائمة لك ومتعظمة من نصائحك المفيدة القيمة. لكن شاءت الظروف أن أكون صاحبة مأساة عجزت عن حملها طويلا في قلبي الواهن الضعيف الذى لم يتعود إلا على الحب والعطف والحنان.

       سأحكى لك كل شيء وكيف حدث انقلاب في حياتي غير كل شيء فجأة أمامي منذ بدأ ذلك الغزو اللعين لوطني الكويت الحبيب.. الذي حطم فيها كل الأشياء الجميلة.

       أنا فتاة في التاسعة عشر من عمري متوسطة الجمال لست من هذا النوع المندفع الطائش وإنما أميل دوما إلى الهدوء والتفكير وتفهم حقيقة الأمور.       

       أعتدت أن أعامل الجميع باحترام وتقدير تماما كما أود أن يعاملوني. بدأت حكاياتي عندما تعرفت على شاب جامعي يكبرني بسنوات قليلة تعرفت عله عن طريق أخته فقد كانت صديقة حميمة لي. وأعجبت بطيبة أخلاقه وصدق نواياه، اذ لم تمض فترة طويلة حتى اعتبرني تلك الفتاة التي يحلم بها لتكون زوجته وشريكة حياته.

       وفعلا بدأت علاقة شريفة عفيفة حيث خطبني من أهلي الذين باركوا خطبتنا وفرحوا به لأنه شاب متدين محترم متزن وبه كل الصفات التي تتماها كل فتاة في شريك عمرها.

       مرت الأيام علينا دون أن أحس في يوم أنه كدر خاطري أو ضايقني في شيء ، وكان بالنسبة لي نعم الرجل والإنسان الطيب العطوف الذي يرتاح ل قلبي والذي أحكى له همومي فيخفف عنى معاناتي ويبقي لي نعم الرفيق ونعم الأنيس.

       عشنا أجمل أيام حتى صرت أرى هذه الحياة من خلال عينيه الحانيتين، وبرغم هذه المشاعر الجارفة صدقيني لم أجلس معه دقيقة واحدة وحدنا أو أخرج معه بمفردي فهو كان يقول لي عندما تصيرين زوجتي أمام الله والناس سوف يختلف الوضع معي ولكن الصبر طيب.

***

       وقبل الغزو العراقي لحبيبتي الكويت.. استعد أهله للسفر إلى الخارج لأن والده مريض بالقلب وفي حاجة إلى العلاج وهو يجيد التحدث بالإنجليزية وضروري أن يقف إلى جوار أبيه ويلازمه كي يترجم ما يدور من حوار بينه وبين الأطباء.

       سافروا.. وقبل سفره بيوم قال لى.. لا تبك فلن يفرق بيننا إلا الموت. وقبل سفره بساعات جاءني يودعني وأنا لا أصدق نفسي كيف سأقدر أن أبتعد عنه كل هذه المدة الطويلة.

       وعندما بكيت خفف عنى، وطلب منى أن لا أتضايق فانه سوف يتصل بي كل يوم، وقال لى أنه سوف يعود فور أن يطمئن على ابيه ويتأكد أن حالته لم تعد خطيرة. بعدها اتصل بي طمأنني على أنه سيعود بعد حوالي أسبوع. فرحت كثيرا وحمدت الله على قرب وصوله، ونمت وأنا أفكر كيف سآراه.. كيف سأستقبله، ماذا سأرتدي عندما يحضر لزيارتنا.. وماذا .. وكيف.. وما.. و.. و.. وعندما استيقظت وجدت بلادي في يد الغزاة ووجدت أمي تبكي وبجوارها عمتي تبكى. جلسنا على أعصابنا خائفين، مبهوتين من هول المفاجأة اللعينة لكننا ارتحنا بعد اطمئناننا على والدنا أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد وولي عهده الأمين.       

       بعدها.. بدأت تمر بنا ظروف كثيرة صعبة فقد أخذ الجنود الغزاة يمارسون كل أنواع القمع البشع الفظيع ضد الشعب الكويتي ونحن مجبرون على التحمل والصبر على هذا البلاء.

       إلى أن حدث ذات يوم أن هاجمت بيتنا مجموعة من الجنود. وهنا.. حدث شيء لم يكن في الحسبان، إذ تقدم منى أحد الجنود واقتادني إلى داخل البيت لأرشده إلى مكان هؤلاء الفارين. شعرت بالخوف كله ، ألم أقو على الحركة أو النطق شلت قدماي ، جمد لساني لكنه جذبني بكل قوته صارخا: “تعالى.. قوليلي وين هؤلاء الشياطين”.

       وفي إحدى الغرف الداخلية أطبق على كالوحش المفترس. حاولت أن أقاومه بكل قوتي لكنني لم أستطع. فقد كان الموقف فوق طاقتي ، فوق أراداتي، فوق احتمالي في لحظة واحدة خسرت كل شيء.. آه.. ما الذي كان يمكن أن أفعله ؟ كان الموقف رهيبا فظيعا مقززا.. آه.. إنني مازلت أحيا؟

       كيف؟ لا أدرى.. وهذا الوقف البشع في الأعماق كبر كان يزلزلني.. يدمرني.

 

 

 

       أصبحت محطمة مسلوبة محدودة الإرادة ليس بالإمكان إقناع نفسي والناس من حولي بأن ذلك كان حادثا عارضا عنيفا لا حيلة لي ولا قوة لمقاومته.

       هذه.. كيف أسترد ما ضاع مني؟ كيف أنسي ما أخذ مني، وفي كل جزء من جسمي أثار عدوان، تحطمت روحي وتهدمت نفسي؟ وها أنا ذا أتوه في بحار الأحزان أغرق فيها، أدثر نفسي بذكريات حارقة كاوية مؤلمة، يمزقني التفكير عندما استرجع شريط وصور حياتي.. وكيف تحولت حطاما.. وصارت خرابا..

***

أنني ما زالت أذكر كيف خرجت بعدها من البيت قتيلة، أخلط بين الواقع والخيال. أخلط بين ما وصلت إليه وما كنت عليه. صرت أغط في الكلام حتى عن نفسي .. آه.. ما الذي يمكن أن أفعله ؟ أحس أنني أصبحت إنسانه من عصر آخر، وأن خطيبي ينتسب إلى عصر آخر. 

نعم. غابت عن حياتي معان كثيرة بعد أن ضاع مني أعز ما أملك ، وبعد أن راح مني خطيبي الذي كان بالنسبة لي أجمل الأشياء.. آه .. إلى متى سأظل في أوهامي .. وسأبقي في عذابي ؟ إلى متى ؟ إلى متى؟

مازال لدى كلام كثير كثير ولكن .. سأختصر الآن تحسبا للموقف ، وأرجو أن تأخذيني بحلمك فأنا كنت يوما كفتاة الأحلام. لا تدهني ..

فقد كان الكل يخطب ودى ويتمني التقرب مني وأولهم خطيبي الذي كان يحلم باليوم الذي يجمعنا فيه عش الزوجية.. الهادئ المستقر السعيد. والآن..

 

 

 

لا أستطيع أن استقر على رأى، ولا أن استقر على حال. فإذا تذكرت ما حدث لى وهذا شيء أبدا لا أنساه .. يجن جنوني، يرتجف بدني يتفجر ذعري تسيل دموعي وتنتابني حالة عنف القاتلة. أريد أن أضع لحياتي حدا فاصلا. فالحياة لا معني لها بعيدا عن الوطن.. وبعيدا عن الأحباء.

إنني أحس أني أعيش الرمق الأخير. فقد تعبت من حياتي .. تبعت تعبت. الحزن يخترق العواطف يحطم السدود يحرق القلوب لم يبق في نفسي لا حب ولا أمل ولا بريق ولا دهشة ولا شعور ولا فرح.

حقا إن الحياة لا معني لها بعيدا عن الوطن .. بعيدا عن الأحباء.

***


حين يأتــي الفرح .. حربـا!

       فرحة حلوة غامرة دقت القلب وسط الليل فأضاءته بنور مشرق كشمس النهار.

       فرحة حبيبة غالية طرقت السمع، فأبهجت النفس وأسعدت الحياة. يا سبحان الله .. حين يأتى الفرح في غر موعده وبغير أسبابه يكون فرحا غريبا كبيرا غامرا حقا.. ياسبحان الله.. فمنذ متي يعني اندلاع الحروب كل هذا المعني الحلو المشرق الجميل؟ يا الهي .. أكل هذه الفرحة العظيمة تطل علينا فتسبغ هذا العور بالارتياح العميق لمجرد سماع .. اعلان حرب؟

       آه.. يالها من حرب. إنها ليست حربا كباقي الحروب.

انها حقا حرب الحق والخير والعدالة.

       نعم .. انها حرب اعادة الحق الى أهله وارجاع الخير الى مستحقيه وانصاف العدالة فوق الظلم الذى طال وامتد أكثر من خمسة اشهر.

       كنت ف لندن وقت نشوب الحرب في الخليج وكان التاء عنيفا شديدا قاسيا ورغم برودة الجو إلا أنني شعرت بحرارة تتدفق داخلي تلهب كياني أثر سماع هذا الخبر الحلو الذي طال اشتياقي إليه فتذكرت قول الشاعر.

       رغم الشتاء ورغم حدته قد شب بين ضلوعنا اللهب نعم.. كان هذا هو الفرح الذي أشعل في قلبي نيران البهجة والانفعال والرغبة في أن التقي أهل الكويت الكرام أهنئهم أبارك لهم بقرب العودة الى الحبيب وطنهم.

وشاءت الصدفة وحدها أن أقابل الأخ الفاضل بندر جاسى المطيرى.

       كان أول وجه كويتي لمحته بعد إعلان الحرب هو وجهه ولعلي لا أكون مبالغة إذا قلت أن الفرحة المشتركة كانت وحدها السبب في إجراء هذا اللقاء.

       حقا.. تلقائية مطلقة  أسفرت عن نفسها لحظتها فأظهرت معاني بالغة العمق فجأء الكلام عفويا دون ترتيب أو اعداد أو دون التفكير في التوقف لحظة للتميز بين أنواع الأسئلة لذا كان الحوار اعترافا مشوبا بالفرح وانتظارا مصحوبا بالأمل في العودة العاجلة إلى الحبيبة الغالية.. الكويت، تكلم هذا الشاب الكويتي الذي يعمل في الخطوط الجوية الكويتية مسؤولا عن امن الطائرات تكلم على راحته معبرا بطريقته عن فرحته وبهجته وأحلامه وآماله وأمانيه: إحساسي ساعة سمعت خبر بدء الحرب – بصراحة – كان إحساسا لا يوصف لا أدرى ماذا أقول بالضبط لا أعرف كيف أعبر عنه بالتحديد.

***

       أنا كنت قاعدا مع أصحابي وكنت أتوقع منذ انتهاء المهلة أن الحرب ستشب بأي لحظة كنا قاعدين أمام التليفزيون ننتظر سماع هذا الخبر بفارغ الصبر. صراحة.. من الفرحة أخذت أبكي حتى الكلام عجزت عنه ما قدرت أتكلم من شدة الفرحة.

       بنفس الوقت شعرت بخوف على الأهل بالكويت.. عيال عمي وعمي وأصدقائي كلهم كانوا مصرين علي البقاء رافضين يطلعوا وفي الحقيقة كل الكويت أهلنا وكل واحد هناك أعتبره منا وفينا. وفترة الخمسة شهور الماضية لا أعرف كيف قضيتها ولا كيف عشتها صحيح الإنسان ممكن في لحظة يضحك, “يتغشمر” لكن نفسيا من الداخل لا يعلم بحالة إلا الله.    

       فهما تظاهرت بالهدوء ما اقدر أنكر أني في كل لحظة كنت أفكر في أخلي في الكويت في أصدقائي.. أفكر حتى في أرض الكويت نفسها.

أياء كثيرة كانت تمر بنفسي فتفقدني الراحة وتجعلني أعيش في حالة حزن واكتئاب طوال هذه الفترة.

       صدق ما في يوم واحد حسيت بطعم الراحة فيه ومع ذلك كان الأمل دائما موجودا. كنت أتوقع الانسحاب في أي لحظة وطوال الشهرين الذين قضيتها في الكويت عقب الغزو كنت أنتظر سماع خبر الانسحاب وفي النهاية يئست وقلت لابد من الحرب.

أنا طلعت من الكويت لأسباب إنسانية.

       حاولت أن أبذل جهدي لأنقاذ عائلة كويتية رجل شاب وحريم، أبناؤهم كانوا مختفين لا يدرون عنه شيئا أهم أسرى.. شهداء.. مفقودون؟! لا يعرف أحد عنهم أي خبر.

وأنا والله ما فكرت بالطلعة بس الحاحهم على ما قدرت أرفض طلبهم الشايب كله في باله هتك الأعراض وكان خائفا على بنات ونساء عائلته وكان دائما يقول لى إن شاءت أموت ولا أشوف هذا اليوم الذي “يدشون” على بيتى ويأخذون واحدة من بناتنا يغتصبونها.

فقررت معاونتهم وطلعتهم عن طريق البر إلى السعودية على أساس أرجع ثاني لكن صعوبة الخروج حالت دون رجوعي ، فأنا خرجت “بالموتور” وكله تكسر علنا لأنهم كانوا حاطين حواجز أضطر احطمها فطاح الزجاج علينا والبنات أخذت تبكي والجهال يصرخون.

صراحة .. كنا في رعب وفزع وموقف فظيع لا أعرف كيف تحملته .. كان كل همي أنى أطلع اللي مع بأي وسيلة وبأية طريقة.

       وللأسف كان عيال عمي يتابعونا في سيارة ثانية لكنهم ما اقتحموا الأسلاك الشائكة مثلي ما صدموا الأسلاك الشائكة وأخذوا يدورون بالسيارة بمحاذاتها بحثا عن منفذ أو مخرج فصادهم العراقيون.

***

       وأنا للحين ما أدري كيف اقتحمت هذه الأسلاك وقتها ما فكرت بشيء بس لما دست بنزين على أخر سرعة وعبرت.. وبعد ما شفت الألغام.

       بصراحة خفت وحمدت الله أنه نجانا بأعجوبة ومعجزة لأني دخلت بسرعة عالية على الشباك وما كنت منتبها بالمرة أنه توجد ألغام رغم أني سمعت من أول بهم لكني ما كنت أتوقع أنى أصادفهم أو أتعثر بهم وعبرنا إلى الحدود السعودية بمعجزة فقد كان الجنود يطلقون علينا الرصاص يركضون وراءنا بعد ما يطلعون من الخنادق ويصوبون علينا السلاح وكنا نسمع صوت الطلقات وهي تمر بصوبنا.

       لذلك كان الرجوع صعبا جدا وفي نفس الوقت كنت قد سمعت بالتطوع والتحاق الشباب الكويتي في الخفجي وحفر الباطن لذلك إلتحقت بعملي عندما طلبوني وسمعت بذلك لأننى أؤدي خدمة في مجال أمن الطائرات ومنذ تلك اللظة وأنا أحس بالسعادة والرضا وأتمني أن أؤدي واجبي نحو وطني بأفضل طريقة ممكنة ، ولو حصل أي تصرف يهدد أمن الطائرة أتمني أن أكون موجودا على متنها لأدافع عن سلامتها وأمنها بكل قوتي وطاقتي.

نحن أنا والشباب الكويتيون لا نهتم بتهديدات الإرهاب ونتمنى من الله أن تأتينا الفرصة في أي مجال لنثبت من هو الشاب الكويتى وكيف يبذل روحه وحياته من اجل الوطن وفي الحقيقة نحن شباب الكويت نشعر بأننا تغيرنا واقتنعنا بضرورة واهمية هذا التغيير وأول شيء فتر اهتمامنا بالرفاهية وانعدم اهتمامنا بالحياة المترفة السابقة.

       والإحساس الحالي الذي يحسه الشباب الكويتي هو أن زمن الرفاهية والترف راح وأننا قد أصبحنا مسؤولين عن إعادة بناء الوطن بأيدينا نحن وليس بأيدي أحد غيرنا. فهذه هي أول شؤوننا وأولي مسؤولياتنا.. لازم نعتمد على أنفسنا هذا نذر وعهد أخذناه على أنفسنا. وإن شاء الله سنعمر ديرتنا بأيدينا تحت راية صاحب السمو وولى العهد والحكومة الرشيدة.

والصراحة حكومتنا ما قصرت في وسط الأزمة ورغم ما عليها من مطالب ومسؤوليات وأهم مطلب هو عودة الكويت حرة ومع ذلك ما نسيت الشعب الكويتي خصصت له معاشات.

       وحتى في لندن ورغم ارتفاع السعار صار العلاج الطبي مسؤوليتها والتعليم وتكاليف المعيشة ونفقات الحياة اليومية وفي لندن أيضا فتحت أكاديمية الملك فهد أبوابها على مصرعيها واستقبلت ورحبت بالكويتيين وساهمت في طلبهم كما ساهمت المملكة العربية السعودية في مساندتها واستعادة أرضنا.

هذه هي الأخوة الحقيقة.

       صراحة الدول العربية وقفت معنا خاصة الدول الخليجية ومصر وسوريا وللأسف البعض الأخر قلب الحقائق لكن لا ننسي إن هناك أناسا عادلين وفاهمين الواقع وواقفين مع

***

الحق ، وما تغريهم أي إغراءات ونحن نشكر الملك فهد فالسعودية الدولة الشقيقة استقبلتنا خير استقبال، وما قصرت معنا بجميع النواحي.

       كما نشكر جميع الدول العربية والصدقة ولا ننسي الشعب المصري والرئيس مبارك على كل ما فعلوه تجاه الكويتيين والشعب الكويتي. الدرس الذي تعلمته من هذه الأمة كان درسا عميقا كبيرا فنحن كشعب كويتي عندنا حسن النية وبالكلمة الطيبة تأخذ كل حاجة من الكويتي لأننا شعب محب للخير والسلام.

       نحن شعب مسالم.. ما كنا نتصور ندخل حروب أو تهاجمنا دول أخرى بالعكس كنا نساعد أكثر البلاد وأولها العراق وقفنا جنبها وساندناها أثناء حربها مع إيران فيكون هذا جزاءنا منها.

       نعم هذه الأزمة علمتنا نحن الكويتيين أن نكون أكثر حذرا مع أصدقائنا وأعدائنا الاثنين على حد سواء. وإلا نغرق في الطيبة والمسالمة مرة ثانية لأن هذه الأزمة علمتنا درسا ما راح ننساه طول عمرنا.

فمن كان يتصور ف يوم من الأيام أن العراق يغزو الكويت؟

       ومن كان يتخيل الفظائع التي مورست في الكويت علي أيدي أخواننا العراقيين؟ وأن تكون بهذه القسوة.. وبهذا الكل؟

ما حدث هو جرح في القلب ليس من السهل أن يبرأ..

فظاعة الأعمال التي حدثت لن تنسي.. فلو كان احتلالا عاديا أو حتي سرقات عادية دون أن يفتكوا بالشعب الى هذا الحد البشع كان يمكن أن يكون الوضع أسهل بعض الشيء لكن بهذه الطريقة الوحشية؟

هذا تصرف لا ينسي مدي الحياة .. وعلى مدي أجيال وأجيال.                       

       وأنا أعتقد أن سوء تصرف الحكم في العراق وسوء الإدارة وطريقة تبديد الأموال علي الإرهاب والاهتمام بتوزيع خلاياه في كل مكان ووضع السلطة المطلقة في يد حزب البعث، وراء هذا الفقر وهذا الحق. فالعراق عند بترول وعنده زراعة وعنده مصادر مياه.. وفي نفس الوقت مولاقي يأكل؟

أليس هذا بسبب سوء نظام الحكم وفشل وغباء صدام حسين؟

أنا قاعد أكلمك الحين وأنا أتصور أنني راجع الحين للكويت.. أنا وحشتني الكويت.. هي الأهل وهي الحبيبة وهي كل شيء.

ما عندك خبر حبي للكويت ما له حدود.

       بصراحة. نفسي أكون من أول الناس اللي راجعن، مع أني أدري أننا نحن العاملين في مجال الطيران سوف نكون أخر ناس رادين الكويت لأننا سنحمل الجميع إلى أرض الوطن

والصراحة نحن نغبطهم لأنهم سيسبقونا إليها.. تلك الحبيبة التي وحشتنا واشتقنا إليها.         

ونحن شباب الكويت مستعدون أن نقدم أرواحنا فداء الكويت.

وما تتصوري أيام الأزمة ماذا كنا نفعل من أجل الكويت.

من كان يشيل الزبالة والوسخ من الشوارع؟

من كان سوق سيارات البلدية؟

من كان يوزع الأكل علي الأهل في مختلف المناطق؟

كل هذه الأعمال كان يقوم بها شباب الكويت هذا غير أعمال المقاومة وهذه الأشياء كلها نفذها الشباب وأدارها بدون شيء.

هذا حين كانت الكويت محتلة.. فما بالك وهي رجعت لنا؟

والله نفسي أروح لها أغسلها بقلبي وأسقيها بدمعي وأرويها بحبي.

***


سحـب الحــزن السوداء!

       أكتب إليك الآن قبيل الفجر بقليل لأنني لم أستطع النوم في هذه الليلة بالذات.. ولأني في الحقيقة محتاجة إلى إنسانة أشكو إليها حالتي التي تؤرقني ، وتجعلني أعيش في عذاب فظيع لا يعلم به إلا الله.

أختي كرمة.. أتمني أن يتسع صدرك يترك لي وأن لا تضيقي بحكايتي التي أود أن أبوح بها ، وأرجو أن تسمحي لي أن أحكي لك بالشرح الممل كي يأتي التعبير صادقا.. من القلب إلي القلب.  

       مع بداية الغزو العراقي لوطني الحبيب ، وفي الساعة الخامسة صباحا سمعنا ضربة قوية انفجارا هز البيت ، ولا مثيل له حتى أن الأرض من تحتنا كانت تهتز!

بعدها طلعنا فوق السطوح نستطلع الأمر، ونستكشف السبب اتضح أن برج الاتصالات الذي كان قبالتنا قد ضرب!

       توقعنا أنها ضربة عادية ، وما هي من العراق أبدا، حتي أن أخي الكبير قال: هذه أكيد طائرة حربية طايحة ولم نتوقع أنها واحدة من الضربات التي سنراها من وجه شخص صدام هذا.

       وأنا لن أخفي عليك.. يوم سمعت الضربة والله العظيم تصورت أن القيامة قامت، وأن الدنيا أنهدت وكلنا سنموت لا محالة. ولم نكن نفكر فيه أن تكون هذه الضربة جاءتنا من العراق، فنحن شعب قلبنا أبيض.

       وبعدها .. شغلنا الراديو وموسيقي الجيش طالعة، فعرفنا أن الحرب قد قامت، فاتجهنا بعدها إلى الشارع الساعة التاسعة صباحا كان المنظر غير مألوف.

       وكانت النيران تشتعل في كل مكان، الشوارع تدب بالحركة، والزحام فظع على محطات البنزين وأحلى شيء فناه، وصدق أثلج صدورنا شبابنا الكويتي الوطني، وعليهم بدلاتهم العسكرية وكل واحد فيهم متجه إلي معسكره من غير خوف، منظرهم حلو والله، رجالنا الأبطال يلبون نداء الوطن ويقامون جيوش التتار الغازين المعتدين.

       وفي الساعة العاشرة صباحا سمعنا صوت الطيارات العراقة فوق منطقتنا وعلي بعد مسافة قليلة، كان صوتها يفزع وكنا نتراكض في البيت من شدة الخوف، صدقيني موقف يعجز لساني وقلمي عن وصفه أو شرحه لك.

       وبعدها هدأ الصوت شوية صعدنا فوق السطح.. تصوري شفت فوق العشرين طيارة .. واحنا في البداية كانت فرحتنا غامرة وما لها حدود لأننا تصورنا هذه الطائرات طيارات

***

حربية عربية دخلت الأجواء الكويتية تقاوم معنا. لكن بعدها حسينا بخيبة أمل لأنه قد تبين لنا أنها طائرات عراقية! وازداد خوفنا وعجبنا ونحن نراها تمشي وتضرب في المنشأت الكبيرة في ديرتنا بحقد دفين.. حقد استغرب كيف كان العراقيون يكتمونه في قلبوهم كل هذا الوقت. ولماذا لم يفعلوا مثلنا ويرفعوا من شأن وطنهم مثلنا؟

       نحن رفعنا شأن ديرتنا بالعمل والطموح الذي لا يحده حد، فلم نرض ونقنع بما كائن، بل فكرنا دائما في الوصول بديرتنا إلي أعلي مستوي بين الدول، وحرصنا علي تنفيذ هذا العمل الهادف بكل شغف وحماس.

       المهم.. بعد هذه الظروف الصعبة التي مررنا بها سلمت أمري لله، لأني توقعت في أي لحظة ممكن أموت علي أيدي هؤلاء المغول ، فجلست طول الوقت أقرأ القرآن وأصلي وأدعو الله أن ينجينا من هذا الهلاك وهذا البلاء الذي حل بنا فقضي على راحتنا وبدد فرحتنا وسعادتنا.

       وللأسف.. بعد كم يوم أمسكوا أخي وهو برتبة ضابط في الجيش وبعدها قدر يفلت منهم وبعدها عرفنا سالفته مع الجنود العراقيين ، فضلنا نطلع من الكويت لأننا خفنا علي أخواني العسكريين أن يطيحوا بين أيدي الغزاة العراقيين، فيقتلوهم في الحال دون سبب أو ذنب ، سوي أنهم عسكريون.   

       استقر رأينا علي فكرة الطلوع من الكويت وبالفعل قررنا نطلع والحمد لله على النجاة طلعنا علي أساس أن يلتحق أخواني في سرية الجيش التي طلعت من الكويت.

       وصلنا المركز السعودي بعد صعوبة ومقة وحوادث لم تكن علي البال، وهنا.. أحسست براحة بال كبيرة لأننا قدرنا ننفذ بجلودنا من هؤلاء الوحوش البشرية، وحمد الله علي الحياة بعد كل هذه المعاناة.

       والحين .. بعد حوالي ستة اشهر علي احتلال ديرتنا الحبيبة وبعد بدء هذه الحرب المدمرة أحس بخوف كبير وهو أجس ووساوس ما لها أول ولا تالي ، وأحلام الله لا يريك أياها ، فأنا أخاف أن أموت قبل ما أشوف الكويت لأن منطقتنا تعتبر خط النار.

       صدقيني.. أنا تمنيت لو كنت في الكويت هنالك بين باقي أهلي وما طلعت منها لأن مكاننا الطبيعي في ديرتنا واللي يصير عليهم يصير علينا.. صدقيني أنى أتمني أن أموت ف ديرتنا متة الشهداء والأحرار والأبطال، لا أن أعيش ف هدوء وراحة واستقرار بعيدا عن تراب الديرة وأرض الوطن.

       أن كتابتي لك الآن يا أختي كرمة أبه بذكريات تكشف احساسا غريبا.. احساسا يوحي لي أحيانا أنني سأموت قبل أن أشوف الكويت.

***

وفي الحقيقة أنا محتارة وما أدري سبب هذا التشاؤم. فأنا أسأل نفسي هل هذا الخوف كله لأني أتعجل الذهاب إلي الوطن ولأني ألمس بمخيلتي مناطق الكويت الحبيبة في كل لحظة .. تلك الأماكن التي أحبها واشتاقها والتي طال الحديث عنها منذ مغادرتي لها؟!

صدق.. الوضع قلق مضطرب ، وفي كل يوم تأتينا الأخبار بما لا نحب أن نسمع وكان أخرها إحراق مصافي النفط في الكويت وانطلاق السحب السوداء تمطر الأحزان في الأجواء.. آه .. ياربي أنى أعشق البحر والإبحار ، وأحب رمال الشطآن النقية البيضاء .. فكيف تمسي هكذا سوداء . سوداء؟

       الأحداث خيبت أملي وتركت في نفسي أثرا سيئا فهذا الظالم الذي لا يخاف ربه يرتكب في كل يوم ، بل في كل ساعة، جريمة جديدة لكن لن يفلت أبدا من القصاص وستعود الكويت إلى أهلها بعون الله، سيرجع الكويتيون إلى وكنهم شاء الظالم أم أبي.

       إنني المح مناظر الخراب والحطام في التليفزيون فيتقطع قلبي حسرة على بلدي، لكن إذا كانت نظرية هؤلاء الغزاة هي تدمير هذا البلد الجميل الوديع فهم لن يستطيعوا أن يدمروا إرادة أهله ومحبيه.. وسوف يأت اليوم الذي ألقي فيه متاعبي بعيدا عني .. ولسوف نبدأ من جديد بإذن الله.

       تدين.. بعض المرات كانت تراودني أفكار ما تخطر على بال أحد. أفكار بائسة يائسة تجعلني أتألم، اصرخ في الصمت ، استسلم للمستحيل، لكن الحين الحمد لله الأمل في الله كبير ودعاني أن تنتهي هذه الحرب وأن تعود ديرتي حبيبتي ونور عيني التي أموت فيها .. حياتي .. الكويت.

***

والملتقي في الصفاة.

       الشتاء في أوربا عامة وفي لندن عادة موحش بطيء ثقل طويل.. وهذه السنة بالذات على حد قول محطات الأرصاد الجوية تشهد بريطانيا شتاء قارصا قاسيا لم يمر عليها مثله منذ أربعة أعوام.

       ألا يكفي الشتاء هنا في حد ذاته، بل يأتي تاء مميزا فريدا لم تربريطانيا مثله.. منذ قرن من الزمان؟

ألا يكفي هذا الشتاء بنفسه بل يصر يأتي مصحوبا بأنباء الحرب المحزنة واثارها النفسية المهلكة التي تفتك باحساس الإنسان المتلهف على نهايتها الحاسمة الآتية بالأمل، الموحية بالأمان والاستقرار والإطمئنان؟

       حقا .. يقولون الشيء بالشيء يذكر لهذا داهمتن تلك الذكري القريبة وانا أسمع أخبارها في التليفزيون البريطاني عن احداث حرب الخليج وكيف أن صوت المذيع لم يكن واحا بسبب أزير الطائرات وقصف القنابل حتي أن المذيعة هنا قالت له: لا نستطيع أن نسمعك سنعود اليك مرة أخرى.

       في هذه اللحظة ذاتها وعند سماع دوى القنابل انتابني نفس الاحساس بالخوف والقلق الذي دهمني حين كنت في بيتى في الكويت أثناء معارك تحرير الفاو..

       اذكر تماما كيف كنت أتابع بلهفة نرات الأخبار واذكر تماما كيف انتفضت خوفا وأنا أقف في صالة بيتي ذات الشرفة الواسعة المطلة على شارع الخليج بالسليمة كان الوقت ليلا ساعتها ، بالتحديد الساعة التاسعة مساء فنهضت من مقعدى واتجهت أحول إرسال القناة الأجنبية إلى البرنامج الول لأسمع نشرة الأخبار فجهاز “اليرموت كونترول” دائما يختفي وقت الحاجة ، ولا ادرى أين يذهب..

       بعدها اكتشف أن الأولاد كانوا يخفونه عنى لأنهم ملوا من سماع نشرات الأخبار. وزحدث في تلك اللحظة أن انطلقت قذيفة ثقيلة ، ف الفاو طبعا أو صاروخ لا أدرى المهم أن الزجاج الواسع العريض أخذ يرنج بدة من تأثير ضغط الهواء محدثا صوتا مزعجا جدا، فانتفضت قافزة الى الخلف دون ارادة مني.

ويبدو أن منظرى كان غريبا جدا ومضحكا جدا، اذ انفجر أولادى في الضحك وقالوا وهم غارقون فيه: “قلنا لك بلاش نشرة الأخبار.. البرنامج الثاني أحسن والفيلم كان حلو”

***

وهنا .. صرخت فيهم منزعجة أن يدخلوا إلى الغرف الخلفية في الإتجاه المضاد للبحر، فالزجاج كان مازال يرتج والخوف مازال يسيطر إذ يبدو ان المعارك كانت محتدمة ليلتها فتصورت أن الزجاج سيتحطم ويتطاير وستمزقنا شظاياه شر تمزيق!

       وفعلا .. دخلنا إحدى الغرف الخلفية وأمضينا جزءا من الليل بها نختلف أيضا على أي قناة نتابع الإرسال عبر جهاز التليفزيون الصغير الموجود بها، وما لبث أن انتهي الأشكال بعد أن هذا الدوى، وعاد الأطمئنان وانقسمنا إلى فريقين، فريق يتابع الفيلم وأخر يشاهد نشرة الأخبار.

       آه.. كانت ليلة مخيفة حقا مازلت أذكرها جيدا كما مازلت اذكر كيف دعوت الله ساعتها من عمق قلبي ينصر العراق وأن تعود الفاو عربية خالصة صدق الدعاء تحقق الرجاء انتصرت العراق.. ورجعت الفاو.. وهنا .. انطلقت الفرحة تزغرد في قلوب العرب..

اذكر كيف هلل أهل الكويت فرحا بهذا الانتصار الذي شهد بعضا من دوافعه الشهيد البطل الشيخ فهد الأحمد الصباح رحمه الله ، والله الذي أبي إلا أن يذهب هناك يشارك الأخوان وقت الشدة.. حتى جاءت منيته على أيديهم الخائنة!!

       لا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم .. ثم مضت الأيام، تبدل الزمان.. انقلب الحال.. اختلف الرجاء.. تغير الدعاء.. بعد أن صار الأخ قاتلا.. وأصبح الصديق عدوا!!

ياالهي .. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ أليس هذا يئا بشعا فظيعا مريعا يدعو إلى التكذيب وليس إلى التصديق؟

       آه.. يا للنهيدة الحارة اللاهبة تخرج من القلب المثقل تكوى الصدر بصهدها .. انه الهم يجثم على النفس فيضاعف الوقت يمطط الزمن يزيد الألم .. يخف الأمل.

يا الله.

الرحمة بعبادتك يارب يا ارحم الراحمين..

حمد لله على كب شيء .. فما زالت في النفس بقايا أمل تعتمل، تعني أن الخير لابد وأن ينتصر والشر لابد وأن ينهزم.. ويعود الحق الى أصحابه بعون الله.

       ادعى معى .. نعم .. قال سبحانه وتعالى: “أدعوني أستجب لكم..” إن الله مجيب الدعاء محقق الرجاء..

وإلى عودة قريبة في الكويت الحبيبة باذن الله.

       متابعة نشرات الخبار هنا صارات نوعا من الادمان، ننام عليها نصحوا عليها، حتى اذا أصيب احدنا بالأرق الناتج عن الترقب والقلق، تراه يسأل أحد الساهرين بالبيت .. هاه.. ماهى اخر الأخبار؟!

***

       صار هذا أسلوب الناس هه الأيام ليس في لندن وحدها ، وإنما أظنه صار سمة من سمات الخلق في كل مكان في العالم، ولا أعتبره وقفا على العرب وحدهم أو جنسية دون أخرى..

والكل يتابع الأخبار باهتمام لاشك والكل متأثر من مجريات الأحداث بالتأكيد.. واعتقد أن هذه هي السمة في المرحلة الزمنية الحالية.

       كان الله في عون الجميع.

الكتابة الأدبية ، أو الممارسة الصحفية، اذا نبعت من نفس انسانية حساسة، مرهفة تعيش الحدث الحالى بكل تفاصيلة ودقائقة، تمسي فعلا عملية عنيفة قاسية، مرهقة.

       قد يعتقد البعض أنها مجرد “وظيفة” أو حتى “مهنة” يصح للعاملين بها أو محترفها أن يتعاملوا معها بأسلوب الألتزام ، أو طرقة الانضباط مهما كانت الظروف ومهما صارت الأحوال!

       لكن يصبح الشيء الوحيد الذي قد لا يعرفه الأخرون، أن التعامل مع القلم والحدث وقبل ذلك كله.. مع الذات نفسها ، يصبح هنا “تعاملا” من نوع اخر ، أو بالأحرى يصبح” عملا” من نوع اخر مختلف تماما..

       نعم .. لمزيد من التوضيح أحب أن أقول، أن الكتابة هنا في ظل ظروف معاناة النفس الانسانية الحساسية المرهفة ، تلك التى تتعذب وتعاني وتتألم لما يحيطها من أحداث حادة حارقة. جارفة، تصبح نوعا من النزف الذاتي الذي يجعل القلم يمتص مداده من سويداء القلب، فتأتي الكلمات خافقة نابضة.. دامية المداد.

       في الغربة .. يقولون كثيرا يفكرون كثيرا لتخفيف حدتها وتقليل معاناتها وتهون أثارها على الناس هؤلاء الذين تضطرهم ظروفهم للبقاء القهرى دون ارادتهم في مكان ما، بعيدا عن أوطانهم لأى سبب كان.

       المهعم.. فكر كثيرون فعلا في معالجة آثارها المرضية على النفس افنسانية واهتدوا الى بعض الوسائل التى تذلل بعض هذه الصعاب، فقالوا أهم شيء أن يجعل الشخص بيته قطعة من وطنه فيتصرف داخله بطريقة أقرب ما تكون الى أسلوبه السابق في الوطن.

كيف؟

       أن نقل معه عاداته السابقة التي كان يمارسها في وطنه كأن يستمع إلى أغاني وطنه وأن يأكل طعام وطنه وأن يرتدى زيه الوطني وأن يغلق الستائر حتى توحي له أن وراءها صورا من الوطن..

       أيضا.. عليه أن تقي الوحدة وأن يحرص على البقاء وسط الأهل والأصحاب.. وهكذا يخرج من الإطار الحالى الى اطار آخر أقرب ما يكون الى طريقة معيشته السابقة وحتي لا يصاب بسبب البعد .. بالاكتئاب.

       أيضا .. يقولون .. الشيكولاته علاج هام وفعال يقلل من عوامل الاصابة بالاكتئاب، وأن ظلت عاملا فعالا من عوامل السمنة.

ماتزال نشرات الأخبار تطاردني!

       صارت متابعتها تستهلك معظم وقتى فعلا تسلبني نفسي تعطلنى.. ففكرت .. ما هو الحل؟ وكيف أهرب من هذه المطاردة الطويلة المتبعة المرهقة؟

آه.. ياربي.. إلا يمكن ان أسمع خبرا واحدا مفرحا حلوا.. خبرا مفرحا يأتينى فجأة كحلم مبهج جميل .. خبرا يطل .. يضيء ظلام ليل انتظارى كقمر مشرق براق .. وسيم .. أثير؟!

ما أروع الأمل.. وما ألعن ليل الانتظار الذى يظل القلب يشتاق فيه سماع خبر الأخبار.. بعودة الكويت الحبيبة الغالية.. وانتهاء الدمار.

       ومع هذا الأمل العذب الحلو عشت أروع اللحظات مع كلمات الدكتور عبد الله العتيبي .. ذلك الشاعر العالم والأديب القدير.

فعلا .. استمتعت بسماع كلماته العذبة الشجية تنشد بصوت شادى الخليج المطرب الكبير الذى طوع صوته لمعانى الكلمات ونغمات الألحان معها ذقت حلاوة الأمل.. مع كلمات كادت تحمل نبوءة الغد الأتى:

  • مصحوبا بروعة العودة إلى الوطن الحبيب.

ومع معاني العودة البديعة القريبة بأذن الله جاءت كلمات الدكتور عبد الله العتيبي سباقة للأحداث كأنها كتبت بحس الكاتب المرهف الرقيق، الذي يكاد يحدس ما هية الأحداث! .. وهي حتما خطت أثر تدفق أفكار سباقة صافية نبعت من روح فيفة هائمة استشعرت من بعد زمنى ومكانى ، كيف يمكن أن تتحقق المنى وأن يتجسد الأمل .. وأن يأتي الملتقي في الصفاة

 

 

           

 

 

 

 

 

 

نعم .. مع عمق الكلمة وعذوبة اللحن وروعة الأداء، عشت أمتع ساعات مع تلك الملحمة الفنية الرائعة، التي تثبت كيف يمكن أن يؤدى الفن الراقي الرفيع دورا فعالا مؤثرا في وقت نحن نحتاج فه إلى معان عظمة خلاقة عملاقة نافذة.

الكم .. بعض كلمات كتبت من نور مبهج مضيء مرق وهاج.. كلمات براقة تنبثق منها ومضات فرح وقوة وإشراق إرادة وعزم وتصميم، وإخلاص.

***


الرياض الزاهرة أبدا..

       مع طلعة كل صباح، وقبل أن أفكر في شيء أخر ما أن أفتح عيني حتى أنهض على الفور نحو جهاز التليفزيون أتفقد الأخبار أتلهف على معرفة أنباء القتال خلال الليل. وهل انطلق صارخ الغدر نحو الرياض؟ أم قد نام أهلها الكرام وبينهم أخي دون إزعاج صفارات الإنذار؟!

       آه يا قلبي .. فمع كل طلقة غدر نحوها.. أحس طعنة قهر تحفر فجوة داخلي.. يا الهي.. لماذا هذا البغي الواضح؟ لماذا هذا الفجور الفاضح؟!

يد عربية تضرب دولة عربية دون ذنب جنت، أو جرم ارتكبت سوى التصدي للظلم، ورد كيد المعتدى، واسترداد حق، ودفاع مروع عن النفس!

       أي حمق هذا يرتكب ذلك الطائش الأرعن في حق الأمة العربية كلها.. بل والإسلامية بأسرها؟ ألا يرتد عن غيه؟ إلا يثوب إلى الصواب؟

يا الله..

إلى متى سيبقي هذا المريض بأحلام الطموح والعظمة يعربد بأهوائه أجواء الوطن العربي؟ إلى متى سيستمر في استهتاره بتفكير الآخرين وعقولهم ومعتقداتهم؟ هل مازال يتصور أن هناك من يستطيع أن يصدقه وأن يمضي في ركابه دون فائدة أو منفعة؟ بلا قناعة وبلا يقين؟ وإنما يضمر في نفسه السخرية والاستهزاء؟

       أنا لا أحب الخوض في لجج السياسة المملة الممضة، ولا أهوى الكتابة عنها ولا حتى التفكير بها. لكنها حرقة الغيظ تكوى القلب فيندفع مكرها قبل أن يشيط ويحترق.

       على أي حال.. معروف حتى للسذج من الناس ان كل ظالم نهاية.. ولكل عدوان مهما استمر وطال نهاية .. واحسارا .. وانحدارا .. واكسارا.

       المهم نعود الآن لموضوعنا الأساسي .. إلى مدينة الرياض الزاهرة العامرة الناضرة تلك المدينة الجملة التي شاءت الصدفة الحلوة وحدها أن تكون هي أول مدينة خليجية تقع عليها عيني بعد معيشتي في الكويت سنوات طوالا.

       لذلك بعد أن طالعت صورة مبانيها الأنيقة وشوارعها الواسعة وقد التفت حولها عدسات المصورين تبث معالمها عبر شاشات العالم الفضية مصورة بقايا حطام الصواريخ (العبثية البعثية) ملقاة هامدة خامدة في طرقها وفوق أرصفتها!

***

وجدتني.. هكذا.. فجأة بين ربوع ذكرى عذبة بديعة تجوب بي من جديد أنحاء مدينة الرياض، فشعرت بأنني أتمشي في أسواق العقارية في العليا أجول في شارع الستين. أتناول طعام الغداء مع نخبة من الأخوات السعوديات في شيراتون عطا الله .. أحادث بعض الطبيبات النابغات في مستشفي الملك خالد في الدرعية.

       نعم. تذكرت كيف تسمرت مكاني منبهرة بروعة مطار الرياض الفخم الأنيق تلك اللوحة الفنية الخالدة التى تته بها مدينة الرياض وتزهو.. وكف فتحت الة تصويرى واخذت التقط عشرات الصور هنا وهناك لاتثبت من حقيقة هذا البهاء والرواء الذي أنظر وأبصر وأرى..!

       استمر هذا الاعجاب بتلك المدينة الأنيقة الكبيرة فأخذت أسجل عنها كل صغيرة وكبيرة نشرت تباعا في محلة “النهضة الكويتية” التى أوفدتنى أيهامها في مهمة صحفية عاجلة بمناسبة صعود أول رائد فضاء عربي ضمن طاقم “ناسا” الى الفضاء الخارجي وهو الأمير سلطان بن سلمان حفظه الله ورعاه.

       وفي الحقيقة كانت مدة الزيارة خمسة أيام فقط قضيتها في ضيافة أخى الدكتور كمال شاهين مدير مركز الدراسات الأوربية والترجمة بجامعة الملك سعود بالرياض وفي نفس الوقت لم أغفل ثانية عن أهمية الوقت بالنسبة لصحفي زائر يأتي مكانا حافلا بالموضوعات لأول مرة حتي وأنا أداعب كرمات أخي العزيزات ، والأعبهن.

وهنا التقت المرأة السعودية.. رأيتها عن كثب وهي تمارس عملها في مختلف الوظائف والمهن بأسلوب سهل بسيط دمث هادئ لطيف وكأنها تمرست على هذه الحياة العملية سنوات وسنوات حقا.. كانت دهشتى عظيمة وأنا أشهد نوعية هذا العطاء المتدفق المستمر الموحى بمقدر ذاتية عالية ، وكفاءة وقناعة شخصية عميقة واعية تؤكد لمن يراها أن هذه المرأة تعرف أنها يجب أن تؤدى دورها كاملا وتؤكد أنه تدرك قيمة كونها نصف مجتمع يجب أن يعطي ويعطي ينتج ويثمر .. فيالها من امرأة .. ويالها من مدينة ويالها من مملكة .. هي حقا مملكة الخير ، والأخوة والإخلاص والوفاء.      

       وبعون الله سوف تبقي مدينة الرياض الزاهرة الناضرة محط انظار العالم دوما دون صواريخ صدام العشوائية الطائشة .. أضلها الله عن هدفها وأخرس أصواتها وأفسد أغراضها وحتما .. لابد أن تفشل أحلام صدام الواهمة في تحويل ليل الأمنين الوادعين كابوسا فظيعا مفزعا .. وباذن الله سيستجيب الله لدعائنا النابع من عمق قلوبنا.

       وهكذا .. ستبقي الرياض دوحة في ناظرى وقلبي وخاطرى أنها المدينة الجميلة البديعة الآمنة الناضرة الزاهرة والوردة الريانة اليائعة ، الباسقة في ربوع المملكة العربية السعودية العامرة .. نعم العامرة بمعدن الأخوة والنبل والوفاء والصدق والإخلاص وشتى صنوف العطاء.. وابقاهم ذخرا كبيرا للعروبة وحصنا حصنا للإسلام.


إيجاز وإعجاز !!

       مازالت روحي تحلق فوق ربوع المملكة العربية السعودية وها أنا الآن أرى بعين ذاكرتي مطار جدة الجميل الذي وقفت عند بابه مع شقيقي الدكتور كمال بانتظار وصول السيارة التي أقلتنا إلى مكة المكرمة من مناسك العمرة.

وبتسامى الشعور الديني العميق عن كل ما حوله فترتفع النفس تشكر بارئها على تلك المنحة البرانية العظيمة التي منحت لى لأودى العمرة بينما الدمع يهطل يغسل النفس والقلب ويشفي الروح من أدرانها.

       حقا .. يالها من لحظات نورانية حانية تبقي تلتصق في الوجدان مدى الحياة .. نعود بعدها على عجل الى مدينة الرياض فالوقت لا يسمح لنا بمشاهدة مدينة جدة ولا الاطلاع على نهضتنا العمرانية الذائعة الصيت والتي نالت ، بسبب أناقتها والعناية بمرافقها وساما رفيعا باعتبارها واحدة من أنظف مدن العالم.

       وتشاء المفارقة الغربية أن أرى بعضا من معالمها البديعة عبر شاشة التليفزيون البريطاني ، عندما أذيع خبر إطلاق النار على بعض العسكريين هناك وإصابتهم بجروح طفيفة ولا يلبث أن يمتزج الإعجاب بالإعجاز ، وأنا اسمع خبرا جاء لي بإيجاز أن السلطات السعودية قد استطاعت. في وقت قصير جدا. القبض على الجناة مرتكبي هذا الحادث الأثيم اللئيم.

       وهنا .. لا يسعدني إلا أن أعبر عن كل التقدير لرجال وزارة الداخلية السعودية الساهرين على الأمن وعلى رأسهم الوزير الأمير نايف بن عبد العزيز الذى أكد أن السلطات السعودية ستضرب بشدة كل من تثبت إدانته حرصا على سلامة وأمن البلاد وحماية لمواطنيها من العابثين .. حياة الله ورجاله وحفظهم من كل شر ومكروه.

نسـور ليل الشتــاء!

       مازلت أكتب لكم الأن ودرجة حرارة خارج جدران البيت عرة تحت الصفر. آه.. ياله من شتاء لم يأت مثله منذ سنوات وسنوات!

نتفات الثلج الهش مازالت تتطاير في الهواء – خلف الزجاج – كأنها حبات الذرة المنفوش (بوب كورن).. ومازالت الأرض مغطاه بوشاح أبيض يزداد كثافة لحظة بعد أخرى.

       هذا هو جوفبراير في لندن هذه السنة وهذه هي موجة باردة أتية سيبيريا بثلوجها وهوائها .. وأسرها وحصارها!!

       نعم .. فعندما تنخفض درجات الحرارة إلى هذا الحد الثلج تنحبس الحياة داخل الجدران، تتوقف الأنشطة تتجمد الأحوال إلا في حالة الحرب فلا عذر عندهم ولا حاجة لراحة أو دفء أو استرخاء.

       لذلك بقيت مع الوحدة وصحبة الليل الذي تحلو لى الكتابة خلاله، فمع هذا الثالوث الفريد الوحدة والليل والقلم تجيش الذكرى تذوب الذات.. يتناثر الإحساس هنا.. وهناك!!

       لهذا .. هامت روحى تحوم بعيدا حول هؤلاء البطال الصامدين عند جبهات القتال هؤلاء بفضل الأجهزة التقنية المتطورة على دقة اصابة الأهداف.

نعم .. فهؤلاء البطال يحلقون بمهارة في شتى الأجواء ينظرون الأهداف يضربون مواقع الظلم والعدوان ، مدافعين عن الأوطان. حياهم الله هؤلاء النسور البواسل الذين اذهلوا العالم بمهارتهم وجدارتهم وحماستهم المنقطعة النظير.. نعم ها هو الطيار الحربي الخليجي يشهد له الجميع بطفاءة ومقدرة تفوق كل التصورات والتوقعات .. حمدا لله.

       وكان للقادة الأجانب تعلق على ذلك عندما وصفوا حماس الطيارين الكويتيين معللين ذلك برغبتهم الشديدة في العمل الذى يؤكد حرصهم الكبير على قصف مواقع العدو انتقاما منه وثارا لما فعل وارتكب في حق الأهل والوطن.

       أيضا .. انطلقت شهقة اعجاب وتقدير لذلك الطيار السعودي البطل الذى بثت صوره عبر شاشات العالم وسائل الإعلام بعد أن أسقط طائرتين معادتين خلال اشتباك جوى واحد!! ما شاء الله .. تسلم يده اصطاد عصفورين بحجر واحد .. حفظه الله ورعاه.

وبكل اعزاز وإعجاب يعلن الواقع عن نفسه .. هؤلاء هم شباب الخليج.. وهذه هي أيدى أبنائه البواسل تدافع بكل إباء وشمم عن أرضها وعرضها وشرفها.. 

       وهاهم الأبطال الفوارس يردون بقوة وبأس على المعتدي الآثم ذلك الظالم الذى امتد حسده وحقده يلوث ويهدر البيئة والثروات!!

والان يحق لنا أن نفخر حقا بهؤلاء الشباب الرجال وأن ندعو الله أن يحفظهم ويطيل في أعمارهم ويبقيهم ذخرا وعونا.


ويبقي لديكم قلبـــي..!

       لكل امرأة رحيق خاص بها ، ولكل سيدة عبقها الدال عليها.. مهما كان نوع عطرها! و”سيدتي” جميلة المجلات العربية ذات طابع متميز، وأسلوب مبتكر فريد، و… رحق نادر .. أثير … أثير.

       والآن يسرني أن أعلمكم أنني آتي إليكم من مكان مختلف التقي بكم هنا في موقع جديد يعجبني جدا يروقني جدا يسعدن جدا.. أن انتقل اليه اعتبارا من هذا العدد السعيد.

       أيضا .. بهذه المناسبة السعيدة التي جاءت لى بمثابة ترقية رفيعة بهيجة أسمح لنفسي أن أعترف لكم بأنني سأحاول أفكر بطريقة جديدة تتناسب ومكانة هذا الموقع المفضل الأثير لذلك .. سأضطر أن اتبع أسلوب التقطير الفكري الذي يتطلب تكثيف معني، تركيز كلمات انتقاء عبارات تماما كما تفعل المرآة عندما تختار طريقة التعطر التي تحبها فتفاضل بين صنوف الشذى باهتمام شديد وتقارن بين أنواع العبق بعناية بالغة. لماذا؟ لأنها تعلم علم اليقين أن هذا العطر وذلك الرحيق عد بالنسبة لها جزءا مؤثرا فعالات لا يمكن اغفاله من مكونات خصيتها.

       وبما أن العطر الغالي الثمن عادة ما يكون في عبوات صغيرة أو كما يقول الإنجليز في مثلهم الشهير “الأشياء اللطيفة تأتي في صناديق صغيرة” ستعرفون لماذا أركز عطري الآن في عبوة صغيرة وكيف أنثر عبقي في صفحة واحدة.. راجية أن يضوع رحيقة حلوا في نفوسكم وأن يظل شذاه عذبا في قلوبكم.       

       وحتى أشعار أخر .. سأدخر الحكايا بين عمق الحنايا وأن كنت سأدع دوما لديكم قلبي فلا تقطعوا عنى رسائلكم فليس معنى انتقالي إلى موقعي الجديد هذا أنني سأبتعد عن التواصل معكم لا فانتم دوما في القلب وحتما تعرفون مدى تعلقي بكم وكيف هي مشاعري نحوكم.

       لذلك.. رجاء لا تحجبوا عني أخباركم ولا تحرموني مشاركتكم ، فأنا أتمني من الله أن تظل المحبة بيننا جسرا متصلا مستمرا.

***

       في مكان ما … في زمان ما .. ما .. قاله . معارض عراقي يقول غاضبا: الصحافة قتلتنا.

يعود يؤكد بلهجته الكويتية وهيئته الكويتية: أنا عشت في الكويت أكثر مما عشت في العراق، وهربت منها بعد الغزو مباشرة. كان احتمال ملاقاتي الموت عند الهرب 70% في حين كان احتمال مواجهتي الاعدام لو بقيت بالكويت 100% لذلك قررت الفرار على الفوز.

       يعود يقول وغضب مكتوم يلوح في العينين المكلومتين الكليلتين: نحن شعب العراق ظلمنا تحت حكم صدام حسين.

يستطرد: تعرفين.. العراق قبل الحرب مع إيران كان رصيده من السيولة حوالي 60 مليار دولار. الحين العراق مديون للجميع.. حتي لرومانيا التي تعتبر احدى الدول الفقيرة في حين أن العراق معروف عمليا أنه من أغني دول العالم الأن.. صار العراق من أفقر دول العالم .. بفضل صدام حسين.

       يتابع ، صدام حسين لم يستطع السيطرة علي الشعب العراقي، ولا أن يستولى على فكره ويحببه بنفسه. لا .. وانما قدر فقط أن يرهب الشعب العراقي وأن يفقده الثقة بنفسه فمن يقول لا لصدام حسين فكانما يقول لا .. لرأسه حتي المعارضون لو واحد طلع برة وطلب اللجوء السياسي ثاني يوم أهله كلهم يقتلون. والعراقيون كلهم عارفون اليء هذا.

       صدام حسين تعرض لمحاولات اطاحة كثيرة، لكنه كان ينحو منها لأنه حذر جدا ولا يثق في مخلوق. حتي في الجيش العراقي يبث كتائب اعدام لذلك تجدين الجندي لا يثق حتي بأخيه ولو أخذه معه يخاف يصارحه انه يريد الهرب أو الاستسلام.. لأنه لا يعرف اذا كان بعثيا أم لا؟

       ولهذا .. بكل القواطع العسكرية لازم تلقين ضابط استخبارات. قد يكون الضابط هذا مدنيا، لكن في يده سلطة وقدرة اتخاذ قرار أقوي من الضباط العسكري حتى لو كان في سن أبيه. فهو جاز يكون مدنيا بس عنده درجة بعثية كبيرة فقدر أن يأمر على امر القاطع العسكري نفسه.

       وللأسف الصحافة المؤيدة للباطل أيضا لعبت دورها والصحفيون المغالطون الذين وقفوا ضد الحق من البداية من أول ما استحل صدام حسين الكويت زمروا وطبلوا وهللوا.. واعتبروها غزوة اسلامية مع أن الإسلام بريء تامة من الشيء هذا.

       فصدام معروف أنه يتأثر بأقوال الصحافة بدليل اهتماماته بالأمسيات الشعرية وبالتعليقات الصحفية وآراء الكتاب فيه، وهذا معناه أن الصحافة تؤثر فيه.. وقد تغير من تفكيره، بل وتؤثر في قراره.

       وهم بكلامهم الكاذب هذا زرعوا الخبث والشر في نفسه وكبروا رأسه فلو كانوا من البداية وقفوا مع الحق ورفضوا الغزو لكان انتهي الموضوع سريعا.

       فمن يقول أن صدام حسين عنيد؟ ومن يقول أنه لا يغير رأيه في لحظة؟ أليس الدليل واضحا في اتفاقية الجزائر وفي نتائج حربه مع إيران؟ في ساعة واحدة هذا كل شيء وتخلى عن كل شيء مان يسعي اليه من ثماني سنوات. أفلم يكن من الممكن أن ينبذ فكرة الاستمرار في استعمار الكويت وانقاذ العراق؟

       لكنه لا يهمه أحد غير نفسه، ولا يهمه من أمر شعبه شيء مادام حيا يرزق، ومادام هو في موقعه من حكم العراق.. حتي لو كان في خندق تحت الأرض.


اللهم لا شماتة .. اللهم لا اعتراض.

       الحمد لله … انتهي الكابوس وتكاد أن تعود الأمور طبيعية الى سابق عهدها وأن تسترد الكويت صحتها وأن تستعيد عافيتها، وتسترجع كل جمالها وبهائها. حمدا لله وشكرا لله.

       ورغم أن في القلب غصة وفي الروح جرحا ، وفي النفس حزنا مازال ، الا أن فرحة العودة الى الوطن وبهجة تحرير الأرض وعظمة انتصار الحق لا تستطيع أن تبدد بقايا مواقف لا يمكن أن تنسي ولا يمكن أن تغتفر ، فالذنب كبير والفعل اثيم، والعدوان بشع وفظيع وشنيع هذا العدو الخسيس الخبيث اللثيم قدر له أن يعيش الذل وأن يذوق الهوان وأن يشرب رغم انفه المكسور- من نفس الكأس المر ذات العلقم الذى سقاه جيرانه هؤلاء الناس الطيبين المسالمين الشرفاء الذين لم يعتدوا على أحد ذات يوم ولم يظلموا مخلوقا ذات زمان.

       لكنه للأسف ذلك الغبي صدام لم يتعلم الدرس حتي من صغار الأطفال. فما هو العراق الآن قد صار قفرا خربا لا حياة فيه، ولا جاه ولا مال، ولا أمان. وانما ترى فقرا وعوزا وعجزا ومرضا .. وانحدارا وانكسارا وحطاما وأطلالا ف كل مكان، والعياذ بالله.

هكذا .. شاءت شهية صدام الجشع للمال الجائع للسلطة، العطشان للدماء.. وهكذا شاءت إرادة الله أن يريه جزاء فعله وأن يعاقبه على ما اقترفت يداه .. حقا إن ربك لبالمرصاد والحين .. ما قولك ا صدام؟! هذه هى كنوز الكويت التي اغترقت منها.. فبم أفادتك؟ وكيف أغنتك ونفعتك وقد دفعت ثمنها وسددت قيمتها من قوت وحياة شعبك مئات بل ألوف المرات؟!

       اسمح لي أن أجيبك اذن، وان كنت أعرف انك لا تسمعني الآن. لقد كانت الكويت كنزا مرصودا حلت عليك ومن معك لعنة الاعتداء عليه ، فلقيت شر الجزاء كذلك .. كان الذهب ذهبا محموما، فسأل عليكم حمما ونارا وجمرا وسعارا ، فدمركم تدميرا. بكل ارتياح وانتصار أقول: ما أجمل الجزاء الذي نلت وما أفزع المصير الذي لقيت!!

       حقا لا شماتة في الموت، لكنها حرقة القلب تكوى القلم فتدفعه دفعا نحو سطر هذه الانفعالات وخط تلك الكلمات، علها تخفف بعض ما في النفس من قهر، وتقلل بعض ما في الروح من ضني وضيق وعذاب.

***

آه.. يا الله .. اللهم لا شماتة فيما لقيت يا صدام فكائن مثلك حاله حال “دراكولا” مصاص دماء لا يمكن أن تهدأ روحه ولا أن تسكن ذاته إلا وهو يرى حوله كثير جثت وعديد جرحي وغزيرة ضحايا وأكوام أطراف وتلال أشلاء وجبال حطام وهدم وركام!!

يا لك من قبرة قيئة تستمريء الخراب، تستعذب الظلام، تستسيغ الوقوف على الرئاسة .. حتي لو كانت في قاع الحضيض وعمق الجحيم وأسفل القرار.

لهذا .. جاءت نهايتك كسيرة ذليلة وراح الى الأبد انتصارك الكاذب الواهم، المزعوم، بعد أن طبعت بصمتك الكريهة في وجدان الشعب العراقي الذي خوفته تخويفا وحطمته تحطيما، دون مراعاة عور فرد واحد منهم سواء كان رجلا أم امرأة أو حتى .. طفلا.

والآن .. إليكم .. حكاية شهيرة من حكيا صدام الدموية الكثيرة هي عينة بسيطة من “بلاوى” هذا الزعيم البلية الذي ابتلي به الله شعب العراق والشعوب العربية.

في يوم من سالف الأيام أراد الطاووس النرجس صدام العاشق ذاته المغرم بألوان الدعاية والإعلام أن يظهر على الخلق ويبدو للأنام وهو يجامل البعض ويبدى الود والوئام. فبعث لأسرة فقيرة رجال الاستخبارات، لاعداد المكان لزوم التصوير والمقابلات فاحضروا ثلاجة وتفاحا ولحما ومفروشات حتي يبين للعالم أن هذه الأسرة الفقيرة بالذات تعيش في رغد ولديها كل الطيبات والخيرات وينعم أفرادها بالسعادة والرخاء صبيانا وبنات.

دخل صدام البيت وجلس في الصالة. والكل من حوله مربوك وحالته حالة. واحتضن طفلا صغيرا سأله في بشاشة عن أحواله. وبعد أن أجلسه في حجرة وربت على شعره وتودد إليه وتبسم في حنان مصطنع ونظر في عينيه وسأله وهو يضحك ممازحا: اذا سألتك سؤالا تقدر تجاوب عليه؟

أتعرف من هو اللي يكلمك واللي أنت قاعد فوق رجليه؟

طالعه الصغير وقال في حماس وبراءة: نعم أعرفك.. أنت صدام اللي تقتل من يعارضك وتحكم عليه بالإعدام. وأنت اللي تطلع في التلفزيون كل ساعة تكذب وتسب في سفاله، ولما يشوفك أبوي “يتفل” عليك ويطقك بنعاله.

وهنا .. وجم الحاضرون وجمدوا لدي سماع أقواله، وهب صدام واقفا وألقي الطفل قدامه وأخرج مسدسه وفي الحال اردي والده قتيلا أمامه!!

***


الســلاح السحــري!

       الدنيا مواقف والحياة معارك.. فيها المنهزم والمنتصر الخاسر والرابح.

وخير الرابحين هو من يربح نفسه، حتى لو خسر كل ما يملك فالماديات يمكن تعويضها، اما الاصابة المعنوية تلك التى تصاب فيها النفس بالاضرار، فهذا فعلا شيء لا يمكن تعويضه بحال من الأحوال. والإنسان بكل ما يملك من طاقات وقدرات وابداعات قادر حقا على تحقيق المستحيل، وصنع المعجزات، وما يبدو مستحيلا اليم سيصبح ممكنا غدا ، وما يبدو وصعبا الآن سيسمي سهلا بعد حين.

       المهم أن نتسلح بالحماس وهو نفس الحماس الذي جعل الإنسان ينتصر على كل ما يقابله من صعاب في معركة الحياة وبالاضافة الى الحماس ملك الانسان أيضا سلاحا رهيبا لو أحسن استخدامه لعرف كيف ينتصر بالتأكيد على ما يحيطه من صعاب وما يطوقه من مشاق!

       هذا السلاح السحري هو الإرادة وهى الإرادة دون مبالغة أقوى من العضلات فيها يستطيع المرء أن يستثمر الطاقة الجبارة الكامنة داخلة بدلا من تبديدها حسرة على الماضي وحزنا على الحاضر وخوفا لما يمكن أن يكون!!

       ولذلك علينا أن نتجاوز هذه المشاعر عند عبور المواقف الصعبة وأن نتسامى بأنفسنا وأحاسيسنا لحظة المواجهة القاسية مع الحدث المؤسف المحزن ، كي نتباعد عما يمكن أن يكدرنا أو يضايقنا أو ينال من نفسيتنا.

       والآن إذا عرفنا أنه في العالم الواسع وذاك الكون الكبير، لا يوجد انسان بلا مشاكل، كما لا يخلو بيت من متاعب وهموم كما ليست هناك حياة خالية من الأحزان والشجون.. إذا عرفنا ذلك، وفهمنا معني ذلك، لابد وأن نعرف إذن أن الإنسان الذكي هو الذي لا يسمح لأي من هذه المعوقات والإحباطات أن تنال من نفسه وأن تؤذي ذاته وأن تفسد حياته.

       كيف؟! لأنه يعرف كيف يتحايل عليها وكيف يعيش معها في وئام وسلام يساعده في ذلك عامل مهم جدا هو “الثقة بالنفس” إذ عندما يثق الإنسان بنفسه ويؤمن بقدراته لابد وأن تتضاعف قوته وتتعمق عزيمته، فتراه يتجاهل التجارب الأليمة وينشغل عن آلامه بممارسة كل أنواع النشاط الايجابي الفعال.

إذن فنحاول السير قدما مع إيقاع الحياة، دون أن نتوقف أمام الآلام مهما كانت ضراوتها وقساوتها ولا أن نتراجع أمام التجارب مهما كانت مرارتها وباعتها.

لماذا ؟ لأن التوقف والترقب والتذكر ما هو إلا عائق جدوى منه غير ضياع العمر فيما لا يجدي ولا يثمر ولا ينتج ولا يفيد.

صراحة. علينا ألا ندع مشاكلنا تغرقنا في أعماقها، كي لا تشل حركتنا وتدمر طاقتنا حتى نندفع بكل حماسنا وإحساسنا نحو البناء والتشييد والتعمير.


المقاتـل المصــري!

       المقاتل المصري محارب قديم مشهود له بالجرأة والصلابة والمقدرة الفائقة على التحمل والقتال في جميع الأجواء وفي كل الظروف.

       المقاتل المصري يستطيع أن يثابر ويصبر ويستمر ، لأنه يكون مقتنعا قناعة تامة بالوضع الذي هو فيه راضيا رضا تاما عن الهدف الذي يحارب من أجله لذلك هو يفتح صدره للحرب لا يعرف الخوف ولا يرهب الموت، لأنه يعرف أن من يموت شهيدا يضمن مكانا في الجنة.

       المقاتل المصري صلب جدا ذكي جدا، متفهم جدا. يحارب بالليل بالنهار، حرا وبردا، سواء تواجدت معه إمكانيات الإعاشة أو لم تتواجد.

، سواء أكل أو لم يأكل، المهم عنده توفر الماء والسلاح بعدها يحارب بعزيمة ومقدرة واقتناع بسبب روحه المعنوية العالية. والروح المعنوية النابعة عن القناعة الذاتية بحتمية الحرب، ضرورية جدا لاستمرارها، لأنها إذا انخفضت أو انعدمت أى ذلك بكل تأكيد الى هزيمة أكيدة مؤكدة.

       لهذا السبب وطبعا بالاضافة الى العديد من الأسباب عندما ضاع اليقين وغاب الاقناع بضرورة الاستمرار في حرب “غامضة” غير مفهومة الهدف غير متكافئة القوات غير مضمونة المصير جاء “لجوء” المقاتل العراقي الى الطرف الآخر!! فما حدث لا يسمى “استسلاما” ، لا .. وانما هو “التجاء” الى الطرف الآخر .

 لعلنا بذلك عن عدم اقتناعه بجدوى تلك المهزلة العسكرية المسرحية، لأنه حتما أى الجندى العراقي كان عاجزا عن اعلان ما بداخله من اعتراض.

       لذلك جاء هذا “اللجوء الجماعي” المثير للنظر الملفت للانتباه اعلانا عمليا ، ضخما كبيرا، ضد قيادة الطاغية الطامعة في ممتلكات الغير، وأفكاره التوسعية الطامحة في التمدد والانتشار!

       وكما هي عادة الشعب المصرى خفيف الدم الروح خفيف الظل والذي لا يفلت أى مناسبة كانت دون أن ينكت عليها جاءت هذه النكتة من الجبهة وهأنا أقولها لكم الآن، وكما سمعتها ، بنفس اللهجة العامية الظريفة اللطيفة.

 

       في الحرب لاحظ صحافي أن الجنود المصريين يضعون على صدورهم شارة مكتوبا عليها (U.S.A.) ، فسأل المسؤولين: أنتم عندكم جنود أمريكان من أصل مصرى؟ فقالوا : لا الأمريكان هنا أمريكان أمريكان .. ما فيمش نفظة دم عربي واحدة.

***

       رجع الصحافي في يسأل: طيب.. عندكم جنود أمريكان بيتكلموا عربي بلهجة مصرية؟ فقالوا: لا الجنود الأمريكان هنا خواجات خوجات.. ميعرفوش ينطقوا ولا كلمة عربي واحدة فراح للجنود المصريين وسألهم: ايه الحكاية يا جماعة؟ ايه معني شارة (U.S.A.) اللي أنتم حاطينها علي صدركم دي؟

       فردوا ضاحكين: ايه يعني ؟ هم الأمركان أجدع منا ولا ايه؟ مفيش حد أحسن من حد.

معناها .. يوسف صبري أبو طالب!

هاه.. هاه.. هاه.

حلوه .. مش كده؟!


صدام .. غول الأطفــال!

       الطفل .. ذلك الكائن البديع الوديع، الغالي الحبيب، لا نحتمل ولا نطيق أن نرى الدمع في عينيه، فما بالك لو كان الحزن والضيق والقلق باديا واضحا عليه؟ أظنه شعورا عنيفا قاسيا فوق طاقة كل أم، وقدرة كل اب.. فالطفل، عادة، انسان صغير ضعيف رقيق، سريع التأثر لما يحدث حوله، شديد الانفعال العاطفي لما يحيط به من أحداث.

       أننى أذكر جيدا، كم كان قاسيا وعنيفا ومؤثرا منظر الدمع وهو ينهمر من عيون أطفال الكويت. آه كم كان مرهقا مرأى الحزن في عيون الصغار.. آه ياقلبي.. كم عانيت من عذاب ، وكم تحملت من أحزان لا تقل أبدا عن تلك التي رأيت ونظرت في عيون اطفال الكويت الأحباء. نعم.. فكم كان مؤلما أن الحزن لم يأت وحده، بل كان مصحوبا بيء آخر .. هو الخوف والقلق! ذاك القلق الذي أصاب الطفل الكويتى طوال أشهر الأزمة، والذي كان ناتجا عن شعوره بعدم الأمان، بعد أن رأى وطنه وأهله يواجهون عدوا بشعا، ظل يفتك بهنائهم واستقرارهم أياما وليالي طوالا… طوالا.

       في هذه اللحظات التعسات، قاسي الطفل الكويتى من الخوف. شعر بأنه يواجه عدوا فظيعا هائلا، لا يستطيع الدفاع عن نفسه أمامه، ولا يستطيع رد شروره وآثامه.. فاعتقدوا أن الحياة شرسة وخطرة، وأيقن أن الناس كلهم عدوانيون، شرسون، شريرون.

       ومع الوقت ، تمدد الحدث، تضخم الخطب، ومن ثم بدأ ينتشر القلق ليشمل معظم أطفال العالم، خاصة هؤلاء الصغار الذين يشارك ذووهم في تلك الحرب، والذين صار الكل يحيطهم بالعناية والرعاية، حرصا على التخفيف عنهم وخوفا من أن يتأصل القلق في أعماق نفوسهم، فيؤذيهم، ويفتك بهم، ويفقدهم القدرة على التكيف مع الحياة. ويستمر هؤلاء الصغار في تعليق “الربطة الصفراء” على صدورهم، وهم عبارة عن شريط أصفر صغير يعقد على شكل فيونكة، ويشبك على الملابس اشارة، أو رمزا ، الى أن فردا من أسرة هذا الطفل يشارك في حرب تحرير الكويت.

       ويهب العالم واقفا، باحثا، دارسا أحسن الوسائل وأسرع السبل التي تخفف عن هؤلاء الأطفال ذلك الشعور بالقلق والخوف والجزع على ذويهم فتنعقد الندوات العلمية والدراسية التخصصية لمكافحة هذا الشعور الخطير على الطفل الصغير ، قبل أن يحطم ويدمر أعصابه.

       وبديهي ان الأطفال عادة أكثر استسلاما للقلق من سواهم ، أيضا ، كما هو معروف أن للوسط العائلي أهمية كبرى ، فهو قادر على أن يكثف الشعور بالقلق ، كما هو قادر كذلك على التخفيف منه، بل وحتي القضاء عليه.

       وكما قلت، نشط الجميع في دول العالم التي شاركت في حرب تحرير الكويت، وسعوا الى التقليل من حدة هذا الشعور بالقلق، والاستماتة من أجل ايقاف آثاره الضارة المدمرة على نفسية الأطفال الصغار. والظاهر أن العلامة الكبير ، والمفكر الخطير، صدام حسين الشهير، “فهم” أهمية هذا القلق، وقرر أن يستغله وينميه، بل وأن يزيد تأثيره حدة وضراوة وخطورة، فوعد بأن يصدر “هدية ما” ، غامضة جدا، إلي .. أطفال مصر!       

       وهنا .. بدأت قصة أخرى أثارت في نفسي دهشة بالغة لا حدود لها، عندما جاءت ابنتي الحبيبة الصغيرة “خمس سنوات” والتى تذهب الى الحضائنة ، وقالت لى ذات يوم وهي ترتجف من الرعب: ماما .. قالوا في المدرسة صدام حسين حيموت الأطفال ويرمي عليهم قنبلة.

       لم أصدق سمعي .. أصبت بذهول طاغ عنيف، وهمست في أذانها وأنا أحضنها، وآضمها بكل حناني وحبي: متخافيش ياحبيبتي .. ماتخافيش.

       بعدها عرفت أن الصدام الهدام، أبا المهالك وابا المزاعم، كان حريصا على تخويف أطفال مصر، وكأنه الغول توأم أمنا الغولة التى تخطف الأطفال وتفترسهم ! فهو أيضا قد اختطف احساسهم بالأمان، وافترس شعورهم بالأمن والاستقرار! فقد ظل الأطفال في مصر، فترة طويلة خائفين، ومعهم طفلتي الصغيرة، من قنابل صدام!!

       ولأن الطفل لا يستطيع أن يدرك الفرق بين ما هو حقيقي ، وما هو غير حقيقي ، وهو غير قادر على ان يوجد لنفسه وسيلة للدفاع الذاتي، لذلك يبحث عنه خارج كيانه، ينشده عند والديه. لهذا جائتني صغيرتي خائفة ذات مساء أثناء الأزمة ، خائفة ذات مساء أثناء الأزمة، وجلست في حجرى ، وقالت راجية : ماما .. أنا عاوزة أروح مدرستي الثانية .. اللي في الكويت.

       فقلت لها مفسرة: مدرستك ياحبيبتي أخدها صدام حسين. فسكتت لحظة، وسألت في دهشة وبراءة: ياه.. شالها إزاى ياماما .. دي ثقيلة قوى !!

       ضحكت، ضممتها الى صدرى بحب الدنيا كله، وغمرتها بقبلات لا عدد لها، واخذت اطمئنها بأن لا خوف عليها من الذهاب الى مدرستها هذه في القاهرة، وأن “مفيش قنابل ولا حاجة”.

       بصراحة.. حاولت كل جهدى أن أخفي قلقي عنها، فقد زادت في وقت ما مخاوفي، إثر شائعات كثيفة كثيرة انتشرت تردد جميعها أن هناك كارثة ما تهدد أطفال مصر، وأن من

***


هذا الأسير.. الرضيــع!

       ذات يوم قريب من تلك اليام الثقيلة، الكئيبة، المحبطة، صحوت من نومي متعبة مرهقة، فجلست في قلب مقعد كبير دون حراك ، بحثا عن جزء من الراحة ، وأملا في أن استرد بعضا من نشاط، وقدرا من همتي.

       وبعد قليل من الوقت، وكثير من الهدوء والراحة والصمت ، طلبت الصحف للاطلاع على آخر الأخبار ، متمنية لو أن اليم يكون أفضل من سابقه، راجية أن تأتي الأخبار بموضوع مفرح ، يخفف من هذا الضيق والعناء الذي ظل في القلب زمنا طويلا.

       بدأت أطالع ماشنيتات الصحف بعيون واعية، ومشاعر راجية، وأخذت أجول بين كلماتها واتحرك بين عباراتها باحثة عن بعض أنباء مفرحة ، تبدد بعض ما عند من مشاعر ضيق وعناء.ولكن ، اذ بعيوني تتوقف ملتاعة ، تنظر صور أطفال اختطفتهم القوات العراقية ضمن ستين طفلا كويتيا.. !!

       اقرأ. أتابع بقية الخبر.. فأصبني ذهول وهذيان. لم أصدق ما أقرأ.. ! أرجع اقرأ بقلب ينبض غيظا، ونفسي ترجف قهرا، وبدن يرتج من شدة الانفعال لقسوة الخبر الذي يعلن: أصغر أسير كويتي طفل مولود لا يزيد عمره عن هرين، انتزعه الجنود العراقيون من حضن أمه تحت تهديد السلاح، ونقلوه مع الأسري إلي العراق ولا يعرف أحد مصيره حتي اليوم!

       حتى اليوم؟ ومن قال لكم طفلا رضيعا صغيرا الى هذا الحد يستطيع أن “يصمد” حتى اليوم ؟ أى يوم نشر هذا الخبر الأسود المؤسف!

آه .. يا للحزن.. يا للأسف.. يا للعار!!

       طفل رضيع لا يزيد عمره عن شهرين ينتزع بالقوة من حضن أمه. ويؤخذ أسيرا؟ أى فعل هذا؟ أى سلوك همجي وحي بربرى لا إنساني؟ وأى قانون حرب الذي يبيح تصرفا حقيرا كهذا؟

       آه .. كيف استطيع أن أتخيل منظر أم هذا الطفل وهي تحتضن طفلها حبيبها ، وتبكي وتصرخ وتشتغيث، ضارعة أن يرحموا صغيرها، ويقدروا أمومتها، والا يسلبوها فلذة كبدها؟

       وبكل اسف.. لم يهب لنجدتها ضمير بشر يرعي الله في امومتها الجريحة الحزينة املتاعة، يعطف قلبه لمصير طفلها المحتم اذا أخذ منها وعومل “أسير حرب”.

***

       يا للحزن .. يا للحزن .. ألهذا الحد يصل الاستهتار بإنسانيتنا وآدميتنا؟ ألهذا الحد المخجل نتعامل، نحن العرب ، المسلمين الأشقاء، مع بعضنا بأسلوب مريض متجرد من العاطفة والعور؟ أيمكن أن يصبح الإنسان جمادا جامدا في لحظة؟! أمكن أن يتحجر القلب فيقسو إلى هذا الحد المذهل ، ويتجاهل معاني الرحمة والمروءة والهامة والرجولة إلى هذا الحد المخجل؟!

       لا .. ليس رجلا هذا الذى انتزع ذاك الرضيع الضعيف من حضن أمه العاجزة عن حمايته.. مستحيل أن يكون هذا الكائن البغيض المجهول رجلا.. لا .. فالرجولة قوة، انسانية، بذل عطاء ، ومستحيل أن تتدني صفاتها النبيلة السامية حتى تصل هذا الحد المزرى، وتهبط الى هذا المستوى بارتكاب هذا الفعل المخجل الذي لا يستطيع أن يأتيه انسان سوى، عاقل، راشد .. مهما كانت الأعذار.

       أرجوكم .. لا تقولوا لى هذه هي الحرب ، وهذا هو الميدان ، وهذه هي الأوامر العسكرية الواجب اطاعتها وتنفيذها بحرفية، والا تعرض مخالفوها للإعدام!!

       أنا عن نفسي ، أتصور أن هناك قدرا من التوحش والهبوط والتدني الذي يجعل مرتكب هذا الفعل الفاضح القبيح لا يشعر بفداحة ما يفعل ، ولا نذالة وسفالة ما يرتكب!

       نعم .. لابد وأن لديه استعدادا شخصيا كامنا في أعماق نفسه ، يجعله يمارس هذا الفعل الحقير القبيح بتبلد وتجمد ولا مبالاة. فمهما كانت أساليب الحرب، ومهما كانت نوعية الأوامر العسكرية ، فحتما يوجد عذر أو مبرر ما أو مخرج ما، يمكن على الأقل أن يستثني هذا الرضيع المسكين عند تنفيذ تلك الأوامر العبيطة السخيفة اللا إنسانية!

       آه .. يا للقرف .. يا للاشمئزاز .. يا للعار!! ا لحقارة هؤلاء الأشاوس المغاوير وهم ينفذون تعليمات المهين الركن الهدام الصدام، فيخططون لخطف الأطفال، حتى الرضع منهم ، ويسيئون معاملتهم .. أكدت ذلك لجنة تقصي الحقائق للصليب الأحمر الدولي التي استقبلت بعضا منهم وإعادتهم الى أهاليهم .. أكدت أن هؤلاء الأطفال الأسري قد تلقوا أسوأ معاملة صحية وغذائية على أيدي زبانية صدام حسين!!

       هؤلاء المشردون الضالون الذين تحولوا من جند إلى قطاع طرق وأفراد عصابات ترتزق من اختطاف الأطفال من الشوارع، طوال مدة احتلال الكويت ، ثم يبدأوا يساومون أهاليهم لأخذ “الفدية” المالية الكبيرة مقابل الإفراج عنهم دون أدني نظر أو اعتبار لما يمكن أن يصيبهم من أضرار تؤثر في نفوسهم مدي الحياة.

       بالضبط شغل عصابات تحترف الإجرام وترتزق منه وتعيش عليه. لا جدال في هذه النقطة أبدا ، فالفرق واضح ، والفعل فاضح ، والحزن ناضح ، والغدر ، مهما كان، مرفوض، بل يجب أن يكون غير موجود من الأساس.

***

       آه .. يالهؤلاء المتوحشين الجهلاء .. أنهم بكل يقين وتأكيد لا يدركون أن احساس الطفل بأمه احساس قوي وثيق، وانها لو تأخرت عن ارضاعه يظل يصرخ ويبكي ، وقد لا ينام حتي يعود اليها. بل ويظل في حالة توتر وقلق طول الوقت وهو بعيد عنها. ويبقي حزينا مقهورا يفتقد وجودها، يعاني بسبب حرمانه منها، واحتياجه اليها، ويظل باكيا يبحث عن رائحتها ولمسة جسدها متلهفا الى النهل من حنانها وحبها.

       قد يتصور هؤلاء الحمقي الجهلاء أن هذا الصغير الرضيع لا يفهم شيئا حوله، لكنهم للأسف لا يدركون أنه يخاف ويحزن ، ويقلق ويتوتر ، ليس وعمره شهران فقط، بل حتى وهو جنين في بطن أمه مازال!

       اذن هذا الرضيع الأسير، الذي تعرض لماعر الخوف الشديد، والحزن الشديد، والقلق الشديد بعد حرمانه من حضن أمه الدافيء الآمن وخطفه بالقوة من بين يديها ، لابد وأن احساسه بالحرمان من أمه قد تعمق وزاد ، ودة احتياجه الى أمه قد تأكدت وازدات ونمت، وان استمرار هذا الشعور المؤلم المحبط قد يؤدى بحياته!

       فماذا استفاد أعوان صدام من ممارسة هذا الفعل الرخيص الحقير ؟! وأى مبرر لهم قد رفضا تاما، وغير قابل للنقاش ولا التفسير ، أو التعليل!!

***


أين تشرق شمس الشموس؟

       يطل الفجر، يأتي النهار ، تشرق الشمس نتيجة دوران الرض حول محورها مرة كل 24 ساعة. فاثناء الدوران يصبح جزء من سطح الأرض مواجها للشمس ويطلق عليه الليل.

       تحليل واضح يعتمده علم الجغرافيا. ذلك العلم الوحيد الذي يدرس البيئة والانسان وعلاقة كل منهما بالاخر.

       لكن لا ليست هذه هي الشمس التي أقصد ، فأنا لا أتحدث هنا عن الشمس ذلك النجم الكبر في المجموعة الشمسية ، والتى تبعد عن الأرض بمقدار 93 ميل. لا، وإنما أتحدث عن شمس أخرى ، شمس جميلة ، حانية ، شمس معنوية غير مرئية . قريبة جدا من سطح الأرض فهي تلتصق بالقلب، تشرق في الصدر ، فتضيء الليل في عز الظلام!

       انها شمس الشموس. شمس الحرية والتحرير والهوية والانتماء ، شمس الأرض والوطنية والاستقرار والبقاء.

       نعم فبالرغم من الظلام، بالرغم من صعوبة الرؤية، بالرغم من عدم وضوح ضوء النهار.. إلا أن الكل الآن فوق أرض الكويت يحس الشمس ترق من جديد في قلبه تضيء بنورها الوهاج أعماق ذاته، فينطلق شعاعها البراق يضيء طريق حياته.

       حمدا لله ها هي شمس الشموس تشرق. تشارك الجميع بهجة العودة ، تبارك الجميع بسلامة رجوع الأرض ، والعودة الى الوطن.

       كان هذا هو الانطباع السائد الذ تسلل داخلي هادئا، عميقا، نافذا دون حواجز تعترض أو موانع تعوق.

       في الواقع لم يأت هذا الاحساس من عدم وانما نبع من تلقاء نفسه عندما قابلت هؤلاء الشباب الكويتين الذين عبروا لي بصدق عن شعورهم ازاء حريق النفط وانتشار سحب الدخان السوداء التى تحجب طبقاتها ضوء الشمس فتخلط ظلماتها بين الليل والنهار.

 

                  ناصر الرندى .. موظف في شركة البترول الوطنية

 

***

 

احتراق النفط إن أجلا أو عاجلا سينتهي، وسينطفئ. وهذا شيء عادى ما يهمنا، وما يؤثر فينا بدرجة كبيرة فإنسان بلا بلد كانسان بلا بيت.

       ونحن آباؤنا وأجدادنا عاشوا على الخبز والماء، وعيشة البحر كانت أصعب بكثير من حياتنا، وما اشتكوا، بالعكس هم يقولون لنا أن عيتهم كانت أحسن من الحين ، الخير كان كثيرا، والمطر والرخاء ، والمؤدة والمحبة ولم الشمل .. كل هذا كان موجودا. الحين للاسف الانسان تغير، ولكن ان شاء الله عقب الأزمة هذه راح يصير الشعب الكويتي كله كأنه يعي في بيت واحد، وراح يرجع يحس نفس الاحساس بالترابط والتآلف اللى كانوا عايشين فيه أهلنا بالأول.

 

أحمد الشريدة. موظف بشركة المطاحن الكويتية 

 

       مهما كان حريق البترول له نتائج وله اثر نفسي ، الا أنه بالعكس أعطي دافعا كبيرا للكويتى كى يعطى من نفسه أكثر ، ويتحمل أكثر ، وان يزداد قوة وصبرا وصلابة.

       الصراحة خسارة الأرواح هي الخسارة الوحيدة التى تعوض ، وهي أغلي بكثير من الخسائر المادية، فالفلوس ماتهم بقدر ما يهمنا رجوع ديرتنا وشخصيتنا وهويتنا.. فانسان بلا وطن وبلا جنسية انسان لا قيمة له بين الناس.

       ونحن في هذا الوقت بعد روجع الكويت ما نفكر في النفط فكل هذا ماله قيمة بقدر فرحتنا برجوع ديرتنا.

       ينتهي تعليق أحمد وقبلة ناصر حول موضوع احتراق النفط وفي نفس الوقت أكون قد سمعت رأى مؤيد وجمال.

       فأحمد لله لم يفقد أبناء الكويت حتى هؤلاء العائدون الآن من تحت تلك السحب السوداء، سكينتهم، كما لم يفقدوا هدوء الوجه والهيئة، وعمق الصوت، وتركيز الفكر، وضبط النفس أثناء الحوار.

 

                                       جمال المنيع. موظف بالبنك المركزى

***

 

       عندنا الاستثمارات قوية والحمد لله، والبترول يتعوض وينطفيء فهو ماراح يشتعل مدى الحياة. وما راح نقول مافي بترول يعنى لابد ينصلح ولابد أن تنطفيء هذه النيران.

       وإن شاء الله ترجع الحياة لطبيعتها بعد تكاتف الكويتيين وسوف نبنيها من أول وجديد نحن بأنفسنا وبأيدينا ويد الله مع الجميع.

 

مؤيد الدليمي. طالب جامعي

***

 

أنا كلامي كثير وما أعتقد أن هذا المجال يسمح ينشر كل ما عندي. فأنا عشت الأزمة من بدايته في الكويت، وشهدت كل شيء حتى لحظة التحرر ورجوع الكويت.

       وأنا الحين أقولها. اهم شيء رجعت ديرتي. واحنا ضحينا بالغالي والنفيس كله فداء الوطن، ومايهم قيمة النفط المحترق أو المعاناة التى يعيشها الناس بسبب الدخان الذى لا يجعل فرق بين الساعة عرة الصبح وعشرة بالليل.. كله ظلام في ظلام.

       وحتى لما كنا نعيش في هذا الظلام بدون ماء ولا كهرباء كنا فرحانين برجوع ديرتنا، فهي أهم من النفط هذا. حتي في ناس عندهم أهل ماتوا واسري ما همهم شيء قدر ما همهم أن الكويت راجعة.

       وأنا كنت هناك وسمعت ضرب النار وصوت القذف في المنطقة اللي كنا عايشين بها، وأنا طول حياتي ماراح أنسي لحظة دخول قوات التحالف عندنا.

       وانا لا أنسي أن أول قوات شتها في منطقتنا كانت قوات سعودية وأول ما شفناها خلاص فرحنا ، وصدقنا أن الكويت تحررت.

***
بعـــاد بـلا عنــاد!

       أتابع بقلب قلبي أخبار اطلاق سراح المواطنيين الكويتيين من الاسر ، وكم كان فرحي عظيما وأنا أطالع هذا الخبر الحلو الذي يعلن الافراج عن عدد منهم، كما يعلن متابعة حكومة الكويت الجديدة لعملية الافراج عن بقية الاسري قريبا.

       أتنهد في ارتياح ، أسبل عينى ، أرخي أعصابي ، انزل الصحيفة من يدى ، أتحسس قلبي ، أتخيل لحظات هذا اللقاء، أتصور كيف يلتقي الغائب بالاحباب.. بعد طول غياب!!

       آه .. ماذا يمكن أن يحدث في تلك اللحظات؟

       كيف يحتضن الابن أمه؟ كيف يعانق الزوج زوجه؟

       كيف حتوى الاب أبناءه؟ وكيف يضم الأخ أشقاءه؟

       كيف .. وكيف .. وكيف . وكيف؟

       لا .. ليس بهذه السهولة تخيل ما يمكن أن يحدث في تلك اللحظات التى تساوى في قيمتها وعمقها .. العمر كله.

       نعم .. ليس في الامكان أبدا تخيل ما يمكن أن يحدث فى تلك اللحظات . فعلا.. وجدت أنه من الصعب جدا أن يتصور أحد، مهما كان واسع الخيال، نافذ الاحساس، كيف تأتي لحظات ذاك اللقاء

       كيف تجيش المشاعر.. كيف تثور الذكرى .. كيف يصرخ الصمت .. كيف تضحك العيون. دامعة. بعد طول بكاء.. كيف تنطلق نظراتها نحو الأمل أثر طول خوف وعناء، كيف تكون الخطوات واجفة والانفاس لاهثة، والاطراف راجفة..آه.. كيف يخفق القلب.. كيف تحنو الروح.. كيف يصطخب الوجدان؟

       لحظات عاصفات عاتبات هي لاشك ، تجنح فيها الا انفعالات ، تجمح فيها المواقف، خاصة اذا كان هناك الحبيب الغائب محفوفا بالمخاطر، مهددا بالمكاره، محاطا بافظع الظنون وابع التصورات. لهذا يكون الانتظار طويلا ، طاحنا ، قاتلا، انتظارا ساحقا يجعل الدنيا جحيما مقيما قائما، لا فكاك منه، ولا نجاة ، ولا خلاص، الا بعودة الغائب ولم شمل الأحباب.

       لكن .. يبقي هنا موقف انفعالي لا خلاص منه، ولا فكاك ، موقف نتج عن “ترسب” احساس معين ظل يتراكم طوال فترة الانتظار الحارق المرهق القاسي المرير.

***

هذا الاحساس الخليط من الضيق والتوتر، والاسي والالم، الذي تأكد خلال فترة الانتظار، منذ اختفاء الغائب وحتى لحظة ايابه، لا يملك المرء في لحظة واحدة أن يتخلص منه في الحال.

       لانه يبق في القلب كامنا حتى لحظة اللقاء المرتقب الذى اشتد اليه وقه ، وامتد اليه امله .. والمه .. واحلامه .. وكل مناه.

       نعم .. دون قصد أو تعمد ينهض المرء فجأة للقاء هذا الحبب الغائب ، وهو اشبه ما يكون حطاما. وما اشق ما يكون انسانا يعاني، لم يزل ، قساوة الاسي والعذاب ، وضراوة الام ، واحزان الفراق!

       هذا قطعا ليس تناقضا غريبا أو تصرفا عجيبا ، انما هو رد فعل طبيعي تحتمه طبيعة الموقف العميق عند لقاء الغائب الحبيب ، الذي يلتقي فيه الجميع في نفس الوقت، و .. لحظات الانتظار العنيفة القاسية التى تسبت وتراكمت ، وترسخت خلال فترات الانتظار البغيضة الممضة الماضية.

 

       آه.. حقا يقول الشاعر:

سلام على غائب عن عيوني

              حملت حطامي الى داره

وقلت لقلبي تمهل بنـــــا

              وخبيء شقاءك أو داره

تناس الاسي ها هنا أو يقـال

              حملت الظلام لانواره..

اتغدوا الى عتبات النعيـــم

              بلفح الجحيم واعصاره..

***

       ايضا .. عن البعاد والتنائي ، والغياب والتلاقي، فالشيء ، كما يقولون ، بالشيء يذكر، يطل في خاطرى بعاد من نوع آخر، فراق من صنف مختلف، أنه ذال البعادج الناتج عن العناد.. عناد من نحب .. فقد ينبت التناقض أحيانا بين المشاعر ، ويبدأ الصراع العاطفي والاختلاف الفكرى ، فتنفجر كوامن الغضب ، مما يؤدى الى الهجر والفراق .. والبعاد!

       لماذا ؟ لأن الكلمة التى تخرج من الفم مستحيل أن تعود .. لذلك تصبح المسألة هنا مسئولية اختيار الكلمة المناسبة التى تقال ساعة الغضب والحنق والثورة والانفعال.

***

       فمع الاسف ، قد ينفعل البعض الى الحد الذي يفقد فيه سيطرته على نفسه ، فيتفوه بكلمات جارحة تؤذى العور ، وتسبب جرحا اليما للنفس ليس سهلا أن يمحي أو أن يزول.

       العجيب ، أنه رغم وجود الحب نابضا في قلوب الغاضبين المتخاصمين ، الا أن التذرع بالكبرياء قد يظل حائلا مانعا دون اتمام هذا الصلح المرتقب، الذى تتوق اليه القلوب وتنتظر بوادره بفارغ الصبر.

       و.. بمجرد أن يبدأ طرف ما في التلميح ببعض هذا الحب الذى كان ، أو مازال ، حتى نجد الطرف الثاني قد فهم المغزى والمعنى والمراد ، وانطلق نحو ريك حياته راكضا لا يلوى على شيء كأنه في سباق الماراثون مثلا!

       لكن .. قد كتفي معظمنا باخفاء حقيقة احساسه، فلا يفصح عن أفكاره ويكبت مشاعره وهنا لا تتم مواجهة الموقف مواجهة سليمة أو حكيمة، وهذا يعد فعلا قلب الضعف وعين الخطأ. نوبح بما يضايقنا كي لا نكرر اخطاءنا ، تلك التي نترك تقديرها وتبريرها لذكاء الطرف الاخر، الذي ربما يكون قليل الخبرة.. محدود الذكاء.

       اليكم ما تبوح به هذه البيات:

       فجر أطل على بالأشواق

                                  والقلب يحفزنى ليوم تلاقي

       فطرت ثقل السهد لأثقل الكرى

                                  قلبي بوثبته يسابق ساقي

       عيناى أم قلبي أم القدم التى

                                  حثت خطاها في مجال سباقي

       هذا قليل قد شرحت دفينه

                                  وعلى ذكائك انت فهم الباقي

       آه .. أليس من الأفضل اذن أن نأخذ جانب الحيطة، وأن نكون على حذر حتى لا نسيء التقدير ونظن “خطأ” أن المحبوب عميق الفهم واسع الذكاء ، في حين قد يكون لا سمح الله بطيء الفهم .. عديم الذكاء.


الحب .. يصنع التاريخ !

       قرأت مقال “الحب بعد حرب الخليج” للزميل الأستاذ عبد الله باجبير، حياه الله، وهنا توقفت عينى بلا حراك مكانها ، تسمرت فوق الأسطر، تحجرت بين الكلمات، رفضت بشدة أن تغادر موقعها، وهي تنقل شاخصة محملقة صورة هذه العبارة الرائعة إلى عقلي.

       والحب بعد ذلك كله كلمة نستخدمها كثيرا ونفهمها، وهي كلمة صغيرة الحجم، ولكنها تحتوى العالم.

       تعمقت في المعني، فكرت به أيضا.. فكرت أن أكتب في موضوع آخر بعيدا عن فكرة فهم الحب هذه، لكنني لم أستطع. حاولت فعلا أن أتجنب الخوض في موضوع رقيق دقيق حساس كهذا، الا أننى وجدت قلبي يتجه لا شعوريا الى الخفق له، ورأيت قلمي ينتحي تلقائا للتعبير عنه.

       بعدها ، تبعتها، انطلاقا من قناعة حرية القول والفكر والرأى، فهذه هي بديهيات الصحافة الحرة، وهذا هو تعليقي .. وتلك هي قناعتي.

       الحب .. حقا كلمة نستخدمها كثيرا ونفهمها قليلا. لكن .. ما هو الحب أولا حتى نستطيع ان نفهمه ثانيا؟ ما هو تأثيره علينا وكيف تدخل ويتصرف في أدق أمور حياتنا ؟ بل كيف يحرك حاضرنا، ومستقبلنا؟ وكيف يصنع تاريخنا؟

       الحب.. كما يعرفه علماء النفس والأطباء النفسيون، وعلماء الاجتماع وعلماء الأجناس والتربويون، وذلك من خلال عدد لا حصر له من الأبحاث والدراسات، والتحليلات، والاحصاءات، والنظرات.. الحب هو استجابة تعليمية، وعاطفة انفعالية تتعلم.

       نعم .. هم قولون مؤكدين أن الانسان يستطيع أن “يتعلم” ، وأن يفهم “ويعرف” كيف يحب، وإن هذا أمر مرتبط مبارة بقابليته للتعلم من هؤلاء الناس المقيمين في بيئته، المخالطين له، والذين سيعلمونه العديد من انماط الثقافة ، وأنواع المعرفة.

       اذن.. اذا كنا نحن قادرين فعلا على “تعلم” الحب ، كما نحن قادرون على تعلم أى خبرات ومهارات أخرى، لابد أن نعرف أولا ما هو الحب؟ لماذا ؟ حتى نستطيع أن نفهمه، ونتعلمه.

***

       الحب .. تأثير في كائن، وتأثر بكائن، ارسال منك، واستقبال عندك.. لكن، للأسف ، بعض الناس لا يذهب مفهومهم عن الحب عادة أبعد ولا أعمق من المفهوم الخاطئ الشائع، الذي لا يخرج عن معنى الجنس والجاذبية، والحاجة والأمن ، والخيال والأمان، والرعاية والاهتمام.       

الحب .. صحيح يمل كل هذه المعاني مجتمعة ، في الوقت نفسه يتجاوز تماما ، بل ويختلف عنها كلية.

الحب. ثبت أن الناس لا يتناشقون ماهتيه، ولا يعرفون مضمونه، ولا يفكرون في ذلك، لأن ماهيته انسان يعيش الحب بطريقته الخاصة، ويظل حبيس اطاره المحدود. غير مكترث بأن تقوقعه فيه، وتوحده داخل نفسه، وعزلته بعيدا عن المجتمع ، والاستغراق في الاحلام والآمال، وما تسببه له تلك التصرفات من اضطراب نفسي وفشل عاطفي، راجع الى نقص معرفته عن الحب!

حقيقة. نحن أغلنا لم نتعلم ابدا كيف نحب. نحن في الواقع نلهو بالحب ، نعبث به، نتعامل معه، كأنه لعبة الرابح والخاسر.. والشاطر اللي يكسب !! للأسف الشديد.

والآن فكروا معي أرجوكم. الأ تجدون أحيانا كثيرين يموتون من الوحدة ، يشعرون بالقلق ، يقاسون الخواء الداخلي يعانون الفراغ العاطفي، رغم ما يبدو عليهم من ارتباطات إنسانية كثيرة وعلاقات اجتماعية عديدة!

مع ذلك، ورغم ذلك، يظلمون يبحثون داخلهم وحولهم عن شيء ما يفتقدونه ، شيء خيالي يجسدونه في مخيلتهم ويسغون عليه الصفات الحلوة التى تعجبهم وتثير عواطفهم واحلامه وخيالهم. في هؤلاء يقول الاعر:

وحيد غير انى في زحام

من الأماني تترى والرجاء

وطيف عبقر في خيالي

وحيد الذات مختلف الرواء

هؤلاء الوحيدون، المنعزلون، حتما لا يعرفون أن لكل انسان طاقة مختزنة للحب. هذه الطاقة لا تنشط أبدا، ولا تحقق أثرها الا بالعمل وبذل الجهد.. هذا ليس معناها العذاب والضنا والبكاء والالم.. لا.

الحب.. شيء آخر جميل منعش بهيج، الحب حقيقة يتعلم ، وأفضل تعليم للحب عندما يكون مثيرا للاعجاب والسكينة والفرح ، والتوقد والتوهج والانفعال، والعطاء.

***

       ونحن اذا رجعنا الى خط البداية، عندما يولد الطفل نجده لا يعرف شيئا عن الحب، ولد لا حول له ولا قوة ، يكاد يجهل كل شيء حوله، يعتمد تماما على غيره ، ويكون على استعداد لتلقي كل شيء.

       ومع نمو الطفل تعلم من عالمه المحيط به، ومن الاشخاص المحيطين به، كيف يرتبط بهم ويتعامل معهم ، ومن هنا يبدأون يعلمونه معني الحب!

       وفي هذه المرحلة المبكرة جدا من العمر تبني بالكلمات والعلاقات، والروابط والأفعال ، والمسؤولية، والثقة والفرح والاهتمام.. تبني دعائم الحب. حين ذاك يتعلم الطفل الصغير لغة الحب.

       فهل ترانا نعرف أن الطفولة مرحلة هامة حاسمة في حياة الانسان، وان نتائجها تتداخل وتتشابك لتصنع فعلا تاريخ الانسان؟!

       أعتقد أننا قد بدأنا الآن “نفهم” معنى الحب، لاب قيمة الحب في حياتنا، حاضرنا ، مستقبلنا، تاريخنا!

       فهل نستطيع اذن أن نتعامل مع الحب من منطلق جديد بمفهوم آخر جديد يترفع عن صغائر وغرائز المعنى الحسي، ويتعفف عن الخوض في مثل هذه الترهات والسخافات؟

       ترى.. متى ترانا ندرك أن الانسان الطيب الممتليء “حبا لا حقدا” ، هو الانسان الصادق القادر حقا على البذل والعطاء والتنمية والتضحية، والتعمير لا التدمير ، والتشيد والبناء .. لا الهدم والفناء؟!

***


00 لقاء الحب كله![9]

فرحت… فرحت قوى.. طرت من الفرح وأنا أسمع صوت مدام فوقية مديرة مكتب  “اليقظة” فى القاهرة تسأل عنى وتستفسر عن أخبارى، فهمت على الفور أنها تحمل لى عبر نبراتها بشرى سارة مفرحة. يصدق حدسى، فإذ بها تقول لى أن “اليقظة” ستعود إلى الظهور خلال أسابيع قليلة وأن الأستاذ أحمد كلفها بالإتصال بى وإخطارى بذلك وسؤالى عما  إذا كنت أوافق على الكتابة بها أم لا ؟!

أصرخ فى أنفعال شديد : طبعا موافقة .. يا خير يا مدام فوقية .. معقول أرفض أرجع بيتى ؟! ده يوم المُنى .. ده اليوم اللى أنا بستناه من زمان.

تمضى دقائق قليلة، تعود بعدها مدام فوقية تتصل بى ثانية تؤكد لى تقدير الأستاذ أحمد وامتنانه ورغبته فى الحصول على “المواد” بسرعة نظرا للإستعداد الجارى على قدم وساق لقرب صدور “اليقظة”.

توضح مدام فوقية الصورة أكثر، تحدد طلب ( حكايا حب ) حسب رغبة الأستاذ أحمد   .. حكايا حب؟! آه يا قلبى .. هل تحتمل فرحة  اللقاء بعد كل هذا الشوق؟! هل تقوى على التعبير عن ذاك الحب المكنون طوال ذلك الوقت ؟!

اجيب مدام فوقية مؤكدة أن لقائى مع قراء “اليقظة” سيكون حتما .. لقاء الحب كله!   

وها أنا اكتب الآن وحب الدنيا كله يضج فى صدري، يصطخب فى قلبى، لكننى فى  نفس الوقت لا أستطيع أن اكتب حكاية حب واحدة، فكل ما فى ذهنى فى هذة اللحظة بالذات هو صوت آلات الطباعة، ومنظر تجمع دور الصحف فى الشويخ، وشكل الدائرى الرابع.

آه .. إننى أرى الحين مبنى “اليقظة” الأنيق . أننى .. اننى..

اننى أحاول أن أكنت ما طلب منى لكننى لا أستطيع، فعلا لا استطيع. فكايا حب       تتكلم عن مشاكل حصلت بين شباب وفتيات بسبب الحب، لكننى بعد أن سمعت هذا الكلام من الأخت فوقية ظهرت امامى مشكلة وحيدة ظلت تحتل وجدانى وتسيطر على كيانى ..!

مشكلتى .. هى اننى أحب بلدا بالكامل .. باحب الكويت جدا، باحب البنات، باحب  الشباب، باحب البحر، باحب الشمس، باحب الرمل، باحب حتى الحر .. باحب الناس كلهم   باحب كل شبر من الأرض، فكيف اكتب عن مشاكل حب..  وأنا أعانى مشقة التعبير .. عن     كل هذا الحب ؟!

لكن .. اليوم لا توجد مشكلة، فالمطابع تدور، والحبر يلون الورق، والملازم                     تطوى، والحبيبة “اليقظة” تظهر، وينطلق الصوت جميلا باهرا هادرا فى أجواء الشويخ،  انه صوت المطابع الذى تخفق له القلوب وتفرح به النفوس.

اه .. هناك صوت آخر رائع، انه صوت السيارات تجرى وعليها اجمل لوحة معدنية       فى العالم، لوحة بيضاء فاتنة تكحلت بأحرف سمراء ساحرة الكويت – س.ل “الكويت أ. ع” الحمد لله .. الحياة تعود إلى سابق عهدها .. الحمد لله

اننى اتذكر لما كنت فى لندن، فى الصيف الماضى، وكيف فجاة تدمرت حياتى مرة واحدة، فزوجى انقطع الأتصال بة ولم أعد أعلم عنه شيئا، وأولادى أوراق تعليمهم فى مدارسهم فى الكويت ولا نستطيع أن نحصل على نسخ منها وحتى فلوسنا سواء التى كانت فى الكويت أو لندن توقفت، تجمدت، ولم نعد قادرين على أن نسحب منها فلسا .. أو بنسا!

ياربى 00 احسست فى لندن فى ذلك الوقت ان حياتى طارت فجاة فى لحظة، أختفى الشعور بالأمان والإطمئنان، احسست برهبة فظيعة، ومسئولية كبيرة مخيفة مرعبة …!

ثم.. يأتى.. الفرج من عند الله، التحق بالعمل فى مجلة “سيدتى” تلك المجلة السعودية الواسعة الشهرة، الذائعة الصيت، التى يوجد مقرها ومركز ادارتها فى ذلك المبنى الشاهق العملاق الكائن فى وسط لندن.

الحمد لله .. ها أنا أعود إلى نفسى، أتمالك ذاتى، بممارسة العمل الصحفى الذى أحب وأعشق والذى استطيع من خلاله التنفيس عن مشاعرى، فاحس أمانا وهدوءا  ايضا .. من رابع المستحيلات أن انسى موقف الأستاذ عبد الله باجبير رئيس تحرير  “سيدتى” عندما طلب منى فى ذاك الوقت العصيب أن اتصل بالأستاذ أحمد بهبهانى رئيس  تحرير مجلة “اليقظة” وأن أقوم بابلاغة استعداد أسرة تحرير “سيدتى” ورغبتها الاكيدة فى المشاركة فى إعادة اصدار “اليقظة” عن طريق طباعتها فى مطابع المجلة فى جدة بالمملكة العربية السعودية . نعم .. ليس هذا السلوك بمستغرب بين الأخوة الاشقاء.

يجيء رد الأستاذ أحمد بهبهانى شاكرا هذه البادرة الأخوية الطيبة، قائلا أنه يفضل الأنتظار حتى وقت آخر قريب، حين تتضح حقيقة الأمور وتتحرر الكويت. أبقى أتابع عملى فى لندن، حيث المقر الرئيسى لأسرة تحرير “سيدتى” وحيث يكون “الموقع” الصحفى القريب، عاملا ملطفا من وحشة الغربة، مخففا ضراوتها، مقلصا قساوتها.

بعدها .. تتملكنى قناعة أكيدة بأن قرائى الأحباء سيعرفون مكانى الحالى، وسيتابعون عملى حيثما يكون، وسيقرؤن لى أينما كنت، ويصيب توقعى والحمد لله .. احس الاتياحا هائلا وأنا التقى بين فترة وأخرى صديقات وقارئات كويتيات يقلن لى أنهن يتابعن ما أكنت فى   “سيدتى”

آه .. يالتقديرى واعزازى لهؤلاء القارئات الصديقات الحبيبات ، اننى ابدا لا أستطيع أن انسى “مريم” تلك الشابة الكويتية السمراء الحسناء، سوداء الشعر حريرية البشرة عميقة العينين، مستحيل يا مريم ان انسى بسمتك الحلوة الحانية، وصوتك الهادىء الحنون حين بادرتنى بالتحية والكلام فى احد محال الأزياء فى لندن.

أيضا .. لا أنسى ” ابتهال ” تلك الفتاة الكويتية المحجبة، وأمها العجوز المسنة التى سلمت عليها وهنأتها بسلامة “البنية” الشابة وسلامتها و .. سلامة الكويت. وهما أيضا      هنأتانى بسلامتى وتمنيتا لى قرب العودة إلى الكويت .. ودعتهما وصوت الأم الطيبة الرؤوم يسكن أذنى:

  • حمدا لله على السلامة يا بنيتى 000 حمدا لله السلامة يا بنيتى.

آه .. يا قلبى .. آه .. كيف بالله تحملت كل هذه اللحظات المؤثرات؟ اتعرفون ؟!..

سأقول لكم سرا .. اننى منذ عايشت التلفزيون فى تلك الأيام العصيبة اللعينة السوداء، صرت     لا أطيق رؤية شاشته “المصدية” أقصد “الفضة” .. فعلا 00 كرهتها .. عفتها ورحمة بقلبى      “الموجوع” قاطعتها وتركت أمورى كلها على الله فالله خير الحافظين  اننى مازلت أذكر، كأنها بالأمس، أوقات الفرجة على محطات ارسال العالم من واشنطن، إلى موسكو إلى لندن إلى باريس إلى هونج إلى بلاد الماو ماو وجزر الواق واق 00 كنت أقلب المحطات لأسمع كل النشرات، بكل اللغات واللهجات، التى أفهمها والتى لا أفهمها، فقط .. ابحث عن أخبار تبعث الأمل فى نفسى علها تطمئننى بإذاعة نبأ اتوق إلى سماعه 00 نبأ تحرير الكويت.

اه .. كم كانت أعصابى مشدودة وحياتى مهددة منكوبة .. نعم كانت المصيبة كبيرة والنكبة فادحة، ففجاة .. تحولت الإمتيازات إلى مصائب، فطول عمرى كنت حاسة انى انسانة سعيدة، محظوظة، موفقة فى حياتى والحمد لله، وفجأة وجدت نفسى “مقطوعة” فى بلد غريب بعيد، فقير فى المودة، خال من الألفة والترحيب!

هنا فى ايام الغربة الفظيعة العنيفة هذه، التقيت كثيرا من الصديقات الكويتيات ، فى أول الأمر كان الجميع فى حالة صدمة أصابتهم بذهول، لكن، بعدها، اندفعوا كل فى إتجاه فالشباب قفز إلى الطائرات وقفل راجعا إلى السعودية ومنها إلى الكويت للمشاركة فى المقاومة ..

والفتيات شاركن فى العمل الوطنى الإعلامى، وقمن بكل ما يمكن أن يؤدينه خلال اجتماعات دورية كانت هى المحرك وراء الكثير من المواقف والإحداث التى ترفع الروح المعنوية، فمن مشاركة فى المظاهرات، إلى تصميم الشعارات وطبع الملصقات والاعلام وارتداء الفانلة القطن “تى شيرت” وعليها شعار “الكويت حرة”

فعلا.. كان رائعا وعميقا ومؤثرا، منظر أولئك الفتيات الصغيرات وهن يرتدين تلك الفانلات، ويحملن بأيديهن أعلام الكويت، وذلك الشعار المعدنى الذى كان يلمع على صدور الكل وعليه شعار “الكويت حرة” ويتظاهرن ويتجمعن فى أنحاء لندن.

كذلك لا أستطيع أن انسى منظر المرأة الكويتية الزوجة والأم، وهى تنتقل بكامل حجابها بين المتاجر والمحلات تشترى أغراضها وتتعامل بلغة انجليزية تقضى بها مصالحها  وتلبى احتياجاتها.

أيضا الرجل الكويت، ذاك الاقتصادى النابه المشهور بصددق الحس المالى والمعروف بنجاحه فى إدارة المشاريع، وكبرى شركات الاستثمار، بذكاء فطرى نادر، وموهبة فائقة بارزة، ها هو يتجه الى العمل فى إدارة الأعمال وعقد الصفقات والعمل فى مجالات العقارات .. رغم تجمد الأموال فى البنوك!

يا إلهى.. كم هو قادر على تجاوز الصعاب ذلك الشعب الكويتى؟! حقا إنه شعب يستحق التقدير والإعجاب، فتلك المحنة التى ترتج لها الجبال لم تحن ظهره، ولم تتقل كاهله ولم توقف كفاحه أو تعوق تقدمه ..  !

وكان مرأى الأمير، الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح عبر وسائل الاعلام باعثا على الشعور بالأمان والأطمئنان، والثقة والتأكيد بعودة الكويت إلى الكويتيين ورجوع الكويتيون  إلى الكويت.

حمدا لله .. عادت الكويت ورجع أهل الكويت، ورجع إيقاع الحياة اليومية، وعاد الأطفال إلى المدارس، وسوف يتشاجرون فى الفناء مرة أخرى، وسوف ترتفع أصواتهن عندما يخرجوا إلى الطريق يلعبون، ويعبثون، وسوف تنتشر رائحة الشواء  فى المطاعم، وسوف تدور اسياخ الشاورما والدجاج بجوار أبوابها وسوف يتلاقى عندها الشباب.

وسوف تتألق شوارع الكويت ودورها ومبانيها وبيوتها، وسوف تشرق دوما بأهلها وناسها ورجالها، وعلى رأسهم أميرها وولى عهدها.. حياهم الله.

واليوم .. بعودة الحياة إلى سابق عهدها وطبيعة أيقاعها، سوف تعود تتلاحم السيارات ببعضها من شدة الزحام فى أوقات الذروة، وسوف يتشاجر الأطفال مرة أخرى، وسوف يقع الشباب فى مشاكل الحب مرة أخرى.

آه .. ما أروع الى الحياة بكل أحداثها، ومشاكلها، وظروفها 0 فعلا 00 ما أروع المحن وعبور الصعاب، فقد التأم جرح أسرتى، والتم الشمل بعودة زوجى الينا سليما  معافيا ، وبنجاح أبنائى فى دراستهم بعد التحاقهم  بالمدارس الإنجليزية فى لندن ، وبرجوع أموالنا الينا كما لم تقص دينارا أو جنيها واحد!

حمدا لله 00 عبرت الأوقات الصعبة ومرت المحنة، وها هى الأيام الجميلة الباسمة تشرق، تضئ من جديد لحظات حياتنا.

وها أنا استعيد كامل قوتى وانطلق نحو الطموح والأمل، مسلحة بالإيمان والتفاؤل والقناعة والعمل.. وحب الناس والذات 00 والحياة.

طبعا أريد أن أذكركم إن عنوانى الآن هو: مجلة اليقظة ص. ب 6000 الصفاة الكويت. أرجو أن تكتبوا لى من جديد. وأنا منتظرة خطاباتكم ومشاكلكم وأفراحكم.. أريد    أن اسمع منكم، فاكتبوا الى عن كل شىء.. كل شئ.

ومرة أخرى سوف نبدأ 00 مرة أخرى سوف نبدأ 00 فإلى لقاء..

وهو العدد الاول الذى صدر بعد تحرير الكويت.

***

 

 

 

 


أحلى زمــان ..

فى عمرالانســان.[10]

اذا افترضنا أن للزمن شكلا وهيئة ومظهرا، واذا اعتبرنا أن للوقت طعما ونكهة ومذاقا، هل يمكن فى هذه الحالة أن نقسم الزمن إلى قبيح كريه منفر، وجميل لذيذ مستساغ؟

اقصد 00 أذا كنا نستطيع تقسيم الزمان إلى انواع، منها الجيد والسيىء، فكيف يمكننا ان نقيم الوقت، وعلى اى اساس نصنف الزمان؟

المسالة بسيطة جدا. فلو نحن اعتبرنا ان الزمن انواع واصناف، لاستطعنا بالتالى أن نحدد الصنف السيىء والاسوأ والجيد والاجود .. اليس كذلك؟

نعم كذلك. نكمل الكلام؟ طبعا نكمل الكلام. اذن 00 اقوم:

الزمن يخضع حتما لقيمة الوقت ، اعنى التوقيت ، فالزمن الوحيد الذى نمتلكة حقا هو الزمن الحاضر، اللحظة الحالية، تلك التى نستطيع أن نحكم فيها، ونتحكم بها، ان نكيفها   حسب مزاجنا، ونشكلها تبعا لاختيارنا، فان أن نجلها لحظة حلوة حبيبة مفرحة، واما نجعلها لحظة بغيضة مقيته مقبضة!

نحن اذن نعرف كيف نحرك صمام الامان، فاما ان نفجر اللحظة شذرا، ونبدد ما احتوت من احاسيس وانفعالات، واما ان نكثف اللحظة، ونؤكد ماحوت من مشاعر وافكار  وافعال، عندئذ .. نقدر على ان نستمتع ونستلذ بها، ونستزيد منها، ونظل نحوم وندور حولها!

هذا التحكم ينبع من داخلنا، يخرج من وجداننا، يدير بقوة واقتدار .. عقلنا. فاذا كنا نمتلك عقلية قديرة عميقة قادرة متمكنة، لعرفنا اذن كيف نفكر باسلوب حكيم قويم، يعين على “انتقاء” فكر حلو، يصحبه حتما شعور حلو، يأتى معه بالتالى، زمن حلو يحفل بالفرح والسعادة والحبور.

حقيقة.. كل شىء أعنى، كل احساس، ينبثق من داخلنا، من عمق أعماقنا، من   وجدان وجداننا، يكون قد تكون قد تكون  لاشعوريا من خلاصة تجاربنا مع الذات والناس والزمان ..! 

فالانسان المتمرس بما يكتسب من خبرة تمنحه إياها تجارب كثيرة سابقة، يقدر أن    “يدير” عجلة الزمن الدوارة لصالح نفسه، وخدمة ذاته، وتكريس ظروف حياته بما يساعده على تحقيق السعادة بابهج صورها، وابلغ معانيها، بعدها، يعرف كيف يتحكم فى انتقاء  نوعية اللحظة، واختيار صنف الزمن الذى يعيشه، فربما يجعله ورديا ورديا، او رماديا  رماديا!

الاجتيار هنا لا يتأتى عشوائيا عشوائيا أو عفويا، كما انه لا يأتى صدفة أو تلقائيا، لانه كما قلت من قبل، هو اختيار ينبع ذاتيا من أعماق الأعماق، يصدر لا اراديا من وجدان الوجدان، ذاك الذى يصوغ على الفور قالب الزمن، كما يطبع اللحظة فى الحال بختم الحزن والغم والهم، أو الفرح والحبور والسرور!

أعتقد اننا كلنا نعرف أن الزمن شى لا يشترى، وانه الشىء الوحيد فى هذه الدنيا الذى   لا يستطيع ان يستعيده انسان، أو يسترده انسان، أو يمتكه كائن كان!

ان اللحظة، اللمحة، لو وضع مال الدنيا كله مقايضة لها، لما امكن شراؤها، لان عقارب الساعة لا ترجع. انها تبقى تتقدم تتقدم، لكنها .. لا ترجع ابدا الى الوراء!!

لذا .. كى يبدو غريبا وعجيبا عندما يعتقد البعض أن انتظار الزمن الاتى هو عين العقل ورأس الحكمة، وان ترقب المستقبل هو أفضل تصرف وخير تعامل مع الوقت الحاضر .. انهم للاسف لا يعيشون عمرهم الواقعى فى ذات اللحظة الحالية، لانهم يكونون مرتبطين بالماضى، أو مشدودين الى المستقبل!

كذا .. يفلت الزمان من بين أيديهم، تتناثر الدقائق والساعات حواليهم، كأنها تراب يتطاير هراء، بلا معنى ولاقيمة ولاعطاء، فقط يضيع الوقت أملا فى لقاء غد، فى الواقع .. قد لايأتى أبدا!

لكن .. لو استطاع الانساع أن يتحكم فى نوعية الزمن الذى يعيشه، وان “ينتقى”  صنف الوقت الذى يعايشه، لقدر فعلا أن يصبغ اللحظة الحالية باللون الجميل الذى يريده، ولعرف كيف يضفى على مذاقها النكهة اللذيذة التى يرغبها ويحبها!

حينئذ، سيكون قد عرف حقيقة الشعور الرائع الموحى بمعنى السعادة، وسيستمتع حينذاك بذات التأثير الكبير الذى تشعه أعماقنا، ذاك الذى يعتمد تماما على نظرتنا (نحن ) لما حولنا، وشعورنا “نحن” بما يحيط بنا!

هذا هو معنى الوجدان فى الإنسان، فان يكون انسانا مرحا بشوشا، أى سعيدا لهو انسان بالضروة يتمتع بوجدان قادر على تذوق الجمال، حافل بالعاطفة .. هذا هو ما يتميز به الانسان تميزا واضحا عن غيره من باقى الكائنات!

لذلك المطلوب منا أن نطرد الحزن بعيدا عنا، وأن نتأكد اننا لا نعيش فى الدنيا وحدنا، وأن نستبدل الوجوه المتجهمة الكئيبة العابسة بتلك المبتهجة المشرقة الباسمة.

أيضا لابد أن نحاول استبدال المشاعر المحبطة المثبطة بأخرى مثيرة مشجعة      منشطة، تبث فينا الأمل والبهجة والتفاؤل، وحب الحياة.

بصراحة اذا عرفنا كيف يمكن أن نعيش سعداء، وقبل ذلك كله، اذا عرفنا كيف            نختار “نوع” الوقت وننتقى “صنف” الزمن وأن نجعل لحظاتنا حافلة بالمحبة والحنان         والاحلام، سوف نكتشف فورا اننا قادون ببساطة وسهولة على استقبال حياة أخرى تماما .. حياة سعيدة جدا.

حياة حلوة جدا، جميلة بهيجة، مضيئة، ملونة، حياة .. جديرة حقا أن تعاش ، لأنها ستكون حياة هانئة، وادعة هادئة، خالية من تلك المتاعب التى قد يضعها الانسان لنفسه، ويصنعها لذاته، أو ربما يختلقها أحيانا لعكننة الآخرين ومضايقة بعض الناس!

الآن .. بقيت عندى كلمة أخيرة أحب أن أقولها .. اذا كانت البسمة .. كما يقولون .. هى أقصر طريق إلي القلب، فلماذا لا نبتسم؟

أظن اننا عندما نبتسم نكون قد منحنا أنفسنا لحظة سعادة مشعة مفرحة مشرقة..         تجذب الآخرين نحونا.

هؤلاء الأحباء الغاليين على قلوبنا، الذين لا تحلو بدونهم أوقاتنا، ولا تسعد من     غيرهم أيامنا ولا تفرح ولا تهنا الا معهم، وبقربهم وجوارهم ووجودهم نفوسنا، وأرواحنا .. وحياة حياتنا؟!

****

 

 

 

 

 


كنـــت أود أن ..[11]

.. يستمر الهواء يداعب ستائر الغرفة الساكنة الواسعة، وضوء المصباح الوحيد بها يرسم  دائرة صغيرة من الضوء حولى، تؤنسنى، تحيطنى بمشاعر ود تخفف حده الليل الذى يرخى سدوله على الكون الهادى الناعس الوادع، فى تلك الساعة المتأخرة ..!

أجلس وحيدة منفردة، ساهمة مسهدة، تتنازعنى رغبة أكيدة فى لقائكم، والتحدث      معكم (بصراحة) عن أمور خاصة وشخصية أقتنعت بصرورة البوح بها، والكشف عنها،     كى تعذرونى، ولا تلومونى .. فإذا عرف السبب بطل العجب ..!

طبعا، بسبب الحب الكبير الذى يربط بيننا، وبسبب الصلة الحميمة التى كانت ولم  تزل تجمعنا ببعضنا، لن أخفى عنكم معاناتى، ولن أتحرج فى مداراة إجهادى وكثافة مسئولياتى، التى أخذت مع الوقت تحتل مساحة أكبر من وقتى .. ومن حياتى!

صحيح، ترددت أكثر من ألف مرة قبل أن أتخذ قرار التوقف عن الكتابة، كررت المحاولة مرات لا تحصى ، محاولة الجمع بين المسئوليات الجديدة ، ومسئولية الكتابه المستمرة الا أننى لم أفلح الا فى شى واحد هو التعدى على راحتى البدنية والانقاص من عدد ساعات نومى وتقليص فترات إسترخائى ، مما اصابنى بارهاق فظيع لم أعد اتحمله …!

نعم، فكلما هممت بالتركيز والتفكير فى إختيار موضوع ما أتكلم عنه، اذ بافكار  أخرى منافسة، وظروف طارئة، تنتاب عقلى، تجتاح ذهنى، تدهمنى، وإذ بى فجاة أغرق وألف وأدور فى دوامة تفكير عيق متصل يتعلق بأمور كثيرة كثيرة، عن الاسرة، وإحتياجات البيت، ومشاكل الخدم وإصلاح السيارات، وبكاء ابنتى الصغيرة وحاجتها للمساعدة فى دروسها والترفيه عنها، والوالد الكبير المسن وحقه على فى الرعاية والعناية، وواجب السؤال عن الأهل والصديقات و.. و.. ألخ     ألخ     ألخ!

آه ياربى .. الحل ايه؟ طيب وبعدين ؟!

كيف أستطيع أن أستمر فى الكتابة وأنا لا أعرف كيف اتخلص من كل هذه الأفكار التى تتزاحم فى رأسى، فتسابق خراطرى، تطفىء إحساسى برحيق الحياة، تخمد شعورى بكل ما هو رومانسى، عاطفى .. شاعرى!!

آه .. كيف أستطيع أن أركز، أن أفكر، أن أكتب، وكثرة التفكير فى الظروف  المحيطة بى تصنى عقلى، ترهق ذهنى، تثقل روحى؟! أننى حين أستعرض أحداث النهار السابق، واليوم الذى قلبه وقبله، تختلط الصور فى خاطرى فتشوش خلجات نفسى، تفسد إحساسى الحقيقى بحلاوة اللحظة .. تسلبنى المتعة العظيمة التى إعتدت دوما أن أعيشها كلما أمسكت قلما .. وسطرت ورقا!

ياه؟! ما هذا؟ إننى لا أريد أن ينافسكم شىء ما فى قلبى، ولا فى مساحة زمن عمرى، لذا لا أرعب أن أضعكم فى مجال موازنة، أو ميدان إختيار بل أريد وأتمنى أن تكون لكم   الأولوية المطقة فى كل شىء .. لذلك قررت أن أخبركم بظروفى القاهرة، واعلمكم بأحوالى الحالية كى تقدروا (كم) معاناتى، وتتقبلوا وضعى، وتغفرو إنسحابى وتبرروا إنقطاعى ..

       لأننى فى الحقيقة أشعر إننى تغيرت، لذا لا أريد أن أترك مسئولياتى تتصارع داخلى، فتمعن فى تغييرى، وتزيد من إحتياجى إلى أوقات حلوة، حميمة، رائعة، أقضيها  معكم سعيدة بكم، مستمتعة بصحبتكم الحلوة الحبيبة الحانية.

حقا أننى لا أطيق أن أقع صريعة ذاك الإيقاع السريع، المهلك، المرهق، المستمر، الذى يستهلك أغلب وقتى، ويستنفد معظم طاقتى .. مما يكاد يحولنى إلى آلة مبرمجة صماء .. بلاحس ولاشعور!

و.. يطيب نسيم الهواء ليلا، يصبح الجو هادئا وادعا ناعما، فأحاول أن أجعل القلب ينساب هائما حالما فى محاولة جادة من أجل إبداع مقال موحى حلو، إلا أنه يتصادف فى تلك الليلة بالذات أن تمرض صغيرتى، حبيبتى، وتظل تلح تطلب وجودى بجانبها .. فاترك كل   ما فى يدى، أرقد بجوارها أضمها إلى صدرى، أحضنها بقلبى، داعية الله أن يخف عنها  ويأخذ بيدها ..

لكن .. تستمر ترتفع درجة حرارتها، يزيد إضطرابى، أحس خوفا هائلا لم أحس به من قبل، أغلق عينى، أخفى وجهى عنها كى لا تلمح دموعى وتحس قلقى، أحاول أن أهدأ إلا أن الأوهام تطاردنى وما تلبث أن تغيم الدنيا فى وجهى، وجزعى على صغيرتى يتضخم عملاقا عاتيا، أتابع بلهع درجة حرارتها فى تلك الليلة الطويلة التى قضيتها ساهرة حتى طلوع النهار، وإلى أن بدأت تنخفض درجة حرارتها.

       تروح صغرتي في سبات عميق، إثر ليلة عصبية مع ومضات الألم، وكمادات خفض الحرارة، وسرعان ما ألحق بها وأنا لا أدرى عن الدنيا أو الوقت، أو الكتابة شيئا..!

       فعلا .. صحبة القلم تحتاج إلى (بال رايق) فعندما يغفو العقل تستيقظ المشاعر، يهدأ الفكر، يسكن الذهن، فتنسل الأحساسي، ترتاح النفس كأنها تصفي ما علق بها من أحمال وأثقال وأدران.

..حينئذ .. تتدفق الروح حنانا ترتفع على بساط الاحلام، تطير على أجنحة عذب الخيال، فلا تعود تعانى فترات ضيق، أو تقاسى مشاعر وحشة أو وحدة تعيسة محبطة، قد تنعكس دون قصد عبر كتابة إنفعالية تتناقض ومسئولية الكاتب فى أن يمنح الناس الأمل والفرح والحب حتى فى أحلك لحظات الحياة.

لكن .. قد نقول أن الكاتب أيضا بشر، إنسان، من حقه أن يزعل وأن يحزن، فنحن   لا نملك أن نمنع الكاتب من الحزن أو أن نطالبه بأن يفرح ويبتسم وهو فى مأتم، لا.. إننى لا أقصد ذلك، إنما أود فقط أن أقول، إن الكاتب لو تعرض لضغوط ترهقه، تثقل عليه، أيا    كان نوعها أو صنفها، فلن يستطيع أن ينقل إحساسا خالصا للقارى المتلقى ..

بعدها، ولن تتحقق له بالتالى العدوى الشعورية، ولن يستطيع أن يوثر عليه، أو  يتفاعل معه ..

لذا .. بما أننى أشعر مثل أى (كاتب) أولا، وأى إنسان ثانيا، أن طاقتى تخذلنى، لأول مرة فى حياتى، وأن خلجات خاطرى ما عاد يتردد صداها فى انحاء وجدانى، وحنايا روحى، وجوانب ذاتى، يتحتم على إذن أن أخفف أعبائى المهنية، وأن أقلص حجم العمل الصحفى الذى أمارس إلى النصف، كى أقدر أن أتابع، وأن أعطي، وأن أعيش، وقبل ذلك  كله كى أقدر أن  أستمر ..

.. أعود أطالع أبنتى، أتلمس جبهتها بخدى، أقبلها بهدوء فى وجنتهيا كى لا أوقظها، أتاكد أن درجة حرارتها تنخفض، أرتاح بعد أن تهدأ مخاوفى، ويخف قلقى، فأحس  أن هناك ما يثلج نفسي ويشيع في روحي بردا وسلاما وإبنتي تتحسن حالتها الصحية ..

تزداد في قلبي الطمأنينة، أشكر ربي ضارعة متوسلة رحمته وعطفه، ينساب في ضلوعي عور بالرضا، تشيع في جوانب نفسي نفحة من السكينة والدعة والسلام، ترسم علي سفتي بسمة قناعة وإقتناع بأن ما فعلت هو الصواب، وأن ما قررت هو الصحيح، وإن تصميمي، أن أقتطع بعض الوقت المخصص لتحقيق طموحاتي الصحفية، وإشباع رغبات نجاحي المهنية، وتخصيص هذا الوقت لأسرتي، وبالذات للعناية بطفلتي صغيرتي حبيبتي،  هو الصواب مائة بالمائة لأنها روح قلبى وحياتي ونور عينى.

رغم هذا .. كنت أود أن لا أنقطع أبدا عنكم، ولا أن تعغيبون أنتم إنما عني، إنما عزائى الوحيد أن الحب سوف يبقى موجودا بيننا، كما أعدكم أن لا أسترد فؤادى الذى أودعته عندكم لذلك، سوف يظل، و .. يبقى .. لديكم .. قبلـى .

***

 

 

 

[1] سيدتي (العدد 496) 10 / 9 / 1990

[2] سيدتى ( العدد 499 ) 7 / 10 / 1990

[3] سيدتى (العدد 500) 14 / 10 / 1990

[4] سيدتى (العدد 501) -15 – 21 / 10 / 1990

[5] سيدتى (العدد 502) 22 – 28 / 10 / 1990

[6] سيدتى (العدد 503 ) 29 / 10-4 / 11 / 1990

[7] سيدتى (العدد 504) 5 – 11 / 11 / 1990

[8] سيدتى (العدد 510) 17-23  / 12 / 1990

[9] اليقظة (العدد 1191) 6 / 11 / 1991

[10] سيدتى (العدد 578) 12 / 4 / 1992

[11] سيدتى (العدد 586) 7 / 6 /  1922

شئ من مشاعرى

شئ من مشاعرى

 

 

 

كريمة شاهين

 

 

 

 

 

 

 

شئ من مشاعرى


 

 

 

 

لوحة الغلاف إهداء

 

من الفنان القدير …

 

سيد حليم


 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يَا عِبَادِ  لاَ  خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ  * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ  *  ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ

 

صدق الله العظيم

(سورة الزخرف – الآيات 67 – 70)


 

 

إهداء

… الأحداث التى وقعت سنة 1990 أثرت على كل إنسان عاش فى الكويت .. وعانى مما أصاب الكويت .

هذه القصة .. شئ من مشاعرى

أهديها إلى من أحب ، وأعتدت دوماً أن أحب ، وأحب …

الكويت

تحياتى

كريمة شاهين


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

شئ من مشاعرى

قصة ليست من وحى الخيال ، فكل جزء منها يعكس واقعاً حقيقياً حدث ، كل ما فعلته هو أننى بحثت عن هذه الأجزاء التى تناثرت مع طلقات الرصاص فى الكويت ، وقمت بتجميعها وتركيبها .. لكن .. كل جزء حقيقى .. حقيقى ، لذا أتمنى أن لا تثير هذه الوقائع الحقيقية الأحزان مرة أخرى ، وإذا أثارت فاليّعد هذا ثمناً لابد أن ندفعه ، فهذه الأشياء لا يمكن أن ننساها ، لا يمكن أن ننساها .. لسبب بسيط .. كى لا تتكرر !

نعم .. يجب أن لا ننسى الشر ، يجب أن لا نغفل عن الشر ، كى نتجنب الشر !

هذه القصة التى كتبت وقائعها ، حدثت لسعاد وجاسم ودلال ، هى لم تحدث لكريمة شاهين ، أنا غير موجودة فى هذه القصة ، وإن كنت موجودة فى الأحداث ، التى أثرّت على كل إنسان فى الكويت .. وأنا من بينهم !

وهذه الأسماء ، فى حقيقة الأمر ، أسماء خيالية ، لأننى لا أستطيع إستخدام الأسماء الأصلية لأبطالها الحقيقيين ، لهذا أحب أن أوضّح قبل النشر ، إننى لم استخدم اسم أى شخص حقيقى ، والأسماء التى وردت فى القصة ليست لها علاقة بالواقع .

أيضاً ، أحب أن أقول أن هذه القصة ليست قصة حرب التحرير ، وإنما هى قصة رجل وامرأتين ، تصادق أنهم كويتيون ، وكأى رجل ، وأى امرأة ، تتحكم العواطف فى سلوكهم ، وكأى رجل ، وأى امرأة أيضاً ، تتحكم الظروف فى هذه العواطف !

إذن .. كان لابد أن تؤثر حرب التحرير على سعاد وجاسم ودلال ، ذلك ، لأن حرب التحرير حدثت فى أرضهم ، ولأنهم كويتيون .. المسألة غير مقصودة .. !

فى الواقع لم يكن تأثير حرب التحرير على سعاد وجاسم ودلال وحدهم ، بل إن هذا التأثير طالنى أنا أيضاً ، لذا ، لم يكن بمقدورى على أية حال أن أكون موضوعية تجاه ما حدث على أرض الكويت ، لقد أثارت هذه القصة فى نفسى أثناء كتابتها مشاعر كثيرة
متعددة ، ومتضاربة ، ومتناقضة !

لقد أعادت إلى ذاكرتى تلك الأيام السوداء التى مرت بى عندما رأيت حياتى أنا ، وأسرتى أنا ، وحياة أولادى وأهلى ، وقد تلخبطت ، وتمزقت ، وتعرضّت فى أوقات عديدة للشعور بالخوف والوحدة والضياع !

آه .. إننى لا أنسى تلك الأيام السوداء التى قضيناها فى لندن ونحن لا نعلم شيئاً عن زوجى ، ولا ندرى ماذا حدث له ، كذلك لا يمكن أن أنسى ذلك العذاب الفظيع الذى بدأت أعانيه ، عندما بدأت تتسلل معا لوقت قصص التعذيب البشع الذى صار الناس يتعرضون له داخل الكويت ، ومن بينهم أصدقائى وزملائى ومعارفى !

آه .. كان إحساساً لعيناً ، عنيفاً ، موجعاً !!

حقاً .. كانت أياماً طويلة ، ذات ليالى أليمة رهيبة ، لم نعرف النوم خلالها ، ولا الراحة ولا الاستقرار فى نهارها ، فالأخبار تأتى دوماً بكل ما هو مخيف ومرعب ، والخوف والقلق على الأحباء فى الكويت يتخطى كل الحدود ، يوجع كل القلوب .. !

نعم .. كانت أخبار القتل والتعذيب والإغتصاب تغّص بها الصدور ، تتمزّق لها النفوس ، تعتصر لها القلوب ، ولم تكن العين وحدها تبكى ، الروح كانت تبكى ، النفس كانت تبكى !

آه .. كم كان هذا الحزن ساحقاً ، وكم كان لعيناً ذاك العذاب !

فى الحقيقة .. هذه القصة أعادت لى تلك الذكريات السوداء ، ذكريات الحزن والتعاسة والعذاب ، كما أعادت لى ذكريات الفرح والبهجة والسرور ، أذكر لحظة فرحة التحرير ، وكيف قفزت من على الأرض فرحاً بعودة الكويت .. !

نعم .. أذكر كيف لم ينم الناس حتى الصباح فى حى المهندسين ، بالتحديد فى شارع جامعة الدول العربية ، وكان من بينهم أبنى أحمد مع مجموعة من الأصدقاء من مصر ومن الكويت ، الذين ظلوا يرقصون ويهتفون حتى الصباح .. !

لم يكن تحرير الكويت تحريراً لأرض ، إنما جاء تحريراً للإنسان ، تحريراً
للأصدقاء ، تحريراً للأحباب .. تحريراً لزوجى ، وأولادى ، وأصدقائى ، وبيتى ، وعملى ، وكتبى ، تحريراً لحياتى !

نعم .. لقد أرتبطت حياتى بالكويت منذ اللحظة التى حصلت فيها على ليسانس الآداب قسم الصحافة .. حتى الآن ! إنه عمر .. عمر .. عزيز وغالى ، يحفل بتحقيق أحلام الطموح والنجاح والأمانى .. حمداً لله . حمداً لله . حمداً لله .


معاً سنعود بعون الله

.. أحياناً تلعب الصدفة وحدها دوراً هاماً وحساساً فى حياة الإنسان ، وهذا ما حدث معى بالفعل ، عندما غادرت الكويت إلى لندن فى الشهر السابع قبيل الغزو ببضعة أيام !

شاءت الصدفة وحدها أن تنأى بى عن مواجهة هذا الحدث المؤسف البشع ، كما شاءت أن تتيح لى فرصة لقاء صحافى آخر مع قراء ” سيدتى ” تلك المجلة السعودية ذائعة الصيت ، الغنية عن التعريف ، التى يوجد مقرها الرئيسى فى لندن .

من هنا .. صنعت الصدفة هذا اللقاء الإعلامى ، الذى أعطانى مجالاً عظيماً فى أن التقى أيضاً ، قراء مجلة ” اليقظة ” الكرام ، منذ بداية الغزو ، وذلك بعد أن إحتيجت قسراً عن الصدور !

وكان أول مقال نشر لى فى مجلة سيدتى ، قد صدر فى العدد رقم 496 فى الصفحة 18 ، بتاريخ 10/9/1990 ، وإعتباراً من ذلك التاريخ ، وأنا أكتب ، أصف ، أقول ، أعبّر عن كل ما أشعر به نحو الحبيبة الكويت ، رافضة تماماً تلك الممارسات البشعة اللاإنسانية ، التى كانت تصل إلى أسماعى كصحفية ، والتى نشرت على لسان أبطالها الحقيقيين ، طوال فترة الغزو وحتى ما بعد التحرير ، إلى أن عادت ” اليقظة ” تلك المجلة الحبيبة إلى الصدور .

معاً .. سنعود بعون الله

لذا .. أرجوا أن يعذرنى القارئ لأننى أجد نفسى مضطره أن أعيد نشر مقالاً لى سبق نشره فى مجلة ” سيدتى ” فى الشهر الثانى من الغزو لأن له علاقة مباشرة بأحداث هذه القصة ، رغم أننى أعلم أن هذه القصة ليست بحثاً فى حرب التحرير ، وأن من غير المألوف أن يضع الكاتب مقالاً صحفياً فى مقدمة القصة ، لكنى أرجو من القارئ أن يفهم أن هذه القصة ليست قصة فحسب ، إنما هى جزء من كيانى ، ومن عمرى ، ومن حياتى !

هذه القصة ، فى حقيقة الأمر ، لا تعّر عن شئ من مشاعر سعاد ، أو شئ من مشاعر جاسم ، أو شئ من مشاعر دلال .. وإنما هى أيضاً ، تعبر عن .. شئ من مشاعــرى .

كريمة شاهين

معاً .. سنعود بعون الله

هل تعتقد حقاً أنك لن تجلس على المقهى الشعبى أمام شاطئ البحر فى السالمية مرة أخرى ؟!

هل تعتقدين حقاً أنك لن تذهبى مع أطفالك إلى المدينة الترفيهية حيث يلعب ويلهو الصغار ؟!

هل تعتقد حقاً أنك لن تذهب إلى سوق السمك صباح الجمعة وتعود إلى البيت قبل أن يستيقظ الأطفال ؟!

هل تعتقدين حقاً أنك لن تذهبى إلى محل العالمية لشراء ” البيتزا ” الساخنة والحلوى الطازجة فى المساء ؟!

وهل تعتقد حقاً أنك لن تقود الأبناء إلى المدرسة قبل الذهاب إلى عملك فى الصباح وأنت حانق على زحام السيارات فى شارع الخليج ؟

هل تعتقدين حقاً على أنك لن تذهبى إلى ” الهيلتون ” و ” الشيراتون ” لحضور الأفراح وأعياد الميلاد ؟!  و .. هل تعتقد أنك لن تذهب إلى جمعية الشامية لإحضار طلبات الأهل وأم العيال ؟بالنسبة لى فأنا أعرف أنى معكم سأعود بعون الله ، وسأحمل طفلتى فى سيارتى إلى مدرستها فى سلوى ، وسأصحبها مساء الأربعاء فى جولة بمجمع زهرة وأداعبها وهى تركب القطار الخشبى الأحمر ، وأضاحكها وهى تلعب وسط الكرات الملونة هناك مع باقى
الأطفال ، وسأشترى لها سندوتش ” الشاورما ” من ” كافيتريا ” فرح قبل العودة إلى البيت فى المساء بإذن الله . أنا أعرف ذلك .


معاً .. سنعود بعون الله

… هذا هو المقال الذى أحببت أن أضيفه الآن بعد تلك المقدمة السابقة ، وقد أخترته عن عمد ، لأنه نشر فى مطلع الغزو فى مجلة سيدتى ” فى العدد رقم 498 بتاريخ 30/9/1990 ، فجاء حافلاً بالأمل والتفاؤل ، رغم الشعور العام السائد باليأس ، الحافل بالخوف والقلق والإحباط ، رغم الظروف الصعبة العصبية السوداء ، التى جعلت بعض الناس لا يتوقعون عودة سريعة وعاجلة للكويت ..!

رغمّ ذاك الشعور ، ورغم تلك الدموع ، ورغم كمّ الرعب والجزع ، أتى مقال
معاً .. سنعود بعون الله شعاع ضوء ينير قلوبنا عجزت عن الشعور بالأمان والإطمئنان ، فى زامن لعين افترس فيه الإنسان ، بكل خسة ونذالة .. أخاه الإنسان !!

 


الفصل الأول

فى المدرسة

دق جرس المدرسة معلناً إنتهاء الحصة الأخيرة ، فاندفعت الطالبات نحو موقف الباصات ، وبينهن سعاد التى تمشى فى دعة وهدوء ، تحتضن حقيبتها بين ذراعيها ، تقترب من الباص ، تصعد السلم وهى تضمها إلى صدرها ، ثم تتجه بصعوبة تشق طريقها وسط الزحام حتى تصل إلى المقعد الأخير ، حيث إعتادت أن تجلس كل يوم .

تستريح سعاد ، تلتقط أنفاسها بمشقة من شدة الحر والتدافع والإزدحام ، تضع حقيبتها أسفل المقعد ، تدنى وجهها من فتحة النافذة الجانبية ، تأخذ نفساً عميقاً طويلاً ، ثم ، تنظر فى فتور إلى الساحة الواسعة ، حيث تقف السيارات الخاصة الكثيرة ، تطالع بلا مبالاة وجوه الأهالى الذين حضروا لأصطحاب بناتهن من المدرسة .

تمضى اللحظات مملة ثقيلة خانقة ، فالباصات ما تزال تربض فى موقعها بإنتظار صعود الطالبات ، وسعاد ما تزال تقبع فى مكمنها ترجو أن يخف الزحام المهيمن على المكان كى تبدأ رحلة العودة اليومية إلى البيت .

فجأة … فى وسط هذا الإنتظار الممل الرتيب ، يخرق سمع سعاد صياح الطالبات اللاتى تدافعن كلهن نحوها ، وقد لمعت عيونهن وارتفع صوتهن ، وهجمن على المقعد الأخير فى هوس وجنون ، حيث التصقت وجوههن بزجاج الباص العريض ، وهن يصرخن ويصحن فى هستيريا جاسم الناصر .. جاسم الناصر .. وأيديهن تلوح فى إنفعال فظيع وفرح وحشى حماسى منقطع النظير ، لتحية اللاعب الشهير كابت المنتخب الوطنى لكرة القدم ..
جاسم الناصر !

تبقى سعاد تحاول بكل جهدها أن تحتفظ لنفسها بتلك المساحة الزجاجية الضئيلة التى ظلت تنظر من خلالها إلى جاسم الناصر ، وهى تبذل كل طاقتها لترفع جسدها المتكور الذى يكاد ينقصم تحت ثقل أجساد الطالبات اللاتى يشتد ضجيجهن ، ويرتفع صياحهن عند إقتراب جاسم الناصر بسيارته ” السبور ” الحمراء من الباص الخاص بهن ، فتتلاصق أكتافهن ، تنحشر رؤوسهن تغلق فتحان النوافذ تماماً بأجسامهن ، حتى تكاد سعاد تختنق فترفع رأسها تلتقط أنفاسها ، وهى تصارع كى تبقى تتابع الموقف الخارجى ، و … تظل تنظر إليه !

تلمح سعاد ليلى تكلم جاسم الذى نزل من السيارة ليقف يحيى صديقاتها اللاتى ركضن نحوه والتففن حوله ، ووقفن يتحدثن معه فى لهفة وفرحة وإنبهار ، تنفضّ الطالبات من حول جاسم ، بعد أن أخذ سائقوا الباصات يرطنون بالهندية ويضغطون على النفير بعصبية ، ويحركون عجلاتها ، فركضن عائدات ، إلاّ واحدة وقفت ، رفضت أن تتحرك ، كأن لا أحد فى الدنيا يعنيها غيره ، وكأن الساحة قد خلت من ناسها إلاّ هو .. كانت هذه هى دلال التى انصرفت مرغمة بعد أن رأت الباص يوشك أن يرحل بدونها !

يسأل جاسم أخته ليلى :

وين سعاد ؟! ليش ما جاءت معانا نوصلها البيت ؟!

ترد ليلى ضاحكة وهى تشير نحو أحد الباصات :

سعاد قاعدة فى الباص .. تستحى تركب معانا !

يتبع جاسم إشارة أخته فيلمح وجه سعاد الجميل من وراء الزجاج .. تلتقى العيون فى نظرة خاطفة ، تخفض سعاد عينيها فى حياء وإرتباك ، بينما ينظر جاسم نحوها مبتسماً متسائلاً عن عدم مجيئها .. !

لحظات .. وينفض الازدحام بعد إنصراف جاسم ، واختفاء سيارته ” السبور ” الحمراء عن الأنظار ، تعود الطالبات إلى مقاعدهن وهن يرددن فى حماس شديد :

– أووه يا الأزرق .. ألعب فى الساحة يا كويت .

ترقبهن سعاد وهى تبتسم فى حياء ، فهن ما زلن فى غاية الإثارة ولإنفعال حتى بعد اختفائه عن أعينهن ، بل وما زلن يذكرن أسمه ويتكلمن عنه ، ويسهبن فى وصف طوله وعرضه ووسامته وشهرته ، بل وحتى ملابسه الرياضية وسيارته الحمراء ! تتسع إبتسامة سعاد أكثر وهى تباهى نفسها ، فهذا الشاب الرياضى الشهير ، حل كل بنات المدرسة ، هو جاسم … ابن خالتها !

فى الحقيقة لم يكن من عادة جاسم أن يحضر كثيراً لإصطحاب ليلى ، فقد حضر مرتين منذ دخولها المدرسة الثانوية هذه السنة ، اضطر أن يأتى تلبية لرغبتها ، بعد إلحاح شديد منها ، تعلم ليلى ذلك تمام العلم ، لكنها فى نفس الوقت سعيدة فخورة بأخيها وبشهرته التى تجعل منه نجماً لامعاً فى سماء المجتمع ، فهو هدف الفريق ، والمهاجم الأول الذى يحرز بقوة خارقة أهداف النصر للمنتخب الوطنى ، ولناديه الرياضى .

كانت ليلى تعرف أن مجرد ظهور جاسم معها أمام باب المدرسة كفيل بأن يحدث ثورة بين الطالبات ، هى تحب ذلك وتفرح بذلك ، فهى أخت البطل ، وهى الوحيدة التى سيلتف حولها الطالبات فيما بعد يخطبن ودها ، يدللنها ، يسألنها عن رقم هاتفها ، وأى الأرقام الأنسب للاتصال بها ، ومتى يكون جاسم فى البيت ، ما هى مواعيده ، متى يروح النادى ، ماذا يأكل ؟! كيف يتعامل معهن فى البيت ، هلى هو متعجرف أم مغرور ؟! وما هو أكثر شئ يحبه ؟! وكيف ؟! وماذا ؟! وأين ؟! ومتى ؟! وما ؟! ولماذا ؟!

تضحك ليلى فى خبث وهى تتخيل منظر الطالبات فى اليوم التالى ، وقد أنتظرن على نار لحظة وصولها المدرسة ، هى تعرف أن الأمر سيكون مختلفاً هذه السنة ، فطالبات الثانوية أكبر وأجراً من طالبات المتوسطة ، وهن بالتأكيد سيطلبن منها أن تخبر جاسم عن إعجابهن  وسيطلبن رقم تليفونها ، وبعضهن سيرغبن فى الكلام معه فى موضوع هام ، هام للغاية ، والأخريات سيسألن متى سيأتى ليأخذها من المدرسة مرة ثانية ، ليكنّ مستعدان لإستقباله بشعر مرتب ووجه مزوّق .. وأخريات .. وأخريات !!

تعرف ليلى أن معظم طالبات المدرسة لن يمانعن فى إظهار إعجابهن بجاسم ، وإبداء رغبتهن الأكيدة فى صداقتها ، بل سوف يتقرّبن منها ، يتوددون إليها ، رغم أنها طالبة ما زالت فى الصف الأول الثانوى ، فى حين أن معظمهن فى الصف الرابع الثانوى ، وكانت على رأس هؤلاء الطالبات .. دلال .. تلك الفتاة النضرة ، رائعة الجمال ، الممشوقة القوام ، أما سعاد بنت خالتها ، الطالبة بالصف الثالث الثانوى ، فقد كانت تستحى أن تظهر مع جاسم أمام الطالبات ، فهى رغم إعجابها العميق به ، تخشى أن تتكلم عنها بنات المدرسة ويسئن إلى سمعتها ، مثلما فعلن بزميلتهن دلال التى لم تتركها ألسنتهن فى حالهـا !

نعم ، لم يتركن دلال فى حالها منذ ذلك اليوم ، عندما رأينها تقف مع جاسم مدة طويلة تحدثه حين حضر لأخذ أخته من المدرسة ! منذ ذلك اليوم وهن لا ينقطعن عن الهمس والغمز واللمز ! والغريب أن دلال لم تعبأ بهن أيضاً هذه المرة ، لم تهتم بغيرتهن وألسنتهن ووقفت تبدى إعجابها بجاسم ، وإهتمامها بالحديث معه ، رغم صعوبة الظروف المحيطة ، وعدم ملاءمة المكان .. والزمان !

كانت سعاد ترقب الموقف من مكنها الأمين فى الباطن الأخير ، وهى تتعجب من جرأة دلال الزائدة عن الحد ، وتدهش من حركات دلال التى تكاد تطير من على الأرض طيراناً ، والتى لا تكاد تقف على بعضها ، فكل شئ فيها يهتز ، يرتجف ، يتحرك ، رأسها يهتز ، يتحرك ، كتفاها ، يداها ، وسطها ، قدماها ، كل شئ .. كل شئ !

تشعر سعاد بلسعة غيرة حارقة ، فهى تعرف إعجاب دلال العظيم بجاسم ، كما تعرف صلة القرابة البعيدة التى تربط بين أبيه وأمها ، لكنها تنتهد فى إرتياح فهى تعرف أيضاً أن أم جاسم لا تحب دلال ولا ت طيق أمها ، لذا لا تقلق كثيراً من ناحيتها ، فهى واثقة من حب خالتها التى تعتبرها كأبنتها ، و … تعود تسرح بخيالها فى دنيا أحلامها مع جاسم ، الذى تعجب به منذ كانت طفلة صغيرة فى العاشرة من عمرها ، والذى تتمنى أن تمضى معه العمر لتعرف الدنيا بأسرها أن جاسم حبيبها ، وحدها ، دون غيرها !

تذكر سعاد فى حنان كيف ظلت تحب جاسم فى صمت سنوات طوال ، تذكر كيف كانت تقضى ليها تفكر ، تحلم ، تتمنى ، أن تأتى اللحظة السحرية التى يعلن فيها حبه لها ، وتعلم الدنيا كلها إن سعاد حبيبته .. حبيبته .. لكنه .. للأسف لم يفعل ! لم يفعل !! لماذا ؟! لا تدرى ! لا تدرى !!

كان النادى كله فى الواقع يعشق جاسم ، يعجب بأخلاق جاسم وشخصية جاسم ، تلك الشخصية الرياضية التى إزدادت بريقاً وشهرة أثناء تصفيات دورة موسكو الأوليمبية التى عقدت فى بغداد قبل سبعة شهور ، عندما لعب منتخب الكويت ومنتخب العراق فى شهر مارس هذه السنة ، وإنتهى الشوط الأول 2 / صفر لصالح العراق .. !!

لكن .. فى الشوط الثانى ، بعدما أجرى المدرب تعديلاً فى صفوف الفريق ، إنقلبت المباراة وأصبح لاعبو الكويت يسيطرون على الملعب ونجحوا فى تسجيل هدفين سريعين .. وسرعان ما أحرزوا الهدف الثالث لتنتهى المباراة لصالحهم .. وتتأهل الكويت لنهائيات موسكو .. !

يتعالى الهتاف ، تصيح جماهير الكويت فرحاً ، تغمر البهجة الشوارع كلها ، يخرج الشباب يرقص داخل وخارج السيارات وهم يرفعون أعلام الكويت فخراً بهذا الإنتصار الرياضى الكبير الذى انتزعه أبطال المنتخب الوطنى بجدارة وقوة إقتدار فى تلك المباراة الحاسمة .. آه .. عاشوا .. عاشوا .. وعاشت الكويت .. عاشت الكويت .

تذكر سعاد أيضاً كيف كان أخوها فيصل لاعب كرة اليد فى النادى يغار من جاسم ، مرات كثيرة كانت تحدث بينهما مواقف صغيرة تؤدى إلى التوتر بينهما ، لكن جاسم كان يأخذ الموضوع بروح رياضية وينهيه ببساطة ، فى حين لم يكن الأمر هيناً على فيصل الذى كان يرفض أن ينهزم بسهولة أمام جاسم منافسه الأوحد فى النادى ، فلجأ إلى وسيلة أخرى
وهى لفت الأنظار إليه بإقتناء أحدث الساعات والسيارات ذات الأثمان الباهظة والشكل المبهر المثير !

لكن ، رغم تفاوت المستوى المادى بين الشابين ، إلا أن شخصية جاسم المنطلقة المؤثرة ، لم تجعل لهذه المنافسة الطفيفة أدنى اعتبار ، فالبنات ما زلن يفضلن جاسم ، ولا يستطعن إخفاء إعجابهن به ، رغم كل شئ ، يبقى جاسم الناصر ، نجم النادى الأول المحبوب من الجميع ، ونجم المنتخب الوطنى اللامع فى دورة موسكو الأوليمبية ، التى لعب فيها بتألق مباراة الكويت والاتحاد السوفيتى ، حتى إن الرئيس الروسى بريجينيف أجل اجتماعاً مهماً حتى يشاهد هذه المباراة الهامة !

تبقى تدور الأحداث ، تتشابه المواقف ، تبقى تركض الأيام ، تتعاقب الأسابيع والشهور والفصول ، وجاسم مشغول بكرة القدم التى يعشقها منذ صغره ، تقول أمه ضاحكــة :

– جاسم لعب الكرة قبل ما يتعلم المشى .. أكيد كان بيتمرن وهو فى بطنى !

كما تبقى تدور سعاد فى فلكها الخاص ، تظل تخفى عن الجميع مشاعرها ، حتى تكاد تخفيها عن نفسها ، فهى تخشى أن يدرك أحد مكنون قلبها ، حتى أقرب الناس إليها ، أمها ، وليلى بنت خالتها ، فسعاد بطبعها خجولة ، حساسة ، هادئة ، وادعة ، خفيضة الصوت والنظرة ، وإن كانت غزيرة الشعور ، زاخرة الاحساس .

.. تظل تدور الأيام ، تمضى الليالى والساعات ، وظروف الحياة تجمعهم حيناً ، وتباعد بينهم أحياناً ، ينتهى العام الدراسى بنجاح الجميع ، تلتحق دلال بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية ، فتتاح لها فرصة أوسع لملاحقة جاسم والإتصال به ، والسعى للقائه ، حتى فى مستشفى الصباح بعد أن عيّن طبيب إمتياز بها !

كانت تذهب إليه بإستمرار مدعية كل يوم مرضاً مختلفاً ، أيضاً لم تكن تكف عن حضور كافة مبارياته دون أن تفوتها مباراة واحدة ! فى حين كانت سعاد تسبح فى دنياها الواسعة الساكنة ، تحاول أن تقضى وقتها بين صفحات الكتب ، والإستماع إلى الموسيقى الهادئة ، ذات الإيقاعات الحنونة الحالمة ، خاصة أغانى مطربها المفضل عوض الدوخى
الذى تعلقت بصوته منذ تخرج وهى طفلة مع أبيها فى سيارته ، وهى تدندن معه أغنيته المفضلة :

يا ليل دانا لنا

يا ليل دانا لدانا

والليل حلو الندامة

والزين عدى الكلام

عديت باب الغوى

قالوا العواذل علام

يا ليل دانا لنا

يا ليل دانا لدانا

فى الحقيقة .. كان جاسم حلماً بعيداً من أحلام سعاد ، كان بقامته المديدة الفارعة وعضلاته القوية المفتولة ، وأكتافه الكبيرة البارزة ، وصدره الواسع العريض ، وشعره الأسود الغزير الذى يبلله العرق ويتساقط منه على رقبته الضخمة القوية .. بطلاً أسطورياً يحكم ويتحكم فى مملكتها ، لكنه رغم هجومه الساحق بالكرة على مرمى الفريق الآخر مسجلاً دوماً أهداف الفوز والإنتصار ، لصالح فريقه فى معظم المباريات ، للأسف ، لم يفكر يوماً واحداً فى مهاجمتها .. أو حتى النظر إلى مرماها !!

تتنهد سعاد فى حسرة ، توقن أنها لم تكن يوماً ما هدفاً لجاسم ، تقتنع أنه لم يرها ، ولن يهتم حتى أن يراها !! تعود تواسى نفسها معزية فى رثاء :

– يجوز يشعر بى فى يوم من الأيام !!

تنهض سعاد من مقعدها ، تلقى فى ملل قصة لم تكملها ، آه .. فشلت المحاولة للمرة الألف ! لا جدوى .. لا فائدة .. جاسم يسكن عمق أعماقها ، فكلما حاولت أن تتباعد عنه ، أو تتناساه تجده بقوة وثبات يحتل تفكيرها ، يملأ وجدانها ، يطغى على إحساسها ، وعواطفها ، وأفعالها !! إحساسها به أنه دوماً موجود .. موجود .. لكنه .. يا للعذاب .. مشغول عنها بدلال ، تلك الفتاة التى تتأجج نضارة وجمالاً وفرحاً ومرحاً ، والتى تستطيع بمظهرها المبهر المثير أن تدير الرؤوس ، وتسلب العقول ، فهى ذات شعر بنى طويل ، عيونها فى لون العسل الذهبى ، بشرتها صافية خمرية اللون ، جسمها يتفجر أنوثة وإغـــراء !

لا تحتمل سعاد الموقف طويلاً ، تحرقها نار الغيرة من دلال ، تقف تطالع نفسها أمام المرآة الطويلة المثبتة فى دولابها ، تتأمل قامتها الطويلة وعودها المتناسق الجميل ، تهز شعرها الأسود الأملس الذى يقف عند كتفيها ، تنظر حانية إلى عينيها الواسعتين الداكنتين ، يزداد شوقها وهى تذكر عينى جاسم ، فتبتسم .. وتبتسم ، فالشبه بينهما واضح فى العيون بالذات .. !

ترجع تجلس فوق مقعدها الوثير ، تلقى رأسها إلى الوراء ، تسندها على ظهر
المقعد ، تدرك يائسة أن دنيا جاسم واسعة ، واسعة ، وأنها دنيا لا تتسع لها ، فهو لا يشعر ولا يحس بها ! رغم حبها العميق له ، وإعجابها الشديد به ، وشوقها الدائم إليه ، تبقى سعاد تتألم . تتعجب . وهى تسمع أخبار مقابلاته الكثيرة المتعددة مع دلال ، تلك التى لم تخف إعجابها به ، وحبها له ، منذ كانت طالبة معها فى المدرسة الثانوية !

تنهض سعاد من جلستها على صوت أبيها يناديها كى تكلم شقيقها الكبير عبد الله الذى يدرس الهندسة فى أمريكا ، تركض تتحدث مع أخيها ، تسأل عن أخباره ، تجلس مع أبيها الذى يحبها أكثر من روحه ، ويتعلق قلبه بها منذ ولادتها ، تجلس سعيدة بقربه ، فهى تأنس بصحبته الحلوة التى تشغلها عن قلبها ، وتنسى معه أفكارها ، التى تذكرها بحبها اليائس ، وعذابها المستمر .. !

تنتهى المكالمة ، فيلحظ بدر أخوها وجومها ، كما يلمح الدموع فى عينى أمه ، فيقفز مقلداً لهم النجم المفضل عبد الحسين عبد الرضا فى مسرحيته الناجحة الضاحكة ” عزوبى السالمية ” التى شاهدها بالأمس للمرة الخامسة حتى حفظها صم !

ينهمك بدر فى تمثيل كل من دور عبد الحسين عبد الرضا وسعاد عبد الله بطلة المسرحية ، حتى يزن من يسمعه عن بعد ، أن سعاد وعبد الحسين موجودين بالفعل هنا ، وأنهما يقفان فوق خشية المسرح يؤديان دورهما أمام الجمهور !! صدق ، تقليد بدر جاء متقناً كل الإتقان حتى فى الصوت ، والحركة ، والأداء .. !

تضحك سعاد من قلبها ، فى حين تتفرج أسرير أمه عن ابتسامة سعيدة بخفة دم ابنها المغرم بالفنان الكبير ، الذى يعرف أنها تحبه وتحب تشوف تمثيله ، لذلك هو ما يقّصر أبداً فى تقليده لها ، لإضحاكها وإدخال السرور إلى قلبها !

حقاً .. منذ مجئ بدر إلى الدنيا ، قبل سعاد بخمس سنوات ، وأمه متعلقة به ، فقد ولد ملون العينين ، أشقر الشعر ، أبيض البشرة ، مستدير الوجه كالبدر ، لذا أطلقوا عليه إسم بدر وأحبوه وأحاطوه بكل مظاهر الحنان والعطف ، ودللوه كل التدليل حتى شبّ حنوناً ، عطوفاً طيباً ، حافلاً بالحب والعطاء الذى لا يبخل به على أحد ، وعندما أنهى دراسته الثانوية ، إعترض إخوته الكبار على إختيار المعهد العالى للفنون المسرحية ، إلا أن والده أيده فى رغبته تأييداً مطلقاً ، فهو يؤمن بالفن وبرسالته السامية فى تهذيب النفوس وبدوره الأساسى فى تغيير أفكار الناس والمجتمع .

وفى ليلة من ليالى الصيف الحارة الساخنة ، وبينما كانت سعاد فى زيارة بيت خالتها جلست تتحدث مع ليلى عن العطلة والصيف والسفر ، وعما إذا كانوا سيذهبون إلى لندن هذه السنة أيضاً ، فالخال أبو إبراهيم وأسرته سبقوهم ، وشقة أبيها المجاورة لشقة خالها خالية ما فيها أحد ، لأن فيصل لن يسافر لندن هذه السنة لأن زوجته تريد تروح باريس مع أهلها ، وعبد الله مسافر أمريكا ، والشقة خالية بإنتظارهم .

وقبل أن تنتهى الفتاتان من حديثهما إذ بصوت السيارة ” السبور ” المرتفع يقتحم
الآذان ، يدخل جاسم محيياً الجميع فى ضجة وصخب كعادته ، ينحنى يقبل خالته الجالسة على الأرض بشوق وحرارة ، يقترب من غرفة ليلى ، يطرق الباب ليرحب بسعاد وليسلّم على أخته الصغيرة التى يحبها ويحب أن يدللها ، فهو ما زال يعتبرها طفلة تستحق الدلع والتدليل ، يسألها مازحاً :

– هاه .. كنتم بتنمّوا فى مين ؟

تضحك ليلى وهى تجيبه عابثة :

– كنا بنّم فيك أنت يا جاسم .

يسأل فى دهشة وإستغراب :

– فينى أنا ؟! كنتم بتقولوا عنى خير ولا شر ؟!

تجيب ليلى متخابثة :

– كنا نقول أنك قاسى ومغرور وما تفهم .. !

– ما أفهم ؟! مين يقول هالكلام ؟!

تشير ليلى نحو أبنة خالتها وهى تقول :

– سعاد .. أصلها تقول أنها تحبك وتموت فيك وأنت ما تهتم بها ولا منتبه لها ..!

ينفجر جاسم فى الضحك وليلى وراءه تشاركه ضحكته ، بينما تصمت سعاد ، يصفر وجهها ، ثم يحمر ، ثم يصفر ، ثم يحمر ، تتلعثم فى الكلام ، تحاول أن تدارى عينيها عن عينّى جاسم وهى تنظر نحو ليلى كمن يبحث عن مخرج !

تطالعها ليلى بدهشة .. وبنفس الدهشة التى ينظر بها جاسم إليها ، يتبادل الشقيقان نظرات تدل على أنهما قد فهما حقيقة مشاعرها ، التى حاولت وجاهدت بصعوبة بالغة
إخفاءها .. وكتمها .. ومدارتها !

الفصل الثانى

أنين الحب !

يفهم جاسم بعض مشاعر سعاد فى تلك اللحظة الحرجة التى داعبته فيها ليلى ، لكنه لم يكن واثقاً من حقيقة هذه المشاعر ، فهو لا يستطيع التأكد من مشاعر إنسان نتيجة مداعبة عابرة من شخص آخر ، لذا ، لم يفكر فى الأمر كثيراً لأنه كان مشغولاً بأشياء كثيرة جداً إلى جانب إنشغاله بعلاقته بدلال ، وسرعان ما نسى الموضوع برمته !

و .. تبقى الظروف كما هى تتوالى ، تتابع ، وأسرة جاسم لها عاداتها وتقاليدها ، فالوالد أحمد الناصر ، العميد فى وزارة الدفاع ، رجل عسكرى حياته الضبط والربط ، والدقة والنظام وهو يرغب دوماً فى تطبيق أسلوبه العسكرى على كل شئ فى حياته ، لذا قبل أن يتكلم ، يعرف كل من فى البيت ماذا يريد ؟ ماذا يجب أن يقدم ؟ ماذا يجب أن يكون ، أو لا يكون ؟ دون عجرفة أو تكبر ، إنما بالتفاهم والاحترام .

فور دخوله البيت يتصرف الجميع بطريقة شبه عسكرية ، تثير إعجاب جاسم بهيبة والده ، وقوة شخصيته ، وهو يرى مظاهر الانضباط تسود البيت كله ، كان الجميع قد تحولوا فجأة جنداً مدربة تحت أمرة هذا القائد العنيد الذى يحكم ويتحكم بنظرة قاطعة حاسمة لا تحتاج أن تصحبها أوامر مكتوبة أو منطوقة ، فكل شئ يتم إعداده فى ميعاده ، وكل شئ محدد ومعروف ومنظم ، فالفوضى لا تعرف طريقها إلى حياة هذا العسكرى .

كان جاسم شديد الانبهار بشخصية أبيه ، ذلك الرجل السهل الصعب ، الدقيق ، المرتب ، المنظم ، الذى يعرف متى يتكلم متى يصمت ، ماذا يقول ، أين يتوقف ، أنه حقاً رجل قادر ، يعرف بالتحديد ماذا يريد ، ويقدر دوماً أن يصل إلى كل ما يريد ، دون حاجة إلى كلمات كثيرة ، أو عبارات فارغة ، وإن كان أحياناً يبدو عليه التأثر بموقف ما ، لأنه فى حقيقته طيب القلب ، عاطفى ، حنون . لذا .. هو رجل الموقف الصعب ، الذى يتعامل مع الواقع بطريقة أقرب ما تكون إلى الإنسانية الحقة ، بعيداً عن التعالى والترفع ، دون غرور أو تكبر ، فهو مفرط الثقة بالنفس ، ولديه قناعة عظيمة بقيمة الذات .

أيضاً لم يتوقف إنبهار جاسم بوالده عند هذا الحد ، كان أكثر ما يثيره فيه تلك العلاقة العاطفية الحميمة التى تربطه بأمه ، فهما فى حالة تفاهم دائم ، وحب كبير مستمر ، وهى بمرحها الزائد وخفة دمها تستطيع أن تمتص غضبه ، وأن تهدئ ثورته ، فهى لا تطيق أن تراه منفعلاً عابساً ، فهو صاحب المكانة الأولى فى هذا البيت ، له كل الحقوق ، وعلى الجميع أن يؤدوا له كل الواجبات .

فى الواقع لم تكن مكانة جاسم تقل كثيراً عن مكانة والده ، كانت له أيضاً نفس الأهمية ، وإن كان جاسم يختلف عن أبيه فى طريقة التعامل مع الآخرين ، فهو كثير الصخب والدعابة والمرح مثل أمه ، يثير البهجة دوماً مع كل من حوله ، ولا يكف عن الضحك والمزاح ، خاصة مع ليلى .. !

ليلى .. قطة البيت المدللة .. حلوة ، حنون ، ذات روح فيها خفة ومرح ، هى شديدة الشبه بجاسم ، لكنها ليست فى طوله ، كما أنها أنحف منه بكثير ، إلا أنها تمتلك نفس العينين ذات النظرة المخترقة النافذة ، القادرة على تقليب أعماق الأعماق ، وهى مثله شديدة الولع والإعجاب بأبيها ، خاصة عندما يدلف إلى البيت بقامته الضخمة المديدة ، مرتدياً زيه العسكرى الأنيق الذى يستهويها ، ويجعلها تباهى العالم أجمع بأن هذا الرجل الفارس هو أبيها ، الذى يهيم بها ، ويحظر عليها أن يقترب المقص من شعرها ، الطويل الأسود المسترسل .

أما دلال ، فقد كانت لا تعرف الكثير عن والدها ، فهو رجل يحب العمل والسفر ، يرحل من بلد إلى آخر طلباً لعقد الصفقات والراحة والإسترخاء ، وكانت نوال ، أمها ، الزوجة الرابعة الأثيرة المفضلة لدى هذا الرجل فى وقت من الأوقات .. كان والدها يهوى الترحال من الكويت إلى البصرة ، ثم من البصرة إلى القاهرة ، ثم من القاهرة إلى دمشق ، ثم من دمشق إلى الكويت ، هكذا .. أنه رجل يبحث عن الإثارة والمال والأعمال ، وهو لا يكف عن ترديد عبارته المشهورة :

– ترى العمر مرة واحدة .. والإنسان ما راح يعيش مرتين !

تولد دلال ، تجئ إلى الدنيا ، وهى لا تقل جمالاً عن جمال أمها ، نوال .. تلك المرأة الجميلة المثيرة التى كانت تتفجر أنوثة وسحراً ، فهى ذات بشرة ناعمة بيضاء ، وعيون عسلية واسعة ، وجسد بض يتيه بمعالم الأنوثة التى تبرز بوضوح لا يخفى على عين الناظر ، وكان أجمل ما يميزها شعر أملس ناعم طويل يكاد يغطى ظهرها ، وقد استطاعت بحسنها وجمالها أن تمتلك زمام هذا الرجل المغرم بالنساء فترة طويلة ، إلى أن تزوج عليها .. فصدمت فيه صدمة كبيرة زلزلت كيانها ، وأثّرت فى أعصابها !

ولم تكن نوال ، والدة دلال تملك الرفض إزاء إصرار أمها على إتمام هذا الزواج ، فانصاعت مرغمة ، قبلت ، رضيت بالواقع أملاً فى حياة مستقرة تحقق من خلالها أحلامها التى تتيحها إمكانيات هذا الرجل الثرى ! لكن .. لم تمض إلا سنوات معدودات حتى بدأ يتعالى الهمس بوجود زوجة جديدة فى حياته ، زوجة مصرية اشترى لها شقة على النيل فى الزمالك ، وبدأ يقضى معظم وقته فى القاهرة بجوارها ، فى حين تجاهل وتناسى وجود زوجته الرابعة نوال ، كما نسى وجود زوجته الأولى بنت عمه ، وأم عياله جمال وسناء وعادل ، كما لم يعبأ بالمرة بزوجته الثانية التى أصرت أن تقيم فى دمشق مع أهلها
فطلقها ، أما الثالثة فكانت تقيم معظم الوقت فى الكويت ، وإن كانت كثيرة السفر إلى أهلها فى البصرة !

جن جنون نوال التى تأكدت من صحة الإشاعة فأصرّت على الطلاق ، فلم يبد زوجها رفضاً أو ممانعة ، وافقها على الفور ، طلقها ، ودلال ما تزال طفلة صغيرة فى يدها ما تدرى شيئاً عن الدنيا ! وسرعان ما غاب عن حياتهما هما الإثنتان بعد أن ترك لهما مالاً وفيراً ، ولم تعد دلال تراه إلا فى المناسبات ! إذا سمحت ظروف سفره وترحاله !! ولم تلبث أن جفت مشاعرها نحو والدها تماماً ، كان ذلك على النقيض من سعاد ، التى لم تكن تحب فى حياتها مخلوقاً قدر حبها لأبيها ، ذاك الرجل المعطاء الذى يمنح الحب والمال بسخاء ، بلا حدود ، كما يمنح العطف والحنان لكل من حوله بلا استثناء !

كان هناك دائماً نوع من الحب القوى الذى يربط بين أفراد هذه الأسرة ، كانت الأمور هادئة مستقرة تحت سقف هذا البيت الكبير الواقع فى منطقة الشامية ، الذى تحيطه حديقة واسعة رائعة التنسيق ، باسقة الأشجار ، والذى يخيم على جو رائع وديع من المحبة والود والترابط والإيثار .

كان أهل البيت يفرحون كل الفرح بدخول رب الأسرة الطيب عليهم ، الذى يبعث بمجرد دخوله البيت شعوراً عارماً يغمر الجميع بالإرتياح والفرح ، وأولهم سعاد التى تركض نحوه تحضنه ، تقبله ، تضمه فى شرور وشوق ولهفة ، وتاليهم زوجته أم عبد الله ، تلك المرأة الوديعة الطيبة ، التى لا تقل عنه حباً وعطاء وسخاء . صراحة .. الكل يحبه ، حتى الهنود الذين يقومون بخدمة البيت يحبونه ، يفرحون لقدومه ، السائق الهندى نفسه رفض أن يأخذ أجازته العام الماضى وأبى أن يسافر إلى بومباى لأن أبو عبد الله كان مريضاً ..!

و .. تبقى تدور عجلة الزمان ، تلف الأيام والساعات ، يبقى يتعاقب الليل والنهار والشواهد كلها تؤكد استمرار علاقة جاسم بدلال ، التى ازدادت وضوحاً وإنتشاراً ، فدلال تحب أن يعرف الجميع بأمر هذه العلاقة ، بالذات سعاد ، لأن دلال تفاخر وتباهى بأنها صديقة جاسم وتتمنى أن ينتهى هذا الحب بالزواج !

فى الحقيقة ، كانت دلال تعتبر علاقتها بجاسم علاقة طيبة ، سوف تنتهى بطريقة طبيعة ، كل ما فى الأمر إن جاسم ما زال يحتاج بعض الوقت كى يستسلم للأمر الواقع ، ويقّر موضوع الزواج . المشكلة الوحيدة فى حياتها ، أنها لم تكن مطمئنة إلى نتيجة علاقتها بجاسم ، فهناك دوماً سعاد ، بجمالها النفاذ وتأثيرها العميق ، وشخصيتها الساحرة ، وعقلها الكبير ، وسمعتها النظيفة النقية وثرائها اللامحدود ، كما أنها قبل ذلك كله بنت خالته ، ودلال تعلم علم اليقين مدى الحب الكبير بين الأختين ، أم جاسم وأم عبد الله ، لذا يظل هذا الخاطر يقلقها كثيراً ، يؤرقها دائماً ، فكانت كلما فكرت فى هذا الموضوع بعمق تستشعر الخطر من تلك المنافسة غير العادلة بينها وبين سعاد !

لكن لا .. دلال لا تيأس أبداً ، تظل تقاوم شعورها بالقلق حيال سعاد ، ترفض فكرة الاستسلام للهزيمة فى هذه المعركة المصيرية ، فتعيد تخطيط سياستها ، تقرر تكثيف الهجوم والإقتراب من الهدف ! لذا .. تسميت فى مطاردة جاسم ، تقتفى أثره فى كل مكان ، تبحث عن حل يرضيها ويساعدها على تفهم الكثير عن شخصيته ، فهى تعرف أنه لن يفكر يوماً فى أمرها لأنه يختلف عن هؤلاء الشباب الذين يضعون عقولهم فى أقدامهم ، ويفقدون إرادتهم أمام البنات ، لا .. جاسم قادر على ضبط نفسه على التحكم فى عواطفه ، ومراعاة كلامه وأفعاله ، فهو عميق الشعور بالذات ، كبير التقدير لأسمه ومكانته .

إذن .. الحل فى رأى دلال أن تتواجد هى فى حياته ، أن لا تدع له وقتاً كافياً يخلو فيه لنفسه كى لا يفكر فى غيرها ، يجب أن لا تعطيه الفرصة لأن يفعل ذلك ، لابد أن تبقى دوماً أمام عينيه وبالتالى فى قلبه ، فالبعيد عن العين بعيد عن القلب ، ثم أن التعود عليها ، والإرتباط بها ، سيجعله ضعيفاً أمامها ، لا يقدر على بعادها ، لأن الألفة والإرتباط الزائد يساعدان على إستمرار الحب ، هذه هى وجهة نظرها ، كان هذا منطق دلال ، وكان ذلك محور تفكيرها ، لذا أخذت تفتش عن جاسم فى كل مكان ، بدأت تتصل به فى أغلب
الأوقات ، كل الأوقات ، لا يردها عنه شئ .. !

تبدأ دلال تشن حملة مطاردة رهيبة ، لم تعد تسمح لجاسم أن يغيب عنها نصف نهار دون أن تعرف أين ذهب ، مع من تكلم ؟ ماذا قال ؟ متى رجع ؟ لماذا لم يخرج من البيت ؟ ماذا كان يفعل فى البيت ؟! من كان عندهم .. سعاد كانت عندهم ؟! ولا تكف دلال عن الاتصال به فى جميع الأماكن ! حتى فى البيت عرفوها ، أمه وأخته وأبوه ، إلا أنها كانت تتصرف معهم بحذر ، فهى لم تكن تفعل ذلك كثيراً ألا لو كانت مضطرة بالفعل .

ظلت دلال تحاول أن تحى صلة القرابة القديمة ، إلا أن أم جاسم لم تعطها وجهاً ، بينما كان والده لطيفاً بشوشاً معها ، كثيراً ما كان يسألها عن أحوالها ، وأحوال أمها وجدتها ، فهو ما زال يحس حنيناً خاصاً نحو دلال ، إنها تذكرة بصورة أمها الحسناء الساكنة ما تزال فى أعماقه ، كما لا ينسى حب جدتها له ، وترحيبها به ، حين كان يدخل عندهم ، فى بيتهم القديم بالمرقاب ، وهو عطشان ، فتسقيه بينما كان يتصبب عرقاً بعد طوال اللعب مع صبيان وبنات الفريج وبينهن نوال .. ماركور طاح بالتنور ودوامة وهمايا ودرباحة وحيلة ..!

يتذكر أبو جاسم أيضاً ليالى القرقيعان عندما كان يطوف بالأبواب ومعه نوال والصغار ، صبيان وبنات وكيف كانت أمها تجزل له العطاء ! يتنهد .. يا لها من أيام . يعود يتنهد :

– إييه .. كانت أيام .. والله كانت أيام ..!

الحين .. كل شئ تغير . الدنيا تغيرت . الناس تغيرت . حتى أبو جاسم نفسه تغير بعد عمله العسكرى فى وزارة الدفاع ، وقبل ذلك دراسته للعلوم العسكرية غيرته ، جعلت منه إنساناً آخر ، منضبطاً ، متزناً ، منطقياً ، حاسماً ، حازماً ، لذا لم يكن ممكناً أن يتفق فى الرأى والقول مع عديله أبو عبد الله ، الذى يختلف عنه فى كل شئ ، فى الشخصية ، فى الطباع ، فى الأفكار ، فى التصرفات ، فقد كان الأخير يأخذ أمور الدنيا ببساطة وسهولة ويسر ، فى حين يأخذها أبو جاسم بحزم وحسم وجدية .

الظريف فى الموضوع ، إن الشقيقتن تتجاهلان تماماً هذه الفجوة النفسية بين
الزوجين ، لا تهتمان مطلقاً بهذا النفور أو الجفاء – ما علينا – بل كثياً ما كانتا تتندران به ، وتضحكان عليه ، وتبقيان كما هما ، محتفظتين بعاداتهما الطبيعية فى تبادل الزيارات شبه اليومية التى لا تنقطع ، وفى حبهما ورعايتهما لسعاد وليلى اللتان تجمعهما ألفة ومحبة منذ الصغر ، آه .. أنهما أيضاً تتمنيان أن يتزوج جاسم وسعاد ..!

لكن .. جاسم اعتاد أن ينظر إلى سعاد على أنها طفلة صغيرة تلعب مع أخته ، فهما تلهوان معاً ، تضحكان معاً . تتخانقان معاً . معاً . وكانت نظرة جاسم تشملهما هما الاثنتين معاً ، خاصة وأن سعاد تكبر ليلى بحوالى أربع سنوات ، فى حين كان جاسم يكبر سعاد بثمانية أعوام .

لم يكن جاسم يتردد على بيت خالته كثيراً ، كانت صلته بأشقاء سعاد فاترة ، خاوية ، اللهم إلا من بعض ذكريات لعب الصبيان وشقاوتهم ، بعدها .. حين كبروا ، سافر عبد الله إلى أمريكا لدراسة الهندسة ، وفيصل ، الأخ الثانى الذى يقارب جاسم فى العمر ، والذى يلعب كرة اليد فى نفس النادى ، التحق بكلية الشرطة ، ثم صار أكثر تباعداً ، بعد أن تخرج وتزوج وانشغل بعمله وحياته الخاصة .

أما بدر ، الأخ الأصغر ، فهو أكثرهم خفة ظل وخفة دم وخفة روح ، فهو يحب التمثيل ويهوى محاكاة الآخرين ، وما أن يشاهد مسرحية أو فيلماً ، أو يتابع مسلسلاً إلا ويقلد الأبطال فى كل شئ ، الصوت ، الحركة ، طريقة المشى ، طريقة الكلام ، حتى يقتنع من يراه ويسمعه ، أنه يشاهد العمل الفنى متكاملاً ، لأن بدر فى الواقع يقدر يتقمص عدة شخصيات فى وقت واحد !

أما سعاد ، وهى الأخت الوحيدة التى أتت إلى الدنيا بعد كل هذه السنوات ، ظل إخوانها الصبيان يتخاطفونها كالدمية بين أيديهم يداعبونها ويلاهبونها ، فازداد جو البيت بهجة بوجود هذه البنية الصغيرة ، وتعالت ضحكات أبيها وجدها وهما يمزحان معها ، وكانت فرحة أمها لا تقّدر وهى ترى ابنتها الصغيرة الجميلة ، تكبر وتنمو وتزداد جمالاً أمام عينيها يوماً بعد يوم .

فى الواقع .. تغير الإحساس العام فى البيت بعد أن أتت هذه البنت اللعبة التى ملأت البيت بضحكاتها ، وصتها ، وحتى بكائها ، فرحة وحياة . جاءت سعاد وجاء الخير والسعادة معها لأهلها فبعد مولدها مباشرة قفزت أثمان العقارات إلى أرقام خيالية ! ارتفع سعر
الأرض ، جاء التثمين من قبل الحكومة التى إحتاجها لشق طرقاً جديدة ، فتدفقت الأموال على أبيها كالمطر ، فتفاءل بوجودها وإعتبرها هدية من الله .

فى الواقع ، لم يكن والد سعاد وحده المغرم بصغيرته ، فجدها أيضاً كان متيماً بها ، وهو الذى أطلق عليها اسم زوجته رحمها الله ، كان الجد صاحب هذا الخير ، فهو الذى إنتقى وإشترى قطع الأراضى المتميزة ، وهو الذى بدأ العمل فى مجال العقارات من زمان ، ثم سار أبنه الكبير سالم على دربه ، ساعده فى ذلك دراسته للتجارة فى جامعة القاهرة .

ظلت سعاد طوال طفولتها تنهل حباً متصلاً صافياً ، من الجد تارة ، ومن الأب تارة ، ومن الأم تارة ، ومن الأخوة الثلاثة أغلب الأوقات ، كانوا يحنّون ويعطفون عليها ، بل كانوا يبالغون فى سبغ هذا الحب والعطف والحنان ، إلى درجة أنهم كانوا يخشون من النسمة العابرة أن تهز شعرها ، لكن هذا النبع السخى المتصل من الحب لم يجعل سعاد طفلة لاهية ساذجة ، لا .. بل كان هذا الحب المتدفق سبباً مباشراً فى تعليمها كيف تكون أمور الدنيا منذ نعومة أظفارها ، وكيف يمكن معاملة الناس ، وكيف تتم طرق البيع والشراء ، وما هى أسس النجاح فى إختيار العقار ؟! وعرفت سعاد إجابة هذا السؤال ، وهى طفلة ما تزال تبدل
أسنانها ، كما تبدل موقعها بين حجر أبيها وحجر جدها !! ألا وهو الموقع . ثم الموقع . ثم الموقع !

سمعت سعاد الحوار المتصل بين والدها وجدها وهى تلهو حولهما ، عندما كانا يتناقشان فى أمور البيع والشراء أمامها ، عرفت كيف يتم تحديد الثمن وكيف يكون أسلوب السداد وما هى طرق المساومة والفصال ، وشروط البيع لقطع الأراضى ، سواء تلك التى على البحر فى السالمية ، أو غيرها فى بوحليفة .. أم الأفضل إختيار قطعاً أخرى فى المناطق التى لم يصلها العمران بعد ، فى الفروانية والصليبخات وجليب الشيوخ وخيطان ؟! أم تلك التى تقع على البحر مباشرة فى الفحاحيل والفنطاس وسيكون لها شأن كبير فى المستقبل القريب بعد شق الطريق الجديد ؟!

وهكذا ، عرفت سعاد سر النجاح فى مجال العمل بالعقارات ، وهى تأكل الحلوى ، أو تمضغ العلك ، أو تشرب العصير ، سمعت سعاد الكثير من المشاكل وتعلمت كيف تتم مواجهتها وكيف تقدر على حلها ، كما عرفت كيف تعقد الصفقات ، بينما كانت تنط وقفز فى جو مشوق ممتع فيه أنس وفرح ، فقد كانت سعيدة بوجودها مع أبيها وجدها ، اللذين كانا يصحبانها معهما بالسيارة لمشاهدة قطعة أرض جديدة ، أو عقار يودان تقدير ثمنه ، وأحياناً كانا يطلبان رأيها لأنهما يتفاءلان بوجودها ، ويستبشران بها .. وكانا يطلقان عليها سعاد ، أم السعد .

فى حقيقة الأمر ، إمتصت سعاد هذا الكم الهائل من الإحترام والحب ، وعكست هذا الكم الهائل من الإحترام والحب بروحها الحلوة ، ودفء إبتسامتها ، ومشاعرها الجياشة ، وحرارة ترحيبها وصدق إهتمامها ، دون تصنّع ، فهى بطبيعتها تجيد التواصل مع الناس ، وتتقن فن التعامل مع الآخرين برقة وذوق وإحساس .

سعاد ، فى الواقع ، تعلمت الكثير من حكمة جدها وبراعة أبيها ، فأكتسبت منهما الكثير ، فنشأت رزينة ، عاقلة ، غير متسرعة ، عميقة التأثير ، دافقة العطاء ، مسئولة ، ملتزمة ، طيبة ، تترك أثراً حانياً يبقى فى الناس .. حيث ينطبع ولا يزول !

هذه هى سعاد التى تفيض حباً وحناناً وعطاء لكل من حولها ، والتى تصدق فى كلامها ووعدها ، وتحترم وتعتز بنفسها ، وهى تخشى أن تخدش كرامتها أو يهان شعورها أو يطعن قلبها ، لذا لم تأخذ مزاج ليلى معها أمام جاسم بسهولة ، ظلت تسترجع الموقف نظرة . نظرة . كلمة . كلمة . حركة . حركة . و .. ضحكة . ضحكة !

نعم .. لم تزل نظرة الدهشة التى رأتها سعاد فى عينى جاسم تجرح روحها ، لم تزل ضحكاته ترن بين جدران قلبها ، لم يزل صداها يضج فى أعماق أعماقها !! إنها تذكر تلك الليلة الصيفية الطويلة ، وكيف ظلت ساخرة مسهدة حتى آذان الفجر ، منذ مازحت ليلى جاسم وأوحت له بحبها . آه .. كيف جرؤت ليلى أن تفعل ذلك بها ؟! كيف خطر ببالها أن تخضع حبها لنكتة أو مزحة كهذه ؟!

كان الصراع الداخلى فى قلب سعاد يتفاوت بين السخط على مزاج ليلى ، وبين الرضا عن مصارحتها جاسم بما تكنّه من مشاعر نحوه ، كان يمنعها حياؤها وكبرياؤها عن كشفها والبوح بها ..!

أيضاً .. كان الشئ المؤلم فى الموضوع ، الذى ظل يسحق شعور سعاد ، أن جاسم اعتبر الموقف ضحكاً أو هزاراً من ليلى ، ولم يفكر فى أهميته بالنسبة لها ، ولم يدرك خطورته وحساسيته عندها ، لأنه تجاهل كل شئ ، ومضى فى حياته كما هو ، مبقياً على صلته بدلال .. كأن شيئاً لم يكن !!

بالتأكيد دلال خططت لذلك من زمان ، وهى ماضية فيما تفعل إلى النهاية ، لذا ، تستسلم سعاد للأمر الواقع ، تترك مكرهة الأمور تسير كما هى ، خاصة وأن الظروف أيضاً ساعدت دلال على الإقتراب من جاسم ، بعد أن صممت أمه على إلحاق ليلى معها بمدرستها ، رغم أنها خارج منطقة كيفان ، إلا أن أبو جاسم إستطاع بالواسطة الحصول على موافقة وزارة التربية ، كما أن دلال لم تكن قد أنتقلت مع أمها إلى بيتهم فى السالمية بعد ، وبقيت فى بيت جدتها بالمرقاب .. وهكذا .. شاءت الظروف أن تجتمع البنات الثلاث فى مدرسة ثانوية واحدة .. يتردد عليها جاسم من وقت لآخر ..!!

ومع الوقت .. لا تعود سعاد تعبأ بشئ آخر غير حبها لجاسم ، ذاك الحب الذى يحلو لها أن تحبه ، وتحبه ، حتى لو كان حباً يائساً ، حباً من طرف واحد .. لا أمل فى تبادله !

وذات يوم رمادى الهواء والسماء ، تعلم سعاد أن جاسم على وشك السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن قبل ضمن أفراد البعثة الطبية فى وزارة الصحة ، تسمع سعاد هذا الخبر ، فتكاد تفقد وعيها حزناً على فراق جاسم .. كان لديها بصيص أمل فى أن تجعله يشعر بها ، يحس بها ، يلمس مدى حبها ، لكن .. ضاعت الفرصة ، فدلال ما تزال تقطع الطريق ، وتسد بوجودها باب الأمل أمام قلبها !

فى ذلك المساء القاتم ، قبل سفر جاسم بساعات ، أقام النادى حفلاً كبيراً لوداع البطل كابت الفريق ، حضره عدد كبير من اللاعبين والمشجعين ، تقترب مراسم الحفل من
الانتهاء ، يبدأ جاسم يودع من حوله ، يقترب من أخته ليلى التى يبدو عليها التأثر العميق يقول لها مداعباً ، ضاحكاً ، وهو يربت على كتفها فى حنان :

– منذ متى وأنت تحبينى بهالشكل يا ليلى ؟! والله اللى يشوفك الحين يقول صدق تحبينى ..!!

يدنو من دلال التى تعجز عن النظر إليه ، تبدو فى حالة إنهيار تام ، وبكاء ونحيب متصل ، ودموع لا تنقطع ، يطالعها محرجاً من تأثرها البالغ البادى أمام الجميع ، يقول لها مازحاً :

– دلال .. سكتى الله يخليك .. يا دلال أنت لو شفتى قطة مسافرة الحين راح تبكين عليها .. سكتى أرجوك .

تحاول دلال أن تتماسك وأن تتظاهر بالهدوء ، لكنها تعجز عن ذلك ، تظل تبكى بنفس الدرجة ، ونفس القوة ، ينصرف عنها جاسم مقترباً من سعاد التى تقف ساكنة جامدة كتمثال بلا روح .. ولا حياة !

يدنو جاسم منها ، يقترب ، يقف ينظر إليها نظرة عميقة نافذة مسائلة فتطرق إلى الأرض بعينيها وقلبها يرجف ، ومشاعرها تشتعل ، وهى تحس دماء ساخنة تصعد ناراً تحرق كيانها .. تتشاغل بالنظر إلى ليلى ودلال الغارقتين فى بحر من الدموع ، فى حين يبقى جاسم واقفاً يرنو إليها وحدها ، يطالعها وحدها ، كأنه يبحث عن شئ ما يسكن أعماقها .. شئ يود العثور عليه ! لكنها سعاد .. العميقة عمق البحر الذى لا قرار له ، والذى لا يقدر أحد على سبر أغواره السحيقة لا توحى له بشئ ! يصمت جاسم هنيهة ، ثم يضحك وهو يرنو إلى الفتاتين الباكيتين قائلاً :

– شوفى حالتهم كيف صارت ؟! أنا ما أدرى ما هو السبب .. أكيد فيه سبب تانى غير سفرى !

يعود يقول لسعاد وهو يشد على يدها بقوة ، بينما ينظر إليها بإعجاب :

– خذى بالك من نفسك يا سعاد .. فى أمان الله .

يبتعد جاسم متجهاً إلى مبنى إدارة النادى ، يغادر بعد لحظات إلى المطار بصحبة عدد كبير من الإداريين ، واللاعبين ، والمشجعين ، حيث يلتقى فى المطار بالأطباء المسافرين ضمن بعثة وزارة الصحة ، والأطباء المودعين لزملائهم المغادرين .

ترجع سعاد إلى البيت وهى ما تزال تلتف بالسكينة والهدوء ، تتستر باللامبالاة والبرود ، تخبر أمها بحفل النادى الذى أقيم لتوديع جاسم ، تصف الاحتفال لها بطريقة عادية طبيعية كأن الأمر لا يعنيها نهائياً .

تدخل غرفتها . تغلق الباب خلفها فى هدوء . تقف تبدل ملابسها فى هدوء . ترتدى قميص نومها فى هدوء . وهى تنعى نفسها . تلعن ضعفها . تكره عجزها عن التعبير عن مشاعرها .. وكشف حبها ..!

تفتح جهاز التسجيل الموجود بجوار سريرها . تضغط زر التشغيل . ينساب صوت عوض الدوخى فى حنو وحنان بين أرجاء الغرفة :

 

ظالم أقول .. وإلا أنــا

ويايا دومك فى الهــوى

ظالم أقـــــــول..

منيت قلبى بالمنـــى..

ما كان أكثر من النــوى

تتحرك سعاد ساهمة تبحث عن لا شئ . تتوه هائمة فى كلمات الأغنية التى تملأ جو الغرفة الساكنة بألحانها الحانية الآسية ، فتنساب دموعها أكثر وأكثر ، وهى تتمعن فى المعانى التى تحسها تنطبق بصدق على شعورها فى هذه اللحظة الحزينة التعسة !

تعود تفكر فى حنق وغيظ وثورة على نفسها ، وهى تعتبر تعلق جاسم بدلال
خيانة لها ، وأمتهاناً لحبها ، فهو حبيبها منذ طفولتها ، وهو حلم خيالها منذ أحست بنفسها وأدركت طبيعة شعورها .. تنهمر دموعها ، يشتد نحيبها ، لا تستطيع أن توقف بكائها ..!

تبحث عن حبوب تخفف آلام الصداع الذى يفتك برأسها ، تعود تفكر وهى تلوم
نفسها ، كيف لم تستطع أن تنفث عن حزنها لحظة وداع حبيبها .. كيف ؟! لماذا ؟! لماذا ؟! أليس من حقها أن تفصح عما فى نفسها ؟! أم أن ذلك كله من حق دلال وحدها ؟! دلال .. كيف تسمح لنفسها أن تبكى كل هذا البكاء ؟! بأى حق تعلن حبها لجاسم بهذه الطريقة الواضحة المكشوفة أمام كل الناس ؟! بأى حق ؟! بأى حق ؟!

تصارع سعاد يأسها وإحباطها ومرارة إحساسها ، تقاوم شعورها بالعجز وقلة الحيلة ، تحاول أن تأخذ نفساً عميقاً ، لكنه يخرج ثقيلاً مكتوماً ، مهموماً تتناوبها تنهيدة ترفر ناراً حامية تخرج من أعماق أعماقها ..

تنظر إلى جدران غرفتها مخنوقة . مكدودة . محبطة . لا تدرى ماذا تفعل بعد أن ضاقت الدنيا فى عينيها وأطبقت الجبال على صدرها فسحقت قلبها . تبلع حبتين مسكن للصداع . تتمدد على فراشها كارهة التفكير فى نفسها التى منعتها أن تكون ضعيفة ، فحالت بينها وبين التعبير عن ذاتها ، وإظهار مشاعرها ، وكشف إحساسها ، والبوح .. بحبها !

تتقلب سعاد فى فراشها مسهدة ، تمد يدها تطفئ النور ، تخفض بعض الشئ الصوت الذى ينساب ممتزجاً مع الليل والوحشة والأسى والأنين :

آه من حيك ويلى … هولى مرّ المذاق

تتأمل سعاد سماء سوداء تتشح برداء من النجوم المسهدة الساهرة ، وضوء خفيف يتسلل من النافذة إلى فراشها .. تحس شاعرية اللحظة تنزف ألماً خارقاً فوق ضعفها ، فوق تحملها ، فوق طاقتها ، تزداد نقمة على قوتها وثبات شخصيتها وإحساسها البالغ بكرامتها ، تلك التى منعتها أن تبكى فى حرقة وضعف ووهن .. كما بكت دلال !!

تنكفئ على وجهها ، تضع يدها على فمها تكتم زفراتها ، تنقلب على جنبها وهى تفرك عينيها بأصابعها ، تشد المخدة من جوارها تضعها فوق رأسها ، و .. يبدأ يصحب حزنها صوت عوض الدوخى ساهراً ساحراً هائماً بين جنبات الحجرة :

عذبنى هواك .. لوعنى جفاك وحبى بعده فى أولــــه

أنساك واشتاق .. وليل الشوق .. على العشاق ما أطوله

مهما تنسى .. ومهما تجفى .. من الصعب قلبى تهونـه


الفصل الثالث

.. عشـقّ الشـــوق !

يصبح كل شئ فى نظر سعاد خاوياً .. خالياً .. بعد سفر جاسم ! هذه المرة طعم الحياة يختلف . الهواء نفسه يختلف . فهى منذ ولدت لم يبعد عنها جاسم كل هذا البعد . كل هذا الوقت . صحيح هو بطل رياضى كثير الأسفار ، كثير الرحلات ، إلا أنه هذه المرة قد رحل بعيداً . هناك فى أمريكا ، لكن .. لا يهم ، فهو على الأقل موجود . يكفى أنه موجود ، ويكفى أنه حبيبها .. حبيبها .. حبيبها .

تعيش سعاد بعد سفر جاسم أصعب أيام عمرها . تضطرب نفسيتها . تهتز ثقتها بنفسها . تحاول أن تعيش حياتها وأن تتحرر من عبودية حبها . لكنها لا تقدر . لا تستطيع . فقد كانت تتمنى أن يصارحها جاسم بحبه قبل أن يسافر . آه .. لكنه سافر . سافر ! تكره سعاد كل شئ حولها . تفقد الرجاء فى تحقيق الأمانى الحلوة التى طالما حلمت بها . تحذف حقائق كثيرة تحيطها ، ولا يبقى يؤنس وحدتها سوى حقيقة وحيدة أكيدة ثابتة هى .. حبها لجاسم !

تشرب سعاد مرارة الفراق فى صبر وهدوء وسكون . هذا الشوق المرّ المذاق . هذا العشق الشديد المرارة كالعلقم ، لا يغير طعمه سوى سماع صوت جاسم من وقتِ لآخر ، عندما تكون عند ليلى ، فهو لا يتصل بها فى البيت أبداً !

تحاول سعاد رغم ذلك العذاب أن تحتفظ بهدوئها وسكونها ، فتمسى كالبحر الهادئ السطح ، الهادر الأعماق ، تمضى أوقاتها لا يسرى عنها شئ إلا وجودها بعض الوقت عند خالتها حيث يملأ طيف جاسم البيت ، كما يملأ فلبها بالمزيد من الشوق إليه .. فتنهض ترتدى ملابسها على عجل . تستأذن أمها فى السماح لها أن تذهب لإحضار كتاب من عند ليلى . تعد أمها بأنها لن تتأخر .

تدخل سعاد بيت خالتها ، فتفاجأ بأن ليلى لم تصح من نومها بعد ! تتندم لأنها لم تتصل بها قبل حضورها ، لكنها كانت متضايقة وتريد الخروج من البيت فى الحال ! تفاجأ أيضاً بأن خالتها ليست موجودة فى البيت ، فتسعد بتلك الفرصة النادرة كى تبقى وحدها فى بيت جاسم ، فزوج خالتها لم يعد من عمله فى وزارة الدفاع بعد ، تعرف سعاد أنه لا يرجع قبل الساعة الرابعة ! مواعيده منضبطة جداً . أوقات خروجه ودخوله فى منتهى الدقة !

تنتهى سعاد فرصة خلو المكان . تجلس مرهفة السمع . مشحونة الحواس . فهى هنا الآن فى بيت جاسم . لا .. بل هنا فى معبد تقدم فيه قرابين الحب لجاسم ! ذلك الحبيب الغائب الذى صار عنها بعيداً . تحس سعاد الجو داخل البيت ينعم بهدوء وصفاء نادر ، إنها تكاد تلمس طيف جاسم يملأ أرجاء المكان ! آه .. إن مقاومتها الحين تضعف . تتلاشى . إنها لا تستطيع أن تبقى مع نفسها دقيقة واحدة . أنها تتعجب من تلك الظروف الغريبة التى شاءت لها أن تأتى بيت خالتها ، وأن لا يقاطع أحد خلوتها . آه .. إنها تخلق بأحاسيسها . بمشاعرها عبر الزمان . عبر المكان .. !

آه .. تتنهد . تتساءل .. أين تلك الأيام الحلوة ؟! أين تلك الأيام التى كان يدخل عليها جاسم ضاحكاً مرحّباً ؟! .. بل .. أين جاسم ؟ أين جاسم ؟ وسرعان ما تستسلم سعاد لخيالها والشوق يملأ قلبها والرغبة الجامحة لرؤية جاسم تستبد بها . تستحوذ على ذاتهـــا ..!

تجلس سعاد على المقعد الوثير . نفس المقعد الذى يحبه جاسم ، والذى كانت تراه دوماً مسترخياً فوقه . تجلس ساهمة شاردة وقد تورّد وجهها ، وأحمرت وجنتاها ، وخيل إليها أنها تصغى بقلبها إلى صوت جاسم الضاحك وهو يرحب بها قائلاً :

– هلا واللّه سهاد .. هلا واللّه

آه .. إنها تكاد فعلاً أن تسمع صوته !! أنها تكاد فعلاً أن تراه باسماً ، محيياً كما إعتاد دوماً أن يفعل ! تحس سعاد حنيناً جارفاً ، وشوقاً حارقاً ، فكل شئ حولها يذكرها بحضور جاسم . بل إنه هو حاضر بالفعل . إن طيفه يحيطها . يلفها . يرحب بها !

تسرح سعاد فترى جاسم بعين خيالها .. فتردد كلمات أغنية حلوة تحبها . ينساب صوت عوض الدوخى من أعماق أعماقها . يؤجج حرارة الشوق ويزيد – لا يخفف – لوعة الفراق !

يا حبيبى .. يا حبيبى

كم رسمنا الحب طفلاً

حالماً عند الغــروب

وملأنا الكون لحنــاً

سابحاً فوق الجنـوب

يا حبيبى .. يا حبيبى

يا ربيب البحر زهـواً

طيفك الحانى رهـيب

آه .. تجلس سعاد ساهمة حالمة ، شاردة فى بحار الشوق ، سابحة هائمة مع هذا اللحن الحلو ، والكلمات الحانية ، تبقى بعض الوقت تستجمع قواها ، ثم ، ما تلبث أن تلقى نظرة حولها ، تنحنى تمسك حقيبة يدها ، وفى نفس الوقت تتحسس بيدها الأخرى مسند المقعد حيث إعتاد جاسم أن يفرد زراعه ! تبقى تتلمس القماش بكفها ، وهى تتنهد وتطوف القاعة بعينيها تطالع صور جاسم التى تغطى الجدران ، فها هو يقذف الكرة بقوة فى الملعب أثناء المباراة بين الكويت وتايلاند فى تصفيات كأس العالم التى أحرزت فيها الكويت 6 – صفر فى الشوط الأول و 4 – صفر فى الشوط الثانى ! عاشوا .. عاشوا .. عاشت الكويت .. عاشت الكويت .

وها هو يسلم على صديقه الحميم الشيخ فهد الأحمد رئيس اللجنة الأوليمبية الكويتية ورئيس الاتحاد الكويتى لكرة القدم ، وها هى صورة أخرى يوم الاحتفال باستلام جاسم عمله كطبيب إمتياز فى مستشفى الصباح ، ويبدو فيها وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن العوضى وعدد كبير من الزملاء الأطباء ، وها هى صورة هنا وصورة هناك وصورة هنا
و .. و .. و .. !

تتلفت سعاد فى قلق حولها ، تستحى أن يدخل زوج خالتها فيراها جالسة فوق مقعد جاسم ، كما تخشى أن تأتى خالتها فتراها قاعدة وحيدة بدون ليلى ، فتنهض واقفة ، وهى تلقى نظرة شوق وحنين حولها .. تمضى تطرق باب غرفة ليلى فى رقة وخفة ، تود أن توقظها من نومها لعل الحديث معها عن جاسم يخفف عنها ويهون عليها نار البعاد الذى يفتك بقلبها !

تستيقظ ليلى من أغفاءتها على صوت سعاد . تفتح عينيها قليلاً وابتسامة واسعة تضيئ وجهها ، وسرعان ما ترفع جسدها . تنهض تحتضنها فى حب وفرح بهذه المفاجأة الحلوة التى غمرتها بموجة لطيفة من الحب والوّد والترحيب .

يتبخر الوقت سريعاً ، تغادر سعادة عائدة إلى بيتها ، فقد وعدت أمها أنها لن تتأخر عليها ، ولم تنس أن تأخذ معها كتاباً مسلياً من عند ليلى . تغادر بيت خالتها التى تقبلّها مودعة ، وهى تدير رقم أختها ، تكلمها ، تطمئنها أن سعاد فى الطريق إليها ، فهى تعرف تعلق أختها بأبنتها ، كما تعرف مدى إرتباطها بها ، وخوفها الشديد عليها .. وبالفعل تصل سعاد بسرعة ، فالطريق من كيفان إلى الشامية ليس طويلاً ..

تتساقط الأيام فى حياة سعاد رتيبة مملة راكدة ، فكلها متشابهة . كل يوم يشبه اليوم الآخر . فهى عند ليلى أو ليلى عندها . هذا كل ما تفعل . اللهم إلا تلك الأيام التى تسمع فيها بالصدفة صوت جاسم إذا اتصل ، وكانت هى بالصدفة عند خالتها ، فيكلمها ، يسأل عنها ، يطمئن على أحوالها ، وهنا .. تختلف المشاعر ، فتختلف معها الأشياء .. كل الأشياء !

.. يطول البعاد . لم تعد سعاد تحتمل أى شئ حولها . يصبح أقل شئ يضايقها ، وأبسط موقف ولو عادى يثيرها . كل الظروف تصبح بالنسبة لها مرهقة مرهقة . فمعظم الناس صاروا مزعجين لا تحتمل وجودهم بجوارها ، حتى بنات أخيها عبد الله مريم ومنى وفضة ، تلك الرضيعة الصغيرة التى تحبها وتدللها ، المعروف حبها لها ، وتعلقها بها ، نعم ، حتى فضة ، لم تعد سعاد قادرة على البقاء معها أكثر من دقيقة واحدة ، ثم تختفى بعيداً بين جدران حجرتها ، حيث تحتمى من شقاوتهن وصخبهن !

صارت سعاد الحين تفضل العزلة بعيداً عن الجميع ، بلا ضجة ولا صخب ، أنها تحب الإعتكاف داخل غرفتها أغلب الأوقات ، حتى علاقتها مع ليلى ، أصبح يشوبها بعض التوتر ، فقهى تخشى أن تلحظ ليلى إنفعالها ، وقلقها ، بعد التغير الجديد الذى طرأ عليها ، رغم أنها ظلت حريصة على التظاهر بأن الأمور طبيعية ، وأن الأحوال تسير على ما يرام ، كأن شيئاً لم يختلف عليها بعد سفر جاسم !

وذات يوم تلتقى سعاد ودلال فى الجامعة ، فتتبادلان حواراً سريعاً عابراً ، تعرف منه سعاد أن جاسم على إتصال دائم بدلال ، وأنه متضايق ويشكو من الغربة والوحدة ، ويعانى من الإرهاق بسبب الجهد المتصل فى المستشفى ، إلى جانب الدراسة المستمرة المكثفة ، كما تعرف سعاد أنه سوف يأتى قريباً إلى الكويت !!

تتماسك سعاد . تأخذ الموقف بهدوء . تنسحب متعللة بميعاد المحاضرة التالية ، كما تعتذر عن عدم ذهابها إلى النادى لمقابلة دلال هناك ، وإن كانت وعدتها بأنها ستحاول يوماً الحضور مع ليلى .

تقف دلال مع مجموعة من الزملاء والزميلات . تلفت الأنظار إليها بأناقتها وأسلوبها المتميز فى إنتفاء ثيابها . إذ تبدو كعارضة أزياء حسناء تعلن آخر خطوط الموضة . كما أنها تجذب إليها كل المحيطين بها بطريقتها اللطيفة الودودة ، وشخصيتها المرحة البشوشة المحبوبة التى تمنح محبة ومودة وإهتماماً لكل من حولها !

صراحة .. لم يكن ذلك كثيراً على دلال ، فهى بجمالها الأخاّذ وطبيعتها اللطيفة ، شخصية جذابة مؤثرة ، تزلزل هدوء المكان بحيويتها الصارخة المتدفقة ، وتبدد مشاعر الجمود والجفاء بإبتسامتها الساطعة وأنوثتها الصارخة ! صدق . دلال دوماً قادرة على أن تشعل أى مكان حولها بكل فنون الفتنة والإغراء ، بالتالى ، لم يكن صعباً عليها بما تملك من جرأة وقدرة على التعبير أن يغفل أحد وجودها فى أى مكان تذهب إليه !

وكان من بين هؤلاء .. جاسم الذى لم تكن دلال تخجل أن تطارده ، وأن تتبعه فى كل مكان ! نعم .. كثيراً ما كان جاسم يفاجأ بوجود دلال أمامه ، كان يتعجب من حضورها غير المتوقع ! فكان يضحك مبهوراً بجرأتها ، مندهشاً من إصرارها على حصاره ومتابعته ، حتى أنه كان يتندر ويقول :

– والله .. أخاف يوم أفتح شنطة النادى ألاقى دلال قاعدة فيها ..!

حقاً .. لم تكن دلال واحدة من هؤلاء البنات الهادئات الوادعات ، التى يمكن أن تيأس وتنسحب بسهولة . لا .. كانت جريئة . مندفعة . تعرف كيف تسحر الآخرين . كيف تسلبهم أنفسهم . كيف توقعهم فى حبائلها . كيف تخضعهم لسطوة إغرائها ونفوذ تأثيرها ، مستخدمة قدراتها الأنثوية المتميزة ، وأساليب شخصيتها النافذة المؤثرة ، فلم تنقطع عن ممارسة حياتها كما هى ، بلا تغيير ، إلى أن حان وقت رجوع جاسم من السفر .

فى البيت ، كان الجميع فى سعادة بالغة وفرحة طاغية ، وحركة نشطة لإستقبال
جاسم . زفت ليلى الخبر إلى سعاد تنبئها بموعد وصوله اليوم . فرحة أمه كانت تملأ البيت كله . والده أيضاً يخرج عن وقاره لأول مرة وتزمته ويعبّر بمنتهى الفرح والبهجة عن سعادته بقرب وصول جاسم .

تلتقى الشقيقتان ، تتكلمان فى سعادة وبهجة لقرب حضور الحبيب الغالى :

– بالسلامة إن شا الله .. بالسلامة .. يا الله .. الدنيا .. الدنيا كلها ما تسوى شئ فى غياب جاسم .. طالت الغيبة هذه المرة .. ياه .. متى يرجع يملأ البيت علينا مرة ثانية ؟!

.. هذه فعلاً حقيقة واقعة . جاسم يملأ البيت . وأى بيت . وأى مكان . وكل مكان يتواجد فيه بالفرح والمرح ، فضحكته عالية مدوية ، وحركته كثيرة نشطة ، وقفشاته ضاحكة خاطفة ، وتعليقاته ذكية ناطقة تثير الضحك وتبهج كل محيطيه . فهو خفيف الدم والظل والروح . ومع ذلك جاسم شاب قوى العزيمة ، واثق من نفسه ، يعرف كيف يحدد أهدافه ، وكيف يصيبها بدقة متناهية ! يعرف كيف يحرزها بنجاح منقطع النظير ، فهو مهاجم فى فريق الكرة ، وهداف فى واقع الحياة !

جاسم بحق ، شخصية اجتماعية جذابة خلابة ، يحبه الجميع ، يريده الجميع ، لا يمل أحد جلسته ، بل يتسابق الكل للقائه ، والفوز بصحبته . وفى وسط هذا الجو المفعم بحب
جاسم ، وتقدير جاسم ، والفخر والإعتزاز بجاسم .. نشأت سعاد . فكان طبيعياً أن تشعر بالحب نحوه ، خاصة وأن الوالدتين كانتا تلمّحان من وقت لآخر إن سعاد عروس جاسم ، وإن جاسم عريس سعاد !

تحدث سعاد نفسها فى آسى ، تسأل روحها فى ألم وضعف وعتاب :

– كيف ما قدرت أخلى جاسم يحبنى ويحس فينى كل هالوقت ؟! كيف ما عرفت أخليه يعرف أنى باحبه كل هذه الفترة ؟! كيف ؟! كيف ؟!

حقاً .. كانت تربية سعاد جادة ، قويمة ، حازمة ، حانية ، فأمها إمرأة كبيرة متدنية ، واخوتها الشباب يخافون عليها من الهواء ، بإعتبارها الأخت الوحيدة الصغيرة التى يحيطونها برعايتهم وحبهم وحرصهم ، حتى أبيها وجدها رحمة الله عليه ، كانا يعاملانها مثل باقى أخوتها ، فقد كانا يعدانها منذ الصغر لتدير ذات يوم عملاً عظيماً ، ولتتحمل مسئولية كبيرة فليس عندهما فرق بين بنت أو صبى .

لذلك .. لم يكن مستغرباً أن تنشأ سعاد قوية ، قادرة ، تتقن السيطرة على تصرفاتها ، تستخدم إرادتها وعقلها ، لهذا لم تدخل دنيا المراهقات ، ولم تكن لها تجربة عابثة ذات
أخطاء ، كما لم تكن تلقى بالاً لاهتمام الفتيات بمثل هذه الأشياء ، فنالت بذلك إحترام الجميع ، وتقديرهم منذ صغرها ، مما منحها بالتالى إحساساً ضخماً بذاتها ، وكيانها ، ونظرتها لنفسها .

و .. يأتى اليوم الموعود . يتأهب الجميع منذ الصباح الباكر للقاء جاسم القادم اليوم من نيويورك . تأمر والدته بإعداد وليمة عشاء شهية تضم كل أصناف الأطعمة والمأكولات والمشروبات التى يحبها جاسم ، والتى يحب أن تكون جاهزة فى إنتظاره لحظة وصوله .

تذهب سعاد مع والدتها إلى بيت خالتها بعد أن ارتدت أجمل ثيابها ، كما ارتدت أيضاً قناعاً آخر غير مرئى تخفى شعورها الحقيقى ، وتدارى به فرحها الداخلى ، حقيقة .. كانت سعاد فى غاية الإنفعالى رغم مظهرها الهادئ الذى يوحى به سلوكها ، ولن فستانها البيج الحريرى الذى منحها مزيجاً من السكون ، والبراءة ، ومزيداً من الدعة والروعة والجمال ، الذى تؤكده بشرتها السمراء ، وشعرها الأسود الناعم الكثيف ، وعينيها الواسعتين السوداوتين العميقتين .

لا يمضى وقت طويل قبل أن يصل جاسم مقتحماً البيت صائحاً ضاحكاً مهللاً كعادته ، يحيى الجميع بحب وترحاب . يحتضن أمه بقوة . يعانقها بحماس يثير الإنفعال . فتسقط الدموع حارة غزيرة ترق لها القلوب ، بعد أن حّركت حرارة اللقاء العنيف شجون الموجودين وأثارت مشاعرهم ، فى حين كانت سعاد تتشاغل عنهم وهى تشيح بوجهها حتى لا يغلبها التأثر فتسيل دموعها !

كانت سعاد تفضل أن تموت . أن تدفن قبل أن يرى مخلوق دموعها . كانت تحس أن هذا الضعف البشرى لا يليق بها ولا يجب أن يرى يوماً إنساناً دموعها . حتى أقرب الناس إلى قلبها . هذا ما نشأت عليه وتعلمته وحدها . ربما لأنها كانت مركزاً للحب والرعاية وكانت إذا بكت وهى طفلة صغيرة تقوم الدنيا ولا تقعد . ينقلب البيت فوق تحت ، كأن بركاناً ثار فجأة . إنفجر فجأة . تغطى ثورته الجميع بلا إستثناء . أو كان عاصفة عاتية هّبت تهدد أمن وسلامة البيت ، وكل من فى البيت !

كان أبوها يحتمل أى شئ . يقبل كل شئ . ألا أن يرى دموع سعاد . كانت تسيل فى قلبه ناراً حامية كاوية ، فكان يترك كل ما فى يده . كل ما أمامه وخلفه ويجلس يدلل سعاد . يأخذها فى حضنه . يربت على ظهرها . يقبل رأسها ، وجبينها ، ووجهها ولا يتوقف ، ولا يكف إلا بعد أن تكف سعاد عن البكاء !

بعدها .. يصحبها فى نزهة بسيارته ، يأخذها فى جولة حول محلات العصير والحلوى ، يدخل معها جمعية الشامية يشترى لها اللعب والشيكولاته وكل ما تشتهى نفسها ، فهو يتركها تنتقى ما تريد ، وتختار كل شئ على كيفها !

تتابع سعاد النزهة مع والدها ، الذى يستمع إلى صوت عوض الدوخى بأذن حساسة مرهفة ، فيظل يردد معه مقاطع أغنيته العذبة الشجية التى تحبها سعاد لأنه يحبها وينفعل بها ، فتسعد لسعادته بسماعها ، وهى تراه يهز رأسه طرباً وهو يطرق بأصابعـــــه مقــــود السيارة
نشوة :

يا ليل دانا لنـا

يا ليل دانا لدانا

يا ليل دانا لنـا

يا ليل دانا لدانا

تسمع سعاد الأغنية ، فتنسى زعلها ، يتبدد سبب غضبها ، ولا يتركها أبوها إلا بعد أن يرى الابتسامة على وجهها ..! ثم يطالعها بحب ، وهو يحدق بعينيه فى وجهها ، ويقترب برأسه يلامس به رأسها .. فتضحك فى فرح وهى تسمعه يغنى لها وحدها :

جميل وبالخد شامة

بس لو يرد السلام

يا ليل دانا لــنا

يا ليل دانا لدانـا

وحين تضحك سعاد ، تضحك الدنيا كلها . يقبلها أبوها فوق خدها ، وهو يبتسم إبتسامة عذبة صافية تشجى قلبها ، لهذا كله عرفت سعاد قيمة دموعها ، وغلاوة مشاعرها ، فحرصت أن تحافظ عليها ، أن تداريها حتى عن أعز الناس إليها خشية أن تقوم الدنيا
ولا تقعد ، لذلك كانت حريصة كل الحرص على إخفاء إحساسها ، كى لا يشعر جاسم بعذابها وما يعتمل فى قلبها !

يتابع جاسم تحية الجميع ، لا يهمل أحداً فى البيت دون أن يخصه بشحنة حب وافرة ، يتجه نحو سعاد ، يدنو منها بشوق يبرق يلمع فى عينيه ، ولهفة واضحة تبدو عليه ، حين إحتضن كفها بين يديه ، فتركتها سعاد راضية مستسلمة لقوته الضاغطة عليها ، وهى تصغى إليه وهو يقول لها بصوت قلبه الذى تعلق شوقاً بعينيها الواسعتين الجميلتين :

– وحشتينى سعاد .. واللّه وحشتينى وايد .. وايد .

ترجف أعماق سعاد من حرارة هذا الإستقبال الحافل باللهفة والحنين والأشواق . تهتز مشاعرها . يخفق قلبها بشدة بسبب هذا اللقاء الحار غير المتوقع . تحس فرحاً هائلاً يحيطها ، يلفها ، تذكر على الفور يوم حضرت فجأة لزيارة ليلى ووقفت وحدها فى هذه القاعة التى كانت بدونه ، خالية ، إلا من طيفه الذى إحتواها ، ملأها ، وسيطر بقوة على إحساسها وروحها وقلبها :

– آه يا جاسم .. حمداً لله على السلامة . أنت الحين هنا .. ؟ أنت الحين هنا .. ؟ حمداً لله على السلامة .

تعود سعاد تتساءل :

– معقول جاسم هنا ؟!

تعتقد أنها تحلم .. آه .. هى أكيد تحلم ، أنها تكاد من شدة الفرح والإنفعال أن تفقد وعيها . نعم . ليس سهلاً أن تستوعب الموقف ، ليس سهلاً أن تعيش اللحظة ببساطة هكذا ! إن جرعة الشعور العاطفى الغزير هذا فوق طاقتها . فوق قدراتها . فوق توقعاتها . لا تستطيع سعاد أن تمنع عينيها من التسلل خلسة نحو جاسم ، حبيبها ، حبيب قلبها ، وروحها وعمرها ، فتلاحظ ما طرأ من تغيير عليه بعد أن أخذت نظراتها الوالهة تسجل ما تراه من تغيرات .. فرأت له إزداد جاذبية ورجولة ، بعد أن زاد وزنه ونما شعر شاربه ولحيته ، كما طال شعر رأسه وكاد أن يلامس ياقة البالطو الكحلى الغامق الذى يلبسه :

– الله يحميك يا جاسم .. الله يحفظ .

تتنهد سعاد بعمق من القلب وهى تناجى جاسم :

– آه يا جاسم لو تدرى عن حبى لك .. آه لو تعرف إيش كتر اشتاق لك ؟! آه لو تعرف كيف يتعذب قلبى بسبب جفاء قلبك ؟!

تناجى سعاد روحها عاتبة على جاسم :

– كيف قدرت تصبر يا جاسم على هالبعاد ؟! كيف قدرت تتحمل هالوقت وأنت بعيد عنى ؟! كيف .. كيف يا جاسم ؟! كيف يا حبيبى .. يا حبيبى .. يا بعد روحى .. يا بعد عمرى ؟!

يلتفت جاسم نحوها فجأة ، يصوب عينيه داخل عينيها موجهاً إليها نظرة نافذة مساءلة تخترق كيانها ، ترج أعماقها ، فترتبك سعاد ، تضرب عواطفها ، تختلط أفكارها ، تخشى أن يكون جاسم قد أحس بها ، وأدرك مناجاتها ومعاناتها ، فتدير رأسها ، تخفى عنه نظراتها ، تتشاغل بالحديث مع ليلى ، تتظاهر بالبدء فى تناول طعام العشاء !

تمضى الدقائق حميمة ممتعة فى صحبة الأسرة ، لكن .. قبل أن يتناول جاسم باقى أصناف الطعام التى إعدت خصيصاً له ، تأتى الخادمة الهندية تخبره أن له مكالمة ، فينهض جاسم يذهب إلى حيث التليفون فى ركن القاعة ، يتكلم كعادته بصوت عال يقتحم أسماع الجميع :

– هلا دلال .. هلا هلا .. لا .. لا .. لسة داخل البيت من ساعة يا دلال .. أرجوك .. إستنى شوى .. ياه .. يعنى ما فى صبر يا دلال ؟ ما فى صبر ؟ زين .. زين .. حاضر .. حاضر .. حاضر .

يقف جاسم مبتسماً معتذراً للجميع عن عدم إستطاعته متابعة السهرة معهم ، يخرج مسرعاً ينطلق بسيارة والده البيضاء التى أحضرته من المطار ، و .. يمضى متلهفاً متشوقاً للقاء دلال !

ينقطع الجميع عن تناول الطعام . تنسد شهيتهم مرة واحدة ، يخيّم عليهم نوعاً من الضيق والغم بعد إنصراف جاسم المفاجئ عنهم . تنتفض ليلى واقفة ، تدخل غرفتها حانقة . تغلق الباب وراءها فى غيظ وغضب . فى حين تتسمر سعاد مكانها . تبقى تمضغ اللقمة فى تؤدة وتمهل بين ضروسها . تبقى تمضغ . وتمضغ . وتمضغ ، بعد أن عجزت تماماً عن بلعها ..!

أخيراً .. بصعوبة تزدردها مصحوبة بدمعها الذى ينحدر داخلها ، يتجمع فى معدتها التى توشك أن تنفجر ..!


الفصل الرابع

صـدى الصمت !

يضطرب الموقف بعد خروج جاسم المفاجئ لمقابلة دلال دون أن يتناول طعام العشاء ، تفقد أم جاسم صبرها وهدوءها فتقول ثائرة :

– الله بلانا بهالبلوى اللى اسمها دلال .. الله يفكنا منها إن شاء الله .. ما خلته حتى ياكل ؟!

تجيبها أختها أم عبد الله حانقة غاضبة هى الأخرى :

– صدق ماتستحى .. والله ماتستحى !

يتعكر صفو الجلسة ، يعاف الجميع الطعام ، ماعدا أبو جاسم الذى يتابع تناول عشائه كأن شيئاً لم يكن ، يبدو أن هناك تعاطفاً خفياً بينه وبين دلال التى تمّت له بصله قرابة لا يعتبرها بعيدة فجدتها خالة أمه ، يخاطب نفسه مؤيداً :

– شاب .. واللى نفسه فيه يسويه .. خليه على كيفه .

تفتح سعاد فى تردد باب غرفة ليلى ، تدخل ، فتدهش لرؤيتها منهارة باكية ، تحاول أن تخفف عنها حدة الموقف ، لكنها قبل أن تتفوه بكلمة واحدة ، تنطلق ليلى هادرة كالطوفان :

– والله ماراح اتركها هالملعونة .. راح أشوف شغلى وياها عدل .. وأنت سعاد .. ليش ما تساعدينى ؟ ليش ما تحاولين تخلصى جاسم منها ؟ ها .. ؟ أنت ماتحبين جاسم ؟!

تبهت سعاد . تحار كيف تجيب هذا السؤال . تفاجأ بموقف ليلى المباغت ! لا تعرف كيف ترد عليها ، كما لا تعرف ماذا تقول لها ، ولا كيف تخرج من هذا الموقف المتأزم .. فتسكت !

منذ تلك الليلة الحافلة بالغيظ والحرقة والغضب ينشب نوع غريب من الصراع الغامض بين ليلى وسعاد من جهة ، ودلال وحدها من جهة أخرى ، صراع خفى ، غير
مرئى ، لكنه الآن يصبح صراعاً محسوساً ملموساً ! كما ينشأ أيضاً نوع جديد من التحالف الودى بين أبنتّى الخالة اللتان تشنان نوعاً من التحدى العاطفى للإطاحة بعرش تلك المغرورة الطائشة .. دلال !

– الله فوق .

بصبر وأناة يبدأ تخطيط دقيق منظم للأيام التالية ، صدق ، من ضحك أخيراً ضحك كثيراً ، صبراً جميلاً يا دلال ، العبرة بالنتيجة والعظة فى النهاية على أى حال !

تنتهى عطلة جاسم . تطير . تتبخر . تقفز الساعات قفزاً تنذر بقرب موعد الرحيل ، كأنها فى سباق محموم مع نفسها !

– ياالله .. صحيح الأيام الحلوة تجرى بسرعة !

الكل الحين فى حالة استنفار فجاسم على وشك الرحيل . البيت كله يقف على قدم وساق من أجل تلبية طلبات جاسم الخاصة . البن . البخور . العيش . البسمتى . الدشاديش الصيفى والشتوى . المبخرة . اللبان البصرى . التوابل المشكلة وأهمها الهيل والزعفران . كل شئ كل شئ . حتى الصابون الرقى ، حتى ليفة الحمامّ الخشنة التى يحبها جاسم .. نعم ، كل شئ تم إعداده بسرعة ، بعد أن مضت أجازة جاسم فى لمح البصر ، تلك الأجازة القصيرة التى لم يره فيها أحد ، والتى كان مشغولاً فيها طوال الوقت بلعب كرة القدم فى النادى مع لاعبى المنتخب .

ولم يكن لدى جاسم أى وقت ليلتقى بسعاد ، أما دلال فقد بقيت على عادتها .. تلاحقه ، تطارده ، فى كل مكان يذهب إليه ! تجلس تشاهد مبارياته الودية حتى فى أوقات التدريب ! حقيقة .. لم تكن دلال تريد جاسم أن يغيب عن عينيها لحظة واحدة .. يبدو أنها كانت ترفض أن تنام ، ولا أن تقفل عينيها دون أن تراه .. أو تنظر إليه ! أما سعاد ، فقد إستسلمت للأمر الواقع كعادتها ، قبلت به ، رضيت ، قنعت ، فهى لا تستطيع أن تفعل ما تفعله دلال !

و .. تأتى لحظة الرحيل الواجفة .. الوداع هذه المرة بعيداً عن أعين دلال وتأثير دلال . تجلس ليلى وسعاد فى السيارة التى يقودها جاسم بنفسه إلى المطار ، فى حين يجلس والده فى المقعد المجاور له . تضحك ليلى بينها وبين نفسها وهى تناجى روحها :

– مالك مكان بيننا الحين يا دلال .. خليك بعيد أحسن .

تشعر سعاد أيضاً ذات الشعور ، فتسعد بإحساس صلة القرابة ولذة الانتماء ، لكن .. كم تكون المفاجأة ساخرة ماكرة بانتظارهم حتى يصلون المطار ، فيجدون دلال وقد سبقتهم إلى هناك وهى تقف دامعة باكية على وشك الانهيار ! .. بعد أن ظلت تترقب حضورهم بفارغ الصبر من طول الانتظار !

تلمح دلال جاسم فتركض نحوه فور نزوله من السيارة ، تسلم عليه بشوق وشغف ، تكاد أن ترتمى فى أحضانه دون أن تضع أى اعتبار لوجودهم معه ، كأنها لا ترى مخلوقاً غيره ! تسلم عليه بإنفعال وحماس وبكاء ، وهى تنصرف بكليتها إليه دون أن تستحى حتى من أبيه الذى ينظر بعطف إلى دموعها بينما تهمس ليلى ثائرة :

– صدق ما تستحى .. ما تستحى .. هذه المعلونة مايفوتها شئ فى الدنيا .. بسيطة دلال .. صبرى علىّ !

تؤخذ سعاد بهذه المفاجأة غير المتوقعة ! تقف ترقب صامتة هذا الوداع الغرامى العنيف بين جاسم ودلال ، وعرق بارد يثقب مسام جلدها ، فى حين يجف حلقها من شدة الغيرة والغيظ والغضب !

يقف جاسم يودعهم ، يسلم عليهم بسرعة ، فالطائرة على وشك الإقلاع . يدخل دائرة الجوازات متعجلاً وهو يضع حقيبته على كتفه والأخرى يرفعها بيده . يدخل يركض فى حين ينصرف الجميع عائدين إلى حيث تنتظر والدة سعاد عند أختها أم جاسم . تصمت ليلى . لا تنطق سعاد بحرف واحد طول الطريق ، فالحوار لا ينفع الحين ، لأن والد ليلى يقود السيارة ، ولن تفوته كلمة أو همسة ..

فى البيت ، تقتل الفتاتان الموضوع بحثاً ، تقلّبان الخطط على جميع الوجوه ، تفكران فى كل الطرق والوسائل المتاحة والممكنة لإبعاد دلال عن جاسم بأى طريقة ! فى النهاية بقاوة وخبث ومكر البنات تقترح ليلى ضرورة السفر إلى أمريكا لقضاء عطلة الصيف عند جاسم هذه السنة ، تؤيدها فى ذلك سعاد بفرح وارتياح . فهذا هو المكان الوحيد الآمن خارج حدود سيطرة وتأثير ونفوذ دلال .. !

هى أمريكا إذن . فليبدأ الاستعداد لتنفيذ ذلك المخطط الصيفى من الآن . تستدرك سعاد ، تسأل ليلى فى جزع :

– تعتقدين ليلى أنهم يوافقون على سفرنا عند جاسم ؟! لا .. ما أظنهم راح يوافقوا ! أنت ما تدرين شئ عن فيصل وتزمته يا ليلى .. فيصل صعب .. أنت ما تعرفين طباعه ولا أخلاقه .. أكيد ما راح يوافق .

لا تعترض ليلى ، توافقها الرأى ، فهى أيضاً على دراية بطباع فيصل الذى يتصرف مع الجميع بصرامة رجل الشرطة الذى يتوقع الخطر ، ويتشكك فى كل شئ فهو لا يأخذ الأمور بسهولة ويسر مثل والده ، وإنما يسأل ويستفهم ويفكر .. ثم يقرر .

كانت سعاد تتوقع معارضة أخوتها ورفضهم لهذه الفكرة . لذا كان لابد من دراسة الموقف بتأنى . دون تسرع . فالمهم هنا رأى فيصل بالدرجة الأولى ، فيصل لازم يقتنع أولاً قبل أن يوافق ، فإذا وافق . وافق الجميع دون نقاش . أما والدها فهو لا يرد لها طلباً أبداً ، ويثق فيها ثقة مطلقة . لذلك أخذت سعاد تبحث عن سبب معقول ، ومبرر قوى يقنع الجميــع .

فجأة تقفز ليلى صارخة وهى تخبط رأسها بأصبعها وتقول فى فرح :

– وجدتها .. وجدتها .. خالتى أم عبد الله مريضة بالقلب .. زين ؟! وهى لازم تسافر أمريكا عشان تعمل الفحص الطبى هناك .. ؟! وجاسم لازم يشرف بنفسه على حالتها لأنه راح يترجم لها ، ويشرح لها ، ويتابع كل شئ بنفسه .. زين ؟!

تضحك سعاد من أعماق قلبها ضحكة صافية منطلقة .. تقول فى ارتياح شديد :

– برافو عليك يا ليلى .. برافو عليك .. حليتى المشكلة ..!

فى الحال يبدأ تنفيذ الخطة ، الجانب الطبى منها بالذات ، فكلما شكت أم عبد الله من الصداع تقول ليلى فى شفقة واضحة وصوت مؤثر :

– خالتى حرام عليك صحتك .. لازم تفحصين قلبك .. ترى القلب هالأيام يسبب الصداع !

وإذا حدث فى البيت وتوجعّت أم عبد الله من ألم عابر فى قدميها تهرع إليها سعاد موحية بضرورة فحص القلب . لأن من علاماته هذه الأيام وجع المفاصل ، بالذات الركب والأقدام .. تنصح سعاد أمها فى محاول إقناع :

– يّوما حرام عليك صحتك .. حرام عليك .. لازم تفحصين قلبك بسرعة عشان نطمئن عليك .

وهكذا حتى لو شكت أم عبد الله فى وجع ضروسها تنصحها الفتاتان بعد أن تتبادلان نظرات التفاهم والإتفاق بضرورة الكشف على القلب !

– بس شرط خالتى تشوفين طبيب شاطر مثل جاسم .. يقدر يشخّص الحالة عدل .. صراحة ماكو دكتور أشطر من جاسم !

وذات يوم تتكلم ليلى مع أمها عن صحة خالتها الحبيبة أم عبد الله فتقول :

يا ليت يوّما تقولين لخالتى ما تهمل فى صحتها .. ترى هى لازم تفحص قلبها .. أنا خايفة عليها وايد .. هى لازم تروح أمريكا تفحص قلبها هناك فى المستشفى عند جاسم .. وهو أكيد ما راح يقصرّ فى شئ .. وساعتها نطمئن عليها كلنا ونرتاح من هذا الوسواس مرة واحدة .. ترى صحتها هالأيام موعجبانى .. أنا خايفة عليها وايد ..!

تقلق أم جاسم على صحة أختها الكبرى ، فينتابها الخوف والقلق بسبب تكرار هذا الكلام الموحى بخطوة حالتها الصحية ، فتبدأ تختمر الفكرة فى ذهنها ، ثم ما تلبثت أن تبدأ تأخذ حيز التنفيذ العملى بعد أن اصاب القلق الجميع بعدواه ، حتى فيصل نفسه وافق على السفر ببساطة ، على العكس تماماً مما كانت تتوقع سعاد ، لم يعترض أحد من أخوتها على فكرة سفرهم إلى أمريكا ، طالما هذه هى رغبة الأم التى يحترم الجميع إرادتها .

وبنظرة حب تفيض بالحب ، يوافق أبو عبد الله على سفر زوجته وابنته التى يحبها ويتفاءل بها ، والتى شاف الخير ، كل الخير منذ قدومها ، سعاد وجه السعد ، وجه الخير ، فيها البركة والسعد ، حتى أبوه الله يرحمه كان دوماً يتفاءل بها ، كان يحب أن يتصبّح بوجهها قبل أن يخرج إلى عمله فى الصباح الباكر ، حتى لو كانت نائمة يصحيها من عز نومها ، يقّبل وجنتيها ، خدودها ، ويمضى مستبشراً متفائلاً إلى عمله ، حيث يشوف الخير ، كل الخير على نيتها ، وأسمها !

كان من عادة أبو عبد الله أن يداعب صغيرته سعاد ، بأن يناديها أمى ، وكان إذا دخل البيت ولم يجدها يسأل عنها فى لهفة :

– وين أمى ؟ وين راحت ؟ متى ترجع ؟ لا .. لا .. أخرجوا أنتم كلكم .. بس أتركوا لى أمى .. لا تأخذوها منى ..

وكانت سعاد تنعم بحب أبيها الذى لم ينقطع يوماً عن تدليلها ، حتى بعد أن كبرت وصارت صبية تستحى ، إلا أنه لم يكن يقدر أن يتحكم فى حبه لها ، ولا أن يمنع نفسه من تقبيلها ، وضمها ، وإستمراء عطفها وحنانها .. نعم .. كان يحبها أن تشعره بالحب ، والعطف ، والحنان وكان أبوه رحمة الله عليه ، هو الآخر شغوفاً بسعاد ، عاشقاً لسعاد .

وكما تعلمت سعاد فنون الإدارة التى أخذتها عن أبيها الذى درس علوم التجارة ، وإدارة الأعمال فى جامعة القاهرة ، تبدأ تنظيم شئونها ، فتضع تخطيطاً كاملاً لرحلة الصيف القادم !

– شنو راح نحتاج ؟! شنو راح نسوى هناك ؟! شنو نبى نحضره من الحين و .. و .. و .. !

كان أول شئ تعلمته سعاد فى أبجدية صنع النجاح ، هو التعامل مع الوقت باحترام ، أن يتم إعداد كل شئ مسبقاً بوقت كاف قبل الحاجة إلى إستعماله ، حتى لا يسرقها الوقت ، وتضيع منها الفرصة المواتية لإكتساب أى شئ ، لذا ، كانت تعد العدة اللازمة لترتيب شئونها دون ارتباك أو سوء تقدير .

تنتهى سعاد من ترتيب كل شئ ، ليس على الورق فقط ، بل تبدأ فى تنفيذ الجزء العملى ، فتلتحق بالدراسات المسائية فى المجلس البريطانى ، حيث يتلقى دروساً فى اللغة الإنجليزية ، فهى لا تنسى أن دلال تتقن هذه اللغة بحكم دراستها فى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية وهى لا تريد أن تتفوق دلال عليها فى شئ ، فقد تعلمت كيف تصنع النجاح منذ نعومة أظفارها ، أيضاً ، تستخرج سعاد رخصة قيادة دولية ، وتبدأ تقرأ كتيبات سياحية عن أمريكا ، وعلى الأخص عن نيويورك حيث يعيش جاسم !

فى الحقيقة لا يتوقف تطلع سعاد عند هذا الحد ، بل تحرص على إتقان وإجادة صنوف الطعام التى يحبها جاسم ، كما تضيف إليها أصنافاً أخرى مطهوة على الطريقة الأمريكية والفرنسية أيضاً .. !

فى الواقع سعاد لا تدع شيئاً يفوتها صغيراً كان أو كبيراً ، حتى طريقة إعداد أطباق السلطة العالمية الروسية ، والفرنسية ، أخذت تتفنن فيها كل التفنن .. وصارت الحين سعاد جاهزة لبدء النزال ، وخوض المعركة !

صحيح الخصم ليس سهلاً ، والهزيمة مرّة لكن ، الحمد لله ، سعاد لم تهزم من قبل ، لأنه لم تقرر قبل الآن أن تخوض المعركة بطريقة إيجابية .. حقاً .. هى لم تفكر فى منافسة دلال من قبل ، لكنها كانت دوماً ترفض هذا الأمر الواقع الظالم الذى تحاول أن تفرضه دلال دون وجه حق ..!

– صدق هى ما تستاهل جاسم .. ما تستاهل جاسم !

يدخل الصيف حاراً قائظاً ، يشكو الجميع من حرارة الشمس ، وسخونة الهواء هذه السنة ، يتأهب الكل للسفر إلى أمريكا ، ليلى وأمها وسعادوأمها ، التى تحتاج إلى إجراء الفحوص الطبية اللازمة للتأكد من حالة قلبها الصحية !

– الحمد لله جاسم هناك وراح يرتب كل شئ .. كل شئ .

تحلق الطائرة متجهة إلى نيويورك ، تجلس ليلى بجانب سعاد تتهامسان وتبتسمان وهما تتذكران أيامهما فى لندن التى توفقوا بها عدة أيام حيث التقوا خلالها بالأهل والأصدقاء المصيفين ، وأولهم الخال أبو إبراهيم المقيم هناك ليؤسس شركته الجديدة التى يريد أن يجعل مركزها الرئيسى فى لندن ، بالإضافة إلى شركاته التجارية العديدة فى الكويت والإمارات والبحرين .

تسترجع الفتاتان أحداث هذه العطلة القصيرة فى لندن ، تتذكران مواقفهما الكثيرة المتعددة مع بنات خالهما سهام ومنال وصديقاتهما اللاتى يعرفن دلال واللاتى قلن أنها ستموت من القهر بسبب سفرهن إلى أمريكا عند جاسم !

تتذكر ليلى دلال فتقول ضاحكة لسعاد :

– ها .. لا تنسين هدفنا يا سعاد .. ترى لازم نفتّك ونخلص منها مرة واحدة !

تهز سعاد راسها مؤيدة دون أن تنطق أو تتكلم ، خوفاً أن تسمعها خالتها أو أمها الجالستين أمامهما مباشرة ، وحرجاً من الخوض من حديث مباشر وصريح هكذا عن جاسم ، حتى ولو كان مع ليلى !

الموقف فى الواقع غير عادى بالنسبة لسعاد كما تظنه ليلى ، فهو موقف حساس ومحرج ، ومخجل للغاية ، فمجرد الحديث عن جاسم يجعل سعاد تشعر فى الحال بالحرج والخجل ، فهى تخشى أن تخوض تجربة صعبة مثل هذه ، لكنه الحب ، أحياناً ، يخلق نوعاً من الحنين والعناد .. والتحدى !

تهبط الطائرة مطار نيويورك .. لحظات عابرة ويلتقى الجميع بجاسم الواقف من بعيد بارزاً عن الجميع بوسامته العربية الشرقية الملامح التى تميزه عن العشرات ، بل المئات من الشباب والرجال الذين يغّص بهم المكان ، فالجبهة عريضة ، عالية ، فيها ومض الذكاء ، والعينان سوداوان فيهما بريق يخطف الأبصار ، والأنف فيه قوة وشموخ وإعتداد بالذات ، والفم فيه ضخامة وفحولة ورجولة ، والشنب يضع خطاً مؤيداً لكل هذه السمات وتلك الصفات!

تتأمل سعاد ملامح وجهه الوسيم الجذاب الشديد الجاذبية ، تعود تتأمله بإفتتان شديد ورجفّة خفيفة تنتفض فى جوارحها الفتية تزداد كلما دنت منه ، لذا لم تسرع خطواتها إليه .. كانت تمشى متمهلة فى سيرها ، تتحرك ببطء شديد لتعطى الفرصة لأمها وخالتها لسبقها ، حتى تكون هى آخر من يسلم على جاسم ، كى يأتى سلاماً طويلاً ، بطيئاً ، ليس متعجلاً .. بل ، متمهلاً .. متمهلاً !

تلتقى العينان ، تنفذ النظرات إلى الأعماق فتشعل فيها نيران الأشواق ، تضرم فيها اللهفة إلى العناق . ترتبك سعاد . تلقى نظراتها فوق حذائها ، ثم تعود إلى ترفع إليه وجهها المتورد ، الشديد الإختقان ، وإبتسامة ساحرة تحمل كثيراً من الشوق المخزون فى الأعماق ، ورغبة عنيفة فى محادثة جاسم ومصافحته .. تستبد بها !

تتهاوى لحظات الإرتباك والحرج حين يسلم جاسم عليها مرحبابها فى إنفعال واضح لا يخفى على عينيها ولا على قلبها ! هنا .. تحس سعاد جاذبية عارمة تشدها نحو جاسم ، تدخلها معه ضمن نطاق سعادة عظيمة مطلقة !

… يسيرا متجاورين ، يشقان طريقهما بصعوبة وسط الزحام فى مطار نيويورك ، ورغم الضجيج والازدحام الشديد ، تستطيع سعاد أن تسمع صوت جاسم بوضوح ، تمضى وادعة تمسح بنظراتها المكان لتستقر عيناها فى النهاية خلسة عند جاسم ، الذى تتشاغل عنه بالحديث مع ليلى ، خشية أن تظهر مشاعرها وتنكشف لجاسم أشياء لا يصح الكشف عنها ، فهو يملك القدرة على إختراق أعماقها ، وسبر أغوار نفسها ، هى تعرف ذلك جيداً ، تعرف أنه يمتلك تلك المقدرة العجيبة المبهرة !

دقائق أخرى وينطلق الجميع من مطار نيويورك فى سيارة مينى باص ، إستأجرها جاسم خصيصاً لنقل الحقائب والأمتعة ، وأكياس العيش ، وباقى الأغراض التى أحضروها معهم ، فالعطلة طويلة وحاجاتهم كثيرة ، وجاسم كان يتوقع ذلك ، فأعد السيارة لهم مسبقاً حتى لا يتعرض لأى مفاجآت .

يجلس جاسم بينهم سعيداً مبتسماً ، منتشياً ، يهنئهم بسلامة الوصول ، يسألهم عن أحوال الأهل فى الكويت :

– ما فى أحد راح ييجى هالسنة أمريكا ؟

يظل جاسم يستفسر عن أخبار الديرة والأهل والأصحاب ، لا يهدأ قبل أن يطمئن على الجميع كأنما مضت عليه أعوام طويلة لم يذهب فيها إلى الكويت ، وبين لحظة وأخرى كان يقطع حديثه ، يتشاغل بالنظر إلى الطريق ، متجنباً السؤال عن دلال !

ينتظر لحين وصولهم البيت ، ينفرد بليلى ، يسألها بعيداً عن أسماع الجميع عن أخبار دلال ، يستفسر عما إذا كانت تشوفها أو تقابلها ، أو تروح معها النادى ، تجيبه ليلى بطريقة ماكرة متخابثة بصوت عادى وادى برئ :

– دلال مثل ما هى يا جاسم ما تتغير .. يقولون أنها فى النادى كل يوم .. عندها أصحابها يروحون سوا كل يوم .. كل يوم .. !

وعلى الرغم من إتصال جاسم ودلال المستمر ، فالحديث بينهما لا ينقطع ، إلا أن دلال لم تذكر له شيئاً عن ذهابها اليومى إلى النادى !! كما لم تقل له كلمة واحدة عن هؤلاء الأصحاب اللى تروح معاهم كل يوم النادى !! عجيب !!

يغصّ المعنى الواضح فى قلب جاسم . يبلع المغزى الهادف فى هدوء . يصمت . لا يعلق بكلمة . يتّوه الموضوع بالسؤال عن أشياء أخرى بعيدة ، يسأل عن أخبار النادى ، والشيخ فهد الأحمد وعن اللاعبين حمد بوحمد والعنبرى وفيصل الدخيل والطرابلسى ..

يسأل أيضاً عن باقى اللاعبين والإداريين ، ويخص بالسؤال خالد الحربان ، الجيران أيضاً يسأل عنهم ، كل فرد فى البيت يسأل عنه ، هل هم كما تركهم ؟ هل هم بخير ؟! حتى منطقة كيفان كلها يسأل عنها ، هل صارت تغييرات عليها ؟! يسأل عن كل شئ فيها ، عن الجمعية ، والجامع ، والشجر فى الشوارع ، يسأل أيضاً عن سائقهم راجان .. و هل أخذ أجازة وراح بومباى .. وألا بعده بالكويت ؟!

يتحدث جاسم مع أمه ، لا يكفّ عن السؤال عن أحوال والده . صحته . عمله . كأنما مضت عليه سنة لم يره خلالها ، وكأنما لم يكلمه اليوم وأمس وكل يوم ..! مأنما ظل فى الغربة سنوات وسنوات ، ولم يكن فى الكويت قبل خمسة أشهر فقط ، عندما صمم أن يأخذ أجازة طارئة من المستشفى ليحضر إحتفال عيد الكويت الوطنى التاسع عشر !

نعم .. كان إحتفال الكويت بعيدها الوطنى ، سبباً كافياً جداً لجاسم كى يترك كل شئ أمامه ، ووراءه ويأتى إلى وطنه الغالى الحبيب يشاركه فرحته بهذا العيد الكبير . عيد الاستقلال . الذى لا يقدر أن يتجاهله ، ولا أن يتغافل عن حضوره ومشاهدة إحتفالاته ، بل ، والمشاركة فيها بقلبه وكيانه ..

لم يكن هذا الموقف مستغرباً من جاسم ، فهو فى الحقيقة شاب وطنى ، مخلص ، شاب صادق فى مشاعره وإحساسه تجاه الديرة والأهل ، شاب يحب الوطن بأرضه ، وسمائه ، وبحره الواسع العميق ، كما يحب رجال الوطن الذين يدافعون عنه ويفدونه بالروح والدم ، لذا .. كان جاسم معجباً كل الإعجاب بشخصية أبيه أحمد الناصر العميد بوزارة الدفاع بدولة الكويت .

كان العميد أحمد الناصر رجلاً قوياً متميزاً ، يستعمل أقل الكلمات ليمارس حياته بالطريقة التى يحب ويقتنع ، أنه لا يحتاج أن يقول أنا هنا .. حضوره وحده يكفى ، مجرد ظهوره يكفى ، مجرد تواجده فى المكان يكفى بأن يقول للجميع ها أنا ذا ، رغم صوته الخفيض وكلماته القليلة وإبتسامته النادرة .. إلا أن تأثيره الخارق لا يخفى على أحد !

كان تعبيره الفصيح عن النفس ، عما يريد ويشتهى ويرغب ، يتم دون أن يفتح فمه بكلمة واحدة . ياالله يالك من رجل قدير يا أبو جاسم .. حياك الله .

يظل جاسم فترة يسأل عن الأحوال والأخبار ، يريد أن يطمئن على كل شئ ، فالغربة نضخم الأحداث ، تجسمّ الإحساس ، تثير الحنين ، تبعث القلق . إنه البعاد بمشاعره المضاعفة ذات الصدى والرنين والأنين !

تماسك يا جاسم . تماسك . فأنت البطل . فترة من العمر وتعدى . تعبر . تمر . وبعدها .. هلا بالكويت .. ومرحبا بالكويت .

يقترح جاسم أن يأخذ الأهل إلى مطعم قريب لتناول العشاء ، أو كافتيريا رائعة قريبة من البيت تقدم أصنافاً لذيذة شهية ، لكنه يفاجأ برفض إقتراحه الذى يقابل بعاصفة من الإحتجاج ، نظراً لإرهاق السفر ، والرغبة فى فتح الحقائب وتعليق الملابس ، بالإضافة إلى الشعور العام بالتعب والنعاس والحاجة إلى الراحة والإسترخاء .

ينصاع جاسم مرغماً لرغبتهم . يفكر أن يطلب طعاماً جاهزاً ، فهو لم يكن يتوقع هذه المعارضة الصعبة على الإطلاق ! يجلس برهة حائراً يفكر فى تدبير أمر هذا العشاء بعد هذا الرفض . تضحك سعاد وهى تشعر بصعوبة موقفه ، تقول له مطمئنة ، مشجعة ، فى محاولة لإخراجه من هذا الموقف المحرج :

– لا تحمل هم يا جاسم .. راح أسوى لكم العشاء الليلة .. خليها علىّ أنا .. كلها ساعة واحدة ويصير الأكل جاهز إن شاء الله .

يرمقها جاسم بإمتنان وإرتياح شاكراً لها تخلصه من هذه الورطة التى لم يعمل حسابها ، فهو لم يحضر لهم طعاماً بالبيت لأنه كان يريدهم أن يتفسحوا من أول لحظة يصلوا فيها ، ويخرجوا يأكلوا فى مكان حلو بدلاً من البيت ، لكنهم رفضوا وهو ما يقدر يجبرهم على الخروج :

– كيفهم .. خليهم على راحتهم .

هنا .. يقرر جاسم أن يخرج ليشترى بعض الأغراض من السوبر ماركت القريب ، تصميم ليلى أن تذهب معه ، فهى لا تريد أن تظل فى البيت لحظة واحدة بعد وصولها ، تريد أن تتفرج على كل شئ فى أمريكا من أول لحظة ، دون أن فقد دقيقة واحدة !

صراحة .. كان الموقف بأكمله جديداً على جاسم ، لذا لم يعرف ماذا يشترى لهم قبل حضورهم ، أو ماذا يعّد لهم من أطعمة قد تعجبهم أو لا تعجبهم ، كان حائراً ، فالموقف غير مألوف بالنسبة له ، هذه أول مرة يصبح جاسم مسئولاً عن تدبير شئون بيت يضم عدداً كبيراً من الأفراد ، ولم يكن الأمر سهلاً بالنسبة له فهو طول عمره محاط بالعناية والرعاية ولا يعرف شيئاً عن مثل هذه الأمور الخاصة بإدارة المنزل ورعاية الأسرة ، لذلك شعر جاسم بالارتياح عندما أعلنت سعاد أنها سوف تتولى إعداد العشاء ، فعلاً .. خلصته من الإحساس بالحرج والتقصير !

تنهض سعاد تدخل المطبخ ، تبدأ فى إعداد طعام العشاء ، فى حين بدأت الشقيقتان فى أداء الصلاة بغرفة النوم الرئيسية التى تركها جاسم واختص لنفسه الغرفة الأخرى الصغيرة ذات السرير المنفرد . تنهمك المرأتان بعد أداء فريضة الصلاة فى حديث يشوبه بعض القلق عن مرض القلب ، وطريقة العلاج هنا ، والأجهزة الحديثة ومهارة الأطباء المتخصصين .. و .. و ..

تقوم أم جاسم تطمئن أختها :

– الحمد لله جاسم راح يسوى كل شئ .. لا تخافين يا أختى .. الحين الدنيا تغيرت .. الطب تطور .. ما عاد فى شئ صعب .. إطمئنى .. بسيطة إن شاء .

تتنهد أم عبد الله فى إرتياح بعد أن طمأنتها أختها أم جاسم ، وخففت عنها الكثير من القلق ، تبقى الشقيقتان فى جلستهما على الأرض تتحدثان وتتحدثان وهما ترشفان الشاى من الإستكانات الكريستال المذهبة التى أحضرتها سعاد من الكويت . تجلسان تتحدثان بعد أن تركتا الحقائب لحين رجوع جاسم وليلى لترتيب الملابس والأغراض مع سعاد ، بعد ما تفرغ من تحضير العشاء .

تتفنن سعاد فى غبداع وليمة طعام شهية لذلية ، تبتسم لنفسها مشجعة . تهمس . تطمئن روحها :

– أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته .. عدل .. طريق الوصول إلى القلب هو المعدة ! زين .. نزيد التوابل شّوى فوق اللحم .. تضيف عصير الليمون والثوم وزيت الزيتون فوق السلطة . هاه .. ياللا .. إتكلنا على الله !

تشوى سعاد اللحم فى الفرن الذى ترفع درجة حرارته ليحمر اللحم دون أن ييبس أو يجف ، تهمس تحدث نفسها فى سعادة ونشوة :

– يا سلام .. والله صرتى خوش طباخة يا سعاد !

تضع سعاد الأكل على النار ، وجاسم وليلى لم يعودا ، فتسأل أمه :

– ليش تأخروا كل هالوقت يا سعاد ؟! هم وين راحوا ؟! كم الساعة الحين ؟!

ترد سعاد على خالتها وهى ما تزال فى المطبخ :

– يجوز راحوا مكان بعيد .. لا تخافى يا خالتى .. الحين يردون .. تدرين عن ليلى وحبها للخروج .. أكيد هى اللى عطلت جاسم ..

دقائق ويدخل جاسم يتشمم رائحة الهواء رافعاً وجهه إلى أعلى ، يمضى متتبعاً مصدر الرائحة الذى يشى بوجود أصنافاً شهية من الطعام حتى يدخل المطبخ ، فيقول منبهراً صائحاً : – الله .. شنو هالأكل ؟! شنوها لرائحة ! صار لى زمان ما شمتها .. من يوم ما تركت الكويت ما شميت رائحة مثل هذه !!

يتلفت جاسم حوله كأنما يفتش عن شئ لا يراه :

– أنا ميت من الجوع .. راح آكل خروف لوحدى .

يدخل غرفته ، يبدل ملابسه ، يذهب إلى حيث تجلس أمه وخالته فى غرفة النوم الرئيسية ، يجلس إلى جوارهما على الأرض يتحدث عن صحة خالته ، يحاول أن يطمئنها :

– ترى كل شئ سهل الحين .. ماكو مشكلة .. المسألة بسيطة وايد يا خالتى لا تخافين .. لا تفكرين فى شئ .. خليها على الله .. المشكلة الوحيدة الحين إنى جوعان .. ياللا قوموا نأكل ..!

يخرج جاسم من الغرفة مع أمه وخالته إلى صالة المعيشة ، فينظر مبهوراً إلى أصناف الطعام الكثيرة ، يجلس يأكل وهو لا يصدق إن سعاد بنت خالته الصغيرة المدللة عرفت تطبخ كل هذا الأكل اللذيذ .. وحدها ..!

يقول جاسم مازحاً :

– لا سعاد .. ما أصدق أنت أكيد جيبتى هالأكل معاك من الكويت .. معقول هذا شغل يدك ؟ معقول ؟! أعتقد هذا شغل طباخكم كومار .. مو كدى ؟!

يعاود جاسم النظر إلى سعاد منبهراً معجباً متعجباً ، فيصيح كأنه إكتشف شيئاً جديداً يراه لأول مرة :

– والله كبرت يا سعاد .. والله كبرت !

ولا يكف جاسم عن إبداء إعجابه وتعجبه من شطارة سعاد ، وكيف قدرت تطبخ كل هذا الأكل اللذيذ فى هذا الوقت القصير !

يمضى الوقت خفيفاً ، لطيفاً ، حافلاً بالنكات ، والقفشات ، زاخراً بالمرح والبهجة والفرح ، بعد قليل تنعس الشقيقتان ، يغلبهما الإرهاق والتعب من طول السفر ، فتدخلان لتناما فى الغرفة الكبيرة الداخلية ، بينما تجلس ليلى وسعاد وجاسم فى غرفة المعيشة الكبيرة التى تتناثر فيها المجلات والكتب الأجنبية فى كل مكان !

تفتح ليلى جهاز التليفزيون ، تجلس على المقعد الوثير المريح ، فى حين تتربع سعاد على الأرض تتصفح عدة مجلات عثرت عليها بجوار الكنبة التى يسترخى فوقها جاسم فأرداً ظهره الذى يوجعه من شدة التعب والوقوف طول النهار ، إلى جانب أنه لم ينم منذ الليلة السابقة حتى الآن أكثر من أربع ساعات ..!

تستغرق ليلى فى مشاهدة المسلسل التليفزيونى المثير ، ينضم إليها جاسم شغوفاً بمتابعة أحداثه ، فى حين تحاول سعاد أن توزع إهتمامها بين المجلات التى بين يديها ، وشاشة التليفزيون التى أمامها ، وجاسم الموجود بشحمه ولحمه على الكنبة بجوارها ..!!

– يا الله .. معقول ؟ معقول جاسم معى فى نفس الغرفة ؟! معقول ؟! لا .. ما أصدق .. ما أصدق !

تتنهد سعاد من قلب يتشقق من شدة الإنفعال وهى لا تصدق إن جاسم الآن موجود على بعد سنتيمترات منها .. أهذا معقول ؟! أم أنه المستحيل عندما يصبح ممكناً ؟ آه .. ما هذا الذى تشعر به الآن ؟! أهو نوع آخر من أنواع الحب المشوب بالخوف والخجل والخدر ؟! أم أنه ترقب فيه إنتظار وتوقع وحذر ؟

يتحرك جاسم فوق الكنبة حركة مفاجئة ، يرفع ذراعه إلى أعلى ، يتمطى ، ويتمطى ، ثم يضغط على كتفيه بيديه يدلك أسفل عنقه ضاغطاً بقوة ، محاولاً تخفيف الألم والوجع الذى يشعر به ، تطالعه سعاد خلسة فى حنان وحب ، وهى تشعر رغبة عارمة فى مبادلته حديثاً طويلاً مباشراً ، لكنها تخمدها إحتراماً لعواطفها التى تخشى أن تشّف عما يفور داخلهــا ..!

تتمالك سعاد مشاعرها بصعوبة بالغة ، تحاول أن تحجّم إحساسها نحو جاسم ، فهى تخشى أن تفكر فيه أكثر من اللازم ، لأنها تعرف أنه سيشعر بها ، سينتقل إليه إحساسها ، سيدرك ما تضمر من عواطف ، وما تخزن من أشواق وأحاسيس ، فهو بحاسته الثاقبة قادر على إختراق أعماقها وكشف أسرار قلبها !

تهمس لنفسها :

– آه .. يكفى هذا الحب يا سعاد .. يكفى .. يكفى !

لكن .. فى هذه اللحظة بالذات يركزّ جاسم نظره عليها وهو يسألها باسماً :

– تحبين تشوفى أفلام عربى يا سعاد ؟

يسألها وهو يطالعها بنظرة حب طويلة ممزوجة بود وعطف وحنان ، يقول مشجعاً :

– ترى عندى مجموعة كبيرة سعاد .. أحسن شئ إنك تنقى منها اللى يعجبك .. آه .. تذكرت عندى بعد مسرحية عذوبى السالمية .. إيش رأيك .. تحبين تشوفيها الحين ؟!

تشكره سعاد فى لطف ، فهى تعرف أنه منهمك بمتابعة المسلسل الذى تشاهده ليلى أيضاً ، تقول فى حياء :

– لا .. شكراً يا جاسم أنا باتصفح المجلات .. بكرة إن شاء الله نتفرج كلنا على المسرحية سوا .. أمى تحب تشوف عبد الحسين عبد الرضا .. وتموت فى سعاد عبد الله .. تحبهم وايد .

هنا يعود جاسم ينظر إليها فى إجاب ، كأنه يمنحها الرد الذى تترقبه ، والذى يخلصها من حيرتها ، فيقول هاتفاً :

– شنو عالشطارة .. شنو هالأكل اللى سويتيه الليلة يا سعاد ؟! .. متى تعلمت تطبخين كل هذه الأصناف ؟! صدق علمينى .. أنت طبختيه بنفسك واللا جبتيه جاهز معاك من الكويت ؟! علمينى سعاد أرجوك ؟!

تضحك سعاد . تغمرها موجة فرح دافقة تنبع من عمق القلب . لا تصدق نفسها ، تهمس فى سرها :

– ياه .. معقول جاسم قاعد يكلمنى ويجاملنى ويردد أسمى بدل المرة مرتين ؟ .. معقول ؟! معقول يمزح ويتقشمر بعد وياى ؟!

تؤكد سعاد لنفسها أنه حتماً يحس بها . يرتاح لها . إنه يحبها . يحبها . حينئذ يخفق قلبها بشدة ، فهى تدارى حبه فى الأعماق ، تواريه فى اللاشعور ، هى واثقة أن جاسم يحبها ، حتماً يحبها ، لكنه لا يبوح .. لا يفصح .. لماذا ؟! لا تدرى .. لا تدرى !!

تغرق سعاد فى بحار التفكير العميق ، تبقى تفكر وتفكر ، تكرر السؤال ، تلو السؤال ، وهى ما تزال تدور فى دوامة هذا التساؤل الرهيب ، معتقدة إنه ربما يفضل الصمت ، لأن الصمت – لا الكلام – ينفذ إلى الأعماق !

تعود تنظر إليه ، تبادله نفس البسمة الجذابة الساحرة ، وحلماً حانياً يضم خيالها ، يحتضن إحساسها ، يعتصر أعماقها ، يرج كيانها ، فتمرح له روحها . لأنها سوف تحيا بالقرب منه أياماً حلوة ، هنيئة فى رحاب الحب والعاطفة .. وأى عاطفة !

تصمت سعاد . تنصت . تصغى لدقات قلبها . تتحسس دبيب مشاعرها ، التى أخذت تسرى فى أنحاء جسدها . تبقى تقلب صفحات المجلات بين يديها ، لعل خشخشة أوراقها تخفى ضجيج قلبها ، الذى أخذت دقاته تتعالى وترتفع شيئاً .. فشيئاً !

.. يزداد الليل عتمة ، وهدوءاً وسكوناً ، بينما الدوّى الداخلى فى قلب سعاد يزداد ضجة ونفوذاً ، فى حين يستمر حواراً ، صامتاً ، متسائلاً ، يصدر عن القلب ، يتخفى خلال المناقشة ، التى تبدأ وتنتهى بينها وبين جاسم ، الذى تحوم حوله أحلامها وحبها ، تتسكب مشاعر سعاد فياضة غامرة ، وحنان متدفق لا يتوقف ، ينصب على جاسم ذاك الحبيب ، الذى تهوى ، وتحب ، وتعشق ، منذ صغرها ..!

فجأة .. يرتفع رنين الهاتف شارخاً هدأة الليل الجميل ، ممزقاً سكون اللحظة الحلم ، مثيراً ضيق ليلى وتعاسة سعاد ، فقد كانت المتحدثة على الطرف الآخر هى .. دلال !

يأخذ جاسم الهاتف ، يدخل الغرفة الصغيرة الضيقة ، يغلق الباب خلفه مانحاً نفسه الفرصة الكافية للإنفراد بالحديث مع دلال ، تنظر ليلى إلى سعاد وقد تملكتها الدهشة وأعماها الغضب ، فتقول متبرمة ساخطة :

– أووه .. أعوذ بالله .. يعنى يا ربى هذه الدلال ورانا ورانا فى كل مكان ؟!

تبادلها سعاد نظرة منطفئة ، خابية ، وقد شملها شعور عارم بالمذلة والهزيمة
والهوان ، تطرق إلى الأرض برأسها فى انحدار وإنكسار ، تصمت صمتاً مطبقاً ، وقد فقدت نهائياً الرغبة فى كشف مشاعرها الجريحة أمام ليلى ، لا ، بل حتى أمام نفسها ، تشعر ليلى بمعاناتها فلا تعلق بكلمة إحتراماً لإحساسها ومنعاً لإحراجها ، تنهض تجلس بجوارها
تحاول أن تخفف عنها حزنها وضيقها ، فتقول لها فى صوت خافت خفيض حرصت ألا يسمعه جاسم :

– ما يهم .. ما يهم .. راح نتصرف معاها بطريقة ثانية .. ما راح نعطيها فرصة تكلمه طول وجودنا هنا .

تستطرد ليلى فى وصف الخطة المضادة لمقاومة إحتلال دلال لمشاعر جاسم ، توافق سعاد راضخة على أمل إنقاذ الأمل فى حبها ، ذاك الحب الخالد الذى لا يبرح روحها ولا يفارق خيالها ، بل يسيطر على كل كيانها ويمتلك ذاتها ويتحكم فى شعورها !

بعد قليل .. يخرج جاسم من الغرفة حافياً .. رافعاً ذراعه المغطى بالشعر الأسود الكثيف ، يشير بيده إلى التليفزيون طالباً من ليلى فى أدب وذوق أن تخفض الصوت بعض الشئ ، تجيب ليلى طلبه على الفور . فى حين ينسل إلى الداخل فى خفة ، ساحباً الباب خلفه فى هدوء !

تتبادل الفتاتان نظرات صامتة ، ناطقة ، فى حين ينساب صوت جاسم مبهماً غامضاً ، لا يفهم منه شئ سوى أنه ما يزال على الخط مع دلال ..!

تشعر سعاد بالغيرة ، والحزن ، والإحباط ، آه .. توجد أحياناً لحظات خائنة حتى فى أوقات السعادة العابرة ، تلتف سعاد بالصمت فى حين يملؤها إحساس شامل بالنفور والرفض لما يدور حولها ، ينتابها ضيق . وغم وغضب . وغيظ من دلال ، تلك الفتاة الجريئة التى لا تكف عن متابعة جاسم ، ومطاردة جاسم ، والتى تثير حوله ضروباً من الفتنة والسحر والإغراء !

تحنى سعاد رأسها إلى أسفل ، تلصق نظراتها بقدميها ، تقاوم دموعها كاوية لا تريدها أن تسيل أمام ليلى ، تنهض واقفة بقلب واجم ، ووجه منطفئ تداريه عنها .. بينما تشتعل فى صدرها حرائق نيران حامية متأججة ..!

تحاول سعاد أن تتجنب النظر إلى عينى ليلى ، فالشبه بينها وبين جاسم شديد ، فهى صورة طبق الأصل منه ، لذا لا تحتمل النظر إليها ، حتى لا توقد فيها أسىً كبيراً ، وأسفاً عارماً ، ففى جميع الأحوال .. جاسم ليس لديه عذر واحد فى أن يفعل ذلك بها !!

تدخل سعاد غرفة النوم ، ترقد تنزوى فى حضن أمها وصوتها يهتف مذبوحاً من أعماقها ، فيه إحتجاج ورفض صارخ لهذا الموقف الصعب الأليم الذى تقاسيه فى هذا الوقت من الليل حولها ، صوت حنون . تحبه . تألفه . منذ أولى سنوات عمرها . صوت يؤنسها ، يسرى عنها ، يطربها فى رحلة حياتها .. تبدأ تسترخى ، وهى تمتص صوت عوض الدوخى .. وكلمات هذه الأغنية ..

زاد الحنين للحبيــب

وإشتقت له ولوصالـه

والشوق عندى عظيـم

والنوم جفانى عليــل

ساهر أناجى خيالــه

والرب بحالى علــم

والرب بحالى عليـم

ترقد سعاد تناجى نفسها ، تدعو ربها فى رجاء ودعاء ، أن يخفف عنها أساها ، وأن يبدد عنها حزنها .. ويرفع عنها همها ، ويهّون عليها عذاب حبها ..!


الفصل الخامس

حنان البحر

تتفق ليلى وسعاد على تدبير خطة مضادة لهذا الخط المتصل الواصل بين جاسم ودلال ، هذا الخط لابد أن ينقطع ، لابد أن ينقطع ، عموماً .. الأمر ليس صعباً فى الواقع فبعد ملاحظة الوضع ، إتضح أن دلال هى التى تتصل أغلب الأوقات ، إذن ، كان على ليلى وسعاد أن تتبادلا حراسة التليفون أثناء وجود جاسم فى البيت ، فإذا سمع صوت دلال تتظاهر إحداهما بأن هناك عطلاً طارئاً قد أصاب الخط وتقفل السكة ، أو تتعلل أى منهما بأن
جاسم نائم ، أو يتكلم مع خالته ، أو فى المستشفى ، أو فى المطبخ ، أو يحضر أغراضه من السيارة !

أخيراً .. تتناقص مكالمات دلال تدريجياً ، كما تلحظ كل منهما أنها لم تعد تلك المكالمات الليلية الطويلة الهامسة ، بل صارت فى معظمها مكالمات تحفل بإتهامات كثيرة تثير حنق جاسم وغضبه ، وتجعله منفعلاً عصبياً ! وفى نهاية الشهر الأول لوجودهم فى أمريكا ، تحولت المكالمات إلى خناق فى خناق . فقدت دلال السيطرة على نفسها تماماً ، دمرّتها الغيرة من سعاد ، وأهلكها الشك فى وجود علاقة غرامية بينها وبين جاسم !

– ليش صار الحين مشغول عنى ؟ ليش يهتم فينى من أول ما وصلت سعاد أمريكا ؟! آه .. هو أكيد معجب بسعاد .. فرحان بوجودها وياه ..!

عند هذه النقطة ينتهى صبر دلال ، تفتك الغيرة بأعصابها نهائياً إلى أن تتهم جاسم صراحة وعلانية بأنه يحب سعاد ، ويرتاح لوجودها بجانبه ، تؤكد له هازئة ساخرة :

– والله جاسم إنت معذور .. عندك حق .. ترى أنا ما الومك .. البنية حلوة وجميلة وقدامك ليل نهار فى نفس الشقة .. معذور .. معذور .. سعاد عندك فكيف تفكر فينى أنا الحين ؟! ما تقدر .. قلت لك معذور .. خلاص يا جاسم .. خلاص .. حلال عليك سعاد .. بس لا تنسى أرجوك تعزمنى فى الفرح .. فى أمان الله .

تقفل دلال الخط فى وجه جاسم ، تضع السماعة فى عصبية ، فى حين يتعجب جاسم من عصبيتها الزائدة هذه ، ، بعد أن ظل ينفى الموضوع برمته لها ! يبقى صوتها وهى تصرخ ثائرة يدوى فى أذنيه :

– فسر لى كيف صرت فجأة مشغول من يوم وصلت سعاد ؟! كيف ؟ كيف ؟ فهمنى الله يخليك !

يشتعل جاسم غضباً من شدة الإحساس بالظلم والإمتهان ، يحس أن دماءه تغلى وتفور من هذه التهم الباطلة التى تكيلها له دلال .. من غير حساب ! يظل يتلقى تلك المكالمات المتصلة المتتابعة ، التى تكرر دلال فيها نفس الإتهامات التى ترّكز على حبه لسعاد ، وإعجابه بسعاد ، فلا يعود يقدر يتحملها ، يضيق خلقه بها ، وأخيراً يقتنع بــــأن دلال :

– صارت عصبية .. ما تنطاق !

يتفاقم شعور جاسم بالنفور من دلال ، والضيق من مكالمات دلال ، التى صارت مصدراً للغيظ والغضب والعصبية ، فهى فى كل مرة تتصل تظل تصرخ وتصيح :

– سعاد .. سعاد .. سعاد .. !!

.. لكن .. ما هذا الوصف اللى قاعدة تقوله عن سعاد ؟! إنها لا تسكت ولا تكف عن الصراخ سعاد .. سعاد ! صحيح هى بنت خالتى وصحيحى هى حلوة وجميلة مثل ما تقول دلال ، لكن ما فى بيننا شئ من هذه الأمور اللى تظنها دلال ، سعاد عاقلة محترمة ، ما هى طائشة ولا متهورة ، سعاد مثل أختى ليلى ما فى فرق بينهما !!

آه .. لكن .. يستدرك جاسم مفكراً قائلاً :

– لا .. هى مومثل أختى مثل ما كنت أعتقد .. لا .. سعاد جذابة .. فيها شئ يشد .. شئ مثير .. مثير .. !

و.. أخيراً .. تنجح دلال فى أن تفعل ما لم تستطع أن تفعله سعاد !! تنجح فى أن تلفت نظر جاسم وأن تنبه جاسم إلى ما لم يكن منتبهاً إليه !! ويبدأ جاسم بعدها ينظر إلى سعاد نظرة تختلف . تختلف . تختلف !

.. فها هى سعاد تتحرك أمامه ، تروح وتجئ بقوامها الفارع الممشوق ، الرائع التنسيق ، ها هى تحدثه بأدب وذوق ، وصوت هامس هادئ ، ها هى تكلمه وهى تنظر إليه بعينيها الواسعتين الآسرتين المليئتين بالحنان والود والإحترام .. وها هى تفعل كل شئ بمهارة وإتقان ، وها هى تنظم كل شئ بدقة . تناقش معه بعض الأمور بأسلوب ناعم . رقيق . وديع . كما أنها تعرف كيف تتصرف فى كل شئ بمنتهى الترتيب ، كما تعرف أيضاً كيف تتعامل مع الجميع بعقل وفهم وذكاء .. !

يتعجب جاسم من نفسه ، وهو يفتح عينيه على سعاد فجأة مبهوراً بها ، يعاتب نفسه كيف لم يرها من قبل ؟! كيف لم يقتنع بها ، إنها فتاة غير عادية ، غير عادية !

إنها تفعل كل شئ ، حتى نزهة نهاية الأسبوع تقوم هى نيابة عنه بتنظيمها والإعداد لها دون أن تنسى شيئاًُ من لزوم الرحلة حتى لو كان بسيطاً تافهاً .. إنها منظمة ، منظمة !

يتابع جاسم شعوره العارم بالدهشة وهو يسترجع تصرفات سعاد :

– ياه .. حتى طلبات البيت ومشتريات الأسرة تقوم بإحضارها بنفسها ..!

يزداد جاسم إنشغالاً بسعاد . كما يزداد إنشغالاً فى المستشفى . فهو يتابع نتائج الفحص والأشعة والتحاليل الخاصة بخالته أم عبد الله ، ويركض وراءها لسرعة إنجازها فيما بين الأقسام المختلفة ، فهو يحب خالته ويخاف على صحتها ، ومسئوليته الآن كطبيب أن يسرع بإتخاذ اللازم ليتم التشخيص فيطمئن ويرتاح هو والجميع .

لكن .. اليوم يحتاج حضورهم إلى المستشفى فى أسرع وقت ، يتصل بالبيت يطلب منهم ذلك ، بعد أن عرف من الطبيب الإخصائى ضرورة حضورهم لإجراء بعض الفحوصات الطبية والأشعة والتحاليل اللازمة .

كانت فرحة سعاد لا توصف وهى تدخل إليه ، تراه فى ” البالطو ” الأبيض جالساً خلف المكتب فى غرفة الأطباء ، وقد إنهمك فى قراءة تقرير بالإنجليزية ، أخذ بعدها يناقش ما جاء فيه مع طبيب آخر أمريكى !

تقف سعاد تنظر إليه فى هدوء وسعادة وإنبهار ، أنها معجبة به  ، وبهذا الجو الطبى الفخم الذى يحيطه ، فالغرفة أنيقة ، واللغة الإنجليزية العلمية المتخصصة التى يزاولها جاسم بطلاقة تبهرها .. ! الأهم من ذلك كله جاسم بقامته الطويلة ، وأكتافه العريضة ، التى يبرزها البالطو الأبيض الناصع ، ويزيدها وسامة وجاذبية وإبهاراً !

بعد ظهور نتائج الفحوصات الأخيرة ، يخطرهم جاسم برغبة الطبيب الأخصائى فى دخول خالته المستشفى لإجراء المزيد من الفحوصات الضرورية لتشخيص الحالة بدقة ، لأنهم يشتبهون فى شئ ما فى القلب ، ويريدون أن يتأكدوا منه !

يمضى الوقت بطيئاً مشوباً بقلق الترقب والإنتظار بالنسبة لجاسم وأم عبد الله وأم جاسم ، فى حين كانت سعاد وليلى فى غاية الاطمئنان ، لا خوف عندهما إطلاقاً مما يحدث الآن ، فلا ترقب ، ولا قلق ، ولا إنتظار ، لأن الموضوع أصلاً من إختراعهما ، وفكرة المرض والسفر والفحص ، أساساً من تأليفهما وإخراجهما ..!

كانت ليلى وسعاد تتفاهمان بالنظرات ، كانتا تبتسمان ، تتهامسان ، وإن كانتا تتظاهران بالخوف والتوتر والإهتمام ، حتى لا يشك فى أمرهما أحد ، ففى بعض الأحيان عندما كان جاسم يتحدث عن الفحوصات والتحاليل كانتا تتعجبان ، بالذات سعاد ، كانت تدهش من جدية جاسم فى متابعة الموضوع ، كما كانت تتعجب من تلك الأهمية الزائدة ورئة القلق التى تبدو فى نبرة صوته ..!

كانت الفتاتان تستغربان أن يأخذ جاسم الموضوع بحساسية كبيرة مثل هذه ، بطريقة مبالغ فيها هكذا ، كانتا تضحكان فى سرهما منه ، وهما تعتقدان أنه طبيب دقيق ، ينزعج بسبب وجود مرض .. غير موجود !!

لكن .. يا للمفاجأة ! يتكدر البيت ، يقلق الجميع خوفاً على صحة الخالة الطيبة الحنون ، التى صارت تعانى آلاماً مبرحة فى الصدر !! تحزن سعاد كل الحزن لمرض والدتها تكاد تحس بالذنب وهى تعرف أنهم أجروا قسطرة للقلب فى المستشفى أوضحت أن هناك إنسداداً فى ثلاثة من شرايين القلب التاجية ، وأن الحالة تستدعى جراحة عاجلة !

يأخذ جاسم التقارير يعرضها على الطبيب الأخصائى ، ثم يجرى بها من مكان آخر فى المستشفى ، يحاول أن يختصر الوقت ، فهو يعمل كل ما فى وسعه لسرعة التحضير والتجهيز لإجراء العملية فى أسرع وقت ممكن ، بعد أن ظهرت نتيجة الأشعة وجاء التقرير الثانى يؤكد إنسداد ثلاثة من شرايين القلب التاجية ..!

لابد من إجراء العملية إذن ، ولابد أن يعرف المريض حقيقة حالته الصحية ، فيعرض جاسم الموضوع على خالته ، ينقل إليها الخبر بطريقة مخففّة  ، يحرص أن يقلل فيها حجم الخوف ، فى حين أن الأسلوب الأمريكى يستلزم مصارحة المريض شخصياً ومباشرة بحقيقة حالته الصحية ، لذا طلب جاسم من الطبيب الذى أجرى القسطرة أن يترك له مهمة مصارحة المريضة بنفسه ..

فى هذه اللحظة .. تعرف سعاد حقيقة مرض أمها ، فتكاد أن تجن عندما تتأكد أن الحالة حرجة فعلاً ، وأن الموضوع ليس هزاراً كما كانت تظن وتعتقد ، لأن أمها بالتأكيد فى حاجة لإجراء عملية جراحية فى القلب !

تدخل أم عبد الله المستشفى والجميع إلى جوارها ، أبو عبد الله زوجها الذى حضر على الفور من الكويت بعد أن عرف الخبر ، وبدر إبنها الأصغر الذى جاء من لندن .. الكل يريد أن يكون إلى جوارها ، تلك المرأة الطيبة التى تمنح الحب بلا حساب ، أما فيصل فقد إكتفى بالإتصال للإطمئنان على حالة والدته لأنه لا يستطيع الحضور ، إذ أن طبيعة عمله كضابط فى وزارة الداخلية لا تسمح له أن يأخذ أجازة فورية فى هذا الوقت ، كما إن زوجته فضيلة فى المستشفى أيضاً إثر تعرضها لحادث إجهاض بعد أن سقط جنينها وهى حامل فى الشهر الثالث . كذلك عبد الله إبنها البكر إتصل عدة مرات ، وظل يتابع الوضع فى الكويت لأنه يتولى حالياً مسئولية العمل فى غياب والده .

يرتب جاسم كل شئ مع إدارة المستشفى ، يحجز لخالته جناحاً خاصاً يضم غرفة مرفقاً بها غرفة استقبال فيها سرير إضافى وصالون وثلاجة صغيرة ، ويظل بعض الوقت مع خالته فى الجناح يطمئنها ويشجعها ، فى حين يتحدث باسماً هادئاً مع الجميع يحاول أن يطمئنهم ويخبرهم أنها بخير وما فى داعى للقلق .

وقبل أن يغادر جاسم الغرفة يدق جهاز اللاسلكى المعلق فى جيبه العلوى ، فيتجه إلى التليفون يدير رقماً معيناً ، ويبدأ يتحدث بإنجليزية سليمة سريعة متقنة ، وسرعان ما ينهى الحوار ويخرج على عجل إلى حيث يريدونه ، ثم يعود بعد قليل يتابع كلامه معهم وترحيبه بزوج خالته ، وبدر ، فهو حريص كل الحرص على إزالة مخاوفهم وتخفيف توترهم وطمأنتهم ، ثم ، يستأذن معهم ليرجع إلى عمله فى غرفة الأطباء .

تضخم الأحداث كلها مكانة جاسم فى قلب سعاد . فى روح سعاد . فى وجدان سعاد . فى عقل سعاد . آه .. أنت تتربع فوق عرش القلب يا جاسم . أنت حبيب القلب يا جاسم . تنظر سعاد إلى نفسها باسمة لائمة فها هى اللغة الإنجليزية التى تعبت وطلعت روحها فى تعلمها فى المجلس البريطانى بالكويت قد تبخر جزء كبير منها هنا ! وها هى الممارسة الفعلية تثبت أنها فى حاجة إلى تعلم الكثير . الكثير . الكثير !

آه .. وهذا هو أيضاً جاسم يتألق كالقمر أثناء الإستقبال الحار الذى قابل به والدها وأخيها عندما حضرا ليطمئنا على حالة أمها .. كان منظر الرجال وهم يتعانقون فى المطار مؤثراً ، مثيراً ، لم تستيطع سعاد أن تحبس دموعها ، سالت رغماً عنها على خدها ، وسرعان ما مسحتها خوفاً على إحساس أبيها وأخيها كى لا يشعران بخطورة حالة أمها .. حقاً ، لم تتمالك سعاد إحساسها ، غلبها التأثير ، فظلت تدعو الله أن يخليهم ويطيل عمرهم ، ويحفظ أمها ويطيل عمرها .

تحمد الله سعاد على أن الصدفة وحدها أنقذت أمها من الوقوع بين براثن المرض ، تشكر الله كثيراً أن جاسم ولد خالتها ، هذا الطبيب الناجح الذى يتابع بسرعة وهمة ويستعجل كافة الفحوصات والتحاليل . تحس سعاد حباً كبيراً نحو جاسم يكبر . يتزايد . يتضخم .. يتضخم .. تقسّم سعاد وقتها بين البقاء مع أمها فى المستشفى ، وزيارة أبيها وأخيها فى الفندق فى نفس المبنى الضخم الفخم الذى يضم المستشفى والفندق معاً ، وبين ليلى وخالتها فى البيت اللتان لا تقصرّان فى الحضور يومياً لزيارة أمها فى الجناح الخاص بها .

تحاول سعاد أن تسرّى عن أبيها وتخفف عنه بعض القلق الذى يحس به عندما يأتى لزيارتهم فى المتشفى ، فتأخذ عشرات الصور لتشرح له الأماكن الجميلة التى ذهبوا إليها وشاهدوها هنا ، وكانت فى كل يوم تحاول أن تحدثه فى موضوع مختلف حتى لا يحس بالملل من طول الوقت فى المستشفى .

ينتهى الأسبوع سريعاً ، كما ينتهى وقت الزيارة . يخرج الجميع من الجناح ليتركوا أم عبد الله تنام وترتاح بعد خروجها من غرفة الإنعاش . تبقى معها سعاد ، فهى لا تستطيع أن تفارق أمها لحظة واحدة ، فهى تحبها . تحبها . وترعاها بقلبها وتمنحها حباً خالصاً ، نابعاً من أعماق نفسها ، فكانت لا تغادر غرفتها ، وتظل تقرأ القرآن الكريم أوقاتاً طويلة ، وهى تدعو لها بالصحة وطول العمر ..

و .. بعد رحيل اللحظات الحرجة الحافلة بآلام الإنتظار وقلق الترقب ، يعلن جاسم فى فرح وإنتظار أن حالة خالته الصحية قد تجاوزت مرحلة الخطر بسلام ، وأنها صارت الحين بخير والحمد لله .. يعم الفرح الجميع ، تغمرهم بهجة كبيرة عظيمة وهم يحمدون الله كثيراً أن أم عبد الله قد نجّت من الخطر ، وكتبت لها الصحة والعافية .. الحمد لله رب العالمين .

تحتاج أم عبد الله بعض الوقت إلى أن تسترد صحتها ، فلا تقّر سعاد فى العناية بها دقيقة واحدة ، كانت ترعاها بحب وحنان ورعاية ، بينما كان جاسم يتولى متابعة حالتها الصحية بنفس الحب ، ونفس الحنان ، ويشرح لسعاد ما خفى عليها من معلومات طبية ، يوضحها لها بصبر وأناة ، فقد كان الوقت كافياً لذلك ، إذ أنه لم ينقطع عن رؤية سعاد فى أوقات الغذاء والعشاء ، حيث كان يدعوها لتناول وجبة ساخنة فى الكافيتريا الخاصة بالأطباء فى المستشفى .

وكانت سعاد أحياناً تحب أن تقدم له بعض الوجبات الخفيفة التى تعدّها بيدها ، فكانا يتناولان الشاى أو القهوة معاً فى الصالون الملحق بغرفة أمها ، وكانا يجلسان يتحاوران ، ويتحدثان فى أشياء كثيرة ، كل ليلة ، قبل أن يعود جاسم إلى البيت عند منتصف الليل !

حقيقة .. لم يكن موقف جاسم مقصوداً أو هادفاً كى يقترب من سعاد ، لكنها الظروف وحدها هى التى قربّت بينهما ، هى التى خلقت الوقت ، وأتاحت له الفرصة الكافية كى يدنو من سعاد . يقترب من سعاد . يشعر بسعاد . فكان لقاؤه بها صافياً ، شجياً ، ممتعاً ، لا يقطعه موعد عمل ، أو قدوم طبيب أو ممرض ، أو حتى زائر ، فى ذلك الوقت المتأخر من الليل ، قبل أن يعود إلى البيت ، وبعد أن يطمئن عليها .. وعلى خالته !

و .. سهرت سعاد ساعات الخوف على أمها مع جاسم ، الذى كان يمنحها الإحساس بالإرتياح والسكينة والإطمئنان .. وكم كانت السويعات الخاطفة ، أحلى وأمتع اللحظات ، التى أحستها سعاد حين أتيحت لها الفرصة السانحة لتستمتع بصحبة جاسم . وجلسة جاسم . وصوت جاسم . وعيون جاسم . تلك العيون التى تحب .. وتعشق .

وهنا .. خلال تلك المواقف المتفاوتة بين الخوف ، والقلق ، والترقب ، والإنتظار ، والراحة والإطمئنان والشعور بالسكينة والأمان ، رأى جاسم سعاد فى شتى المواقف . رآها خائفة . رآها تقرأ القرآن . رآها تدعو الله . رآها نشطة . رآها ناعسة . رآها مرهقة . رآها تنتظره . رآها فرحانة . رآها ضاحكة . رآها تعد القهوة والشاى . رآها تحاول أن تتحدث بالإنجليزية مع بعض العاملين فى المستشفى . رآها تتكلم مع أبيها والحب يبرق فى عينيها . رآها تتعامل مع أخيها بمودّة ومحبة . رآها . رآها . رآها .. فى كل المواقف وشعر بها فى مختلف الأحاسيس .. وهنا .. عاش جاسم مشاعرها .. بكل مشاعره !

يمضى الأسبوع النهارى الليلى يقّرب ما بين قلبى سعاد وجاسم . حقاً .. الموقف الصعب يكشف عن معدن الإنسان الأصيل . إكتشف الإثنان معاً . فى وقت واحد . إن كل منهما قريب إلى قلب الآخر . كما تأكدت سعاد أن جاسم قد عمل كل ما يلزم لأمها . لم يقصرّ فى شئ . لم يترك لها فرصة واحدة لكى تطلب منه شيئاً . قدم لها كل ما تحتاج قبل أن تنطق أو تطلب ، كما أثبتت هى أيضاً مهارة خارقة فى فهم وإدراك بعض المصطلحات الطبية التى كان يذهل جاسم لها ، والتى أثبتت ذكاء سعاد الخارق الذى أثار إعجابه وإبهـــاره !

نعم .. تأتى الأيام بمواقف وأحداث فيها مفاجآت يعجز جاسم عن إستيعابها كلها دفعة واحدة .. كل هذه القوى الخارقة فيك إنت يا سعاد ؟! كل هذا الذكاء والثبات والصمود والقوة والإقتدار فيك إنت يا سعاد ؟ كل هذا التجلد والصبر والتماسك والتحمل فيك إنت يا سعاد ؟ حقاً .. إنها لا تضعف أمام الخطر ! لا تعجز عن مواجهة الصعاب ! يا الله .. كل هذه الصفات ، وكل تلك القدرات فى هذه الفتاة الصغيرة الهادئة ؟!

– صدق .. اللى ما يعرف الصقر يشويه !!

تغادر أم عبد الله المستشفى إلى البيت ، بحيث تكون تحت رعاية جاسم ، وفى نفس الوقت تتابع المراجعة فى المستشفى كل يوم لمدة أسبوع ، يسدد أبو عبد الله فاتورة المستشفى ، ويقفل عائداً إلى الكويت ، فى حين يستمر بدر فى إقامته بالفندق ليكون إلى جوار أمه بعض الوقت ، وحتى يطمئن عليها كل الاطمئنان .

تمتلئ الشقة بالورود والأزهار من كل الأنواع والألوان ، فأصدقاء وزملاء جاسم من الأطباء العرب والأمريكان يعرفون عن عملية خالته التى تمت بنجاح ، والتى تتماثل للشفاء الآن ، فيعد بدر حفلاً صغيراً لوالدته بهذه المناسبة السعيدة ، فيجهز غرفة المعيشة تجهيزاً مسرحياً يتحكم فى إضاءته ببعض ” الأباجورات ” ، واللمبات التى أحضرها من الغرف الداخلية ..

ثم .. يقف فى الوسط مستعداً بعد أن أزاح الطاولة الكبيرة إلى جوار الحائط ، وجعل منها بوفيهاً مليئاً بالحلوى والورود والفاكهة ، ثم يبدأ يقدم عرضاً مسرحياً ضاحكاً ، خاصاً بوالدته ، يقلد فيه الفنان الكبير عبد الحسين عبد الرضا ، الذى يعرف أنها تحبه وتفرح بمشاهدة أى تمثيلية أو مسرحية يطلع بها ، لذا يقوم بدر بدوره فى مسرحيته الجديدة ” باى باى لندن ” كما يؤدى أيضاً دور بطلتها هيفاء عادل !

لا يكتفى بدر بذلك ، بل يأخذ الغناء مقلداً أشهر المطربين ، عبد المحسن المهنا ، غريد الشاطئ ، طلاح المداح ، محمد عبده ، والفنان الذى يعشقه والده عوض الدوخى ، وحتى عايشه المرطة يغنى بعض أغانيها ، لأن خالته أم جاسم تحبها !

ينهمك بدر فى إحياء حفلته الخاصة ، الناجحة جداً ، التى إشتملت على عدة فقرات من الغناء والرقص ، والتمثيل ، والتقليد ، إلى درجة أنه غنى لفريد الأطرش ، وناظم الغزالى ، وشادية ، ونجاة الصغيرة ، بل أنه قام بتقليد مذيعة التليفزيون الحسناء أمينة الشراح ، وهى تربط بين الفقرات وتبهر المشاهدين بشبابها وجمالها !

تسعد أم عبد الله بهذه السهرة المرحة الحافلة التى عاشوا فيها مع بدر ، الذى أدخل الفرحة والضحك على قلوبهم وأسعد الجميع بموهبته ومهارته ، فأكدوا له مسرورين مبهورين أنه سوف يكون نجماً لامعاً فى عالم الفن فى يوم من الأيام !

تتماثل أم عبد الله سريعاً للشفاء . تستقر حالتها . يستأذن بدر للسفر عائداً إلى لندن حيث يلتقى خالد إبن خاله طالب الطيران فى أكاديمية ساندهيرست العسكرية القريبة من لندن حيث يقضى بعض أجازته هناك مع عدد من الأصدقاء المقربين منه ومن بدر ، الذين يتجمعون عادة فى الصيف فى عاصمة الضباب .

تمضى الأيام سعيدة يوماً بعد يوم ، وإعجاب سعاد بجاسم كطبيب يبدو واضحاً جلياً فى عينيها الواسعتين الآسرتين اللتين تكنان له الحب والتقدير والإعجاب . لكنه هذه المرة إعجاباً من نوع آخر . إعجاباً بمهارته كطبيب يعمل فى مستشفى ضخم بهذا الحجم الكبير !

رأت سعاد ذلك بعينيها أثناء وجودها فى المستشفى قبل العملية وبعدها . ورغم ضيق الوقت ، وندرته ، لا يهمل جاسم فى رعاية خالته ، تعرف سعاد ذلك ، تعرف أنه يبدأ عمله فى المستشفى منذ الرابعة صباحاً بجولة يلف فيها على المرضى لمراجعة الحالات كلها ، وكتابة التقارير عنها ، ثم يحضر الحالات التى تم الكشف عليها ويقوم بعد مراجعتها بإعداد تقرير لكل حالة يقدمه للنائب المسئول فى المستشفى .

.. يطير الوقت فرحاً يوماً بعد يوم وجاسم ينجذب نحو سعاد بدافع من هذا النوع من الإعجاب العميق الذى تكنّه له ، والذى يختلف عن ذلك النوع المألوف من الإعجاب لدى البنات المراهقات ! ذلك الإعجاب الذى ضاق به جاسم ومّل به ، وهو يراه فى عيون البنات الطائشات اللاتى يبدين ويكشفن عن صنوف الإغراء وإظهار الإعجاب بلا حساب ..!

وبصورة مباغتة .. سقطت المسافة بين جاسم وسعاد ، أحس أنه يحتاجها بعد أن شبع من تلك المشاعر الهوجاء المراهقة ، بعد أن شبع وشبع من هوس البنات اللاتى يطاردنه عقب إحراز الفوز فى كل مباراة ! إنهن يلاحقنه ، يطاردنه ، لكنهن لا يعرفن أبداً أنهن لا يتركن أدنى أثر لديه ! حتى دلال ما تزال تنظر إليه بصفته لاعب كرة مشهور ، ناجح ، وسيم ، لكن أحداً لم ينظر إليه من قبل نظرة تقدير عن معرفة ، ونظرة إحترام عن معرفة .. إنما بعد عملية خالته وبعد إقترابه من سعاد ، أدرك جاسم أنها لا تنظر إليه كشاب رياضى وسيم مشهور ، إنما تنظر إليه كطبيب ناجح قدير مسئول !

رأت سعاد المستشفى الفخم بنفسها . رأت تعامله مع الأساتذة الأطباء المختصين بعينيها . عرفت كيف ينظرون إليه كطالب عبقرى متفوق ، ورأت كيف يعاملونه كطبيب زميل له نفس المكانة ، ونفس المنزلة .. رأت سعاد ذاك وأحست بذلك .. فعكست مشاعرها كل ذلك !

يستمتع جاسم بهذا النوع الجديد من الإعجاب ، الإعجاب به كطبيب ، وليس كلاعب كرة ، يستمرئ ذلك الإحساس . يستمتع به . وهو يرى للمرة الأولى فتاة معجبة بالطب .. وبالطبيب !

كان هذا الموقف وحده دافعاً كافياً لتحقيق المزيد من التفوق والنجاح والإبهار ، ومع العشرة الطيبة والمعاملة الودودة الوادعة ، يكتشف جاسم عن قرب أن هدوء سعاد ليس غروراً أو تكبراً ، إنما هى تمارس ذاتها ، كما إكتشفت أيضاً أن سعاد لم تعد تلك الطفلة الصغيرة الوديعة التى لا تحب فى الدنيا إلا اللعب مع ليلى والإئتناس بها !

يكتشف جاسم أيضاً أنه لم يتعرف على أى فتاة عن قرب ، ورغم هذا البريق ،
وتلك الشهرة وذلك النجاح ! رغم أنه شاب لديه القدرة على التأثير على أى فتاة ، لكن .. صراحة ، لم تواته هذه الفرصة أبداً ، لإنشغاله الدائم منذ الصغر بالرياضة والتدريب على كرة القدم !

حقاً .. سرقت الكرة منه فترة صباه ، وطيش مراهقته ، وإنصرافه وهو شاب إلى دراسة الطب ومحاولته الشاقة للتنسيق بينه وبين الرياضة سرق البقية الباقية من وقته وأحلامه ! حقيقة .. لم تتح الفرصة لجاسم مطلقاً كى يتعلق بأى فتاة ، ولا أن يتعرف عن قرب على أى فتاة ! لذا ، نجحت دلال فى فرض نفسها عليه ، لكنها لم تنجح فى خلق نوع من التفاهم أو الحوار بينهما ، كانت تنظر إليه مبهورة ، مبهوتة ، مذهولة ، بكل ما يحيط به من بريق ونور وأضواء !!

كانت دلال تصدق كل كلمة يقولها ، وكل حرف ينطقه ، كانت دوماً لا تقول إلا تأييداً مطلقاً ، وتصديقاً تاماً على كلامه ، حتى لو جاء فى يوم وقال لها إن لندن عاصمة أمريكا لن تكذبه ولن تقول له أنت قلت خطأ .. ! لا .. بل ستصدق ، ستعتقد أن هذا هو الصح ، وستكون معجبة جداً بهذا الاكتشاف الجديد الذى وصل إليه جاسم ! فهى لن تنظر إليه على أنه أخطأ ، بل ستنظر له على أنها وجهة نظر جديدة فى علم الجغرافيا السياسية !!

كان جاسم يعرف دلال جيداً . يعرف كيف تفكر . كيف تتكلم . كيف تتصرف . يعرفها من الداخل والخارج . يعرف أسلوبها وطريقة رد فعلها فى أخذ الأمور . كما يعرف أنها لم تتح له الفرصة لمناقشتها ، لأنها لم تكف ، ولم تتوقف ، ولم تنقطع عن الكلام عن أحلامها . وعن أمانيها . وعن نفسها !!

لكن .. مع سعاد ، الوضع يختلف . يختلف . فكل شئ فيها مختلف . هى قارئة كبيرة . أسلوبها هادئ رشيق . مثقف . عقلها كبير . ثقافتها واسعة . شخصيتها فيها عمق . سعاد عندها شئ لم يجده جاسم فى دلال . عندها الإستماع . عندها الإصغاء . عندها الوعى . عندها العمق . عندها الإدراك .

كانت دلال تمطره بالحب . لكن مع سعاد أحس أنه يغرق فى الحب .. ! هناك عمق . دفء . إحتواء . أما الآخر .. فهو زخات مطر قوية ، لكن هذه الزخات العنيفة أحياناً لا توجد إلا مع المطر . أما مع سعاد كأن الإنسان فى بحر . فى محيط . لا يغرق مرة واحدة . لكنه كلما مشى أكثر . كلما أحس أن الماء يحيطه من جميع الجهات . هناك عمق دون أن يحس به يأخذه . يحيطه . يضمه . يحتويه . صحيح نحن نحس المطر . نجرى منه أحياناً . أحياناً أخرى نتوارى عنه . لكن السائر على شاطئ البحر يستمتع بملامسة الماء . يستمرئ أن تتبلل أقدامه شيئاً فشيئاً . يشعر دوماً أن البحر موجود . وفى أى وقت يحب أن ينظر إليه ، هو موجود . ودائماً يجده بالماء مليئاً .. مليئاً .. مليئاً .

حقاً .. تنجح سعاد أن تملأه بهذا الشعور الزاخر . الوافر . الثرى . تنجح أن تغرقه فى أعماقها . تحيطه . تضمه . تحتويه . دون صخب . دون إزعاج . إنما على مهّل . وهدوء . وحنان . وهناء . وإهتمام .. هذا الشعور الدائم الهائم يتسلل إليه على مستوى اللاوعى . اللاشعور . إلى أن يستقر فى أعماق الأعماق !

كان طبيعياً أن يحس بذلك جاسم . وأن يستمتع بذلك جاسم ، خاصة بعد سفر سعاد وأمه وأخته وخالته ، وبعد أن رأى البيت أصبح خالياً عليه وحده .. خالياً .. خالياً ..! الله .. كل هذا كان أمامى ولم أكن أراه ؟ كل هذا كان عندى ولم أكن أعرفه أو أقدّره ؟

بعد غياب سعاد ، يشعر جاسم أنه صار كالسمكة التى انتزعت من الماء ، إنه لا يستطيع أن ينسى وجه سعاد عندما كانت تضحك منه وهو واقف فى المطبخ لا يعرف كيف يقلب اللحم ! إنه يتذكر كيف إنتفض بعد أن لسعته حرارة الصينية فى الفرن ، وكيف فزعت سعاد وخافت ، وسكبت الماء البارد على يده كى تخفف أثر اللسعة عليه ، إنه لا يقدر أن ينسى أسلوبها الطبيعى الناعم الوادع البديع وطريقتها الدمثة الرقيقة الودودة الهادئة الدافئة إنه لا يستطيع .. لا يستطيع .. لا يستطيع أن يتجاهل تأثير وجودها .. !

آه .. يحس جاسم حنيناً دفيناً وإحتياجاً ملّحاً إلى الصحبة الحلو التى تبدد عنه وحشة الوحدة وضيق الفراق ، رغم أنه كان سعيداً لأن العملية نجحت ، وخالته إستردت صحتها وسافرت بسلامة الله .

كان جاسم يعتقد أنه سيتنفس الصعداء عندما يرجع إلى البيت ويجده فاضى ، كان يعتقد أنه سيكون حراً طليقاً ، لكنه وجد نفسه وحيداً . وحيداً . وحيداً .. خاصة بعد أن بدأت فى الجو تباشير برودة الشتاء التى تؤكد حاجته الملحة إلى الشعور بالدفء والصحبة الحانية والإحتماء .. فالليل صامت ساكن خامد الأنفاس ، والظلام رمادى فى الغرف المغلقة الصامتة التى كانت تزدهى بعبق روحى نافذ دافئ ، قادر على يهزم وحشة الليل ، وبرودة الشتاء !

وعلى ضوء خافت يصدر عن أباجورة فى لون المشمش عن يساره ، ينظر جاسم إلى الهاتف ، ثم ينظر إلى عقارب الساعة الذهبية الموضوعة على المدفأة أمامه ، وبسرعة يحسب الفارق فى التوقيت بين أمريكا والكويت ، ويظل راقداً بعض الوقت على أحرّ من الجمر ، يرقب مرور الزمن الذى لا يريد أن يمر ، فهو يزحف بطيئاً . بطيئاً . متماوتاً .

أخيراً .. يمسك جاسم سماعة الهاتف ، يرفعها نحو أذنه ، بينما تضغط أصابعه أرقاماً معينة يحفظها جيداً .. عن ظهر قلب .. !

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل السادس

بريـق العشـق !

أدار جاسم رقماً يحفظه عن ظهر قلب ، أدار رقم دلال ، لأنه كان يحس إحتياجاً عاطفياً طاغياً ينقصه إشباعاً ، ولم يكن يقدر أن يتصل بسعاد .. وفى نفس الوقت كان يحس الرغبة العنيفة الملحّة لملأ هذا الفراغ العاطفى الذى بات يعانيه الحين مع دلال .. لكن .. لم تدرك ذلك دلال ، لم تفهم حاجته إلى الإحساس بالحب .. فلم تشبعها له .. !

رغم ذلك ، ظل جاسم يتابع حديثه مع دلال ، إلى أن يفاجأ بالتغيير الواضح فى صوتها ، ويصدم من لجهة التهكم الساخرة المستترة بين كلماتها ! يتعجب من هذا الأسلوب الجديد الذى طرأ عليها وجعلها تكلمه هكذا ، يستنكر عليها هذه الطريقة ، يحس ضيقاً خانقاً ينتابه ! .. فى حين يبدأ يطغى على إحساسه شعور شديد بالإمتهان لذاته .. مع أنه حريص كل الحرص على أن يبقى دوماً بعيداً عن أى معاملة يحتمل أن تسئ إليه ، أو أى موقف قد يجرحه أو يسبب له شعوراً بعدم التقدير وقلة الإحترام !

لا يستطيع جاسم أن يجادل دلال طويلاً ولا أن يناقشها فى تلك الإتهامات المتتابعة التى تكيلها له ، ولا تلك الشكوك المتراكمة التى تصبّها عليه بمجرد سماع صوته :

– ها .. الحين تذكرت دلال ؟ الحين بس عرفت قيمة دلال ؟ آه .. وإلا عشان سعاد ردت الكويت .. وصار عندك وقت كافى قمت تكلم دلال .. ها ؟ وينك من زامن ؟! وينك من أول ؟! وإلا صرت أنا الإحتياطى عندك ؟ لا جاسم .. ترى هذا شئ أنا ما أقبله على نفسى .. يكفى عليك سعاد .. الله يخلى لك سعاد .

يصمت جاسم دون أن يصمت داخله الشعور بالضيق ، والنفور ، والإختناق ! يبقى يستنكر على دلال رنّة الزهو والإنتصار التى تحاول أن تهزمه بها ، يرفض أن يكون تحت سيطرتها وسخريتها ، ودون أن يشعر ينهى المكالمة محبطاً خائباً :

– على راحتك .. زين .. زين دلال .. على كيفك .. على كيفك .. فى أمان الله .

يغلق جاسم الخط بعد سماع كلمات دلال ليفتح قلبه على آخره مستقبلاً كل ذكريات سعاد ! يذكر جاسم بكل الحب .. مشاعر الحب التى تدفقت داخله عندما فتح الثلاجة ووجد أن سعاد قد وضعت له الأكل الذى يحبه فى صناديق ورقية ، كتبت على كل واحد منها إسم الأكلة التى بداخله ، أيضاً ، يذكر الفريزر وقد إمتلأ بعلب صغيرة فيها كل الأشياء التى يحتاجها ، وعليها التيكيت بخط سعاد يشرح ما فى داخلها .. !

ياه .. إلى أى مدى هى ذوق ! إلى أى مدى هى تهتم به ! إلى أى مدى هى تفكر أن ترعى شئونه حتى وهى بعيدة عنه ! هنا يكتشف جاسم شيئاً جديداً يثبت إهتمامها به ويزيد حبه لها . آه .. هذا يكفى ، يكفى لأن يقتنع إن سعاد تحبه .. تحبه .. !

بصورة تدريجية .. تندلع نيران الشوق هادئة ، وقد شردت عينا جاسم فى نفس الذكريات ، ثم ما تلبث أن تستحيل نيراناً هادرة يشعلها خيال سعاد ، والحنين إلى سعاد .. تزداد هذه النيران إشتعالاً كلما مضى يوم بعد يوم ، وشهراً بعد شهر ، من شتاء شديد البرودة والوحشة .. يتأكد بعده جاسم أنه لم يعد هو جاسم ! تغير .. كل شئ فيه تغير !

بعد رحيل سعاد غاب عنه جزء هام من كيانه النفسى . سعاد أخذت معها الكثير الكثير من ذاته .. صحيح هى تركت أثراً كبيراً فى نفسه ، فى بيته ، فى حياته ، لكنها فى النهاية إستطاعت أن تسلبه أى شئ تركته عنده .. بغيابها .. وبعادها .. !

– يا الله يا سعاد كيف ما عرفتك على حقيقتك كل هالعمر ؟! كيف لم أشعر بك كل هالسنوات ؟! آه .. التقصير عندى أنا ، فلو كنت فتّحت عيونى عليها وعرفت كيف أنظر إليها ما كنت تحمدّت عند فكرة كونها طفلة صغيرة صديقة أختى الصغيرة .. صدق .. العيب فينى أنا ! 

و .. مع برودة الشتاء ، وزخات الأمطار ، وكثافة الثلوج ، وضبابية الأجواء ، وصقيع الهواء ، لم بعد جاسم يحتمل شيئاً آخر ، لم يعد يطيق مزيداً من الوحدة والبرودة والحرمان ، يحاول أن يحتمى من هذا الجو الموحش الكئيب بذكرى سعاد التى تستطيع أن تهزم البرودة . رغم بعادها . بدفء يتأجج بإحتراق داخلى ، ما يلبث أن يجعل الشوق جذوة تتقد ، ترتفع ، تتصل بقلبه وصدره ، حيث تلتهب ، وتستعر ، حتى يكاد يحترق ببعادها عنـه !

ومع ليل الشتاء .. يسود الظلام وهو فى طريقه إلى المستشفى ، الجو صقيعى لا يفيد معه إرتداء بالطو المطر والبلوفر الأسود الصوف السميك ذى القبة العالية الذى يحيط رقبته يحميها من الهواء الساقع اللاسع ، لكن .. ما تلبث أن تطارده رغبة عنيفة فى الشعور بالدفء ، بالمزيد من الدفء ، الدائم ، المستمر ، وهنا .. تراوده فكرة تظل تتابعه كظله بالبحث عن الدفء .. وهو يعرف حتماً كيف يجده .. وأين يكون !

سعاد .. سعاد لابد أن تأتى ، لابد أن تكون بالقرب منه ، إنه يفكر الآن كيف يتعامل مع حبه لسعاد الذى بات لا يستطيع الفكاك منه . إنه يفكر فيها . إنه لا ينقطع عن التفكير فيها . هى صارت جزءاً من زمانه ، حتى وهو مشغول ، صار يحس بوجودها داخل كيانه . هذا يكفى . هذا يكفى . لابد من وجود سعاد فى حياته . يتفقد جاسم فى حرارة ولهفة آلاف الأفكار وهو يتساءل فى حيرة :

– إيش لون تيجى سعاد وهى بعدها طالبة فى الجامعة .. ؟! ما أعتقد والدها المليونير هذا راح يوافق أن يعطينى إياها الحين .. !

يعود يتساءل :

– زين .. وهل سعاد نفسها راح توافق تتزوجنى وهى تعرف عن علاقتى بدلال ؟ ودلال نفسها شنو راح تسوى ؟! أكيد راح تصير مجنونة ! عدل .. هذه أكيد راح تسوى لى قصة ثانية .. راح تسوى فضيحة كبيرة قدام الناس .. آه .. كيف أتصرف معها ؟! شنو أقول لها ؟! آه .. أنا ما أقدر أحبىّ الموضوع عنها .. وفى نفس الوقت ما أقدر أصارحها لأنى ما أعرف شنو رد فعلها .. يا الله .. دلال هذه مصيبة وحدها .. أنا ما عدت أقدر أتحمل كلامها .. وصراخها .. وخناقها .. وعصبيتها .. صوتها نفسه .. صار يضايقنى .. !

يدرك جاسم أنه قد أصبح الآن فى موقف دقيق . صعب . حرج . يفكر كيف يمكن له الخروج منه ؟!

– لكن .. أنا ما وعدت دلال بالزواج فى يوم من الأيام .. أنا ما قلت لها كلمة واحدة لا عن الحب ولا عن الزواج .. هى اللى كانت تلاحقنى وتطاردنى لما خنقتنى مرة واحدة .. صدق شنو راح تقدر تسوى ؟! ولا شئ .. ولا شئ !

آه .. لابد من العمل على إتخاذ قرار ، فالوقت يمضى ، والقلب لا يحتمل مزيداً من الانتظار ، يدير جاسم رقم بيته ، ترد عليه أمه التى كان قلبها يحدثها أنها ستسمع صوت جاسم الحين ، كانت تتوقع إتصاله بها . و .. تسمع الأم كلمات تجعل قلبها يرقص من
الفرح !

– .. الحمد لله .. كل شئ فى هذه الدنيا قسمة ونصيب .. الحمد لله .. خلاص .. ربنا هداك يا جاسم .. مبروك .. ألف مبروك يا حبيبى .

– الحمد لله .. جاسم وافق يتزوج .. جاسم يريد نخطب له بنت خالته سعاد ..

تزف أم جاسم الخبر لوالده الذى يتلقى الموضوع ببرود ، يأخذه بطريقة عادية جداً ، لا يكاد يعلق سوى بكلمة واحدة .. مبروك .! يخفى أبو جاسم مشاعره الداخلية ، فهو لا يستطيع الإعتراض طالما هذه رغبة جاسم نفسه ، فهو يحترم ولده منذ كان طفلاً صغيراً ، أنه لا يرفض له طلباً ، ولا يمانع إطلاقاً فى أن يفعل ما يريد طالما أنه مقتنع أن ما يفعل هو الصح .. وأن تصرفه سليم .

وفى الحقيقة سعاد فتاة عاقلة رزينة ما فيها عيب يشينها ، لكنه لا يرتاح تماماً لفكرة إقتران جاسم بها فهو يود لو أنه إختار دلال ، فهى قريبته من بعيد ، من ناحية أمها نوال التى كان يحبها منذ طفولته عندما كان يلعب معها فى الفريج ، وكان لما يحس بالعطش يدخل عندهم يشرب فترحب به أمها وهى تسقيه الماء وتعطيه الحلوى .. آه .. سيطرت أم دلال على أحلام صباه زمناً طويلاً . لكن .. يبقى فى القلب الحنين القديم راقداً ، باقياً ، فى الأعماق .. مدى الحياة !

تطلب أن جاسم أختها فى التليفون تخبرها برغبتها فى الحضور .. تقول لها بصوت تطغى الفرحة الساطعة عليه :

– أنا راح أجيك الحين .. ترى اكو شئ مهم راح أقول لك عليه لما أشوفك .

وفى خلال وقت قياسى قصير ، تدخل أم جاسم تقبل وتحضن أختها الكبرى وهى تبارك لها ، وتهنئها برغبة جاسم فى الزواج من سعاد ، تطلب يدها أولاً من أختها .. أم عبد الله .

و .. تأتى ليلة من ليالى العمر ، يقام حفل الزفاف فى القاعة الكبيرة الواسعة فى الفيلا الفخمة بالشامية ، التى تتحول حديقتها المزدانة بالأضواء الملونة المعلقة على الأسواء والأشجار والأقواس إلى كتلة من الأضواء البراقة ، التى تشب وتضوى فى تلك المنطقة الهادئة فى الكويت .. تتلألأ الأنوار ، يصبح الليل نهاراً ساطعاً مبهجاً ، يبعث الدفء والفرح فى كل مكان ، رغم برودة الجو فى شهر ديسمبر ، فى عزّ الشتاء !

ورغم ثلجية الهواء فى هذا الوقت من الليل ، تشعر المدعوات بالراحة والدفء داخل القاعة حيث يجلسن فى أعداد لا حصر لها فوق المقاعد التى تلاصق الجدران ، وفوق المخاد التى أضيفت ووضعت على الأرض ملاصقة لها ، لتستوعب هذا العدد الكبير من الحاضرات ، فى حين تلف وتدور ، وتلف وتدور صوانى الفضة التى تغّص بالمشروبات ، والحلوى ، والشيكولاته من أفخر الأنواع ، بينما يصدح فى الأركان غناء المطربات الشعبيات ، اللاتى يجلسن على الأرض فى وسط القاعة .

تنطلق الزغاريد . تعم الفرحة . تتألق فقرات العرس الكبير الذى يتم حسب الطريقة الكويتية القديمة ، تلك التى إختارتها سعاد بناء على رغبة جاسم الذى رفض فكرة إقامة فرح ضخم ، بسبب ضيق الوقت والرغبة فى عدم المباهاة والإستعراض .. !

تنتشى الحاضرات بسماع الأغانى إلى أن تدخل العروس تجلس وسط القاعة فى ثوبها الأخضر اللامع الطويل ، وفوق رأسها هامة مرصعة بالماس تخطف ببريقها الأبصار وتعكس الأضواء وتبهر الأنظار !

تجلس سعاد فوق مقعد فى وسط القاعة وحولها ينطلق البخور يهبّق المكان ، تنطلق زغاريد الفرحة الكبرى فى حين تقف بعض الحاضرات يمسكن المحفة الحريرية الخضراء يهفهفن بها فوق رأسها بينما البخور ينطلق حولها يفوح فى القاعة برائحة الثمين ، التى تمتزج النفاذة الأريج التى تمنح القاعة أريجاً وعبقاً بديعاً .

بعد قليل تخرج العروس إلى قاعة أخرى ، ثم تعود بثوبها الأبيض الناصع الطويل حيث تجلس فى صدر المكان المخصص لها ، وخلفها الكوشة العملاقة الحافلة بعشرات المئات من الورود والأزهار التى تمنح العروس خلفية جميلة باهرة تزيدها جمالاً على جمـــال !

يستمر الفرح ، والغناء ، والرقص ، تطلق الزغاريد ، والبخور ، وتدور صوانى الشربات والحلوى والمرطبات ، بينما تصدح الأغانى بأصوات المطربات اللاتى تشجين الحاضرات بأحلى الأغنيات ، فى حين تنهض بعض الشابات من المدعوات يرقصن تحية للعروس .

يدخل جاسم مع مجموعة من أصدقائه الشباب ، يتقدم نحو سعاد كفارس من فرسان العرب الأشداء ، على رأسه الغترة والعقال وعلى أكتافه العريضة العباءة السوداء الموشاة أطرافها بالخيوط الذهبية ، التى تنسدل فوق قامته ، فتؤكد طوله الفارع وتظهر بفخامتها ضخامته ووسامته .. ثم يجلس بجانبها يلبسها الشبكة الماسية الثمينة التى تزيد أصابعها ويديها وتفترش صدرها فتعكس أشعة الأضواء حولها ، فتزيدها تألقاً وإبهاراً يخطف الأبصار .. بينما تنطلق زغاريد المدعوات مصحوبة بفرحة الكبار والصغار .. !

تجلس سعاد تخفض بصرها خجلاً ، وحياءً ، وفرحاً ، وحباً ، وهى تشعر أنها تحلّق فوق السحاب ، وما يلبث أن يغادر جاسم القاعة متجهاً إلى حيث يتواجد الرجال ، فى حين يزداد الحفل تألقاً وإبهاراً ، رغم أن جاسم أراده أن يكون فرحاً بسيطاً عادياً ، إذ لم يكن يرغب فى مظاهر البذخ الزائدة عن الحد هذه .. !

.. رغم ذلك لم يتعجب هذا الموقف والد سعاد إطلاقاً ، فقد إعترض بشدة على أن يتم زواج سعاد إبنته ، وحيدته ، الحبيبة إلى قلبه ، بهذه الطريقة العادية البسيطة ! فقد كان أبو عبد الله يريد حفلاً باهراً لإبنته الوحيدة ، حفلاً باذخاً ، ملفتاً ، مسرفاً ، يظل حديث المجتمع سنوات وسنوات ! كان يريد أن يظهر حبه لسعاد بكل الوسائل والطرق الممكنة ، كان يريد أن يسعدها يوم زفافها ، وألا يبخل عليها بشئ مهما غلا ثمنه . فالإمكانيات متاحة ، والخير كثير والحمد لله .

الغريب فى الموضوع ، إن سعاد نفسها أخذت تلح على والدها ترجوه أن يجعل حفل زفافها عادياً ، دون مبالغة ، فهى لا تريد أن تلفت الأنظار حولها ، كما لا تريد أن تضايق جاسم ولا أن تخالف رغبته ، أيضاً ، الوقت لم يكن يسمح بإجراء المزيد من الترتيبات للفرح ، فجاسم مستعجل ، ولا يريد أى تعطيل لأن إجازته كلها لا تتجاوز الأسبوعين ، وعليه أن يعود لمتابعة دراسته فى أمريكا .. وسعاد معه !

يوافق أبوها على مضض ، يقبل رأيها وإن بدا غير مقتنع به ، وغير راض عنه ، فكيف يمكن أن تكون هذه هى الفرحة الكبرى ، وليلة عرس سعاد التى ينتظرها من زمان ، والتى كان يندر لها بينه وبين نفسه ، أن يجعل فرحها حديث كل الناس ؟! لكنه يكفّ عن الرفض ويقبل بالأمر الواقع ، طالما هذه رغبة سعاد التى تصرّ بشدة عليها !!

تتدخل أم سعاد فيترك تسيير الأمور لها ، طالما هذه هى رغبة الجميع ، لكن ، الشئ الوحيد الذى صمّم عليه ولم يتنازل عنه ، هو أن يحضر المطربة الكبيرة صباح لإحياء الفرح والراقصة سامية جمال لتزف ابنته العروس فى ليلة زفافها .

يوافق الجميع على ذلك ، رغم أن الفرح جاء على الطريقة الكويتية القديمة ، وأشجت المطربة عائشة المرطة الحاضرات بأغانيها الجميلة هى وفرقتها الكبيرة اللاتى كن جالسات على الأرض فى وسط القاعة الكبيرة الواسعة ، بينما كانت معظم المدعوات ترقصن على نغمات ألحانها ذات الإيقاعات الممتعة .

وكان فستان سعاد يوم عرسها ليس فستاناً عادياً ، كان ثميناً غالياً ، وكانت الهامة المرصعة التى أعدتها أمها ليوم عرسها منذ وقت طويل ، شيئاً فريداً متميزاً لم يرّ الناس مثله من قبل ! كذلك كان البوفيه الفخم الضخم حافلاً بكمية خيالية من الأطعمة والحلوى النادرة الباهظة الثمن ! يقولون .. الحلوى والشيكولاته جاءت بطائرة خاصة من سويسرا ، أما الطباخين فقد أحضروهم من أشهر الفنادق فى الخارج !

كل شئ كان مبهجاً مفرحاً ، وكان جاسم سعيداً فخوراً بعروسه التى كانت فرحتها به لا تقل عن فرحته بها .. غمرت السعادة والفرحة الجميع ، الكل كان منتشياً مبتهجاً ، ماعدا دلالا لتى أصيبت بصدمة عصبية عنيفة ، أفقدتها القدرة على الإتزان أياماً وأياماً ! فقد كان آخر شئ تتوقعه فى الدنيا أن يتركها جاسم .. ويتزوج سعاد ! هكذا بسرعة بلا أى مقدمـات !

جاء الخير بالنسبة لدلال مفاجأة مذهلة ، كان الموقف كله عبارة عن صدمة عنيفة فظيعة غير متوقعة ! وإن كانت هناك كثير من المقدمات التى سبقته ومهّدت له ، إلا أن دلال تعامت عنها .. أنكرتها . رفضت تصديقها . رفضت أن تعترف بها . تجاهلتها . فبقيت كما هى معتقدة أنها طالما ترغب فى زواج جاسم .. إذن .. جاسم يرغب فى زواجها !

لم تشك دلال لحظة واحدة أن هناك متغيرات كثيرة قد طرأت على جاسم بعد سفر سعاد إلى أمريكا ! لم تفهم دلال أن جاسم نفسه قد تغير . وأن إحساسه بها قد تغير . رفضت أن تصدق . رفضت أن تعترف . رفضت أن تقتنع . فكان ما كان من مشاكل بينهما . وخناقات وعصبية وتوتر ونفور ، أدت إلى خصام طال .. وطال ! فكان .. ما كان .. !

يأتى والد سعاد يقدم لها هدية صغيرة متواضعة بمناسبة هذا الزواج الميمون ، عبارة عن عقد ملكية بيت قديم كان قد إشتراه فى أمريكا من زمان ، عندما كان أخوها عبد الله طالباً يدرس الهندسة فى جامعة هارفارد بولاية بوسطن ، وبعد إنتهاء دراسته وعودته إلى الكويت ، تركه لمكتب عقارات يديره ويصرف عليه . والحين .. لم تعد هناك حاجة إليه ، فقدمه الوالد إلى إبنته هدية بمناسبة زواجها !

يطير العروسان الشابان بعد الفرح مباشرة إلى أمريكا ، تحفهما آيات الفرحة والسعادة التى ملأت أرجاء المكان ، والتى جعلت ليلى تقرص سعاد فى ركبتها ضاحكة مهنئة على هذا العريس الحلو الذى تتمناه كل البنات .. وأولهم دلال ! تشاركها سعاد ضحكتها وهى تقول فى سعادة :

– عقبالك يا ليلى .. عقبالك .

تهبط الطائرة فى مطار نيويورك .. لا تشعر سعاد خوفاً أو رهبة هذه المرة ، فها هو جاسم حبيبها ، زوجها ، يقف إلى جوارها بقامته الضخمة الفارعة ، عظيماً شامخاً أمامها وهو ينهى إجراءات الدخول ، ثم يأتى يسألها عن عدد الحقائب التى أحضروها ، يقف يراجع البطاقات الملصقة بالتذكرة ، يتأكد من تطابق العدد ، قبل أن يخرجا من المطــار .

يدخل العروسان فندق ” أوستريا ” الفخم فى نيويورك ، حيث يريد جاسم أن يقضى أيام العمل الأولى قبل السفر إلى ” سيراكيوز ” والعودة إلى العمل فى مستشفى ” سيراكيوز ” الفخم هناك .. ينهى جاسم الإجراءات فى لحظات ، فهو قد حجز جناحاً فخماً منذ كان فى الكويت .

لحظات .. وتنقل الحقائب إلى الجناح الكبير الذى اختاره جاسم بعناية ، بينما كانت سعاد تجول بعينيها فى بهو الفندق الفخم عظيم الإتساع ، تطالع مظاهر الفخامة ، والأبهة ، وضخامة الثريات الثمينة وروعة الستائر المسدلة على النوافذ العالية .

تقف سعاد تتأمل فى إعجاب جمال السلم الرخامى الدائرى والدرجات المغطى بالسجد الأحمر والذى تتناثر حوله أجمل الصالونات الفاخرة ، التى تتوزع بأناقة فى بهو الإستقبال الواسع الكبير ، كما تنظر بعين الإعجاب إلى اللوحات الفنية الكبيرة المعلقة على الجدران العالية ذات الديكور المبهر الذى تبرزه باقات الورود العملاقة التى تملأ المكان فتضخ العبق والعطر والجمال .

يرتفع المصعد بهما إلى الطابع السابق والخمسين ، يقفان على مقربة من بعضهما البعض وإحساس سعاد يحلق بها إلى السماء السابعة ، فى حين تخفض بصرها إلى قاع الأرض خجلاً . نعم .. تقف خجلى منبهرة ، لاهثة الأنفاس ، لا تعرف ماذا تفعل ، أو تقول ، ولا حتى أين تنظر ، تحاول أن تبعد تفكيرها عن جاسم .. حبيبها ، جاسم .. زوجها ، جاسم .. آه .. إنها تخشى أن يحس بها كعادته ، فتقف متشاغلة عنه .. وعن نفسها .. !

.. ثوان ويصلان إلى الدور السابع والخمسين حيث يوجد الجناح المحجوز لهما فى أقصى الممر ، يدخلان فتضاء الأنوار من تلقاء نفسها ، بمجرد أن يفتح جاسم الباب ينهمر الضوء الباهر إلى عيونها ، فتبتهج سعاد لرؤية الورود التى إفترشت أغلب الطاولات ، وعليها بطاقات التهنئة من إدارة الفندق ، وعدداً كبيراً من الأصدقاء الذين كانوا على علم بموعد وصول العروسين .. ! مبروك .

تدخل سعاد إلى الجناح وإرتعاشة حب تحوم فى جوارحها ، ورجفة شوق تخفق فى جوانحها . تدلف وكأنها تسبح فى كون آخر بعيد .. بعيد .. بعيد ! تجلس على المقعد تدارى ارتباكها ، لا تقوى طويلاً على الوقوف ، لكنها تحس حنيناً جارفاً يجذبها نحو جاسم ، يشدها إليه .. حنيناً يمتزج بخجل ساحق يبقيها مكانها حائرة لا تعرف ماذا تفعل فى هذه اللحظة الحساسة الحرجة .. يحس بها جاسم – كعادته – فيقترب منها ، يدنو نحوها ، يحدق بها ، يدعوها أن تأتى وتشاهد روعة نيويورك من أعلى ..!

تقف سعاد تطل من وراء النافذة الزجاجية العريضة .. تستغرق فى مشاعرها ، وهى تطالع المنظر العلوى لمدينة نيويورك ، وقد تهاوت مقاومتها متأثرة برهبة الموقف ، إذ ما زال جاسم واقفاً إلى جوارها ، بالقرب منها ، لا يفصله شئ عنها ، فى حين تحاول هى بكل قوتها أن تفتح عينيها الهائمتين فى عوالم سحرية ، تتخللها آلاف الحزم الضوئية الباهرة الملونة الساحرة .. !

تتشاغل سعاد بما ترى خارج النافذة العريضة العالية ، فى حين يدنو منها جاسم لا يشغله شئ آخر عنها ، يقف يطالعها وهو يعاتب نفسه أشد العتاب ، ويسأل روحه نفس السؤال والسؤال ، تلو السؤال :

– إيش لون ما كنت شايف كل هذا الجمال ؟! إيش لون كنت مشغولاً عن سعاد كل هذا الوقت ؟

يقف جاسم يرقب سعاد فى حب وإعجاب منقطع النظير ، وهو لا يكف عن ترديد هذا السؤال ، ومعاتبة نفسه على ذاك التقصير والتجاهل والإهمال !! يسأل سعاد بصوت حاول أن يجعله طبيعياً هادئاً :

– تريدين تشربين شئ يا سعاد !!

تكتفى سعاد بهز رأسها ، فهى لا تقوى على النطق ، ولا الكلام ! كما لا تقوى على النظر على عينىّ جاسم ! .. تلك العينين السحيقتين اللتين تحبهما وتعشقهما ، والتى لمحت فيهما لمعة خاطفة بهرتها .. وأخجلتها ! فأدارت بصرها ، وأخذت تتابع النظر إلى نيويورك مرة أخرى .. دون أن ترى أو تشعر أو تحس بشئ غير جاسم حولها ..! فى حين بدأ جاسم يدنو منها أكثر وأكثر ، وقد إستثاره إنفعال ممتزج بالشوق ، والإعجاب ، والحيرة ، ورغبة عارمة عنيفة فى إزالة هذا الخجل والحرج عن سعاد التى كانت تزداد إنفعالاً وتورداً .. بين لحظة وأخرى !

تقف سعاد مكانها لا يتحرك شيئاً فى كيانها ، سوى حدقتّى عيونها اللتان ترسلهما إلى الخارج ، هرباً من نظرات جاسم التى تتجه نحوها كومضات كهربائية ، غير مرئية ، تصعق جلدها ، ترجف قلبها ، فيندفع الدم حاراً لاهباً متدفقاً فى أنحاء جسدها .. وخدر خفيف يسرى فى أنحاء جسمها .. يهز كيانها . يشعل إحساسها !

آه .. اللحظة حالمة تماماً . براقة الألوان . خافتة الأضواء . عنيفة الأجواء . فجأة .. تشب النيران .. تندلع الأشواق قوية مؤثرة تبعث قوى خفية تشد سعاد .. تدفع جاسم نحوها .. الذى أخذ يقترب منها ، يحيطها بذراعه الذى إلتف بعنف حول خصرها .. وهو يشدها إليه باحثاً عن شفتيها ليبثهما رسالة عاجلة ، لاهبة ، ذات لغة بليغة لا تغيب .. بينما يتلقى وجدانها هذا النداء الخفى الذى ينبع من قلب يملؤه الشوق .. والحب .. والحنين .

 


الفصل السابع

حريـق الذكريات

تفتح سعاد عينيها على الضوء الخافت البسيط المتسلل إليها من نافذة غرفة نومها ، تتقلب بعض الوقت فى فراشها ، تسرح بعيداً بخيالها ، تتذكر عندما كانت تنام فى نفس الغرفة عندما جاءت أمريكا لأول مرة ، وكيف كانت تنام حزينة مهمومة متضايقة فى حضن أمها ، تدعو الله أن يهّون عليها عذاب حبها !

تتمدد سعاد ببطء ودلع فى فراشها وهى لا تعرف ماذا تفعل بكل هذا الوقت الطويل هنا ، آه .. يا الله .. الشعور مختلف هذه المرة ! الوضع مختلف هذه المرة ، هى الآن زوجة جاسم ! هى الآن فى بيتها ، فى ” سيراكيوز ” ، هى ليست ضيفة كما كانت فى المرة السابقة ! آه .. هى تحس أنها ملكة أسرة تدير وتحكم مملكتها بنفسها ، لكن .. تحت سلطة ، وسلطان ، وسطوة مليكها المتّوج على عرش قلبها .. جاسم .. زوجها .. حبيب قلبها .. رفيق عمرها .

آه .. الحمد لله .. تتنهد سعاد تنهيدة إرتياح عميقة عميقة وهى تشعر كما لو كانت قد تسلقت جبلاً وعراً عالياً ، بصعوبة وصلت إلى قمته .. حيث تحس الآن الفرح والأمان ، ونشوة الفوز ، وبهجة النجاح .. تسترخى فى فراشها ، تستلقى سعيدة بنفسها ، وبحبها ، ذلك الذى يزيد وينمو ويتشعب فى ربوع قلبها !

تنهض تحتسى الشاى فى غرفة المعيشة ، تقترب من الشرفة ، تطل على دنيا جديدة ، بنظرة جديدة ، بفرحة جديدة ، تفتح الزجاج ، تريد أن تستشعر برودة الهواء فى هذا الوقت من السنة ، تريد أن تحس نشوة ثلوجه البيضاء ، وصمته وسكونه ، وبطء حركته ، إذ يمنحها إحساساً مختلفاً هذه المرة .. إنه شعور مشوق ممتع ، شعور لذيذ أن تعيش وحدها فى بيتها ، فى النصف الآخر من العالم مع زوجها ، شريك حياتها ، جاسم ، حبيبها .. حبيبها !

ترتاح سعاد إلى إحساسها بوجودها مع جاسم إرتياحاً عظيماً ، تمضى الأيام هادئة ، هانئة ، وادعة ، تنعم فيها بحلاوة الحياة معه وهو يحاول أن يشغلها بعمل كثير من الأشياء حتى لا تحس الضيق أو الملل ، بسبب إنشغاله طول النهار والليل فى المستشفى !

و .. تسير الحياة هكذا فترة من الوقت ، إلى أن تستقر الأمور تماماً ، ويتم تنظيم كل شئ ، ينهى جاسم إجراءات إلتحاق سعاد ” بجامعة سيراكيوز ” لإكمال دراستها تنفيذاً لوعده لوالدها ، الذى صمّم أن تكمل إبنته تعليمها وتحصل على شهادتها ، كشرط لموافقته على زواجها فى هذا الوقت .

ينهى جاسم تقديم أوراق سعاد للجامعة ، وفى اليوم التالى يتصل بها من المستشفى يخبرها أن تستعد للخروج فى خلال ساعة ، لأنه سيمّر عليها أثناء فترة الغداء كى يأخذها إلى   البنك لتوقّع بعض الأوراق بنفسها ، وطلب منها أن لا تنسى أن تأخذ معها جواز سفرها .

تذهب سعاد مع جاسم إلى البنك .. تقف إلى جواره تنظر إليه معجبة ، مبهورة بشخصيته وطريقته وهو يتحدث مع موظف البنك بطلاقه ، طالباً منه إستمارة يقف يعبئها بسرعة ومهارة ، ثم يدفعها على الحاجز الرخامى حتى تصل أمام سعاد ، فيطلب منها أن توقع فى مكان يحدده بأصبعه لها ! تكتب سعاد إسمها دون أن تفكر فى قراءة التفاصيل الدقيقة المطبوعة فوق توقيعها ، لكنها تفهم من جاسم أنها بذلك التوقيع يكون لها حق السحب من البنك فى أى وقت تشاء ، وأى مبلغ تحتاج !

يخرجان من البنك ، تسير سعاد إلى جوار جاسم وهى ما تزال مبهورة ، فخورة بشخصيته الجذابة الآسرة ، القادرة ، التى تجعلها تشعر أنها تسير إلى جوار مارد عملاق ، يحتويها ، يحضنها ، يحميها .. يحبها !

فى خلال أيام ، تصلها بطاقة البنك الآلى بالبريد ، فتفرح بها ، ولا تنسى أن تقدمها إلى جاسم عندما يأتى متأخراً عند منتصف الليل لتشكره عليها ، فقد كان شعورها بثقة جاسم بها شعوراً كبيراً ، فهو قد مكنّها أن تسحب من رصيده ما تريد ، دون أن ترجع إليه أو تراجعه ! كان تأثر سعاد بموقف جاسم هذا تأثراً عميقاً ، فقد أكد لها أنه يحبها ويثق بها ويحترمها ، وكانت هى تعرف أن ثقة جاسم بها فى موضعها ، وفى محلها .

فى خلال أيام تلتقى سعاد فى الجامعة بكثير من الطلبة والطالبات العرب المقيمين فى نيويورك ، تتسع دائرة معارفها ، تتوطد صداقتها بعدد كبير منهم ، تتفق معهم على تنسيق الوقت للذهاب إلى السوق والنادى الرياضى والسينما ، فهى تحس هنا بالعالم الجديد الذى تريد أن تكتشفه ، تحس فعلاً بالإنطلاق ..

كانت فرحة سعاد فى التقاء هؤلاء الدارسين العرب كبيرة ، لأنها كانت تتوق أن تتكلم مع أحد خارج حدود بيتها ، لأن لغتها الإنجليزية كانت تختلف ، وكانت تسبب لها مشكلة عندما تريد أن تتكلم مع الطالبات الأمريكيات ، فالمواضيع مختلفة ، والمزاج مختلف ، والثقافة ، والإهتمامات مختلفة . أيضاً . اللهجة الأمريكية ، والسرعة التى يتكلموا بها كانت مختلفة عليها ، كل ذلك كان يشكل حاجزاً نفسياً يحول بينها وبين الإمتزاج بهم ، أما لآن .. فمع زميلاتها وزملائها العرب ، الأمر أهون بكثير ، والحياة أسهل وأمتع وألطف .. الحمد لله .

ثم .. بدأت تظهر الحاجة للغة المكتوبة لإعداد الأبحاث المطلوبة منها ، صحيح كانت لغتها الإنجليزية معقولة ، مكنتّها من الإلتحاق بالجامعة ، وبالفعل دراستها للإنجليزية فى الكويت نفعها ، لكنها فى حاجة إلى تطوير وتعلم أكثر من ذلك ، وهذا ما فعلته سعاد بكل تمكن وإقتدار !

تنعم سعاد بحياتها فى أمريكا . تحس الحرية والرغبة فى تحمل المسئولية بتحدى وتصميم ونجاح . نعم .. هى تريد أن تثبت لأبيها أنها عند حسن ظنه بها ، وأنها ستنجح بإذن الله ، هكذا وعدته لتطمئنه قبل سفرها ، كما أنها تريد أن تثبت لجاسم أيضاً أنها ليست تلك الفتاة الصغيرة التى كان يظنها ، لا .. إنما هى الآن إمرأة ناجحة مسئولة ناضجة ، جديرة بأن تحمل اسمه وأن تنتمى إليه ، كما أنها قديرة أن تقوم بواجباتها كزوجة طبيب ، نحو زوجها ، وبيتها ، ونفسها .

فى الحقيقة ، سعاد تحب جاسم ، وتحب أن تكون عند حسن ظنه بها ، وتحب أن تثبت له بالفعل ، لا بالقول ، أنها حقاً تستحق أن تكون زوجة جاسم الناصر ..! فتبدأ على الفور فى تنظيم وقتها . تخطط كل شئ حولها . توزع بذكاء اهتماماتها ، فلا تبالغ فى الاهتمام بشئ على حساب شئ آخر ، الأهم أولاً ، فالمهم ، ثم الأقل أهمية !

آه .. هذه هى الإمتحانات على الأبواب ، والمذاكرة تحتاج وقتاً طويلاً ، تفكر سعاد بطريقة مرتبة فى إيجاد حلاً لذلك ، تطلب من جاسم أن يحددا معاً ساعات معينة للدرس ، هو مع كتبه ، وهى مع كتبها ، وأن يؤجلا بعض الوقت زيارة الأصدقاء فى عطلة نهاية الأسبوع لحين الإنتهاء من الإمتحانات .

كانت سعاد فى حاجة ماسة لمزيد من الوقت ، لتحقيق مزيد من التفوق ومزيد من النجاح ! يرحب جاسم برأيها ، يوافقها على كلامها ، مقتنعاً بوجهة نظرها ، فيقول لها :

– أنا مشغول وايد فى الجزء النظرى من الزمالة يا سعاد .. أريد أخلص منه عشان أتفرغ للجزء العملى فى المستشفى .. مشكورة سعاد على هذه الفكرة .. وهذه التضحية .

.. تمسى الساعات نسمات حانية الهمسات ، تمر الأيام ، تدور هادئة واعدة ، تحتاج مزيداً من النجاح والأشواق ، وذات يوم من تلك الأيام الحالمة الهمسات ، يتصل موظف المكتب العقارى المسئول عن إدارة البيت الذى أهداه لها والدها فى ولاية بوسطن ، طالباً رقم حسابها بالبنك كى يتم تحويل مبلغ الإيجار إليها ، بصفتها المالكة الجديدة لهذا العقار !

تخبر جاسم بذلك ، يهزّ رأسه مصغياً دون أن يلقى بالاً ، أو يبدى تعليقاً ، فهو لا يريد أن يقحم نفسه فى مثل هذه الأمور المالية العائلية ، التى تأتى خارج نطاق إهتمامه ، والتى لا يريد أن يكون لها تأثير ما فى حياته !

فى الحقيقة .. جاسم إنسان عاطفى ، شديد الإعتزاز بنفسه ، لذا هو مفرط الحساسية تجاه ثراء سعاد ، أنه لا يريد أن يتدخل فى مثل هذه الأمور ذات الرواسب القديمة عنده ، بسبب تفاوت مستوى الثراء بين الأسرتين ، صحيح هى مواقف قديمة ماضية ، إلا أن رواسبها ما زالت فى النفس كامنة .. راقدة .. باقية !

فى الواقع ، جاسم كان متضايقاً فى قرارة نفسه من هذه الهدية الضخمة ، فهو لا يريد لوالدها أن يعتقد أن زواجه من سعاد بنت خالته ، يعنى إستمرار ولايته عليها ! .. هى الحين أصبحت زوجته ، وهو الرجل الوحيد ، المفروض أن يكون الأوحد ، فى
حياتها ، ليس عنده شك فى ذلك ، لأنه يعرف سعاد ، كما يعرف مدى حبها ، وإعجابها وعشقها !

تنهمك سعاد فى ممارسة حياتها الجديدة بكل الحب ، والرغبة الأكيدة فى تحقيق النجاح ، تقضى أوقاتاً ممتعة بين الكتب داخل المكتبة الكبيرة العملاقة ، التى تطّل نوافذها العريضة العالية على حديقة واسعة تغطى أشجارها الثلوج البيضاء .. كل شئ الآن حول سعاد أبيض . أبيض . الطرق الطويلة الممتدة يتراكم الجليد على جوانبها ، فتقود سيارتها مستمتعة بكل ما هو جديد هنا .. !

وفى البيت ، فى أوقات فراغها ، تتابع سعاد محطات التليفزيون التى تعمل ليل نهار ، تبدأ الخطابات تأتى بإسمها تحتوى البضائع الصغيرة التى طلبتها من بعض الشركات ، فضلاً عن عشرات الإعلانات والخطابات التى تصلها ، وهى تتعجب لذلك ! كيف تصلها هذه الرسائل ؟ تتسائل فى حيرة وإستغراب :

– إيش لون عرفوا إسمى يا جاسم ؟! وايش لون عرفوا عنوانى ؟!

فيقول لها جاسم :

– عن طريق المجلات اللى إحنا مشتركين فيها .

هى تجربة جديدة بالنسبة لسعاد ، هى ناجحة فى كل المجالات ، وهى طالبة طموح مجّدة ، مجتهدة ، وهى صديقة حميمة لعدد كبير من الطالبات ، وزوجات الطلبة ، والأطباء المقيمين هنا ، كما أنها قبل ذلك كله زوجة محبة ، ودودة ، عاشقة لزوجها ، حبيبها ، الذى تتمدد بالقرب منه كقطة وديعة ، تنعم بالدفء لرقدتها بالقرب من مصدر حرارى ساخن ، حار أبداً ، لا يبرد ، لا يبرد !

الأيام تمر ، والأحلام حانية ، وسعاد تعيش وداخلها حلم كبير يتحقق لحظة بعد أخرى ، يقف الزمان بجانبها يؤيدها ففى كل يوم تنجز شيئاً جديداً ، مفيداً ، فلغتها الإنجليزية أصبحت متقنة تماماً ، صارت سعاد الحين تتكلم بلكنة أمريكية ، يصعب على محدثها أن يميزها عن غيرها ، كما أنها تحس الآن بحب جاسم لها ، وإعجابه بها ، يزداد ، ويزداد ، تحس ذلك رغم أنه لم يبح لها بذلك ، فهو لم ينطق يوماً كلمة .. أحبــك !!

تموج الليالى حافلة الأوقات بالحب ، بالوّد بالملذات ، تنساب الأوقات ضنينة اللحظات التى تتيحها ظروف الدراسة والعمل لتمنح جاسم الفرصة الكافية للحوار بينه وبين سعاد ، فهو مشغول بالجهود الكثيرة التى عليه أن يقوم بها ، تحس ذلك سعاد ، لكن ، رغم مشاغله العديدة ، ووقته الطويل الذى يقضيه بعيداً عنها فى المتشفى ، إلا أن شعورها الداخلى بالحب يحيطها ، ويربط دائماً بينه وبينها ، ويزيد من تعلقها به ، فهو إنسان قوى ، جرئ ، شجاع ، إنسان قادر على اتخاذ القرار ، إحساسه كبير بشخصه وذاته ، وهو يعرف جيداً كيف يدير حياته !

نعم .. رغم مشاغله الكثيرة العديدة ، لم تتذمر أبداً سعاد من طبيعة عمل جاسم كطبيب ، كانت تعرفها من قبل . منذ جاءت مع أمها وخالتها وأبنة خالتها . كانت تشعر به يتمزق بين عمله ، وبين رغبته فى أن يصحبهم إلى النزهة التسوق ، وقضاء بعض الأوقات بالخارج ، لكنه غالباً لم يكن يستطيع أن يفعل ذلك . لم يكن يقدر أن يصحبهم إلا فى عطلة نهاية الأسبوع .

أحياناً كانت سعاد تتمنى أن تأتلى ليلى لزيارتهم ، وقضاء بعض الأوقات معهم . كانت تكملها فى ذلك كثيراً وتطلب منها الحضور كثيراً . فالصداقة بينهما صداقة عمر . والحب بينهما لا يؤثر فيه البعاد والقرب .. آه .. الله يديم الحب .

كانت ليلى تسلى سعاد بمكالماتها الطويلة ، وحكاياتها الكثيرة المثيرة عن الأهل والأقارب والصديقات ، وخاصة عن .. دلال ، دلال ، التى حاولت أن تستأثر بجاسم لنفسها ، مع علمها إن جاسم منذ البداية حبيبها هى ، هذه حقيقة أكيدة واقعة لا تحتاج نقاشاً . كل ما فى الأمر أن دلال قد تجاوزت حدودها فى إقترابها منه ، وإقتناصها له . فمعروف منذ الصغر أن سعاد عروس جاسم ، وإن ما حدث مع دلال ، كان مجرد طيش شباب لا أكثر !

لذا .. كان إرتياح سعاد محدوداً عندما عرفت من ليلى إن دلال تزوجت طياراً حربياً شاباً ، وسيماً ، من عائلة طيبة ، تقدم لها بعد زواجهما بحوالى شهرين ، فوافقت عليه دون تردد ، وتم الزواج فى شهر مارس ، أى بعد زواج جاسم وسعاد بثلاثة شهور فقط !

تستطر ليلى فى دهشة وتعجب وهى ما تزال تحدث سعاد من الكويت :

– هذه وين تلاقيهم بهالسرعة ؟! كأنها تخبيهم فى جيوبها ..! هى ما تقدر تقعد من غير ماتعرف أحد .. على طول عندها الإحتياطى قاعد على الخط فى ملعبها !!

تضحك سعاد من تعبير ليلى الرياضى ، تطلب منها توصيل السلام لخالتها ، وزوج خالتها ، كما تطلب منها أن تهنئ دلال وتبارك لها بالزواج .. وعندما يعود جاسم بعد منتصف الليل من المستشفى ، تحكى له سعاد آخر أخبار الديرة ، تخبره عن زواج دلال من هذا الطيار الحربى ، لكن .. يندهش جاسم ! يستغرب !! يتعجب !! تفلت منه عبارة لم يرد لها أن تخرج من فمه :

– معقول دلال تتزوج بهالسرعة ..؟!

يصمت جاسم بعض الوقت ، ثم يعود يسأل سعاد :

– كم عمره ؟! ولد من هو ؟! من عائلة من بالكويت ؟! وين يسكن ؟! شنورتبته العسكرية ؟! و .. و .. و .. !!!

جاءت أسئلة جاسم كثيرة ، سريعة ، متلاحقة ، كان يتلهف لسماع كافة التفاصيل الخاصة بزواج دلال وكل الظروف المتعلقة بزواج دلال !! ولم يخف هذا الإهتمام الواضح البالغ على عين سعاد ، التى لم تعرف كيف تجيب هذه الأسئلة الكثيرة دفعة واحدة !! لأنها فى حقيقة الأمر لم تهتم بهذا الموضوع كثيراً ، وبالتالى لم تسأل ليلى عن هذه التفاصيل التى لم تكن تتوقع أنها قد تهم جاسم كثيراً ..!!

آه .. ويالها من تفاصيل ! تلك التى جعلته ينفعل ويتحمس ، ويصحو ، وينشط ، وتتبدد عنه علامات النعاس والتعب ، والتى جعلته يبدو فى حالة يقظة كاملة ! وهو يلقى السؤال تلو السؤال ، مستفسراً عن كل كبيرة وصغيرة ، حول موضوع زواج دلال ، محاولاً أيضاً أن يعرف كل شئ عن .. زوج دلال !!

كان جاسم يسأل وهو يتلهى فى تقليب الفحم الذى يوشك أن يشتعل فى المدفأة أمامه ، فى حين كانت سعاد تحتسى غيرتها وحيرتها وحسرتها ممزوجة بالشيكولاته الساخنة ، التى تمسك كوبها السميك فى يدها ، ذاك الذى تقلصت أصابعها عليه فجـــأة .. !!

أخيراً .. يصمت . يشرد . وهو ما يزال يقلب الفحم المتقد ، فى حين تتكون سعاد كقطعة تعانى البرد فى ليلة شتاء . ليلة شتاء طويلة مقيتة موحشة باردة ، نعم كانت ليلة طويلة أليمة جارحة موجعة ، ظلت العيون ترمق جمر المدفأة خلالها ، وهى ترقب النيران تتقد ، تتلظى ، فى حين هربت النظرات من مواجهة العين بالعين ..!

كانت الأحاسيس ساخنة لاهبة . تتنازعها الغيرة . والعشق . والحزن . والخوف . والغضب . كانت مواجهة مشاعر ضارية . صاخبة . صامتة . مشاعر عنيفة تتصارع فيما بينها ، تغالب بعضها .. فى حين يبدأ يضيع الشعور بالأمان ، يتلاشى ، كلما مضى الوقت و .. عبرت الساعات !

ترتفع درجة الحرارة داخل غرفة المعيشة ، فى حين تنخفض فى قلب سعاد ، تتأرجح ، تتذبذب وهى تشعر أن جاسم ما زال يفكر فى دلال ، ما زال غارقاً فى
بحار الذكرى التى كانت تموج ، وتهتز ، وتضطرب .. بطيف دلال !! دون مقدمات .. سقطت كثير من الحقائق بصورة مباغته ، فى نفس اللحظة ، شعر الإثنان بأن شيئاً ما كامناً ، إنكشف لهما ، شيئاً غامضاً ماضياً ، إنقطع الغموض عنه ، فتبدى أليماً .. قبيحاً .. شائهاً !

تتناسى سعاد الموقف ، تتحاشى التعليق عليه مع جاسم ، تتجنب الكلام فيه أو الإشارة إليه ، لكنها .. للأسف ، دون أن تدرى ، تختزن كل تفاصيله ، وآلامه ، وأحاسيسه فى حنايا نفسها !

تعيش سعاد حياة تحفل بالشوق . بالحب . بالغيرة . بالعذاب . حياة تحاول أن لا تحاسب فيها جاسم على أحداث ماضية ، فهى تحبه . تحبه . تذكر كيف كانت تعانى عذاب الفراق أثناء سفره وغيابه الكثير المتكرر عليها ، حين كان مشغولاً بكرة القدم .

تذكر كيف كيف كانت فخورة به وهو يلعب مع المنتخب الوطنى فى بغداد ، عندما أحرزوا أهداف الفوز الثلاثة مرة واحدة فى الشوط الثانى ، وكيف إنقلبت المبارة وتحولت هزيمة الكويت فى الشوط الأول ، إلى نصر محقق فى الشوط الثانى ، وكيف عاد جاسم وأبطال المنتخب الوطنى عودة الأبطال ، وكيف وقفت الكويت كلها تحييهم ، تهتف لهم ، تعبر عن فرحها بهم ، وهى تغنى لهم مع غريد الشاطئ :

أووه يا الأزرق .. ألعب فى الساحة يا كويت

آه .. كانت أيام ! أيام العمر كله مضت وهى تحب جاسم ! ظلت تباهى الدنيا كلها بجاسم ، فهو حبيبها ، قبل أن يكون إن خالتها . كانت سعاد تعرف نفسها جيداً ، وكانت تعرف تماماً نوعية حبها ، ذلك النوع من الحب الزاخر الوافر العميق ، الذى لا تزيده اليام إلا قوة وعمقاً وتمكناً وإقتداراً ، والذى يسبغ عاطفة دائمة سلسة ، متصلة ، متقدة ، تبقى تتأجج . تشتعل . تشتعل .. !

لذا .. كانت سعاد بمنتهى الهدوء والسكون ، تحيط جاسم بكم هائل من الحب ، الذى يشعره ، ويسعده ، ويرضيه ، ويقنعه ، دون أن تحس أن جاسم مازال محتاجاً لسماع كلمات الحب ، أو تعليقات الغرام ، أو حتى إشارات إشتعال الأشواق ، كانت سعاد تحب جاسم ، تعشق جاسم ، وكانت تعتقد طول الوقت أن جاسم يحس إحساسها ، يشعر شعورها ، وأنه ليس فى حاجة إلى سماع تعبيراتها .. أو تعليقاتها !

كان هذا الإعتقاد يقنعها ، يرضى حياءها وخجلها ، كذلك كان جاسم واثقاً ، متأكداً ، من حب سعاد وعشقها ، كما كان واثقاً متيقناً من صدقها ، وإخلاصها ، أما بالنسبة لسعاد فقد كان الوضع العاطفى عندها يختلف ، صحيح هى تحب جاسم أكثر من روحها ، لكنها أحياناً لم تكن تعرف حقيقة مكانتها عنده ولا مدى أهمية وضعها العاطفى لديه ، وكان هذا الوضع يضايقها ، لكنها ، لم تفصح أبداً عن حقيقة إحساسها ولم تصرح يوماً بما يقلقها أو يزعجها ويكدر قلبها !

كانت سعاد كثيراً ما تتساءل .. هل جاسم فعلاً يحبها ؟! أم أنه اضطر أن يتزوجها لأنها فقط بنت خالته ؟! ولأنها لم ترتبط عاطفياً بأى شاب من الشباب من قبل ؟! أو ربما لأن أمها وأمه صديقتان قبل أن تكونا شقيقتين ؟! كان قلبها الغض يضج . يضيق بالكثير من هذه الأفكار الدائرة ، المتسائلة ، الحائرة ، حول مركز سعاد من قلب جاسم ، وعن مدى أهميتها عنده ومدى تعلقه بها .. !

كان لدى سعاد للأسف كم كبير من الشك والريبة فى ذلك ، فقد كانت تظن وتعتقد أن جاسم لا يحبها ، رغم أنها كانت كثيراً ما ترى أمارات الحب فى عينيه ، إلا أنها لم تسمعه يوماً واحداً منذ تزوجا ، وحتى الآن ، يقول لها كلمة .. أحبك ! للأسف لم يبح جاسم بحبه لسعاد ، لم يصرح به أبداً ، فقط ، أكتفى بالمعاملة الطيبة المعبرّة عن الحب ، وإقتنع بالاحترام والتقدير المتبادل !

آه .. كم تتألم سعاد وهى تفكر بهذا الأسلوب ، وهى تعيد التفكير بهذه الطريقة ، فى الواقع .. كان هذا هو شعور سعاد العميق المرتكز فى نفسها ، المتراكم فى أعماق أعماق قلبها ! آه .. سعاد ما تزال تشعر بغصّة فى صدرها ، وهى ترى جاسم جالساً أمامها ، ساهماً ، شارداً ، كأنه راح بخياله هناك ، كأنه سافر الكويت يفتش ، يسأل ، يستفسر عن زوج دلال .. أين قابلته ؟! ولماذا قبله به ، وكيف رضيت ووافقت و .. تزوجت ؟! فهل أحبته ؟ هل أحبته ؟!

تتجاهل سعاد ما ترى ، تتعامى عن تلك الحقيقة العارية المجردة أمامها ، التى تشى بتعلق جاسم بدلال حتى الآن ، رغم زواجهما ، الذى مضى عليه أكثر من عام !! ياه .. بهذه السرعة مضى عام ؟! .. تغرق سعاد فى لجج الذكريات ! تذكر حين دخلت هذا البيت للمرة الأولى ، وكيف تجلس بعيدة عن جاسم ، لا تجرؤ على الاقتراب منه .. ولا تقوى حتى على مجرد النظر إليه !

تذكر كيف كانت غارقة فى بحور الشوق ، وكيف كانت تحدث جاسم عن بعد وهى لا تستطيع أن ترفع عينيها إليه ، وهو راقد ممدد على الكنبة يريح ظهره المتعب من الارهاق ، فى حين كانت هى صامتة .. تنصت . تسمع . دقات قلبها . تصغى . تحس دبيب مشاعرها التى أخذت تسرى فى أنحاء جسدها ! وهى تقلّب صفحات المجلات التى بين يديها لعل خشخشة أوراقها تخفى ضجيج قلبها ، الذى أخذت دقاته تتعالى ، ترتفع شيئاً .. فشيئاً !

آه .. تحقق الحلم .. الحمد لله . صارت هى الحين زوجة جاسم ، تتنهد فى ارتياح . تضع كوب الشيكولاتة الفارغ على الطاولة . تغيّر مقعدها . تنهص تجلس على الكنبة بجوار جاسم ، تدنو منه كقطة تنشد الدفء فى ليلة شتاء بارد ، تلتصق به وفى عينيها عذوبة ورقة وعشق وغرام ، بينما تلقى بعيداً عن خاطرها ، داخل نيران مدفأتها اسم دلال .. وسيرة دلال ، وكل الأفكار السوداء التى تذكّرها بدلال !

تلتصق سعاد بجاسم أكثر فرحة بهذا الحب الصادق النقى الذى يعتمل داخلها ، والذى يتفاعل فى أعماقها ، والذى يتزايد يوماً بعد يوم فى وجدانها ، مما يجلب مزيداً من الثقة ، والسعادة ، ومزيجاً من القدرة على مغالبة مشاعر الضعف والغيرة داخلها ، تلك التى لا تحتملها والتى تودّها أن تؤثر فى نفسها ، أو تحطم شيئاً ما فى حياتها .. فمهما كانت الظروف حولها .. جاسم هو الآن زوجها . وهو من زمان حبيبها . حبيبها وحدها .. دون غيرها !

ومع الليل والسكون والحب ، ينساب صوت عوض الدوخى ، صوت الحب ، ويضيف لليل جمالاً ، وللساعات عمقاً ، وللسهر سحراً . فتمسى الغيرة رماداً ، والغرام نيراناً ، تتوهج فى قلبىّ الشابين الزوجين ، العاشقين ، اللذين ينظران بعينى الحب ، والشوق ، إلى الفحم المشتعل فى المدفأة أمامهما ، وهما يسترخيان ، يتلذذان بالنظر إلى لهب النيران الحمراء ، التى توحى الدفء ، والشوق ، والغرام ، بينما يسمعان .. هذه العبارات الحافلة بالحب ، والغيرة ، والملام !

حبيبى حبيبى .. يا حبى ونصيبى

من قلبى وهبتك .. إخلاصى وطيبى

متى التمادى فى الظنون .. والغيرة هذه والجنون

الغيرة سبايب .. فى فراق الحبايب

أحبك وحبك .. حياتى وزادى

لا تصدق ظنونك .. وتكذب فؤادى

إذا كان يهون .. عليك الملام .. عليك الملام


الفصل الثامن

ليلة ساهمة .. !

تمضى شهور الحمل ، وسعاد تعيش التجربة السعيدة بنفس النشوة ، ونفس الإحساس بالفرح والحماس والنجاح الذى تمارس به حياتها ، فهى لا تستسلم للنعاس والرقاد ، ولا تتهاون فى دراستها لإدارة الأعمال ، كما لا تهمل القيام بدورها الأساسى والرئيسى فى الاهتمام بجاسم والاعتناء بطلباته ، لأن سعاد ليست من النوع الذى يمكن أن يضحى بزواج ناجح ، من أجل عمل ناجح .

عموماً .. الأمور تسير إلى الأفضل ، بسبب تفّهم جاسم وتقديره لسعاد ، واهتمامات سعاد ، فهو يعرف أن هذه هى وصية والدها ونصيحته لها ، فشجعها وأيدها وحثها على الدراسة والمتابعة . أما سعاد .. فقد كان هاجسها الأول والأخير ، هو حبها لجاسم ، لذا لم يطرأ على هذا الحب أى تغيير ، أو تعديل ، سوى أنه تعمّق ، وازداد ، وتضخم !

.. تعبر شهور الشتاء مثقلة بهوائه البارد وثلوجه الشاهقة البياض ، المتشبعة بشحنات الحماس للنجاح ، التى تحث سعاد على أن تأخذ نصيبها كاملاً منه ، فهى لا تتوانى عن مواصلة دربها بدأب واجتهاد ، دون أدنى إحساس بالذنب ، فهى لا تقصرّ فى رعاية وحب زوجها .

يأتى فصل الربيع ، مصحوباً بالأمل الوديع ، الذى يحيطها بالدفء ، والحنان ، والأمل ، فى أن تستنشق رحيق النجاح الذى لا حدود له ، بعد أن قدرت ببراعة ومهارة أن تصارع الضغوط التى تموج بها الحياة فى كل لحظة ، لأنها امتازت بالاختيار الدقيق للحدث ، والموقف ، كأنها مخلوقة لمثل هذا التحدى ، منذ تفتحت عيناها العميقتان على هذه الدنيا الواسعة !

تنطلق العصافير . تحلق الطيور . تنتشر أشعة الشمس تشّع الدفء والحب بين الربوع والقلوب ، وجاسم يولى عناية خاصة لحياة سعاد . وصحة سعاد . وحمل سعاد .
و.. حب . سعاد !

يحرص جاسم أغلب الوقت على التركيز الدائم على صحتها ، وتغذيتها ، وراحتها ، ونفسيتها ، وهو لا يكف عن تدليلها ، ومداعبتها ، والمزاح معها ، وتشجيعها على مواصلة دراستها ، خاصة وأنها فى سنة ثانية بكلية التجارة .. يظل جاسم يدللها وهو يقدم لها كل شئ ، لأنه لا يريد أن يحرمها من أى شئ ، فهو حريص على أن يكون هو الرجل الوحيد فى حياتها ، بعيداً عن سيطرة أموال أبيها ، أو ميراث جدها !

ومع الأيام الناعمة الهائمة ، تكبر الفرحة ، تزداد البهجة ، وبحضور ليلى مع بداية فصل الصيف يحس الجميع الراحة والسرور لوجودها المبهج ، فهى شخصية لطيفة ، ذات حيوية دافقة ، تبّث حولها إحساساً صادقاً بالحياة ، والحركة ، والشباب ، والإنطلاق ، فهى فى الحقيقة فتاة مرحة ، راضية ، سعيدة ، تفيض حباً هى الأخرى ، وذوقاً ، ولطفاً ، ورقة .

وذات صباح مشرق مشمس بهيج ، يتصل مكتب العقارات فى ” بوسطن ” عارضاً على سعاد بيع البيت الذى أهداه لها والدها ، حيث أن هناك شركة يابانية مهتمة بشرائه بعد أن اعتبر الحى السكنى القديم حياً تجارياً نشطاً تسعى إليه كبرى الشركات ! يلح فى ذلك مسئول المكتب العقارى الذى يتصل بين الحين والآخر ، فتطلب ليلى ، من سعاد وجاسم ، أن يذهبوا جميعاً إلى بوسطن ، لأنها تريد رؤية منطقة ” كوينسى ماركت ” السياحية ، تلك المنطقة المليئة بالمحلات التجارية ، ذات الطابع القديم الموحى بالفنون التى يجيئها الناس من كل أنحاء العالم .

تؤيد سعاد ليلى فى ذلك ، لأنها تود الذهاب إلى منطقة ” كمبردج ” كى ترى جامعة
” هارفارد ” التى تخرج منها أخيها عبد الله الذى درس الهندسة بها .. يوافق جاسم أخيراً على السفر إلى ” بوسطن ” طالما هذه هى رغبتهما المشتركة ! فترتب سعاد كل شئ ، تنسق مع جاسم لاختيار الوقت المناسب له . تتولى هى القيام بكل الأمور كعادتها ، فتحدد موعداً مع الرجل مسئول المكتب العقارى هناك ، وتحجز الفندق ، والطائرة ، والسيارة ، لا تهمل التفكير فى شئ مهما صغر ، ويذهبون جميعهم إلى ولاية ” بوسطن ” للقاء الرجل فى الموعد الذى تم تحديده من قبل .

وبعد مناقشة سريعة عاجلة ، يوافقون على البيع ، فالقرار شبه جاهز مسبقاً ، ولا يكتفى مدير المكتب العقارى بعمولة البيع ، بل يفكر فى عمولة الشراء أيضاً ، فيبدأ ترتيب شراء منزل لهم فى ” سيراكيوز ” ، فى ولاية نيويورك حيث يعمل جاسم ، فيرسل لهم صور البيت الواقع هناك بالقرب من المستشفى .

يقوم الرجل بالإجراءات اللازمة كلها ، فتتم بسهولة عملية البيع والشراء بدافع شديد من حماس ليلى ، التى تنبهر بجمال البيوت وفخامتها ، فتصرح بذلك فى إندفاع وإنفعال ، إلا أن جاسم يحتج ويرفض شراء مثل هذه البيوت الفخمة الضخمة ، التى لا يقدر على السكنى بها أى طبيب من زملائه ، فكيف يكون هو مختلفاً عنهم إلى هذا الحد ؟! تقتنع سعاد بوجهة نظره ، تحترم رأيه ، توافقه على الفور ، فينتقيا بيتاً صغيراً لا يعجب ليلى كل الإعجاب ، مقارنة بالبيوت الأخرى الضخمة الفخمة ، إلا أنها تستسلم لرغبة أخيها وزوجته ، وتحتفظ برأيها الداخلى لنفسها !

يتم دفع خمسين بالمائة نقداً من ثمن البيت الجديد ، فى حين يتم الاتفاق على سداد باقى الثمن أقساطاً ، يدفعها جاسم من مرتبه بدلاً من الإيجار الذى كان يدفعه لبيت المستشفى . يصمم جاسم على ذلك لأنه لا يقبل أن يعيش فى بيت دفع ثمنه بالكامل من فلوس والد زوجته !

تفرح سعاد بهذا الحل الوسط ، فهى تريد منزلاً مريحاً ، وغرفاً للنوم أكثر ، بحيث تخصص واحدة للطفل القادم ، وأخرى لأمها وخالتها ، وأخرى للمربية بحمامها الخاص بها ، فى الحقيقة .. البيت رائع ، فهو أجمل وأوسع من البيت الذى يعيشون فيه الآن ، هذا بعد أن رفض جاسم فكرة البيت الضخم ، كما رفض أن تدفع سعاد ثمن البيت الجديد بالكامل ، فأخذ بنصيحة مدير المكتب العقارى وإختار بيتين آخرين تقوم قيمة إيجارهما بتسديد باقى أقساط البنك . ويتولى هذا الرجل تقديمهما إلى مكتب عقارى قريب منهما ، فى ” سيراكوز ” لتأجير هذين المنزلين ، والإشراف عليهما .

تستقر الأسرة فى البيت الجديد ، تحس سعاد بالراحة التامة بعد أن تم تجهيز غرفة الطفل القادم ، وطلائها بلون المشمس المحبب إلى قلبها ، كما تم تأثيثها بطريقة فنية باهرة تجعل أثاثها كله على هيئة دببة تلعب فى حديقة نباتات وحيوانات .. !

تقترب فترة الحمل من نهايتها ، تستعد سعاد للوضع ، فتطلب حضور أمها ، التى لا تمانع فى المجئ إليها ، وخالتها أم جاسم ، فتقوم الشقيقتان برعاية سعاد إلى أن يحين ميعاد الوضع .. و .. يعود جاسم إلى البيت بزوجته ، وطفله أحمد من المستشفى ، ذلك الطفل الجميل الذى أتى إلى الدنيا مع بداية دخول فصل الشتاء .

يدخل جاسم البيت يحمل إبنه أحمد جاسم الناصر وفرحة الدنيا لا تسعه ، وإحساسه بأبوته ينمو ويكبر داخله ، وإحساسه بسعاد زوجته ، أم أحمد ، لا يضاهيه إحساس ! تنهال الفرحة والتهانى والتبريكات ، يعبّر الجميع عن سعادتهم بقدوم هذا المولود السعيد بعشرات الباقات من الورود والبرقيات والمكالمات التى لا تكاد تتوقف أو تنتهى !

يشعر جاسم ، أبو أحمد ، بأنه قد أحرز هدف الإنتصار الأول فى مباراة حياته الزوجية ، تعويضاً عن ذلك الهدف الذى كان يتمنى أن يحققه فى بطولة كأس العالم التى جرت نهائياتها فى أسبانيا عام 1982 ، كان ذلك قبل بضعة أشهر فقط من ولادة إبنه أحمد ، وكان جاسم يود أن يشترك فى تلك المباريات مع منتخب الكويت الوطنى ،
لكن الظروف لم تخدمه بسبب انهماكه فى الدراسة والعمل هنا فى أمريكا .. وكان عزاء جاسم الوحيد هو رؤية علم الكويت يرتفع خفاقاً عالياً فى سماء أسبانيا وسط أباطرة الكرة العالمية !

كانت سعاد توّد أن يطل أحمد على الدنيا يوم عيد ميلاد جاسم ، كانت تتمنى أن يولد فى نفس اليوم الذى ولد فيه أبيه ، لكن للأسف أختلف التاريخ بفارق يومين فقط ، لأن عيد ميلاد جاسم يوم 28 أكتوبر ، أما أحمد فقد ولد يوم 26 أكتوبر تقول سعاد لنفسها :

– ما يهم .. يكفى أن أحمد من مواليد برج العقرب مثل أبوه !

فى الواقع ، لا تكاد الدنيا تسع أم أحمد من شدة الفرح ، فعلاً ، لا تكاد سعاد تصدق نفسها إن أحمد هذاالطفل الجميلالوديع ، هو فعلاً ثمرة حبها ، وأن جاسم زوجها ، حبيب قلبها ، قد أصبح والد إبنها .. آه .. الحمد لله .. إكتملت فرحتها .. وكبرت أسرتها .. وعسى الله أن يديم عليهم السعادة والفرح إنشاء الله .

وبعد أسبوع من ولادة أحمد ، فى حفل النون ، أخذت الأسرة تتلقى التهانى من الأهل والأصحاب ، والزملاء ، وأتصلت ليلى من الكويت تهنئ بوصول أحمد جاسم الناصر وتطلب سرعة إرسال صورة لأنها لا تطيق الإنتظار حتى تراه ، ولأنها مشتاقة له ، ولهم كلهم .. حقيقة .. لولا إنشغال ليلى بدراستها كطالبة فى كلية الآداب قسم إجتماع ، لكانت الآن معهم ، خاصة أن أمها وخالتها لم ترجعا الكويت بعد .

أما فرحة أبو عبد الله ، والد سعاد فقد جاءت كبيرة كبيرة ، فهو للآن لا يصدق أن سعاد إبنته كبرت وتزوجت .. وخلّفت ؟!

– لا .. لا .. مو معقول .. بنتى سعاد صارت أ/ ؟! لا .. لا .. ما أصدق .. ما أصدق .. ودى أشوفها الحين .. ودى أشوف ولدها أحمد .. عسى الله يخليلها إياه .

لا يطيق أبو عبد الله الانتظار ، يحلق طائراً إلى نيويورك ، كى يطمئن على صحة إبنته حبيبته ، وليرى حفيده ، حبيبه الغالى ، إبن الحبيبة الغالية .. سعاد . يحمل أبو عبد الله أحمد بين يديه ، يقبله ، يدلله ، يناديه .. الغالى إبن الغالية ، وحب الدنيا كله يتدفق من قلبه ، يغطيه من رأسه حتى قدميه ، والصغير الوديع يتلقى قبلات جده الذى ما يقدر يدارى فرحته وسعادته وحبه .. للغالى إبن الغالية !

تمر الأيام سريعة سعيدة وادعة ، وجاسم لا يخفى ولعه الكبير بأبنه أحمد الصغير ، الذى أصبح الحين يعرفه ! صار يبتسم فى وجهه عندما يراه وهو يهز رجليه وقدميه بشدة كلما حمله فى حضنه ! فتعلق به جاسم إلى درجة أنه كان يوقظه من نومه يداعبه ويلاعبه ، فهو لا يطيق أن تمضى ليلة واحدة دون أن يرى أحمد ، ويلاعب أحمد ، ويشبع من أحمد .. !

فى الحقيقة جاسم أب حنون ، حنون ، كما أنه زوج مفرط الحنان ، فهو لا يقدر أن يخفى عشقه وتعلقه بسعاد ، أم أحمد ، حبيبته التى إستطاعت أن تستحوذ على مشاعره يوماً بعد يوم ، والتى كانت تبدى له حباً فياضاً غامراً ساعة بعد ساعة .

كانت سعاد تمنح الحب ، دون أن تبوح بالحب ، فالخجل يمنعها ، والحياء يحول بينها وبين هذه المصارحة العاطفية ، وإن كانت واثقة أن الحب له علامات ، له دلائل فلا داعى إذن للإعلان عنه لأنه موجود ، فالتصريح بالكلمات هنا لا يهم ! المهم .. الأفعال ، والأعمال ، فهذا هو ما يثبت الحب ، ويؤكد وجود الحب ، ويطيل فى عمر الحب .. !

كانت هذه هى قناعة سعادة ، وكانت هذه هى وجهة نظر سعاد فى التعبير عن الحب .. بالأفعال ، وليس بالأقوال !

وبعد فترة قصيرة من الوقت ، تصلها فى يوم واحد عدة رسائل دفعة واحدة من
البنك ، ومن مدير مكتب العقارات ، فتضعها على المائدة لحين يصل جاسم من المستشفى ، عادة ، بعد منتصف الليل ليقرأها ، فهى الآن مشغولة برعاية أحمد الذى وحشها ، بعد أن تركته فترة طويلة مع المربية اليوم ، حين كانت فى الكلية تجمع المعلومات التى تحتاجها من المكتبة .

تترك سعاد أحمد فى حضن والده المشغوف به ، والذى لا يتوقف عن مداعبته وعضه وتدليله وتقبيله ، فيضع جاسم أصبعه بين أصابعه الصغيرة التى تقبض عليه بشدة ، ثم يرفع ذراعه فوق ، واحداً وراء الآخر ، ثم يبدأ يمسك ساقيه ويهزهما له ، ليعلمه من الحين .. لعب الكرة ، وشوط الكرة .. وإحراز أهداف الإنتصار !

تضحك سعاد من قلبها وهى ترى هذاالمنظر الجميل ، تقول له راجية :

– شوىّ شوىّ يا جاسم الله يخليك .. أحمد بعده صغير .. إصبر لما يكبر .. وشوف إيش لون راح يلعب الكورة .. أكيد راح يصير بطل مثل أبوه ..

يسعد جاسم كثيراً بسماع هذا التعليق الحلو من سعاد ، فعشق الكرة يجرى فى دمه ، وبريق الملاعب يسطع فى عينيه ، وهتاف الجماهير ، وحماس اللاعبين ، وتصفيق المشجعين يدى فى أذنيه ، يحتضن طفله صغيره فى صدره ، يضمه ، يقبله ، وما يلبث أن يقذفه إلى أعلى كالكرة عدة مرات ، ثم يضعه فى حضنه وهو يحيطه بساعديه القويين ، ويطلب من سعاد أن تضع له شريط الفيديو ليشاهد مباريات كأس العالم للعام الماضى 1982 التى دخلت فيها الكويت ضمن المجموعة الآسيوية الثالثة .

يكمن أحمد كالقطة الصغيرة فى حضن والده ، الذى يجلس على الأرض فارداً ساقيه على آخرهما وهو يشاهد مباراة الكويت وتشيكوسلوفاكيا التى إنتهت بالتعادل بينهما والتى تحدثت عنها صحف العالم كله !!

يرقب جاسم المباراة التى لعبتها الكويت فى أسبانيا بمنتهى الحماس ، كأنه يشاهد اللعب للمرة الأولى ، فهو يعشق الكرة عشقاً كبيراً ، لذا يشاهد المباراة بقلبه ، وليس بعينيه ، فإحساسه كله يتركز فى الملعب ، فيشعر أنه يركض ، ويروح ويجئ مع أحمد الطرابلسى ، وفتحى كميل وسعد الحوطى ، وفيصل الدخيل وعبد الله معيوف ونعيم سعيد ويوسف سويد ومحبوب جمعة وحمود فليطح ..

آه .. إنه يلعب معهم ! آه .. ها هو يشروط الكرة بشدة فىالهواء حين أحرز جاسم يعقوب هدف التعادل فى مرمى موسكو ! آه .. آه .. إنه يهتف ، يصيح ، ويصيح ، ويهتف مع الشيخ فهد الأحمد الصباح رافعاً ذراعه إلى أعلى ملوحاً بعلم الكويت ، أنه يهتز بعنف من شدة الإنفعال ، وأحمد ما زال بين يديه ، تشهق سعاد فى فزع خوفاً على صغيرها ، تنهض تأخذه منه بسرعة ، وهى تقول ضاحكة :

– أخاف تحسبه كورة وتشوطه يا جاسم .. إعطنى إياه الله يخليك .

تضع سعاد أحمد فى فراشه لينام فى هدوء ، بعيداً عن الضجة التى يحدثها والده والتى يكررها فى كل مرة يشاهد فيها إحدى مباريات الكويت ، حتى لو كان يراها للمرة العاشرة !!

كانت سعاد ترى عشق الأطفال فى عينى جاسم ، كانت تلمس حبه الواضح وتعلقه الكبير بأبنه أحمد ، فى حين كانت تلمس نفوره ورفضه مناقشة أمورها المالية التى نتجت عن الأموال التى جلبها البيت الذى أهداه لها والدها ! كان جاسم يرفض مناقشة هذهالمسائلالمالية بوضوح أحياناً ، كما كان يتهرب بلباقة ، ويتملص بذوق ، دون أن يفصح أو يوضح فى أحيان أخرى كثيرة كثيرة .. !!

تستسلم سعاد صاغرة لرغبته ، لا تريد أن تلّح عليه فى مثل هذه الأمور التى لا يحبها ، فهذا هو طبع جاسم ، وهذا هو تصرف جاسم ، وتلك هى شخصية جاسم ! إنه لا يحب الإلحاح ، وعندما يقول كلمة لا يرجع عنها ، لأنه حين يتخذ القرار ، يصّر عليه ، ولا يتردد فيه ، فجاسم يعرف تمماً ماذا يحب وماذا يكره ، كما يعرف ما يريد وما لا يريد . لذا .. تسكت سعاد على مضض ، تسّلم أمرها لله ، فهذه هى المرة السادسة ، أو السابعة أو العاشرة ، التى يعتذر فيها جاسم عن متابعة موقف البنك .. أو مكتب العقارات .. !!

فى الواقع ، جاسم لا يريد أن يتدخل فى مثل هذه الأمور المالية ، لا يريد أن يقحم نفسه فى ممتلكات سعاد التى بدأت بذلك البيت الذى أهداه لها والدها عند زواجها .. أخيراً .. تدرك ذلك سعاد ! أخيراً .. تفهم ذلك سعاد ! فى تلك اللحظة بالذات ، توقن سعاد أن جاسم فعلاً لا يريد أن يتدخل فى مثل هذه الأمور التى تخصّها وحدها .. تفهم وجهة نظره جيداً ، فتبدأ فى الاعتماد على نفسها وحدها .. !

نعم . تبدأ سعاد تعتمد على نفسها وحدها لإدارة مثل هذه الأمور ، وفهم هذه الشئون المالية ، والإدارية ، والقانونية ، والعقارية ، التى تحتاج إلى علم ومعرفة وإطلاع ، فتقرر أن تأخذ دورة إضافية فى دراسة الاستثمار العقارى ، كى تقف على أسرار هذا المجال الواسع الكبير .

تقتنع سعاد أنها بحاجة ماسة إلى هذه الدراسة المتخصصة الآن ، كى تساعدها على فهم كثير من الأمور التى تراها غامضة فى مثل هذه الظروف المتغيرة ، فمثلاً .. كيف يمكنها البدأ فى عمل خطة المشروع ؟! وكيف يتم تمويل المشاريع الصغيرة ؟! وما هى دراسة الجدوى الاقتصادية ؟! وما هى الجوانب القانونية لمشروع وإجراءات الترخيص التجارى ؟!

أيضاً ، كان على سعاد أن تعرف الأفكار الإرشادية للمشروعات الاقتصادية ن فها هى أشياء كثيرة قد حصلت دون أن تعرف أصلاً بدايتها ، وبدون أن تتوقع حدوثها ! هى حصلت بالصدفة البحتة فى المرة الأولى ، كان عامل الزمن ، وتغير الأحوال والظروف ، هو السبب فى تلك الطفرة الاقتصادية ، وفى المرة الثانية داء التخطيط الجديد لهذه المنطقة ليرفع سعر الأرض بها ، وليكون سبب سعدها .. يا الله .. الحمد لله .. الحــمد لله .

لكن .. ما تزال سعاد فى حاجة لأن تعرف الكثير عن تغير الأسعار من الناحية العلمية الاقتصادية التى لا تفسر على أنها ضربة حظ ، كما توّد أن تعرف تغير القوانين ، وتفاوت قيمة المناطق ، كذلك قوانين البناء ، وقوانين البيع ، وقوانين الشراء ، وأيضاً .. شروط التعامل مع البنوك ، والتعامل مع الأشخاص أو الجهات التى تثق بها ، إلى جانب قوانين جمعيات البناء وقوانين الضرائب .. الخ .. الخ .. الخ !

كانت سعاد تتوق أن تعرف كل هذه المعلومات ، وكانت تضحك بينها وبين نفسها ، مزهوة ، فخورة ، بالرصيد التاريخى الذى تنتمى إليه ، والأسرة ذات الاسم التجارى المشهور فى الكويت ، وأبيها الذى زرع فيها الثقة بالنفس ، وليس الغرور ، والعياذ بالله ، إنما هى روح المثابرة ، والتحدى ، والرغبة التى تدفع إلى تحقيق النجاح .. تبتسم سعاد وهى تقول فى سرها :

– الله يطوّل عمرك يُوبّا .. الله ما يحرمنى منك .. الله يخليك لى .

تدور عجلة الزمان وتدور المواقف والأحداث ، وسعاد تدعو لأبيها بطول العمر ، فى حين تترحم على جدها ، تقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة ، وتبقى تتابع حياتها بنفس إهتمامها ونفس حماسها .. ! تبدأ الدراسة وتنتهى وتبدأ . وتنتهى . وسعاد تبحث ، وتدرس ، وتمارس العمل فى نطاق الإستثمار العقارى بمكتب مؤقت ، وبصورة بسيطة ، وسكرتيرة وبرأس مال معقول .

تبدع سعاد فى هذا المجال الذى أصبحت تتقنه ، كما أصبحت قادرة على خوض متاهاته بتمكن ، وإقتدار ، بعد أن عرفت المعلومات اللازمة ، والإرشادات الضرورية التى تهديها وتساعدها على خوض هذا العالم الواسع الكبير ، الحافل بالطموح والنجاح .

تنطلق سعاد كالسهم الذى تحدد هدفه مسبقاً ، تتوسع دائرة أعمالها ، يزداد عدد معارفها ، تتكثف الاتصالات المتتالية على جهاز النداء الآلى حتى لا تكاد تنقطع ، بينما هى لا تتوانى عن الاعتماد على منهج العمل الذى أدى إلى نجاحها ، وهو الجدية والسرعة ، والكفاءة فى الإنجاز ، وإكتساب ثقة الآخرين .

تظل سعاد عدة مرات تناقش هذا الموضوع مع جاسم ، تحاول أن تشرح له الموقف المالى الذى وصلت إليه ، تحاول أن تتكلم معه عن الجوانب الاقتصادية ، والأشياء التجارية الضخمة التى تحتاج فيها إلى رأيه الشخصى ، كى يمنحها مزيداً من الثقة بنفسها فى بعض هذه المواقف الصعبة الحافلة بالتحدى والإنجازات ، فيقول لها باسماً مطمئناً :

– ترى سعاد أنا أدرى عنك .. أعرفك زين .. إنت وايد شاطرة وذكية .. ما ينخاف عليك .. وأنت درست كل هذه الأشياء وتعرفينها عدل .. أرجوك سعاد .. ما فى داعى تسألينى مرة ثانية عن هذه الأمور .. لإنى ما أدرى شنو اقولك عنها .. ترى .. أنا واثق إنك تعرفينها أكثر منى ..

تحس سعاد بالضيق والخجل من نفسها بعد أن سمعت هذا الرد القاطع الحاسم من جاسم ، الذى ينهى الأمر ، ويعتقها من تكرار هذا الموقف الصعب ، ويحررها من الإحساس بالحرج والشعور بالذنب ! يحاول جاسم أن يخفف عنها حدة الموقف بعد أن لمح نظرة عيونها المعذبة ، الشاردة نحو السماء السوداء ، فى نفس الوقت يقطع عليها الفرصة نهائياً ، حتى لا تعاود معه هذا الحديث مرة ثانية ، بعد أن أوصد أمامها كل الأبواب ، تومئ سعاد برأسها موافقة راضخة ، حتى لا يصيبها حرج فظيع مثل الذى أصابها هذه الليلة ، مهما كانت حاجتها لرأى جاسم ، ومهما كانت رغبتها فى أن تعرف بدل السؤال .. ألف سؤال !

تفهم سعاد من ذلك إن جاسم يقول لها بطريقة لطيفة مهذبة .. لا تعوّرى رأسى يا سعاد ! تفهم أيضاً أنه ما زال متأثراً بنفس الحساسية الماضية من فلوس أبيها .. وثراء أسرتها ! هنا .. تحس سعاد خجلاً ساحقاً لم تشعر مثله منذ أن تزوجت جاسم ، خجلاً يخجلها ، يحرجها ، يضايقها ، يؤذيها ، وهى تسمع كلام جاسم الذى أحكم الحصار حولها ~، وأغلق كل المنافذ فى وجهها ! فعلاً .. أيقنت سعاد أنها صارت سجينة وراء أسوار مكتبها ، وأدركت أن جاسم يرفض رفضاً باتراً ، قاطعاً ، إقحامه فى أمور عملها ، كما أنه يبغض أن يتدخل ، ولو بإبداء الرأى فى إدارة أموالها .. !

تنوه نظرات سعاد ، تخرج عن إرادتها ، لا تعرف أين توجّهها ، بعد أن تكاثرت عليها ندوب الروح ، وهى لا تعرف كيف تعتذر لجاسم عن هذا الموقف السخيف الذى قد يأخذه عليها ، عندما حاصرته بأسئلتها ، التى إنتهت بإجابته الجراحة لنفسه .. ولها ، عندما أعلن لها أنه لا يفهم ولا يعرف فى مثل هذه الأمور .. مثلها !!

تتضايق سعاد أشد الضيق من نفسها ، ترنو إلى السماء ، تحاول أن تبحث عن بعض نجوم ساهرة تعّدها ، تسهر معها ، تأتنس بها ، وحياءً ساحقاً يلفها ، يحاصرها ، يحيطها ، بينما تجلس ساهمة باحثة عن لحظة صفاء حلوة ، تعيد إلى علاقتها بجاسم ذاك العشق ، وذاك النقاء ، وذاك الحب ، الذى تحب .. وتشتاق !

منذ ذلك الموقف الصعب الذى أوصد فيه جاسم من دونها الأبواب ، وأغلق فى وجهها المنافذ ، صارت سعاد أسيرة مكتبها ، سجينة عملها ، كما صارت مقتنعة بضرورة متابعة إدارة أعمالها ، معتمدة فقط على نفسها ، وحدها ! فتستمر فى إدارة المكتب الخاص بها ، بعد أن تعلمت الإستعانة بالبنوك ، والتسهيلات المصرفية لمواجهة إحتياجات التوسع فى العمل ، وتصنيف المشروع ، ودراسة المشروع وجدواه ودراسة توفير رأس المال المناسب ، دون زيادة أو نقصان ، والتفرغ للعمل ، والثقة بالنفس عند التعامل مع الآخرين ، والمنافسين ، وعدم الاستعجال ، وحساب الربح والخسارة ، لمواجهة احتياجات العمل المتزايدة .

فى هذا الإطار العملى الميدانى المالى ، تنطلق سعاد .. وتظل تعمل ، وتعمل ، وتعرف أكثر ، وأكثر ، إلى أن تدرك العديد من الأمور الخاصة بتنفيذ الأعمال ، وإلى أن تفهم خبايا هذا المجال من جميع النواحى ، وشتى الاتجاهات .

وذات ليلة من ليالى عطلة نهاية الأسبوع الساهرة ، كان جاسم وسعاد يجلسان على المقاعد الوثيرة فى قاعة المعيشة الواسعة ، الحافلة بصور جاسم ، وصور العائلة المعلقة على الجدران ، أو الموضوعة داخل أطر ذهبية وفضية كبيرة وصغيرة ، تتوزع على كل الطاولات ، إلى جانب فازات الورود ، المتناثرة هنا وهناك ، وقطع السجاد الحريرى الملقاة بطريقة فنية فوق الموكيت البيج ، ذى اللون الفاتح المريح ، والتى تحمل طاولاتها العديد ، والعديد من التحف الصينية والمشغولات الفضية والعاجية القيمة ، تلك التى تعشق سعاد جمعها وإقتناءها ، والبحث عن المتميز الثمين منها .

.. فى تلك الليلة الساحرة ، كانا جالسين يستمعان بسهرتهما معاً فى هذا الجو الحالم الذى تزيده الإضاءة الخفيفة الخافتة شاعرية ، وجمالاً ، وحناناً ، وبينما كان أحمد نائماً بعيداً فى غرفته ، إذ أن جاسم صوته عالى وأحمد يصحو من نومه بمجرد سماعه هذا الصوت الذى يحب ، شعر جاسم فجأة شوقاً كبيراً يدفعه لأن يلعب مع ابنه أحمد ، فنهض من مكانه ليحضره ، فترجته سعاد أن يتركه نائماً وهى تقول له محفّزة :

– ترى النوم يطول القامة .. خليه ينام عشان يطلع طويل يا جاسم أرجوك .

يقهقه جاسم مبتهجاً ضاحكاً :

– لا تخافين سعاد .. أكيد راح يطلع طويل مثل أبوه .. بس خلينى أشوفه .. لو لقيته نايم راح أخليه .. وإذا لقيته مفتّح عيونه وقاعد يلعب فى فراشه بروحه راح أجيبه .. أحسن له يلعب وياى أنا ..

تضحك سعاد فى فرح وسعادتها لا تسعها الدنيا كلها ، تقول لجاسم فى دلال ودلع :

– يا جاسم الله هداك لا تعلمه الشقاوة من الحين .. خليه ينام أحسن .. وإلا لازم يطلع فى كل شئ مثل أبوه ؟!

لا يرد جاسم ، لا يتوقف ، يخترق غرفة إبنه كشوطة قوية طويلة ثاقبة ، يقف يطالع إبنه الحبيب الذى كان غارقاً فى نوم عميق .. ! فى هذه اللحظة .. يرن جرس الهاتف ، وإذ ليلى تتكلم من الكويت ، وقبل أن ترحب بها سعاد ، وتنادى جاسم ليأتى يسلم عليها ، تسمع خبراً ينقلب لسماعه وجهها ، يرجف له قلبها ، مع كل كلمة تنطلق ليلى
بها .. !!

تصغى سعاد ، تسمع وإنزعاجاً هائلاً يطفح على وجهها ، وغماً مجهولاً يقبض قلبها ، يخنف روحها ، يضغط على صدرها .. فيسأل جاسم قلقاً :

– خير سعاد .. اكوشى ؟! صار شئ ؟

تنظر نحوه سعاد جازعة كأنها تودعه ، تحضنه فى حزن بعينيها ، كأنه سيطير إلى الأبد من بين يديها ، تقول له وقد تبددت سعادتها ، وهبطت إلى القاع نفسيتها :

– لازم نبعث برقية تعزية للكويت .. !


الفصل التاسع

ومض الزمن !

ينظر جاسم منفعلاً متوجساً إلى سعاد يستفسر منها سائلاً فى لهفة :

– ليش .. مين اللى مات ؟!

تنظر إليه سعاد وعلى وجهها الشاحب الحزين ، أمارات التأثر الشديد :

– زوج دلال .. طاح بالطيارة العسكرية وهو بيتدرب .. الله يرحمه .. مسكينة دلال .. الله يصبرها ..

يخبط جاسم كفاً بكف من هول الخبر غير المنتظر ، ينظر ذراعه فى الهواء كأنه يضرب هذا النبأ السئ المؤسف بقبضة يده المغلقة ، وعلى وجه تعبير غريب ، لأول مرة تراه سعاد :

– اييه .. مسكينة دلال .. صدق مسكينة .. ما عندها حظ .. ما عندها حظ !

يرتمى جاسم على المقعد وهو ينفخ فى ضيق وانفعال يتبدى فى حركاته ، ونظراته ، ونبراته وهو يقول :

– لكن شنو سوّت دلال ؟ قالت لك ليلى إنها راحت لها .. عزّتها ؟! ما قالت لك شئ عنها ؟! أوه .. مسكينة .. بنتها بعدها طفلة صغيرة .. يا الله .. شنو راح تسّوى هذه .. ؟ ترى دلال ما تعرف شئ بالدنيا .. وما تقدر تدير بالها على نفسها .. لازم حد يكون
معاها .. !

يظل جاسم يتحدث عن دلال بلا إنقطاع ، وكيانه كله ينتفض فى تأثر ، وعطف ، وإشفاق ، وهو لا يكاد يصدق أن دلال عادت تواجه الحياة وحيدة ، ضعيفة ، لا حول لها ولا قوة ، بل .. للأسف .. لقد زادت الحياة من أعبائها عليها ، فها هى الآن صارت أرملة وأما لطفلة يتيمة محتاجة لرعايتها .. وهى بعدها فى ريعان شبابها !

يلتفت جاسم نحو سعاد يسألها فى حيرة :

– ها سعاد .. إيش رأيك أدّز لها برقية .. وإلا أكلمها فى التليفون ؟! لا .. أقولك .. أحسن أكلمها .. يجوز تكون محتاجة شئ .. وألا قاصر عليها شئ !

وبدون أن ينتظر جاسم رداً من سعاد ، ينهض يكلم دلال ، يعزيها ، ويواسيها ، وهو يقطر حزناً على مصابها الأليم :

– عظم الله أجرك دلال .. ديرى بالك على نفسك .. لا .. دلال .. لا تبكين أرجوك .. أنت مو لوحدك بهالدنيا .. لا .. لا .. أرجوك دلال .. ترى أنا موجود وأى شئ يقصر عليك بس خبرينى .. فى أمان الله . 

يضع جاسم السماعة ، فى حين تضع سعاد يدها على قلبها ، بعد أن إستشعرت الخطر ، كل الخطر عند سماع حوار جاسم مع دلال .. ! صحيح كان يُعزيها .. لكن .. لا .. هناك رنّة إنفعال ذات صدى عميق يضرب فى عمق الزمان .. ! هناك نبرة تعاطف تشى بإرتباط أعمق يمتد من الماضى إلى الحاضر .. وقد يطول المستقبل أيضاً !

تتضارب الأفكار فى عقل سعاد ، وآلاف الهواجس تتصارع فى قلبها ، بعد أن أقفل جاسم الخط دون أن يطلب من سعاد أن يعزيها .. ! معنى ذلك بالنسبة لها ، إن جاسم ما زال يخشى فى أعماقه الجمع بينهما .. معنى ذلك أيضاً .. أنها ما زال يُكن لدلال مشاعر خاصة .. خاصة جداً !!

تستأذن سعاد من جاسم أن يسمح لها أن تعزّى دلال فى التليفون ، فيوافق على الفور وهو يتعذر عن عدم إعطائه السماعة لها فى نهاية المكالمة متعللاً بأنه قد نـــسى .. !

تنتهى تعزية سعاد لدلال .. فى حين تبتدأ مواساة سعاد لنفسها ! .. بعد هذا الموقف الأخير الخطير ، هناك خيطاً ما يشدهما نحو بعضهما ، يربطهما .. يحركهما !! خيط لا تستطيع سعاد أن تجذبه ، كما لم يستطع الزمن أن يقطعه !!

نعم .. بدى واضحاً ساطعاً لسعاد ، أن إهتمام جاسم بدلال ، ليس إهتماماً عادياً ، كما أنه ليس إهتماماً طارئاً ، إنما هو إهتمام راسخ ، قديم ، متأصل ، كامن فى النفس .. مهما عبر الزمن .. ومضت الأيام والسنوات !!

.. تتلون الساعات ، تتغير الدقائق ، تتواثب الثوانى ، وكل شئ فى نظر سعاد يبدأ يأخذ معنى آخر ، يبدأ ينذر بأشياء أخرى غامضة ، مخيفة .. تنبعث من بين ركام الماضى ، لتبدأ تؤثر فىالحاضر ، وربما تغير .. فى مدلول المستقبل .. !

.. تمضى الأيام هادئة ، وسعاد تحاول أن تبعد عن خاطرها تلك الهواجس والأفكار ، تجتهد دوماً أن تتغافل عنها ، تتناساها ، حتى لا تفسد عليها حياتها .

تمضى الأيام .. وفى إحدى ليالى الصيف الساحرة ، بعدما وصلت ليلى لتمضى العطلة معهم ، يدخل جاسم ومعه نايف ، صديقه السعودى الحميم ، بعد أن لبىّ دعوة العشاء اليوم ، الأحد .

فى الواقع ، كانت الصلة بينهما قوية ، والصداقة عميقة ، فمنذ بدأ نايف دراسته فى المستشفى التى يعمل بها جاسم قبل بضعة أشهر ، ومنذ أن إستقبله جاسم خير إستقبال ، وقدم له يد العون والمساعدة بصفته طبيباً قديماً يسبق نايف فى هذا المضمار بثمانى سنوات .. ونايف يشعر أنه قد تعرف على أخ عزيز ، وصديق فاضل .

يظل جاسم ساهراً مع نايف ، يناقشان معاً كثيراً من أمور العمل المختلفة ، وهما يتابعان باقى السهرة فى الحديقة ، ويتحدثان على إنفراد عن الطب والمستشفى والمرضى والأطباء ، بعد أن تدلف ليلى مع سعاد إلى الداخل ، وهى مسرورة منتشية لأنها ألتقت بنايف ولو لبضع ثوان !!

و .. دون أن يشعر الإنسان المشغول حتى قمة رأسه بمرور الزمن ، تطالع سعاد الحديقة الجميلة وقد أمسى لها سحراً خاصاً فى أمسية الصيف فى أمريكا ، يزيد من سحرها سريان نسمات ندية باردة تحرك بخفة أوراق الأشجار التى توحى إختلاجاتها الخفيفة المرهفة بفرحة أغصانها ، بينما صغارها أحمد وأنوار وراكان يلعبون المساكة بين سيقانها الغليظة فى بهجة وسرور .

كان راكان الذى لم يتجاوز عامه الثانى يحاول أن يلحق بأحمد وأنوار ، إلا أنه كان يتعثر وراءهما ، لا يستطيع اللحاق بهما ، وفى أعقابه تركض المربية إيزابيلا ، تحاول أن تحميه من الوقوع بين أقدامهما وهما يجريان ويلعبان ، بينما كان هو يقف مكانه باكياً غاضباً بعد أن راح وتركاه وحيداً بعيداً عنهما !

كانت سعاد تطالع هذا اللعب الطفولى البديع وهى سعيدة منتشية ، فرحة راضية كل الرضا عن حياتها ، كما كانت تنظر إلى ليلى وهى سعيدة لها ، وبحبها ، فهى تعرف أن نايف يحتل قلبها ، وأنه محور مشاعرها ، ومركز أحلامها ، منذ أن رأته لأول مرة ، بعد أن إلتحق مؤخراً بنفس المستشفى التى يعمل جاسم بها !

منذ ذلك الوقت ، أى منذ رأته ليلى لأول مرة ، وقلبها لم يعد قلبها ، أخذه نايف ، تملكه ، لم يتركه لها ، لذا .. عندما كانت تسنح لها فرصة لقاء عابر بنايف . لقاء سريع ، ربما لا يتجاوز فى أغلب الأحيان بضع دقائق ، كانت ترتحل المشاعر ، تنمو فى أعماق كل منهما ، خيالاً ، حباً ، يستطيع أن يبقى طويلاً فى الداخل ، ولابد وأن تبدو آثاره فى الخارج ، لابد وأن تنعكس ، لابد وأن تظهر بعد أن تحولت إلى حب لا يستطيع أن يبقى طويلاً كامناً ، ساكناً الأعماق ، دون أن يسطع ويشرق فى الآفاق !

كانت هذه هى مشاعر ليلى تجاه نايف ، فهى تتحدث مع سعاد ، تبوح لها حبها ، تحكى لها عن أحلامها وأمنيتها أن يكون هذا الشاب الوسيم ، الطبيب الناجح ، فى يوم من الأيام زوجها ، تبتسم سعاد وهى تقول ضاحكة لليلى :

– إن شاالله عسى ربى يحقق كل أحلامك يا ليلى .. إنت تستاهلين كل خير .. ترى نايف طيب وأخلاقه عالية وايد .. وأنك تستحقين شاب مثله .. الله يوفقكم ويجعل لكم نصيب فى بعض إنشالله .

يستمر حوار ثنائى بين جاسم وصديقه نايف فى الحديقة ، كما يستمر داخل قاعة المعيشة الواسعة الأنيقة حواراً آخر بين ليلى وسعاد ، حواراً عن الحب والأيام الحلوة الآتية ، فتدعو سعاد لليلى من كل قلبها ، أن يصبح نايف فى يوم من الأيام زوجها .

تشرد سعاد بتفكيرها ، تذكر كيف كانت ليلى تحدثها عن علاقة دلال بجاسم ، وعن إهتمام جاسم بدلال ، وكيف كانت تؤنبها وتلومها لأنها سلبية لا تأخذ دوراً كافياً لتبديل مسار عواطف جاسم نحوها ، ثم تضحك فى سرها وهى تقول :

– الحين منو ينصح ليلى ؟ هى نصحتنى .. بس منو ينصحها يا ترى ؟

بعد قليل ، يخرج جاسم ونايف يستأذنان فى الذهاب إلى مقابلة بعض الأطباء ، الذين ينتظرونه فى الكاقيتريا القريبة من بيت جاسم ، يحييهما نايف وهو يستأذن خارجاً خافضاً بصره إلى الأرض .

تستمر السهرة بين سعاد وليلى إلى أن يدخل الصغار ليناموا ، فتقوم سعاد معهم تشرف على تهيئتهم للنوم ، وتقبيلهم قبل أن يأووا إلى فراشهم ، ثم تعود لمتابعة السهرة مع ليلى .. والحديث عن نايف .. وحبها لنايف إلى أن تنعس ليلى وتدخل تنام .

تبقى سعاد فى جلستها تتابع سهرتها وحدها ، تسلى نفسها بمشاهدة التليفزيون لحين عودة جاسم ، فهى لا تريد أن يأتى ويجدها نائمة ، فربما يحتاج شيئاً تستطيع أن تقدمه له . بعد فترة ، يعود جاسم إلى البيت ، يخلع ملابسه ، يدخل المطبخ يأخذ زجاجة مياه باردة منا لثلاجة ، يحملها معه ، يضعها على الأرض فى الصالة بجانبه ، وهو يتمدد مرتاحاً مسترخياً ، يشرب ، ثم يلتفت إلى سعاد يقول لها باسماً متحمساً :

– ترى اليوم كنا قاعدين نتكلم ونتناقش فى موضوع كبير .. !

تسأله سعاد فى مودّة :

– عسى خير يا جاسم ؟!

يقول لها بنفس الحماس والإنفعال الذى كان يتناقش به مع زملائه الأطباء القدامى والجدد :

– بعض الأطباء يفكرون فى إنشاء مستشفى متخصص فى أمراض القلب فى أمريكا .. شرط تكون الإدارة عربية بحيث لا يحتاج المريض لمرافق أو مترجم .. وشرط تكون مستشفى على أعلى مستوى علمى أكاديمى من ناحية الأطباء .. والأجهزة .. والمعدات .. والتجهيزات .. كل شئ لازم كون على أعلى مستوى بحيث لا تقل عن أى مستشفى فى أمريكا .. بس تخيّلى سعاد .. بحسبة تقريبية وجدنا هذا المشروع راح يتكلف حوالى خمسة مليون دولار تقريباً عشان نقدر نبتدى نحضرّ له ونجهزه !! 

تبتسم سعاد سعيدة بالفكرة ، تقول لجاسم بنفس الحماس والإندفاع الشديد الذى
يتحدث به :

– ترى الفكرة وايد ممتازة .. نجاحها وربحها مضمون 100٪ ليش إنت يا جاسم ما تنفذ هالمشروع بروحك ؟ ما فى داعى تشتركون كلكم فى تنفيذه ترى المشروع ما يحتاج كل هالعدد من الشركاء .. المشروع مضمون النجاح .. وإحنا عندنا فى
المكتب دراسة جدوى مشابهة لمشروع مستشفى متخصص على أعلى مستوى .. وهو مشروع مثل ما قلت لك مضمون 100٪ ما فيه مجازفة أبداً .. ليش ما تعمله أنت بروحك يا جاسم ؟

ينظر جاسم إليها وهو يقول ضاحكاً :

– قلت لك سعاد .. هالمشروع يحتاج عدة ملايين على الأقل 4 أو 5 مليون دولار عشان نقدر تجهّز المستشفى .. !

تقول سعاد بنفس الحماس والإنفعال :

– زين .. ما فيها شئ .. نفذه أنت بروحك يا جاسم .. الفكرة وايد ممتازة والمشروع مضمون النجاح .. ما فيه مخاطرة .. وإذا تريد تبدأ من باكر بالخمسة مليون دولار إعتبرهم فى جيبك من الحين .

يُبهت جاسم .. ينظر إليها فى ذهول ودهشة صاعقة ! يحدّق فيها بكل قوة حدقتيه على الإنفتاح والإنغلاق ، وقد شردت نظراته وتشردّت فى نفس الوقت ! يسألها وهو لا يكاد يصدق ما سمع منها :

– شنو تقولين سعاد .. خمسة مليون دولار ؟! ها .. من وين لك هالفلوس ؟ أبوك دز لك فلوس وأنا ما أدرى ؟!

تنظر إليه سعاد متأثرة من ذهوله ودهشته وهى غير مصدقة ما تسمع ، تقول له
واثقة :

– لا .. أنت تدرى كل شئ يا جاسم .. تدرى أنى أشتغل فى العقار من زمان .. تدرى أن الشركة ناجحة وقاعدين نبيع ونشترى لما صار الحين عندنا سيولة وافرة .. هذا غير الفلوس المجمدّة فى العقار .

يصمت جاسم صمتاً مطبقاً ! لا ينطق كلمة واحدة ! فهو لم يكن يتصور إن الأيام والشهور والسنوات قد مضت بتلك السرعة ! كما لم يكن يتوقع أن تحرز سعاد كل هذا النجاح فى عالم التجارة والمال .. ! كان الأمر بالنسبة له مفاجأة ! مفاجأة ! إذ لم يخطر بباله أن يفكر ولو للحظة واحدة فيما تفعل سعاد ، وفيم تدبر سعاد ، وفيم تشتغل سعاد !!

كان كل ما يهم جاسم فى تلك الأثناء أن تنشغل سعاد بنفسها . بعملها . أن تقضى وقتها فى إدارة شركتها الخاصة كى لا تشعر بالملل ، أو تحس الضيق بصفتها زوجة طبيب مشغول طوال النهار والليل ، إذ أن عمله فى المستشفى ينتهى قبل منتصف الليل بقليل ، ويبدأ قبيل الفجر بكثير ، وباقى الوقت كله يقضيه فى المستشفى بين الدراسة ، والعمل ، والمتابعة ، بين المرضى والأطباء ، هذه هى طبيعة العمل كطبيب يدرس الزمالة ، وهذه هى نوعية الحياة التى يقضيها جاسم !

فى الحقيقة .. لم يكن لدى جاسم إلا أقل القليل من الوقت ليمنحه لزوجته ، أو لأسرته ، ولم تكن سعاد لتعترض ، بل كانت راضية . قانعة . سعيدة بحياتها . بعملها . فرحة . فخورة بزوجها ، لم تشك يوماً من الوحدة ، أو الضيق أو الملل ، بل كانت تستقبله بإبتسامة هادئة ، هانئة ، ناعمة ، نابعة من قلب عاشق محب .

.. فى حين كان جاسم متفرغاً تماماً لعمله كدارس وطبيب .. كان لكل ما يشغل ذهنه هو التفوق فى الدراسة ، وإتقان العمل ، ومتابعة صنع النجاح . صدق .. مضى الوقت سريعاً سريعاً ، عبرت السنوات بأسرع مما يظن جاسم أو يعتقد ، إلى أن إكتشف فجأة ، بعد كل هذا الوقت ، كيف إستطاعت سعاد أن تحقق كل هذا النجاح ! صراحة .. لم يكن جاسم يتوقع أن تستطيع سعاد إحراز هذا الكم من المال ! كان الأمر بالنسبة له مفاجأة المفاجأة !!

تنظر سعاد لجاسم فتراه غارقاً فى الصمت ، فتحسب أنه سعيد بهذه المفاجأة الجديدة غير المتوقعة ! تظن أنه يحسب قيمة تكلفة المستشفى على أمل أن يقوم بها وحده ، وأن ينفذ هذا المشروع دون الإستعانة بباقى الأطباء ، إذ أن لديه الآن الكم الوافر من المال والوقت ، والخبرة والعلم الذى يسمح له بإقامة مثل هذا المشروع الكبير بمفرده !

تسأله سعاد :

– ها جاسم .. متى راح تبتدى تنفذ مشروع المستشفى ؟ ترى الفكرة رائعة .. إنشالله راح تنجح .. أكيد راح تنجح .

يهز جاسم رأسه وهو يتّقد بإشتعال ذاتى داخله ، يحس دمائه تغلى . تفور . تبرد . تجمد . ثم تعود تغلى . تفور . تبرد . تجمد . يهز رأسه . يلتفت نحو سعاد .. ونظراته إليها كانت مجرد إنفتاح للعينين ، لكنه فى الواقع كان يخترق برؤياه الخاصة ركام السنوات الثمان الماضية ، وكل سنوات العمر الآتية .. ! بصورة تدريجية ، يخرج عن شروده قائلاً بصوت أجش مشروخ مجروح مطعون فى عمق رجولته وفحولته :

– الله كريم .. الله كريم .. يصير خير .. يصير خير

تستغرب سعاد بينها وبين سعاد نفسها ردة الفعل الهادئة هذه ن تلك التى لم تكن تتوقعها من جاسم ، كانت تنتظر حماساً أكثر . تشجيعاً أكثر . تأييداً أكثر ، لما إستطاعت أن تحرز من نجاح ! جاء رد الفعل محبطاً . جاء رد فعل جاسم الهادئ زيادة عن اللازم .. بمثابة نكسة عجيبة لمشاعر سعاد !! كانت تتوقع منه فرحة أكبر . تشجيعاً أكبر .

عبرت سعاد الموقف بسهولة تامة . لم تعط الأمر حجماً أكبر من حجمه . لم تتكلم فيه كثيراً . تركت الأمور كما هى . معتقدة أن جاسم فى حاجة إلى بعض الوقت لبحث المشروع الجديد ، ودراسته ، والوقوف على كل متطلباته ، والإطلاع على تفاصيل
إنشائه .

تمضى الأيام كما هى بنفس الرتابة ، ونفس الأسلوب ، ونفس المشاغل ، ونفس المسئوليات ، فالصغار الأحباء فى مدارسهم ، وجاسم مشغول أغلب ساعات الليل والنهار فى عمله بالمستشفى ، وسعاد منهمكة تماماً فى إدارة شئون شركاتها التى نمت وكبرت وإحتاجت عدداً أكبر من الموظفين لإدارتها ، كما إحتاجت محام خاص يساعده محام آخر لمتابعة الشئون القانونية الخاصة بأعمالها ، إلى جانب سكرتير ثانى وسكرتيرة جديدة ، بالإضافة إلى مدير المكتب الخاص بسعاد وحدها .

كانت الأمور فى تطور مستمر نحو الأفضل ، والأفضل ، والأفضل . حمداً لله . كانت قناعة سعاد بقدراتها ، وثقتها بنفسها فى تزايد مستمر , مستمر . وكانت قناعتها بمقدرتها على صنع النجاح ، وبأنها قادرة فعلاً على صنع النجاح ، الذى ساهم فى صناعته ، والدها وجدها ، أيضاً فى تزايد مستمر . مستمر . حمداً لله . حمداً لله .

وفى إحدى الليالى ، بينما كانت سعاد مسهدة فى فراشها لم تنم ، فى حين كان جاسم راقداً على الكنبة فى صالة المعيشة ساهراً لوحده ، كما إعتاد أن يفعل مؤخراً .. دق جرس التليفون ، فرفعت السماعة القريبة منها ، وإذ بصوت جاسم يحدث دلال !! آه .. يا للمفاجأة المفجعة .. ! تتساءل سعاد بينها وبين نفسها فى دهشة وإستغراب :

– جاسم يكلم دلال ..؟! ليش ؟! شنو الموضوع ؟! ما السبب ؟! اكو سبب جديد الحين عندك يا دلال ؟!

تضع سعاد السماعة على الفور كأنها لسعتها ، إلا أن صوت جاسم كان عالياً بالقدر الذى يتيح لها أن تسمعه ! كل شئ قاله لدلال ، وكل ردوده عليها ، كانت توحى بأن هناك مكالمات كثيرة سابقة بينهما هى لا تدرى عنها شيئاً .. ولم يشر جاسم بإشارة واحدة إليها !!

تتعجب سعاد كل العجب لهذه الطريقة الجديدة فى الكلام مع دلال ، جاسم يقول لها أنه قام بمراجعة المكتب الصحى بنيويورك ، وعرف منهم أن التقارير الخاصة بجدتها قد وصلت منذ عشرة أيام ، وأنهم سوف يقومون بالرد فى أقرب وقت بمجرد أن تأتى نتائج مراجعة المستشفى ، يقول مشجعاً :

– بس دلال أعطيهم فرصة أرجوك .. لا تخافين .. أنا قاعد أتابع كل شئ بنفسى .. لا تخافين .. لا تخافين .. سلمّى لى على أمك وجدتك .. لا تنسى .. حبّى لى دانه .

تغالب سعاد نفسها . تحس قلقاً خفياً يعيث فى قلبها ، وهى تفكر كيف أن جاسم صار مهتماً إلى هذا الحد بها ، لدرجة أن يرسل سلامه لأبنتها الصغيرة دانه ويبعث القبلات إليها ! ؟! تتنهد سعاد بينما يدهمها سؤالاً حائراً ظل يؤرق خاطرها :

– ليش ما تزوجت دلال للحين ؟ ليش ظلت بدون زواج رغم وفاة زوجها من حوالى خمس سنوات ؟! ليش ما تزوجت دلال ؟! ليش ما تزوجت دلال ؟!

يظل هذا السؤال حائراً بلا جواب ! تتكلم سعاد مع جاسم ، تسأله عن موضوع مرض جدة دلال ، فيجيبها مبدياً ألماً عميقاً للظروف الصعبة التى تمر بها دلال ، وشعوراً أعمق بالتعاطف والتعلق بها ينسحب من داخله ليخرج مع نبرات صوته :

– مسكينة دلال .. ما فى أحد عندها يقدر يساعدها .. جدتها مريضة وأمها ما تعرف شئ عن مثل هذه الأمور .. وبنتها طفلة صغيرة يتيمة تحتاج رعاية .. ودلال بروحها ما تدرى شنو تسوى .. ولا وين تروح !! ما عندها أحد بجانبها .. ما عندها رجال .. !!

تظل سعاد ترقب جاسم وهو يتكلم عن دلال .. كأنه يحادث نفسه ، بعد أن حوّل عينيه عنها ، كأنما يريد أن ينفرد برؤية صورتها الراقدة فى أعماقه .. ! كانت نظراته هائمة ، تحوم حول ذكريات الماضى المختزنة فى القلب ، تلك التى تتجمع الحين دفعة واحدة وتتحول إلى شحنة ناسفة تنذر بإنفجار كبير يدوى .. يصم الآذان .. يدمــر القلوب !


الفصل العاشر

.. بسمة حائرة !

تجلس سعاد تغرق فى صمت شارد ، وهى ترى جاسم سارحاً بعينيه ، كأنما إرتحل فجأة إلى الكويت ! حيث نبتت ذكريات علاقته بدلال ! آه .. كان يتنهد فى أسى مبدياً شفقة عميقة على ما حل! بها .. وإذ به يقول بصورة مباغتة :

– مسكينة دلال .. ما تستاهل .. !

تضيق سعاد من لهجة العطف والشفقة الزائدة عن الحد التى يشى بها صوت جاسم ، والتى تستشف من ورائها شيئاً آخر يدور ويدور حول تلك العلاقة الكبيرة التى كانت بينهما ، وحول ذلك الغرام الفظيع الذى كانت تكنُّه دلال لجاسم !

ينقبض صدرها ، وهى تشعر الخطر عن قرب يحيق بها ! هذه المرة الخطر يقترب .. يقترب ! والهواجس أيضاً والشكوك تكاد تصبح حقائق ! فلو لم تكن دلال تحب جاسم لما رفضت أن تتزوج كل هؤلاء الرجال الذين تقدموا لها .. ! نعم .. هى تزوجت أول مرة لأنها ، كما عرفت سعاد فيما بعد ، كانت تريد أن تغيظ جاسم ، وأن ترد إعتبارها لنفسها أمامه ، وأمام الناس ! لكن .. بعد ذلك .. بعد أن خفّت حدة ردة الفعل عندها ، أخذت ترفض كل من تقدم لها واحداً .. وراء الآخر !

تتنهد سعاد . تتساءل :

– يجوز تكون منتظرة تتزوج جاسم ؟! يعنى .. هى لمّا الحين تحب جاسم ؟!

يغصّ قلب سعاد بالخوف والقلق هذه المرة .. فإهتمام دلال بجاسم لم يقل ! لم ينته ! بعد هذه السنوات الطوال !! يا الله .. يبدو أن لها ذكريات كثيرة معه ! كما يبدو أن الحب ما زال كامناً راقداً فى قلبها ! حباً لا يُنسى ! لا يُمحى ! لا يتلاشى .. !

تطالع سعاد التليفون الذى ما زال ينقل صوت دلال إلى أُذُن جاسم ، ورمبا إلى قلب جاسم .. ! ذاك القلب الذى كان متعلقاً بها يوماً ما ! نعم .. هذه حقيقة راسخة ! فمهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال لا تستطيع يد وحدها أن تصفق ! لابد وأن دلال قد لاقت قدراً من التشجيع ولو بسيطاً ، لابد وأنها أحست ولو بأقل القليل من مشاعر جاسم ، وإلا لما إستمرت معه كل هذا الوقت !! نعم .. لابد أنه شجعها على أن تبقى تحبه . وتحبه . وتحبه !! تتجاهل الموقف بالحديث مع جاسم عن المستشفى الجديد الذى يزمع تنفيذه ، وعن آخر عملية أجراها ، وآخر أخبار الزمالة التى يوشك أن ينتهى منها ، والتى أخذت من عمره تسع سنوات ، كى يصل إلى هذه المرحلة !

تنفعل سعاد وهى تحاول أن تفتح حديثاً ودوداً :

– ياه .. أيام يا جاسم !! تخيل إيش لون عدّت السنين بسرعة ؟! كأننا واصلين أمريكا أمس .. والحين فاتت كل هالسنين ؟! .. كأنها حلم !!

تتابع سعاد حديثها معه ، كأنها تريد أن تنسيه دلال :

– تخيل يا جاسم .. مين يصدق ؟ مين يقول إنك صار لك الحين ثمان سنوات ؟ أنت وصلت أمريكا سنة 1981 الحين صار لك ثمانى سنوات ؟ مين يقول ؟ مين يصدق إنى أنا صار لى هنا سبع سنوات ؟! والله الأيام تفوت بسرعة .. عساها يا رب تدوم على خير .

تبقى سعاد تحاول وتحاول أن تفتح حديثاً تلو الآخر مع جاسم ، تحاول أن تستعيد الذكريات الحميمة التى تجمعهما معاً ، إلا أنه لا يبادلها الحوار ! تحس كأنها تتحدث مع نفسها ! لكنها تتماسك ! تعود تطيل النظر إلى جاسم ، كأنما تريد أن تستشف ما يدور داخله ، تحاول أن تطمئن قلبها ببعض حوارات خفيفة ، متقطعة ، إلا أن جاسم يختصر الكلمات بقدر الإمكان ، فيخترق الصمت كثيراً من المساحات الزمنية بين الإثنين !!

يختصر جاسم الرد . يبتر الحديث . يفضل السكوت والصمت بعد أن تغيرات نبرات صوته ، ورنّة إحساسه ، وضاع منه الحماس لقضاء وقت أطول مع سعاد . تشعر بذلك سعاد تشعر أن دلال قد تركت ظلالاً من التوتر غطت بظلامها القاتم البغيض مساحات الضوء والأمل والشوق بينها وبين جاسم !

نعم .. لا جدوى ! جاسم يتحدث بحماس وإهتمام مع دلال ، ومع سعاد يتكلم بصعوبة ، ينطق بالعافية ، يجعلها تشعر كأنما تنتزع الكلمات من فمه إنتزاعاً ! كأنه يتكلّف ويتعنّى ليرد على كلامها ، كأنه يريد أن يقطع حوارها كى لا يسمع إلا صوت واحد يريده أن يطرق أذنيه ! وكى لا يصغى إلى لكلمات معينة يحبها أن تدخل قلبه ، تنساب إليه .. عبّر ماض بعيد ، بعيد ، محمّل .. بطيب الذكريات !

تبتئس سعاد .. لا تريد أن تشعر إمتهاناً أكثر من ذلك ! ولا أن تعانى ضيقاً أكبر من ذلك ! فتنهض إلى غرفة نومها ، تتسلل كنسيم سار عليل مريض ، وعيناها سارحتان ، هائمتان فى أفق شاحب ، باهت ، بعيد ، أفق غامض ، مجهول ، رهيب ، تمضى وعقلها شارد . يفكر . ويفكر . أيمكن تكون العملية الجراحية هذه لجدة دلال حيلة من حيل دلال ؟! أيمكن أن تكون مجرد عذر للإتصال بجاسم وإيجاد المبرر الكافى للإقتراب من جاسم ؟! آه .. تقول سعاد لنفسها :

– أنا ما أستبعد شئ على دلال .. ما فى شئ يصعب عليها .. دلال جريئة .. قوية .. تعرف شلون توصل لكل ما تريد .. نعم .. لكل ما تريد !

هنا .. عند هذه النقطة الخطرة من التفكير ، تشعر سعاد دواراً خفيفاً وخوفاً ثقيلاً
يُجثم على قلبها ، يقطع أنفاسها ، فتظل تتقلب مخنوقة فى فراشها ، مسهدة طوال ليلها ،
لا يأتى النوم عندها ، فهى قد دخلت السرير دون أن تشعر بالنُعاس ! لم تحتمل إطالة
الموقف الجارح الذى شعرته عندما شرد جاسم بعيداً عنها ، وإرتحل سابحاً فى حور الذكرى مع دلال .. !!

لم تحتمل إهانة أكثر من ذلك ، لم تستطع أن تفعل شيئاً آخر غير ذلك ، لم تعد
تطيق أن تحس إحباطاً أفظع من ذلك ، وهى تجلس إلى جوار جاسم تشحذ منه الكلمة ، تستجدى منه الإهتمام ! لا .. هذا شئ كثير عليها . هذا شئ لا يحتمله ولا ترضاه ولا تقبله .. لا تقبله !

تبقى تتقلب فى الفراش مؤرقة بلا نوم ولا نُعاس يعرف طريقه إليها ، فى حين يظل جاسم مسهداً هو الآخر ، يحملق فى القمر الذى يتابع مسيرته الساحرة بين السحب الساهرة ، كأنما يراه لأول مرة منذ زمن طويل .. طويل .. طويل !

يطفئ جاسم ضوء الأباجورة الصينى الموجودة بجواره على الطاولة الصغيرة ، المصنوعة من الخشب الهندى الغامق اللون ، المحفور باليد على هيئة ورق وعناقيد عنب ، وهو يتمنى لو كان يستطيع السفر الآن .. فى هذه اللحظة بالذات ، إلى بلاد الشرق حيث الحرارة ، والحنان ، والسحر ، والفن ، والجمال ، والدلال !

يظل جاسم ممداً على الكنبة فى غرفة المعيشة . يبقى شاخصاً ببصره إلى
السماء . يبات راقداً لا يغير مكانه ، وهو يشعر بملل من حياته ، ورغبة عنيفة فى الغياب
عن هذا المكان الفاتر ، لكنه لا يقوى على ذلك بعد أن أصبح رافضاً للحركة والنهوض والإهتمام !

يمضى الليل طويلاً ، بطيئاً ، بطيئاً ، عليهما هما الاثنين ، وما أن تمضى ساعتان
أو ثلاثة ، إلا وينهض جاسم يبدل ثيابه على عجل ، خارجاً من البيت بسرعة ، حيث
يذهب إلى المستشفى ، للإطلاع على آخر التقارير الطبية ، المتعلقة بحالة جدة دلال
الصحية . !

تمارس الأيام هوايتها فى الرحيل والترحال ، بلا جديد تحت الشمس ، ولا قديم تحت القمر .. ولا مثير فى الليل وى فى النهار ، فالأيام كما هى باردة ، ماسخة ، لا حرارة فيها ولا طعم ! كل يوم يمضى كسابقه ، بلا حماس ولا إنفعال .. إنما هى أياماً متشابهة .. أياماً تستمر كما هى دون إضافة فى الشعور ، أو فى الحدث ، أو فى الفعل ، كل شئ يمضى كما هو ، كما هو ، بلا طعم ، ولا حس ، ولا حماس .. ولا تأثير !!

لم تعد سعاد تملك أن تمنع نفسها من الشعور بالضيق ، والألم ، والمعاناة ،
من ظهور دلال فى حياة جاسم مرة أخرى ! كانت سعاد على يقين من أن هذا التغيير الجديد الذى طرأ فجأة على جاسم ، لم يكن إلا بسبب دلال ، وظهور دلال ، ومكالمات دلال !! يا الله ماذا تفعل ؟ ماذا تفعل ؟! كيف تصحح الوضع ؟! كيف تخلص من دلال ؟! كيف تسترد جاسم ؟!

يشتعل الموقف فى قلب سعاد ، حين يتجمد موقف جاسم الفاتر البارد من سعاد ! حتى يكاد أن يصبح جداراً ثلجياً شفافاً فاصلاً بين الزوجين المحبين العاشقين ..! تأسو سعاد لنفسها . تكاد تشكو . لكنها لا تعرف لمن تشكو إبتعاد جاسم عنها وتجنبه لها ؟! آه .. إنها تمقت صمته وتباعده عنها .. ذاك التباعد الذى يتلف أعصابها ويكاد أن يدمرّ عقلها ! فماذا يمكن أن تفعل ؟ ماذا يمكن أن تقول ؟

آه .. الموقف يزداد خطورة يوماً بعد يوم ، ودلال تزداد إقتراباً من جاسم ساعة بعد ساعة ! العدو يتربص بالهدف . لابد من الدفاع عن النفس . لابد من الدفاع عن
النفس . لابد من الهجوم . فخير سياسة للدفاع هى الهجوم . لابد من إتخاذ موقف عاجل فورى .. وسريع .. !!

تنتظر سعاد . لا تنام . تبقى تترقب عودة جاسم من المستشفى ، لا يهم .. ينتصف الليل أو لا ينتصف . لا يهم .. المهم أن تلتقى بجاسم ، أن تجلس معه ، تحدثه ، تخبره بما تريد . يعود جاسم فترحب به سعاد بحب ، بشوق ، تجلس تحادثه ، تسامره ، وهى تبتسم إبتسامة حانية ، تقول له وهى تقرأ بطاقة أنيقة فى يدها :

– جاسم .. شركة الحقول الذهبية للإستثمارات العقارية دعت لحفل إستقبال فى فندق ” إستوريا ” فى ” نيويورك ” .. يوم الجمعة الموافق 18/8/1989 أى بعد ثلاثة أسابيع من الآن يا ليت نقدر نروح سوا يا جاسم ؟!

لكن .. يرفض جاسم ! لا يستجيب لدعوة سعاد ! لا يبدى أى إستعداد ، لكنها
تتحايل عليه كى يسافرا معاً ، تلّح عليه أن يقبل . تكاد تتشقق من الفرحة وهى تقول له أن حفل الإستقبال هذا ، سوف يكون فى نفس الفندق الذى أمضيا به شهر العسل ، وستكون
هذه فرصة رائعة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معاً فى نفس المكان الذى شهد بداية
حياتهما الزوجية !! تظل سعاد ترجو جاسم وتلح عليه كى يوافق ، تستحلفه أن يقبل وهى تقول له فى تأثر :

– واللى يسلم عمرك يا جاسم توافق .. إحنا صار لنا مدة طويلة ما رحنا هناك .. ياللا نتفسح شوىّ فى مانهاتن .. أنا حاسة أننا محتاجين فترة راحة إحنا الاثنين .. أرجوك يا جاسم توافق .. أرجوك .

تظل سعاد تلح وتلح على جاسم لتلبية هذه الدعوة الهامة ، خاصة وأنها تأتى فى عطلة نهاية الأسبوع ، وهو يقدر أن يضعها فى جدوله من الآن .. تفرح أخيراً بموافقته وتعتبرها فرصة مناسبة جداً لقضاء بعض الوقت الممتع معاً ، وحدهما .. حيث يستعيدا ذكريات شهر العسل الممتزج بالحب فى ” نيويورك ” دون إصطحاب الأولاد معهما ، فالمربية هى التى ستتولى تنفيذ البرنامج الترفيهى الذى ستعّده سعاد لهم فى عطلة نهاية الأسبوع .

تتنهد سعاد فى سرور وإرتياح :

– آه .. يا ليت ترجع هذه الأيام الحلوة .. يا ليت نعيشها مرة ثانية !

لكن .. مرة أخرى يحاول جاسم أن يتهرب ! أن يعتذر بلباقة ! لكن سعاد لا تترك له مجالاً للتردد أو الإعتذار ، خاصة وأنها فى حاجة إلى الراحة والإسترخاء بعد عناء العمل ، تؤكد له أنه هو أيضاً فى حاجة ماسة إلى الراحة والتغيير كى يجدد نشاطه وحيويته ، خاصة وأن الامتحانات النهائية باتت على الأبواب .

أخيراً .. أخيراً جداً ، يوافق جاسم ، فيركبان الطائرة فى رحلة قصيرة لا تزيد عن النصف ساعة . يدخلان جناحهما بالفندق الفخم الكبير . يبّدلان ملابسهما . ثم يخرجان فى جولة حرة فى ” نيويورك ” .

كان الجو بديعاً والشمس مشرقة والحياة هنا حافلة بالضجيج .. مزدحمة بالناس والسياح الذين يلتفون حول محلات الآيس كريم والذرة المنفوشة ، والسندوتشات الساخنة ، والمطاعم ، والمقاهى ، وشباب من جميع أنحاء العالم يرتدون إل ” تى شيرت ” ” والجينز ” ، وضجيج سائقى التاكسى فى ” نيويورك ” لا ينقطع .. حياة ذات إيقاع صاخب . مرتفع . مرتفع !

تشعر سعاد بالبهجة وهى ترى علامات السرور مرتسمة على وجه جاسم ، تعود الذاكرة بها إلى الوراء منذ سبع سنوات تقريباً ، عندما وطأت قدماها أرض ” نيويورك ” لأول مرة فى حياتها .. كان كل ما تحلم به وقتها هو رؤية جاسم ومشاهدة جاسم والإقتراب من جاسم ! وها هى الآن تسير بجواره فى شوارع ” نيويورك ” ، وهو زوج لها ، وأب لأولادها الثلاثة أحمد وأنوار وراكان .

– الحمد لله .. الحمد لله .. الله يحفظه .. الله يخليه .. الله يطول عمره .

تمشى سعاد إلى جوار جاسم وهى تكاد تقفز قفزاً من فرط الفرح والنشوة والسرور ، فهى لا تستطيع أن تخفى حبها الكبير له ، فهو حلم حياتها ورجل عمرها وزوجها وكل شئ بالنسبة لها .. ! تنسى سعاد نفسها . تنسى ما ورائها . فقط . تريد أن تبقى بجوار جاسم تنعم بصحبته ، تسعد بوجوده ، خاصة وأنه قد صار له وقتاً طويلاً بعيداً عنها .. مشغولاً بأشياء أخرى كثيرة غيرها ..!

تستمتع سعاد كل الاستمتاع بصحبتها لجاسم فى هذا الوقت ، تتمنى أن تتمدد الساعات وأن يتوقف الزمن ، لكن .. ينظر جاسم فى ساعته ، ينّبه سعاد إلى وقت الرجوع إلى الفندق قد حان ، لأن موعد الحفل الكبير لم يبق عليه إلا ساعة واحدة ! آه .. تفاجأ سعاد أن الوقت هكذا ، مرّ سريعاً ، سريعاً ! يتجهان عائدين مباشرة إلى الفندق ، كى يستعدا لحفل الاستقبال ، وليأخذا دشاً سريعاً ، ويبدلان ثيابهما .

ترتدى سعاد ملابسها الأنيقة ، ينتهى جاسم من عقد ربطة عنقه الحريرية الفاخرة ، يتجهان إلى قاعة الإستقبال ، حيث يرحب مدير الشركة بسعاد وزوجها وهو يقدمهما إلى زوجته على أنهما :

– مسز السالم وزوجها مستر السالم !

تبتسم سعاد فى حرج . تلفت نظر السيد المسئول عن حفل الاستقبال فى هدوء
إلى أن اسم زوجها مستر الناصر ، وليس مستر السالم ، موضحة له أن من عادات العرب
أن تحتفظ الزوجة بإسمها وبلقب أبيها ولا تحمل إسم زوجها بعد الزواج . يعتذر مدير الشركة مبتسماً لجاسم عن ذلك الخطأ غير المقصود وهو يدعوهما إلى الدخول ، والإلتحاق بالضيوف .

تدخل سعاد القاعة الواسعة فتلفت الأنظار إليها ، بإعتبارها واحدة من كبار أصحاب الأعمال ، فى مجالات الاستثمار العقارى ، خاصة وأنها صغيرة السن جداً ، مقارنة بهم ، بالإضافة إلى كونها جميلة جداً ، وجذابة جداً ، وأنيقة جداً ! تتكلم سعاد .. تتحرك .. والأضواء تسقط على وجهها الجميل وقوامها المثير ، تحيطها كل وسائل الإبهار والإثارة التى تؤهلها لخوض لعبة الحياة العصرية بموهبة ومهارة !

وكعادة الأمريكان فى مثل هذه الحفلات ، لا تتحدث سعاد مع مجموعة واحدة ، ولا تقتصر على التواجد بين مجموعة واحدة ، بل تنتقل من مجموعة إلى أخرى ، ويأتى رجال وسيدات من مجموعات أخرى للترحيب بها والحوار معها ، فتنطلق سعاد فى الحديث المتعلق بكثير من الأمور التجارية والاقتصادية المتخصصة ، تلك التى يجهلها جاسم تماماً ، ولا يهتم بمعرفتها نظراً لإنكبابه على دراسة الطب ، والحصول على درجة الزمالة فى جراحة القلب !

يقف جاسم مبتسماً ، ضائقاً ، مختنقاً من هذا الجو المقفل المكتوم ، يشعر بالملل من تكرار سماع نفس الحوار فى مجال لا يعرف خباياه ، كما يجهل آخر أخباره ، يقف ينظر إلى تلك الأضواء الباهرة التى تنير المكان ، كأنما تفقد ضوءها ويخبو نور بريقها ! ينظر جاسم منطفئاً فى ذهق وملل إلى هذا الزحام البشرى الذى تضج به القاعة ، وهو يشعر كأنه محشور فى قمقم معتم مدفون تحت قاع الأرض ، حيث لا يشعر فيه نسمة هواء واحدة ، كما لا يحس داخله بوجود إنسان واحد !

هنا .. فى هذه اللحظة ، يتبادر على الفور إلى ذهن جاسم بريق أضواء أخرى عالية شاهقة ، تنير أرض الملعب وكيف كان يدوى تصفيق الجماهير يكاد يخرق الآذان ، وبريق آلات التصوير يكاد يعمى العيون .. !

يذكر جاسم أيضاً لحظة أخرى هائلة تقتحم عقله الآن ، مشحونة بالتصفير والتصفيق والهتاف والصراخ ، لحظة يختلط فيها هدير الجماهير العاصف بالتصفيق والهتاف المنطلق من فوق المدرجات حيث تحتشد الجماهير تنتفض تطلق الشعارات ، ترفع الأعلام ، وهى تهتف وتغنى وتصفق عند إحراز الهدف .. آه صفير الحكم
يأذن بإنتهاء المباراة .. الهتاف الآن باسم جاسم الناصر يخرق الآذان ، يحّلق فى أعالى الفضاء !!

تتسع إبتسامة جاسم حين يصل إلى هذه النقطة ، لكن .. يقطب عابساً وهو يجول بعينيه فيما حوله ، ثم يعود يحادث نفسه لائماً عاتباً :

– آه .. يا الله .. وينك يا جاسم وهذا التجاهل من هؤلاء الناس ؟ مالك أنت
وهذا الحفل المطفأ الأضواء ؟ شنو تسوى بنفسك يا جاسم ؟ شنو جابك هنية ؟ ليش أنت
جيت هنية ؟ لا .. هذا مو مكانك يا جاسم .. ! هذا مو مكانك يا جاسم ! ياللا .. قوم
يا كابتن .. أخرج .. خلاص .. أطلق الحكم الصفارة .. إنتهت المباراة .. خلاص .. إنتهت .. إنتهت !

فى هذه اللحظة ذاتها .. يحتدم صراعاً عنيفاً بين جاسم ونفسه ، فيبقى طول الوقت صامتاً ! يحاول بصعوبة أن يتماسك ! باذلاً جهده كى يتصبّر على هذا الموقف الصعب العصيب الذى أوقعته به سعاد ..! ففى نفس الوقت تظل تتكرر ، تظل تستمر عدة مرات .. محاولات تعريف مسز السالم .. وزوجها مستر السالم !! فى حين تتابع سعاد محاولاتها اليائسة لتصحيح هذا الخطأ المؤسف غير المقصود الذى بدا أثره واضحاً فوق وجه جاسم المحرج المحتقن !

لا يمضى وقت طويل قبل أن تشعر سعاد بالضيق ، وبأن عليها أن تغادر القاعة ، خاصة وأنها تعلم مدى حساسية جاسم ، ومدى إعتزازه بنفسه ، وبإسم أسرته .. تقع سعاد بالحيرة والحرج ، وهى لا تعرف تخرج من هذا المأزق ! ولا كيف تتصرف أو تتملص من هذه الورطة التى أوقعت نفسها بها ! لكنها فى نفس الوقت تعلم أنها لابد أن تخرج الآن .. فوراً !

تتجه سعاد إلى صاحب الحفل محاولة ألا يشعر جاسم بما تقول أو تفعل ، تخبره فى هدوء وهى تبتسم فى حيرة وحرج أنها تشعر بتعب غير عادى ، تعتذر بصوت خافت خفيض عن الإستمرار فى الحفل ، مع وعد منها أن تتصل به فى أقرب فرصة ممكنة .. تعود إلى جاسم تخبره ، برغبتها فى الخروج من الحفل لشعورها بصداع شديد مفاجئ ، ينظر إليها جاسم بإبتسامة باهتة ، شاحبة .. يوافقها بهّز رأسه صامتاً !!

.. تلتقى العينان فتلمح فيهما سعاد قدراً كبيراً من اللوم والغضب والعتاب ..! حاول جاسم بصعوبة ألا يظهر مشاعره ، كما حاول أن يخفى نقمته وحنقه ، بسبب إصرارها على إحضاره معها إلى مكان .. لا مكان له فيه .. !!

يمضى مسرعاً نحو باب الخروج ، والغضب يسطع فى عينيه المتقدتين ، إلا أنه
كان غضباً بلا كراهية ، حتى أن سعاد تمنت لو أنها ترتمى فى حضنه ، لكنها لم تجرؤ ،
فقد كان يسير طوال ذلك الممر الطويل ، الطويل ، فى صمت مطبق ، دون أن ينطق بكلمة واحدة ..!

.. كانا يقطعانه فى وجود مكتوم ، وسعاد غارقة فى حيرتها ، وحرجها ، وحبها ، وإحتياجها .. فى حين كان جاسم يسير صامتاً ، يشف صمته عن كبرياء جريح ينزف فى أعماقه ، يدور باحثاً عن كيانه ، يثور رافضاً أن يكون فى موقع .. غير موقعه !


الفصل الحادى عشر

بعد .. البعاد !

أيام عديدة مضت منذ عودة سعاد وجاسم من حفل الإستقبال الخاص بشركة الحقول الذهبية ، دون أن يعود جاسم لطبيعته ! ظل عابساً ، متجهماً ، قليل الكلام ، قليل الحركة بلا حضور ، كأنه غير موجود ، كأن جاسم الحقيقى قد اختفى وغاب ، ولم يعد يتبقى منه سوى شبحه ، أو ظله ، أو خياله ، ذاك الذى يتحرك بدلاً منه ، ويروح ويجئ ، فى صمت ، وهدوء ، وسكون !!

وذات ليلة أخبر جاسم سعاد دون تعليق مسبق .. أو أدنى تمهيد ! أنه يوشك على السفر إلى الكويت لحضور مؤتمر طبى سوف يعقد قريباً هناك . وبعد فترة قصيرة يغادر جاسم متجهاً إلى الكويت لحضور هذا المؤتمر الطبى الإقليمى الذى أختيرت الكويت لتكون مقراً له .. وكان دكتور جاسم الناصر واحداً من أبرز الأطباء الكويتيين المتخصصين الذين شاركوا فيه ، وبذلوا كل الجهد لإنجاحه .

وبالفعل .. تتكشف أحداث كثيرة فى الكويت ، تثبت أن جاسم الناصر ، كما كان نجماً لامعاً فى عالم كرة القدم لديه قدراً هائلاً من الإحساس الدائم بالانتصار ، والرغبة الأكيدة فى التمتع بروعة الزهو الذى يعقب تحقيق ذلك الانتصار ! هو أيضاً كوكب يسطع فى دنيا الطب والجراحة !! وها هو يواصل حياته العلمية والعملية بنجاح ساحق منقطع النظير ، حتى يحصل على أعلى قدر من الشهرة كطبيب كويتى شاب ناجح قدير ، زميل جراحى القلب فى أمريكا .

تتسلط الأضواء فى مجالات الإعلام المختلفة على الدكتور جاسم الناصر ، سواء فى الإذاعة ، الصحافة ، التليفزيون ، فيبدو وهو يحاضر فى طلبة كلية الطب . يتكلم . يشرح . يناقش أحدث النظريات الطبية فى مجال جراحة القلب ، يفسر أحدث الدراسات والأبحاث المختصة فى هذا المجال . يحرر أبواباً ثابتة عن تلك النظريات المتطورة ، فى عدد من المجلات العلمية المتخصصة .

يتركز البريق على جاسم فى الكويت ، يتوزع وقته بين الكتابة فى الصحف ، والندوات ، والمؤتمرات ، والمحاضرات ، وبين اللاعبين فى النادى الذين يقومون بحملة إعلامية ضخمة حول شخصية دكتور جاسم الناصر ، كابتن المنتخب الوطنى سابقاً ، طبيب أخصائى جراحة القلب حالياً ، مما يمنحه شعوراً كبيراً بالعظمة ، والزهو ، والتفوق ، والتميز ، وتمجيد الذات !

نعم .. بعد أن استكمل جاسم الدراسة ، وحصل على شهادة الزمالة فى جراحة القلب ، أصبح واحداً من أشهر الأطباء الأخصائيين فى الكويت ، لذا ، بدأت المستشفيات فى الخليج تتابع الاتصال به ، توجه الدعوات له لإجراء عمليات قلب مشابهة ، بعد أن أثبت مقدرة فائقة فى هذا المجال .

و .. قبل أن تنتهى زيارته للكويت ، يقوم جاسم بالكشف الطبى على جدة دلال . يفحص الحالة بدقة . يوضح أنها فى حاجة إلى إجراء عدة تحاليل وأشعات يتقرر بعدها مدى حاجتها لإجراء العملية الجراحية .. تشكره دلال من قلبها بطريقة تدل على أنها مدينة له بهذاالموقف الإنسانى ، وبهذا الاهتمام الكبير بجدتها ! تعلن تقديرها العميق لوقفته معها بطريقة تكشف أنها لا تعرف كيف تخفى مشاعرها ، ولا تستطيع أن تدارى إحساسها به ، واضح فى كل شئ ، أنها ما تزال تحب جاسم ، فهى ما تزال تطلبه فى التليفون ، كما أنها ما تزال عاجزة عن التحكم فى نفسها ، لذا .. تظل تطارده وتلاحقه فى كل مكان يذهب إليه ، كما كانت تفعل تماماً من قبل .. !

.. تمسح دلال دموعها وأوجاعها . تنهض ترتدى ملابس مثيرة جريئة كعادتها . تبدو امرأة جميلة فواّحة العطر ، ناضجة ، ذات تقدير خاص ، فهى تملك من ضروب الفتنة والإغراء ما تحيى به وتميت ، خاصة بعد أن أمتلأ عودها بعد الحمل والولادة ، وبرزت تقسيمات جسدها المثير ، كأوضح ما تكون .. ! تمضى دلال نحو مقابلة جاسم فى مستشفى مبارك الكبير فى الجابرية ، تطوى الزمن فى رشاقة ، تمشى بخطى بطيئة متحدية ، وهى تكره أن تشعر من جديد بالتعاسة ، والحسرة ، والأسى ، بعد أن تذكرت كيف كان حزنها ساحقاً .. حين ترنّحت الأرض تحت قدميها ، بعدما عرفت بخبر زواج جاسم .. وسعاد !!

تذكر دلال كيف كانت صدمتها قاتلة ، كيف كان الخبر بالنسبة لها مدمراً ، تذكر كيف تفجّرت داخلها شحنة الصدمة والمفاجأة .. فحطمتها تحطيماً ! تذكر كيف كانت تتلوى على الأرض من شدة الألم ! تصرخ ! لا تصدق أن جاسم الذى كانت تنظر إليه باعتباره أهم رجل فى العالم صار الحين أقل رجل فى العالم .. ! تذكر كيف كانت تتمرغ فوق الأرض تتعصر . تبكى . وتبكى . وتبكى .. !

آه .. غصباً عليها تذكرت كيف كانت تشعر بالقلة . بالضآلة . بالنقص . حين أخذت تتخاطفها الرياح بعيداً عن جاسم ! تذكر كيف كانت تحاول أن تحافظ على توازنها ، لكنها .. ، رغماً عنها ، كانت تسقط . تقع . ترتطم بالأرض بقوة !

.. تدق دلال باب الغرفة المغلق بأطراف أصابعها ، تسمع صوت الممرضة تطلب منها الانتظار قليلاً ، لكنها ، كعادتها ، لا تصبر . تلوى المقبض . تفتح الباب . تدلف إلى الغرفة مندفعة ، ومنها بهدوء إلى غرفة أخرى جانبية متصلة بها ، حيث ترى جاسم جالساً على المكتب ، منهمكاً فى قراءة بعض الأوراق أمامه ، فلم يشعر بدخولها ، تقف دلال صامتة . تنطلق عيناها . ترقص . تنطلق ترتمى فوقه ، تضمه ، تحتضنه ، تقبل كل ذرة فى كيانه .. وروحها تهفو ، تدنو من مكانه :

– آه .. بعد هذا العمر .. جاسم الحين قدامى ؟! ما أصدق .. ما أصدق !

يشعر جاسم فجأة بوجودها ، كأنما إخترقته سهام نظراتها ، يقف مرحباً مسروراً مبهوراً بحضورها ، تدنوا إليه ، عيناها فى عينيه ، تسلم عليه ، تمسك كفه بيديها ، تقبض عليه بشدة كأنما تخشى أن يفلت منها ، بينما تقاوم رغبة جامحة دافعة للإرتماء بين ذراعيه ، والبكاء على صدره .. والبوح بحبه .. وإبداء الشوق إليه .. !

بحركة سريعة خاطفة يسحب جاسم يده منها ، يقدم لها مقعداً ، وهو يبتسم فى وجهها بحرارة ، فاتحاً موضوع مرض جدتها ، شارحاً حالتها الصحية بعد أن أتطلع على ملفها الطبى الموضوع أمامه الآن ، يطمئنها أن لا خوف عليها ، يؤكد لها أن الموضوع ليس خطيراً كما تطن !

تجلس دلال أمامه وهى تضع ساقاً على ساق .. وتبدأ تنازل جاسم عاطفياً ، فترنو إليه بشوق جامح لا يكبحه تجاهل جاسم ، تطل عيناها تبحث عن عينيه ، تزرع فيهما عشقاً جانحاً إليه ، وفيهما نفس البريق الأخاذ الذى أشعل الحب فى قلبه زمناً .. لكنه توارى فى الرماد .. فهل تندلع فيه النيران مع هذا اللقاء الجديد .. ؟ تقول هامسة بالقرب من أذنيه :

– وحشتنى يا جاسم .. وحشتنى .. وحشتنى .

يتعامى جاسم عما يرى فى عينيها ، يتشاغل عما يسمع من همس شفتيها ، يهم بشرح الموقف الصحى لجدتها ، يتجاهل حركات الشوق والشغف التى تحاول أن تبديها ، فهى بالنسبة له امرأة جاءت من ماضيه ، من علاقة حب ساخنة توقفت فجأة .. وتزوج هو بعدها وقنع بحياة أسرية هادئة .. لذا ، يقاوم دلال رافضاً عواطفها المتاحة ، ويشرح لها مفسراً التقرير باختصار شديد :

– سمعى دلال .. ترى أنا راح أسوى العملية لجدتك بنفسى فى الوقت المناسب .. أحسن ما نستعجل يا دلال .. ما فى داعى للخوف .. صدقينى .

تحاول دلال أن تطيل اللقاء .. تظل تحلم بالحب الواعد بالاستمرار واستكمال الماضى فى الحاضر ! هى تستخدم الحين كل الوسائل الممكنة لتكسب هذه الجولة ! لا يهمها أن تسرق حلم مستقبل سعاد ! لا .. بل هى تريد أن تنتقم ، فهى تعلم أن سعاد خططت لسرقة جاسم منها ، وعاونتها ليلى فى ذلك !! إذن .. المهم .. من يكسب الجولة الآن ؟!

تستمر دلال فى حوار مستميت ، تحاول خلاله إقناع جاسم بضرورة إجراء العملية لجدتها أثناء وجوده بالكويت .. لكنه .. يصرّ على رأيه ، يطلب منها أن تنتظر حتى تظهر نتائج الفحوص والتحاليل والأشعة ، على أن توافيه بها كى يستطيع متابعة الحالة أولاً بأول ، وكى يكون على علم بوضعها الصحى بعد إنتهاء المؤتمر ، وعودته إلى أمريكا .

آه .. عودة إلى أمريكا !! تتنهد دلال حزينة محسورة ، تناجى نفسها ، وهى ما تزال تطالعه بعينين ينبت فيهما شوقاً عاشقاً زاهراً عاطراً :

– آه .. قمت تتكلم عن السفر من الحين يا جاسم ؟!

فجأة تحس دلال الموقف قاسياً . عنيفاً . فوق طاقتها . فتنكمش كالقنفد . تتكور على نفسها ثم تعود تنتفخ . تتضخم . كأنها .. تشحذ كل أسلحتها ، وتستعد لشّن معركتها ، بعد أن ثارت ثائرتها وهى تحس أنها تكاد أن تفقد كرامتها ، وكبريائها ، وجاسم يتعامل معها بتجاهل ورفض ، وهو يقول لا .. لكنها هى لا تقتنع إلا بنعم ! نعم .. لا تقتنع دلال بمنطق الرجل الأب المسئول المتزوج الذى يوحى به جاسم الحين لها .. لا .. إنه يجرح أنوثتها .. إنه يحرجها .. إنه يهينها !

– آه .. لو واحد ثانى غيرك يا جاسم هو اللى يتكلم الحين لخنقته بيدى وقطعته بأسنانى آه .. أنت ما تعرف يا جاسم شنو يسّوى كلامك بقلبى .. !!

تسرح دلال فى خواطرها ، فيخفق قلبها بشدة ، متأثراً بأحاسيس حب عنيفة جارفة ، لم تزل تتفاعل فى أعماقها ، تحرك مشاعرها ، تهز إحساسها ، فتستدير نحو جاسم باسمة ، تقول له راجية مستعطفة بلهجة ضعيفة واهنة ، وقد إنطلقت نظرة توسل تتسلل من عينيها الجميلتين الجذابتين اللتين ترسلان حباً وعشقاً وهياماً ، ينساب برفق إلى قلب جاسم .. فتتحرك مشاعره ، تسلب منه القدرة على المقاومة والرفض .. بعد أن رأى على وجهها الجميل مسحة من المسكنة والضعف ، وهو يسمعها تقول :

– أرجوك يا جاسم تعالى عندنا شوف جدتى .. ترى هى مريضة وايد .. حالتها صعبة .. وما نقدر نأخذها المستشفى ونردها ثانى بنفس اليوم .. تعب عليها .. ما تتحمل .. يا ريت تقدر تيجى يا جاسم تفحصها بالبيت .

لا يملك جاسم إلا أن يوافق ، صراحة .. لم يتردد لحظة واحدة فى الذهاب معها على الفور ، وقد إجتاحه شعور عارم بالشفقة نحوها دلال أخذ يتدفق فياضاً فى قلبه ، فهو يعرف ظروفها الصعبة القاسية ، كما يعرف إن الحياة تنزل فوق رأسها كثيراً من المحن والمصائب ، مما جعله يقول راضياً :

– ما يخالف .. بس نروح الحين الآن ما عندى ساعة واحدة فاضية .. غير هذه الساعة يا دلال .

يخرج جاسم من المستشفى ، يركب سيارة دلال التى تنطلق به مسرعة إلى بيتها ، فى نفس اللحظة التى تصل فيها ليلى إلى المستشفى لتقابله ، كى تلح عليه أن يأتى معها إلى البيت لتناول طعام الغداء ، بعد أن عجزت عن العثور عليه تليفونياً !

تلمح ليلى جاسم ودلال معاً فى سيارة دلال ! فتصاب بدهشة عارمة ، تستشيط غضباً وحنقاً وثورة ، على تلك الملعونة التى ما يهمها أحد فى الدنيا إلا نفسها !! بدون تفكير تقود ليلى سيارتها خلفهما ، تتبعهما عن بعد ، وهى تكلم نفسها عاتبة على جاسم تورطه هذا مع دلال وتفضيلها عليها .. !

– آه .. الحين صار عندك وقت كافى للخروج مع دلال يا جاسم ؟! وأنا .. ليلى .. أختك .. أظل أتحايل عليك عشان تيجى تتغذى معانا بالبيت تقول لى مشغول .. ما أقدر !

فى الحقيقة كان جاسم مشغولاً فعلاً ، ومرتبطاً بمواعيد كثيرة فعلاً ، فعنده ندوات ، ومؤتمرات ، ومحاضرات ، إلا أن ليلى لم تصدق كلامه ، أحست أنه ما يزال يفضّل دلال عليها وعلى أمه وعلى أبيه !! فازداد غضبها ، وحنقها ، وأخذت تقول لنفسها ثائرة :

– آه .. الحين فهمت كل شئ .. أنكشف كل شئ .. هذه الملعونة ما تيأس أبداً .. بعدها قاعدة تحاول تلعب على جاسم .. هى ما تبى تتركه فى حاله .. ولا راح تخليه يلتفت لزوجته ولا عياله !!

تظل ليلى تكلم نفسها وهى فى قمة الغيظ من دلال ، إلى أن تبدأ تتساءل فى دهشة:

– إيش تبى هى الحين من جاسم ؟! ليش تحوم حوله مرة ثانية بعد ما تزوج وصار أب لثلاثة عيال ؟! إيش تبى منه ؟! تريد تكون زوجته الثانية !! عشان تحرق قلب سعاد وتقهرها ؟!

يشتعل فى قلب ليلى الكره والبغض والغضب من دلال ، تمتزج هذه المشاعر كلها داخلها ، فتثور فى أعماقها ، تصطخب عواطفها ، تضطرب أفكارها ، يرتج كيانها ، فهى فى الحقيقة لم تكن تتوقع أبداً أن يستسلم جاسم لها بكل سهولة هكذا ، ولا أن يخضع لرغبتها بهذه السرعة ، ويستسلم لإرادتها بهذا الشكل ! لم تكن ليلى تتخيل أن يقبل جاسم الركوب معها فى سيارتها !! فتقول لنفسها :

– الحمد لله أنى ما عرفت أصيده فى التليفون .. ما صبرت على هذه الاجتماعات اللى كان مشغول فيها .. وإلا ما كنت جيت بنفسى وشفت اللى صار .. الله أراد لى أشوفهم بعينى عشان أكشف أمرهم وأتدخل فى الوقت المناسب !

تتأكد ظنون ليلى وشكوكها ، بعد أن ترى عن بعد سيارة دلال واقفة أمام بيت أمها !! تعرف أن جاسم ما زال موجوداً بالداخل ، فتستشيط غضباً . ورفضاً وبغضاً .. !

تقود سيارتها مسرعة عائدة إلى البيت ، وعفاريت الدنيا كلها تقفز أمام عينيها .. تمضى تسب وتلعن هذه الشيطانة الطائشة التى لا تعييها الحيل ، ولا تكفّ عن الألاعيب .. ! ترفع التليفون وهى فى قمة إنفعالها ، وعدم سيطرة على نفسها ، تطلب سعاد تخبرها بما رأت .. وتقول لها أين .. يوجد .. جاسم .. الحين !!


الفصل الثانى عشر

وداع و .. عناد !

تجلس دلال تبتسم فى فرح وهى تحس إنتصاراً مؤقتاً لقبول جاسم دعوتها لزيارة بيت أمها ، تشعر أنها قد أتت إنجازاً هائلاً بإحضاره عندهم لفحص جدتها ! تظل تنظر إليه ، تتأمله ، تلتهمه بعينيها النهمتين ، وهو جالس عندهم فى غرفة الإستقبال ، فتلاحظ بعض شعيرات بيضاء ظهرت خلال شعره الكث الغزير ، كما تلاحظ إزدياد وزنه وتضخم قامته ، ووضح سمات رجولته ! لم يعد جاسم شاباً طائشاً . أصبح رجلاً ناضجاً ، لكن .. لا .. جاسم لم يعد هو جاسم ! شئ فيه تغير ! شئ فى أختلف ! شئ ما خبا فى بريق عينيه ! تلمح دلال فى نفس الوقت نظراته الشاردة ، الساهمة ، تحس أن شيئاً ما فى أعماق جاسم قد إنطفأ ! إنطفأ !

تقترب منه وقد رسمت إبتسامة واسعة مشرقة على وجهها ، تحاول أن تجسّد بالحوار ذكريات الماضى البعيد . يفهم جاسم قصدها . يتجاهل محاولتها الواضحة . يتغاضى عن هدفها ، يكلمها عن الطب والجراحة ، يزيد من الأسئلة ، مستفسراً عن حالة جدتها المريضة ماذا تشعر ؟ ماذا تأكل ؟ كيف تنام ؟ متى ترتاح ؟ إلى آخره .. إلى آخره .. إلى آخره !

فى الحقيقة دلال تشعر دوماً بالنشوة ، بالانتعاش ، فى وجود جاسم ، كما تشعر بالأمان فى وجود جاسم ، أمان من الوحدة ، من الحياة ، من العالم القاسى حولها ! وجود جاسم إلى جانبها يحميها من مخاوفها هى نفسها ، يكون سنداً لها ، لذا لا تستطيع أن تتحكم فى حركاتها ، لا تستطيع أن تدارى أهدافها ! .. تقترب من جاسم مسلّطة عليه أنوثة صارخة ، وجمال ساحر فريد ، يجعل الرجل يشعر معها كأنه طفل كبير !

فى الواقع .. هدف دلال الدائم هو فوزها بجاسم ، الذى تحبه ، وتفتخر به ، وتتمنى أن يصبح يوماً أباً لطفلها ، طفل قادم سعيد يعيش بين أبوين عاشقين .. نعم .. كانت دلال تسعى دوماً لأن تشعر بالاستقرار . بالأمان . بالاحترام . بالمركز اللائق فى المجتمع الذى يتيحه لها الارتباط بجاسم ! لذا .. تعّبر بسهولة تامة عن فرحها به ، وشعورها بالسرور إلى جواره ، إنها لا تنتقى الكلمات ، إنها تقول كل ما تشعر ، إنها تبوح بكل ما تحس .. !

أحياناً .. تأتى تصرفاتها طائشة ، وهذا ما جعل جاسم يتعلق بها أكثر . يشفق عليها أكثر . يسعد بوجودها أكثر .. وأكثر ! بالتأكيد دلال خائفة من المستقبل ، قلقة على الحاضر ، تفكر فى مأساة الماضى ، ومساوئ الماضى ، ولا تستطيع أن تحس بالراحة والهدوء ، فليس لديها أدنى إحساس بالأمان بعد أن غدر بها جاسم .. فهى تشعر إن جاسم رجل له مستقبل .. وإنها امرأة لها ماضى ! فتحزن وتحزن !!

إنها منذ تلك اللحظة المشئومة ، تدمع ! هى ليست مرتاحة فى حياتها . فالمستقبل غير مؤكد . بل مجهول بالنسبة لها . المستقبل مخيف . مخيف . فهى لا تستطيع أن تحب رجلاً آخر غير جاسم .. كانت هذه الفكرة ضمن خواطرها التى تؤرقها ، وكان هناك يقين عميق لديها أنها لا تستطيع أن ترتبط عاطفياً بعمق قلبها ، بكل مشاعرها ، بإنسان وى جاسم !

فى الحقيقة .. رغم أنها عاطفية . مندفعة . تهتم بالعواطف . فى حالة إنفعالية دائمة . وقادرة على إظهار عاطفة مبالغ فيها أحياناً ، لأنها شخصية ذات شعور متدفق ، ذات حيوية بالغة ، إلا أنها فعلاً تحب جاسم . تحب جاسم .. من أعماق أعماق قلبها !

فى بعض الأوقات ، لا تستطيع دلال أن تدير حياتها دون الاعتماد على الآخرين فى تدبير شئونها . فى أوقات كثيرة هى سلبية . سلبية . لذا كان لأمها دور كبير فى إدارة حياتها ، فهى صاحبة الرأى وصاحبة القرار . لذلك .. ترتبط بها دلال إرتباطاً شديداً ، هى تحبها لاشك ، كما تحب جدتها وتدعو الله أن يمّن عليها بالشفاء .

كانت الاثنتان ، الأم والجدة تدعوان الله ليل نهار أن يرزق دلال بابن الحلال الذى يسعدها . يرعاها . يطمئنها ، وأن يحافظ عليها وإبنتها الصغيرة الحبيبة دانا . كانت أم دلال وجدتها تتعجبان من كثرة المحيطين بدلال . المعجبين بها الذين يقعون تحت تأثير سحرها ، وجمالها ، وكانتا تتعجبان أكثر وأكثر من كثرة هؤلاء الخطّاب الذين يتقدمون لها ، والذين كانت ترفضهم دلال .. واحداً .. تلو الآخر !!

ذات يوم صرخت أمها فى وجهها ، ثائرة ، وهى تكاد تفقد عقلها :

– إنسى جاسم يا دلال .. إنسى هالملعون اللى حطم حياتك وخلاك ما تشوفين رجال غيره .. لحد أمتى يا دلال وأنت قاعدة تنتظرينه ؟ تعتقدين جاسم راح يخلى زوجته وعياله ويحيك إنت يخطبك .. ويتزوجك ؟! .. لا .. دلال .. إصحى .. إصحى لروحك وديرى بالك على نفسك .. ترى الأيام تجرى بسرعة والسنين تركض والإنسان ما يحس فيها .. شبابك راح يولى وإنت بعدك قاعدة مكانك تنتظرين جاسم ؟!

هذا الموقف كان يتكرر فى كل مرة يتقدم لدلال فيها عريس جديد ! فيستمر الصراع عنيفاً صاخباً بين الأم وإبنتها ! ويستمر الحوار بين دلال وجدتها ، وكل إمرأة فيهما تحاول أن تقنع دلال بضرورة الزواج . لكن .. بعد أن تتضخم المشكلة ، ويستمر الرفض ، تعرفان أن دلال فى حالة إنتظار وترقب لعودة جاسم .. الذى أبدً لن يعود .. لن يعود !

الجدة بالذات متشائمة ، هى واثقة أن جاسم لن يخلى زوجته وعياله ويهدم أسرته ، ويهّد بيته من أجل دلال . هى دائماً تقول :

– والله جاسم لو كان يبى يتزوجك يا دلال لكان تزوجك من زمان .. وكان الحين عندك منه عشر عيال .. إصحى يا دلال .. إصحى .. قومى شوفى حالك .. قومى .

فى أحيان كثيرة جداً ، لم تكن دلال تهتم حتى بمجرد الرد ، كانت تكتفى بالصمت . والصمت . والبكاء . فهى فى الواقع تعرف أنها تثير شفقتهما ، وأنها أحياناً تبتز مشاعرهما بضعفهما ، وإستكانتها ، ويأسها ، وحزنها ، لذا لم تكن تريد أن تشعرهما بالذنب أكثر من ذلك ، أو التقصير فى إعطائها النصيحة أكثر من ذلك . كانت تسكت . تصمت . وتبقى على مستوى اللاشعور فى حالة حب دائم لجاسم . وحزن دائم لبعاد جاسم . وإنتظار متصل لجاسم ! وأمل مستمر فى أن يعود جاسم !

تنظر دلال إلى جاسم فى تمعن . تتفرس ملامح النضج والرجولة التى أخذت تزحف بفحولة على وجهه ، وجسده .. ثم تنهض . تختفى داخل إحدى الغرف وتعود فى يدها علبة صغيرة جميلة ، تقدمها لجاسم ، وهى تمعن النظر فى ملامحه وتظل تعيد النظر إليه فى شقاوة وتركيز ورغبة مكتومة وهى تقول :

– كل عام وأنت بخير .. عقبال مائة سنة يا جاسم ..

يتعجب جاسم ! يقول فى دهشو غلبها تأثر شديد :

– أنت للحين يا دلال تذكرين عيد ميلادى ؟!

تستدير إليه دلال ، تقترب منه ، وقد وضحت على وجهها ومضة من العشق والشغف والهيام تقول له بلهجة عميقة واثقة :

– أنا عمرى ما نسيتك يا جاسم .. عمرى ما نسيت لحظة واحدة قضيتها معاك .. ولا نسيت أى شئ يخصك .. إيش لون أنسى عيد ميلادك ؟!

تتنهد دلال تنهيدة حارة لافحة حارقة :

– آه .. أنت ما تعرف قيمة نفسك عندى يا جاسم .. أنت للحين ما تدرى غلاتك عندى يا جاسم .. !

تتوه دلال فى ماضى ذكريات ، تحس حيالها حنيناً حبيباً يفيض بين حنايا كيانها ، تبتسم فى أسى ، وهى تهمس بكلمات سمعها جاسم بصعوبة :

– آه .. وين أيامنا يا جاسم .. ترى الأيام اللى تروح عمرها ما ترد .. ما ييجى مثلها أبداً !

تبقى دلال تنظر إلى جاسم ، الذى أتم اليوم عيد ميلاده الرابع والثلاثين ، والذى تحس أنه قد تجاوز هذه السنين بكثير ، فهو يبدو الآن أكبر من عمره الحقيقى ! تعود تنظر إليه خائفة من الفراق المرتقب ، والوداع المنتظر ، والسفر القريب الذى أوشك أن يحين ميعاده بعد ساعات .. فاليوم السبت 28/10/1989 ، عيد ميلاد جاسم الرابع والثلاثين والذى شاءت الصدفة وحدها أن يأتى بيت دلال ، وأن يمضى ، بعض الوقت ، فى هذا اليوم بالذات .. مع دلال !

كانت هذه وحدها مناسبة عزيزة عظيمة بالنسبة لدلال ، كلا تعبّر لجاسم عن حقيقة حبها ، وأن تظهر له إهتمامها ، وكيف أنه دوماً محور تفكيرها ، ومركز حياتها !

– آه .. جاسم راح يسافر .. راح يغيب ثانى .. ؟!

كانت دلال تعلم إن جاسم مسافر غداً ، الأحد 29/10/1989 إلى أمريكا ، إلى سعاد ، بعد أن انتهى المؤتمر الطبى الذى اختتم أعماله أول أمس .. كانت دلال تعلم أنه بعد سفر جاسم ، سوف تعود تتكوم مطحونة من الوحدة ، مسحوقة من الحزن ، آه .. كانت تعرف أنها سوف تعود تئن فى صمت كل ليلة حتى طلوع النهار .. ! فهى تحب جاسم ، تعشق جاسم ، كما تكره الفراق والوداع ، تخاف الرحيل والسفر ، فمنذ تركها جاسم أول مرة وهى تمقت تلك الأوقات ، الممزوجة بالعذاب ، آه .. هذه المرة أيضاً .. لا مفر من الفراق .. لا مفر من الفراق !

ينظر جاسم نحوها . لا يستطيع أن يقول شيئاً . أو يضيف شيئاً . ينهض واقفاً يشكرها على هديتها بعد أن طرأ فى باله عيد ميلاد إبنه أحمد ، الذى وافق يوم الخميس الماضى ، فيؤكد لنفسه ضرورة شراء هدية حلوة يقدمها له عند عودته .

للأسف .. لم يتذكر جاسم هذا التاريخ ، تنّدم لأنه لم يتصل بأحمد يهنئه بعيد ميلاده السادس . نسى ذلك تماماً ، فقد كان مشغولاً جداً يوم الخميس بالذات فى جلسة ختام المؤتمر ، التى تكدّست فيها عشرات الأعمال ، والنتائج والتوصيات ، يأسف جاسم كل الأسف على إرتكابه هذه الغلطة غير المقصودة ، يقرر بينه وبين نفسه أن يصلح هذا الخطأ بعد عودته ولقاء أحمد ..

– أكيد هو زعلان منى وايد الحين .. ؟!

يستغرق جاسم فى التفكير فى ترضية ابنه البكر ، فينهض يودع دلال ، يشكرها على كل شئ .. يشكرها على إهتمامها وعنايتها ، وقبل أن يخرج يطمئنها على صحة جدتها التى كشف عليها فور وصوله .. وقبل أن يغادر البيت ، يدخل يسلم عليها داخل غرفتها ، هى وأم دلال ، كما لم ينس أن يترك السلام لدانا التى لم تكن موجودة بالبيت ، راحت مع مربيتها الفلبينية تلعب فى نادى الشعب البحرى هى ورفيقاتها .

تصحبه دلال وهى توّد أن يموت الزمن عند هذا الحد .. وأن تقتل الدقائق ، وأن تغتال الساعات ، كى لا يرحل جاسم بعيداً عنها .. ويذهب إلى سعاد .. ! لكنها .. لاحظت إن جاسم تغير عن زمان ! لم يعد هو جاسم الذى تعرفه من زمان ! جاسم تغير . تغير . تغير !! كله بسبب سعاد ، هى السبب ، هى السبب !

آه إن غيرتها من سعاد لا يعلم مداها إلا الله ! إن حقدها على سعاد لا يستطيع مخلوق أن يتخيله ، أو يقّدره ، إنها تكرهها . تكرهها . فهى التى خطفت منها جاسم ! هى التى أخذت منها حبيبها . حبيب عمرها .. هى التى حطمّت حياتها . حطمّت حياتها ! تصمت دلال .. فلا مجال لمثل هذا الشعور أو هذا الكلام الآن ، تصمت . تبقى تسترق النظر إلى جاسم فى حب وحنق وعتاب ! فهو بزواجه من سعاد قد جرح كبرياء الأنثى داخلها ، حطم صورتها مرة واحدة قدام كل الناس .. كل الناس .. !

آه .. للأسف .. تصل السيارة بسرعة إلى الجابرية . تقف عند مستشفى مبارك . ينزل جاسم . يشد على يدّى دلال مودعاً . شاكراً . يختصر وقت الوداع ، فهو يتحاشى النظر فى عينيها الدامعتين ، لا يريد أن يضعف أمامها ، كما لا يريدها أن تضعف أو تنهار أمامه . فهو يعرفها . نعم . يعرف جاسم دلال حق المعرفة . يعرف قدراتها العاطفية الضعيفة ، ويعرف سرعة إنفعالها ، وإشتعالها . يعرف أنها لا تستطيع أن تتحكم فى نفسها ولا أن تكبح دموعها ، خاصة عندما يتعلق الأمر به ، وبحبه ، وبقلبه !

تلف دلال السيارة عائدة . منهارة . باكية . فى عينيها دموع وغضب حتى لا تكاد ترى الطريق أمامها . لكن .. على شفتيها يرتسم وعد ووعيد ، وتصميم يجعلها تؤكد لنفسها .. ما زالت هناك فرصة باقية أمامها .. ! نعم .. ما زالت عندها الفرصة .. ما زال هناك متسع من الوقت .. فجاسم حبيبها سوف يسافر غداً .. تمضى يبكى كيانها . تبكى كل خلية من خلايا جسدها .. باقى بضع ساعات أخرى .. سوف تحاول أن تراه مرة أخرى خلالها .. ! نعم .. ما زال لديها بعض الأمل فى أن تنعم بصحبته بعض الوقت ، ولو أقل الوقت .. !

– لا .. ما راح أخليك يا جاسم .. ما راح أخليك .. أنت حبيبى .. حبيبى أنا .. ولازم تنصلح كل هذه الأمور .. لازم سعاد تعرف إنك حبيبى .. وإنك عندى فى بيتى .. لازم سعاد تعرف .. لازم أغيظها .. لازم أحرق قلبها .. لازم أقهرها قهر .. لأنها واحدة أنانية ما تهتم إلا بنفسها .. ما يهمها شئ فى الدنيا غير أنها تجمّع الفلوس وبس .. كل اللى يهمها فى الدنيا الفلوس .. الفلوس .. أما أنت يا جاسم فهى أهملتك .. غيرتك .. ضيعتك !


الفصل الثالث عشر

حنين .. ورحيل !

لكن .. لم تستطع دلال لسوء حظها أن تلمح جاسم مرة أخرى . كان من الصعب ، بل من المستحيل ، أن يعثر عليه أحد فى تلك الساعات القليلة الباقية له فى الكويت ، قبل عودته إلى أمريكا .

تصل طائرة جاسم إلى مطار نيويورك ، فتدهم فكره ذكريات الحب مع سعاد فى تلك الأيام الحلوة خلال شهر العسل ، التى قضياها فى ” مانهاتن ” ، تلك المنطقة الرائعة التى شهدت أجمل لحظات حبهما ، كما شهدت أروع ساعات غرامهما !

يذكر أيضاً فندق ” إستوريا ” ، وكيف كانت تقف سعاد فى البهو مبهورة بفخامته ، وإتساعه ! يذكر كيف كان هو نفسه وقتها يتعّجل إنهاء إجراءات الدخول الىا لجناح الخاص بهما ، بينما كانت سعاد تقف إلى جواره حائرة لا تعرف ماذا تفعل ؟ أو ماذا تقول ؟ أو أين تنظر ؟!

آه .. يذكر جاسم ” نيويورك ” ، فيطرأ على باله حفل الإستقبال الكبير الذى عقد فى نفس الفندق للقاء رجال الأعمال .. يذكر كيف كان يقف خارج دوائر الضوء والاهتمام ، بينما كانت كل الأنوار والألوان تتسلط ، تتحدث بلباقة كعادتها عن مجالات التجارة والمال والاقتصاد !

يكره جاسم هذا الشعور البغيض ! يرفض أن يدهمه مرة أخرى ! يتابع رحلته إلى ” سيراكيوز ” فى شمال ولاية ” نيويورك ” ، حيث تبدأ برودة الجو فى هذا الوقت من السنة تسرى فى أطرافه ، أنها أيام الخريف ببرودتها ، وجفافها ، ووحشتها ، تدهم مشاعر جاسم مرة أخرى !

يدخل جاسم البيت ، يحيى سعاد ببرود ، بلا أى إنفعال ، أو شوق ، أو حماس ، كأنه لم يكون مسافراً ، كأنه لم يكن عنها غائباً ! وما يلبث أن يغرق فى صمت مطبق طول الوقت ، حتى المكالمات الهاتفية التى تأتيه لم يعد يطيل فيها ! زيارات الأصدقاء والحفلات والإستقبالات قلت تماماً ! لم تعد ممتعة ، لأن جاسم فقد روح المرح والبهجة والإنطلاق !

تغيرت شخصيته ، بعد أن أحس أنه لم يعد له دور . بعد أن أيقن أنه قد فقد أهميته رغم أنه إعتاد طول عمره أن يكون هو موضع الأنظار . خاطف الأبصار . محور الاهتمام . نعم ، هذا واقع حقيقى ، لا مبالغة فيه ، لأن جاسم تربى ونشأ فى بيت والده اللواء أحمد الناصر ، رأى كيف يشّع والده فى المنزل طمأنينة وقوة ، وسلطة ، ونفوذاً دون أن يرفع صوته ، وأحياناً ، دون أن يستخدم صوته !

كان جاسم يشعر أن وجود والده فى البيت فيه سلطة . ما هفى شئ يتم إلا بعد أن يعلم الكل أنه موافق عليه . هو لا يحتاج أن يقول لا . والده عمره ما قال لا . لأنه معروف ، ماذا يحب ، ماذا يكره ، وما يريده ينفذ ! الناس تحب أن تسمع منه كلمة نعم ، لأنهم يطلبون منه ، فيقول :

– حاضر .. يصير خير .. إن شا الله .. ما يصير خاطرك إلا طيب .. ما يخالف .. عدل .. زين .. زين .

موقف جاسم فى حقيقة الأمر مشتت . ممزق . لا يقدر أن يقول لا . لم يطلب منه أحد شيئاً كى يقول لا أو يقول نعم ! جاسم ليس غبياً . جاسم يدرك أن موقفه على العكس من موقف والده . جاسم يعرف إن موقفه ضعيف ، وأن وجوده فى البيت لا يشّع طمأنينة ولا سلطة ! إنما يشع إحتجاجاً .. ورفضاً .. وضعفاً !!

هذا الدور الباهت هو لا يقبله ، ولا يستطيع أن يستمر فيه مهما حاول ، لا .. لن يأخذ الحياة باعتبارها سلسلة من التنازلات المستمرة ! المشكلة أنه لا يجد له مخرجاً ، إنه لا يقدر أن يلوم سعاد ، فهل يلومها لأن حظها حلو ؟ أنها لأنها إنسانة ذكية ؟ أم لأنها تشتغل بكل قلبها ؟؟ أم يلومها لأنها أصبحت سيدة أعمال ناجحة ؟؟

أيضاً .. هو يدرك أن اللوم لا فائدة منه ، فما هو المخرج إذن ، ما هو الحل ؟ هل تبقى سعاد فى البيت وتتخلى عن عملها ؟ وحتى لو تخلت عن عملها .. كيف تتنازل عن فلوسها ؟ أتمنحهم هبة للجمعيات الخيرية ؟ لا .. هذه ليست فلوسها وحدها ، أنها فلوس أحمد وأنوار وراكان ، وحتى لو وافقت سعاد أن ترمى الفلوس فى المحيط ، هو لن يوافق ، فهى فلوس أولاده . المصيبة .. إن هذه الفلوس أغنت أولاده عنه ، جعلتهم أكثر ثراء منه .. !!

من هنا .. إزدادت الإتصالات بدلال ! كان يكلمها كلما أحس الاحتياج للشعور بالارتياح ، فهى دائماً تطلب منه شيئاً . قائمة طلباتها لا تنتهى . شكرها لا ينتهى . دائماً تطلب . دائماً تشكر . دائماً تلّح . دائماً تقول . وهذا شئ طبيعى فينا ، إننا نحس الإنسان الذى نعطيه أكثر بكثير من الإنسان الذى نأخذ منه ! .. وهذا هو نفس السبب الذى يجعل الأم تحب صغارها الرضّع ، لأنها تمنحهم الإحساس بالأمان ، بالحياة ، ولأنها تعرف أنهم من غيرها يموتوا !

تتظاهر سعاد أمام جاسم أنها لا تعلم شيئاً عن تطور علاقته بدلال ، رغم أن الأخبار تصلها منا لخارج .. إن جاسم مهتم بدلال ، وأسرة دلال ، تخبرها ليلى بهذا الموضوع ، وهى تحذرها :

– فتحى عيونك عدل يا سعاد .. خذى بالك .. ترى دلال ما راح تسكت .. وما راح تخلى جاسم .. ديرى بالك !

تحتار سعاد . تصمت . لا تعرف كيف تفاتح جاسم فى هذا الموضوع المحرج ، فهو لم يعد يتحدث معها أصلاً ، أصبح يدور على أى مؤتمر فى أى مكان كى لا يبقى فى البيت . إنه فى حالة بحث دائم ومستمر عن المؤتمرات ، وهى طبعاً لا تقدر أن تكلمه أو تفتح معه موضوعاً مثل هذا ، فهذه المؤتمرات والمحاضرات ، وهذا الكم من العمل من صلب عمله ، فلا تفعل شيئاً سوى أن تخفف غيابه عن أولادها الذين يفتقدونه ، ويبكون لكثرة غيابه عنهم ، لأنه ذوق معهم جداً ، يحبهم جداً ، وفى اللحظات التى يشوفهم فيها يكون فى منتهى السعادة .. لكنه غالباً لا يراهم !!

فى هذا الوقت ، تنظر دلال إلى جاسم على أنه من حقها وحدها ، وأنها لازم تسترد حقها الذى سلب منها ، فهى لا تنسى ما فعلته سعاد وليلى بها عندما أفسدتا العلاقة بينها وبين جاسم عندما قطعتا الإتصال بينهما ، فهى تحب جاسم وما تقبل تعيش من غيره ! ولازم جاسم يرجع لها .. نعم .. جاسم لازم يرجع لها .. إنها تعانى العذاب الآن بعد سفره ، وإبتعاده عنها !

ترفع دلال التليفون تتصل به تشكره على إهتمامه بجدتها . حتى أمها أيضاً تكلمه تشكره . تحييه . تخبره أن أمها بخير ، وأنها تتابع الفحوصات التى قال لها عليها ، حتى دانه تكلمه ، تطلب منه فيلم كارتونى للأطفال لم يصل إلى الكويت بعد . الكل يطلب منه . الكل يحييه . الكل يشكره .. الكل يحتاج إليه . الكل يمنحه إحساساً حقيقياً بأهميته .. بدوره .. بقيمته !

تظل دلال تتابع أخبار جاسم .. وتظل تنقم على سعاد ! تلك المرأة الغنية اللى فلوسها عندها . أبوها عندها . إخواتها عندها . حتى أولادها عندها . كل شئ عندها ! هى ليست محتاجة لجاسم مثلها .. هى صحيح أخذت جاسم منها .. لكنها ما حافظت عليه ! دمرته . ما أسعدته . تغير جاسم . ما عاد جاسم . صار واحد ثانى .. ما له علاقة بجاسم الذى تعرفه !

الأخبار تصل دلال إلى الكويت ، إن جاسم ما صار يشوف أحد ! ما عاد يقابل أحد ! ما عاد يتكلم مع أحد ! ما عاد أحد من أصحابه يروح البيت ! الكل لاحظ أن جاسم لم يعد يبتسم ! لم يعد يضحك ! لم يعد يرحب بهم ! لم يعد يرغب فى حضورهن .. فأنقطعوا عنه !! وسعاد .. مشغولة على طول الوقت بمشاريعها وشركاتها وعقاراتها ! فى
الواقع .. سعاد ما عندها وقت لجاسم ، أما هى .. فعندها كل الوقت .. كل الوقت .. كل الوقت .. !!

يبقى جاسم يفكر ماذا يصنع فى هذا الصراع الذى وقع فيه ؟! .. ماذا يفعل فى ذلك الموقف الصعب الذى يعانيه ؟ إنه لا يطيق البقاء . إنه شرب الدرس . وعرف أن سعاد سيدة أعمال مستقلة . ثرية . ثرية . فى غنى تام عنه . فى عدم إحتياج إليه . حتى أولاده .. صار لا يراهم إلا نادراً ، ومع ذلك هم مجتهدون فى مدارسهم .. لا يحسون النقص فى أى شئ ! يدرك جاسم إن الظروف الحين قد تغيرت ، كما يدرك إن كل شئ فى حياته لم يعد متوازناً كما كان !! يعود يتشكك فى حب زوجته له ، وحتى حب أولاده .. ! يعود يتأكد أنه لا يستطيع أن يحتمل ولا أن يقبل مثل هذه حياة .. !

لذا .. قرر جاسم الرجوع إلى الكويت ! ، قرر جاسم الرجوع إلى الكويت لأنه شعر بنفسه فى الكويت ، لمس قيمة نفسه فى الكويت ، أدرك أنه ما زال فى نظر الجميع هناك جاسم الناصر ذلك البطل القدير المحبوب من الجميع ، المطلوب من الجميع ، المرغوب من الجميع ! كما قرر أن ترجع سعاد إلى البيت مثلها مثل أى زوجة طبيب أخرى . مجرد امرأة عادية تراعى بيتها ، وعيالها ، وبس ! لكن .. كيف ينفذ ذلك ؟ إنه لا يعرف كيف يعبّر عن رأيه .. إنه لا يريد أن يقول لا !

والده .. الناس كلها تبوس يده كى يقول نعم ، لكن .. كيف تجبره سعاد أن يتخذ هذا الموقف المستبد ؟ كيف تجعله يتصرف بهذا الأسلوب معها ؟! لماذا تضعه فى هذا الموقف ؟ هو مدرك أنها لم تقصد أن تضعه فى مثل هذا الموقف .. الظروف هى التى وضعته ووضعتها !!

لكنه يعلم جيداً ، بالرغم أنه لا يد لسعاد فيما حدث ، إنما هى الظروف وحدها ، إلا أنه لا يستطيع أن يعيش فى ظل هذه الظروف . لا يقدر أن يستمر تحت ضغط هذه الظروف . لا يستطيع أن يمارس حياته بصورة طبيعية فى مثل هذه الظروف . صحيح .. لا ذنب لأحد فيما حدث . لكنه لا يستطيع الاستمرار .. لا يستطيع الاستمرار !

إحساسه الدائم والخفى بتفوق سعاد مادياً عليه . يشقيه . يعذبه . هو غضبان لأنه لا يقدر أن يمارس دوره . غضبان لأن سعاد استغنت عنه ، ولم تعد تطلب منه شيئاً . غضبان لأنها لا تطلب منه ويقول لها حاضر . غضبان لأنه لا يقدر أن يرشدها أو يشرح لها الأخبار بالإنجليزية ، أو يأخذها إلى مكان جميل تنبهر به . مكان لم تره من قبل . غضبان لأن أى مكان يذهبان إليه الناس تعرفها هى . تنظر إليها هى . تتهامس عليها
هى !!

غضبان منا لدراسات والأبحاث والنظريات الإقتصادية التى إحتلت الجانب الأكبر فى المكتبة ، فتضاءلت إلى جوارها أبحاثه ودراساته فى الطب .. ! غضبان لأن الأرض بجانب السرير مغطاة بالتقارير التى يجب أن تأخذ فيها سعاد قراراً محدداً قبل أن تنام ! غضبان من الكمبيوتر الذى دخل البيت ، وإتصل بالعمل ! ومن جهاز النداء الآلى الذى تحمله سعاد معها للإتصال بها عند الضرورة ، وكلما إليها !

صراحة .. لم ينتبه جاسم لكل ذلك من قبل ! لكنه وجد فجأة أن البيت صار بيت سعاد ! وأن الإتصالات المستمرة بها هى ، وإنشغالها وتفكيرها فى عملها لا ينقطع ! واضح الآن أن سعاد تبذل مجهوداً كى تسأل عن شغله . واضح أنها مجاملة . فى الأول كان إهتمامها حقيقياً ، لأنه لم يكن فى حياتها غيره ، لكن ، الآن .. أصبح سؤالها عنه وظيفة تؤديها ! وجاسم لاحظ أنها تهتم به عشرين دقيقة كل يوم !!

لاحظ جاسم أن سعاد وضعت فى جدولها اليومى ، عشرين دقيقة للسؤال عن عمله ! عن عمل جاسم ، والإهتمام بجاسم !! نعم .. لاحظ جاسم أن دور سعاد تجاهه أصبح وظيفة ، وليس من طبيعة الأمور ! لم تعد سعاد هى التى تنظر إليه على أنه البطل الوحيد فى حياتها . يعتقد جاسم أنه لم يد محور حياة سعاد . فحياتها مليئة مليئة . وهذا ما كان يضايق جاسم ويقتل فيه الإحساس بالرغبة فى الإستمرار فى مثل هذه حياة .. !

لم يعد جاسم يطيق البيت . لم يعد يطيق نفسه بعد إحساسه بالضآلة والقلة ، والرغبة الدائمة فى الإنزواء .. والإختباء ! كان الإحساس بالمرارة لديه سببه شعوره أنها هى التى ترغبه ، هى التى تريده ، إنه صار شيئاً فى حياتها ! شيئاً له أهمية خاصة لديها ! ربما لإستكمال مظهرها الاجتماعى الناجح ؟ ربما لأنها ترغب أن يكون لديها زوجاً شاباً ، وسيماً ، مشهوراً ، رياضياً ، طبيباً ناجحاً ، لإستكمال المظهر الاجتماعى المطلوب المناسب لمكانتها الحالية !

لكن .. جاسم يرفض أن يكون مرغوباً . يرفض أن يكون شيئاً . يرفض أن يكون إستكمالاً لمظهر إجتماعى . جاسم كغيره من الشباب العرب الذين يحبون ممارسة دورهم الطبيعى . أن تستمر سعاد معه ، لأنها حلوة . إمرأة . أنثى . يرغبها . يشتهيها . يريدها . نعم .. أن تستمر سعاد معه لأنها أم أولاده . لأنها تشرفه أمام غيره من الزملاء .. هو الذى يريدها أن تستمر معه لأنها زوجة ناجحة .. وأنثى مثيرة !

حقيقة الأمر .. لم يكن عند جاسم أى مانع أن تكون سعاد إستكمالاً لمظهره
الإجتماعى . لكن .. هو لديه ألف مانع أن يكون جاسم الناصر إستكمالاً لمظهر سعاد الإجتماعى !!

وذات يوم .. وهما يتناولان طعام الإفطار ، كالعادة ، مبكر جداً ، قبل طلوع النهار ، بلا حوار . بلا جدال . بلا نقاش ، يخبر جاسم سعاد :

– آه .. ترى سعاد .. بقولك . أنا حجزت يوم 21 فبراير عشان نرد الكويت مرة واحدة .

هنا .. تفاجأ سعاد لأنه يقول لها سنرجع الشهر القادم ! كانت مفاجأة صاعقة لها إلى درجة جعلتها لا تعرف كيف ترد وهى تسمع جاسم يقول ببساطة :

– آه .. ترى سعاد بقولك .. إحنا راجعين الكويت إن شاء الله بعد حوالى ثلاثة أسابيع .. لأنى حجزت يوم 21 فبراير بدل ما ننتظر لحد شهر سبتمبر .. !

مفاجأة خطيرة لسعاد ! هى من فترة تشعر أن جاسم ينسحب منها ! يتباعد عنها ! يتهرب إلى المؤتمرات !! تتذكر تحذيرات ليلى على الفور ، وهى تنبئها أكثر من مرة ، وتلمّح لها ألف مرة ، كى تأخذ بالها ، وتنبهها كى تحترس من دلال .. تعود تقول لجاسم :

– أنا أدرى أن عقد الوظيفة مستمر لغاية 15/8/1990 فأيش لون تقدر تسافر الحين يا جاسم وتخلى المستشفى ؟!

يرد بهدوء :

– هذا صحيح .. بس أنا تفاهمت معاهم فى المستشفى .. قلت لهم إنى راح اشتغل نصف المدة وما راح أكمل السنة .. وأنا الحمد لله رتبت كل شئ فى الكويت .. وقبلت عرض وزارة الصحة لتعيينى رئيس قسم القلب فى مستشفى مبارك الكبير .

آه .. تصرخ سعاد ملتاعة من قلبها ، تقول جازعة لنفسها :

– رتبت كل شئ يا جاسم .. وأنا آخر من يعلم ؟! إيش أقدر أنهى كل أعمالى هنا فى قلاقة أسابيع بس ؟! إيش لون ؟! ليش ما قلت لى من الأول يا جاسم .. ليش ؟! 

تسأل بصوت متلهف :

– ومدارس الأولاد والشركة والبيت ؟! إحنا ما قدمنا للأولاد فى مدارس الكويت .. وهذه أشياء تحتاج وقت طويل يا جاسم .. ما يصير نرجع فى نصف العام الدراسى .. ما يصير الحين نسا .. يقاطعها جاسم فى إصرار :

– لا تحملين هم .. كل شئ راح يتدبر .. هذه كلها أشياء بسيطة .. ما عليك .. خليها علىّ أنا .. راح أدبر كل شئ هناك ..

تغلى دماء سعاد فى عروقها . لكنها تكظم غيظها . إنه حتى لم يعطها فرصة للسؤال عن التقديم للأولاد فى المدارس !! متى ستلحق تستعد لهذه النقلة الكبيرة المفاجئة ؟! كيف ستقدر أن ترتب حياتها فى الكويت بعد كل هذه السنوات من الغياب ؟!

آه .. تعود سعاد تتساءل بينها وبين نفسها ومليون استفهام يلف ويدور فى عقلها :

– .. ما هو قصد جاسم بهذه الحركة ؟ هو ما ينسى شئ بالمرة .. هو إنسان دقيق منظم .. طول عمره يقدر يوفق بين كرة القدم والطب .. هو حصل على أعلى شهادة فى جراحة القلب .. مثل ما وصل إلى أعلى مستوى فى الكورة وصار كابتن فريق المنتخب الوطنى .. فكيف يتصرف وياى بهالطريقة العفوية ؟! لا .. لا .. هذا الشئ ما يفوت على جاسم .. ليش ما قال لى أول ما إتخذ القرار ؟ ليش يجعل الموضوع بالنسبة لى كأنه جاء صدفة ؟! وأنا أدرى أنه مرتب أموره من أول .. وأن هذا الموضوع ما هو صدفة ؟! 

تتنهد سعاد .. تناجى ذاتها فى حيرة وأسى وألم :

– آه .. ليش يهملنى بهالطريقة ؟ ليش يريد لى إنى مانى مهمه فى حياته إلى هالحد ؟! ليش يريد يشعرنى إن أرانى غير مهمة .. وأن قرارى غير مهم .. حتى علمى بالموضوع .. غير مهم .. غير مهم ؟! ليش ؟! ليش ؟!

تبقى تتساءل سعاد وهى غارقة فى حيرتها ، حول مغزى هذه الحركة الغريبة من جاسم ، وهذاالموقف العجيب الذى بدر منه ، تتساءل دون أن تفهم السبب ، دون أن تعرف السبب ، وفى داخلها سؤال واحد يهّز أعماقها :

– ترى جاسم يريدنى .. وألا صار الحين يبى دلال ؟!

و .. تبدأ سعاد تربط هذه المتغيرات التى أخذت تحدث فى حياتها بعد ظهور دلال على خريطة حياة جاسم ! نعم .. دلال ظهرت فى نفس وقت رحلة ” نيويورك ” وإكتشاف جاسم لأمر الملايين فى حساب شركة سعاد ! سعاد لم تكن تدرك أن دلال ظهرت فى نفس اللحظة التى أفاق فيها جاسم ، وعرف أن حياته تغيرت وأن سعاد لم تلك الطفلة التى تزوجها وإنما أصبحت سيدة أعمال تملك شركات إستثمارية ضخمة تقدر بملايين الدولارات !

لم تفهم سعاد أن ظهور دلال جاء فى نفس الوقت الذى أدرك فيه جاسم حقيقة الوضع المادى الجديد ! لذا .. كانت سعاد معذورة فى إعتقادها أن دلال هى السبب الوحيد والمباشر فى تغير جاسم نحوها ! .. ففى الواقع لم يخطر ببالها أنه ربما يكون هناك سبباً آخر
غيرها !

وتمضى فى لمح البصر المهلة البسيطة التى حددها جاسم لسعاد .. وفى صباح يوم السفر ، تستيقظ الأسرة مبكراً . تقوم المربية بإعداد الأطفال للسفر . يحضر السائق لإنزال الحقائب ، يخرج الجميع لركوب السيارات متجهين إلى المطار . تترك سعاد خطاباً لمدير الشركة على المائدة يحوى آخر التعليمات وشكرها وتقديرها للمجهودات التى بذلها خلال السنوات التى عمل لديها .

تقف سعاد تنظر إلى البيت بحب وحنين ، فهذا هو البيت الذى حملت فيه ، وتربى فيه أحمد وأنوار وراكان . هذا هو البيت الذى سهرت فيه الليالى الحلوة مع جاسم ، ثم سهرت فيه الليالى الطويلة لدراستها ، والليالى العديدة لرعاية أطفالها ، كما سهرت فيه لإدارة أعمالها ! هذا هو البيت الذى أحبت فيه رائحة القهوة فى الصباح ، وموائد الإفطار قبل ذهاب الصغار إلى مدارسهم . هذا هو البيت الذى إكتمل فيه حبها ، ونجاحها ، وأنهى فيه جاسم دراسته وحصل على درجة الزمالة فى الجراحة .

.. هذا هو البيت الذى شهد مآدب الغذاء فى عطلة نهاية الأسبوع ، وموائد الإفطار فى شهر رمضان لزملاء وأصدقاء جاسم .. هذا هو البيت الذى صارت فيه أم أحمد وأنوار وراكان .. هذا هو البيت الذى شهد سبع سنوات من أجل سنوات عمرها وأسعد فترة فى حياتها .. !

تنظر سعاد مرة أخرى إلى البيت بحب .. لكنه كان حباً يشوبه الحزن ، إذ هى تغادره خائفة ! لم تكن تود أن تغادر هذا البيت بهذه الطريقة ، وبهذا الشعور .. فهى تجهل سبب هذا الموقف الطارئ الذى إتخذخ جاسم نحوها ! حقاً .. لم تعد تعرف ما يوجد فى رأس جاسم .. ولا فى قلبه !!

تنطلق السيارة فوق طرق بيضاء . تنظر سعاد إلى البياض الذى يغطى كل شئ فى المدينة . فتشعر إن قلبها يهبط . ينقبض . هذا البياض مخيف . مخيف . إنه لون الكفن .. ترى .. هل سيموت حبها ؟ هل سيدفن ويتوارى فى مثل هذا البياض ؟!

تتذكر سعاد منظر المدينة عندما رأتها لأول مرة قبل أن تتزوج جاسم ، عندما كان يموج كل ركن فيها بالفرح . بالحياة . كانت كل زاوية فيها تعكس أشعة الشمس ، فتظهر من كل ثغرة فيها نبتة .. كانت مدينة مبهجة خضراء . مدينة تبتسم فى مودة ، تستقبل القادمين بحب وترحاب ..!

تنظر سعاد إلى الطريق أمامها . فتلتاع نفسها . تجزع روحها ، فهذه الأشجار مخيفة .. أشجار شبة ميتة ! مستحيل أن تكون أشجاراً فيها حياة .. لا .. إنها أشجار مرعبة ! ترقب سعاد المنظر فى ذعر ، كأنها تشاهد فيلماً من أفلام الرعب .. ! يا إلهى .. أهذه هى نفسها ذات الأشجار الجميلةالتى رأتها لأول مرة ؟! .. لا .. مستحيل .. مستحيل .. أنها تختلف ! تختلف !

تستمر السيارة فى سرعتها تنهب الأرض نهباً إلى المطار ، فى حين تشيح سعاد بوجهها عن هذه المدينة البيضاء الشاحبة الباهتة ، التى يبدو أنها قد نزفت دمائها ، قطرة قطرة ، حتى لم تعد بها نقطة واحدة توحى أنها ما تزال .. على قيد الحياة !

الفصل الرابع عشر

أنوار العيــــد

تطول الرحلة ، تستغرق حوالى ثمانية عشر ساعة ، يبدو الإرهاق النفسى على ملامح سعاد ، التى تشعر قلقاً خفياً يعترى قلبها ، وإنقباضاً مخيفاً عميقاً يسمم إحساسها ، يضخ فيها شعوراً حاداً بالتوتر والتوجس ، وتوقع الخطر !

تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، تحاول أن تبعد الهواجس عن نفسها ، تحاول أن تبدو أكثر تفاؤلاً مما تشعر ، تبحث بعناء عن إبتسامة ترسمها على وجهها ، لكنها ، تأتى إبتسامة باهتة ، شاحبة !

.. فى حين يبدو جاسم طول الوقت أكثر خفة ونشاطاً على غير عادته ! تصرفاته الآن فيها حيوية زائدة ، وحركة كثيرة ، تختلف عما كانت عليه فى الفترة الأخيرة فى
أمريكا ! واضح أنه الحين أكثر سعادة من زوجته ، التى تكاد تسقط من طولها ، خوفاً ،
وقلقاً ، ورهبة ! أما الأطفال فكانوا يلتفّون حول والدهم الذى يفرحهم وجوده معهم كل هذا الوقت المتصل ، صار لهم زمان لم يجتمعوا كلهم معاً .

 يحادث أحمد المربية البرازيلية يصف لها الكويت ، وبحر الكويت ، والرمال الناعمة على الشاطئ الطويل ، والأبراج الزرقاء التى يوجد بها مطعم جميل ، وأرض تدور تخليها تشوف الكويت من كل الجهات ! يعدها أحمد بأنه سيأخذها يوماً إلى هناك ، وسيأخذها
فى نزهة بحرية فى اليخت الخاص الذى يملكه جده سالم ، وأنه سوف يعلمها كيف تصطاد السمك !

يعدها أحمد أيضاً بأنه سيأخذها معه إلى النادى لتراه وهو يلعب الكاراتيه والجودو والتايكوندو مع منصور ابن خاله فيصل .. وما أن تسمع أنواع اسم منصور حتى تقاطع أحمد فتكلم مربيتها عنه فى حماس شديد وهى تصفه لها :

– ترى منصور بطل .. منصور يقدر يغلبك أنت لو لعب معاك كاراتيه .., منصور قوى وايد ما حد يقدر يغلبه !

و .. تبدأ إحتفالات عيد الكويت الوطنى التاسع والعشرون .. يأخذ بدر أحمد وأنوار وراكان ، ومربيتهم البرازيلية معه فى السيارة المكشوفة ، كما يأخذ منصور ابن أخيه فيصل ، ومريم ومنى وفضة بنات أخيه عبد الله ومربيتهم الفلبينية ، ويذهب بهم جميعهم مع أصحابه ، مع الربع ، إلى حيث ينضم للركب الكبير الذى ينطلق يعبر عن الفرحة بالعيد الوطنى فى شارع الخليج العربى !

ترتدى البنات اثواباً على هيئة علم الكويت ، فى حين يلبس الصيبان ” تى شيرت ” عليه العلم الكويتى ، وهم يرفعون صور الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير البلاد وولى العهد الأمين الشيخ سعاد العبد الله الصباح ، كما يلوحون بالأعلام عالياً فى أجواء الكويت .. الكل يرقص . الكل يغنى . الكل يعبر عن الحب الكبير للكويت .

تنطلق الفرحة من القلوب ، تخرج إلى كل أنحاء الديرة ، تشمل كل الكويت الحبيبة ، فيشعر الجميع بجمال عيدها وبهجة أهلها وحلاوة أيامها ، الفرحة تطغى كل شئ ، تعم الهواء والأرض والسماء ، حتى البحر تضحك ، كل شئ فى الشارع الكبير يضحك ، الشباب فى السيارات من الجنسين يعبرّون عن سعادتهم بإطلاق الألعاب الصغيرة على بعضهم البعض ، ذاك النوع من الرغاوى التى تيبس بمجرد أن تلامس الهواء ، وتتحول إلى خيوط جميلة ملونة من البلاستيك تلتص بالشعر والملابس .. البالونات أيضاً والزمامير ، الصفافير ، الطراطير الملونة ، شرائط الأوراق الذهبية والفضية وكل الألوان ، كل شئ .. كل شئ يبتدى من صنوف الزينة والفرحة .. صدق عيد .. عيد الكويت الوطنى المجيد .

تظل الكويت ساهرة تطلق فرحتها بعيدها الوطنى ، فالمنشآت الحكومية ، والمبانى العامة ، ومجلس الأمة ، والوزارات ، والفنادق تغطيها حبال اللمبات المضيئة الملونة ، والأعلام ترتفع فوق هامات الأبنية ، كل شئ فى الكويت يضحك ، يفرح بعيد الاستقلال التاسع والعشرين ، الأغانى الوطنية الحماسية تسمع عن بعد فى مسجلات السيارات ، يتوقف الشباب أحياناً ، يفتحون الأبواب وينزلون يرقصون فى الشارع ثم يقفزون يركبون السيارات ثانية ، وكل من فى الكويت يغنى للكويت :

يا كويتنا يا حبيبة من عندنا غيرك وتدومى فرحانة

يقف الشباب فى السيارات المكشوفة السقف ، يرقصون ، يلوحون ، يغنون ، يعابثون الشباب فى السيارات الأخرى ، وهم يضغطون على الإسبراى الذى يجمد ويصير كالمطاط بمجرد أن يلامس الهواء .. فرحة .. فرحة طاغية وبهجة كبيرة عارمة ، وشعور رائع بالانتصار والسرور بالديرة ، وأهل الديرة ، والأمير وولى العهد الأمين ، والشعب الكويتى الأصيل ، والأرض الطيبة :

يا أرضنا يا لطيبة من عندنا غيرك .. والمولى يرعانا 

تستمر إحتفالات عيد الكويت الوطنى طوال يوم الأحد الموافق 25/2/1990 ، يعقبها إحتفال آخر رائع بديع يقام يوم الثلاثاء 27/2/1992 عيد ميلاد أنوار .. الذى تم الإعداد له فى بيتهم فى كيفان ، حيث وجهت الدعوى لأطفال العائلة لحضوره وأولهم منصور ولد خالها فيصل ، الذى تحبه أنوار وتموت عليه ، كما تأتى مريم ومنى وفضة بنات خالها عبد الله ، ومجموعة كبيرة من تلاميذ فصلها ، جاءوا يحضرون الإحتفال بعيد ميلادها الرابع ، الذى تم الترتيب له منذ لحظة وصولهم إلى الكويت !

تتجمع البالونات اللامعة المنفوخة بالغاز فى سقف القاعة الكبيرة ، التى تكاد تتغطى بالزينة البراقة الملونة ، وترتفع فى الركن كومة من الهدايا الملفوفة بالأوراق اللامعة لتقدمها أنواع أثناء عيد ميلادها عبر مسابقات مختلفة إلى الأطفال أصحابها ، وفى ركن آخر تبدأ ترتفع كومة أخرى حيث تضع أنوار الهدايا التى تتلقاها من أقاربها وأصدقائها ، وبنات وأبناء جيرانها ، وأصدقاء أبيها وصديقات أمها .

كان الحفل جميلاً بهيجاً حرص جاسم هذه المرة أن يحضره ، فازداد بهجة وجمالاً ، كان جاسم حريصاً على حضور عيد ميلاد أنوار ليعّوض غيابه عن حفل عيد ميلاد أحمد عندما كان فى الكويت فى شهر أكتوبر الماضى ، و .. ربما لأنه كان فى شوق لأن يتواجد مع أسرته وأبنائه ، بين أهله وأصحابه وزملائه ، الذين حرصوا جميعهم على الحضور والتجمع فى هذه المناسبة الجميلة المفرحة ، التى كانت أنوار تتألق فيها كعروس لعبة جميلة بفستانها الوردى الطويل ، الذى يظهر روعته شعرها الناعم المنسدل على ظهرها ، ويزيده جمالاً الأساور الذهبية ، والمحزم الذهب حول وسطها ، والحذاء والشراب المطرز بالفصوص الماسية .. كانت حقاً عروساً تتحرك ، تثب ، تقفز ، تخطر وسط الحاضرين كأجمل ،
وأبهج ، ما تكون .. وأشيك ما تكون !

الحفل كان رائعاً ، والفرقة الموسيقية التى أحيته كانت مدربة خير تدريب على إحياء حفلات الأطفال ، وأغانى وموسيقى الأطفال ، ومسابقات الأطفال ، التى كان منصور يفوز بأغلب جوائزها ، فهو سريع الحركة ، ، خفيف الدم ، لمّاح ، يعرف كيف يقتنص الحل ، ويفوز بالجوائز .. كما يعرف كيف يحظى بالتصفيق .. وينال الإعجاب !

كان الكل يضحك ويمرح . صدق .. أعياد الكويت كلها أعياد ، والفرحة فى الوطن ما لها مثيل بين الأحباب ! عاشت الديرة وعاش أهلها ، تسلم الكويت ، عاشت الكويت .. فعلاً .. الحياة بين ربوع الوطن شئ آخر ، يختلف عن الحياة بعيداً عن الأرض ، الأهل ، الناس ، هؤلاء الذين يمنحون الحب ، الوّد ، التعاطف ، الإحساس .. !

كانت هذه المشاعر كلها تتجمع خلال الحفل الذى حضره عدد كبير من أصدقاء جاسم لاعبى كرة القدم ، الذين حرصوا أن يشاركوه فرحته بعيد ميلاد أنوار ابنته ، حيث أنها المناسبة الأولى التى يحتفل بها جاسم بين أهله ، وأصحابه ، وزملائه ، فى وطنه ، فى
ديرته ، بين أبناء عشيرته .. الله .. ما أروع العودة إلى الوطن بعد طول غياب .. وما أجمل لقاء الأحباب .. بعد طول إغتراب !

فى الواقع ، كان جاسم سعيداً كل السعادة بتواجده فى الكويت وسط الأهل ، وسط الأحباب ، وسط الناس الطيبة ، فوق الأرض الطيبة التى تسبغ الحب والحنان على أهلها ، ومواطنيها ، وشعبها ، دامت الكويت .. عاشت الكويت .. حفظ الله الكويت وشعبها ، دامت الكويت .. عاشت الكويت .. حفظ الله الكويت وشعبها من كل مكروه وشر .

ينتهى الحفل .. يمعن الليل أبحاراً وإنحساراً .. وجاسم لم يعد بعد ! خرج مع أصحابه ، لكنه حتى الآن لم يعد .. ! آه .. الليل الطويل الممّل يبيت حزيناً ، يزيد إلحاحاً ، يفيض احتياجاً ، مثلها ، إلى وجود جاسم الغائب دائماً !! تنظر سعاد إلى الفراش الخالى ، الفاضى بدونه ، البارد من غيره ، الذى لم يعد يعّطره بعبق أنفاسه ومشاعره ، تلك التى تحبها وتشتاقها .. يالله .. الصبر يا رب .. الصبر .

يضيق صدر سعاد وهى ترى جاسم يتمادى ، يستمر ، يتزايد ، يمتد ، تتنهد فى اسى ، تتساءل فى عذاب :

– يا رب .. شنو سوّيت بحياتى عشان جاسم يعاملنى بهالأسلوب ؟! ليش يعاقبنى كل هالعقاب ؟! أنا ما سو!يت شئ غلط .. ما سوّيت شئ غلط !!

آه .. لا تدرى ماذا تفعل سعاد ، عزاؤها الوحيد فى هذه الفترة العصيبة من عمرها إن ليلى ووالدها وأمها يحبونها كل الحب ويعوضونها بعاطفتهم الجياشة عن هذا الجفاف العاطفى الذى أخذ يتسرب إلى أعماق نفسها .. فتكاد تيبس روحها .. وتجف بدورها !

صدق .. سعاد تحس إن أهل جاسم فرحين بوجودها ، لكنها تحب جاسم ، تريد جاسم ، وهى لا تدرى ماذا تفعل كى تقضى على هذا الصّد ؟ كى تزيح هذا السد ؟ أنها لا تجد وسيلة لوقف هذا الهجر ! فى جميع الحالات جاسم ليس له عذر فيما يفعل ! تعود .. تفتح صوتاً ينساب إليها عبر الأثير ..

تشكى لى ما يفيد أنا فى هجرك أزيد

العوازل خلّى تفيدك وأنا عن عينك بعيد

كم تزجيتك ولكن أنت يا ظالم عنيد

و .. تمضى سعاد ليلة أخرى ، ليلة مثل غيرها من تلك الليالى الطوال الطوال ، تبات تعد نجوم الليل واحدة ، واحدة ، تبات تحدق فى جو معتم ، أسود ، مقبض ، تتنهد ، تقول تواسى نفسها :

– صحيح .. جاسم مشغول وإهتمامه الحين كله ينصب على عمله لأنه طبيب بارز له مكانته ويجوز يكون مشغول زيادة عن اللزوم هذه الأيام عشان إحتفالات يوم الصحة العالمى اللى راح تبدأ الشهر الجاى .. فى أول مايو .. بس هذا مو سبب كافى إنه يتجاهلنى بهالشكل .. مو معقول يظل هاجرنى كل هالأيام والليالى كانى مو موجودة قدامه .. ؟! مو معقول ؟! يعنى أنا مالى وجود فى حياته ؟!

ينغلق قلب سعاد على كم هائل من الهم والأسى والحيرة والعذاب ، بسب هذا الهجر والبعاد ! ينطفئ وجهها كمداً وغيظاً ، تحس قهراً وحزناً ، وهى تفكر بينها وبين نفسها فى أمر جاسم الذى يتجاهلها ، يهجرها ، ينصرف عنها  .. !! آه .. هى دلال إذن ! نعم .. دلال أخذته مرة ثانية منى ، عرفت كيف تناله كله هذه المرة !!

.. تنهض سعاد فى الصباح تتابع إعداد أطفالها للمدرسة ، تعتذر لهم عن عدم ذهابها معهم اليوم بسبب تعبها وإرهاقها ، تطلب من السائق أن يوصلهم بدلاً منها ، تعود تنزل إلى المطبخ تعد لنفسها قدحاً من القهوة ، تجلس تحت فى القاعة الكبيرة على نفس مقعد جاسم الذى تشتاق إليه ، تتشمم رائحته ، تحن إلى وجوده بجانبها .. تجلس تحتسى القهوة وحدها .. !

.. فى تلك اللحظة تلمح سعاد سيارة بلون سيارة أمها ، وما تلبث أن ترى سائقها الهندى يدفع باب البيت الخارجى الذى تركته أنوار مفتوحاً خلفها ، تنهض سعاد مضطربة من مقعدها ، تقفز السلم جازعة بسبب رؤية أمها التى تتجه إليها مسرعة فى هذا الوقت المبكر من الصباح ، وقد لفح الهواء أطراف عبائتها السوداء إلى الوراء .. !

تفاجأ سعاد بحضور أمها فتسألها فى لهفة :

– خير يوماً أبوى فيه شئ ؟ صار عليكم شئ ؟!

تهدئ أمها روعها ، تقول لها وهى تبتسم :

– ما فينا إلا الخير يا بنيتى .. بس أبوك يبيك الحين تجين وياى البيت .. هو يبى يشوفك عشان يتكلم معاك .. هو ما نام طول الليل .. قعد قبل الفجر وقال لى لازم تروحين تجيبين لى سعاد .. بنتى فيها شئ .. أمى فيها شئ .. أنا مانى مرتاح .. ترى حال سعاد هالأيام موعاجبنى .. مانى مرتاح .. هاتى لى سعاد .. هاتى لى أمى !

ترتدى سعاد ملابسها على عجل ، فهى تعرف حب أبيها لها ، وتعلقه بها ، وقلقه عليها ، تجلس أم سعاد تشرب الشاى مع أختها ، فى حين كانت ليلى تستعد للخروج إلى الجامعة ، بينما كانت سعاد تتأهب للذهاب إلى بيت أبيها ، وقبل أن تغادر البيت ، توقظ جاسم من نومه تستأذنه ، فيبدأ يتقلب فى فراشه إستعداداً للنهوض والخروج إلى عمله فى مستشفى مبارك .

يهم أبو جاسم بمغادرة البيت ، يسلم على أم عبد الله ، يطلب منها السلام إلى أبو عبد الله ، يسأل عن أحواله ، ثم يغادر إلى عمله فى وزارة الدفاع ، وبعده تذهب سعاد مع أمها إلى بيت والدها فى الشامية وهى ما تزال حزينة الروح ، جريحة الفؤاد ، فالحال أصبح لا يحتمل .. لا يطاق !

تسأل أمها فى حنان :

– مالك سعاد .. أيش فيك يا بنيتى ؟!

تنفجر سعاد :

– أنا ما عدت أقدر أتحمّل يوماً .. ما أقدر .. صبرى نفد .. خلاص ما عاد فينى صبر مرة واحدة !

تسأل الأم فى جزع :

– خير يا بنيتى .. أكو شئ مزعلك ؟!

خير .. فيك شئ ؟! قاصر عليك ؟! .. جاسم سوى شئ ؟!

تقول سعاد باكية :

– يا ليته سوى شئ .. يا ليته .. جاسم ما عاد يشوفنى .. ما عاد يحس فينى .. ما عاد يعتبرنى زوجته .. جاسم خلاص .. راح .. راح .. !

تجيبها الأم فى عطف وإشفاق :

– لا .. طوّلى بالك .. جاسم يحبك ويخاف عليك .. بس يجوز أنه مشغول شوىّ هالأيام .. أكيد عنده شغل وايد .. زوجك طبيب يا سعاد ومسئولياته كثيرة .. طولّى بالك عليه شوى يا بنيتى .. طوّلى بالك .

– لا يومّا .. جاسم راح من زمان .. بس أنا ساكته ما أتكلم .. ما كان ودّى أبوح وأقولك بس لولا جيتك اليوم .. ما كنت قلت شئ ولا تكلمت فى شئ .. و .. و .. و .. !!

تقترب السيارة من البيت الأبيض الكبير فى الشامية ، تمسح سعاد دموعها بسرعة كى لا يلمحها أباها ، لكنها تفاجأ به واقفاً أمام باب البيت الخارجى .. منتظراً حضورها .. مشتاقاً لرؤياها !

تنزل سعاد من السيارة وهى لا تتمالك نفسها من آثار هذا الانهيار الذى فجرّته أسئلة أمها ، تسلم على والدها وهى تتباعد عن عينيه بعينيها حتى لا يرى آثار الدموع على وجهها ، تدلف إلى الداخل ، وهى تطرق إلى الأرض برأسها ، كأنها تعد أزهار الحديقة المزروعة فى تنسيق بالقرب من أقدامها !!

تدخل القاعة ، تجلس ، فى حين يتجه أبيها إلى جهاز التسجيل يضغط زراً .. فينساب صوتاً يحبه كلاهما ، صوتاً يرتبطان به كلاهما ، صوتاً له ذكريات عزيزة غالية عليهما .. !

تجلس سعاد تغالب بصعوبة دموعها ، وهى تسمع أغنية عزيزة تحمل ذكريات حميمة حبيبة إلى قلبها ، يعود أبيها يجلس بجوارها ، يبحث عن إبتسامة حلوة ، يحبها ، يريدها ، يقترب برأسه يلامس به رأسها ، وهو يهزها مع كلمات الأغنية العذبة التى يرددها بصوته الدافئ ، الحنون ، فى حين يغنى لها وحدها ، وهو يلصق خده بخدها .. !

يا ليل دانا لنا ..

يا ليل دانا .. لدانا .

مجروح وقلبى إنكوى

هايم فى حبه وغرامه

يزداد شوقه هيام

يا ليل دانا لدانا ..

تظل سعاد تسمع ، وتسمع ، تظل تتماسك ، وتتماسك ، تظل تقاوم وتصارع دموعها ، لكنها ، ما تلبث أن تنهار فى بكاء حاد رهيب ، بعد أن أحست دموع أبيها تسيل ، وتسيل ، تبلل وجهه .. ووجهها !!


الفصل الخامس عشر

.. هــول المفاجأة !

ترتاح سعاد للقرار الذى أتخذه أبوها نيابة عنها ، بعد أن صمم أنها تسافر أمريكا وتروح تغير جو ، وتعود بعض الوقت إلى عملها ، الذى يشغلها عن نفسها ، وعن مشاكلها مع زوجها ، يضمم أيضاً أن تسافر معها أمها لتكون فى صحبتها ، تسليها وتؤنسها ، بهد أن لاحظ أنها مصابة باكتئاب حاد يكاد يقضى على حيويتها ، ويبدد طاقتها ، ويتلف جمالها ! يصمم الأب على ذلك بشدة ، وهو يقول لأبنته :

– إذا ما وافق جاسم على سفرك خلينى أنا أكلمه .

تجيبه سعاد مهزومة يائسة :

– لا تخاف يوّبا .. جاسم ما راح يرفض .. راح يوافق على طول .

وبالفعل .. لا يعترض جاسم على سفر سعاد والأولاد إلى أمريكا ، خاصة وأن عطلة الصيف قد بدأت ، وهو مشغول تماماً بين عمله فى المستشفى ، ولعب الكرة فى النادى !

ترحل سعاد عائدة إلى أمريكا ، تقبع فى مقعدها داخل الطائرة تنظر إلى الكويت حزينة ، مهمومة ، منقبضة ، رغم أنها تأبى أن تفكر فى موقف جاسم المخزل المحبط ، ترفض أن تعترف بوضعها الحالى ، فتحاول أن تحارب شعورها بالحزن والأسى والانسحاق الذى جعلها تتضاءل وتتضاءل ، حيال صورة دلال التى ظهرت عند خط الأفق ، وأخذت تكبر وتكبر وتكبر .. فى حين بدأت تحلق الطائرة !

.. تدخل سعاد بيتها فى ” سيراكوز ” فتدهمها الذكريات . كل الذكريات . ترنو إلى الصور التى تغطى الجدران وتملأ الطاولات فى البراويز الصغيرة التى تتناثر فوق رف المدفأة الرخامى ، فتعتريها رجفة شوق ورعشة وحشة وهى تجوب بقلبها أرجاء المكان غارقة فى صمت شارد ، غائصة فى حزن جارف ، فى حين تتقدم نحو غرفتها تستضئ بومض الذكرى الذى يحيل عتمة البيت ضوءاً باهراً ينير ظلام روحها المطفأة !

تنحدر دموعها مستنكرة ما وصل إليه حالها مع جاسم ! تتداعى الذكريات ، تنهمر دفعة واحدة ! هذه صورتها معه ، ألتقطت لهما فى شهر العسل . وهذه صورتها لوحدها وهى حامل . تبتسم ، وهى تذكر كيف إلتقط لها جاسم هذه الصورة من زاوية معينة توضح ضخامة بطنها ! كان جاسم يصورها وهو غارق فى الضحك . يكاد يقع على ظهره . كانت حامل فى شهرها التاسع فى أحمد ، وكان الوقت بارداً ، ورغم البلوفر الصوف الثقيل وبالطو المطر إلا أن الصورة أظهرت حجم بطنها الضخم المنتفخ !

وهذه صورة أخرى ألتقطت لهما فى حى ” مانهاتن ” فى ” نيويورك ” ، حينما كانا يتناولان العشاء فى الفندق أيام شهر العسل وهما فى حالة حب متصل ! وهذه صورة جاسم وهو يتناول طعام الغداء مع صديقه نايف وعدد آخر من الأطباء فى عطلة نهاية الأسبوع أثناء إجتماعهم لمناقشة مشروع المستشفى الخاص بهم ! وهذه صورتهم كلهم ومعهم ليلى وهم يلتقطون أنفاسهم ، والعرق يبلل ملابس ، بينما هم يجلسون يأكلون السندوتشات والبطيخ بعد أن لعبوا الكرة فى إحدى الحدائق يوم الرابع من يوليو وهو عيد إستقلال أمريكــا .

تبتسم سعاد فى حنان .. تناجى نفسها ودموعها ما تزال تفيض فوق وجهها . تسرح بعيداً تحلق بخيالها .. تتنهد .. آه .. ما أحلى تلك الأيام ! ما أحلى تلك الأيام !! ها هى صورة جاسم لوحده وهو يبتسم . تحس سعاد أنه يبتسم لها ، وهو يحدق فيها بعينيه الواسعتين العميقتين اللتين إعتادتا أن تخترقاها .. حتى عمق الأعماق ! فتحس إنها تموت شوقاً إليه ، تعتب عليه كل هذا الغياب بعيداً عنها .. تتنهد .. آه يا جاسم .. الأيام تمر من غيرك كأنها سنوات .. تتساءل سعاد فى حسرة آسية :

– ترى شنو تسوى الحين يا جاسم ؟

يعود ينطلق داخلها لحن شجىّ تحبه . تطرب إليه . تصحبه كلمات كالحلم . تنصت بإحساسها .. وحبها .. وشوقها .. وحنينها ..

إنت ياللى عنى غايب فى ديارك البعيدة

مثل قلبكِ إنت دايب وألا أيامك سعيدة

قلت شسّوى شوقى زايد

طال غيابك عنى وايد

إنت ياللى عنى غايب

تصحو سعاد من خواطرها على صوت أمها يناديها ، تمسح دمعها بسرعة ، تمضى إليها ، لكنها لا تستطيع أن تخفى سمات الحزن بنفس السرعة ، فتظل مرتسمة واضحة على وجهها ، فتسألها أمها جازعة واجفة :

– مالك سعاد .. فيك شئ ؟!

تحتوى سعاد أمها فى حنان . تضمها بين ذراعيها فى حب . تقول بصوت تدارى
فيه شعورها اليائس المشوب بالألم والأسى وهى تسند رأسها على كتفها وتدس وجهها بالقرب من وجهها .

– أنا بخير يوّما .. ما فينى شئ .. ما فينى شئ .

تسكت الأم على مضض ، فهى لا تريد أن تنكأ جراح إبنتها بكلامها ، ولا تريد أن تثير مشاعرها مرة ثانية ، ولا أن تحرك أحزانها ، فهى تفهم سبب علّتها ، وتعرف سر تعاستها ، فالأمر الحين لم يعد سراً يخفى على أحد .. الكل يعتقد إن جاسم يركض وراء دلال ، والكل يدرى أن جاسم صار يهمل سعاد .. وما عاد يسأل عنها مرة واحدة !

تطلب الأم من سعاد أن تتصل بأبيها فى الكويت ليطمئن على وصولهم . تتصل سعاد . تكلمه . يرتاح . يهدأ . فى نفس الوقت تتصل بالبيت لتخبر جاسم بسلامة وصولهم . لكنها لا تجده ! تكلم ليلى وخالتها تطمئنهم على وصولهم بالسلامة ، أما زوج خالتها فقد كان نائماً .

بعد قليل ، يأتى أحمد يطلب أن يكلم أبيه ، فتخبره سعاد أنه ليس موجوداً بالبيت الحين ، فيطلب أن يتحدث إلى جده :

– ترى جدى وحشنى وايد .. وايد .

تتصل سعاد بأبيها مرة أخرى ، فيكلمه أحمد فى حماس شديد :

– وصلنا بالسلامة .. لا تخاف عليهم .. ترى أنا وياهم .. لا تحمل همهم .. راح أظل شوىّ فى أمريكا .. وبعدين راح أجيك الكويت نقضى العطلة سوا .. إنشا الله .. ماراح أتأخر عليك .. !

تمضى الأيام ، وسعاد لا تكف عن سلب نفسها من نفسها ، تنهمك فى العمل حتى رأسها ، لا تريد أن تمنح ذاتها لحظة فراغ أو راحة واحدة حتى لا تتعذب بغياب جاسم ، فهى ما زالت عاجزة عن الرد عندما يسألها أحمد :

– متى راح ييجى أبوى ؟!

وألا أنوار لما تقول لها :

– ودى أشوف أبوى .. ودى يلعب معاى المساكة .. ودى يركض وراى فى الحديقة.

تحترق سعاد فى أتون الذكرى ، تناجى جاسم بإحساسها ، تحاول أن تخمد نيران الشوق والحب فى قلبها ، لكنها لا تقدر ، تتصل بجاسم تقول له :

– أحمد متضايق وايد يا جاسم .. يبيك تيجى .. متى راح تقدر تيجى .. ؟!

لكن .. يعتذر جاسم بسبب الشغل ، ويعتذر بسبب ضغط العمل ، ويعتذر بسبب ضيق الوقت ، ينفد صبر سعاد ، تقرر ألا تطلب منه الحضور مرة أخرى ، وأن تتركه على كيفه إلى أن يقرر أن هو بنفسه متى يأتى .. تتنهد مهمومة هامدة :

– آه .. ما فى فايدة .. ما فى نتيجة .. صدق ..

وأعذر ما تنفع

وأنا بالشوق

مقلتى تدمع

وفى يوم ، يتصل نايف بسعاد يسأل عن جاسم ، فتوضح له سعاد أنه ربما يأتى
قريباً ، فيقول لها :

– متى ييجى جاسم بالتحديد .. لأنى أبغى أتكلم معاه فى موضوع مهم .

يؤكد لها نايف :

– أرجو أنكم تعتبرونى مثل جاسم .. كأنه موجود .. وإذا احتجتم أى خدمة أو أى طلب أرجوكم تخبرونى .. رجاء أخت سعاد لا تترددن .

تسألها أمها :

– منو هذا اللى قاعد يكلمك يا سعاد ؟!

– هذا نايف يوما صديق جاسم .. هو طبيب سعودى بيشتغل مع جاسم فى نفس المستشفى ، وهو اللى جاءنا الصيف الماضى ، وحضر عندنا حفل عيد ميلاد راكان .. تذكريتــــه ؟!

وهو اللى جاءنا الصيف الماضى ، وحضر عندنا حفل عيد ميلاد راكان .. تذكرينـــه ؟!

ذاك الشاب الطويل النحيل اللى إنت قلت عليه يشبه فيصل أخوى .. ها .. تذكرتى ؟!

تجتهد الأم أن تتذكر ، لكنها تعجز ، ما تقدر ، فتقول :

– والله يا بنيتى ما اذكر شئ .. لو سألتينى شنو أكلت البارحة ما أعرف أرد عليك !

تنهض سعاد . تتصل بالكويت . تقول فى فرح تبشر ليلى بهذا الخبر المثير :

– ليلى .. سمعى .. نايف إتصل اليوم بنا وسأل عن جاسم .. أعتقد أنه يبى يقول له شئ مهم .. ما أدرى يا ليلى شنو يريد .. يجوز راح يطلب يدك منه .. أنا قلبى يحدثنى أن هالإتصال فيه شئ غير عادى !

تطلب سعاد من ليلى أن تحاول الحضور بأى طريق . تقول لها مؤكدة :

– لا تطولى الغيبة يا ليلى .. ترى وحشتينى وايد .

وفى الكويت تقوم ليلى باللازم . تلح هى وأمها على جاسم تطلبان منه السفر .
تقول له :

– ترى أنا ملّيت من الإنتظار ومستعدة أسافر الحين يا جاسم .

يقول لها جاسم راجياً :

– الله هداك يا ليلى .. أرجوك صبرى شوّ بس أخلص عملية جدة دلال .. وأسافر وياكم على طول .. ترى ما باقى ألا الأيام !

تصيح ليلى غاضبة :

– أى أيام هذه يا جاسم اللى قاعد تتكلم عنها ! ترى الصيف خلصّ .. ما باقى شئ عليه ؟! حنّا الحين فى شهر يوليو .. وإلا راح تنتظر لما الجو يبرد هناك وما نعرف نتحرك ؟! لا يا جاسم .. أرجوك خللى دكتور ثانى غيرك يسوى لها العملية .. وياللا ويانا نسافر .. ترى أنا مت من الحر .. !

يقول جاسم فى دهشة وإستذكار :

– ما أقدر يا ليلى .. ما يصير .. أنا الطبيب المختص اللى متابع الحالة من أولها .. ولازم أنا اللى أسوّى العملية بنفسى .. ما أقدر أعطى هذه الحالة بالذات لأى طبيب ثانى ..!

تسكت ليلى تبلع غيظها . تدمدم حانقة على دلال وأم دلال وجدة دلال . تتمتم فى ثورة مكتومة وهى تنفخ فى غيظ :

– ما أدرى متى راح تفتّك من دلال وأمها وجدتها بعد .. ! ياااه .. الله يخلصنا منهم كلهم مرة واحدة .. !

وفى عصر نفس اليوم ، تتصل دلال بجاسم توقظه من نومه ، تطلب منه الحضور فوراً إلى البيت ، إذ أن جدتها أصابتها غيبوبة سكر ، ولا تعرف ماذا تفعل لها ، تلّح دلال :

– أرجوك يا جاسم .. أرجوك .. لا تتأخر .. جدتى شكلها يخوف .. حالتها خطيرة !

يثب جاسم من فراشه بعد أن طيرّت دلال بصوتها المفزوع النوم من عينيه ، يبدّل ثيابه فى عجل ، يخرج فى لمح البصر مسرعاً إلى بيتها ، فهو يدرك الظروف الصحية الحرجة التى تتعرض لها جدتها ، بعد أن أظهرت نتائج التحاليل والأشعة والقسطرة إصابتها بإنسداد فى الشريان التاجى بالقلب .. الحالة فعلاً خطيرة لا تحتمل تأخير أو تأجيل !

يدخل البيت عندهم مسرعاً ، يتجه إلى غرفة الجدة مباشرة ، يفحصها بدقة ، يعطيها حقنة تساعدها على تجاوز هذه الأزمة الصحية ، ثم يجلس فى غرفة الجلوس يحتسى الشاى بإنتظار أن تفيق من غيبوبتها ، كى يطمئن عليها ، يقول لدلال :

– جدتك لازم تدخل المستشفى الحين يا دلال .. راح أرسل لكم سيارة إسعاف .. جهزى أغراضها .. هى الليلة لازم تبات فى المستشفى عشان الصبح نسوى لها التحاليل الخاصة بالعملية .. خلاص .. ما فى داعى للإنتظار .. ما فى مجال . 

تنهمر دموع دلال . تسأل جاسم خائفة :

– هى حالتها خطيرة يا جاسم ؟

يقول لها جاسم :

– لا تخافين .. إتركى الأمور لله .

يحتسى جاسم الشاى ، ينهض يستعد للعودة إلى المستشفى ، وإذ به يفاجأ بدلال تبكى وتبكى وتنهار فى بكاء حاد ، يطالعها مستغرباً ، قائلاً :

– قلت لك لا تخافين .. حالتها ما هى خطيرة لهذه الدرجة .. !

تجيب دلال فى لهجة غريبة :

– لا .. أنا مانى خايفة على جدتى .. أنا بس أريد أسألك .. إنت كيف تزوجت غيرى يا جاسم ؟!

يدهش جاسم من حدّة المفاجأة ، وعدم توقع هذاا لموقف العاطفى المباغت الذى جاء فى وقت غير وقته ! يقول بسرعة وهو فى غاية العجب والحرج :

– أنا عمرى ما وعدتك بالزواج يا دلال .. ترى إنت الحين أم .. وأنا رجل متزوج .. وأب لثلاثة أطفال .. هذا الكلام ما يفيد فى شئ يا دلال .. !

تقول دلال وهى شاردة فى متاهات الذكرى والشوق والحنين ، كأنها لم تسمع من جاسم جملة إعتراضية واحدة :

– لكن هذا كان شئ متوقع .. كان شئ معروف .. للكل مو بس لى أنا وحدى .. !

يقول جاسم بنفس اللجهة الحافلة بالحيرة والإستغراب :

– بس إنت تزوجت يا دلال !

تقول فى نفاد صبر :

– أنا صحيح تزوجت .. لكن كنت بأتزوج عشان أنتقم منك يا جاسم .. كان لازم أرد إعتبارى قدامك وقدام نفسى وقدام الناس كلهم .. لكن .. أنا عمرى ما نسيتك .. عمرى ما حبيت غيرك .. وهذا هو الشئ اللى كان معذبنى لأنك دايماً كنت فى بالى .. ودايماً كنت فى حياتى .

تتابع دلال لومها وعتابها بصوت متهدج تشوبه نبرات بكاء مختنق :

– أنت ظلمتنى يا جاسم .. ظلمتنى .. أنت أول إنسان حبيته فى حياتى وآخر إنسان راح أحبه .

يفاجأ جاسم بهذا الهجوم العاطفى الساحق ، فيقول بصوت خفيض ، يحاول أن يجعله هادئاً متماسكاً :

– هذا شئ راح وانتهى من زمان دلال .. ترى هالكلام فات أوانه .. ما فى داعى لفتح هذا الموضوع أرجوك دلال .. لا تنسين إنى الحين رجل متزوج !

تصرخ دلال فى هيستريا :

– متزوج .. متزوج .. !!

تستمر فى بكاء حاد عنيف يكاد يقطّع قلبها ، تبكى فى حب ، ويأس ، وحزن ، تظل تبكى ، وتبكى ، وتبكى !!

يرتبك جاسم بسبب هذه المفاجأة الإنفعالية العصبية التى وجد نفسه محاصراً بها ، فيصاب بضيق مباغت يفقده القدرة على البقاء مع دلال فى نفس المكان دقيقة واحدة ، فيخرج من الغرفة ، يمضى لا يلوى على شئ دون أن يسلم على أحدٍ من أهل البيت !

يتعكر دم جاسم ، لا يرغب فى العودة إلى البيت مرة أخرى ، كما لا يود الذهاب إلى المستشفى ، يحتار .. وين يروح بهالوقت ؟! يفكر أين يذهب بعد أن صار عاجزاً عن تكملة النوم .. ومتابعة العمل !

يقطب جاسم ما بين حاجبيه حين يتذكر إتهام دلال له بالظلم ، فيحس أنه هو المظلوم ، كما يحس بالضيق والألم لأنه لم يعرف كيف يرد عليها ويوضح لها كل الأمور ، ليدفع عن نفسه هذا الإتهام الباطل الذى فاجأته به ! يلف سيارته حانقاً ، راجعاً إلى النادى ، يتصل بالمستشفى قبل أن يدخل طالباً من الطبيب المقيم اتخاذ اللازم لإرسال سيارة إسعاف إلى العنوان والإسم الذى حدده ، يملى عليه أيضاً رقم الهاتف ليتم إخطار المريضة بأن سيارة الإسعاف فى الطريق .

يدلف جاسم إلى النادى حيث يلتقى بعض الأصدقاء واللاعبين الذين يرحبون به كل الترحيب ، وعلى الفور يتشكل فريق يلعب مباراة كرة قدم ودية . يلعبها جاسم بفتور . بلا حماس .. فلا يستطيع أن يسجل ولو هدفاً واحداً .. !

يجلس بالنادى بعد المباراة يتحدث مع بعض الإداريين عن تطوير دورة الخليج فى المستقبل ، وكيف أن الشيخ فهد الأحمد رئيس اللجنة المنظمة لدورة كأس الخليج العاشرة ، ورئيس الإتحاد الكويتى لكرة القدم أعلن اليوم أنه سيلتقى مع رؤساء اتحاد الكرة بدول الخليج فى وقت لاحق بالبحرين لمناقشة إستمرارية دورة الخليج فى المستقبل ! يؤكد أحد الإداريين أن الشيخ فهد الأحمد أعلن فى مؤتمر صحفى اليوم أن الكويت كبلد مضياف يتجاوز عن الغرامة المالية التى تقضى بها اللائحة ، والمفترض أن يدفعها منتخب العراق لكرة القدم بسبب إنسحابه من الدورة !

يستمر النقاش مع جاسم وباقى اللاعبين والإداريين حول مستقبل الكرة وموقف العراق من الدورات الخليجية اللاحقة التى لن تتوقف فى المستقبل ، وإن كانوا غير واثقين مما إذا كانت الدعوة للمشاركة فيها ستوجه للعراق أم لا .. !

ينصرف جاسم من النادى ، بعد أن خففّت المباراة توتره وإنفعاله ، وأعاد اللعب إليه بعضاً من هدوئه ، ومرحه ، وإنسجامه مع نفسه وعمله وحياته ، فيتصل بدلال من السيارة يطمئن منها على وصول جدتها إلى المستشفى ، مؤكداً لها أنه سوف يجرى لها العملية باكر إنشا الله .

وما هى إلا أيام قليلة .. حتى تجاوزت جدة دلال مرحلة الخطر والحمد لله ، تخرج من غرفة العناية المركزة إلى غرفتها الخاصة بالجناح ، فيخبر جاسم دلال إن حالتها فى تحسن مستمر ، وإنها قد إستقرت الآن ، فلا داعى للقلق ، كما يعرفهم أن زميله الدكتور هاشم سوف يتابعها أثناء غيابه ، لأنه مضطر أن يسافر غداً إلى أمريكا !

تسكت دلال ، كارهة فكرة رحيل جاسم عنها ، لكنها لا تستطيع أن تفصح عن شعورها الحقيقى ، فهى تعلم مدى تعلقه بإبنه الصغير راكان ، هذا الذى يأخذ عقله ، ويأكل قلبه ، والذى يظل يتكلم عنه طول الوقت ، فهو الذى أختار له هذا الإسم القديم الذى يعبّر عن مدى شوقه وحبه للكويت ، عندما كان مقيماً فى أمريكا .

لم تستطيع دلال أن تعترض ، فجاسم قد أدى ما عليه وزيادة ، وهو يشكر على كل ما قدمه لها ، وعلى هذا التعب الشديد الذى تعبه مع جدتها ، وحرصه العظيم على متابعة حالتها ، تشكره أمها أيضاً كل الشكر ، وهى تحمد الله أن ربنا بعثه لهم لنجدتهم ، وإنقاذ أمها ، كما تدعو الله ألا ينحرموا من وجوده ، فتظل تدعو له وهى تقول من قلبها :

– الله يخليك لنا يا جاسم .. الله يطول عمرك ويحفظك ويحميك .

.. يسافر جاسم ، يدخل بيته فى أمريكا ، يضيئه بحضوره الحلو المحبوب ، تنظر إليه سعاد فرحة مبهورة بوجوده !! يا ألهى .. ألا يعرف أنه حبيبها .. حبيبها ! يتأجّج إحساسها برؤيته ، يلتهب حنينها إليه .. آه يا جاسم آه ..

يا أجمل شئ فى عمرى وفى بالى

يا مالك مهجتى وفكرى وآمالى

يلتقى الجميع على العشاء ، نايف وجاسم وعبد الرحمن ، الطبيب الجديد القادم من دولة الإمارات العربية المتحدة ، يجلس الأطباء الثلاثة ، يتناولون طعام العشاء الذى أعدته سعاد وليلى ، وفرحة غامرة تملأ القلوب ، فاليوم 31/7/1990 يوم عيد ميلاد راكان الثالث ، والحفل مبهر ورائع ، حضره عدد كبير من الأصدقاء المقيمين هنا ، والزملاء الأطباء العاملين فى المستشفى مع جاسم ، الذين حضروا جميعهم لتهنئته بسلامة الوصول وبعيد ميلاد صغيره راكان .

تكتمل الفرحة بذاك الخبر السعيد الذى أثلج صدر ليلى ، عندما أخبرها أخوها جاسم عن رغبة نايف فى الزواج منها ، وسألها عن رأيها .. تهز ليلى رأسها فى حياء لتعّبر عن موافقتها . يحمل جاسم البشرى إلى نايف ، فقط ، يطلب منه الإنتظار بعض الوقت لحين أخذ موافقة الوالد .. تغمر الفرحة سعاد التى تقّبل ليلى عشرات القبل وهى تهنئها مبتهجة :

– مبروك يا ليلى مبروك .. ألف مبروك .

تتلقى ليلى التهانى من أمها وخالتها ، وأحمد ابن أختها الذى يعبّر عن إعجابه بنايف ، وأيضاً من أنوار التى تقول لها فى براءة :

– نايف وايد حلو يا ليلى .. وايد حلو !

ولأول مرة منذ فترة طويلة ترى سعاد إبتسامة جاسم .. يا الله .. كم وحشتنى هذه البسمة ! يتغير جو البيت الذى تملؤه الورود والزهور والهدايا التى إنهمرت عليهم فرحاً بهذه المناسبة السعيدة التى بدى أثرها على وجوه الجميع .. حمداً لله . عسى تدوم الأفراح ، وكل عام وراكان بخير . وما هى إلا ساعات قليلة حتى يأتهم خبر آخر جميل ، ينّم عن الفرحة الثالثة ، هو ولادة عبد العزيز ابن عبد الله ، شقيق سعاد الكبير ، الذى جاء شقيقاً لمريم ومنى وفضة .. مبروك ألف مبروك .

تنطلق الفرحة تزغرد تملأ البيت كله .. الحمد لله .. الحمد لله .. ربنا أكرم عبد اله وزوجته إبتسام ، بالولد الذى كانا يطلبانه من الله ، وينتظرانه من زمان .. الحمد لله . صحيح ولد ناقص النمو ، لكنهم وضعوه الآن فى الحضانة بمستشفى الولادة فى الشويخ .

– ياللا .. بسيطة .. بكرة يكبر ويصير رجال قد الدنيا !

فى هذا اليوم يخبر جاسم سعاد أنه سيناقش مع نايف الليلة موضوع زواجه من ليلى ، وكيف سيتم ترتيب كل الأمور ، وراح يتفاهم معه على تلك الإجراءات الشكلية البسيطة .. تؤيد سعاد كلام جاسم وإبتسامة واسعة تضئ قلبها ، فها هو جاسم يتحدث إليها ، ها هو يقول لها أين سيكون الليلة .. الحمد لله ها هو يعاملها مرة ثانية بإعتبارها زوجته !! آه .. إنها كانت تنسى ذلك .. لا .. بل أنها قد نست منه ذلك ! نست كيف يعاملها كزوجة !! آه .. كل ذلك بسبب دلال .. !

دلال .. دلال .. كانت دلال تجلس فى ذلك الوقت فى بيتها بالكويت مع أمها التى تكاد تفقد عقلها ، خوفاً على والدتها الراقدة بين الحياة والموت فى مستشفى مبارك ، والتى فقدت تماماً سيطرتها على أعصابها حنقاً وغيظاً ، فظلت تقول لدلال وهى تتمزق من الغيظ :

– ليش خلانا جاسم بروحنا وسافر يا دلال ؟! ليش ما إنتظر ويانا لما أمى تطلع من المستشفى وترد البيت ؟! يعنى خلاص .. الدنيا طارت ! يعنى أنت يا دلال مالك خاطر عنده ولا إعتبار ؟! كيف يترك أمى ويخليها لدكتور تانى غيره ؟! مو جاسم هو اللى سوى لها العملية ؟! يعنى من هو أحق الحين بجاسم .. أنت يا دلال وجدتك إلى بين الحياة والموت .. وألا هذه سعاد اللى بس عندها حفلة عيد ميلاد ولدها بو سنتين ؟! هذا يصير ؟! والله ما يصير .. والله عيب عليه !

هنا .. تتمزق دلال من الغيرة والغيظ والغضب بعد أن سمعت كلام أمها هذا ، فتعود تذكر كيف تآمرت عليها سعاد وليلى ، وكيف أدت مؤامراتها الدنيئة إلى أن تسرق سعاد منها جاسم !

آه .. يشتعل الغيظ داخلها ، يتفّجر الغضب بركاناً ثائراً فى أعماقها ، تتطاير الغيرة شرراً يحرق أعصابها ، فلا تقدر أن تمنع نفسها من البكاء من شدة القهر ، وهى تندب حظها ، وتقارن حالها بحال سعاد !!

ينتهى حديث دلال مع أمها التى تهّب واقفة ، حانقة ، تدخل تنام فى غرفتها ، كى تصحو مبكراً تروح تطمئن على صحة والدتها فى المستشفى ، فتثور ثائرة دلال ، تنهض تمسك التليفون تدير رقم جاسم فى أمريكا ، لكن .. كالعادة تجيبها ليلى ببرود :

– جاسك طلع .. مو موجود الحين بالبيت !

تستشيط دلال غضباً وغيظاً ، فتصرخ فى ليلى :

– قلت لك أعطينى جاسم .. وإلا راح أروايك شغلك يا كذابة .. جاسم عندك .. أعطنى إياه .. تصرخ ليلى فى ثورة عاتية :

– إنت اللى كذابة وستين كذابة .. ياللى ما تستحى .. جاسم الحين متزوج وعنده ثلاث عيال .. إيش تبين منه أنت ؟!

تغلق ليلى الخط فى وجه دلال ، وفى خلال دقيقة أخرى يرن الجرس ، ترد ليلى :

– ها .. أنت مرة ثانية ؟! إيش تبين من جاسم ؟! أنت ياللى ما ..

وقبل أن تكمل ليلى جملتها .. تمد سعاد يدها تأخذ السماعة منها ، تتكلم مع دلال ، مستسلمة لسيطرة اللحظة ، فهى لا تستطيع أن تتجاهل هذا الموقف الإنسانى المعقد ، وهى تسمع دلال تبكى ، وتصرخ ، وترجو أن تكلم جاسم لأن جدتها المريضة فى حالة خطرة وتوشك أن تموت !!

تستسلم سعاد لسطوة الموقف ، فهى لا تستطيع أن تتناسى إن جاسم ، زوجها ، هو طبيب .. أولاً !

تعطى سعاد رقم بيت نايف لدلال وهى تقول لها فى هدوء :

– تقدرين تتصلين فيه الحين على هذا الرقم يا دلال .

تضع سعاد السماعة ، وبدنها كله ينتفض ، تبقى جالسة فى مكانها ، قلبها يخفق ، لونها يمتقع ، تصمت ، لا تنطق ، بينها تتسع عينا ليلى على آخرها دهشة وذهولاً مما سمعت ! فى حين إستنكرت عليها خالتها وأمها أن تعطى الفرصة لدلال كى تتصل بجاسم .. حتى عند نايف !!

بعد هذا الموقف المثير ، يسكت الجميع ، كأن إتفاقاً خفياً عقد بينهن بانتظار رجوع جاسم الذى سيظهر عليه تأثير مكالمة دلال بعد خناقتها مع أخته ليلى ، يضيق خلق أم جاسم خوفاً أن تشكو دلال ما فعلته ليلى بها ! تسكت دون أن تعرف كيف تخمد غضبها أو تنفث عن ضيقها ، فتطلب من ليلى أن تشغل لهم فيلماً عربياً يسليهم ، لكن .. قبل أن تنهض من مكانها ، يجرى أحمد يحضر مسرحية ” باى باى يا عرب ” للفنان عبد الحسين عبد الرضا ، والفنانة حياة الفهد ، كما يحضر مسرحية ” فرسان المناخ ” لعبد الحسين عبد الرضا أيضاً .. ويسألهم أى مسرحية من هذه تفضلون ؟! يقولون له :

– اختار على كيفك يا أحمد .

يجلسن جميعهن يشاهدن أحداث المسرحية الضاحكة الساخرة ، فى حين تطالع سعاد أبنها فى حب بين فترة وأخرى ، وهى ترى إعجابه وإندماجه وإنفعاله بأداء هذا الفنان المسرحى ، فتبتسم فى حنان لأنها تعرف أن أحمد طالع مثل خاله بدر يحب الفنان عبد الحسين عبد الرضا ، كما تعرف أنه أكتسب هذا الحب منذ صغره ، لما كان يراقب خاله بإنبهار وهو يقلد هذا الفنان الكبير !

فجأة .. يدخل جاسم دون توقع ! يحضر مبكراً جداً اليوم على غير عادته ! ، فالساعة الآن حوالى السابعة مساءاً بتوقيت نيويورك وهو لا يعود إلى البيت أبداً قبل منتصف الليل !!

يدخل عليهم جاسم بوجه متجهم ، منزعج ، وسحنة حادة مقلوبة ! كانت حالته غريبة .. مخيفة ، فهم لم يروه أبداً بهذا الشكل !! يجلس عابساً صامتاً متجاهلاً وجودهم ، حتى وجود أحمد ابنه بينهم ، يتجاهله أيضاً كأنه لا يراه .. !!

يجلس صامتاً عابساً ، دون أن ينطق كلمة ، كأنما فقد القدرة على النطق تماماً ،
يظل يهز قدميه فى عصبية بطريقة لا إرادية ، وقد بدى عليه وجوم ، وغضب شديد وحزن وذهول !!

كان يبدو حائراً يفكر كيف يبدأ الحديث معهم ، كيف يفتح الكلام ! تحس ليلى خوفاً هائلاً من شكل جاسم الغريب ! تطالع أمها فى وجل وهلع تبحث لديها عن ملجأ يحميها من غضبه جاسم ، ويقيها من ثورته المرتقبة التى حتماً سوف تكون ثورة عاتية عارمة !!

تنكمش ليلى داخل نفسها تكتم أنفاسها ، وهى لا تقوى على النظر إلى أخيها ، الذى بدى وكأنه قنبلة موقوتة .. على وشك الإنفجار !! لكنها تتماسك ، تقول :

– أنا آسفة يا جاسم .. أنا ما كنت أقصد أجرح دلال .. أنا كذ …. !

وقبل أن تكمل ليلى إعتذارها ، يرفع جاسم نحوها عينيه الشديدة الإحمرار ، كأنما غمستا فى بحار من الدماء .. ثم .. ينفجر فى بكاء رهيب ، رهيب ، يرجّ بدنه رجاً .. يصيح وهو يخفى وجهه المحنى بين كفيه .. راحت الكويت .. راحت الكويت !!!


الفصل السادس عشر

الصدمة الصاعـقّة !

تخيم ظلال الحزن على البيت . تنفجر الآلام من الأعماق . تطغى على الوجوه التى لم تستطع أن تصدّ عن ملامحها آثار الصدمة والذهول والرهبة . بعد أن انقطع الإتصال بالكويت عند منتصف الليل ، وإنعزلت الديرة بمن فيها عن العالم أجمع !!

الرحمة بعبادك يا رب .. يا رحمن يا معين .

يتكلم الجميع فى وقت واحد . يصمت الجميع فى وقت واحد . يتساءل الجميع فى وقت واحد ، عما يمكن أن يحدث ! وعما يمكن أن يكون !!

تظل سعاد تلف . تدور . تحاول الإتصال بوالدها الذى كلمته أول يوم الغزو . تعود تحاول ، وتحاول ، لكن .. دون جدوى .. إنقطع الإتصال بالمرة !!

آه .. ينقطع الإتصال ، يتصل الحزن ، والعويل ، والبكاء ، الكل يبكى ، كبيراً وصغيراً ، الكل يرفض أن يصدق ! الكل فى ذهول !!

مائة ألف جندى من القوات العراقية تجتاح الأراضى الكويتية ، تستولى على قصر سمو الأمير ، والمبانى الهامة فى هجوم مباغت عند الساعة الرابعة والنصف صباح يوم الخميس الثانى من أغسطس 1990 !!

يتسع شرخ الخوف . يسرى الرعب . يستمر البكاء . والنحيب . والنواح . يتخبط الصدى بين الجدران حتى تكاد تهتز . تفيض بالدموع والهموم والأحزان . يغرقا لكل فى الآلام . الكل يبكى . حتى راكان الصغير يبكى . يبكى دون أن يفهم سبباً لبكائه ! لكنه يبكى ويبكى ، فكل من فى البيت يبكى ! الكل فى حالة حزن حزين وخوف مخيف يصيب هذا الطفل الصغير بالذعر والهلع ! خوف رهيب منقطع النظير يجعله لا ينقطع عن البكاء !

الله .. يا رب . يا مغيث . يا سامع الدعاء . ارفع عنا هذا الغم وهذا البلاء .

تتوقف الدنيا . تنفجر اللحظة . لا يعود أحد يعرف ماذا يفعل بعد أن جاء هذا الخبر المفجع ! الكل ينصت ، يصغى . يسمع . تشحذ كل الحواس فى الأذهان ، تتلقف الأعين والآذان شتى الأخبار ، المعلومات ، الأنباء ، عبر كل وسائل الإعلام .

الجميع بعد أن قطعت الأخبار نهائياً عما يجرى فى الكويت ! يغزو الخوف القلوب . يتأصل القلق . يستفحل كمرض خبيث يستشرى فى النفوس . يحاولون إدراك الموقف بكل أبعاده ، لكنهم يفشلون ، لا يفهمون شيئاً ، فليس هناك مبرر على الإطلاق لما حدث ! كما أنه لا يوجد سبب واحد مقنع ، لما يكون !! الوضع غير مألوف !!!

يتساءلون .. أهو الزمن الذى يبطئ فى سيره ؟! أم هى الساعة التى صارت معتلة كسيحة تعجز عن الحركة والدوران ؟! إنهم قابعون فى إنتظار الأخبار التى تنهال على قلوبهم كالأحجار ! تهيل الهم والغم والحسرة على نفوسهم ، والحزن .. بلا حساب .. تتساقط الأنباء كما تتساقط الصخور والجبال بلا رحمة فوق رؤوس الجميع ، الذين يتلقونها فى ذهول ، وصدمة ، وهلع ، جزع ، وإعياء !

تهبط النفوس إلى القاع ، بينما تبقى القلوب واجفة داعية ، راجية ، تترقب الأخبار فى جميع المحطات ، وعلى كل القنوات . يجلس جاسم متعباً . مرهق النفس ، والروح ، والقلب . يرفض ما يتوارد من أنباء . يأبى أن يصدق ! لكنها للأسف ، حقيقة أكيدة ، واقعية ، فالأخبار مخزنة مؤسفة ، وإن كانت غير منطقية .. غير منطقية !!

صرخة حزن ملتاعة تخرج من القلب عندما يهجم الحزن حاملاً هذا النبأ :

قوات الغزو تحتل قصر دسمان .. مقر إقامة أمير الكويت ، وتحوله إلى ثكنة عسكرية !

آآآه .. آهات حزن طويلة ملتاعة تصرخ . ترج الجدران .. راح الشيخ فهد الأحمد ! راح وهو يدافع عن القصر والأرض والعرض !! إستشهد البطل ، وهو يفدى بدمه الطاهر أرض الكويت .. بكاه جاسم من القلب ، كما لم يبك أحداً فى حياته من قبل !!

دهم الغزاة قصر دسمان ! كان الشيخ فهد خارج القصر عندما سمع النبأ ! فأخذ سيارته وإتجه مسرعاً إلى القصر ، وهناك إشتبك مع الغزاة ، وقاوم قدر المستطاع إلى أن نال الشهادة !

يبكى جاسم الشيخ فهد الأحمد بكاءً مريراً وهو يخبط كفاً بكف ! يقول وهو حزين مذهول لا يكاد أن يصدق حزنه وذهوله وفجيعته :

– كان يحارب وياهم فى الفاو !! كان يحس أنهم أخوانه ويعتبر إن هذا واجبه نحوهم وإنه لازم يقف يدافع عنهم وعن وطنهم .. والحين .. هم اللى يقتلونه ؟! بأيديهم يقتلونه ؟! بعد كل اللى سواه عشانهم !!

تجلس سعاد فى جزع فوق المخاد على الأرض ، تمسك فى يدها المرتعشة زجاجة الكولونيا تنثر منها فوق جبهة أمها التى غابت عن الوعى عندما وصلها خبر إستشهاد فيصل ، ابنها الشاب الرائد فى وزارة الداخلية ، أستشهد فى مخفر شرطة العاصمة ، وهو يؤدى واجبه فى الدفاع عن الوطن ، عندما إقتحم المعتدين المخفز ، وقتلوا كل من فيه ، فى أولى ساعات الغزو اللعين ! 

.. يا رب .. يا رب .

يجلس جاسم يرتل آيات الذكر الحكيم :

وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ”

صدق الله العظيم

تتسرب الأخبار والأنباء عن هذا الهول اللعين الذى يجتاح أرض الوطن كالطاعون ! يجزع كل من يسمع هذا النذير الأسود الذى يحيق بالأرض الطيبة ، يفتك بها ، وبمن عليها من الناس الطيبين ! ترجف القلوب . تجزع النفوس . يزيد البكاء . تتورم الجفون . ينمو الخوف . يتضخم ، فلا أحد يعرف ماذا يجرى ؟ أو ماذا يدور ؟! لا أحد يعرف مصير الأحباء الغاليين الموجودين فى الكويت !

يشتد الجزع بعد سماع نبأ أوردته وكالة رويتر تعلن فيه أن :

حوالى 600 إلى 800 كويتى قد لقوا مصرعهم أو أصيبوا منذ اليوم الأول للغزو العراقى .. !

يزداد الهلع عندما يسمعون الشيخ سعود ناصر الصباح ، سفير الكويت بالولايات المتحدة وهو يعلن أن :

القوات العراقية تواصل إنتهاك حقوق الإنسان بممارسة الأعمال البشعة ضد المدنيين !

آه .. صرخة حادة من القلب تخرج تشق الحنجرة :

– آه .. يا ترى مين حى ؟! يا ترى مين ميت ؟ يارب سترك . يا رب رضاك . يارب الرحمة بعبادك يا أرحم الراحمين . يارب أحفظهم . يارب نجهم . يا منجد . يا منقذ . يا مغيث .

تنفجر سعاد فى بكاء متصل ! وهى تفكر فى أهلها ، فى والدها ، فى أشقائها ، فى زوجاتهم ، فى أطفالهم :

– آه .. يارب .. الله معهم .. الله معهم .. ترى شنو يسوون الحين ؟! إيش لون يقدروا يتحملون كل هالأهوال ؟! وأبوى .. سالم .. هذا الرجل الطيب المسالم .. شنو يسوى وياهم .. آه .. يارب .. يارب .. ! 

تبكى سعاد ملتاعة جازعة :

– آه يوبا .. وينك يوبا ؟ وينك يا عبد الله .. آه .. الله يرحمك يا فيصل .. الله يرحمك .. آه .. إيش لون منصور الحين قادر يعيش من غيرك ؟!

تنخرط سعاد فى بكاء حاد يقطّع القلوب . تتعذب خوفاً وقلقاً على الأهل فى الكويت . تدعو الله أن يفرّج عنهم :

– يارب نّجى الجميع يارب يا قادر .. يا معين .

تنسدل ستائر الحزن السوداء . تزداد قتامة وحلكة الليالى والأيام . لحظة بعد أخرى ، يحاول جاسم المستحيل لمساعدة من حوله والتخفيف عنهم ، فحالتهم الصحية والعصبية تتدنى بصورة مخيفة ، واضحة ، مقلقة ، فالحزن طاغ يطحن الروح ، والقلق ساحق يرهق النفس ، يذيب القلب ، يزيد من إحتمالات الخطر ، خاصة ، أن خالته فلبها ضعيف ما يتحمل كل هذا التوتر والإنفعال ، ولا كل هذا الحزن والأسى والبكاء !

تتسرب الأنباء إليهم ، يعرفون أن قتالاً ضارياً نشب بين قوات الغزو والعسكريين فى منطقة كيفان ، إستمر لمدة ثلاثة أيام ، إستخدمت فيه مختلف الأسلحة ، وتم تبادل إطلاق النيران ، وبعدها وقع فى قبضة قوات النظام عدد كبير من العسكريين والمدنيين الكويتيين ، الذين تم أسرهم ، ولا يعرف أحد مصيرهم !!

يزداد الموقف بشاعة وحزناً وهلعاً ، بعد إنهيار أم جاسم وليلى ، اللتان غابتا عن الوعى بعد سماع تلك الأنباء المؤسفة التى يتعرض لها المواطنون هناك ! الذين ظلوا يصارعون العدوان قدر طاقتهم ، إلا أن قوى البغى طغت وتجبّرت ، وتمادت فى الظلم والقهر والعدوان !

تظل ليلى تحاول الوقوف على أخبار والدها اللواء أحمد الناصر فى بيتهم بكيفان ، وهى فى حالة جزع لا توقف ، بعد أن إنتابها خوف داهم على مصيره إثر تلك الأنباء المروعة التى وصلتهم .. لكن .. لا أمل .. لا جدوى !

تصرخ ملتاعة :

– آه .. ياربى .. شنو راح يسوون فيهم .. شنو راح يعملـــــــون وياهم .. آه .. آه .. !

تنهار ليلى فى البكاء تشاركها أمها وخالتها ، وسعاد وأولادها ، أولهم أحمد وآخرهم راكان ، حتى المربية البرازيلية تبكى لبكائهم ، تحزن لحزنهم ، حتى السائق والموظفين الأمريكان فى شركة سعاد يشعرون ويتأثرون بما حل بهم ، الكل يشاركهم أحزانهم ، فالمصاب فادح . فادح . أليم . أليم !

مع الوقت ، تتأزم الظروف ، يزداد الموقف صعوبة وضنكاً ، تطحنهم المحنة ، تحاصرهم ، تمزقهم بمخالبها وأظفارها ، لا يعرف جاسم ماذا يفعل بعد أن عرف أن الولايات المتحدة الأمريكية قد جمّدت الودائع والممتلكات الكويتية لديها ولدى الفروع والمؤسسات التابعة لها بالخارج !

يا الله .. ما العمل ؟! كيف التصرف فى هذه الورطة غير المنتظرة ؟! يستنفد الموقف المباغت قدرة جاسم على التحمل بعد أن أكتشف أنه لم يعد يمتلك شيئاً من المال !! كان جاسم قد حول معظم رصيده قبيل سفره إلى الكويت فى شهر فبراير الماضى ! يدرك جاسم الآن إنه قد أصبح لا يمتلك من المال إلا أقل القليل ! يا الله .. الظرف صعب . عويص . شاق . عسير . الأحوال تنحدر بسرعة إلى أسفل . تجرفهم نحو هاوية سحيقة القرار !!

 يخرج جاسم ، يذهب إلى المستشفى ، يحاول أن يلتقى مجموعة الأطباء العرب
هناك ، ليناقش معهم ظروف المحنة الحالية ، فهو لا يعرف ماذا يفعل ولا يعرف كيف يتخذ أى حل أو قرار ! وبعد تفكير مشتت سريع ، ينصحه بعض الزملاء بالعودة إلى العمل فى المستشفى ، فيقوم جاسم بتقديم طلب إلتحاق بالعمل ، فيقابل هناك بذوق وترحاب . يأخذون منه الأوراق على وعد الإتصال به فور أن يخلو المكان المناسب !

يعود جاسم إلى البيت محبطاً . يضع سلسلة مفاتيحه ونظارته على الطاولة فى غرفة المعيشة . يدخل حجرة نومه مختنقاً . منقبضاً . غاضباً من هول الموقف المفاجئ الذى يمر به . تصطدم يده بالمحفظة الجلدية التى تحوى جميع بطاقات الائتمان ، الفيزا كارت ، الماستر كارت ، الأميركان إكسبريس ، الدينرز ، يخرج هذه البطاقات من المحفظة ، يمسكها ، يفردها بين أصابعه ، يطالعها واحدة واحدة فى هم وأسى ، فهى فاضية . فاضية . لا قيمة لها . صارت مثل ورق اللعب .. لا فائدة ترجى من ورائها !!

يرميها فى قرف على الدرج الخشبى بجوار الفراش ، يكمل خلع ملابسه ، يدخل الحمام الملحق بغرفة النوم ، يأخذ دشاً بارداً ، ينهمر الماء فوق رأسه المتقد ، عله يطفئ النيران المشتعلة فى كيانه ! ينفض الماء عن شعره ، وهو يهز رأسه بشدة يميناً ويساراً ، بعد أن خرج من الحمام دون أن ينشف جسده ، لعل الماء البارد العالق بجلده يخفض درجة حرارته الآخذة فى الارتفاع ، ولربما يخفض سرعة دوران أفكاره أيضاً !

يخرج جاسم مرتدياً دشداشة بيضاء ، يجلس على الأرض ، فى صالة المعيشة بجوار ليلى ماداً ساقيه إلى آخرهما ، مستنداً بظهره إلى الكنبة الطويلة ، التى إعتاد أن يرتاح عليها ويتمدد فوقها . يدنو من أخته ، يربت على كتفها . يقول لها مواسياً مخففاً :

– لا تخافين يا ليلى .. لا تخافين .. أبوك بخير .. الكويت بخير .. إن شا الله ما راح يصير إلا الخير .ز لا تخافين .. لا تخافين .

تجيب ليلى بين دموعها :

– بس هم قالوا فى الأخبار إن الحالة سيئة هناك .. وأنت تدرى عن أبوى ما يقدر يتحمل الغلط .. أبوى ما راح يسكت .. أنا عارفة .. ما راح يقبل الإهانة .. أبوى رأسه كبير يا جاسم وأخاف يقتلونه بدون سبب لأنه عسكرى !

يرد جاسم فى محاولة يائسة لإدخال الطمأنينة إلى قلبها :

– يا ليى سكتى الله هداك .. ترى أبوك بطل ما ينخاف عليه .. هو يقدر يدّبر حاله .. لا تخافين .. ترى ما فى داعى أمك تسمعك وأنت تقولين هالكلام راح يطير عقلها طير .. حالتها ما تسمح يا ليلى .. أرجوك راعى ظروفها .. امسكى نفسك شوى .. الله كبير .

تنظر ليلى إلى أمها المكوّمة على الأرض أمام التليفزيون ، يلتصق عقلها وقلبها بشاشته الفضية ، تتمنى أن تسمع خبر الإنسحاب الذى سمعوا عنه ، حين أذاعت النبأ بعض وكالات الأنباء ، وقيل أن العراق بدأ يسحب قواته من أرض الكويت منذ الساعة الثامنة صباحاً ، بالإتفاق مع ما يسمى بحكومة الكويت المؤقتة ! تظل أم جاسم مكانها لا تتحرك . تبقى تنتظر أن يتحقق هذا الخبر ، لكنها ما تلبث أن تنهار عندما تعرف إن الشيخ سعود السفير هنا قال إنها أكذوبة لا يمكن لأحد أن يصدقها !

كانت أم عبد الله ما تزال نائمة ، إذ أن جاسم لم يتوانى عنها ، كان يواظب على حقنها بالمهدئات من وقت لآخر ، كى لا تتدنى حالتها ، ولا يتعرض قلبها إلى المزيد من التوتر والإنفعال ! فى حين تبقى ليلى مذعورة ملتاعة جازعة ، بسبب الظروف الرهيبة المفزعة التى يمرون بها ، فها هو نايف جاءهم يسلم عليهم مودّعاً ، لأنه سيسافر عائداً إلى الوطن الآن بعد أن أعلنت المملكة العربية السعودية عن بدء التعبئة العامة لقواتها المسلحة ، وأخذ راديو الرياض يدعو جميع الشبان فى سن الخدمة العسكرية إلى حمل السلاح ، كما تم تعبئة سلاح الجو السعودى .

تتمنى ليلى من أعماقها أن تنتهى هذه المحنة ، وأن لا تطول الأزمة ، وأن يسحب صدام قواته من الكويت ، وأن تعود الأمور إلى طبيعتها بعون الله . لكن .. فى خلال ساعات تنقلب الدنيا حولهم فى أمريكا ، فالرئيس الأمريكى جورج بوش يستدعى كبار مستشاريه لاستعراض البدائل العسكرية الممكن اللجوء إليها فى حرب الخليج ، كما تقوم الولايات المتحدة بعملية حشد وتعبئة قواتها البحرية ، ومشاة الأسطول وقاذفات القنابل فى المنطقة
ذاتها !

تجلس سعاد فوق الفراش فى غرفتها تتحدث مع أحمد الذى يمسح دموعه وهو يسال فى خوف الكويت ، وعما صار فيها :

– ليش قتلوا خالى الفيصل ؟! ليش هاجموا المخفر ؟! مو أحنا كنا نحبهم ونساعدهم وكنا نعطيهم فلوس وأكل لما كانوا بيتحاربوا مع إيران ؟!

تحتار سعاد ، لا تعرف كيف ترد عليه ، فقد كانت هى نفسها تسأل نفس السؤال دون أن تستطيع العثور على إجابة له ! يشتد جزعها على ولدها ، وهى تراه متأثراً كل هذا
التأثر ! كان حزنه واضحاً وخوفه أليماً . كان بكاؤه على خاله فيصل يقطّع قلب سعاد ، كان أحمد فى حالة مضنية من الحزن الشديد . كان يبكى فى صمت ، وكانت أمه تتقطع وهى تراه يبكى ، فهى تعلم أنه لا يحب أن يراه أحد وهو يبكى ، لذا كان يبكى فى صمت بعيداً عن العيون . كان لا يوّد أن تراه أنوار التى كانت تنهار فى البكاء لو أحست به يبكى . وراكان أيضاً كان لا ينقطع هو الآخر عن البكاء !

لم تتمالك سعاد نفسها وأحمد يسالها :

– بس يوّما أنا وعدت جدى إنى أرجع عشان أقضى وياه الأجازة .. الحين إيش لون أرجع الكويت ؟ كيف أشوف جدى ؟ ها .. الحين إيش لون ؟! .. كيفغ أرد الكويت ؟! أنا اتفقت معاه إنى ..

وهنا .. لا تستطيع سعاد أن تتمالك نفسها ، تنهار فجأة باكية بصوت يقطّع القلوب ، ولا يدع أحمد يكمل كلامه ، يتفجّر حزنها على أخيها ، وخوفها على أبيها ، وقلقها على حماها ، وخشيتها على أهلها وكل الناس فى وطنها .. حتى البحر .. الشاطئ .. الأبراج .. قصر المؤتمرات .. النادى .. بيتهم فى الشامية .. بيت جاسم فى كيفان .. وقصر دسمان .. إقتحموه .. حطموه .. !!

يتمزق قلبها .. تخفى سعاد وجهها بين يديها ، تنهار باكية ، تظل تبكى ، وتبكى ، يخرج أحمد من الغرفة منزعجاً ، لا يعرف ماذا يفعل ، يذهب يخبر والده عن بكاء أمه الشديد فيهب جاسم واقفاً يدلف مسرعاً إلى الغرفة ، يقترب من سعاد التى تراه فيشتد نحيبها ويظل يعلو ويهبط صدرها فى نشيج مقتطّع مكتوّم !

يجلس جاسم على الفراش بجانبها . يأخذها فى حضنه مواسياً معزياً . يربت بيده فى حنان على ظهرها . يملس بكفه على شعرها ، يستشعر خوفاً ، يهدئها ، يمنحها إحساساً زاخراً بالحب ، يملأ صدرها بالشعور بالمشاركة والمواساة ومشاطرة الأحزان .

تهدأ سعاد بعض الشئ ، فتسترخى تفرد ظهرها ، تسند على المخدة رأسها ، فتلمح بطاقات الإئتمان المبعثرة بلا مبالاة بجوار الفراش ، تفهم على الفور حقيقة الموقف الذى يمر به جاسم، فتتجاهلها كأنها لا تراها ، حتى لا تتسبب فى إحراجه . تحاول أن تتماسك وأن تكف عن البكاء إلا أنها تشعر بإعياء شديد وإرهاق أشد يجعلها ترتمى فوق فراشها ، تلتصق بظهر السرير الحريرى رأسها ، وهى تعجز عن إلتقاط أنفاسها المتقطعة ، كأنها دجاجة مذبوحة تلقط أنفاسها .. !

يظل جاسم جالساً على الفراش بجوارها يمسح بأصابعه وشفتيه الدموع عن عينيها ، وهو يقب وجهها ويربت على وجنتيها ، بينما يبقى يطالعها بحنان وحب لا يخفى على قلبها ، الذى دفع الدم حاراً إلى جلدها ، فتحولت سمرته الحلوة التى يحبها إلى اللون القانى الداكن الشديد الإحمرار !

يطمئن جاسم على سعاد ، يخفى جزعة عنها ، يود أن يعود ليزاول خفارته الليلية فى غرفة المعيشة ، حيث يطمئن على أحوال مرضاه ، أمه ، وأخته ، وخالته ، وأولاده الصغار ، هؤلاء الرافدين منتظرين ليل نهار سماعه الأخبار ، وفى مقدمتهم أحمد الذى يترجم لهم أولاً بأول ما يسمعه من أنباء ومعلومات تثير مخاوفهم ، تشد أعصابهم ، ترهق قلوبهم ، حتى تحول أفراد الأسرة جميعهم فى نظر الطبيب جاسم إلى حالات خاصة ، لكل منهم معاملة طبية معينة ، وعلاجاً صحياً محدداً !

وكان أكثر ما يقلق جاسم ، هى حالة خالته أم عبد الله ، وحالة إبنه الصغير راكان ، الذى بدا واضحاً أنه صار يعانى هو الآخر من إكتئاب حاد ، أدى إلى اضطراب نومه ، عزوفه عن الطعام !

ينهض جاسم واقفاً . يهم أن يعود لغرفة المعيشة ، لكن ، قبل أن يتحرك من مكانه ، تمسك سعاد يده ، يقبض عليها بقوة ، ترجوه أن يبقى معها دقيقة واحدة فقط !

يجلس جاسم مندهشاً مستغرباً من حركة سعاد المفاجئة هذه ، فينظر إليها ، ينتظر أن يسمع منها ما تريد أن تقول .. وبهدوء وتماسك تطلب سعاد :

– جاسم .. أرجوك .. أنا عندى كلام أريد أقوله لك .. بس مو فى البيت .. بكره إن شا الله نروح كافيتريا ” ريشو ” القريبة هذه .. عشان أقدر أتكلم معاك على راحتى .. أرجوك يا جاسم لازم نروح .. لازم .

يتذكر جاسم إن كافتيريا ” ريشو ” هذه ، شهدت أروع لقاءاته مع سعاد ، حين حضرت إلى أمريكا لأول مرة ، قبل أن يتزوجا ، وبعد أن تزوجا ، وأنجبا ، كانت هى المكان المفضل لهما فى أوقات السعادة والفرح ، لذا تزداد دهشته من طلب سعاد فى هذا الوقت المتوتر بالذات ! تجيب سعاد تساؤله الصامت قبل أن ينطق به :

– أرجوك .. لا تعتذر يا جاسم .. ضرورى نروح .. أنا مانى عارفة أتكلم معاك فى البيت .. ما فى فرصة .. أرجوك يا جاسم توافق .

يجيب جاسم طلب سعاد فى دهشة كلما نظر إليها ! وكلما أحس إلحاحها ، وشعر برجائها :

– زين سعاد .. تكلمى .. قولى إيش عندك .. قولى الحين .. لا تؤجلى الموضوع لباكر !

– لا .. ما أقدر يا جاسم أتكلم الحين .. ما عندى استعداد .. خليها بعدين .

يوافق جاسم على طلب سعاد ، ينهض واقفاً خارجاً إلى صالة المعيشة ، حيث يتواجد أفراد الأسرة كلهم ، بما فيهم راكان ، الذى يظل مستيقظاً ، يروح ويجئ بينهم وبين أمه طول الوقت ! يجلسون جميعهم بين يدى الله ، يصلون . يدعون . يبتهلون ز يرجون الله أن يحمى الأهل والوطن من هذا الهول الذى إقتحم عليهم ديارهم ، وأن يرفع عنهم هذا البلاء ! تقرأ ليلى آيات الله البيّنات دون إنقطاع داعية الله أن يحفظ الكويت وأهلها من كل شر وعدوان ، وأن يقهر هذا الظالم صدام اللى ما يخاف ربه ، وأن يبعد زبانيته عن أرضهم ، ويخرهم من ديارهم . آمين يا رب العالمين . آمين يا أرحم الراحمين .

.. يمضى الليل أسوداً . جباراً . مهيباً . مخيفاً . تتناوبه ظلمات الشك ، والريبة ، والوساوس والهواجس ، تلك التى تتكدس فى لقب جاسم فتطحنه طحناً . تسحقه سحقاً . تدمره تدميراً . وأهوال الدنيا كلها تنهال فوق رأسه . تبقى تتزايد حوله ، بعد أن تدهور الحال به من القمة إلى القاع !

يظل جاسم مسهداً ساهراً مؤرقاً لا يغمض له جفن طول ليلة .. لم ينم ليلها ! يعود يحادث نفسه للمرة المليون مسائلاً :

– شنو تبى سعاد ؟! شنو تبى ؟! هى تبى شئ أسوّيه لها ؟! وألا هى تبى تسوّى لى  شئ ؟!

لا يعرف جاسم طريقاً إلى الراحة والسكون ، فعقله ما زال يلف ويدور ، يظل يقلّب الموقف على كل الوجوه .. يبقى متيقظاً ، حائراً ، متخوفاً مما سوف يسمعه من سعاد ، متمنياً فى قرارة نفسه أن يكون الموضوع بعيداً عن دلال لأن الكلام فيه يحرج سعاد قبل أن يحرجه .. وهو لا يريد إحراجاً سواء له ، أو لها !

لذا ، يظل يفكر ويفكر ، لا تغمض له عين حتى مطلع النهار .. ! يبقى يحدق فى سقف الغرفة شارداً ساهماً . مستغرقاً فى تفكير عميق عميق . ومخه لا يتوقف عن الدوران ، حول توقعاته المرتقبة بسبب هذا اللقاء العجيب الغريب .. الذى تحدد فى وقت أعجب
وأغرب .. !


الفصل السابع عشر

اللحظة الحرجة !

 

صرخة ذعر ملتاعة تشق سواد النهار .. تهّب دلال من نومها مذعورة حوالى الساعة العاشرة على دوى القنابل ، وفرقعة الإنفجارات ، وهدير الطائرات التى تملأ عنان السماء ! وخهى تحلق على إرتفاع منخفض فيزلزل صوتها المروع سكون المكان ! ويعطى إحساساً مفزعاً كأن القيامة ! والدنيا إنهدت على من فيها .. !

تنهض دلال خائفة مذهولة تسأل عن مصدر هذه الأصوات المرعبة ، وهى تضم إبنتها دانه إلى صدرها وتحتضنها بقوة . بعد أن صحت من نومها صارخة باكية ، فى حين كانت دلال خائفة ، حائرة ، تحس قلقاً مبهماً ، وذعراً غامضاً من تلك الأصوات المتفجّرة القريبة والبعيدة التى تسمعها من الكويت لأول مرة فى حياتها !

تتمتم جازعة عاجزة عن الحركة أو ردة الفعل إزاء هذا الرعب المباغت :

– شنو هذا ؟! شنو هذا ؟!

لحظات وتخرد دلال من غرفتها ، تدخل غرفة أمها ، فلا تجدها فى فراشها ، تفتش عليها فتراها تركض فى البيت وعيونها مفتوحة على آخرها .. وهى تسأل دلال فى دهشة وذعر :

– بسم الله الرحمن الرحيم .. شنو هذا يا دلال ؟! إيش صاير ؟

ولا تنتظر أمها الإجابة ، تركض نحو السطح ، تصعد بسرعة ، تنزل بسرعة ، تركض بسرعة من غرفة لغرفة وهى لا تعرف .. شنو صاير ! .. ولا تعرف سبب الحرائق المشتعلة فى كل مكان ، ولا سبب هذه القنابل اللى قاعدة تنضرب على البنايات الكبيرة بكل الكويت ..!

تسمع دلال بصعوبة رنين الهاتف ، فتركض ترفع السماعة ، وإذ بصوت أخيها الكبير جمال :

– دلال .. سمعى .. ترى العراق دخل الكويت .. جهّزى حالك بسرعة .. راح آجى الحين آخذكم !

تسأل دلال أخيها الكبير مذهولة مما تسمع :

– شنو تقول جمال ؟ العراق دخل الكويت ؟ ليش ؟! متى ؟!

هنا تقفز أم دلال ، تنط كمن لدغها عقرب تخطف السماعة من يد دلال تعيد السؤال على جمال :

– جمال .. شنو تقول جمال ؟ العراق أخذ الكويت ؟ شنو هالحكى ؟! مين يقول ؟! شنو صاير جمال ؟! شنهى السالفة ؟!

تسمع نفس الرد المسرع المتوتر ، فترمى السماعة من يدها .. تجرى تفتح الراديو ، وما هى إلا لحظات .. حتى يصلها النبأ اليقين .!

تصرخ أم دلال ، تولول حينئذ نائحة :

– أمى .. أمى فى المستشفى بروحها .. أكد يراح تموت من الخوف .. آه يوّما .. آه يوّما .. قلبك ما يتحمل هالمصيبة .. ياربى .. أمى راح تموت .. راح تموت !

تلتقط دلال السماعة تكلم أخيها جمال ، وهى لا تعرف ماذا تقول له ، فهو يصرّ على أخذهم عندهم بالبيت فى العديلية ، لكنها تعتذر بسبب إصرار أمها على الذهاب إلى المستشفى ، فيقول جمال معترضاً رافضاً :

– ما يصير دلال تظلون بروحكم فى البيت بدون رجال معاكم .. ماحد يعرف شنو راح يصير .. الدنيا كلها ملخبطة فوق حدر .. ما يصير .. !

وقبل أن ترد دلال على أخيها ، تصرخ أمها فى وجهها ، بصوت يخرق أذن شقيقها جمال :

– لا .. أنا ما أقدر أروح عند حد وأخلى أمى بروحها فى المستشفى .. أنا باروح الحين أشوفها .. لا .. لا .. ما أقدر أسيبها .. ما أقدر أخليها .

تهرع دلال مع أمها ودانة إلى مستشفى مبارك الكبير ، حيث ترقد الجدة العودة منذ إجراء عملية القلب لها فى غرفتها الخاصة بالجناح . وبدون أى توقع يصبح الطريق القصير من السالمية إلى الجابرية ، حيث توجد المستشفى طريقاً بلا نهاية !!

ترتبك حركة مرور السيارات التى تنطلق فى كل مكان ، فإشارات المرور تحولت إلى هياكل معدنية ليس لها أهمية ، فى حين صارت ألوانها الحمراء والصفراء والخضراء بلا أى معنى أو مغزى ! فالسيارات تنطلق عكس السير ، الكل يجرى . الكل يتحرك فى كل إتجاه . الفوضى تحكم الموقف . فلا ضبط . ولا ربط . لم يعد هناك أى إعتبار لقواعد السير المتعارف عليها !

وبشق الأنفس ، تتجاوز ، سيارتهن ذلك الإزدحام الفظيع الذى دهم محطات البنزين سواء فى السالمية ، أو الجابرية ، كانت عشرات السيارات تصطف تعبئ الوقود داخلها بالإضافة إلى صفائح أخرى إضافية ، معدنية كانت ، أو بلاستيكية !!

معجز إلهية وحدها أوصلتهن إلى مستشفى مبارك ، ركضن جميعهن إلى غرفة الجدة التى وجدنها نائمة فى فراشها ، لا تدرى عن الدنيا شيئاً ، ولا تعرف ماذا يدور حولها ! ولا تعلم شيئاً عن الغزو الذى بدأ قبيل الفجر بقليل !!

تمشى دلال فى الممر ، تحاول أن تقابل أحداً تسأله عن وضع المرضى الآن ، لكنها تجد عند كل شخص تتقابل معه فى المستشفى دهشة عصبية بادية فى الأيدى ، وفى الأصوات ، وفى الحركات ، فلا أحد يعرف ماذا حدث ، أو يحدث ، أو سوف يحدث !

أخيراً تلتقى دلال أحد الأطباء .. تسأله فى جزع عن وضع جدتها ، تستفسر منه عن مكان الطبيب المختص الذى سيتابع حالتها لتعرف منه حقيقة حالتها الصحية الآن ، ولتسأل ما إذا كان فى إمكانهم أخذها إلى البيت ، أم أن هناك ضرورة تحكم بقاءها فى المستشفى ؟!

لكن .. قبل أن يقرر الطبيب ماذا يقول ، تصرخ أم دلال فى ابنتها رافضة هذا الرأى ، مصممة أن تبقى أمها فى المستشفى :

– أمى ما تطلع من المستشفى .. أمى لو دشَت الحين البيت راح تموت .. أمى لازم تظل بغرفتها تأخذ علاجها وما تخرج إلا وهى سليمة تمشى مثل الحصان !

وفى وسط هذا الحدث المباغت المخيف، وفى قلب هذا الموقف المرعب الرهيب ، تقتحم صورة جاسم بشاعة اللحظة الحرجة ، فلا أحد يدرى ماذا يفعل ؟ وماذا يمكن أن يكون ؟! وضع غريب مفاجئ بغيض . فلا أحد يتوقع سوى الموت والخطر الذى يتوفر عادة فى مثل هذه الظروف تحت سيطرة الغزو والعدوان !!

هنا .. يصير جاسم محور الأمن والأمان فى وجدان دلال التى تنادى فى إحتياج وإلتياع :

– وينك يا جاسم ؟ .. وينك يا جاسم .. ؟ ليش خليتنى بروحى .. ليش تركتنى لوحدى ؟

تبكى دلال من قلب مجروح ، وهى تمشى بين ردهات المستشفى ، تمشى تنظر إلى المكاتب الصغيرة المفتوحة الأبواب ، فتلمح فى بعضها أعضاء الهيئة التمريضية ، كما تلمح البعض الآخر وقد خلا منهم ، لا تعرف مع من تتكلم ، أو ممن تطلب الدواء اللازم لجدتها ، إلى أن تلتقى بعض الأطباء الذين طمأنوها ، ونصحوها بعدم أخذ جدتها من المستشفى ، حتى لا تتعرض للإهمال أو نقص الرعاية لأن حالتها لا تسمح بخروجها من المستشفى الآن .

تقتنع دلال أخيراً برغبة أمها فى عدم إصطحاب جدتها إلى البيت ، بعد أن تضاعف مع الوقت الشعور بعدم الأمان ، فتبكى وتبكى ، تسيل دموعها فى حرقة ، وهى تحاول أن تعرف ماذا يحدث ، وماذا يمكن أن يحدث .. وماذا يمكن أن تفعل ، بعد إحساسها بالخوف الداهم ، والإحتياج الملحّ لجاسم .. ووجود جاسم !

يظل الذهول هو الشعور الوحيد المسيطر .. الذهول .. الذهول .. !!

فالمحنة المباغتة أذهلت الجميع . لا أحد يدرى ماذا يمكن أن يكون . أو ماذا يمكن أن يفعل !!

تظل دلال تنادى جاسم .. تظل تتمنى وجود جاسم فى هذه اللحظات بالذات . لكن .. هيهات أن تتحقق أمنيها ، فجاسم الحين فى أمريكا ، وهى هنا ، داخل الكويت ، التى أصبحت معتقلاً كبيراً محاصراً .. بالجنود .. والسلاح . والخوف . والفزع . والموت !

ترجع دلال ، يرتج بدنها من شدة الخوف ، كلما أحست إحساساً متزايداً يؤكد عدم وجود جاسم بجانبها فى هذه المحنة ! نعم .. هى تحتاج جاسم .. هى تريد جاسم .. هى تدعو الله أن يأتها جاسم ..

– آه .. وينك الحين يا جاسم ؟!

فى أمريكا ، فى ” سيراكيوز ” ، يجلس جاسم فى قاعة بيته صامتاً ، ساهماً ، واجماً ، يحاول أن يمنع دموعه التى تسيل حزناً على الشيخ فهد الأحمد ، يحاول أن يبعد عن عيونه الصور المعلقة على جدران غرفة المعيشة أمامه ، ومن بينها صورة الشيخ فهد الأحمد ، رحمه الله ، وهو يرفع بيديه الاثنتين كأس دورة الخليج إلى أعلى ، فرحاً بذلك الإنتصار الرائع الذى أحرزته الكويت فى مبارياتها الحاسمة الرهيبة مع العراق !

آه .. قتلوه الأوغاد .. ! قتلوه الأنذال .. ! وهو يدافع عن الكويت .. ! البطل .. رحمة الله عليه .. يعود جاسم مرة ثانية يطالع الصور ، لا يستطيع أن يمنع عينيه عن النظر إليها ، فيرى صورته مع الشيخ فهد عندما إلتقى به فى شهر مارس الماضى ، قبل خمسة شهور فقط ، عندما قابله فى الكويت ، وكيف كان مشغولاً بسبب تلك المواقف التى إعترضت دورات الخليج ، وكادت تفشّلها .. !

إن صور الشيخ فهد الأحمد تحتل جانباً كبيراً من جدار قلبه ، قبل أن تحتل مساحة كبيرة على جدار غرفة المعيشة فى بيته ! إن جاسم لا يستطيع أن ينسى حبه للشيخ فهد ، فها هى صورة كبيرة معلقة له ، توضح إلى أى مدى هو غاضب ، حانق ، أثناء بطولة ” سيئول ” الأوليمبية ، كان ثائراً خارجاً عن طوره وعن شعوره ، عندما وضعت القدس على الشاشات عاصمة لإسرائيل ! فوقف فيها هادراً ثائراً كالأسد . وقف يعترض ويرفض هذا الوضع . وهذا الإعتداء على العروبة . ولم يسكت إلا بعد أن إعتذرت اللجنة المنظمة عن ذلك !

.. مات الشيخ فهد الأحمد وطنياً ، كان بطلاً عربياً رياضياً على الصعيد الدولى .. الله يرحمه .. الله يرحمه . تجيش المشاعر فى نفس جاسم ، فتفيض أحزانه ، تطغى شجونه ، تسيل دموعه ، يغّص قلبه بالحزن والأسى ، فلا يقدر أن يطالع باقى الصور التى تغطى الجدران أمامه .. ! ويجهش بالبكاء .

وهنا .. يوقف رنين التليفون سكين الآلم الذى يذبح جاسم ، يشق قلبه شقاً ، فيجيب بصوت حاول ألا يكون جريحاً يشئ بحالته النفسية الكئيبة ، إلا أنه لم يفلح . يعرف جاسم المتحدث على الطرف الآخر ، إنه خاله أبو إبراهيم يتكلم من لندن يطمئن عليهم ، وعن أحوالهم ، وهو وخالد وبدر ، كانوا قلقين على أحوالهم ، يريدون أن يطمئنوا عليهم ، كما كانوا مصرّين أن يتجمعوا كلهم فى لندن ليكونوا معاً حيال هذه المحنة يشدّون أزر بعضهم البعض ويشعرون بالعزوة والسند ، ويكونوا جنباً إلى جنب فى هذه الظروف الصعبة التى لم يكونوا يتوقعونها أبداً .. أبداً .!!

ينهى جاسم المكالمة بعد أن يعدهم بالاتصال ثانية عندما تصحو أمه وخالته . يسأل فى قلق عن أخبار الديرة والأهل هناك ، فيجيئه الرد مبهماً ، غامضاً ، فالإشاعات كثيرة ، والحقائق ضائعة ، لا أحد يعرف بالتحديد ماذا يحدث أو يكون فى مثل هذه المواقف والظروف والأحوال .. غير المتوقعة على الإطلاق !

يشرد جاسم مع أفكاره ، يحس خطوات سعاد متجهة إليه ، يحاول أن يرسم إبتسامة على وجهه المرهق ، إلا أنها تأتى مهمومة واهنة ، واهية ، باهتة .. !

تنظر إليه سهاد ، فتراه جالساً ما يزال بملابسه الرياضية الزرقاء .. ذلك اللون الذى يحبه ويعشه .. فهو يذكره بلون فريق المنتخب الوطنى ، كما يذكره بلون البحر .. والسماء .. والوطن .. والإنطلاق !

تعرف سعاد أن جاسم يحب أن يلبس هذا اللون كلما أحس بشئ من الضيق ، فهى تعرف أنه يمنحه إحساساً بالراحة والسكينة والهدوء أنه ينقله إلى أجواء الكويت ، وشارع الخليج ، وأبراج الكويت ، إنه يذكره بأصحابه فى الكويت ، فهو لون فانلة المنتخب الوطنى ، الذى يعيده إلى ملاعب الكويت .. وسعاد تعرف إن جاسم يتمنى ويشتاق أن يكون
هناك الآن !

يخرج جاسم مع سعاد ، يمشى مثقل الخطى ، مهموم القلب ، ساهم النظرة ، يعانى من حالة نفسية متدنية لا يستهان بها ، يبدو واضحاً أنه يعانى توتراً نفسياً وعصبياً ، وإرهاقاً بدنياً شديداً لدرجة أنه أصبح غير قادر على أن يفكر فى شئ ، ولا أن يتحمل أى شئ !

كان جاسم يرجو أن يكون الموضوع الذى تريد سعاد أن تحدثه فيه بعيداً كل البعد عن دلال ، وموقف دلال من ليلى ، حتى لا يتسبب ذلك فى إثارة ضيقه وإحراجه !

يدخلان الكافتيريا الفاخرة ، ذات الطابع الحالم القديم ، والديكور الهادئ المريح للأعصاب ، يجلسان على إحدى الطاولات الصغير المخصصة لشخصين ، تشد سعاد المقعد لتقترب من جاسم ، الذى يجلس جريح النفس ، مبعثر الرؤية ، والخاطر ، والوجدان .. يطلب فنجان قهوة إيطالى ، فى حين تطلب سعاد الشاى وطعام الإفطار .

يظل جاسم متشاغلاً برشف القهوة الساخنة ، منتظراً أن تفتح سعاد الموضوع الذى تريد أن تكلمه فيه . يرفع بصره نحوها ، فيجدها جالسة تنظر إليه بعينين يملؤهما الحزن والأسى ، يكاد الدمع يطفر منهما ، وما يلبث أن يختفى هذا التعبير الحزين الذى لم يستغرق سوى ثوان قليلة ، ليظهر بدلاً منه تعبيراً آخر يشوبه إنطباع الرغبة العميقة الصادقة فى الوصول إلى إقناع جاسم بضرورة التأقلم مع الوضع الحالى ، ومواجهة الظروف الطارئة بطريقة عملية واقعية .

تنتهى لحظات الترقب والحرج ، تخرج سعاد عن صمتها ، تتخلص من حرجها ، فى حين كان جاسم متشاغلاً عنها برشف القهوة ، يحاول أن يتهيئ ليكون على أهبة الاستعداد لما تقوله سعاد .. !

تلتفت سعاد تبحث عن عينّى جاسم الذى يتحاشى النظر إليها ، تجرد المقعد بإتجاه الطاولة مرة أخرى ، لتدنو منه أكثر وأكثر .. تقول بصوت يمتزج بالحب ، ويقظة العقل ، ورهافة الحس :

– جاسم .. أنت تدرى مكانتك عندى وتعرف معزتك .. تعرف حبى لك وتعرف إنك عندى أغلى الناس .. أغلى من الدنيا كلها .. أرجوك يا جاسم إعطينى فرصة أعبّر لك عن مشاعرى .. أرجوك .. نروح الحين البنك عشان نعمل الحساب المشترك ..

.. الحساب المشترك ؟! تعصر هذه الجملة قلب جاسم عصراً ! رغم أنه كان يتوقعها ، إلا أنه غصّ بها . يظل ينظر إلى فنجان القهوة الفارغ أمامه وهو يحركه بين أصابعه ، فجأة .. يوقف الفنجان عن الدوران ، يضع كفه عليه ، يكتمه وهو يقول لـ سعاد :

– أنا ما عندى مشكلة يا سعاد .. لا تحملين هم .. ترى أنا عندى فلوس وايد .. وراح تجينى فلوس من صديق لى فى الإمارات .. و .. و .. !

تقول سعاد فى حنان بالغ ، بطريقة هادئة ناعمة حنون ، لا توحى بعدم تصديق
كلامه :

– أنا زوجتك يا جاسم .. أنا ما أمون عليك .. ما فى فرق بيننا .. هذى فلوسنا كلنا .. أرجوك يا جاسم لا تحرمنى من الإحساس إنى واقفة جنبك فى هذه الظروف الصعبة وإنشالله تتحسن الأحوال وترجع الأمور لطبيعتها ..

تقول سعاد ذلك ، كأنها تستأذن ، أو تعتذر ، كى يسمح لها جاسم ويوافق على الذهاب معها إلى البنك . تبقى تلح عليه ، تظل ترجوه ، وفى عينيها منظر بطاقات الإئتمان الملقاة فى إهمال بلا مبالاة بجوار الفراش .. يمزق قلبها أو يخدش شعورها .. تحس حيرة جاسم ، فتقول بنفس الحنان :

– هذا الوضع ما راح يستمر يا جاسم .. ما راح يطّول .. وما تنسى إننا قدامنا سفر .. لازم نروح لندن عشان نكون جنب خالى .. هو كمان راح يخفف عن أمى وخالتى كتير .. وراح يطمئنهم كثير .. وإنشا الله يرتاحوا هناك أكثر وخصوصاً إن بدر وخالد هناك . 

يفكر جاسم بسرعة فى موقفه الطارئ . يعيد الموقف مرة أخرى ، يتحرك فى مقعده . يفرد ظهره ، ثم يعود ينظر إلى فنجان القهوة الفارغ ، ينادى على المضيفة يطلب منها فنجاناً آخر ، يسأل سعاد ما إذ كانت ترغب فى فنجان آخر من القهوة ، فتوافق .

يحس جاسم أنه مقيد أمام عينى سعاد . يحس إرهاقاً نفسياً شديداً ، إذ أنه لا يجد مخرجاً آخر غير الموافقة على الذهاب معها إلى البنك !

يعيد جاسم الحوار مع نفسه ، يحاول أن يفلسف أموره ، فهذه هى حالة الحرب ، وهذا وضع مؤقت وأمر طبيعى يحدث دوماً أثناء الحروب ، فالإنسان لابد وأن يساير الظروف ، وأن يتقبل الواقع الجديد بكل أبعاده ، وإلا خسر أشياء كثيرة لا تعوّض .. !

يوافق جاسم . يرفع رأسه فيرى إبتسامة الرضا فى عينىّ سعاد ، ينهضا بعد أن يحتسيا القهوة ، فى حين لم يلتفت أحدهما إلى طعام الإفطار ، الذى بقى كما هو على الطاولة لم يمس !

يخطو جاسم مع سعاد داخل البنك ، وهو يحاول أن يأخذ الموضوع بروح رياضية ، يهوّن على نفسه صعوبة الموقف ، فمهما كانت سعاد ، هى زوجته وأم عياله ، ما هى غريبة عليه ، بل حتى الغرباء يقفون جنباً إلى جنب فى مثل هذه الظروف لمغالبة صعوبة والواقع ، ومحاربة تحدى الظروف ، نعم .. لابد إذن من التعاون والمشاركة لمواجهة هذه الأزمة الطارئة !

يجلس جاسم على المقعد أمام مدير البنك المساعد فى إحدى غرف البنك الجانبية ، يوقع الأوراق التى عبأتها سعاد .. و .. وقعتها سعاد ! يبتسم مرغماً جاهداً أن يدارى فى نفسه ما فى نفسه ، بينما يبدأ يغوص فى أعماق بحر متلاطم الذكريات ، يرى خلال أمواجه الغزيرة الهادرة .. سعاد عندما جاءت عروساً إلى أمريكا ، يذكر كيف إصطحبها إلى البنك ، حيث كانت تقف تنتظر أن يخبرها ماذا تفعل .. وأين توقع ؟

– يا الله .. ! يا مغيّر الأحوال من حال إلى حال ! سعاد .. ما كانت تفهم فى ذاك الوقت تفاصيل هذه الإستمــــــارة .. وما كانت تعرف إيش لون تملأها .. !! والحيـــن .. أنا …. !

.. يتأمل جاسم نفسه فى عمق اللحظة ، يستحث فى ذاته مزيداً من القدرة على الإحتمال ، كى يتاح له أن يتحمل هذه المشاعر العنيفة المتضاربة ، ذات الأثر الحاد على نفسه فى هذه اللحظة الحافلة ، كى لا تترك أثراً حاداً يفقده رؤيته الواضحة بعمق الموقف !

يقف مثقلاً ، مشحوناً بهدير الإنفعال ، فى حين يحاول أن يصل فى أعماقه إلى درجة أعلى من درجات القدرة على التحكم فى الذات !

.. يستيقظ العقل فجأة ، يغالب هذا الضعف والوهن ، فيصبح من القوة بحيث يسيطر على تلك الإنفعالات المتفاعلة ذات التأثيرات الضارة الجارفة التى تكاد أن تطحنه .. بقسوتها .. وحدتها .. !

يمضى جاسم خارجاً من البنك ، منتصب القامة ، مرفوع الراس ، مشدود الظهر ، يمشى وهو يشعر أنه قادر على إختراق الجبال ، وصهر الجليد ، وعبور الصحارى ، ومناطحة السحاب !

يمضى جاسم خارجاً من البنك وهو يجعل من نفسه مركزاً للتأمل ، ومحوراً للتفكير يدور حول ذاته ، يلتف حول كيانه ، ذاك الذى يتعملق رغم ضآلة الحدث ، يتضخم رغم ضمور الموقف ، ليبقى يخطو فى إعتزاز زائد بالذات ، وثقة مطلقة بالنفس ، مناجياً موحياً لمن حوله ومن بينهم سعاد :

أنا .. جاسم الناصر .. !


الفصل الثامن عشر

البشع المشــوه !

 

فى غرفة المعيشة المتسعة ، العالية السقف ، المتعددة النوافذ ، الشاسعة المساحة ، فى شقة الخال أبو إبراهيم فى ضاحية ” سانت جونس وود ” بلندن ، فى تلك الشقة الكبيرة الواسعة المطلة على حديقة ” ريجنت بارك ” بالقرب من مسجد لندن الكبير ذى القبة الذهبية العملاقة ، وقف الجميع يؤدون صلاة العشاء ، يؤمهم الخال أبو إبراهيم ، الذى وقف أمام ربه خاشعاً ، داعياً ، أن يزيح الله عنهم هذا البلاء .

.. بعدها جلسوا جميعهم يتابعون الأخبار عن الكويت ، يتابعون الأنباء بقلوبهم ، قبل عيونهم وآذانهم ، فهم يتلهفون على سماع أخبار الغزو الغادر الذى يرمى ظلاله السوداء على أرض الكويت ، للأسبوع الثالث على التوالى ، فكانوا يبكون ويتألمون من هول الموقف ، وهم يشاهدون كيف يمارس العدو المنتصب أساليب القذرة ، وكيف يعبث بكرامة المواطنين فى قلب الوطن !

تسود أحاسيس الحزن أنحاء الشقة الكبيرة ، تزاحم أصحابها ، تعذبهم أثناء الليل ، تشقيهم أثناء النهار ، فتحرق قلوب ساكنيها بنار الأسى ، والضيق ، والوهن ، فيصبح أى تعبير يوحى بالفرحة تعبيراً مرفوضاً ، بعد أن أتفق جاسم وبدر ، وابن خالهما خالد ، الطيار الحربى خريج كلية الطيران فى ” ساند هيرست ” بإنجلترا على العودة إلى الكويت ، عن طريق السعودية لينضموا إلى صفوف المقاومة الوطنية ..

كان الموقف لحظة رحيلهم صعباً ، قاسياً ، كانت ساعة الوداع فوق إحتمال البشر ، تفّجرت الدموع فى العيون دون أن يتمالك أحد نفسه فى وقت الفراق العصيب هذا ! نعم .. فى ذلك الموقف الرهيب كان الكل يخشى النتائج المجهولة الآتية ، فالأرواح مهددة ، والموت يتربص .. يحصد المئات هناك !!

آه .. يارب الأرض والسموات . يا حافظ . يا منجّى . يا منقذ . يا مغيث .

كان الكل فى حالة من الأسى الواضح على الوجوه ، إلا بدر الذى إستطاع بموهبته التمثيلية الفذة ، أن يقتلع الإبتسامة من بين الدموع ، أن يرسمها على الوجوه التى تنضح حزناً وخوفاً ، وقلقاً ، ورهبة !

وأنوار ، وراكان ، حتى المربيتان البرازيلية والفلبينية ، لم تستطع إحداهما أن تكبح دموعها ، ولا أن تمنع نفسها من البكاء ، فيما عدا بدر ، الوحيد الذى أخذ الموقف ببساطة ، وعالج الرغبة فى البكاء ببعض الكلمات الساخرة ، والقفشات والعبارات العابثة ، التى خففت حّدة البكاء !

لكن .. ما أن يغلق الباء وراءهم ، حتى تقع أم عبد الله من طولها على الأرض مغشياً عليها بجوار الباب ، وفى نفس اللحظة ترتمى إلى جانبها أم جاسم بعد أن عجزت هى الأخرى عن تحمّل هذا الموقف المخيف الذى يتهدد حياة الشبان الثلاثة بالموت ! ..

يبكى الجميع الذين تجمعّوا حولهما ، حتى الأطفال كلهم يكون ، فيحاول أبو إبراهيم تهدئتهم ، إلا أن دموعه هو أيضاً تخونه ، فلا يملك إلا أن يفتح كتاب الله الكريم ، وهو يجلس القرفصاء على الأرض بينهم ، يقرأ عليهم بعض آياته علها تدخل السكينة على قلوبهم .. ويظل يرتل عليهم آيات الله البينات :

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

صدق الله العظيم

يهدأ الكبار ، ترتاح قلوبهم ، لسماع كلمات الله ، فى حين يشعر الصغار أحمد وأنوار وراكان بحزن شديد ، وبوضع جديد ، يطرأ عليهم ، يدعوهم أن يغّيروا سلوكهم ، وطريقة تفكيرهم ، فلم يعد أحمد يهتم بالذهاب إلى ” البيكاديلى سيركس ” ليلعب البولينج فى ” التروكاديرو ” ، ولا سباق الجمال الخشبية ، الذى كان يشترك فيه مع خاله بدر فى الإجازات السابقة ! كما أصبح يرفض الذهاب إلى صالة التزلج على الجليد فى ” كوينز واى ” ، ولم يعد يرغب حتى فى التنزه عند البحيرة فى حديق ” هايد بارك ” .. !!

صار أحمد فجأة رجلاً ناضجاً ، يشعر بأهمية الحدث ، وجدوى الوقت ، وقيمة المال ، صار يتمنى أن يشارك فى المظاهرات التى تنظمها الجالية الكويتية فى لندن ، فهو يودّ أن يكون له دوراً كبيراً يؤكد رغبته العميقة فى المشاركة فى تحرير الوطن ، فصمم أن يمشى رافعاً أعلام الكويت وصور الشيخ جابر ، والشيخ سعد ، فى المظاهرات ، التى أصبح يصّر على الإنضمام إليها كلها ، مهما كان عددها !

تمضى الأيام مقيتة ، ثقيلة ، مقلقة .. بعد رحيل الشبان الثلاثة ! يجلس الأشقاء الثلاثة يدعون الله أن ينجى أبناءهم ، وأهل الكويت جميعهم من كل سوء وشر يتربص بهم . آمين يارب العالمين .

وفى ليلة من ليالى لندن الباهتة الباردة ، وبينما هم يتحلّقون حول التليفزيون ، إذ برسالة سمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح ، تبث إلى شعب الكويت ، فيسمعون صوته يخترقه قلوبهم ، يهّز نفوسهم وذلك بمناسبة مرور شهر على العدوان الغاشم ، فيجلسوا ينصتون بكل الحب إلى صوته الكريم ، وهم يحمدون الله ويشكرونه كل الشكر على نجاته وسلامته من الوقوع بين أيدى المعتدين ، فهو الأمير ، وهو الأب ، وهو الرمز ، وهو الملاذ ، وهو الأهل .. وهو الوطن .. يسمعونه يقول :

– يا أبناء الديرة الكرام .. يا من شاءت الظروف الحرجة أن تكونوا خارج الكويت ، إن مسئوليتكم اليوم لا تقل عن مسئولية إخوانكم فى الداخل ، فإن لم يسمح لكم الحال بمشاركتهم فى التصدى للعدوان ، فلا أقل من أن تثبتوا لهم ، وللعالم أجمع إنكم معهم تناصروهم بجهودكم وإمكاناتكم المتاحة ، وتدعمون صمودهم لتحقيق النصر بإذن الله . 

يسمعونه .. فيتأثرون ، يبكون وهم يدعون له بطولة العمر والصحة والعافية ، وأن يحفظه الله للكويت ولشعب الكويت .. يذكرون بداية الغزو عندما إنقطعت الأخبار عنهم ، وكيف كانوا يسألون فى لهفة عن الأمير ، والشيخ سعد ، وهم فى غاية الذعر والقلق والخوف عليهما ، ثم يذكرون كيف أحسوا بالإرتياح والفرح عندما أطمأنوا عليهما ، وعرفوا أنهما صارا فى مأمن بعيد عن الخطر ، بعيد عن أيدى الغزاة وغدرهم .. حمداً لله .. حمداً لله .

يظلوا يصغون ويصغون إليه بقلوبهم إلى أن يقول فى نهاية رسالته العزيزة العميقة الغالية :

– إخوانى وأخواتى .. أننا نؤمن إيماناً راسخاً بأن الله سبحانه وتعالى قد إبتلانا بما نحن فيه ، وإن من آمن وعمل وصبر على هذا الإبتلاء فإنه هو الظافر بنصر الله وتأييده ، وإننى على ثقة بأنكم ستكونون من الظافرين بعون الله .

وصدق الله عزّ وجل فى محكم كتابه :

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ  لاَ  يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ

صدق الله العظيم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

رب نار تصبح رماداً .. نحن بخير ما دام الأمير بخير .. الحمد لله على كل شئ . ينهض أبو إبراهيم من مكانه ، يجرّب شريط الفيديو ، يطمئن إلى أنه قد سجل رسالة الأمير ، كى يتمكن من سماعها وتكرارها ، ليغذى بصوته روحه ، ويسعد بصورته قلبه ، ويثلج بوجوده صدره ، الذى إزداد إحساسه بالأمان والإطمئنان بعد سماع هذه الرسالة المؤثرة التى منحتهم إحساساً خالصاً بأن المحنة طارئة ، وإن الأزمة زائلة .. وإن الأمور ستعود إلى طبيعتها فى القريب العاجل بإذن الله .

يجلس أبو إبراهيم مع شقيقتيه أم عبد الله ، وأم جاسم ، وهو يدعون الله جميعاً أن ينصر الكويت ، وأن يعيد الأمير ، وولى العهد الأمين ، إلى ديارهم بإذن الله سالمين معافين .. تمضى الأيام ، وما تلبث الأخبار أن تصل تباعاً ..

حركة المقاومة الوطنية الباسلة تصعّد عملياتها ضد قوات الغزو .. وتنفذ سلسلة عمليات ناجحة على مدى الأيام الماضية . وتوقع إصابات بين صفوف القوات الغازية !

– الله أكبر .. الله أكبر .. الله يسترها معاكم يا ولادى .. الله ينجيكم .. وينجى الكويت من أيديهم .. الله يحفظكم .. الله يخليكم .. يارب .. أنت الحافظ .. يارب .. أنت المعين .

ينهمر الدعاء مختلطاً بالدموع والبكاء بينما يتصاعد نداء من الكويت ، من قلب الوطن الغالى ، توجهه القوى الوطنية الكويتية إلى كل المنظمات الشعبية ، والشخصيات الوطنية العربية ، تطالبهم فيه بالوقوف ضد إحتلال الكويت .. الله فوق الجميع .

تمسك أم جاسم قلبها بيدها . تضغط صدرها وهى تدعو الله دامعة أن ينقذ ولدها ، وشباب الكويت من أيدى هذه الطغمة الظالمة الباغية فى الأرض ، وأن ينجيه هو ومن معه ، تظل تبكى وهى تقول بمنتهى الألم والعذاب :

– يا ليتنا كنا رحنا وياهم .. واللى يصير عليهم يصير علينا .. يا ليتنا كنا هناك قاعدين فى بيوتنا مع أهلنا .. كان أهون وأرحم من هالعذاب اللى إحنا فيه الحين .. يارب .. يارب خفّ عنا وهو علينا وأرحمنا يا قادر يا كريم .. يا أرحم الراحمين .

يتصاعد الدعاء ، فى حين تتدهور حالة أم عبد الله تدهوراً سريعاً بعد أن وصلت الأخبار الخطيرة من الكويت عن الصراع العنيف الدائر هناك ! تحاول سعاد أن ترفع روح أمها وخالتها المعنوية ، فهى لم تفقد الأمل لحظة واحدة فى عودة الوطن وسلامة الأهل الغاليين هناك .

كانت أم عبد الله تعانى من خوف داهم يفقدها القدرة على الاستمرار ، وعلى تحمل ذلك القلق المرهق المروع ، الذى يفتك بقلبها الضعيف ، ساعة بعد ساعة ، ويوماً بعد يوم ، منذ مقتل أبنها الشاب الشهيد وسماع الأهوال اللى يشيب لها الولدان ، فقد كانت الأخبار التى تأتى مع القادمين من الوطن تنقل صوراً بشعة من ألوان التعذيب والهوان والإمتهان للأهل هناك !! يارب أنت الحافظ .. أنت المنجى .. أنت خير الحافظين .

بطبيعة الحال كانت الأخبار تصل شنيعة . فظيعة . بشعة . مقززة ! لدرجة إن بعضها كان لا يحتمل التصديق ! لكن .. رغم ذلك ، كان واضحاً أن معظم الناس ليس لديهم سوى فكرة واحدة تسيطر عليهم ، أن هذه الظروف الصعبة الطارئة سوف تتغير ، وإن هذا الوضع لابد وأن ينتهى . نعم . حتماً .. لابد وأن ينتهى .. ينتهى .. ينتهى .

يجلس الجميع فى صالة المعيشة الكبيرة الواسعة ، يلتفون حول بعضهم البعض أمام المدفأة ، التى تشيع نيرانها الحمراء الدفء فى الأطراف ، التى يؤذيها برد الشتاء هذا العام ، فالثلوج البيضاء تغطى الشوارع ، والشتاء عنيف هذه السنة ، لم يأت مثله منذ سنوات ، فالهواء ثلجى النفحات ، والبرودة خارج البيوت لا تطاق ، لا تحتمل ، فالتدفئة داخل البيت نعمة ورحمة .. ويل لمن يخرج إلى الطريق .. البرد له بالمرصاد !

أيام .. وترد رسالة صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح تريح القلوب من عناء القلق . تجلب الهدوء للنفوس الحائرة الملتاعة ، حين يؤكد صاحب السمو لأبناء الكويت فى الداخل والخارج قائلاً :

– بين فترة وأخرى أجد نفسى بحاجة إلى أن أتحدث إليكم حديث القلب للقلب .

.. إن التضحيات الغالية التى يقدمها أبناء الكويت ، وهم يواجهون جنود الباطل ستشكل قاعدة صلبة وراسخة لإنطلاقة الكويت المستقبلية .

و .. تنطلق من داخل الكويت أسمى آيات البطولة ، وأعلى إمارات السرور والفرح بعودة جاسم ، التى أشاعت جواً من البهجة ورفعت الروح المعنوية ، وأدت إلى راحة نفسية عميقة غمرت دلال وأمها وجدتها ، وكل من عرف هذا الخبر العظيم ! كانت فرحة دلال برؤية جاسم بعد الغياب ، أضخم شعور ، وأحلى شعور ، أحست به منذ ولدت وجاءت إلى هذه الحياة !

تصرخ دلال . تقفز . تنط ، لا تصدق عينيها ، تفركها بعنف بيديها ، عندما رأت جاسم واقفاً أمامها ! كادت أن تكذّب نظرها ! وأن تكذّب سمعها ، وأن تكذّب كل حواسها ، وهى تصيح وتصرخ فى هوس وجنون :

– معقول ؟! جاسم ؟ إنت رديت الكويت ؟! إنت فى الكويت ؟! متى جيت ؟! متى جيت ؟!

تنهار دلال فى بكاء فظيع ، فجرتّه مفاجأة الصدمة عند رؤية جاسم ، تستمر تبكى وتبكى وهى عاجزة عن التصرف أو الكلام ، بعد أن أجَج الفراق نار الحب وزادها وهجاً ولهباً وإشتعالاً ! صراحة .. كانت فرحتها برجوع جاسم فوق كل توقع ، وفوق كل تحمل ، وفوق كل المفاجآت !!الحمد لله . الحمد لله .

كانت هذه العودة أشبه بمغامرة خيالية ، إذ لم يكن دخول الكويت سهلاً ، ولا متاحاً ، إلا لهؤلاء الأفراد الذين يعرفون الطرق الخاصة بذلك .. صدق .. أهلها أدرى بشعابها ! كانت هناك عدة وسائل منها التنكر فى ملابس المزارعين ، وأسهلها الدفع وشراء الدخول ! .. وكان هذا هو الطريق الأضمن والأسهل ، فقد كان معروفاً إن كل ضابط له ” خط ” فى الصحراء خاصاً به ! ومن يدفع الثمن يستطيع أن يمر وسط هذا الحشد من الجند ، وذاك الكم من السلاح !!

يبدأ جاسم يتحرك بحذر شديد بين شوارع منطقة كيفان ، تلك المنطقة التى شاهدت طفولته وصباه ، والتى يحفظ طرقاتها ، وشوارعها ومعالمها ، عن ظهر قلب ! أنه يعرف كيف يؤدى دوره بمهارة كطبيب جراح يقوم بمعالجة جرحى المقاومة .. هؤلاء الأبطال الذين لم يبخلوا بالروح ، والدم من أجل تحرير الكويت .

يرفض جاسم العمل فى مستشفى مبارك ، بعد أن سيطر عليه جنود الإحتلال الذين أخضعوا جميع المستشفيات تحت سيطرتهم بعد إستيلائهم عليها ! وكان أى طبيب يرفض أن ينصاع لهم ، أو ينفذ طلباتهم ، يقتل على الفور ! لذلك بدأ جاسم يمارس عمله كطبيب ، بعيداً عن أعينهم ، وخارج حدود سيطرتهم !

.. يقف جاسم فى السرداب ، فى أحد بيوت منطقة كيفان ، حيث توجد طاولة خشبية ، وقليل من الأدوية ، ومقصات وأدوات جراحية ، وبعض المعدات الطبية ، من قطن وشاش ، ومطهرات وكل ما أمكن بعض المواطنين الإستيلاء عليه ، من المستشفيات ، ومخازن وزارة الصحة ، قبل أن يسلب العدو ما تبقى بها !

كان السرداب أشبه ما يكون بغرفة العمليات ، وكان جاسم يقف يمارس عمله كطبيب بأقل الإمكانيات المساعدة ، فكان يجرى عملية جراحية إثر أخرى لوقف نزيف غزير من ساق شاب أطلق عليه الرصاص ، بينما كان يتمدد آخر على الأرض ، يتأوه من شدة الألم ، بعد إصابته برصاصة ما زالت مستقرة فى كتفه !

هذا إلى جانب جرحى كثيرين تم تخديرهم ، أو فقدوا الوعى من شدة الألم ، فرجال القوات الخاصة قد ألزموا المستوصفات ، والمستشفيات ، بإخطارهم عن أى جريح يرد إليهم كى يتأكدوا من سبب إصابته ، ليعرفوا كيف إصيب ، ليعتبروه فى النهاية واحداً من شباب المقاومة إذا لم يستطع تبرير السبب ، فيهتمون بذلك ، ويعتقلوه .. ثم لا يعود أحد يعرف له مكاناً .. !

كان الجو مشحوناً بالتوتر والخطر ، حين أنتهت دلال من تلقى دورة فى التمريض ، فى مقر جمعية الهلال الأحمر ، فتخرج بعدها تقود سيارتها متجهة إلى كيفان ، وهى تحاول أن تلفظ ذكريات ليل طويل ، مخيف ، عانت فيه العذاب ، كل العذاب من شدة التفكير ، والتركيز على أمور حياتها الحالية ! فماذا تستطيع أن تفعل ، وهذا الهّم يحيطها ، يحاصرها ؟ كيف تستطيع أن توزع جهدها بين جدتها ، وأمها ، وأبنتها ، ونفسها ، ووطنها !!

آه .. ها هى تتوقف الآن مرغمة وسط الطريق أمام إحدى نقاط السيطرة ، يسألها الجندى الواقف فى صلافة عن الهوية ، ورخصة القيادة ، ووجهتها ، ونظرات عيونه النافذة الثاقبة تخترقها فى تحد ، تقدم له الأوراق المطلوبة دون أن تجرؤ على النظر إليه . تنكس رأسها بإنتظار إسترداد الأوراق التى أخذها منها ، والتى مازال يحملها فى يده ، ويلف ويدور بها .. حول السيارة ، وهو يطالع أرقامها ، ويقارنها بالأوراق التى بين يديه .. تشتد سطوة المواجهة بينهما ، وهو يسألها عن وجهتها . تقول له وقد إزدادت رغبتها فى الصبر والتحمل والتحدى :

– باروح أشترى خبر .

فى النهاية يعطيها أوراقها ، ونظرات عينيه كافية بأن تخرس الحوار الصامت بينهما . يشير لها بيديه أن تمضى ، فتحرك سيارتها وهى تتنفس فى إرتياح ، وتشد الحجاب على جبهتها ، وتتأكد من إحكام ربطته حول عنقها .

تجرى السيارة فوق طرق خالية بلا روح ، بلا إحساس ، مجرد شوارع عارية مرعبة مجردة من الحياة ، حافلة بالخوف والتوجس والقلق ، فها هى منطقة كيفان قد صارت شبه خالية من المارة ، بعد أن إمتدت إليها أيدى المعتدين الآثمين ، بالتخريب والدمار ، الذى يظهر واضحاً للعيان ، إذ لم يبق منزلاً إلا وأعتقل واحد من أفراده ، أو أكثر ، إلى جانب الخطف والإغتصاب والحرق والقذف بالقنابل والهدم بالمتفجرات !!

أخيراً .. تلتقى دلال بجاسم . تحاول لا إرادياً أن تحتمى به ، تلوذ بجانبه ، لكنها تلمح إلى جواره أحد الشباب وقد ظهرت إمارات الألم بادية عليه ، تلمح كدمات غامقة على ذراعيه وأثار جراح ، وبقايا دماء سوداء على جانب رقبته ! فتنحدر دموعها فى صمت ، وحزن يجرفها يخلخل تماسكها ، ويزعزع إتزانها !

تجوب دلال بعينيها الباكيتين فى أرجاء السرداب ، فتلمح خطوط دماء جافة ، وبقايا ثياب ، وعلب أطعمة فارغة ، ومعدات طبية ـ وبقايا عقاقير وأدوية ، وبعض مخلفات تثبت أن هذه القاعة الكبيرة قد تحولت بفضل الله ومجهود جاسم إلى مستشفى عملاق ، تجرى به عمليات عاجلة لإنقاذ حياة الكثير من الشباب الأبطال ، الذين اختاروا تقديم أرواحهم فداءاً للوطن .

يتحدث بعض الشباب بعضهم مع بعض أثناء وجود دلال ، فيأتى ذكر بدر فتسأل عنه ، فيقولوا لها أنه موجود الحين فى مقر سرى مع خالد ابن خاله فى منطقة الرميثية ، لأن هناك بعض الشكوك تدور حولهما ، بالذات حول خالد إذ يقال إن بعض الوشاة قد أخطروا جنود صدام عنه ، وكشفوا هويته العسكرية ، وأخبروهم أنه ضابط طيار فى الجيش الكويتى ، لذا أخذه بدر كى يخفيه عن الأعين ، ويؤمن له مكاناً آمناً مع بعض الشباب المنضمين إلى مجموعة المقاومة التى تتخذ لها مقراً فى المنطقة هناك ، وهم كاظم ، وجابر ، وعلى ، ومناور ، وعبد الرضا وسعاد ومحمود وعبد العزيز وغيرهم وغيرهم .. هؤلاء الأبطال .. حياهم الله .

تدور العيون فى صمت ، وجاسم لا يقدر أن يضيع دقيقة واحدة فى الكلام ، الكلام مع دلال ، فالعمل أمامه كثير والوقت قليل ، والسباق مع الزمن عسير ، عصيب ، فالحالات حرجة تتطلب جراحة فورية لابد وأن تتم بأسرع ما يمكن ، لكى يتم إنقاذ حياة هؤلاء الجرحى النازفين أمامه !

لابد أن تتم هذه الجراحة بأسرع ما يمكن قبل أن تتضاعف الخسائر ، إذ أن هجمات المعتدين ، ومداهمتهم للبيوت لا تجعل الأعصاب فى حالة إسترخاء ! تشتعل دلال حماساً ، وهى ترى همة جاسم ، وحرصه وبذله ، وعطائه ، فتخلع عباءتها ، وتشمر من أكمامها ، وتبدأ على الفور تنظيف المكان ، وتقديم المساعدة للجميع ، ومعاونة جاسم فى عمله رغم صعوبة النظر إلى الجراح ، ورؤية الدماء ، وسماع أنين الجرحى ، وتأوهاتهم ، لكنها تتماسك ، تصمد ، تستمر ، وهى لا تشعر كم من الوقت مضى عليها ، قبل أن تفكر فى الرجوع ، والعودة إلى البيت !!

تقترب دلال بسيارتها من البيت فى السالمية ، فتطالع فى حسرة ذلك المستطيل الكبير الذى يضم عدة محلات تحيطها ساحة وقوف سيارات واسعة ، تنظر إلى محل السمك المغلق على اليمين ، ذاك المحل الذى كان يحلو لجدتها أن تشترى منه السمك الطازج وهى سعيدة بقربه بدلاً من الذهاب إلى سوق السمك فى المباركية ، والعناء فى شيله وإحضاره .

آه .. تنبض الذكريات فى قلب دلال ، تخفق ساعات السعادة فى العام الماضى عندما ذهبت تشترى تورتة عيد ميلاد دانا على شكل ” ميكى ماوس ” من محل الحلوى العالمية ، تذكر كيف كان يضج بالناس ، والزحام ، والحياة فى حين تتصاعد رائحة الكعك والحلوى ، كان كل شئ فى هذا المستطيل يثير مشاعرها ، فهذا هو محل لعب الأطفال فى الواجهة ، ما زالت اليافطة الوردى التى تحمل إسمه باقية ، إلا أنه صار خاوياً فارغاً ، بعد أن كان يغصّ باللعب ، خاصة تلك العروسة الكبيرة التى تحبها دلال والتى إشترتها لها فى عيد ميلادها الماضى .. !

تتنهد دلال وهى تعود تطالع محل الأسماك الخالد قبل أن تستدير بسيارتها نحو بيتها ، وهى تتمنى فى قرارة نفسها وتحلم ، وتتخيل ، لو كان مفتوحاً لأشترت منه السمك لجدتها الذى تحبه وتفضله على اللحوم والدجاج ! هى فى الحقيقة تكاد لا تأكل غيره .. لذا كانت زبونة شبه دائمة لهذا المحل القريب ، الذى ينظف السمك بطريقة صحيحة ، ويقطعه ، ويجهزه حسب رغبة الزبون فى الحال . آه .. متى يعود الحال إلى ما كان عليه ؟! متى تفتح هذه الأبواب المغلقة .. وتمتلئ هذه الساحة بالسيارات كما كانت من قبل ؟! متى ؟! متى ؟!

تتحسس دلاء الدواء الذى أحضرته لجدتها بإرتياح شديد ، بعد أن أخذته بصعوبة من عند جاسم ، الذى كان يدبر الأدوية لعلاج المصابين بشق الأنفس ، تحمد ربها أنها قدرت أن تنفذ هذه المهمة الصعبة بنجاح ، بعد أن أخفت الدواء فى جيبها ، وغطته بعبائتهــا .

تقترب دلال من البيت سعيدة بإحضارها الدواء وعبورها به ، تحمد ربها أن إحدى نقاط السيطرة لم تقم بتفتيشها ذاتياً ، وإلا كانوا صادروه منها ، بل .. وصادروها هى نفسها ، وساعتها لا يعلم سوى الله ماذا يمكن أن يصيبها ويحدث لها !!

تصل دلال إلى البيت ، تنزل من السيارة وهى فرحة سعيدة بغنيمتها ، تقترب من باب البيت الحديدى الخارجى ، فتجده مفتوحاً ! تقفز مسرعة فوق الدرج ، فتفاجأ بأن الباب الداخلى أيضاً مفتوح ، فتحبس أنفاسها ! ينقبض قلبها ! وهى تدلف إلى الصالة ، فتفاجأ بآثار الدماء تغطى الأرض !!

تشهق فزعاً ، ترتجف كريشة فى مهب الريح ، تقول وهى تغرق فى هول اللحظة المرعبة التى لا ترى فيها أحداً بالبيت ، لا إبنتها ، ولا أمها ، ولا جدتها .. !!

– وينهم .. شنوصار عليهم ؟!

تحدق دلال حولها مثلجة الأطراف ، تخطو إلى الداخل مكبوتة ، مرعوبة ، تُقدم رجلاً ، وتؤخر أخرى ، وهى تكاد تموت رعباً ، عندما يخرق سمعها أنين أمها ، ونشيج بكائها ، الذى يذكرها بأنين جرحى المقاومة .. فتكاد أن تقع من طولها ، وهى تنظر مذعورة إلى جسد أمها المكتوم وراء الكنبة فى الصالة وهى غارقة فى دمائها .. فى حين تتساقط من فمها وأنفها الدماء التى تغطيها وما تزال تسيل من رأسها حتى أخمص قدميها !!

ينحبس صوتها . تنشل حركتها . حين تلمح جدتها منبطحة على الأرض .. جثة هامدة ! مفلوجة الرأس منتفخة العينين ! بينما كانت أمها تحاول أن ترفع وجهها المتورم ، المُنتفخ ، من شدة الضرب ، وتجاهد بصعوبة كى تفتح عيونها المتقرحة من شدة البكاء ، وهى تلملم ثياباً ممزقة تدل على هول الإغتصاب الذى تعرضت له على أيدى هؤلاء الجنود الذين سفحوا شرفها وهدروا كرامتها ، بالتناوب ، واحداً تلو الآخر على أرضية المطبخ .. أمام عينى دانة .. حفيدتها . !!

وما أن رأت الأم إبنتها دلال حتى أخذت تصرخ فى هيستريا وجنون :

– كانوا هنيه .. كانوا هنيه !

تترنح دلال فى الهواء ، وهى تعض شفتيها بأسنانها حتى تدميها ، تبقى تعض أصابع يديها التى وقع منها الدواء وتبعثر على الأرض حواليها ، وهى تسير مصدومة مكلومة ، تتحرك فى هلع وذهول نحو غرفة إبنتها .. فى حين أخذ يموت قلبها رعباً وخوفاً وهى تبصر فراشها خالياً بدونها ..!

تجرى دلال نحو المجهول ، تفتش المنزل فى هلع وجنون ، بحثاً عن وحيدتها ، صغيرتها ، وهى تصرخ حتى تتمزق حنجرتها بصوت يعوى بين الجدران ..

– دانه .. دانه .. دانه !

 


الفصل التاسع عشر

ليالى العذاب !

 

تلمح دلال إبنتها دانه وقد إنحشرت بين البوتاجاز والثلاجة فى المطبخ فتسحبها ، تشدها ، تحضنها ، تعصرها بين ذراعيها فى هيسيتريا وهى تصرخ وتبكى ، فى حين كانت الصغيرة مفتوحة العينين على آخرهما ، وقد إرتسم فيهما الرعب والفزع ، بعد أن رأت ما رأت ، وشاهدت ما شاهدت ، وبعد أن صارت عاجزة عن النطق !

كان الموقف بشعاً ، فظيعاً ، مقززاً ، كان فوق طاقة البشر ، فوق إحتمال بنى الإنسان ، فما بال طفلة صغيرة بريئة ترى الجنود يضربون جدتها نوال بشراسة ، وعنف ، كما رأتهم وهم يمزقون ثيابها ، ثم رأتهم وهم يتناوبون إغتصابها على أرضية المطبخ .. أمامها .. !!

كان الموقف بشعاً شنيعاً مشوهاً ، فقد إقتحموا البيت بأسلحتهم ، وذخيرتهم ، وملابسهم العسكرية ، فجأة .. رأتهم دانه حولها فى المطبخ ! كانت الطفلة المسكينة جائعة ، فنهضت جدتها تحضر لها الطعام ، حين دخلوا البيت بدون توقع أو إنتظار ! وأطبقوا عليها كالوحوش المفترسة ، بينما كانت الجدة العودة نائمة مريضة فى غرفتها ، بعد أن طردها الغزاة من المستشفى قبل أن تستكمل عرجها ، وذلك ليتاح للجنود الجرحى أن يحلوا مكانها !

سمعت الجدة العودة صراخ إبنتها ، نوال ، وبكاء حبيبتها دانه ، وأحست بحركة الجنود فى البيت ، فأدركت بغريزتها ماذا يمكن أن يحدث ! فتحاملت على نفسها ، ونهضت من فراشها ، وأخذت تستعطفهم وتسترحمهم ، كى يتركوا إبنتها ولا يهينوا كرامتها ، ويهدروا شرفها ، لكنهم لم يسمعوا .. لم يسمعوا .. !

فظلت العجوز المريضة العاجزة تصرخ عليهم ، تسبهم ، تلعنهم ، تضربهم ، وهى تحاول أن تمنعهم من هتك عرض إبنتها وهدر شرفها وتمزيق ثيابها وإغتصابها ، إلا أن أحدهم فقد صبره وطقها بكعب البندقية فى رأسها ، فسقطت صريعة على الأرض فى الصالة .. أزعجهم صراخها ، وإعتراضها ، وعويلها ، فأزهقوا روحها !

وبعد أن إنتهوا من ممارسة جريمتهم البشعة المقززة ، لم ينسوا أن يكسّروا البيت ، وأن يسلبوا أغلى ما فيه ، وأن يخّربوا ما تركوه ، وأن يحطموا ما لم يستطيعوا أن يأخذوه معهم ، قبل أن يمضوا باحثين عن ضحايا جدد ، متعللين بالبحث عمن يشارك فى أعمال المقاومة .

تستند دلال على جدار البيت الخارجى ، بجوار والدتها التى ترتمى نظراتها حزينة ذليلة على الأرض تحتها ، تسقط أيضاً كلماتها ضعيفة مهانة واهنة لا تكاد تقوى على نطقها ، ولا تكاد دلال تقدر على سماعها ، وهن جالسات على الأرض بالقرب من باب البيت
الداخلى ، بإنتظار وصول جمال شقيق دلال الأكبر ، ليتولى الأمر نيابة عن أخته ، التى تبدو خابية العين ، قتيلة القلب ، ضريرة النظرة ، وهى تتعامى عن رؤية دانه القابعة كالحجر الساكن بلا صوت ، ولا حراك ، كأنما سلبت منها روحها ، وسرقت منها بهجة طفولتها ، وفرحة عمرها ، لهول وقبح ما رأت .. ولبشاعة وشناعة ما شهدت !

يطول الوقت ، يتضخم الزمن ، يزداد الترقب ، والخوف يثير التساؤل والوجع فى النفوس ! يطغى الصمت الأخرس .. حين يتراوح إلى إسماعهم صوت سيارة غريبة تقف بالباب ، يقفز منها جمال ، الذى يحدق فى أخته مصدوماً ، وإن كان متوقعاً ماذا يمكن أن يكون قد حّل بهم .. بعد أن ظل يطالع نوال أمها التى تفترش الأرض ممزقة ، مهانة جريحة ، ذليلة ! وما أن حوّل بصره إلى دانه حتى كاد أن يفقد أعصابه بعد أن رأى أمارات الذعر ما تزال مرتسمة على وجهها .. وتعبيرات أخرى شائهة بدلّت ملامحها وغيرت شكلها !

يستشيط جمال غضباً ، يشتعل نقمة وثورة وغيظاً ، وهو يقسم أن يثار من هؤلاء الذئاب الشرسة الجائعة ، وأنه سوف ينتقم منهم أشد الانتقام !! يعبر فى ذهنه خاطر معين ما يلبث أن يكبر ، يتعملق ، حتى يحتل كل تفكيره ، يعد أن إجتاحت آلام الحنق ، وأوجاع المرارة أعماق مشاعره ، فرجتّها رجاً ، وحطمتها تحطيماً !

يعود جمال بأخته دلال وأمها وأبنتها إلى بيتهم بالعديلية ، فى حين تنخرط دلال فى بكاء ونحيب يقطّع القلوب ، مما يعمّق وقع الحدث فى نفس جمال الذى يصمم على ضرورة الثأر والانتقام . يصل جمال إلى مرحلة إتخاذ القرار ، فى حين يرتج عليه القول ، فلا يعرف ماذا يقول إزاء صعوبة الموقف .. لا تعد لديه القدرة على النطق .. ولا الكلام . فقط ، ينخرط فى بكاء صامت أخرس . بكاء .. بلا دموع !

ترقب دلال الطريق من وراء الزجاج فى سيارة أخيها ، تلتفت إلى محل لعب الأطفال المغلق ، فتتذكر عروسة دانة التى تحبها ، والتى لا تقدر أن تنام بدونها ، فتطرأ ببالها فكرة العودة إلى البيت لإحضارها .. لكنها تلفظ هذه الفكرة فوراً ، تطردها بعيداً عن ذهنها ، فهى لا تقوى على الدخول ثانية بعد الهول الذى حدث به ، ولا تقدر حتى على مجرد النظر إلى آثار العدوان ، خاصة وأن جثمان جدتها ما زال ملقى على الأرض فى الصالة هناك .. !! آه .. تلك اللحظات العنيفة القاتلة ! دمرتها .. دمرتها .. !!

تغلق دلال زجاج نافذة السيارة لأنها تخشى لفح الهواء أن يلامس أمها ، وإبنتها ، تعود تبكى فى إنفعال هيستيرى ، لا تعرف كيف تتحكم فيه أو توقفه .. أنه بكاء تلك
اللحظات التعسة ، والساعات الشقية ، التى تجلب البؤس والخراب ، إلى النفوس والديار فتسحقها سحقاً !

آه .. ماذا حل بالدار ؟! ماذا أصاب أهل الدار ؟! ماذا حل بالديرة .. ماذا دهى أهلها الكرام ؟!

آه .. كيف يمكن أن ينسى الإنسان ذاته ؟! كيف يقدر أن يتجاهل عذابه ؟! عندما يصبح فى بيته غريباً بلا بيت ! عندما يصبح فى مأواه شريداً بلا مأوى ! عندما يصبح فى وطنه طريداً .. بلا وطن .. بلا وطن !!

الرحمة يارب . ألطف بعبادك يا قادر يا كريم .

كان رجال العدو يجوبون المنطقة بحثاً عن شباب المقاومة ، الذين لا يتوانون
لحظة عن الفتك بهم حال رؤيتهم ، كما أن آثار عدوانهم على المنطقة صارت أكثر وضوحاً فى هذه الأيام بعد أن إزدادت حركة المقاومة شراسة وعنفاً ، فإزداد رد فعلهم ضراوة
وقسوة ، وإزداد عدد البيوت المحترقة ، كما إزدادت نقاط السيطرة التى إنتشرت فى كل شوارع الكويت !

يستمر جاسم فى عمله البطولى منقذاً شباب المقاومة من الموت المحقق ، بتضميد جراح الكثيرين منهم الذين لو سقطوا بين أيدى الأعداء لما قدّرت لهم الحياة ! كان بين يوم وآخر يغير مكان عمله الإنسانى ، قبل أن تتسرب الأخبار التى تشى به ، وتدل عليه ، يساعده فى ذلك بدر الذى يتقن جميع اللهجات العربية المتعددة ، كما يقدر أن يتنكر فى زىّ أهلها ويتكلم بلسان مواطنيها بطريقة لا يمكن الشك بها !

كانت تنطلى حيلة بدر على الجميع ، فهو بارع فى التمثيل ، والتقليد ، والمحاكاة ، إلى درجة تجعله فوق الظنون والشبهات ، كما أنه يعرف كيف يضبّط حالة ، ويرتب مظهره ، ويغير حركاته ، حتى طريقة مشيته ! كأنه واحد من هؤلاء الذين يحاول الإنتماء إليهم !

فى الحقيقة ، بدر يتمتع بمقدرة نادرة وغريبة على تقّمص الشخصية التى يختارها ، مستعيناً على ذلك ببعض الهويات المزورة التى يقتنيها ، والتى تمنحه المزيد من القوة ، والقدرة على الإقناع !

كان بدر يفلت مثل الزئبق ، دون أن يتعرض للخطر ، رغم أنه كان كثير الخروج من البيت ، فهو يخرج ويدخل بعد أن ينتحل فى كل مرة شخصية جديدة مختلفة ، يعّد نفسه لها مسبقاً بالأوراق اللازمة التى تثبتها ، وتؤكد حقيقتها ، مستخدماً الأدوات والملابس التى تبرزها ، وتزيل الشك عنها !

وبالطبع ، قبل ذلك ، كان بدر شديد الذكاء ، حذر ، حريص ، إلى درجة أنه كان يحصّن نفسه بإقتناء بدلة ضابط عراقى فى جهاز المخابرات آمر الفرقة 606 وهويته المزورة ، التى جهزها له شقيقه الأكبر عبد الله ، الذى ساعدته دراسة الهندسة على إجراء هذا العمل بدقة متناهية !

تعلم بدر الكثير من حيل الخداع والتمويه والإختباء ، فهو يفكر بطريقة سريعة فى معالجة المواقف الطارئة ، والمفاجئة ، وكان يتخذ القرار فى الحال ، بلا أدنى تردد ، فلا يتلعثم ولا يرتبك ، ولا يبدو عليه أى إضطراب أو توتر .

وهنا .. ينتصب الخوف شبحاً هائلاً مذهلاً يفتك بالذات ، يسلب النفس الإحساس بالأمان ، والراحة والسلام ، فالكل هنا فى لندن يعانى الأسى ، يقاسى العذاب ، الكامن فى طيات الزمان ، الذى يزلزل الذات ، ويرهق الفؤاد ، ويحطم الفؤاد .. !! يا الله .. يا الله .

الكل هنا فى لندن يتمنى العودة إلى حضن الكويت . يشتد بهم الشعور بضراوة الغربة وقساوة سلب الوطن . ينتمون أن تنتهى هذه المحنة ليطمئنوا على الجميع الذين لم تعد تصلهم الأخبار عنهم ، ولا كيف يعيش الأهل بالداخل !

تبكى أم عبد الله ، وأم جاسم بكاءاً مريراً ، وهم يسمعون عن التكبير ، وكيف صعد أهالى الكويت كلهم يوم الثانى من سبتمبر إلى الأسطح يكبّرون ويكبّرون . يدعون الله أن يزيح عنهم هذا البلاء ، وتظل تدوى تحت سماء الكويت الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر .

كانت فصائل المقاومة تدعوا إلى هذا اليوم . فجاء يوم الحزن والبكاء ، وكان الدعاء الله والوطن والأمير .. عندما أنتصف ليل يوم الثانى من الشهر التاسع فوق أسطح المنازل ، فكان الرد من هؤلاء الغزاة هو إطلاق الرصاص عليهم .. رصاصات الغدر والقتل والموت !! رصاصات الظلم تسفك دماء الأبرياء .. فوق أرض الوطن !!

آه .. كما يشتد الحنين للعودة إلى حضن الوطن ! فالأيام هنا مرهقة ثقيلة خانقة بعيداً عن أرض الوطن ! رغم رصاص الغدر .. وبشاعة العدوان .. فرغبة التعبير والمشاركة فى عمليات تحرير الوطن تستبد وتسيطر على الجميع .

تشترك سعاد وليلى وأحمد وأنوار فى مسيرة صامتة ، تجوب أنحاء لندن فى ذكرى مرور أربعة أشهر على غزو الكويت ! تبكى سعاد ، تنتحب ليلى وأنوار ، فى حين يبكى أحمد وهو يرفع علم الكويت عالياً بذراعه ، محاولاً أن يدارى به دموعه ، ويخفى أحزانه ، كى يظل رجلاً قوياً ، يدير باله على نساء أسرته ، فهو الرجل الوحيد الآن الذى يصحبهم إلى كل مكان يذهبون إليه ، بعد إن رغب الخال أبو إبراهيم عن الخروج ، فهو لا يكاد يبرح شقته .. يبقى بها يتابع أخبار العالم ليل نهار ، بكل اللغات التى يفهمها ، والتى لا يفهمها !

الجو هنا بارد ، مثلج الهواء ، الأشجار مجردة من الأوراق ، الأغصان كأذرع خشبية عملاقة لا حياة فيها ، الشتاء هذه السنة فى لندن موحش ، كئيب ، شديد البرودة ، رمادى الأجواء ، يزيد فى القلب مشاعر الوحشة واللوعة والوحدة ، والإحساس بمرارة الإغتراب ، ومعاناة البعاد عن الوطن .. وأرض الوطن .. وتراب الوطن ، لا يضاهيه فى ضراوة
العذاب إحساس !

يعودون للبيت مرهقين باكين وعلى صدورهم شعارات تؤكد حرية الكويت ، وفى قلوبهم حب الكويت ، وعشق الكويت ، والرغبة العميقة فى العودة إلى الكويت .

تفاجأ سعاد بأن أمها ما زالت غاضبة لأنهم رفضوا مشاركتها فى تلك المسيرة
الوطنية ، بعد أن صممت أن تساهم فى هذا العمل الوطنى البسيط ، على قدر طاقتها ، ولم يثنها عن عزمها إلا بقاء أختها أم جاسم معها ، بعد أن تعبت حتى أقنعتها بالعدول عن هذه الفكرة خوفاً عليها من الإرهاق والتعب ، ومضاعفات الموقف والإنفعال والتأثر الذى قد يضر بقلبها !

يخفف عنها أبو إبراهيم مؤكداً :

– والله أكيد كنت راح تتعبين يا أم عبد الله .. ترى المسافة طويلة والعدد كبير حوالى عشرة آلاف كويتى كانوا ماشيين فى المسيرة .. لا .. حرام عليك .. هذا تعب عليك .. ما تقدرين . كل الناس كانوا هناك .. كل الخليجيين اللى فى لندن كانوا هناك .. الدنيا فوت تحت .. وكالات الأبناء والصحف العربية كلهم يتابعونهم .. ورجال الشرطة الإنجليز كلهم ماشيين جنب المسيرة من اليمين والشمال .. الدنيا كانت زحمة وايد كأنه يوم الحشر .. إحنا خفنا عليك يا أم عبد الله .. أرجوك لا تزعلين .. حنا ما قصدنا نزعلك .

لم تهدأ أم عبد الله رغم هذا الكلام والتبرير والإعتذار ، تفجّر إحساسها بالقهر والغبن ، لإنهم أجبروها على البقاء فى البيت غصباً عليها ، فى حين كانت هى تصرّ على المشاركة فى هذه المسيرة ، فظلت غاضبة حانقة ، لا يعرف أحد كيف يهّدأ من ثورتها ، الكل يعجز عن تهدئتها حتى أخيها أبو إبراهيم لم يشفع له إعتذاره عن هذا الخطأ غير المقصود الذى وقع فيه بسبب الحب لها ، والحرص على صحتها وراحتها !

كانت أم عبد الله تبكى وتندب وهى تدعو الله أن يعيدها إلى الكويت ، وبيتها فى الكويت مع زوجها وعيالها هناك ، كانت تبكى وهى تقول :

– ردونى الكويت .. أنا ما بى أقعد هنيه .. أنا أبى أراد الكويت .. شوفوا لى طريقة تردونى بها الكويت .. مثل ما دشوا بدر وجاسم وخالد أنا راح أدش مثلهم .. بس أنتم خذونى هناك .. وما عليكم أنا بأدس بروحى .. واللى يصير عليهم يصير علىّ .. أنتم بس خلونى أروح .. ترى أنا مليت وايد من لندن .. وبرد لندن .. !

كانت المشكلة الحقيقة التى تواجههم فى تلك اللحظة ، كيف يجعلون أم عبد الله تتخلص من هذا الغضب ، فالجميع يقّدرون حزنها على إبنها الشهيد فيصل الرائد بوزارة الداخلية ، فالحزن ما زال متأججاً لاهباً ، وثورتها لا تنتهى على هذه الظروف الصعبة التى تعيشها فى بلاد الغربة ، بلا وطن ، بلا أهل ، بلا بيت ، بلا أسرة ، بلا لغة ، فهى لا تعرف تتكلم إنجليزى ، ولا تقدر أن تفّسر الأخبار ، كما أن لسعة البرد الحالية صارت تؤذيها ، يوماً بعد يوم ، صار الوجع ينخز فى مفاصلها ، كما تفاقم الوجع النفسى أيضاً ، صار ، أقسى ، وأصعب ، وأفدح ، كان يتزايد كلما شاهدت نشرات الأخبار ، وشافت الفظائع التى ترتكب فى الكويت .

مع الوقت ، تدنت درجات الحرارة كثيراً تحت الصفر ، فتكثفت وحشة الشتاء ، صارت بغيضة لا تطاق ، وصار الإنتقال إلى بلد عربى خليجى ، قريب من الكويت ، هو الهدف فى هذه اللحظة ، وكان بديهياً أن يتم إختيار المملكة العربية السعودية ، حيث الأهل هناك ولأنها على مقربة من الطريق البرى الذى يؤدى إلى الكويت ، ذاك الذى يسلكه الناجون من عذاب الغزو ، وبشاعدة العدوان ، فيكونوا بالتالى قريبين من طريق الإتصالات بينهم وبين من هم فى الداخل !

يتم ترتيب كل شئ للسفر .. وكم كان صعباً عليهم أن يسافروا وحدهم بدون جاسم الذى تعودوا أن يكونوا دوماً فى صحبته . بكت أمه كثيراً ، وأخته ، أما زوجته ، فقد كانت دموعها تسيل من القلب ، وهم يأخذون طريقهم إلى مقاعدهم فى الطائرة السعودية ، المتجهة إلى الرياض ، فى حين وقف أبو إبراهيم فى الممر يطمئن عليهم ، حتى يأخذوا أماكنهم ويقعدون كلهم ، ثم يجلس أخيراً فى مقعده المخصص له .

تهبط الطائرة فى مطار الرياض ، حيث يتدفق الشعور بحرارة الشوق ، ودفء الأمان ، وراحة الاطمئنان ، والتلهف لسماع أخبار الغاليين الأحباء ، الذين تتسرب أخبارهم من الكويت إلى هنا مع النازحين من جحيم النيران !

يتوجه الجميع إلى فندق ” إنتركونتيننتال ” المكتظ بأعداد وفيرة من أبناء الكويت ، الذين جمعتهم المصيبة ، وجعلتهم الأزمة يداً واحداً ، لا هم لها إلا السعى والدعاء ، والرجاء ، لإعادة الوطن السليب ، ومتابعة أخبار من هم فى الخارج ، المتواجدين هنا معهم ، وأخبار الأهل فى الداخل .. !

نعم .. كان الوضع فى الداخل عسيراً ، رهيباً ، لا يطاق ، فبعد ، أن وصلت دلال إلى بيت العديلية ، على الفور يخبر جمال أخيه عادل بما حدث فى بيتها ! فيهب عادل إلى زملائه من شباب المقاومة ، ثم يتجهون جميعاً إلى بيت أخته فى السالمية ، ليقوموا بحمل جثمان جدتها الطاهر إلى مثواه الأخير ، ليدفن فى مقابر الرقة ، قبل أن يصل الجنود ، ويلقون به ضمن مئات الجثث التى يمنع دفنها ، وتتكدس أكواماً فى صالة التزلج على
الجليد !!

.. يدفع عادل باب البيت الخارجى ، يصعد بضع درجات ، يدخل إلى الصالة ، يبحث عن جثمان جدة دلال فى المكان الذى وصفته له .. لكنه يقف مشدوهاً ، مستمراً فى مكانه ، كأنه أصبح تمثالاً من حجر .. !

.. إختفى الجثمان .. ! فى حين رأى عادل مكانه شيئاً آخر مرعباً .. ! لم يكن ينتظره أبداً .. أو يتوقعه !!


الفصل العشرون

الديسـكو السفلى .. !

 

يدخل عادل ورفاقه بيت شقيقته دلال فيرى بدلاً من الجثمان عدداً من الجنود المسلحين القابعين فى صمت وسكون فى ” كمين ” بانتظار وصول هؤلاء القادمين الذين سيقومون بالدفن !!

كان الجنود العراقيون يعرفون إن ” المخربين ” الذين يتولون هذه المهمة لن يتأخروا عن الحضور . لابد أنهم سيأتون فى أسرع وقت للقيام بهذا العمل ” الإجرامى ” المضاد للقانون الذى لا يحتمل تأجيل أو إبطاء ! ..

نعم .. كانوا يتوقعون وصول هؤلاء ” الملاعين ” ” بهالوقت ” لأخذ الجثمان ونقله .. ودفنه ! مع إنهم ” هذولة الشياطين ” يتحدون بذلك أوامر ” القيادة ” الواضحة والصريحة ، التى تحرم ، دفن الموتى !! وهم بذلك يستحقون أن توقع عليهم أشد أنواع العقوبة ، وأقسى أنواع العذاب !!

آه .. شلتّ هذه المفاجأة المذهلة عادل ورفاقه الشباب من أبطال المقاومة الوطنية ! فتسمّروا فى أماكنهم ، بسبب هذا الموقف المباغت الذى أوقف عقولهم ، وأعجزهم عن الحركة والتصرف والتفكير !!

آه .. يا للأسف .. يا للأسى .. سقط الأبطال فى الفخ .. صادوهم ! فوقعوا على الفور تحت طائلة تعذيب وحشى ، كى يعترفوا ويرشدوا عن الباقين المشتركين معهم فى أعمال الشغب والتخريب .. ومقاومة السلطات !

.. يستمر العذاب ساعات وساعات ، آناء الليل وأطراف النهار ، يتحول بيت دلال إلى ” مقر ” تعذيب رهيب ، تقشعر له الجدران ، تشمئز منه الحجرات .. حين تنطلق بين أرجائه صرخات الألم . وعويل الوجع . وصيحات العذاب !! تحول البيت الآمن المسالم إلى ” مقر ” مرعب تقع بين جنباته أقذر أنواع التعذيب وأخط أساليب الهوان !

كانوا يستخدمون فى ذلك ، أسوأ الأدوات وأبشع السبل والوسائل ، التى تحطم إنسانية الإنسان ، وتسحق وتدمر قدرته ، وتبدد طاقته على الصبر والجلد والإحتمال ، فقد كان لديهم الكثير من الكيبلات والحبال والحراب والفلقة والسكاكين العسكرية و .. و .. و .. ألخ !!

يتساقط شباب المقاومة البواسل تحت سيطرة أيديهم القذرة الظالمة الباغية ، وهم يقاسون ويئنّون ويتأوهون ، بعد أن مارسوا عليهم ما لا يحتمله بشر من تعذيب وهوان ، وما لا يطيقه أن يصمد حياله إنسان .. أو حتى حيوان !!

وما يلبث أن ينقلوهم إلى مقر التعذيب الرئيسى فى مخفر ميدان حولى بالطابق السفلى الذى أطلقوا عليه إسم ” الديسكو ” حيث توجد كميات ضخمة من أدوات التعذيب الكثيرة كالهوزة المكهربة والعصى الكهربائية والدريل الكهربائى ، والأسلاك الكهربائية ، وصورة صدام المكهربة التى يجبرون المعتقلين على تقبيلها ، فكان شباب المقاومة البواسل ينتفضون . يسقطون . يرتمون . يقعون على الأرض من شدة الألم وهول العذاب !

.. تعلم دلال الخبر ! فتظل تصرخ وتصرخ وقلبها يتمزق قطعاً ، تسيل دماً وحزناً على عادل أخيها وفاقه من أبطال المقاومة ، أصحاب الشهامة والمروءة الذين ذهبوا للقيام بهذا العمل الإنسانى لدفن جثة جدتها ، والذين وقعوا بين أيدى هؤلاء الطغاة الغزاة !

ترتعش دلال خوفاً وهى تتوقع الإعتقال فى أى لحظة من الحين ، لأنها حتماً ستكون ضمن هؤلاء المطلوب القبض عليهم ، هى وجاسم أيضاً ، وباقى الشباب المشتركين فى نفس مجموعة المقاومة !

لهذا ، تنهض فى الحال ، تثب ، تركض ، تنطلق إلى كيفان بأسرع ما يمكن ، حيث تستطيع الإختباء هناك بعيداً عن الأعين التى تطاردها وتبحث عنها .. فى حين يبدأ أخيها الكبير جمال فى تخطيط عدة عمليات إنتقامية ، ثأراً لما أصاب أخته واسرتها ، ولما حّل مؤخراً .. بأخيه ورفاقه !!

تتصاعد أعمال المقاومة ، وفى نفس الوقت تشتد محاولات مناهضتها وسحقها ، فتتخذ كافة أنواع العنف والقمع طريقها إلى تلك القلوب المؤمنة الطيبة المدافعة بيقين عميق ، وإيمان مطلق عن حقها الكبير فى تحرير أرضها ، وتخليص وطنها من هذا المعتدى الظالم البغيض !

تشتعل الأماكن . يتزايد القهر . يستمر العدوان . كما تستمر مقاومة العدوان . لا يأس مع الحياة ، لا قبول بالظلم . ولا تقبل للواقع المفروض ، إنما هى المقاومة ، المقاومة ، مهما كانت الأحوال ، ومهما كانت الظروف !

فى تلك الأثناء .. يتمادى الظالم فى غيّه وبغيه وعدوانه ، تتفشى وحشيته . ينتشر فجوره وظلمه وإمتهانه لهذا الشعب الطيب ، وذلك البلد المسالم ! .. تمضى فترة كئيبة سوداء كالليل ، فلا أخبار تصل عن الأهل .. لا أحد يعلم ما صار عليهم أو حلّ بهم ! .. ففى كل يوم والتالى ، يظلوا يترقبون حضور بعض شباب المقاومة الخارجين من الكويت ليطمئنوا على ذويهم ، فلربما تستطيع سعاد وأهلها الاطمئنان على من بالداخل بإحدى الرسائل السرية ، أو عن طريق بعض المكالمات اللاسلكية .

لكن .. يزداد التعتيم الإعلامى كثافة . تنقطع الأخبار تماماً عن سعاد وليلى وأمهاتهما اللاتى صرن فى حالة يرثى لها ، فمنذ الأيام الأولى للغزو ، والخوف على الأهل فى الداخل يصبح وحشاً مفترساً ينهش نفوسهم ، تحاول سعاد أن تتعزى عن هذا الواقع العنيف الذى يعذبها ، بعدما عرفت أيضاً أن جاسم ودلال صارا لا يفترقان منذ إنضمت دلال إلى نفس مجموعة المقاومة التى يرأسها جاسم !

تظل سعاد تفكر وتفكر فى موقف جاسم نفسه من دلال ! بل .. ومنها هى نفسها !! تصمت سعاد مقهورة مرغمة ، فهى تعرف إنها لا تقدر أن تفعل شيئاً فى مثل هذه الظروف الصعبة الطارئة . تستسلم مضطرة مجبرة للأمر الواقع عليها .. تنرك الزمن الصعب يمارس طقوسه الشاقة القاسية كما يشاء ! تبقى تحاول قدر الإمكان أن تتغاضى عن مشاعر الغيرة والغضب ، وأن تحذف أحاسيس الغيظ والمذّلة والهوان التى تعانيها ، فظروف الإحتلال وسلب الوطن تتطلب أن يتسامى الجميع ، وأن يترفع الكل عن مشاعره الخاصة ، وأحاسيسه الذاتية !

تتشاغل سعاد بالحديث مع ليلى عن نايف ، وكيف أنه إتفق مع خالها أبو إبراهيم على ألا يبقوا فى الفندق يوماً واحداً بعد الآن ، تقول لها :

– خالى قال لى إننا راح ننتقل الليلة إلى بيت نايف فى حى صلاح الدين .. هو وافق بعدما أخبّره نايف أنه إتفق مع جاسم أول ما وصل من لندن على إننا نبقى بالبيت عندهم .. وما فى داعى نظل فى الفندق .

– ومتى راح نترك الفندق ؟!

– إنشا الله اليوم يا ليلى .. اللى أنا دريته من خالى إنهم راح ييجوا يأخذونا الليلة عشان نروح وياهم لأن خالى قال لى إن عندهم فيللاً خاصة بالحريم ، وفيللاً خاصة بالرجال.

وفى المساء ، بعد صلاة المغرب ، يحضر نايف وأمه وأخواته مذنة ونورا ومشاعل ، إلى الفندق ، حيث تستقبلهن أم عبد الله وأم جاسم وسعاد وليلى ، ترحبن بهن ، فى حين
يجلس نايف مع الخال أبو إبراهيم فى غرفته الخاصة ، ثم ينزلان تحت حيث يقوم أبو إبراهيم بتسديد الحساب .

ينتقلون إلى البيت الفخم فى حى صلاح الدين ، فيرى أحمد وأنوار وراكان حمام السباحة فيفرحون به كل الفرح ، إذ أنهم يدركون أنه سيسبحون هنا بلا مواعيد تحدد
للأطفال ، وبلا مربية ترافقهم ، وإن كانت أمهم لن تسمح لهم بالنزول دون إشراف .

يخبر نايف الخال أبو إبراهيم إنه سيضطر أن يقيم فى المستشفى العسكرى ليل نهار لأن البلد فى حالة طوارئ ، وأنه لن يكون متواجداً على الإطلاق هنا فى البيت ، وإن
كان الوالد سيكون موجوداً لتلبية أى شئ يحتاجون إليه . يشكره أبو إبراهيم من قلبه
ويقول له واثقاً :

– لا تحمل همنّا يا نايف أنت بس خليك فى حالك وشوف شغلك . 

يقوم نايف بتعريف أبو إبراهيم على والده ، الذى يهّب مرحباً به مسلماً عليه .. فاتحاً ذراعيه ، وهو يقول باسماً :

– حياك الله .. حياك الله يا أبو إبراهيم .. البيت بيتك يا خوى .. إنتم أهل الدار وحنّا ضيوف عندكم .. يا مرحباً .. يا مرحباً ..

فيرد أبو إبراهيم ضاحكاً :

– ترى حنّا فى بلدنا ما معّود .. وهذا بيتنا ما فى فرق .. كلنا أهل .. حنّا مو أغراب ..

وفى اليوم التالى مباشرة ، يغادر أبو إبراهيم البيت ، بعد أن يطمئن على سلامة الحريم ، وأنهن صرّن الحين فى أيدى أمينة .. يسافر إلى القاهرة ليطمئن على أسرته المقيمة بها ، حيث أن زوجته وكريمتيه سهام ومنال وعيالهما بروحهم هناك ، منذ أن إلتحق إبراهيم بالجيش الشعبى ضمن القوات المرابطة فى حفر الباطن .

يلتقى ابو إبراهيم صديق عمره ، صديق دراسته ، أبو جمال الذى جاء إليه يسلم
عليه ، ويستفسر منه عن آخر أخبار الكويت وعما إذا كان يعرف شيئاً عن أخبار الأهل
داخل الوطن . ينهمكان فى حديث طويل حول الوضع السياسى الحالى عن الكويت ،
وأزمة الكويت .

وبعد قليل يغادر أبو إبراهيم وأبو جمال ليذهبان إلى مقهى فى ميدان ” سفنكس ” بالمهندسين ، حيث يجلسان يتحدثان عن توقعاتهما المرتقبة للموقف السياسى ، وما يلبث أن ينضم إليهما عدد كبير من رجال الكويت المقيمين حالياً فى القاهرة .

يطمئن أبو إبراهيم على أحوال أبو جمال ، يعرف منه أنه بخير وكل الأخوة الموجودين هنا بالقاهرة بخير ، وأنهم يتقابلون من وقت لآخر ينظمون أمورهم ، ويحلّون مشاكلهم ، ويتابعون آخر أخبار وطنهم ، ويرتبون لمقابلة كبار المسئولين لشرح وجهة نظرهم والمناداة برفع الظلم عن مواطنيهم وتحرير وطنهم ، ففى الواقع الجالية الكويتية فى القاهرة لها دور سياسى كبير بارز ونشط ، أيضاً رجال السفارة أنفسهم ما قصّروا فى تقديم كل المساعدات المطلوبة لمواطنى الكويت .

تمضى ساعات المساء رتيبة بطيئة ، فى حين كانت أعداد الأخوة الكويتيين المنضمين إلى الجلسة تتسع بطريقة سريعة .. فأخذوا يتناقشون فى كل الأمور المتعلقة بالوضع السياسى ، وتوقعات إنهاء الأزمة وهم يعانون من مرارة الظروف والشعور بالألم ، والظلم ، والقهر ، فيستغرقون فى متابعة الأخبار عبر شاشة التليفزيون ، بينما تدور حولهم طلبات القهوة والشاى والشيشة .

فى هذه الأثناء .. يشاهد أبو جمال وإلى جواره أبو إبراهيم وباقى الرجال الرئيس حسنى مبارك ، وهو يؤكد للعالم أجمع فى مؤتمر صحفى تبثه وسائل الإعلام العالمية ، وتنقله شاشة التليفزيون أمامهم ، فيسمعونه وهو يعلن :

– إن العالم كله يتفق معنا فى السعى لحل أزمة الخليج سلمياً مع الإستمرار فى الإستعدادات العسكرية .

كما ركّز الرئيس على ضرورة الإنسحاب الكامل للقوات العراقية من الكويت ! يشرد أبو جمال بذهنه .. حيث تحلق روحه تحوم سماء الكويت ، حول عياله وبيته فى العديلية ، يتنهد وهو يتأمل حاله وحيداً بعيداً عنهم .. جمال وسناء وعادل .. وأبنته دلال التى صار له مدة طويلة ما شافها ، لم يطمئن على أخبارها ، يحس ضيقاً يطبق على صدره وهو يفكر فيهم ، كما يشعر بقلق عميق يعتريه ، يصيبه فجأة نوعاً غامضاً من الخوف على مصيرهم ، يظل يدهمه ، يرهبه بعد أن سمع عن الأهوال التى يتعرض لها المواطنون هناك !

فى نفس اللحظة ، داخل الكويت ، كانت دلال حائرة كل الحيرة ، وهى تحس أنها وحدها فى هذا الموقف الشاق الذى يعترضها ، ويسبّب لها كل هذا الضيق والإرهاق ، فهى لا تعرف كيف تتصرف حيال هذا الخطر الذى يحيق بها طوال الوقت ! كما لا تعرف كيف تتقيه ، وكيف تتجنبه ، وهى ترى الرغبة فيها تتلظى فى عيون الناظرين إليها ، خاصة من هؤلاء الجنود المتحكمين فى نقاط السيطرة والمنتشرين فى كل مكان ! هذا ، مع إن دلال كانت تحرص أن تدارى معالم أنوثتها قدر الإمكان بعد أن حذفت تماماً من قاموس حياتها شيئاً أسمه ” الزينة ” أو الإهتمام بالشكل والمظهر بأى أسلوب كان !

ومع الوقت تزداد الظروف صعوبة ومشقة ، فيبدأ تطبيق حظر التجول مما أدى إلى تقلّص نشاط المقاومة القتالى ، وإزدياد العمل السرى ، الذى يشمل البحث عن الأسرى ، ومساعدة الأسر المحتاجة ، وإستلام المساعدات المالية ، وتوزيعها على الأسر ، وحرق القمامة ، ودفن الموتى .. وغير ذلك كثير من الأعمال الفعلية التى تعتبر نوعاً من أعمال المقاومة الوطنية الإيجابية .

ورغم فظاعة الأعمال القمعية وقسوتها ، إلا أن ذلك لم يمنع أن يستمر المواطنون فى المقاومة ، وذلك على الرغم من أن سياسة التعذيب قد تزايدت إلى درجة مخيفة ، مما جعل ساحات النوادى نفسها تتحول إلى ساحات تعذيب ، حيث يتم جلوس المقبوض عليهم فى حلقات كبيرة واسعة داخل الملعب ، ويتم التعذيب واحداً واحداً فى الوسط أمام الجميع ! بحيث تكون نتيجة التعذيب مزدوجة على من يقع عليه التعذيب وعلى من يشاهده !!

لكن .. رغم ذلك لم يتورع جمال عن الإستمرار فى المقاومة ، لم يردعه أو يخيفه شئ يحول دونه والدفاع عن أرض الوطن ، فها هو يشترك فى عملية نسف مركز تجمع الشاحنات التى راح فيها عدد كبير من جنود العدو ، وكان ذلك بعد أن شارك هو وبدر فى عملية تحرير وإنقاذ حوالى سبعين كويتياً كانوا فى أحد السجون العراقية بمنطقة صفوان ، كان من بينهم راشد وعبد النبى وعلى الذين تم تحريرهم إستطاعوا بحمد الله أن يعودوا جميعهم فى سلام هم والمجموعة التى شاركت معهم فى هذه العملية إلى الكويت ، وكان من بينهم محمد وناصر وكاظم الذين استطاعوا إنقاذ عدد كبير من الأسرى وتحريرهم .. حمداً لله .. سلمت يد أبناء الوطن البواسل .

فى الواقع .. الكل سواسيه أمام رجال الفرق الخاصة ، الذين تربطهم بصدام حسين صلة قرابة مباشرة والذين أرسلهم بعد أن صار يخشى تذّمر الجيش العراقى عليهم ، مما جعله ينفذ حكم الإعدام فى أعداد كبيرة من الضباط ذوى الرتب المختلفة الذين أدانوا ورفضوا المشاركة فى غزو الكويت .

كان عدد كبير من ضباط الجيش العراقى فى حالة إستنكار ونفور من تلك الأوامر العسكرية الصادرة إليهم من صدام حسين والتى تأمرهم بممارسة أعمال العدوان البشعة ، مما جعل حالة من الرفض تنتشر بينهم ، لذا قام صدام بتدعيم الحرس الجمهورى بهؤلاء القوات الخاصة المرتبطة مباشرة به وبأسرته ، ليباشروا بأنفسهم تنفيذ تلك الأوامر اللاأخلاقية واللاإنسانية !!

لذلك .. كلما إزدادت حركة المقاومة الكويتية من أجل الدفاع عن الوطن ، إزدادت بالتالى حركة مناهضتها ، مما أدى إلى وقوع الكثير بين أيدى هؤلاء الظالمين الذين لم يتورعوا عن إيذائهم وتعذيبهم ، والتنكيل بهم ، إلى درجة القتل والتمثيل بجثثهم ، بعد التعذيب أمام أهاليهم وأقاربهم ومنع دفنهم .. ! يا الله .. الصبر يا رب .

لهذا .. كان طبيعى أن يزداد العبء النفسى والبدنى على جاسم ، الذى بدا مرهقاً بعد أن فقد الكثير من وزنه فقد كانت الحالة الصحية فى الكويت متدنية للغاية ، إلى درجة أن المؤتمر السابع والثلاثين لشرق البحر المتوسط التابع لمنظمة الصحة العالمية بدأ يعرب عن قلقه إزاء تدهور الأوضاع الصحية فى الكويت ، وأكد أن الإحتلال أدى إلى تدهور كبير فى الرعاية الصحية للمقيمين فى الكويت وإلى تردى الأحوال الصحية ، الأمر الذى يعتبر خرقاً صارخاً لدستور منظمة الصحة العالمية !!

.. ولم يكن يخفى على عين أحد مظاهر الضعف والوهن والإرهاق التى بدت على دلال أيضاً ، فهى لم تكن تنام بالقدر الكافى ، ولم تكن تأكل بالقدر الكافى ، كانت فقط تفكر كيف تقاوم ، وكيف تنتقم . وتنتقم . وتنتقم !

نعم .. تنتقم من أجل وطنها ، من أجل أمها المغتصبة التى يكاد يختل عقلها ، من أجدل جدتها التى لا يعرف أحد حتى الآن مصيرها ؟! وهل دفن جثمانها ؟! أم أنها كانت فى غيبوبة السكر كما تقول أمها وإستردت وعيها وخرجت على غير هدى للبحث عنهم فضلت طريقها ؟! أم أنهم أسروها ؟! .. عذبوها ؟! .. إغتصبوها ؟! سواء حية كانت .. أم ميتة !!

يلتاع كبد دلال ، عندما تتذكر منظر أمها والدماء تسيل من فمها ، حتى تبلل أقدامها .. ومنظر جدتها ودمائها تنزف من رأسها فتخفى ملامحها وتغطى رقبتها وصدرها .. ! آه .. هنا تسترجع دلال المنظر الدامى بكل تفاصيله المرعبة .. فيبدأ يتسرب الشك داخلها .. تبدأ تساورها أفكاراً رهيبة مخيفة ، تحوى إحتمالات صحة إتهام أمها ، بأن جدتها لم تمت بعد .. وأنها ما زالت على قيد الحياة !! لكن .. تستعيذ دلال بالله من الشيطان الرجيم الذى يتعسها ويشتقها بهذه الظنون والشكوك .. فجدتها كانت مفتوحة العينين على آخرهما .. وكان الموت مرتسماً فيهما !!

تتعذب دلال بمصير إبنتها ، بعدما ساءت حالتها الصحية ، التى ترتب عليها إصابتها بعاهة نفسية بالغة الأثر ، أدت إلى تعثرها فى الكلام ، وإضطرابها ، وخلخلة سلوكها ، وتبولها اللاإرادى ! وكانت الحاجة إلى وجود طبيب نفسى مختص حاجة ماسة ملحة وأساسية .. لكن كان ذلك مطلباً مستحيلاً فى ظل هذه الأوضاع الصحية المتردية !

كذلك .. كان العمل بالنسبة لجاسم كطبيب عملاً صعباً عسيراً ، بل مستحيلاً ، فكمية الدواء ظلت تتناقص إلى حد يشّل حركته كطبيب جراح ، كما أن المواد اللازمة والمساعدة ، والأدوات المطلوبة لإجراء العمليات الجراحية ، أخذت تقل وتقل ، رغم أنه قد إستطاع بفضل معاونة الزملاء الأطباء الحصول على كمّ وفير من الدواء ، إلا أنه أخذ يقل ويتناقص .. ويتناقص !

ولم يكن يخفى هذا الوضع الصحى المتردى على رجال الحكومة ، فطلبت الكويت من الأمم المتحدة إرسال إمدادات طبية عاجلة لإنقاذ المرضى فى الكويت الذين يموتون بسبب نقص الأدوية ، بعد أن تمت السيطرة على جميع المستشفيات التى سلبت ، وجردت من الأدوية والأجهزة .. !!

كان الوضع متردياً ، كما كان جرح الروح غائراً ، فهاهو ملعب النادى الذى يحبه جاسم ، والذى طالما لعب فوق أرضه وركض تحت أضوائه ، قد تحول إلى ساحة شاسعة للتعذيب الجماعى ! وهاهى الطرق المؤدية إليه صارت خاضعة لنقاط السيطرة المحكمة ، التى لا يبعد بعضها عن بعض ، أكثر من مائة متر والمزودة بجميع صنوف الأسلحة حتى صواريخ أز. بى. جى. !!

يتأزم الوضع أكثر وأكثر ، فيصبح الشعور بالخطر الداهم مسيطراً على قلوب الجميع ، فأقل حركة تنذر بالمداهمة والقتل ! والتعذيب لا يحتاج إلى شرح أو وصف بعد أن تجاوز كل حد !!

لذا .. يشتد الصراع فى نفس دلال فهى تفكر الحين فى العودة إلى العديلية لتطمئن على أمها وابنتها ، لكنها تتردد لأنها تودّ أن تبقى إلى جوار جاسم تشد من أزره ، تشجعه على الإستمرار فى عمله الذى يحتاجها معه ، بالذات بعد أن زادت أعباؤه ومسئولياته ، وبعد أن أصبح رمزاً للمقاومة والصمود والتصدى ، وبعد أن صار فى عينيها بطلاً وأخاً وصديقاً عزيزاً ، تتمنى أن تسانده وقت المحنة ، وقت الضيق ، وأن لا تتخلى عنه وهو فى أمس الحاجة إلى وجودها ومساعدتها .. !

حقاً .. الإختيار صعب ، والأصعب أتخاذ القرار ، قبل أن يبدأ خطر التجول الذى يسرى عى الجميع مع حلول المساء .. وبينما كانت دلال تفكر فى الذهاب إلى بيتها ، رغم إحتمالات الخطر التى تعرّها للقبض عليها بعد أسر شقيقها ، وبينما كانت تفكر حائرة مترددة بين البقاء والرحيل ، إذ بها تشهق شهقة رعب مكتومة وهى ترجع فجأة إلى الوراء ، فترتطم بالحائط بشدة وهى ترى باب السرداب يفتح بهدوء .. ويدلف من خلاله ضابطاً مسلحاً من ضابط القوات العراقية العسكرية !!

ترفع دلال يدها تكتك صرخة رعب تكاد تخرج من فمها ، وهى تضع يدها الأخرى فوق قلبها ، فهى تعرف ماذا سيحل بهم ، كما تعرف سوء مصيرهم ، لكن .. إذ بها تصرخ فى فرح وحشى وجنون وقتى :

– بدر .. بدر .. خوفتنّى .. ظنيتك واحد منهم .. ظنيتك واحد منهم !

يسكتها بدر بإشارة من يده ، وهو يقول لهم فى صوت خفيض وتوتر بالغ ، وقلق ظاهر موجهّاً كلامه إلى جاسم بحيث يسمعه الجميع :

– ياللا .. بسرعة .. قوموا .. ترى راح يحاصرون المنطقة كلها الحين يفتشون عن شباب المقاومة .. قوموا .

ينظر جاسم حوله وقد قطّب جبينه ، وتصلبتّ أصابعه على المشرط الذى يخرج به رصاصة من كتف أحد شباب المقاومة وقد وقف حائراً بين إتمام العملية وبين إتمام العملية وبين المبادرة بالفرار والهرب ، لكنه قبل أن يتحرك من مكانه ، يسمع الجميع بمن فيهم بدر صوت سيارة جيب عسكرية تقف أمام باب البيت .. يهبط منها جنود عراقيون تدل عليهم لهجتهم وقرقعة أسلحتهم !

تسند دلال ظهرها للحائط خلفها قبل أن تقع على الأرض من شدة الفزع ! فى حين تبرز عيناها هلعاً ورعباً مما ينتظرها على أيدى هؤلاء الجنود المدربين على فنون القتل والتعذيب ! يجمد جاسم مكانه . تتغير ملامحه . تتصلب أصابعه ! .. فى حين يخيم الظلام .. يكف الهواء عن الحركة .. تتوقف الأنفاس تماماً .. بينما يدور بدر بسرعة حول نفسه يقفز السلم صاعداً رافعاً سلاحه فوق رأسه صارخاً بأعلى صوته .. !


الفصل الواحد والعشرون

الحفيد بن الشهيد !

يصعد بدر الدرج فى سرعة الصاروخ ، يصرخ فى وجه الجنود بلهجة عراقية
متقنة :

– حرك .. ياللا .. قبل .. قبل .. هربوا المخرّبين .. ماكو أحد داخل .. ياللا .. لحقوهم .. حرك قبل ما يروحوا مخبأ ثانى ..!

ينظر بدر إلى السائق نظره مخيفة نافذة وهو يقول بلهجة آمرة :

– ياللا .. حرك .. قبل .. قبل ..

ينطلق الجنود بالسيارة مسرعين ، طاعة لأمر ضابط المخابرات من القوات الخاصة ، الذى لا ترد له كلمة ، ولا يعصى له أمراً ! تنطلق السيارة بهم بأقصى سرعة لمطاردة المخربين الهاربين .. دون أن يعرفوا إلى أى طريق يتجهون ! .. ولا .. من هم هؤلاء المطاردون المخربون الهاربون !

يدور بدر بسيارته دورة قصيرة ، وما يلبث أن يعود فى الحال ملتفاً بظلام الليل ، فينزل إلى السرداب ، يتعاون مع جاسم ودلال فى نقل الجرحى إلى سيارته ” الجيمس ” ذات الأقرام العسكرية ، بعد أن إنتحل شخصية ضابط الإستخبارات القتيل الذى زوّر عبد الله هويته ، وإرتدى هو ملابسه !

كان عبد الله شقيق بدر يتقن عمل الهّويات ، ينفذها صورة طبق الأصل ، ساعده فى ذلك تدربه الدقيق على رسم الخطوط الهندسية ، وإتقان الرسومات الفنية التى إعتاد أن يقوم بها منذ التحاقه بكلية الهندسة بولاية ” بوسطن ” بأمريكا ، فى الحقيقة ، لم تكن تواجهه أدنى صعوبة فى تقليد أى هوية ، لذا كان لدى بدر عدداً ضخماً منها ، يضم جميع الجنسيات ، فكان يتصرف فيها كيفما يشاء ، مما ساعده كثيراً على التنكر ، والتقمّص ، وإنتحال أى شخصية يريدها ، فقد كانت موهبة بدر ومقدرته على التمثيل ، طبيعة فطرية ، لا تحتاج إلـى جهد كبير ، ولا تتطلب منه أداءاً مصطنعاً !

.. كان من المستحيل أن يكشفه أحد ، أو يشك فى أمره أحد ، فقد كان ما يفعله ، من صوت وحركة وطريقة كلام ، كلها تصرفات تجعل منه صورة طبق الأصل من الشخصيــة .

كان بدر يمتلك إلى جانب تلك الموهبة والمقدرة وخفة الحركة ، وسرعة البديهة ، وحدّة الذكاء .. كان أيضاً يمتلك أسلحة أخرى أساسية ، أهمها خفة الروح والدم الظاهرة ، والقدرة على الخروج بسرعة خارقة من الموقف المتأزم ، إلى جانب أنه كان يتقن ألعاب الجودو والكاراتيه والتايكوندو !

ينتقى بدر إحدى البنايات المحترقة ، يحدد موقعها ، يأخذهم إليها بسرعة ، يتركهم داخلها فى هدوء وصمت ، ينطلق مبتعداً حتى لا تدل السيارة الواقفة أمامها بأن أحد بداخلها ، وذلك بعد أن وعد جاسم وأكد لدلال ولباقى الشباب ، بأنه لن يتأخر كثيراً عنهم وبمجرد أن ينفك الحصار ، وينصرف الجنود ، سوف يعود إليهم فى أول فرصة تسمح بذلك لإخراجهم من هذا المخبأ المهدم ، وأخذهم إلى مكان آخر أنظف وأرتب . فقط .. يجب الإنتظار إلى أن يغادروا المنطقة ، ويبتعدوا عنها .. !

كان هذا هو الحل الوحيد المتاح أمام بدر ، أن يخبئهم فى هذه البناية المحترقة
المدمرّة التى قصفها الجنود بمدافع آر. بى. جى منذ أيام ، والتى لا ينّم مظهرها عن بادرة واحدة توحى بالحياة ! لأن منطقة كيفان قد تم محاصرتها الحين ، وصارت محاطة كلها من الخارج ، ثم بدأوا يفتشون عن بعض الشباب المشتركين فى أعمال المقاومة فى الداخل ، بعد أن وصلتهم إخبارية عن ممارسة نشاطهم التخريبى كما يقولون ! لذا كان لابد من الصبر والتحمل إلى أن تنتهى هذه المداهمة ، ويكفون عن عمليات التفتيش ، ويعودون من
حيث أتوا .. !

ولم تكن هذه هى البناية الوحيدة التى تم إحراقها ، بل كانت هناك بنايات كثيرة مثلها ، بعد أن هاجم الجنود المعتدون المنطقة بأكملها وعاثوا فيها فساداً لدرجة أنهم إستعملوا أعمدة النور المنتصبة فى شوارعها ، لتعليق جثث الرجال الأبطال ، بعد شنقهم عليها .. !!

.. تظل دلال داخل المخبأ تنتفض رعباً ، فالظلام دامس ، والمكان مقبض ، وآثار الحريق تترك السواد مفروشاً على الحوائط والأرضيات ، وبقايا الأثاث تتناثر فى فوضى كأنها أشباح الفزع والهلع فى قلبها ! كأنها ترى مشهداً فى أحد أفلام الرعب التى يتوقع المشاهد أن يرى فيها ” دراكولا ” خارجاً من بين طيات الظلام كاشفاً عن أنيابه الطويلة البيضاء ، وقد غطتها الدماء الحمراء ، بعد أن إمتص سائل الحياة من ضحاياه !!

كان الموقف مخيفاً .. مخيفاً .. فصوت عجلات السيارات اللاهثة التى تعبر الشارع بجنون يثير الفزع ، يدفع الدمع إلى عينّى دلال التى تتوار خائفة خلف بقايا مقعد محترق ، وهى تكاد أن تغيب عن وعيها ذعراً ، وخيالها بعيداً حول إبنتها اليتيمة ، وأمها المريضة ، وأهلها فى العديلية ، الذين لا يعرفون مقرها ولا مصيرها .. !

فى تلك اللحظة الحرجة المحبطة كان جاسم يقف ملتصقاً بالجدار يرقب الطريق بإحدى عينيه حتى لا يلمحه أحد ، بعد أن سمع صوت إحدى السيارات المجنزرة التى تجوب المنطقة بحثاً عن شباب المقاومة .. تقف بالقرب من البيت الذى يختبئون داخله .. !!

تمضى دقيقة ، تعقبها دقيقة أخرى تمر بسلام ، فيشعر جاسم ومن معه بأنهم قد تجاوزوا حد الخطر ، لكن .. الموقف برمته ، كان يهز وتراً حساساً فى قلب دلال التى بتأثير هذا الإنفعال الشديد ، وهذا الجهد النفسى والعصبى المتصل ، يعاودها حلمها التعس القديم ، الذى يم يتحقق منه شئ ، تعود تحتل مخيلتها أحداث حياتها كلها دفعة واحدة ، فتضيق نفسها بعذاب السنين التى عانتها وقاستها ، وتعود تعانى عبء الماضى بكل همومه وإحباطاته ، وهول الحاضر بمخاطره وعدم إستقراره ، فتبدأ ترقب فى أسى المستقبل الغامض عبر ذلك الغد ، الذى لا ملامح له ولا تفاصيل .. !!

فى الحقيقة ، كانت دلال تعانى حالة من العجز والجزع ، بعد أن إكتشفت أن الشعور بينها وبين جاسم قد أصبح شعوراً غريباً ، يزيد من العطف والشفقة والصداقة ، لكنه ليس شغفاً ، ولا شوقاً ، ولا حتى حباً بأى حال من الأحوال ! نعم .. لم يعد حباً ، إنما هو شعور آخر عجيب غامض غريب ! شعور نشأ بعد أن غيّرت الظروف المشاعر ، وتدخلت الأحداث فى تسيير الإحساس ، وجعلت المواقف المحبطة المتكررة من دلال واحدة أخرى ، تختلف عن دلال التى تعرفها عن نفسها ! شعور ظهر بعد أن صهرت صعوبة الواقع الجديد جاسم ، وجعلت منه رمزاً من رموز المقاومة ، وحوّلته إلى واحد من هؤلاء الشباب الأبطال الذى يحفل بأحاسيس التضحية والفداء ، وبذل الروح رخيصة من أجل الوطن !

.. وفجأة اختلطت هذه المشاعر داخل أعماق دلال .. فبدت من بين طيات الظلام مخاوفها ، أخذت تتحرك حولها كالأشباح – ! فبدأ بدنها كله يرتجف ، وفشلت فى حبس دموعها التى أخذت تنهمر بشدة ، وهى تعانى شعوراً ساحقاً بالضآلة والقلة والنقص يجعلها تعتقد أنها قطة ضالة ضائعة مشردة .. بلا مأوى .. ولا مأمن .. ولا معين .. !!

كانت دلال تتفجّر فى بكاء حار بحثاً عن شئ من الطمأنينة والأمان ، كان بدنها يهتّز من شدة التأثر والإنفعال الذى ينذر بإنعدام هذه السيطرة وفقد أعصابها وإتزانها ! فتحرك نحوها جاسم بحذر وخوف مبتعداً عن مكانه فى هدوء مقترباً منها فى قلق ملطفاً ، محاولاً التخفيف عنها ، خشية أن تتفاقم حالتها ، وتصاب بنوبة هيسيترية تجعلها تصيح وتصرخ ، فتلفت النظر إليهم ، ويضيعون كلهم !

يقترب منها جاسم ، لكنه يقف حيالها مرتبكاً ، منزعجاً ، حائراً ، عاجزاً ، لا يدرى ماذا يفعل كى يطمئنها ، ويخفف عنها إنفعالها وخوفها ، إنقاذاً لحياتهم وحياتها ، وهنا .. ينطلق صوت شاب من جرحى المقاومة الراقدين على الأرض ، ينطلق صوته شعاعاً من نور سماوى مبدداً ظلمات الليل ، منيراً للقلوب بضوء الأمن والأمان والإيمان .. فتتبدد عتمة الخوف ، ووحشة اللحظة ، حين يرتفع صوت الشاب عذباً ، عميقاً ، عالياً ، مرتلاً آيات الذكر الحكيم :

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللَّهُ  لاَ  إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ  لاَ  تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا  فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا  خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ”

صدق الله العظيم

.. عندئذ يسبغ الله السكينة والهدوء عليهم ، والطمأنينة والراحة والأمان . ترتاح دلال .. يزول عنها التوتر والعصبية والشعور الطارئ بالضعف والوهن . تحمد الله الذى رفع عنها هذا الإحساس الثقيل ، المقبض ، الذى كان يطحنها ، يهدّها ، يخيفها .. تغمغم دلال وهى تغمض عينيها من الإعياء ، إعياء الخوف الذى كان يرهقها ، وكاد يضعفها ، يهدمها ، وهى تقول :

– الحمد لله والشكر لله .. لا تخاف علىّ يا جاسم .. أنا بخير .. أنا بخير .

يعود جاسم يقول بصوت هادئ واثق :

– إشتّدى يا أزمة إنفرجى .. وانشا الله تتحسن الأمور يا دلال .. ما تضيق إلا ما تنفرج .. تحملّى يا دلال .. تحملى .. أنت أخت الرجال .

وهنا .. تحس دلال أنها حقاً صارت أختاً لجاسم ، وأختاً لكل هؤلاء الشباب الأبطال الموجودين بجوارها ، أختاً عزيزة كريمة فاضلة ، لا ينقص قدرها شيئاً ، ويفرض إحترامها وتقديرها على الجميع ، فتهدأ .. وتسكن .. وترتاح .

يطمئن جاسم على حالة دلال ، فيق ينظر فى حزن وأسى إلى هؤلاء الشباب الراقدين على الأرض بجراحهم المفتوحة التى ما تزال تنزف ، فيلتصق الرماد والتراب بأجسادهم مما يعرضهم للتلوث ، ويتهدد حياتهم بخطر الموت .. ! كان جاسم يتمزق من القهر والغيظ ، وهو يشعر بالعجز التام وعدم القدرة على عمل أى شئ لإنقاذهم ومساعدتهم فى مثل هذا الموقف .. !!

فى الواقع .. لم يكن جاسم قادراً على فعل شئ ، أى شئ ، سوى التفكير فى أسرته ، خاصة صغاره الذين إشتاق إليهم ، وظل يحمل همهم لو أصابه شئ الحين ، فيتربون بعده أيتاماً .. ! كان قلبه يتحرق شوقاً لرؤيتهم .. والإطمئنان عليهم ، فقد كان يعرف أنهم يعانون كثيراً لغيابه عنهم ويتعذبون بسبب خوفهم عليه .. فهو يعرف أن إبنه أحمد طفل ذكى ، نبيه ، حساس للغاية وأنه يعانى كواحد من الشباب الكبار من هول الأحداث الجسام ، وربما أكثر !

وكان أحمد فى ذلك الوقت فى الرياض ، يمسح دموع حزنه . يحاول أن يعود إلى نفسه ، يتماسك قليلاً كى يتحدث مع جدته أم جاسم ، عن والده :

– يا ترى وين أبوى الحين ؟! .. أنا خايف وايد عليه .. ودى أشوفه .

تتأثر جدته لمرأى الحزن على وجهه ، فتثور مشاعرها خوفاً على أبنها ، وحسرة على زوجها فتبكى بكاءاً مريراً ، وتظل تنتحب وتنتحب وتنتحب ، فى حين يظل أحمد يتعذب ويتعذب ، فهو يتشاق العودة إلى الوطن ليلتقى مع أبيه وجده وإخواله وليعود إلى بيته ، ليقضى العطلة مع بنات خاله عبد الله ، ومنصور أبن خاله فيصل صديقه وحبيبه .

لكن .. كانت الأيام تمضى ثقيلة ممّلة ، فالإنتظار قاتل رهيب ، والخوف فظيع ، والقلق وحش يفترس النفوس ، مع أنهم كانوا ساكنين فى بيت أهل نايف فى حى صلاح الدين بالرياض ، وكان أحمد ونوار وراكان يلعبون مع أولاد مذنة ، وبنت نورة ، ويلهون معهم فى حمام السباحة طوال النهار .. !

كانت مذنة ونورة ومشاعل وأمهم فى غاية الذوق والمودة معهم ، والترحيب بهم ، فى حين كانت مشاعل مخطوبة ، وفى أغلب الوقت مشغولة بالحديث مع ليلى عن حياتها المقبلة مع خطيبها ، فقد كانت تجمعهمها لغة الشوق والحب والإنتظار والفرح القادم السعيد بعد إنتهاء الأزمة بإذن الله .

كان للفتاتين أحاديثهما الخاصة ، ولغتهما الخاصة عن الحياة الجميلة فيما بعد الحرب ، إنشا الله ، وكانت مشاعل تسعى دائماً للتخفيف عن ليلى حزنها ، وخوفها ، بالحديث عن نايف ، وعن خطيبها ، كى تحيد بعض الشئ بأفكارها ، فلا تتركز دائماً حول الوضع الحالى للأزمة ، الذى يرهق قلبها ، ويشقى نفسها !

فى الحقيقة .. أخوات نايف كن فى غاية اللطف مع ليلى ، كن متعلقات بها ، يحببنها وكن معجبات بأخلاقها الحلوة ، وذوقها ونعومتها ، وكن يتألمن كل الألم ، ويشفقن عليها وهن يرينها تبكى والدها ، وتبكى ظروفها الصعبة التى تجعلها تعيش الخوف والقلق على أخيها ، وأهلها ، وعلى سير الأحداث .. التى سوف تحدد مصير حياتها .. !

أما الأب والد نايف فلم يكن يراه أحد ، لم تكن تقع عليه عين إنسان ، فهو مقيم فى جناح الرجال ، دائم التواجد فى غرفة مكتبته الواسعة ، التى تغّص بآلاف الكتب ، باللغتين العربية والإنجليزية ، وهو مشغول دوماً بالقراءة والصلاة وترتيل القرآن ، داعياً الله أن تنزاح هذه الغمة وأن يفك الله هذا البلاء .

آه .. إنها أياماً سوداء على الجميع ، فطول الوقت النساء لابسات السواد وهن فى حالة ترقب وإنتظار ، وطول الوقت توجد مساندة من مذنة ونورة ومشاعل ، والأهل عموماً ، لكن الأمهات ، كل واحدة منهما تقاسى حزنها ، فهما لا تستطيعان أن تناما ، أو تأكلا ، صار القلق .. لا يحتمل .. لا يحتمل .. لا يطاق .. !

ولم تكن سعاد أقل من غيرها حزناً وعذاباً .. كان الواجع يلوى أعماقها ، يكاد أن يفقدها عقلها ، بعد أن طال وقت الأزمة ، وتشابكت الظروف ، وأصبحت الأحوال تتراوح بين أحاسيس الخوف والذعر والرعب والتوتر والقلق .. ! أصبحت سعاد تشعر أن الحياة صارت بالنسبة لها معركة شرسة حامية ، تدور رحاها داخل القلوب والصدور التى يمتزج بها الحب بالحرب .. !!

نعم .. هذا شئ واقع ، فالأحداث فوق قدرة البشر ، ولا يستطيع أن يتدخل فى صياغتها أفراد ، لا هى ، ولا جاسم ، ولا دلال .. لذا .. لا تستطيع سعاد أن تتصور من التى ستنتصر فى نهاية هذه الحرب ومن التى سوف تغنم جاسم ، ومن التى سوف تنهزم وتسحق .. وتمضى بعيداً عن جاسم ؟! حقاً .. لا تعرف سعاد إجابة لهذا السؤال !!

و .. كالجمر القانى المتقّد تكوى دموع الحزن وجناتها . تحرق قلبها حرقاً . فهى لا تستطيع أن تبوح بأحاسيسها التى تحفل بالحب .. والغيرة ، والحنق ، والغضب . الغضب الصامت الأخرس الذى لا تقّدر أن تنطق أو تبوح به ، فهى تستحى أن تتحدث مع أحد
ولو بكلمة واحدة فى هذا الموضوع ، بالذات فى مثل هذه الظروف الصعبة ! فهذا ليس وقته ولا أوانه !! هى تدرى ذلك . هى تعلم ! لذا .. هى تحترق بنيران مشاعرها ، وتتلظى
بجمر حبها .. !

تنطوى الليلة ، مثل كل ليلة ، على الحزن والألم الذى يفتك بنفس سعاد ، فيذيب بدنها ، ويجرح روحها التى تطوى الليل تدارى به جراحها .. ! وتنطوى الليلة كواحدة من الليالى السابقة التى صحبت سعاد فى وحدتها وحسرتها وحنينها وحبها وأنينها ، وهى تبات ساهرة ، مسهدة ، مؤرقة ، لا تعرف كيف تواسى نفسها ، كما لا تعرف كيف تطفئ النيران المشتعلة فى قلب قلبها !

كانت سعاد تستسلم للواقع الصعب فى هدوء وصمت ، منذ أن خيّم شبح الحرب المفزع على الجميع ، وتحكم فى تسيير حياتها ، بأن فرض عليها البعاد قسراً عن زوجها ! وقرّيه فى نفس الوقت من دلال ، غريمتها فى غرامه ، التى ظلت تقترب منه بنعومة قاتلة .. وفى يدها سلاح حاد هو حبها العنيد المستميت لجاسم ، ورغبتها الدائمة فيه ، وإصرارها على الوصول دوماً إله !! فهى لا يردعها ولا يبعدها عنه شئ فى هذا العالم ، وهى تستغل ببراعة كل الظروف والمواقف ! نعم .. حتى ظروف الحرب عرفت دلال كيف تستفيد منها !
عرفت كيف تتقن إستخدامها ، لتقترب من جاسم أكثر ، ولتكون إلى جواره أكثر ..
وأكثر .. وأكثر .. ! . 

تسرح سعاد بذهنها ، وإحساسها يختلع فى صدرها ، وهى تعّد الأيام والليالى
والشهور الطويلة التى مضت وجاسم بعيداً عنها ، وفى نفس الوقت قريباً من دلال !!
بعد أن تحكمّت الحرب فى مصير قلبها .. وتدخلت فى صياغة إحساسها وشعورها ، كلما أيقنت أن جاسم ، زوجها ، حبيبها ، موجوداً أغلب الوقت مع دلال .. هناك ، داخل الوطن .. بعيداً عنها ، بعيداً عنها .. ! فتنطلق سعاد بجناحى قلبها ، تحوم تحلق فى سماء الكويت ، ترفرف روحها تبحث عن زوجها ، لكنها لا تعرف له مقراً ، ولا مكاناً ، فتزداد قلقاً
وخوفاً .. وهواناً !

وتبدأ .. تتسرب إليهم الأخبار عن إختلال الأمن داخل الوطن المغتصب لدرجة أن الشيخ سعود الصباح سفير الكويت فى الولايات المتحدة الأمريكية ، دعى الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى وضع قانون جنائى دولى تتم بموجبه محاكمة الجرائم كالإحتلال العراقى للكويت ، وقال إن الإحتلال العراقى يستهدف تدمير الكويت ! وهو ما يؤكد الحاجة لمثل هذا القانون .

لكن .. على الرغم من ذلك ، لم يكن رجلاً مثل سالم المشهور عنه الكرم والشهامة والوفاء ليقبل أن يتغاضى عن حاجة إخوانه فى الشدة ، فها هو يمد لهم يد المساعدة ، ويتبرع بما لديه من أموال يساهم بها فى التخفيف عن الأهل والصحاب ، حتى مع الأجانب اللذين كانوا يختبئون خوفاً من جنود صدام فى بعض البيوت التى يعرفها سالم جيداً هو وأصحابه ، كانوا أيضاً يزودونهم بالأموال والمؤن ويساعدونهم على الإستمرار والبقاء إلى أن تتغير الظروف وتتبدل الأحوال .

فى الواقع .. لم تكن المقاومة الوطنية الكويتية قاصرة على الشباب وحدهم بل كانت مسئولية الرجال كلهم شباباً ورجالاً ، بل حتى الأطفال ، الصبية الصغار كان لهم دوراً لا يستهان به ! نعم .. لم تكن أعمال المقاومة مسئولية عبد الله وبدر بل كانت مسئولية أبو عبد الله وأبو بدر ، فهاهو سالم الرجل الطيب اللطيف المسالم ينقلب بطلاً من أبطالها ، لا يقل عن لديه تضحية وإنفعالاً وبذلاً وعطاءاً !

فىالواقع .. كان سالم نواة خلية من خلايا تقديم الخدمات داخل منطقة الشامية والمرقاب وما يجاورها من أحياء ، وقد لمس الرجال المتواجدين معه هذا الدور الكبير الذى يقوم به حتى مع الأجانب أو الرهائن ، فقد كان له معهم دوراً كبيراً فى معاونتهم ، ومساندتهم ، بشكل عفوى وسريع .. وعظيم !

كان الدور الذى يقوم به سالم ملفتاً للنظر ، داعياً إلى إثارة الشكوك حوله ، فالأموال الكثيرة التى يمنحها للآخرين والتى تساندهم وتساعدهم على الإستمرار فى تعزيز العصيان المدنى ، كانت شيئاً ملفتاً للنظر ، مما يثبت أمن القضية كانت منظمة جداً ، وأنها ترتبط مباشرة بالحكومة فى الخارج وتشّكل تنظيماً دقيقاً فى الداخل .. !!

لذا أصبحت العين تتجه نحو سالم ، تفتش عن سالم ، لكنه لم يلق بالاً إلى هذا التهديد الخفى ولم يهتم بما يمكن أن يناله ، فقط ، كان إهتمامه مركزاً حول دوره الوطنى ، وما يجب أن يقوم به فى مثل هذه الظروف وفى مثل تلك الأحوال ، التى يحتاج فيها المواطنون إلى مساندة بعضهم البعض بغض النظر عن الأخطار التى تحيط بهم !

لم يستمر الوضع طويلاً كما كان عليه ، تغيرت الظروف بالفعل ، صارت عمليات المتابعة والمراقبة مستمرة ، إلى أن جاء يوم كان سالم على موعد مع الرجال هناك بالمسجد وكان لابد أن يذهب للقائهم ، فقد كان يدرك إن وجوده بينهم يرفع من روحهم المعنوية ، وأنهم بلقائهم جميعهم يتخففون من بعض الأحزان والآلام ، ويتصبّرون على ما يلاقونه من تعذيب تقشعر له الأبدان !

لكن .. حين بدأ سالم يهم بالخروج لأداء فريضة صلاة الجمعة فى المسجد القريب من البيت ، المجاور لجمعية الشامية ، وقف منصور متعلقاً به مصمماً أن يصحبه على أمل أن يصلى فى المسجد معه ، ثم يروح الجمعية بعد الصلاة ليشترى الأغراض التى يحتاجها الأهل فى البيت رغم أنها فقدت الكثير من بضائعها ، وقلت ساعات بيعها ، إلا أنه كان يعتبرها نزهة يحب أن يحظى بها !

فى البداية رفض أبو عبد الله أن يأهذ حفيده الصغير معه ، طلب منه أن ينتظره فى البيت لحين رجوعه فهو لن يتأخر كثيراً ، وسوف يحضر له كل ما يريد من الجمعية ، إلا أن منصور أصرّ على الذهاب معه وصمم على ذلك ، وأخذ يبكى وهو يتحايل على جده كى يأخذه معه .. وهنا نظرت إليه أمه بعين العطف والشفقة وقالت فى حنان :

– خليك فى البيت يا منصور .. ما فى داعى تروح المسجد الحين .. خليك قاعد معانا .. وجدك راح يجيب لك كل شئ لما يرجع .

لكن .. إستمر منصور فى الرفض والبكاء ، وأمام إصراره وتشبثه بالذهاب مع جده تستسلم أمه ، وتسمح له بالخروج ، فهى تعلم تعلقه الشديد به . تسكت على مضض . لا تعترض . تقول لجده :

– ما يخالف يا عمى .. خذه معاك إذا ما كان يضايقك . 

تقبل فضيلة خروجه مضطرة مرغمة ، فيخرج منصور من البيت ، ومعه يخرج قلبها الذى يعتريه شعور كبير بالضيق والإنقباض .. شعور غامض بغيض رهيب .. لا تدرى له سبباً ، ولا تعرف له تفسيراً أو تعليلاً .. !

يقف المصلون يؤدون شعائر صلاة الجمعة ، تنتهى الصلاة ، فيبدأون الدعاء وبينهم سالم وحفيده منصور ، يخرجون من المسجد أفراداً وجماعات ، لكن .. قبل أن يبتعدوا عن بابه الكبير ، يفاجأ المصلون بوجود سيارة عسكرية تربض أمام المدخل وعدد من الجنود والضباط يأمرون أبو عبد الله بالركوب فيها بعد أبلغوا المصلين إن قانون حظر التجمعات يسرى أيضاً على المساجد !!

يبهت الحاضرون . يسقط فى يد أبو عبد الله ! فحفيده منصور معه ، لا يدرى ماذا يفعل ؟! أذهلته المفاجأة ! وهو يخشى عليه أن يناله شر وأذى ، فيطلب منهم أن يذهب الطفل مع أحد الرجال الموجودين فى المسجد ليعيده إلى البيت عند أمه ، لكنهم يرفضون تلبية هذه الرغبة الإنسانية ، ويصرّون على أن يركب الحفيد معه .. لا .. بل قبله إذا أمكن ذلك !

ويرفض منصور أيضاً أن يترك جده ، يظل متشبثاً به ، يمسكه بشده وهو يبكى خائفاً من منظر الجنود وشراستهم التى بدت فى معاملتهم الخشنة لجده ، وصراخهم عليه حين أمروه بالركوب معهم بالقوة .. يطبق الطفل على كف جده بكلتا يديه ، وهو يبكى ويقول :

– لا .. لا تخلينى .. أنا باروح وياك .. راح آجى وياك .. !

وحيال هذا الموقف المأساوى الذى يمرّ سريعاً فى لمح البصر ، لا يستطيع أبو عبد الله أن يفعل شيئاً آخر لإنقاذ الحفيد ابن الشهيد ، سوى أن يقبض بقوة على ذراعه ، ثم يرفعه ، يحمله ، يضمه ، يحضنه ، وهو يصعد به السيارة العسكرية ، وأصابع منصور الصغيرة ما تزال تتشبث به ، تتمسك به ، فى حين يبقى منصور متعلقاً بجده ، يحضنه باكياً خائفاً وهو يأبى أن يفارقه .. بينما تنطلق بهما السيارة إلى جهة مجهولة .. ومصير غير معلوم .. !!


الفصل الثانى والعشرون

الباطل الواضح

لم يعد أبو عبد الله ! ولم يرجع منصور ! يجن جنون عبد الله عندما يعرف خبر القبض على أبيه وأبن أخيه !! بعض الجيران وشهود العيان أخبروهم بما حدث ! يتمزق عبد الله من الغيظ والقهر من هذا الفعل الإجرامى اللاإنسانى الذى لم يفرق بين رجل كبير وطفل صغير تم أسرهما معاً .. بلا رحمة ولا تمييز ! يريد عبد الله أن يذهب إلى المخفر فى الحال يسأل عنهما لكن ، الكل يمنعه .. قالوا له أنت لو رحت المخفر برجليك فلن تخرج منه إلا على ظهرك ! .. سيصدونك ، سيقتلونك ما راح يخلوك تطلع حىّ .. إلا لو نقلوك أسير إلى سجن من السجون هناك .. حاذر .. لا تروح .. لا تروح !

يأخذ عبد الله بالنصيحة ، لكنه يستشعر الخوف والقلق ، فهذا مؤشر معناه أنهم سوف يحضرون سريعاً إلى البيت يفتشون عن أى شئ يدين والده ، يثبت أى تهمة عليه ! فإذا وجدوا فى البيت علم ، أو كاميرا ، أو طلقة رصاص .. سوف يعتبرون ذلك دليل إدانة يقتلونه بسببها .. رغم أنهم ليسوا فى حاجة إلى دليل يبرر القتل .. ذاك الذى يمارسونه دون حاجة إلى دليل .. أو ضمير !

تندفع الأحداث بسرعة البرق .. تتداخل .. تتداخل الظروف فى لمح البصر . تمضى الساعات أشد سواداً من السواد نفسه ، وعبد الله يأخذ حريم بيته ، يتحرك بهن بصعوبة طوال الطريق إلى بيت أهل فضيلة من ضاحية عبد الله السالم .

كان السير والوقوف متقطعاً ، فنقاط السيطرة تنتشر فوق الشوارع والطرقات ، تنشلا الرعب ، وتهدد بالخطف والإيقاف والمصادرة .. والقتل ! يتمنى عبد الله ويدعو أن يبتعد بأقصى سرعة عن بيتهم فى الشامية ، بعيداً عن أعين الجند الذين سيأتون حتماً يقبلونه رأساً على عقب ، ويعتدون على كل من فيه بلا إستثناء ! نعم .. كان عبد الله يتوقع بين دقيقة وأخرى مداهمة بيتهم فى الشامية ، من قبل قوات الرعب العراقية .. !

يجلس الجميع فى البيت بالضاحية ، عند أهل فضيلة ، الذين عرفوا مدى الخطر
الذى يتعرضوان له ، فحاولوا تهدئتهم ، وإدخال الطمأننة إلى قلوبهم ، فالحين الكل يشعر
روح التآخى والتآزر ، تألق مفهوم الأسرة الواحدة ، الذى تنمو معانى المحبة والتضحية والإيثار !

شئ يدينه ، لذا .. كان عليه أن ينفذ شيئين على درجة بالغة من الأهمية .. تبديل أسمه ، وتغيير شكل !

وكان على عبد الله أن يصل إلى بدر بأسرع طريقة ممكنة ، بعد أن تعّذر للغاية الإتصال به طوال الأيام القليلة الماضية .. ! وكما يقولون .. تصل الأخبار إلى من يريدها ويهتم بمعرفتها ! بالفعل ، بطريقة ما ، يعرف بدر أن أخيه عبد الله يبحث عنه ، فيأتى إليه ، يعانقه فى تأثر بسبب إختطاف والده ومنصور ، إلا أنه يداعبه ، ويقول له باسماً مخففاً وقع الحدث خلال هذا اللقاء :

– ها .. أنا قلت لك من أول .. أبو الخبز ينّدل أبو المرق !

يبتسم عبد الله وهو يهز رأسه لأخيه مؤيداً ، معجباً بروح الشجاعة والمرح التى يتعامل بها مع أعتى أنواع الشدائد ، وأصعب المواقف ! يتفق الشقيقان على ما يجب عليهما عمله بعد إعتقال والدهما ، وإبن أخيهما الشهيد ، فيقررا ماذا يجب أن يتم بعد أن أكد بدر لعبد الله أنه قد قام منذ فترة طويلة بتجريد البيت من كل ما فيه من أوراق ومستندات قد تكشف أسمائهم الحقيقية وتدّل على هويتهم الأصلية .

وفى التو واللحظة .. يبدأ عبد الله يمارس عمله الدقيق الذى يتقنه ، فيبدأ فى تصميم وتنفيذ هوية جديدة تتناسب والظروف الحالية التى باتوا يتعرضون لها . كما يبدأ بدر على الفور حملة بحث وإستقصاء وإستفسار – بطريقته الخاصة – عن المكان الذى يحتمل أن يكون والده موجوداً به .. ويستعد هو ومجموعة من شباب المقاومة لتنفيذ عملية جريئة ربما تقودهم إلى التوصل لمعرفة الحقيقة وملابسات الحادث وظروفه !

بعدها .. يسمع عبد الله خبر إغتصاب طفلة عمرها 12 سنة ، تناوب الجنود إغتصابها !! فيعتصر الذعر قلبه عصراً ، وهو ينظر إلى بناته الثلاث ، مريم التى تناهز الرابعة عشر ، ومنى التى تجاوزت الثانية عشر ، وفضة التى تبلغ التاسهة من عمرها ، ويكاد يموت من الخوف عليهن خشية أن ينالهن سوء .. فيظل يقرأ آيات الذكر الحكيم داعياً ربه أن يستر عرضهن ، وأن يحفظهن من كل سوء وشر .

آه .. المسئولية جسيمة فادحة ، فالآن عبد الله مسئول عن زوجته إبتسام ، وبناته الثلاث ، وفضيلة زوجة أخيه الشهيد فيصل وأمها !! آه .. يارب .. الحمل ثقيل يا عبد الله .. الله معك .. كان الله فى عونك .

.. اللحظات تمضى حادة ، عنيفة ، حارقة ، محرقة ، فالظروف تتدنى ، والأحوال تنحدر ، تتدهور ، والخطر يحيق بأهالى الكويت ، يحيط بهم ، يقترب منهم ، وأخبار إعتقالات الشباب تتزايد بعد أن زادت شراسة العدو وتفاقمت وحشيته وضراوته !

تمسىا لحياة فى الكويت فوق تحمّل البشر ، فالموت كما نعرف ، أصبح هو الشئ الوحيد المتاح والمتوفر فى ذلك الوقت ، فهو يأتى فى لمح البصر ويصيب الجميع على أهون سبب !

صراحة .. كان بدر يتعامل مع الواقع البشع بروح التحدى والمغامرة والقوة والمثابرة ، وكان عندما ينجح فى الخروج من مأزق ، أو يتخلص من موقف عصيب ، أو يوفق فى إنقاذ بعض الزملاء المشتركين فى المقاومة ، يقتنع هو ذاته بقدرته أكثر وأكثر ، ويزداد إيمانه بموهبته أكثر وأكثر وأكثر !

وهذا ما حدث ، عندما نجح بدر بعون الله وفضله فى نقل جاسم ودلال وجرحى المقاومة ، فى وضح النهار ، من منطقة كيفان إلى منطقة الرميثية ! حيث تم إخفائهم هناك ! رغم كثرة نقاط السيطرة وإنتشارها ! الحمد لله أعمى عنهم عيونهم .. إنه على كل شئ قدير .

وعلى الفور ، يبدأ جاسم يباشر عمله فى الحال كطبيب جراح إنقاذاً لهؤلاء الأبطال الذين لم يتهاونوا فى التضحية بأنفسهم من أجل الوطن ، ساعده على ذلك توفر بعض العقاقير والأدوية والمعدات والأدوات المعاونة ، المساعدة له على ممارسة عمله الإنسانى .

كان جاسم يناض ضد الظلم بطريقته الخاصة ، بمزاولته الطب رغم كل الظروف المحيطة المحبطة التى تحّد من قدراته كطبيب .. ! لكنه لم يكن من هذا النوع من الرجال الذى يقبل بالهزيمة أو الإستسلام .. ! كان جاسم يقاوم الإحتلال بكل ما يملك من عزيمة وإرادة ، وبكل ما يمتلك من علم ومعرفة ، ولم يكن جاسم ليقبل أن ينحنى إزاء تلك الظروف القهرية غير العادية .

ورغم الحزن والغضب لما حلّ بوالد زوجته ، ذلك الرجل الطيب أبو عبد الله ، وحفيده منصور ، اللذان قام جنود صدام بإعتقالهما .. ! إلا أنه لم يدر ماذا يفعل إزاء هذه المصيبة الفادحة التى حلّت بالعائلة ، فهو يلعم مدى حب سعاد لأبيها ، وتعلقها بمنصور ابن أخيها !

وغم هذا الظلم الدائم الوقوع على الأبرياء ، ورغم هذا العدوان المتصل المستمر الذى يصيب هؤلاء القوم الشرفاء ، فإن النفوس لم تنكسر ، والرؤوس لم تنحنـى .. حمداً لله .
رغم كل شئ ، تبقى المقاومة الوطنية فى الكويت ، التى يقوم بها العديد من شباب الكويت
فى مختلف المناطق ذات دور رئيسى وأساسى فى رفع معنويات الشعب الكويتى ، كما كان لها فى نفس الوقت أثراً كبيراً أدى إلى إرباك وقع فى صفوف قوات الإحتلال الذين إحتاروا أمام هذا العدد الهائل من الشباب الذى تطوع ، وحمل السلاح ، ليقّتص من هؤلاء المعتدين الآثمين !!

كان بدر يوزّع وقته بين مجموعات المقاومة التى تشكّلت فى كل مناطق الكويت الرئيسية ، وكانت أغلب المجموعات تضم بينها بعض العسكريين ، والمدنيين فى حين كان بعضها الآخر على إرتباط بالحكومة فى المنفى ، وبعضها يعمل مستقلاً ، فكان يأخذ على عاتقه التنسيق والتعاون فيما بينها ، خاصة فيما يتعلق بتبادل الأسلحة والذخائر والمتفجـرات !

نعم .. كان بدر يتحرك بخفة ويسر وسهولة ، كالدينامو ، فكان يفلت من قبضة الآثم المعتدى مثل الزئبق ، وكان فى كل ينتحل شخصية مختلفة ، ذات جنسية مختلفة ، بلهجة مختلفة ، بهوية مختلفة ، بحيث لا يقدر أحد أن يمسك عليه شيئاً ، ولا يستطيع أحد أن يتعرف على شخصيته الحقيقية !!

فى الواقع .. بدر كانت لديه المقدرة على أن يبدو هادئاً وادعاً ، يساعده على ذلك شكله البرئ الوسيم ، الذى توحى به ملامحه الجذابة التى تمنح إحساساً دافقاً بالراحة والدعة والإطمئنان ، بعيداً عن أعمال القتل والشراسة والعنف ، التى يقوم بها دفاعاً عن الوطن .. وأهل الوطن .. إنقاذاً للوطن من هذا المحتل البغيض ، الذى لا يرعى حرمة ، ولا يصون عرضاً ، ولا يحفظ عهداً !

وهكذا .. ظل بدر يتصرف بمهارة وخفة ، أخذ يتحرك من ديوانية لأخرى كى يعرف آراء الشباب وأفكارهم لنسق فيما بينهم ، فكان له فى الحقيقة دوراً إيجابياً كبيراً ساعد على إستمرار أعمال المقاومة الكويتية التى تضم عدداً كبيراً من العسكريين الذين زودها بمصادر السلاح ، التى لا يعرف غيرهم أماكن مخازنها التابعة لمعسكرات الجيش ، والشرطة ، والحرس الوطنى .. وكان بدر يستطيع أن يوصل هذه المعلومات من هنا إلى هنا ، إلى هناك ، بحرية تامة وسهولة مطلقة فى الحركة ، كانت تدعو دوماً إلى الدهشة والعجب .. والإعجاب !!

بعدها .. بدأت تشاهد عشرات الآليات العسكرية العراقية المحترقة ملقاه على جوانب الطرق بعيداً عن المناطق السكنية حتى لا تتعرض للإنتقام والقذف والقصف ، فى حين تركزّت مظاهر وآثار المقاومة على الطرق الرئيسية ، وطالت أيضاً سيارات الأجرة العراقية التى فجرّت المقاومة أعداداً كبيرة منها ، وقتلت من فيها ، مما حدّ من هجمة مدنية عراقية كبيرة ، كانت تستهدف الكويت بأعداد غفيرة !

صار بدر ورفاقه فى مختلف مناطق الكويت مثالاً ناجحاً للشباب الكويتى ، الذى رفض إحتلال بلاده ، فلم يهدأ ، ولم يستسلم للظلم الواقع عليه ، ولم ييأس من رؤية الأعداد الهائلة المسلحة للجيش العراقى تجوب أرض بلاده ، بل إندفع فى عمليات مقاومة إنتحارية تثبت للعالم أجمع ، أن الشاب الكويتى بطل يستهين بالروح فى سبيل تحرير الوطن ، وأنهم وقت الشدة .. رجال من خيرة الرجال .. وفقهم الله .

ولم تكن دلال لتقل إندفاعاً عن بدر فى التعبير عن حبها للوطن ، فقد ساعدت كثيراً فى أعمال المقاومة ، فكانت تقوم بنقل السلاح ، كما كانت تشارك فى تلغيم السيارات ، التى كان عبد الله يقوم بتزوير دفاترها ، والتى يوقفها بدر فى مكان تجمّع العدو .. ثم يتم تفجيرها عن بعد !

نعم .. كانت دلال مثالاً ناجحاً للفتاو الكويتية ، ورمزاً طيباً للمرأة الكويتية ، التى كان لها دوراً كبيراً فى مقاومة ومناهضة الإحتلال ، مما أثار حولها كثيراً من الدهشة ، لما تحلّت به من صفات بطولية ووطنية ! حياها الله .

ورغم التهديد الواضح والصريح الذى كان مسلطاً على دلال ، ورغم أعمال الإعتداء والعنف التى كانت تقع على الفتيات والنساء من قبل وحوش الطاغية ، والتى كانت تنفّذ وتمارس بقسوة وشراسة ووحشية ، إلا أن دلال لم تنصرف عن متابعة دورها النبيل فى الدفاع عن أرض الوطن .. وكرامة الوطن .

وكم كانت دلال ثائرة غاضبة ، عندما علمت بإعتقال أعضاء مجلس إدارة جمعية الهلال الأحمر الكويتية ، بعد أن تمت مصادرة كل محتويات الجمعية ، من السيارات النصف نقل ، والسيارات الجيمس والأدوية ، والمواد التموينية والنقود .. تمت مصادرة كل ذلك .. ثم نقل إلى العراق !

أيضاً كانت دلال غاضبة ، وحزينة بسبب إعتقال أبو عبد الله ومنصور حفيده ! كما كانت تتمزق غضباً بسبب أسر أبو جاسم الشخص الوحيد الذى كان يحبها ، ويرحّب بها ، فى أسرة جاسم كلها ! ظلت دلال تحترق من الحزن بسبب إعتقال أخيها عادل وأسره وتعذيبه فى قلب بيتها .. منذ ذهب يدفن جثمان جدتها الذى إختفى .. وإختفى بعده شقيقا !!

تذكر دلال أخيها بكل لوعة الحزن . بكل حسرة الأسى . بكل حرقة الألم . بكل أحاسيس الوجع !! آه .. آه تطلق دلال صيحة حزن تقّطع نياط قلبها ، وهى تذكر والدها وحبه لعادل ، فتتوجع وتتمزق وتتقطع ، وهى تتخيل ماذا سيفعل عندما يعرف نبأ إعتقاله وتعذيبه ؟! آه .. ماذا تراه يفعل عندما يصله هذا الخبر المشئوم ؟!

يشتد حزن دلال ، كما يشتد إحساسها بالظلم والهوان ، فتغرق فى البكاء والعويل ، والنواح ، وهى تكاد تجن كلما تخيلت أن أخيها عادل ، يتعذب ! يتمزق من الألم داخل بيتها هى ! على أيدى هؤلاء الطغاة الذين لا يعرفون ربهم ! ولا يرحمون عباده ! تتعذب هى نفسها حين تصل إلى هذا التخيل ، وهذا التصور ، فتبكى ، وتبكى ، وهى لا تعرف ماذا تفعل ، وهى تحس بنفسها فى هذه الدنيا وحيدة .. وحيدة .. بائسة !

تعود دلال تتنهد فى حزن وأسى وهى تذكر حياتها السابقة مع أسرتها قبل أن يدهمهم جنود الإحتلال ، ويفعلوا بهم ما فعلوا ، قبل أن يقتحموا البيت فيقتلوا جدتها ، ويغتصبوا أمها ، ويتسببوا فى مرض إبنتها ، ويأسروا أخيها !

يارب .. أصبح البيت الآن معتقلاً ! صار يضم بين جنباته عدداً غير قليل من شباب المقاومة الذين وقعوا بين أيدى جنود الإحتلال .. فيتعرضوا الحين لأقسى أنواع العذاب الذى لا يرحم شبابهم ، ولا يرأف أبداً بحالهم !

آه .. يا الله .. يا قادر يا معين .. وبنفس الحرقة والحزن والألم يبكى أبو جمال وينتحب بعدما وصله خبر أسر إبنه الشاب عادل ! لم يستطع أن يكتم دموعه أمام كل هؤلاء الرجال الذين حضروا للتخفيف عنه ومشاركته حزنه واساه عقب تسرب هذا الخبر المشئوم وإنتشاره !

يتجمع الرجال فى شقة أبو جمال فى الزمالك بالقاهرة ، يظلوا يدخلون ويخرجون عليه ، وهم يحاولون أن يطمئنوه ، ويهّونوا عليه صعوبة الموقف ، وأن يزرعوا الأمل فى نفسه ، فالله معهم ، قادر على قهر الظلم ، قادر على نصرهم ، وهو القادر على كل شئ .

ينصرف الجميع .. ماعدا أبو إبراهيم الذى يصمم أن يصحب أبو جمال معه زميل شبابه ، ورفيق دراسته ، وصديق عمره إلى شقته فى المهندسين . يرفض أبو جمال الخروج ، لكن أبو إبراهيم يصرّ قائلاً :

– لا يا معود .. ترى ما راح أخليك بروحك .. ما أقدر .. والله تزعل علينا
أم إبراهيم .. هى اليوم مسّوية مكبوس لحم ومرق بامية ودقوس طماط حار .. كل هذا
عشانك .. !

– والله يا أبو إبراهيم .. ما أشتهى آكل شئ .. خلينى بروحى أرجوك .

لكن .. يصمم أبو إبراهيم على إصطحابه معه ، وهو يقول له :

– قوم يا معّود .. ترى عورّت قلبى .. قوم خلنا نشوف أم إبراهيم شنو صاير عليها .. تعال خلنا نلهيها شوية عن نفسها .. ترى هى على طول قاعدة تبكى .. تدرى أخوها عبد الرحمن ؟! ما ندرى عنه شئ من يوم الغزو .. ّّ وهذه سهام زوجها أسير وقاعدة تبكى هى وأمها على طول .. تعال تعال يا أبو جمال .. قوم .. ترى مصيبتنا واحدة .. ياللا .. الله معنا كلنا .

يظل أبو إبراهيم يلح ويلح محاولاً أن يخفف حزن أبو جمال على ولده ، إلى أن ينجح أخيراً فى إقناعه فى الذهاب معه إلى البيت ، خاصة وأن الأهل كلهم هناك يوّدون رؤيته ، وينتظرون حضوره .. !

يدخل الرجلان شقة أبو إبراهيم بالمهندسين ، فيجهّز طعام الغذاء . يجلس الجميع يفترشون الأرض . يتبادلون فيما بينهم نظرات الأسى والألم لأن عادل عزيز عليهم . فهو يعتبر إبناً لهم ، وهو صديق إبراهيم ولدهم وكان دائماً فى البيت عندهم ، وهو غالى عليهم مثل إبراهيم بالضبط .

لكن .. يرفع الطعام كما هو ، لم يستطع أحد أن يأكل منه شيئاً ، يأتى الشاى ، يحتسيه أبو جمال وهو يتشاغل عن عذابه ، بمشاهدة التليفزيون ، بحثاً عن خبر يطفئ به نيران قلبه . خبر ربما يطمئنه على ولده ! ويظل يدور الحديث حول الهول فى الداخل ، وهؤلاء الهاربين منه ، الذين يتسللون خارجين من وقت لآخر ، ويجوز يكون عادل واحداً منهم .. إنشاالله .

يداعب هذا الأمل خاطر أبو جمال ، الذى يظل عاتب نفسه طويلاً على غيابه الماضى عن أسرته ، وعن عياله ، ويلوم روحه كيف كان لاهياً بنفسه عنهم كل تلك السنوات ، يتمنى أبو جمال ، يدعو الله أن يعود عادل إليه كى يعوضه بحبه وحنانه عن ذاك الوقت الذى ضاع ، كما يدعو الله أن يحفظ إبنه البكر جمال ، وزوجته أم جمال ، وسناء ، ودلال ، وأن يبعد عنهم جميعاً الخطر وأن يحفظهم رب الكون العظيم .

يعود ينظر أبو جمال لنفسه لائماً معاتباً ، كيف لم يكن مع عياله من أول الزمان ؟! ولماذا كان مشغولاً بنفسه كل هذا العمر ؟! لماذا لم يمنحهم حبه وعطفه وحنانه ورعايته ؟! بدلاً من أن يصّب كل إهتمامه على نفسه ولنفسه .. ! يبقى أبو جمال حزيناً صامتاً يعاتب نفسه ، ويلومها ، خاصة وأن التليفزيون لم يشغله عن خواطره ، إذ لم تأت الأخبار بجديد ، فالحال هو الحال .. ما زال !

يتشاغل الجميع بمتابعة الشاشة الفضية ، وبالحديث عن أمور الدنيا ، بينما هم يشربون الشاى والقهوة وهم لا يشعرون لها بطعم أو مذاق ! وهنا .. يبدأ يذاع تسجيل حفل ” الليلة المحمدية ” وإذ بمطرب الكويت عبد الله الرويشد يقف ينشد ، يناتشد ، يشكو ، بصوت يرّج الصدور .. يخترق القلوب :

أشكو إليك يا واهب النعم يا اقدم القدم

إنت اللى أعلم باللى بى من ألم بلدى إنظلم

بلدى إتظلم             بلدى إتظلم

واللى ظلمنى ولاد عروبة ودين ودم

كانوا مع الشيطان يا رب على ميعاد

واللهم لا إتراض .. واللهم لا إعتراض

يا يا الله     يا يا الله     يا يا الله

بكاء حار يتفجّر بركاناً من العيون . نحيب حاد متصل يقّطع يمزق القلوب . كل منهم يبكى ويبكى ويبكى .. فى حين يتابع عبد الله الرويشد إنشودته :

وما دام يا ربى خلقت لى دمعى

من حقى أبكى من حقى أبكى

انشالله أبكى دم

ومادام يا ربى خلقت لى صوت

هاأصرخ لو العالم حجر أصّم

يا يا الله     يا يا الله     يا يا الله

تنقطع الأنفاس . يسود الصمت . يصحبه الألم والعذاب والدمع . فى حين يناجى صوت الكويت ، إبن الكويت أمة الإسلام ، صارخاً عذابه ، ناطقاً آلامه ، مناجياً ربه :

سامحنى يا الله هاتشق قلبى الآه

سامحنى يا الله هاتشق قلبى الآه

الباطل الواضح فيه مسلمين تابعاه

على دمى ماشيه وراه

أنا فى واد يا ربى وولادى فى واد

أنا فى واد يا ربى وفؤادى فى واد

أنا فى واد يا ربى وبلادى فى واد

واللهم لا إعتراض واللهم لا إعتراض

واللهم لا إعتراض واللهم لا إعتراض

لا إعتراض

يشتد الحزن . يصرخ القلب . تبكى الروح . يدمع الوجدان .. وأبو جمال يقضب غترته بيده يغطى رها وجهه .. فتغرق فى الدموع ولا يتمالك أبو إبراهيم نفسه فيخفى وجهه بين يديه ويجهش بالبكاء .. يبكى أبو إبراهيم إحساسه بالغربة ، بالضياع ، بالهوان .. بعد أن صار الحين بلا وطن . بلا هوية . بلا كيان ! فى حين تنفجر النساء والأطفال والصبيان والبنات ، كلهم فى بكاء يعمى العيون .. يدمى القلوب !

تثور المشاعر ، تفور الأحاسيس ، يستمر البكاء ، يستمر الدعاء ، يستمر العناء ، فأخبار المواطنين الكويتيين فى الداخل والخارج ، فى كل مكان تهم كبار رجال الدولة المسئولين وعلى رأسهم سمو الأمير وولى  عهده الأمين ، الذى أعلن للجميع منذ بدايات الغزو أنه يحس بهم ، يشاركهم أحزانهم ، يشعر بشعورهم .. وها هو يقول لهم فى حب وحنان أثناء وجوده فى جدة بالمملكة العربية السعودية ، ديرة الحب والعطاء والوفاء :

” أبناء ديرتنا الحبيبة .. كنا دائماً معكم وبينكم ليل نهار بقلوبنا ووجداننا وأفكارنا ومشاعرنا صورة كويتنا الحبيبة وأهلنا الصامدين فيها لم تفارقنا لحظة واحدة فى صحونا وغفوتنا ، ويعلم الله كم نعانى لمعاناتكم وكم نشقى لشقائكم ، وكم نتألم عندما نسمع ما يفعله المجرمون بكم ” .. !

وفى الرياض .. لم تكن سعاد وليلى تألوان جهداً فى تلبية تعليمات الوالد القائد ، أمير البلاد ، فإنضمتا إلى حركة المقاومة الكويتية المتمركزة فى السعودية ، التى تضم عدداً من المتطوعين الكويتيين النازحين ، وكان من بينهم أعداداً كبيرة من السيدات ، وكانت خالتها أم جاسم تحب أن تشارك فى هذا العمل التطوعى من وقت لآخر كلما سمحت لها الظروف ، لكنها ، أحياناً كانت تصرّ على متابعة حالة أختها الصحية ، أم عبد الله ، كما تتولى الإشراف على الأولاد الصغار ، خاصة أحمد الذى كان يبدو حزيناً شاحباً ، وهو يتابع أحداث الإحتلال أولاً بأول كأنه واحد من هؤلاء الشباب الكبار !

كان أحمد فى غاية الحزن لما يحدث فى وطنه ، كان حزنه كبيراً لما حلّ به من خراب ودمار ! بعد أن عرف أن الحيوانات التى كان يحبها وكان يذهب لمشاهدتها فى حديقة الحيوان ، قد أكلها الجنود ! كما دمروا وسرقوا معدات المدينة الترفيهية بأكملها ! قتلها الغزاة .. قطعوا كل خطوطها ، وسرقوا أغلب معداتها بعد أن فككوا أوصالها !!

كان هم أحمد كبيراً ، فقد كان طفلاً فى مظهره ، إلا إن إحساسه كان ناضجاً مرهفاً ، فقد كان يتابع الأخبار ، لا يفوته خبراً كبيراً أو صغيراً ، وكان خوفه على وطنه ، وقلقه عليه واضحاً عظيماً ، وفى نفس الوقت كان يحرص أن يخفى مشاعره عن أمه ، حتى لا يثير أحزانها هى الأخرى ، فقد كانت فى حالة نفسية سيئة ، وهى تعانى أشد أنواع القلق على والده ، وعلى اخوانها ، وعلى أبيها .. وكل الأهل هناك !

كان الخوف عليهم كبيراً بسبب تدهور الأوضاع وتدنى الحالة المعيشية ، التى كانت أخبارها تتطاير كالشرر المشتعل من وقت لآخر ، فتحرق القلوب ، وتكوى النفوس ! كانت أنباء الحياة المرعبة تسرى كالنار فى الهشيم ، وكان أكثر هذه الأخبار إيلاماً ما أعلنته طبيبة كويتية ، عن معالجتها أربع حالات إغتصاب كان من بينهن طفلة عمرها 12 سنة تناوب الجنود إغتصابها !!

يصل هذا الخبر إلى الأهل فى الرياض فيجن جنونهم ، إذ أن هذه الطفلة ينطبق عمرها تماماً على عمر منى إبنة عبد الله ، فيفقدون وعيهم خوفاً وذعراً ، وهلعاً ، خاصة بعد أن مضت عليهم فترة من الوقت والأخبار مقطوعة تماماً عنهم .. ! حتى جاسم نفسه لم يعودوا يعرفون عنه شيئاً ! فأمست سعاد فى غاية القلق ، وأصبحت فى اشد الخوف عليه ، بعد أن تأكدت من صحة المعلومات الحساسة والهامة التى وصلتها والتى تفيد أن زوجها الدكتور جاسم الناصر ، قد أصبح معروفاً لدى القوات العراقية المحتلة ، كما صار مطلوباً لها ، لأنه يعتبر مندوب الخلية الطبية داخل الكويت !

فى صباح اليوم التالى .. يرن جرس الهاتف ، ترفع مشاعل السماعة ، وإذ بها تقول بصوت خفيض مهذب :

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. نعم .. موجودة .. لحظة واحدة معى .

تدنو مشاعل من سعاد ، تخبرها فى هدوء إن السفارة الكويتية فى الرياض تطلبها على الخط !! تجرى سعاد ملهوفة إلى حيث يوجد جهاز الهاتف :

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. إيه نعم .. أنا أم أحمد زوجة الدكتور جاسم الناصر .. متى ؟!

خير ؟! أكو شئ ؟! زين .. زين .. حنا بإنتظاره .. خليه يتفضل

تسألها ليلى فى جزع :

– خير سعاد .. ليش السفارة يتصلون فيك ؟! قالوا شئ ؟! صار شئ ؟!

تلتفت سعاد نحو ليلى وهلع الدنيا يلمع فى عينيها ، ورعب العالم يشتعل فى قلبها ، وهى تجيبها فى فزع :

– يقولون .. مندوب من السفارة راح ييجى الحين ومعه رسالة من الكويت لازم أتسّلمها أنا شخصياً .. !


الفصل الثالث والعشرون

برحمتك أستغيث

تقبض أصابع سعاد على الرسالة .. تطويها .. تبرمها . تلفها . تجعلها عوداً رفيعاً تمسكه فى يدها . وهى تضغطها بشدة بأصابعها ، بينما كانت عيناها ترسلان نظرات إستغاثة جازعة ، فيها تساؤل .. نظرات يائسة تستجدى بها كلمة إطمئنان واحدة من مندوب السفارة الكويتية الذى يقف وعلى وجهه تعبير صامت صامد صابر .. !

وما تلبث أن تختفى سعاد بسرعة تاركة مندوب السفارة فى ضيافة أبى نايف الذى يتابع حديثه  الودّى معه ، وترحيبه الحار به .

تخرج سعاد .. وإحساس مبهم غامض ثقيل يحيق بقلبها .. تدور .. تترنح .. وهى تكتم صيحة ذعر مرعبة .. تبحث عن ليلى صامتة .. وأصابعها تقبض على الرسالة بقوة وعنف وهلع ، فهى تخشى أن تفتحها لأنها تتوقع ماذا جاء بها !! تستمر تضغط عليها بكل قوتها ، إلى أن تتغرز أظافرها فى لحم كفها ، والرسالة مبرومة وما تزال فى يدها المرتجفة ، بينما هى لا تشعر بنفسها ، وجسدها يتأرجح أكثر من اللازم فى الفراغ الذى يحيطها ..!

تنادى سعاد ليلى بصوت مرتعش خافت مرتجف متحشرج .. تقترب منها فى خطوات ثقيلة تستنجد بها ، وكأنها تمسك فى يدها لغماً أو قنبلة توشك أن تنفجر فى قلبها ، تنسف كيانها !

تصل سعاد إلى ليلى .. قف تحملق فى عينيها ، ثم تدفن وجهها فى كتفها وهى تنوح بصوت هامس لاهث مبحوح وبدنها كله ينتقض ، يرتجف :

­- جاسم .. جاسم يا ليلى .. جاسم !

تجفل ليلى من منظر سعاد الخائف المذعور ، فتسأل فى ذكر بصوت خافت وقلب منقبض :

– خير سعاد .. إيش فيه جاسم .. إيش فيه جاسم ؟!

تمد سعاد ببطء ووهن يدها الباردة المرتعشة نحو ليلى ، ويقدر ما تسمح به قوتها الضعيفة وطاقتها الضائعة .. تفتح بمشقة أصابعها المرتعشة ، فتأخذ ليلى الرسالة التى عجزت سعاد عن فتحها وقرائتها .. !

يتعلق قلب سعاد بالرسالة التى بدأت ليلى تقرأها على مسمعها وكأنها ترمى عليها قنابل ناسفة ، فى حين أخذت قوى سعاد تخور ، وبدأ السعير يشتعل فى صدرها ، يتأجج بين ضلوعها .. !

وفجأة تنهدم سعاد .. تنكسر .. تتبعثر .. تتناثر فى الهواء مقدرتها على التحمل والصمود فتطلق صيحة حزن صارخة تقفدها توازنها ، وتسقط غائبة عن وعيها ، بعد أن عرفت خبر أسر أبيها .. وإبن أخيها !!

.. تمر الأيام بطيئة ، ممطوطة ، مريضة ، معتلة ، لا نهاية لها ، والأخبار قنابل قاتلة تتفجر فى قلبها ، فلا تقتلها ، فلقد صارت مقتولة بالحياة بعد غياب والدها .. فهى ترفض قبول هذا الأمر الواقع الجديد ، كما ترفض الإعتراف به .. !

– لا .. لا .. مستحيل .. مستحيل .. أبوى ومنصور أثنينهم مرة واحدة ؟! حرام .. حرام .. حرام !

وتبقى تتفجر الآهات والأيام تدمر الصدور ، تنسف القلوب فى حين سقطت سعاد مريضة بالصدمة العصبية إثر سماع هذا النبأ المؤسف والمصير الرهيب الذى أصاب أبيها .. ومنصور .. ابن أخيها !!

ولم يكن والد سعاد وحده ، هو الرجل الطيب المسالم الذى تم أسره ، كما لم يكن ابن أخيها وحده هو الطفل الصغير الوديع الذى تم أسره .. كانت هذه مشكلة شعب بأكمله ! وكان ذلك مصير يواجهه شعب بأكمله وجب عليه الدفاع عن الوطن ! ورفض إحتلال الوطن الذى بدأ يأخذ أشكالاً كثيرة وصوراً عديدة !

وفى قلب الوطن الجريح الأسير .. تعود دلال متخفية إلى العديلية ، تدخل بيت والدها ، الذى كان يقضى الصيف قبل الغزو فى القاهرة ، وإن كانت لا تعرف عن أخباره شيئاً ، فربما يكون قد غادرها إلى دمشق ، أو بقى بها .. هى لا تعرف ولا أحد غيرها يعرف !! تدخل البيت ، تتلقف دانه فى حضنها ، تتلهف على تقبيلها وضمها ، فقد إشتاقت إليها ، ولم تعد قادرة على تحمل بعادها أكثر من ذلك .. وكانت دلال أيضاً مشتاقة لرؤية أمها ، التى بدأت مظاهر الإضطراب النفسى تتضح أكثر فى كل تصرفاتها .. فهى لم تزل تؤمن وتعتقد أن أمها حية ترزق ، وأنها أسيرة عند صدام والعراقيين اللى قاعدين يعذبونهــا .. !!

صراحة .. كان عذابها رهيباً ، وكان حجم ألمها لا يمكن تحمله ، فبدأ المرض النفسى يطغى عليها ، ويستبد بها ! أيضاً ، أم جمال لم تكن تختلف كثيراً عناه ! أصيبت هى الأخرى بنفس الداء اللعين ! فقد كانت تعانى من وجودها فى هذا الجو المشحون بالذعر ، المضطرب ، الحافل بالخوف وبالضغوط النفسية ، ومن حسن الحظ كانت دانة تحت رعاية خالتها سناء ، مما خفف عنها الكثير من شوقها لأمها ، لأن سناء كانت هى الأم البديلة بالنسبة لها بعد أن ظلت دلال مشغولة بأعمال المقاومة ، وإن كانت أمومتها تلزمها أحياناً بالهدوء والتروى لتقضى مع صغيرتها بعض الوقت .

تترابط المشاعر بالعيديلة ، وغيرها من مناطق الكويت ، بعد أن نما داخل النفوس مفهوم الفريج القديم ، وبعد أن تعمّقت الصلات بين سكانه الذين ينشطون إلى العمل على مساعدة بعضهم البعض ، وعلى توزيع المسئوليات ، كما يلتقى الرجال فى المساجد والدواوين ، يؤكدون عمق الروابط والصلات مما جعل الجميع يشعرون أنهم عائلة واحدة تجمعها هموم واحدة وأحزان واحدة !!

تغيرت الدنيا . أزدادت كآبة الحياة فى تلك الأيام . أخذت تحاصر الجميع . تسحق الجميع . بعد إعتقال عادل .. ! فمنذ تلك اللحظة ودلال وأمها وأختها وزوجة أبيها متشحات جميعهن بالسواد ، حتى أن دانه لم تعد تميز بين واحدة من الأخرى بسبب تشابه مظهرهن ، وتطابق سلوكهن ، فقد كان السواد يغطيهن من الداخل والخارج ، فلم تعد البسمة ، ولا الضحكة تعرف الطريق إلى وجوههن ، ملامحهن نفسها ، سلوكهن نفسه .. أصبح متحشاً بالحزن ، مغطى بالسواد !!

فى نفس الوقت كان جمال يرتدى الجينز أثناء عمله فى الجمعية ، أو عندما يقوم بحرق القمامة ، وكان يختفى عن البيت أوقاتاً كثيرة ، للقيام ببعض أعمال المقاومة الأخرى ، مما كان يصيب والدته بكم هائل من الذعر والقلق والخوف عليه ، فكان يصالحها عندما يعود ، ويضاحكها ويطمئنها ، ثم يأخذ دانه معه إلى الجمعية حيث يحلو لها أن تذهب معه ، فهى تحبه ، وتفرح بوجوده لأنه حنون عليها ، ودائماً يدخل الفرحة إلى قلبها الصغير الذى تعلق بخالها الشاب الذى يعوضها بحبه وحنانه عن فقد والدها ، الذى تركها يتيمة ، وهى طفلة رضيعة مازالت ! رحمة الله عليه .

وكانت أم دلال تتصل دائماً من وقت لآخر بأقاربها . وأصدقائها وجيرانها ، تسألهم عن أمها ! وعما إذا كان أحد منهم شافها ! فقد كانت تعتقد أحياناً أنها ما تزال فى بيتهم بالسالمية .. ! وكانت تتحدث عن أمها ، كما لو كانت رأتها فعلاً صاحية قدامها ! كما كانت تكيل لدلال السباب واللعنات تصبّها على رأسها لأنها هى السبب فيما أصابها !!

وكانت دلال تختفى أغلب الوقت ، بعيداً عن عيونها ، لتمارس دورها فى العمل الوطنى مع جاسم ، وما أن تعود حتى تتخانق معها أمها ، التى تكون قد فقدت أعصابها خوفاً عليها ومما يمكن أن يحدث لشابة جميلة مثلها ! وخوفاً عليها أن يمسكوها ويحبسوها هناك فى البيت مع أمها !!

وكانت سناء تتدخل لتخفيف الخلاف والخناق بينهما ، خاصة عندما كانت أم دلال تبكى بمرارة وعندما تخرج دلال وهى لا تعرف عنها شيئاً :

– ما أدرى والله وين راحت .. ولا متى راح تيجى ؟! يجوز راحت لأمى .. هى أكيد الحين فى البيت هناك مع أمى !

كانت الظروف حقاً صعبة مخيفة رهيبة ، والمواقف غير متوقعة ، والحزن متسلطاً على الجميع بلا إستثناء ، والخوف على الأبناء فى تزايد مستمر ، والأمهات لديهن شك فى أنهم يشتغلون فى المقاومة ، حتى لو أنكروا .. ما يفيد إنكارهم ، فهن يشعرن أنهم موساكتين .. الله كبير .. الله خير الحافظين .

تعيش دلال تعانى التمزق والصراع بين الرغبة فى تواجدها فى البيت مع إبنتها وأمها ، خاصة بعد تفاقم حالتها المرضية ، وحتى يرتاح قلبها ، وتهدأ وتكف عن الشكوى ، وعن مشاجراتها معها ، وبين واجبها نحو وطنها الذى تحتمه اللحظة ، والذى يحدد دورها ، ويلزمها بضرورة التواجد فى أحد السراديب ، حيث يعالج جاسم شباب المقاومة !

كانت حيرتها بالغة ، خاصة بعد أضفت الظروف القهرية التى يتعرض لها الوطن الشئ الكثير من المشاعر النبيلة السامية ، فتحددت نوعية عاطفتها الصادقة لجاسم صارت نوعاً آخر من العواطف الأشمل ، والأنبل ، والأسمى .. ! صار الحب صداقة وأخوة عزيزة غالية ! أيقنت دلال من ذلك تماماًَ .. لم يعد لديها ذرة شك فى صحة مشاعرها الحين نحو جاسم !!

كذلك صار جاسم بعيداً كل البعد عن التفكير فى أى شئ آخر ، سوى إنقاذ حياة هؤلاء الجرحى المتواجدين بين يديه ، بعد أن تحولت معظم مستشفيات الكويت إلى أماكن غير آمنة ، يمارس فيها إضطهاد المرضى ، وإغتصاب النساء ، سواء كن مريضات ، أو ممرضات ، أو طبيبات !! ..

وفى غاية الحزن والألم يتلقى جاسم فى صبر وصمود وجلد أخبار مقتل عدد كبير من زملائه الأطباء الذين كانت تربطه بهم أواصر الصداقة والزمالة ! نعم .. تعرّض الأطباء فى الكويت إلى محنة ساحقة قاسية حينما كانوا يّقتلون لأتفه سبب أمام أعين زملائهم ، ومرضاهم ، ومساعديهم ! داخل المستشفى التى يعملون بها .. وهكذا عومل ملائكة الرحمة بلا إنسانية ولا شفقة .. ولا رحمة !

كان تفكير جاسم كله منصباً على الكفاح والنضال من أجل مقاومة هذا المعتدى الأثيم . لم يكن يخطر بباله أى شئ آخر غير ذلك .. حتى زوجته نفسها نسى أمرها تماماً .. الشئ الوحيد الذى كان يخطر على باله الحين هو رغبته فى أن يرى أمه ، ويطمئن على أولاده . كان يحمل همهم . كان يتمنى أن يلتقى بهم . لكن ، الأحداث أحياناً تتدخل لتحدد مسار الإنسان وترسم له الطريق ، حتى لو لم يكن أن يختار هذا الطريق !

لذا .. كان جاسم أحياناً يحاول أن يعرف أخبارهم وأخبار الدنيا من حوله ، وكانت وسيلته الوحيدة لمتابعة هذه الأخبار ، أن يستمع إلى إذاعة الكويت فى المنفى ، وأن يشاهد رسالة الكويت التليفزيونية ، التى كان ينتظرها ببالغ الشوق كل ليلة فى الساعة الحادية عشر إذا سمحت الظروف بذلك وكانت عنده فرصة كافية من الوقت ، أو إذا توفر لديه جهاز التليفزيون فى مكان غير مهدد بالخطر ، لأن عقوبة من يُضبط وهو يشاهد هذه البرامج .. كانت تبدأ بالإعتقال وتنتهى بالإعدام !!

وكانت دلال أيضاً تحرص على مشاهدة هذا البرنامج ، لكن بحذر شديد جداً ، فالويل كل الويل لمن يضبط وهو يفتح التليفزيون على غير إذاعة بغداد ! لكنها لم تكن تعبأ ، كانت تحرص على مشاهدة البرنامج لمعرفة أخبار الأهل فى الخارج ، وكانت تحصر على متابعة أخبار الجالية الكويتية فى القاهرة ، علها تسمع شيئاً عن والدها هناك .. كانت تريد أن تطمئن عليه وعلى صحته ، خاصة بعد إعتقال عادل ، فقد كانت دلال على يقين من أنه قد عرف الخبر .

الشئ العجيب الذى كانت دلال تندهش له ، أنها لم تعد تفكر فى سعاد كثيراً ، تبدلت مشاعرها نحوها أيضاً فلم تعد تكرهها ، ولا حتى تغير منها ، صارت بالنسبة لها واحدة ثانية لا يهمها أمرها فى شئ ، فقد كان كل ما تفكر فيه الآن هو العمل على تخليص الوطن من يد المحتل الغاشم ، ولتفعل الدنيا بهم بعد ذلك ما تشاء ! المهم أن تتحر الكويت أولاً .. واللى يصير .. يصير .. !

صدق .. غيرت الأزمة كثيراً فى دلال ! أيضاً متابعتها للدروس الدينية ، وحرصها على إرتداء الحجاب ، وأداء الصلاة فى أوقاتها ، كان له تأثيراً عميقاً فى تغيير مشاعرها ، وتطوير أفكارها ، وتحسين نفسيتها ، وتبديل شخصيتها ، حقيقة .. تغيرت دلال .. إن الله قادر على كل شئ ! سبحانه .. يغير ولا يتغير .

فى الواقع .. دلال تغير .. وسعاد أيضاً تغير ! أصبحت إنسانة أخرى ! تحس شعوراً مختلفاً ! تحس أن ما فى شئ فى الدنيا يستاهل الغيرة والعناء ، والبغضاء ، وأن أفضل نعمة على الإنسان هى راحة البال والعيش بسلام مع الذات والأهل داخل حدود الوطن . نعم .. داخل البيت فى قلب الوطن .. تذكر سعاد طفولتها ،وسعادتها عندما كانت طفلة صغيرة سعيدة ، لم تحرمها الدنيا من شئ .. فتحس بالنار تشتعل فى صدرها حزناً على أبيها ، حبيبها ، بعد عمرها .. بعد روحها .. !

أيضاً .. تحس سعاد بالأسى والضيق من تلك الظروف التى حرمتها من زوجها حبيبها الذى تنتظر حضوره لها ، ولقائه بها على أحر من الجمر . تنوى سعاد بينها وبين نفسها أن تقتلع مشاعر الضيق بسبب دلال من قلبها .. فالدنيا لم تعد تستاهل شيئاً فى نظرها .. والمهم الحين أن يلتم الشمل ، ويرجع أبيها .. ويعود منصور ابن أخيها .

تتلوى الأيام حزناً على ما صار إليه حال سعاد ! الجميع حولها يشعرون بمصابها ، لكن .. لا أحد يجرؤ أن يفتح هذا الموضوع أمامها ، حتى أمها ، رغم آلامها ، إلا أنها تسكت حتى لا تحرك أحزانها ، وتزيد تعاستها .. ودموعها ! فكان اللجوء إلى الله بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن هو الحل ، وهو الرجاء .

.. كان البيت الأبيض الجميل الذى يعيشون فيه ، بالقرب من جامع أبيض رائع ، وكان صوت المؤذن الذى يصحبهم فى أوقات الصلاة ، من الأشياء التى يحبونها ويرتاحون إليها ، لكن .. المشكلة عندما بدأت الحرب .. أصبح هذا الموقع فى مقدمة الضرب !! المطار القديم أيضاً أثناء الحرب تحول إلى قاعدة عسكرية ! وكانت الصواريخ تسقط على مدينة الرياض لدرجة أن السرير كان يهتز ، والصغار تصرخ فزعاً ، فيطفئ الكبار الأنوار خوفاً من سقوط الصواريخ وانتشار الغازات !

وكان أكثر ما يخيف الأطفال هو رؤية الكبار وقد إرتدوا الأقنعة السوداء ضد هذه الغازات السامة !! كان يصيب الصغار نوع غريب من الرعب ! خصوصاً راكان ، كان يحاول دائماً أن يخلع هذا القناع عن وجهه ، وعن وجه أمه ، كان لا يطيق أن يراها وقد إرتدته وظهرت أمامه به ، فقد كان منظرها يخيفه ويثير رعبه وبكائه ، أما أحمد فقد كان يريد أن يكون بطلاً قوياً ، حتى أثناء الغارات الجوية ، يستمر صلباً متماسكاً ، لا يريد أن يبكى أمام مخلوق بعد أن عرف حبر إختطاف جده .. وابن خاله منصور !!

نعم .. احترقت القلوب منذ أن وصلت هذه الأخبار المؤسفة إلى الأهل فى الرياض ، فكانت الفجيعة فادحة ، والمصيبة عظيمة ، والموقف أليماً ! ظل الجميع يتعاملون مع الخبر بين مصدق ومكذب !! لا أحد يريد أن يعتقد أن أبو عبد الله ، ذلك الرجل الطيب ، المسالم ، ومنصور ذلك الطفل الوديع ، البرئ قد غابا عن حياتهما ؟! وأنه قد تم فعلاً إختطافهما وأسرهما !!

– لا .. لا .. غير معقول .. غير معقول ؟! ما يصير .. حتى الجهال ؟! يأسرون الجهال ؟! لا مومعقول .. مومعقول !! 

ظل الجميع يعيشون على أمل أن يصلهم خبر آخر جديد يطمئن قلوبهم الواجفة ، الحزينة ، المُلتاعة ، اليائسة ، التى لا حول لها ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .. كان الخبر غير قابل للتصديق ! رفض الكل أن يأخذه على أنه أمر واقع جديد مسّلم به ، فهو تصرف لا يمكن تفسيره تحت أى منطق ! ولا يمكن قبوله تحت أى مسمى !! فهذه مأساة سخيفة غير إنسانية ، تثير فى النفس ألف مليون سؤال !!!

نعم .. لماذا هذه القسوة ؟ لماذا كل هذه الأفعال ؟ لماذا تلك الهمجية والوحشية ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا النزوح نحو العنف ؟! لماذا هذا العدوان وهذا الهوان ؟! لماذا كل هذه السلوكيات اللإنسانية ؟!

آه .. ويالها من آه .. إن الآهة طويلة ، طويلة ، عميقة ، ممتدة ، تخرج من قاع القلب تتخطى الأمكنة ، تتجاوز الأزمنة ، ترتحل عبر الحواجز والحدود ، تقفز فوق الموانع والسدود ، تتجاهل نقاط السيطرة ، فلا يتجاهلها إنسان ! يعرفها كل من كان ، فهى تسيطر بعذابها وهما على الروح الجريح ، والزمن الدبيح ، والليل الحزين ! نعم .. الحزن يغزو كل شئ .. حتى القمر صار حزيناً غاضباً متوارياً عن الأنظار والعيون .. !!

إن اللحظة المتوقعة الآن تعصر النفس . تستخلص الألم . لم يعد هناك سوى الأمل ، لكن .. الأمل راح وراء سحابات حزن سوداء ، توارى خلفها وجه فضيلة التى جفت دموعها حزناً على زوجها الشهيد الرائد فيصل ، وجزعاً على إبنها الطفل المفقود .. منصور .. !

منذ خروج منصور من البيت بصحبة جده أبو عبد الله لصلاة الجمعة ، والذهاب إلى الجمعية ، لم يعد الإثنان إلى البيت ! من بعدهما غاب القمر . إنكسفت الشمس . إنطفأ الأمل شق الحزن حواجز النفس ، جرح الحدث حجاب الروح ، صارت الأيام جنائزية الإيقاع ، لم يعد يُرى بالأجواء سوى الريح والخوف والظلام والموت والبرد والعذاب !

آه .. إن الدمع يعصر العين عصراً ، والقلب ينكسر كسراً كلما أيقن أن اللحظة القادمة سوف تخلف المزيد من الخوف والجزع والفراق .. جاء الخبر فوق طاقة البشر ! فوق تحمّل الإنسان !

” اللهم لا تحملنا مالا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وأرحمنا أنت مولنا فأنصرنا على القوم الكافرين ”

” صدق الله العظيم “

كان الشعور بالخوف والجذع بسبب الأسر والرحيل والفراق ، هو نفس الشعور السائد فى نفس فضيلة ، التى كانت ترفض فكرة الرحيل والسفر ومغادرة الكويت قبل العثور على إبنها منصور ولقائه وأخذه معها فى حضنها .. !

أخيراً .. تقتنع فضيلة بأن إصرارها على البقاء فى الكويت ، وإنتظارها رجوع منصور فى البيت ـ يعنى الموت بالنسبة للجميع ! كما تقتنع بأن تواجدها الحين خارج حدود الكويت سوف يساعد فى العثور على ولدها منصور قبل فوات الأوان ، فهى قد تجد وسيلة أسرع ، أو تعثر على واسطة أقوى ، تعمل على إعادته وإسترداده ، فكان هذا هو المدخل الوحيد لإقناعها بجدوى الرحيل والمغادرة ~، كى تبدأ تأخذ شكلاً آخر من أشكال المناورة ، أملاً فى إسترداد إبنها ، فلذة كبدها .

فى النهاية تقتنع فضيلة بأن الحواجز بين المدن ليست حواجزاً حديدية ، وأن ما يحدث هنا ، يعرف هناك ! تقنعها أمها باكية بضرورة الرحيل والمغادرة ، فالبقاء لن يساعد على عمل شئ ، والإستمرار فى هذا الإنتظار اليائس ليس فى صالح أحد ، فالجند يطقون البواب بأقدامهم وفى أى وقت يقتحمون الديار بلا إستنئذان ، يفتكون بأهلها ، يعبثون بشرفهم ، يهدرون كرامتهم !

إذن .. لا معنى لإهلاك النفس ، ولا فائدة من الإنتظار ، مع الخوف واليأس ،
والعجز ! تظل إبتسام تستعطف أم فضيلة كى تقنعها بضرورة الرحيل ، والخروج بسرعة قبل أن يحدث لهم ما حدث لأختها أمل ، الطالبة بالجامعة ، الشابة الجميلة ، التى أغتصبها جند صدام ، عندما دهموا البيت ودمروا كل من فيه !! .. ثم أخذوها معهم بالقوة ، لم يشفع صراخها ولا عويلها ، ولا نواحها .. ! وما زالت للحين أسيرة ، لا أحد يعلم عنها شيئاً حتى هذه اللحظة .. ! ترجوها رجاءاً حاراً نابعاً من عمق القلب ، وهى تبكى من القلب :

– واللى يسلم عمرك يا خالتى .. إقنعى فضيلة نطلع قبل ما يصير فينا شئ .. ترى أنا خايفة وايد على بناتى .. بناتى صبايا ، وأخاف الجنود يسوون فيهن شئ .. الله يخليك يا خالتى كلميها .. اقنعيها .. قولى لها .. هذا أحسن حل .. وإنشا الله لما نوصل الرياض يصير خير وراح نقدر نتصرف أحسن من هنا .. إحنا هنا مشلولين .. عاجزين .. ما إحنا قادرين نسوى شئ .. !

تدور الأيام والزمن قيد يشل القلب . يهش الروح . يجرح الجرح , والخوف من الخطر الخفى الآتى عبر الساعات يهدر قدرة العقل و يبدد طاقة الروح .. يا رب . يا رب . كان واضحاً للجميع أن الحالة الأمنية تزداد سوءاً يوماً بعد يوماً ! وان الأحوال المعيشية تنحدر من سئ إلى اسوأ ! ولم يكن من الرحيل بد فى مثل تلك الظروف التى يعيشها عبد الله , ومن معه , فالمسئولية كبيرة جسيمة والخطر فادح .. فادح , لو حصل أى إهمال قد يؤدي للعرض إلى الخطر ! .

وأخيراً .. يعرف عبد الله من زوجته إن فضيلة واقفت على الرحيل . يتنفس الصعداء بإرتياح عميق بعد أن عرف أنه يقدر يغادر الكويت الآن , لكن , يعود ينظر إليهن فى قلق , فقد أصابه الهم من كثرة عددهن ! وتفاوت أعمارهن ! فيظل عبد الله يناجى ربه طالباً الستر وسلامة الوصول إلى بر الأمان حيث الإخوة , حيث السلام , حيث الأمان , بعيداً عن هؤلاء الخونة , اللصوص , الشياطين , المنتشرين فى كل مكان !

يعد عبد الله عدة الرحيل , يضع المؤن وزجاجات الماء فى السيارة , تركب البنات والنساء وقد إتشحن جميعهن بالسواد , حتى مريم ومنى وفضة لبسن ثياباً سوداء اللون , رغم صغر سنهن , لكنه الخوف عليهن من الاغتصاب , فالمعتدى لا يرحم , ولا يميز فى عدوانه بين النساء , فالجرائم شملت كل الأعمار , وطالت بعض العجائز الكبار .. وحتى الأطفال الصغار !

تجلس أم فضيلة بجوار عبد الله فى مقدمة السيارة ، فى حين تجلس زوجته وبناته مريم ومنى وفضة مع فضيلة فى المقعد الخلفى ، وقد حملن فى أيديهن المصاحف وبدأن يرتلن آيات الذكر الحكيم ، داعيات الله ، أن ينجيهن من الهلاك ، وأن يكتب لهن الخروج والوصول بسلام .

تتحرك السيارة والكل يذرف الدمع حزناً على ما وصل إليه الحال . تنظر إبتسام حولها ، تودع أرض الوطن التى تضم رفات إبنها عبد العزيز ، الذى ما زالت شقيقاته مريم ومنى وفضة تبكين عليه . تتنهد إبتسام وهى تبتهل إلى الله أن يعوضها خيراً عنه :

– الله كريم .. الله عليه العوض .

كانت إبتسام تنتهد وتتأوه حزماً على وفاة إبنها عبد العزيز ، فى حين كانت فضيلة تنشج نشيجاً مكتوماً حزناً على منصور ، كانت تنتحب بصوت يقطّع قلوب من حولها ، وهى تنظر من زجاج السيارة الخلفى إلى الجمعية والمسجد فى الضاحية ، فالمكان يشبه المكان الذى إختطف الغزاة فيه فلذة كبدها منصور فى الشامية ، فربما يكون منصور قد جاء مع جده هنا .. ! فهى تعرف تعلّق منصور بالذهاب إلى الجمعية وحبه فى اللعب بالسيكل أمامها وداخلها وهو يقلب ويختار أصناف الكاكاو والبسكويت والب!رد الذى يحبه .. آه .. تصيح فضيلة :

– يجوز يكون منصور واقف مع العيال داخل .. !

كانت لا تزال تفتش عليه بعينّى قلبها ، كانت ما تزال تتذرع بالأمل ، لعلها تراه يركض أمامها يأتى ضاحكاً إليها بحضنها ، يضمها ، كما إعتاد دوماً أن يفعل !! آه .. كيف يمكنها أن تغادر أرض الوطن ، وهى لا تعلم شيئاً عن مصيره ؟! ولا تدرى أين هو ؟! كيف يأكل ؟! كيف ينام ؟! .. ماذا يفعلون به الآن ؟!

– آه .. منصور .. منصور .. وينك الحين يا منصور ؟! وين ألاقيك ؟! وين ألاقيك ؟

تنهار فضيلة باكية فى حالة هيسترية تكاد تفقدها وعيها . تهتز السيارة لبكائها ، وبكاء كل من حولها ، حتى عبد الله لم يستطع أن يكبح دموعه . إنهمرت غصباً عنه حزناً وألماً على فراق الغاليين .. يا الله .. الصبر يا عطوف يا رحيم .

تتحرك السيارة مبتعدة ، وكلما إبتعدت .. كلما إنهارت فضيلة أكثر ، وبكت أمثر وأكثر .. كانت تود أن توقفها عن الحركة .. أن تمنعها من الرحيل ! كانت تود أن ترجعها إلى الوراء ، تشدها بأسنانها .. حتى لا تأخذها بعيداً عن إبنها حبيبها ، الذى تتمناه أن لا يكون خائفاً مذعوراً ، وأن يكون الحين مرتاحاً جالساً فى حجرها ، تضمه بذراعيها فى حنان ، تقبله برفق فى رأسه ، وهى تدفئه فى أحضانها وتحفظه وتخبئه فى قلبها حتى لا تضيع مرة ثانية منها .. !

وكانت فضيلة قد قامت بالبحث عن إبنها فى كل مسجد ، وكل جمعية بالكويت ، قبل أن توافق على مغادرة الكويت ، فى الشامية ، فى الضاحية ، فى السرة ، فى الفيحاء ، فى الروضة ، فى النزهة ، فى الشويخ .. ثم عادت تبحث وتفتش مرة ثانية من الرميثية وسلوى ومشرف وبيان .. إلى الجهراء !! معرضة نفسها بذلك للخطر بسبب إنتشار نقاط السيطرة ، لكن .. حزنها الشديد على أبنها كان دافعاً قوياً للمجازفة بالنسبة لها .

ظلت فضيلة تتذرع بالأمل وهى تجوب بعينيها المساجد والجمعيات .. لعلها تعثر على منصور .. لعلها تلقاه .. وكانت أمها ترافقها ، فى حين كان عبد الله يطول باله عليها لا يريد أن يحزنها ، أو يفقدها الأمل فى العثور على ولدها ، الذى صارت تجوب مناطق الكويت كلها بحثاً عنه ، ولم يستطع أن يمنعها أحد لأن إختطاف منصور جاء بعد إنتهاء العدة على وفاة زوجها الشهيد فيصل .. !

أخذت فضيلة تطالع تراب الطرقات ، تود أن تنبش الأرض وهى تنظر إلى الوراء فى رجاء فلربما تلقاه قبل أن ترحل السيارة مبتعدة عن هذا المكان .. ! كان الموقف أليماً ، وكان الواقع أشد إيلاماً وفضيلة تنهار فى بكاء هستيرى يفقد الجميع إتزانهم ، يُضعف أعصابهم فيشاركونها بكائها على إبنها ، وعلى جده الرجل الطيب الأمين ، الذى راح ضحية الواجب حتى اختطفه مغتصى الوطن !

يتماسك عبد الله ، يظل يرتل آيات الذكر الحكيم ، التى تدخل السكينة على القلوب ، وتسبغ على الجميع هدوءاً يحتاجونه لإتمام هذه المهمة الصعبة الشاقة ، التى يدعون الله أن يتم عليهم نعمته وأن يكتب لهم السلامة والنجاة .

.. تتجه السيارة خارج حدود الكويت ، وعبد الله يرقب الطريق فى قلق ، وهو يتجه إلى المملكة العربية السعودية ، حيث الأمان والطمأنينة والسلام . تمضى السيارة مسرعة ، تهتز عجلاتها فوق الطريق الطويل المتجه إلى أفق الأمل ، وباحة الرجاء ، فى حين كانت النفوس تهتز رعباً وجزعاً من المجهول الذى ينتظرهم ، وربما يتربص بهم ، فالمسافات بعيدة شاسعة ، والشر ينتشر فى كل الأمكنة . ترى .. من يحمى هؤلاء الأبرياء الضعفاء من الخطر ؟!

تتجسد المحنة الآن بكل أبعادها ، يطل الخوف الحين بكل بشاعته ، يبرز الخطر ينذر تلك اللحظات العصبية الرهيبة فتعصف بقلوب الجميع ، يتحصن الكل بآيات القرآن الحكيم ، وهو يتنفسون الصعداء كلما عبروا إحدى نقاط السيطرة بسلام .. !

الحمد لله .. الحمد لله .. تتجه السيارة نحو بر الأمان يرتجفون خوفاً وهم يواجهون هذه اللحظة المحمومة ، وهم يقاومون بإيمانهم العميق الخطر الساحق المحدق بهم ، ويعبرون بفضل الله نقطة أخرى وأخرى من نقاط السيطرة ، فتعرف القلوب طعم الراحة والإطمئنان شيئاً .. فشيئاً .. !

– الحمد .. الحمد لله الذى لا يحمد على مكروه سواه .. !

الحمد لله .. أخيراً عبروا النقطة الأخيرة بسهولة وسلام ! الحمد لله .. الحمد لله . فى الحقيقية كان تغيير شكل الملامح الذى صنعه بدر لأخيه عبد الله متقناً للغاية ، فقد حوله عبد الله من شاب فى الثلاثينات ، إلى شايب فى الخمسينات ! يتجاوز عمره العمر المطلوب ، والمحدد للإعتقال !!

كانت ملابس عبد الله وهيئته ، وحركته ، تدل كلها على أنه رجل شايب عجوز ، فهاهو شعر رأسه الأشعث الأشيب ، الذى عالجه بدر بالبودرة والأوكسجين ، قد صار أبيضاً شعثاً ، والغترة التى ربطها فوق رأسه ” شريمبا ” دون عقال زادته كبراً على كبر ، وسمحت لشعر رأسه الشايب أن يظهر على جانبى وجهه المغضن النحيل ! أيضاً جلوس أم فضيلة إلى جواره أعطى إنطباعاً وإيحاءاً بأنها زوجته ، التى تناهزه فى العمر .

فى الواقع .. كان الموقف مقنعاً ، رجل شايب وزوجته ، وفى الخلف بناته . إذ لم يكن هناك ما يوحى بشبابه ، ولا بعمره الحقيقى ، فقد رسم بدر كل شئ وعالجه بمهارة بالغة ، حتى كفى يديه وضع عليهما نوعاً من الصمغ أصابعها بالتجاعيد ، ولم يكن يوجد مخلوق واحد ، يشك أن هذا الشايب العجوز ، الذى يحمل هوية مفتش متقاعد فى بلدية الكويت ، هو نفسه المهندس الشاب عبد الله سالم خريج كلية الهندسة بجامعة ” هارفارد ” بولاية ” بوسطن ” بأمريكا !!

تنطلى الحيلة على الجند ، حمدا لله .. هناك تعليمات جديدة صدرت لتيسير خروج المواطنين من الكويت ، ليتم إحلال العراقيين محلهم ، لذا لم يعترضهم عائق والحمد لله ، عبروا بسلاح جميع نقاط السيطرة ، بعد أن أفلحت يد بدر الماهرة المدربة فى إكساب وجوه الجميع قبحاً .. لا يعادله قبح ! يدل عليه السواد الداكن حول العينين والتجاعيد فوق الجبهة .. كان العمل الفنى متقناً أدى نتيجة هائلة مذهلة ، كانت سبباً مباشراً والحمد لله فى دفع أعين الجند عنهن ، ونفورهن من الإقتراب منهن !

يأخذ عبد الله طريقاً آخر عبد الصحراء ، طريقاً بعيداً آمناً لا يعرفه الكثيرين ، إذ كان يخشى أن يناله شر ، فقد كان لا يريد أن يجازف ! بحال من الأحوال بالوقوع بين أيدى هؤلاء الشياطين ومعه هذا العدد الكبير من الحريم ، كان عبد الله يسلك طريقاً معيناً يعرفه أهل الكويت جيداً ، طريقاً هو أخبر الناس به ، فكما يقولون ” المية تعرف مجاريها ” ! آه .. الحمل ثقيل يا عبد الله والهم كبير والمسئولية جسيمة . إثبت يا رجل .. أعانك الله .

تطالع العيون فى وجل وخوف الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف .. التى يتحرك سطحها تحت تأثير الرياح ، التى أخذت تعابث برعونة أمواج الرمال .. كان السكون سائداً ، يلف الزمان بغلالة من الخوف والرهبة والغموض ..! وكانت عيناً عبد الله تعانق فى قلق خط الأفق الملتهب ، وهدوء صاخب يدوى فى أعماق نفسه ، وآه رجاء حارة تتصاعد من قلبه ، تدعو الله وترجو الله أن يصلوا بسلام .

تترصد الروح اللحظة الحلم التى يصلون فيها حدود البعد عن الخطر ، حدود المملكة العربية السعودية ، حيث الأمن والأمان والسلام والإطمئنان .. ينبسط الأمل واسعاً ، والسيارة تنهب بهم الأرض نهبأ فتشرئب الأعناق تهفو إلى تحقيق الحلم الحلو للوصول إلى الأهل والصحاب .

يمتد الصمت والهدوء ، فتعرف القلوب الواجفة لأول مرة منذ زمان ، طال ، وطال ، عذوبة الشعور بالأمان .. فيتواصل الحديث ويسود الشعور بالخير والأمن والأمل والرجاء . لكن .. فجأة .. تقترب طريق السيارة ! توقفها ! يقفز منها على الفور جنود شرسو الملامح ، حاملو السلاح ، يمنعون السيارة من الحركة ، يحيطون بها ، يدورون حولها يأمرون من فيها بالنزول والخروج منها .. !

تتجمد الحركة ! تتصلب الأبدان ! تتخشب الأطراف من خوف عظيم يغطى الأرض كلها بمن فيها ومن عليها ! فالخطر يلفهم . يحاصرهم . يحيطهم . والغدر يطل فى عيون الأعداء يحدق فيهم . يحملق فيهم . يتفرس فى وجوههم !! آه .. المواجهة تهور . والمهادئة مذلة . والرجاء ضعف . والقتل إجرام . الإغتصاب أشد أنواع العذاب .. !! يارب إحمنا من شر هؤلاء الذئاب !!

الموقف فوق الجميع ! يرقب عبد الله الوضع الخطير جازعاً ، بعد أن إقترب الجنود من السيارة ، ونظرات الرغبة الجائعة تتلظى فى عيونهم ، تكشف عما تخفى نواياهم الخبيثة الخائنة ! فى حين بدا الذعر والهلع على تعبير الوجوه البريئة الرقيقة ، الخائفة ، الواجفة ، التى تشع الطهر والصفاء والنقاء .. ! بينما أخذت تنهمر دموع الخوف والذعر تعجز عن تحدى الخوف ! كما تعجز عن الصمود أمام القهر والرعب والفضيحة والقتل والعذاب .. والإغتصاب !!

لحظة ضعف محمومة يذوب فيها العمر كله دفعة واحدة ! يعجز الجميع عن مواجهة هذا الخطر الداهم المحدق بهم ! يضعهم أرواحهم على أكفهم ، فى حين تنتفض الأجساد . تهتز . تتشنج . تصرخ القلوب . تتلوى . تتمرغ نازفة فى الرمال . وألماً هائلاً يسحق
الروح . وعرقاً بارداً يتصبب يبلل الجسد تعجز أن تجففه رياح الخريف الجارفة اللافحة .

وحينئذ .. تصعد آهة رجاء حارة صارخة طالبة من الله النجاة والخلاص .. ودعاء صادق من القلب يخرج يخترق عنان السماء مناجياً المولى عز وجل أن يرفع عنهم الكرب ويزيل هذا البلاء ..

” لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ”

” يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث “

 

 

 


الفصل الرابع والعشرون

مصرع . . الجمال !

 

فى هذه اللحظة الحرجة ، تظهر فجأة سيارة جيب عسكرية كأنه هبطت من السماء ! يكتم الجميع أنفاسهم فى حين يدوى فى الفضاء صوت الضابط العراقى الغاضب آمراً الجند بالعودة إلى الدبابة والإبتعاد عن هذا المكان فوراً ، بعد ان عنفهم بشدة على سوء فعلتهم وتهددهم بأقصى العقوبة على ما بدر منهم ، إذا لم يكن مسموحاً لهم بالتواجد فى هذا المكان على الإطلاق !!

فى لمح البصر .. يختفى الجنود فجأة ، كما ظهروا فجأة ، يلتفت الضابط العراقى إلى عبد الله يول له بلهجة فيها تأثير شديد وإعتذار أشد :

– سامحنا يا خوى .. سامحنا .. حنا يا خوى أخل .. جيران .. اكو بينا صلات
دم ونسب .. حنا عرب فينا شهامة .. فينا رجولة .. حنا قبل كل شىء مسلمين
وموحدين بالله .. 

ينظر الضابط العراقى إلى نفسه ، وهو يطالع ملابسه العسكرية فى إستنكار ، ثم يطالع سيارته الجيب العسكرية فى رفض وقرف ، ثم يقول بلهجة ناقمة غاضبة :

–  ترى حنا إتغرز بنا مثلكم بالضبط .. إضحكوا علينا هذولة الإنذال .. قالوا لنا .. اكو ثورة بالكويت بيوتا نخمدها ! والحين . إنكشف الكذب .. إنكشف الغش ..إنكشف كل شىء .. بينت الحقيقة .. !

يقترب الضابط العراقى من سيارة عبد الله يدنو نحو الجميع مشيراً لهم بالركوب ، يتوجه نحوهم بالحديث وهو مازال غاضباً ، تأثراً ، يقول لهم بأسف عميق ، وإعتذار بليغ :

– سامحونا .. سامحونا ولا تؤاخذونا .. ترى حنا مظلومين مثلكم .. حنا مظلومين مثلكم .. حنا ما نريد نحاربكم .. وما نريد نكون هنيه .. بس هذولة فرق الإعدام وكوادر الحزب .. ما يخلونا .. الى ما ينفذ الأوامر ينطق بالرصاص !

يستدير الضابط نحو اليمين ، يرفع ذراعه بإتجاه الأفق ، وهو يؤكد لعبدالله الذى ظل يتصبب عرقاً رغم شدة الرياح :

– توكل على الله يا خول .. خذ حريمك وتوكل على الله .. أطلع سيدة .. لا تدور يمين ولا يسار .. حرك عينى .. حرك .. فى أمان الله  .

يشكر عبد الله الضابط العراقى الشهم الذى أنقذهم من مصير مروع رهيب ! ينطلق بالسيارة مسرعاً لا يلوى على شىء ، وتعبير واهن باهت يكتسى ملامح وجهه الشاحب الذى صار فى لون الأموات ! يمضى يقبض على مقود سيارته بيد مرتجفة ، ومشاعر ملتهبة ، يمضى متجهاً نحو الجنوب ، وهو لاى يكاد يصدق بالنجاة ، ودموع فرح حقيقى تغطى وجهه .. تبلل دشداشته .. ترطب روحه ، وإحساس صادق عميق بالجميل والعرفان يفيض فى وجدانه . الحمد لله رب العالمين .

و .. تتواصل مسيرة الحياة فى صمت سحيق لا يقطعه سوى صوت نجيب النساء  اللاتى عجزن عن الكلام  والتعبير عن الفرح بالنجاة ، وإن كانت قلوبهن تضج بالتقدير ، والشكر لله العلى القدير الذى ساق لهم الضابط العراقى الشهم الذى أنقذهم من بئس العذاب ، وسوء المصير .

تمضى السيارة براكبيها نحو خط الأفق ، والضابط العراقى ذى الرتبة الكبيرة يرقبها عن بعد إلى ان يطمئن عليها ، فينقل عائداً .. وسرعان ما يختفى عن الأنظار ! كان هذا الضابط ملاكاً عبط عليهم فجأة من السماء ! الحمد لله .. حياه الله .

و.. أخيراً تصل السيارة بسلام ، حيث تتلفقهم الأيدى الأمينة فى حنو وحنان ، حيث تضمهم أحضان الأخوة الأشقاء .. حمداً لله على السلامة .. حمداً لله . يطمئن الأهل فى الرياض على وصول عبد الله ومن معه بسلامة الله ، بينما يحاول بدر المستحيل بواسطة شباب المقاومة كى يعرف أخبار شقيقه وصحبه ، ويطمئن على سلامة وصولهم بسلام إلى بر الأمان .

.. وبواسطة تليفون يخفيه أحد الشباب عن الأعداء ، يتأكد بدر من وصول عبد الله بالسلامة ، فيرتاح قلبه ، يهدأ خاطره ، يعلن الخبر السعيد للجميع ، وأولهم جاسم ، ومن معه ، هؤلاء الأبطال ،المطلوبين لقوات العدو ، والذين بدأت الدوائر تضيق بهم ، تقترب منهم ، تبحث عنهم ، بعد ان شدد المحتل قبضته على أعناق الشباب المقاوم للظلم ، الرافض للإستبداد ، فبدأ يضيق فرص الهرب عليهم ، وأخذت بالتالى تتضاءل أمامهم فرص النجاة من الوقوع بين أيديهم .. !

لذا شهدت ساحات الاندية شتى أنواع التعذيب وفنون الإرهاب ، هى وغيرها مثل قصر بيان ، والمشاتل والمدارس ، وبعض البيوت الخاصة ، ولا يكتفى المحتل بذلك ، بل يطلق آليات الرعب نحو البيوت العادية من بينها بيت أهل دلالة فى العديلية ، تدهمه قبيل الفجر .

عصابات الرعب ، تطلب  حضور جمال شقيق عادل للتحقيق معه فى المخفر .. فالمسئول هناك لديه أخبار معينة عنه ، يريد أن يستفسر عنها ، ويحقق فيها !

كان ما يحدث فى هذه الساعة من الليل ، أفظع من الكابوس ، فالعصابة تقتحم البيت ! تكسر الباب ، يدخل الجنود مدجحين بالسلاح . يدخلون بخسة ونذالة مطالبين بالمدعو جمال المحمود ! محذرين أن لا يتحرك أحد من مكانه ! ينهض جمال من نومه .. فيفاجأ بهذه المداهمة الليلية ، فيحدثه الضابط بلهجة عادية :

– ياللاعينى .. تعال ويانا .. نريدك فى المخفر نتافاهم معا هناك .

تقترب منهم أم جمال ، وهى تنتقض فى خوف ورعب على ولدها فتسأل الضابط :

– خير يا وليدى .. خير .. ليش تبون جمال .. إيش سوى ؟!

يقول لها الضابط بنفس اللهجة الودية :

  • لا تخافين يوماً .. ما كو شىء .. ما كو إلا الخير إن شاء الله .. المسألة بسيطة .. بس     إحنا نبى نتكلم معاه وراح يجيكم هالساعة .. ما راح يتأخر .. لا تخافين

  يخرج الجنود ومعهم جمال ـ يقتادونه إلى السيارة ، ينسحبون خارجين ، فى حين يأخذون معهم ما خف حمله وغلا ثمنه ! يخرجون دون أن تؤثر فيهم توسلات أم جمال ، ولا بكاء أم دلال ، ولا صراخ دانه .. ! كان الكل فى حالة حزن وإحباط فظيع وهو يريدون جمال ولدهم الحبيب الطبيب يخرج معهم دون أن يعطوه فرصة للكلام !

وكانت اللغة الوحيدة التى يتفاهمون بها ، ويتكلمون بها ، هى لغة القوة التى يزيدها فصاحة وبلاغة كم السلاح الذى يحملون ، فى حين كام هو أعزلاً .. مجرداً من أى سلاح !! اللهم .. إلا سلاح الإيمان بالله ، وحب الوطن ، والغربة الصادقة فى التضحية بالروح من أجل الوطن .

.. كان الشىء الوحيد الذى لم تكن تعرفه أم جمال عن ولدها الشاب ، أنه وجه بارز فى إحدى مجموعات المقاومة ، وأنه هو رأس المدبر لعملية تفجير مركز الشاحنات ،  تلك العملية الكبيرة التى نفذها جمال ثاراً وانتقاما لما أصاب أخته دلال ، وأمها ، وجدتها ،  ولما أصاب أخيه الأصغر عادل الذي اختفى منذ ذهب لدفن جثمان جدة أخته ! والتى حولوا بيتها إلى معتقل .. !

يخرج جمال من البيت .. وتخرج معه كل المشاعر الدالة على الحياة يتحول البيت فجأة قبراً يملؤه الدمع ، والحزن  ، والقهر ! يتعمق فيه الخوف .. يصبح كل من فيه جثثاً على قيد الحياة ! وكانت سناء واحدة من هؤلاء الأحياة الاموات ، التى دفعها الخوف للأقامة شبه الدائمة داخل غرفة صغيرة فوق السطح ، وكانت بمجرد أن تسمع أى صوت غريب يثير مخاوفها ، نقفز على الفور ، فى لمح البصر داخل خزان المياه الممتلىء حتى نصفه

بالماء حتى تختبىء بجسدها النحيل داخله وتمكث به ساعات طوال ، وهى تنتفض البرد .. إلى ان تشعر بزوال الخطر .. !

آه .. ماذا تقدر الكلمات أن تقول فى مثل هذه المواقف اللا إنسانية ؟! ماذا يمكن أن تفعل إزاء هذه البلاء ؟! آه .. ماذا تفيد النوافذ والأسوار والبيت منتهك ؟ والأمان ضائع مفتقد ؟ .. والإحساس بكرامة الإنسان غائب .. تائه .. ممتهن ؟! آه .. يالها من ليلة بكى فيها الكون! يا له من زمن تداس فيه إنسانية الإنسان بالأقدام !!

تسقط الأم على الأرض غائبة عن الوعى ، دامعة محتقنة العين بعد ان بكت طويلاً الإبن والوطن ، ولعنت كثيراً الغدر والخيانة والهوان .. ! كانت أم جمال تتمنى أن تفتدى إبنها بروحها ، فظلت تلعن من أعماقها ذاك اليوم الأسود الذى رأوا فيه وجوه هؤلاء الظالمين المعتدين .. !

يتوارى النور عن البيت .. تغشاه ظلمة داكنة تغمره كآبة قاتلة ، ومن القلب تطلق صرخة دامية تضم آذان الجميع بعد أن أفاقت الأم من أغمانتها :

– جمال .. جمال .. وين أخذوا جمال ؟

تظل الأم تبكى ، وتبكى ، مر البكاء ، وهى تنعى حالها ، وما وصلت إليه بعد أخذ إبنها أمام عينها ! كما تبكى أم دلال بكل كيانها ،  بكل الهول المختزن فى ذاكرتها ، الكامن فى أعماقها ، وهى تتذكر كيف قتلوا أمها |، وكيف إعتدوا عليها وانتهكوا جسدها … فتنهار هى الأخرى على الأرض فاقدة وعيها !

بعد قليل .. تهبط سناء من السطح مبللة الثياب ، ترتجف من شدة البرد ،  لا تكاد تقوى على الوقوف من شدة الخوف ، والهول الذى شعرت به ، عندما أحست بالإقتحام ، وسمعت أصوات الخبط ، والدق ، والأرتطام  ، ثم كانت المفاجأة الفاجعة ، عندما عرفت أنهم أخذوا جمال نعم أخذوا جمال .. أخذوه .. أخذوه !

لا تستطيع سناء أن تكف عن البكاء لدرجة أن دموعها إمتزجت بثيابها المبللة .. تدخل غرفتها تبدل ثيابها ، وهى لا تكاد تعرف كيف تمسك أعصابها ، ولا كيف تفعل لتهدىء دانه ، وتزيل الخوف عن نفسها ! فلقد كانت الطفلة الصغيرة مذعورة فهى تحب خالها جمال ، الذى لم يكن بالنسبة لها خالاً ، وإنما كان أباً حنوناً ،  يعطف عليها ليعوضها عن يتمها ، ثم زاد من عطفه بعد ان شعر بظروف الحرب الرهيبة وقد يتمتها ظلماً من امها !

كان جمال يعرف أن أخته دلال تعيش فى صراع عنيف لهذا السبب ، فكان يشحعها على الإهتمام بدورها الوطنى فى تمريض جرحى المقاومة وكان دائماً يحرص على المشاركة فى تحمل مسئولية دانه وتخفيف أثر غياب أمها عليه ، زكان يسولف وياها ويحكى لها حكايات كثيرة عن شجاعة أمها اللى قاعدة تطق ” العراقيين ” وأنها ” بطلة  ” وكانت دانه تسعد كثيراً بسماع هذه القصص والمغامرات عن بطولة أمها .. فكانت تصبر عليها وما تضايقها بالإلحاح أو البكا كى تذهب معها !

كانت دلال تقدر الموقف الإنسانى الرقيق لأخيها جمال الذى يمتلىء قلبها بالحب نحوه ، ودائماً يخاف عليها ويدير باله عليها ، “ويحاتى ” لما تتأخر فى الإتصال به .. ! صدق ؟؟ .. جمال أخ فيه كل صفات الإنسان الطيب القلب ، النقى النفس .

تتسرب الأخبار عن تعذيب جمال بعد إعتقاله فى مخفر ميدان حولى ! لا يعرف أحد ماذا يحدث أو يدور هناك ،  فى ذلك السراب الذى أطلقوا عليه إسم الديسكو !! تكاد الأم أن تجن ، تكاد أن تفقد عقلها ، وهى تعجز كل العجز عن فعل أى شىء من أجل أنقاذ أبنها ، ورحمته ورضاه . فالله قادر ان يفعل ما يشاء لاراد لحكمته وقضاه .

يطغى هذا الشعور العرام على الجميع ، يختلج الضعف الإنسانى يمتزج بالأمل والرجاء الربانى ، راجياً وقوع معجزة إلهية ، تعيد جمال إلى أهل البيت قبل أن يفترى عليه هؤلاء الظالمين ، يارب .. أمين يارب العالمين . 

تعلم دلال بما حدث ، وتعرف من واقع خبرتها بالعمل مع شباب المقاومة إن خطوط الهاتف صارت الحين مراقبة للإيقاع بهم ، وإقتناصهم كما حدث لبعض أصدقائهم! لذا ، ترصد حركة أمها ، إلى أن تقابلها فى مسجد الشعب القريب حيث تتلقى دروساً دينية ، فتتحرك معها فى حذر ، وهى تترقب وقوع الخطر فى أى لحظة ،  مما عكس هذا الإثر الكبير من الخوف على دانه ، التى بدت لهما كالحلم الجميل الذى يخشون عليه أن يتبدد فى لحظة .. فى لمحة .. حفظها الله وحماها .

تستمر المقاومة ، لا يستسلم الشعب الكويتى لصفوف الفهر والترويع يزداد بأساً وإصرار وصبراً وتحملاً وإيماناً ،فقد كانت المقاومة تتبدى العين ، فى القلب  فى العقل ، فى كل شىء ، كل شىء ! فى الصمود ، فى التصدى فى الصبر . فى الإستمرار فى الحياة فى رفض العمل . فى رفض التعاون مع العدو بجميع الأشكال .. وتستمر المقاومة .. تستمر المقاومة !!

الكل يتحرك وروحه فى كفة ، وكفنه على كتفه ، الكل أيقن أنه معرض للموت فى لمح البصر ، فلم يعد أحد يهتم بما يمكن أن يحدث أكثر من ذلك .. الحياة لا تهم نموت وتحيا الكويت نموت ويحيا الوطن . الله والوطن والامير .

نعم .. يتم عبور مرحلة الخوف ..فلابد للحياة أن تستمر . تتصل . تدوم . تتجدد . ولابد للوطن  أن يرجع ، يعود ، يرد ، ولابد أن تعود الحكومة الشرعية للبلاد ، وعسى الله ان يحفظ الأمير وولى العهد الأمين ، تستمر إمارات العصيان المدنى ، فتقديم الخدمات الضرورية مازال  متاحاً والحمد لله ، ويد الحكومة تصلهم  بالخير ، والرزق ، والاموال ، منذ اليوم الأول للغزو ، والكل يعلن ان سياسة أمير الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح الإقتصادية ، قد حفظت للكويت وشعبها ومكانتها الدولية حتى بعد الغزو ! وقد نشرت صحيفة ” برافدا” السوفيتية مقالاً حول هذا الموقف لصاحب السمو قالت فيه :

من الصعب أن تجد اليوم فى التاريخ العالمى حاكماً إستطاع وهو فى المنفى أن يؤمن الحياة لأكثر من 300 ألف لاجىء من  أبناء شعبه ، وأن يساهم كذلك فى تمويل القوات المتعددة .

        حقاً  .. كان صاحب السمو الأمير وولى العهد الأمين لا يألوان جهداً فى سبيل قضية الوطن ، وإسترجاع الحق .. والأرض كذلك كان للأخوة الكرام فى دول  مجلس التعاون الخليجى دوراً كبيراً بارزاً أكد الموقف الأخوى الكريم الذى وقفوه جميعاً قادة وحكومات وشعوباً أثناء إنعقاد مؤتمر القمة الذى أعلن التضامن المطلق مع الكويت مواجهة عدوان النظام العراقى  ، وكان ذلك ما أشاد به الشيخ سعد معرباً عن تقديره وإمتنانه لهذا الموقف الأخوى الأصيل .

        كان الناس لا يضعفون ولا يملون من بذل المزيد من الجهد والصبر والصمود والتصدى ، كما أدت الظروف الصعبة فى معظم الأيام إلى إحداث نوع جميل ورائع من الترابط بين الناس بعضهم بعض ، وإلى بث روح التفاهم والتواد والتواصل والتراحم فيما بينهم .. وهذا ما جعل أهل الكويت يعيشون من جديد بذات الروح القديم حين كانت  الناس كلها تعيش أسرة واحدة ، ويداً واحدة .. ! خوش .. خوش !

        تمضى الأيام بشعة مروعة ، منذ إعتقال جمال الذى لا يعلم أحد ماذا يحدث له بالتحديد ! وكانت أمه ترفض أن تضع شيئاً فى فمها ، كانت لا تكف عن البكاء والأنين ، وهى تتخيل هؤلاء العتاة الظالمين ، وما يمكن أن يفعلوا بإبنها جمال ، وفلذة كبدها عادل ، كانت تقول فى حزن وجزع :

– إيش لون تبونى آكل .. انا يا المرة الكبير .. وهذولة عيالى شبان عادل وجمال ما أدرى شىء عنهم ؟! ما ادرى لو كانوا يعطونهم آكل .. إلا خلوهم جوعانين .. آه .. يا ربى .. منه لله الظالمين .. منه لله .

        وذات يوم جاءت مجموعة من الجنود المدجحين بالسلاح قبل الظهر ، إقتحموا البيت ، أخذوا يفتشون حجراته ويقبلونفى الأغراض يلقون الأشياء على الأرض يبعثرونها هنا وهناك ، فسألتهم أم جمال :

  • شنو تبون ؟ شنو تدورون ؟!
  • ندور على السلاح يا خالة .

بكت أم جمال وهى تترجاهم أن يعيدوا ولدها ، ظلت تقول لم تستعطفهم ، عسى أن يرقوا لحالها ، ويردوا ولدها جمال إليها .

– والله ما عندنا سلاح .. أرجوكم ردوا لى ولدى جمال .. جمال ما يعرف هذه السوالف .. فقال لها أحد الجنود باسماً :

– على أمرك يا خالة .. حالاً راح نجيبه لك .

        وفى مساء اليوم نفسه ، جاء الجنود ومعهم جمال ! فرح كل من سمع الخبر ، خبر وصول جمال ، لكن .. لا .. لم يكن هذا هو جمال !! كل من رآه بالبيت إستنكر منظره ، لا .. ليس هذا هو جمال .. لا . جمال مارجع .. جمال ما رجع .. !

        كان هذا الشاب النحيل ، الممزق الجلد ، المنتفخ الوجه ، الشديد النحول والهزل ، العاجز عن الوقوف ، والمغطى بآثار الدماء ، كان شاباً آخر يختلف عن جمال ، لكن ! لا .. إنه هو ، لكنه لم يعد هو .. صار بقايا إنسان !! فقد كان يقف متهالكاً أمامهم . زائغ النظرات ، شارد الذهن ، لا يستطيع أن يتعرف على أحد ! فى حين كانت تبدو عليه آثار التعذيب الشديد ، والحروق البادية على جلده ، ونزع بعض اظافره !

        هرعت أن جمال تعطيه كوباً من الماء كى يشرب ، لكنه .. يا ولداه لا يستطيع الوقوف ! يسقط على الأرض ! فتنحى أمه تحاول أن تضع كوب الماء على فمه لتسقيه بعض قطرات منه ، لكن يركل الجندى الكوب بقدمه .. فيسقط على الأرض يتكسر ، ينسكب منه الماء ، تتوسل إليه الأم باكية أن يتركه يشرب فهو عطشان ، تصرخ فيهم متوسلة :

  • حرام عليكم .. حرام عليكم .. خليه يشرب يا وليدى .. خليه يشرب .

لكن .. يزجرها الجندى صارخاً فى وجهها :

  • خليه اول يعترف وين باقى الملاعين رفاقه .. وين المخربين ؟! وين السلاح ؟!

يشده الجندى ، يجذبه لعنف ، يطلب إليه أن يعترف وإلا قتله . تسقط رأس جمال على كتفه ، يرفعها يتحامل على نفسه ، ينهض . يمشى . لكن .. يجذبه الجندى نحو الباب . يدفعه أمام .. وما يلبث أن يصوب إليه رصاصة خلف أذنه .. تتلوها رصاصات أخرى فى رأسه ! فيرديه قتيلاً أمام أمه! وأهل بيته ! وأمام دانه التى أصابتها حالة فزع هيستيرى رهيب ! وأمام أم دلال التى صرخت من القلب ووقعت مغشياً عليها هى وأم جمال ! فى حين ظلت دانه وحيدة مع جثة خالها وهى تصرخ وتصرخ وتصرخ .. بعد أن مزقت أصوات الرصاص المدوية سمعها .. ورأت ورأت الدماء تنزف من جسد خالها الحبيب .. الذى قتل أمامها ؟!

        وفوق السطح .. تسمع سناء صوت طلقات الرصاص ، فتنتابها رعشة  رهيبة تفقدها وعيها ، تهددها بالسوطق مغشياً عليها فى خزان المياه ، التى تكاد ان تغرق فيه ، فى حين يظل بدنها يرتجف وهى لا تعرف من الذى قتل من أهلها ؟ ومن الذى أصيب من أفراد عائلتها ؟! تتحامل على نفسها ، تنزل من فوق السطح بثيابها المبللة ، تنزل تنتفض من البرد ، تتسلل وهى ترتعش من الخوف ، والذعر ، بعد أن سمعت صوت الجندى وهو يهدد صارخاً ، قبل ان ينطلق بسيارته :

– حذراً واحد منكم يلمس هالجثة .. حذار تقربون منها !

        يمضى الجندى فى سيارته ، ينصف تصحبه اللعنات . والدعوات . فى حين يتجمع الجيران فى محاولات إغاثة لتلك الأم الثكلى والأسرة المغلوبة على أمرها ، التى فقدت واحداً من .. أعز شبابها !  !

الفصل الخامس والعشرون

وقفـة خاصــة !

 

يستمر إحتلال الكويت ، تستمر العمليات البشعة الظالمة ، تنهش نفوس أبنائها ، سواء فى الداخل أو فى الخارج ، الكل فى حالة رفض ، فى حالة إعياء ، فى حالة توتر ، فى حالة عذاب !

وفى الرياض .. تلك المدينة الأنيقة ، الهادئة ، يتطور الأمر ، يتضاعف حجم الخطر مرات ومرات ، حين تصبح تلك المدينة الرائعة على خط المواجهة مع العدو ، حيث تنطلق صواريخه تقتحم سمائها ، تسقط تهز أرضها ، فأخذ الناس يرحلون عنها إلى القصيم وجدة ، وتحولت المدينة الجميلة إلى جبهة على خط الناء .. !

نعم .. فها هو البيت المجاور لبيت نايف ، حيث تقيم سعاد وليلى وأمهاتهما والأطفال الصغار ، يقع عليه صاروخيدمر واجهته ! نعم .. أصبح البيت ، والمنطقة المحيطة به كلها معرضة للضرب ! وبدأت الأفكار تنادى أن يرحلوا عن موقع الخطر بالرحيل إلى القصيم أو جدة .

لكن .. الأب محمد ، أبو نايف ، يرفض الفكرة نهائياً فلا يتحرك أحد من أهل البيت من مكانه ، تبقى مذنة وأولادها ،ونورة وبنتها ، ومشاغل ، يدون جميعهم واجبهم ، كأحسن ما يكون فى الترحيب المستمر ، والتأهيل الدائم بضيوفهم  الكرام ، حتى الأطفال الصغار ، فى منتهى اللطف والذوق مع أطفال سعاد ، فالمحبة والمودة سمة من سمات أهل هذا البيت الذين لا يقصرون أبداً فى حق ضيوفهم .

.. ولم تسنح الفرصة لليلى ، ولم تسمح الظروف لمشاغل لأن ترى واحدة منهما خطيبها ! فقد كان نايف مقيماً بصفة مستمرة فى المستشفى العسكرى ، فى حين كان خطيب مشاعل ضابطاً طباراً فى القوات العسكرية السعودية ، التى كانت فى حالة  إستنفار ، أما سعاد فلم يخطر ببالها لحظة أن ترحل بعيداً عن مدينة الرياض ، رغم أن المدينة كلها كانت فى حالة تأهب فصوى ، فأغلقت أسواق العليا ، ومحلات شارع الستين  ، حتى أصبحت مدينة شبه خالية !


وكانت الكآبة فى الشوارع المقفرة تنتقل منها وإليها ، كان واضحاً للجميع أن الرياض صارت مدينة على الجبهة ، وكانت هى المدينة الأولى التى يتم فيها تصوير هجوم الصواريخ شهدت قتالاً ضارياً عنيفاً هناك ، إنتهى بتطهيرها من قوات العد ببسالة ، مما جعل الشيخ أبدتها القوات السعودية والقطرية فى تطهير هذه المدينة وقال :

– إن مشاركة قوات من دول التعاون الخليجى فى عملية تحرير الكويت عمق اللحمة الخليجية الواحدة والترابط المصيرى المشترك فى وجه المعتدى  الأثيم .

        وكانت سعاد كعادتها ، لا تعلن ألمها ، ولا تكشف شدة حزنها على ابيها ، رغم أنها قد تلقت معلومات من الوطن فى رسالة جاسم إليها ، تفيد أن والدها واين أخيها قد أختطفا من قبل القوات العراقية ! وأنهما مازالا تحت الأسر ! لكن .. سعاد بكل عقلها وكامل وعيها ، كانت ترعف كيف تدراى عن الجميع آلامها ! فكانت تحاول أن لا تطهر معظم أحزانها ، كما كانت تدعو لجميع أفراد المقاومة ، ؟ان يحفظهم الله ، وان يحفظ الكويت وطناً عزيزاً حبيباً غالياً حراً بإذن الله .

        فى الواقع سعاد كانت تؤمن فى قرارة نفسها إن الله لن يخذلها ، وان والدها وإبن أخيها سوف يعودان بإذن الله ، لذا .. تعايشت مع الحزن العميق الاليم بمنتهى القوة والتحكم والإقتدار ! نعم .. لم تشأ أن تظهر الألم اللعين بوضوح للمحيطين بها ، بل كانت تحرص على إظهار صورتها بطريقة طبيعية ، كى تحاول مساعدة كل من معها على التصبر والتحمل ، فالواقع الحالى بشع ، بغيض لذلك .. كان لابد من التصرف بذكاء ، وعدم الخضوع لسيطرة الحاضر بضعف وتخاذل .. إستسلام !

        ظلت سعاد تنهمك فى العمل الوطنى بكامل طاقتها ، وقدرتها وأعصابها ، إلى ان أصبحت مشغولة للغاية ، حتى عن نفسها ، بنفسها! إلا أنها صارت مع الوقت فى حالة يرثى لها من القلق والروع .. ! صارت تعانى من الشعور بالخوف والفزع على الجميع ، وإن كانت فى نفس الوقت تحاول جاهدة أن تخفى تلك المشاعر المرعبة ، كى لا تؤثر على المحيطين بها !

        لكنها .. فجأة ، طلبت من خالتها أم جاسم ومن امها ومن ليلى أن يسمحن لها أن تسمع أحدى أغانى عوض الدوخى لإنها تذكرها بوالدها ، فرفضن خوفاً عليها ، وعلى أعصابها ! لإنهن يعرفن أنه سوف تبكى مر البكاء ، خاصة فى هذه الحالة ، بعد أن عرفت إن والدها أسير ، لكن ، ترجو سعاد وتلح ، وهى تنهار باكية قائلة :

– تقولى لى لا ما راح تسمعين عوض الدوخى ؟! لا .. ما أقدر تحرمونى من أبوى .. كأنكم تقولون لى لا تشربين الشاى فى استكانة .. كأنكم تقولون لى لا تأكلين هامور .. كأنكم تقولون لى شبلى مجلة ” سيدتى ” لإنها تذكرنى بالكويت .. كأنكم تقولون لى لا تشوفين البحر لأنه يذكرنى بالكويت !!

        وفى النهاية .. لم يقدروا أن يقسوا عليها أكثر من ذلك ، كان واضحاً أنها ستموت لولم تعطها خالتها الشرائط ، فتدخلت أمها لدى أختها وأعطوها لها .. فأخذت سعاد وهى تتنفس بعمق كأنما إسترددت حياتها .. ودخلت بها غرفتها ، حيث إستمعت إلى كل الشرائط التى تحبها والتى كانت دوماً تسمعها مع والدها منذ صغرها .. !

        وبعد هذا  البوح مع الذات ، وهذا السيل المتدفق من الحنين والذكريات ، تحس سعاد بالهدوء والإرتياح ، فتعود إلى نفسها تتمالك من جديد قدراتها ، وتسجل للإشتراك هى وليلى فى إحدى اللجان المتخصصة التى شكلتها اللجنة النسائية التابعة للجنة شئون المواطنين الكويتية بالسعودية ، والتى عليها أن تتولى مهام تلبية الحاجات الآتية واللاحقة لمرحلة ما بعد التحرير

        وفى يوم .. دخلت عليها أمها الحجرة فوجدتها غارقة فى البكاء ، تنشج نشيجاً مكتوماً يقطع القلوب ، فحاولت تهدئتها ، لكنها لم تفلح ، إذا أرتمت سعاد فى حضن أمها باكية ، تنتفض من شدة الحزن والآلم وهى تقول شاكية :

– مانى قادرة يوماً .. مانى قادرة .. وين زوجى .. وين أبوى .. وين أخوي .. أنا خلاص ما عاد فينى أتحمل .. مانى قادرة .. مانى قادرة

        تتأثر الأم تأثراً عميقاً يهز كل مشاعرها ، فتحاول تهدئتها ، وإن كانت هى الأخرى فى حاجة لمن يهدئها ، ويخفف عنها أساها وحزنها ، لكنها لا تنجح فى ذلك ايضاً ، لأن سعاد تعرف من الاخبار التى تخرج من الداخل ، إن زوجها الطبيب جاسم هو الذى يتكلم مع الاطباء ، ويخربهم بنتيجة اتصالات مع وزير الصحة الدكتور الفوزان الذى يعطيع التعليمات الصحية ، التى ينقلها جاسم بدوره إلى بعض الأطباء داخل الكويت المحتل .

        فى الواقع .. أصبح جاسم فى خطر محيق ، بعد أن عرفت القوات العراقية كل شىء عنه ! صار لابد من خروجه من الكويت بأسرع وقت ! الصراحة .. كثير من الزملاء فى المقاومة ، والزملاء الاطباء ، بذلوا محاولات جسمية لإرغام جاسم على الخروج من الكويت إلا انه كان يرفض بشدة مقتنعاً بأن دوره الوطنى كطبيب يحتم عليه أن يبقى بجانب جرحاه الذى يحتاجون وان لا يتخلى عنهم بحجة إنقاذ حياته ، او بسبب الخوف على حياته !

        .. ويظل هذا الرفض مسيطراً على فكر جاسم فترة طويلة ، إلى ان ينفذ رصيد الأدوية الذى يحتفظ به فى أماكن سرية متفرقة ! ينتهى الدواء عن آخره ، كما تنتهى كل المعدات  المساعدة كالشاش والخيوط ، فلا يعود جاسم يجد ما يمكن أن يمارس به عمله كطبيب ! يصبح فى هذه الحالة فرداً عاديا مجرداً من أى قدرات خاصة ! إذن .. لابد من الخروج يا جاسم ، فأنت لم تعد فعالاً بالنسبة للمرض  ، كما أنك أنت نفسك أصبحت مهدداً بالموت !!

        آه .. أخيراً .. يلتقى الشقيقان ، عبد الله وسعاد بين ربوع المملكة العربية السعودية ، فتهدأ نفسية سعاد بعض الشىء وتحس قدراً كبيراً من الراحة والأمان ، بعد لقائها بأخيها واسرته ، وفضيلة وأمها بعد ان وصلوا كلهم سالمين بعون الله ، كما تهدأ بعد سماعها أخباراً مطمئنة عن زوجها وأخيها ، وأنهما بخير فى الكويت والحمد لله . تنتهد فى ارتياح .. تدعو الله ان يفيض عليها من كرمه ، وان يرفع الظلم عن أبيها ويفرج عنه هو وكل من معه ، وأن يقك ضيق كل محتاج .

        وكانت دلال هى الأخرى مهددة بالموت ! كانت مطلوبة بدورها من القوات العراقية المحتلة ، ورغم ذلك لم  تورع عن الحضور إلى جاسم فى مخبئه بمنطقة الرميثية ، وظلت تلح عليه :

– أرجوك يا جاسم .. طلع قبل ما تقع فى أيديهم ويصير فيك مثل اللى صار فى أخوى عادل اللى قاعدين يعذبونه ليل نهاء .. وإلا مثل اللى صار فى اخوى جمال .. عذبوه وهلكوه وبعدين قتلوه قدام أمى .. ! أرجوك يا جاسم أطلع .. ما تعطيهم هالفرصةة أنهم يعذبونك ويقتلونك .. حرام عليك  يا جاسم ..حرام عليك نفسك وأهلك .. حرام عليك زوجتك وعيالك .. حرام عليك .

        وهنا .. يضعف جاسم أمام دموع دلال ونجيبها الذى يقطع القلوب ، فيعدها قائلاً :

– خلاص دلال .. خلاص .. لا تبكين .. باطلع .. والله باطلع فى أقرب وقت .. بس أنت ديرى بالك على نفسك .. وخذى بالك .. لا تردين البيت الحين .. مهما وحشتك دانه .. تحملى دلال .. بس لا تخاطرين بحياتك .. أرجو .

        يودع جاسم دلال ، وهو مقتنع تمام الإقتناع بأنها تغيرت .. تغيرت .. ! يحادث نفسه شارداً :

– صدق دلال تغيرت.. ! ما أصدق أنها تلح على عشان أطلع وأروح لسعاد .. تقولى لى حرام عليك زوجتك وعيالك ؟! مانى مصدق نفسى .. معقول دلال تتغير إلى هذا الحد ؟! معقول الحرب تغير الإنسان هالتغيير ؟!

        يستغرق جاسم خواطره ، يظل شارداً يفكر متعجباً فيما آل إليه حال دلال ! وكيف بدلتها الظروف ، وغيرتها الاحداث ، يظل يفكر فى أمرها وهو فى قمة  الحزن والألم من أجلها ، بعد فقدت شقيقها الاكبر جمال الذى كانت أبنتها تحبه وتعتبره والدها ، وفى نفس المخفر .. كانوا يعذبونه قدام بعض !!

        يصحو جاسم من شرودة على صوت بدر يناديه بينما تتسلل دلال بحذر شديد ظن وهى تتشح بالسواد إلى مخباً آخر قريب ، وأفكارها كلها تدور حول أبنتها دانه ، التى حرمتها الاحداث منها ، وحالت دون رؤيتها ، رغم أنها تعلم أن امها مريضة ، مضطربة نفسياً ، وإن زوجة أبيها تعانى من نفس المرض ، وإن أختلفت درجته ، وهى اختها سناء ، ما تزال تتلوى من آلام الكلى المبرحة التى تعصرها عصراً .. !

        لا تستطيع دلال أن تتمالك نفسها ، ولا أن توقف شلال دموعها ، التى أخذت تنحدر بشدة على وجهها  ، وهى لا تعرف كيف تخفف شوقها إلى ابنتها .. حبيبتها .. صغيرتها .. دانة ! التى جعلت إحساسها بالذنب تجاهها ، يتضخم ، حتى كاد أن يفتك بكيانها .. !

        نعم .. فى الحقيقة ، دلال مقتنعة كل الإقتناع بدورها الوطنى ، وبواجبها المقدس نحو وطنها الحبيب ، وهى لا تتردد فى القيام بأى مهمة قد تطلب منها ، أو توكل إليها .. لكنهافى نفس الوقت ، أم تشتاق إلى إبنتها الطفلة اليتيمة ، الوحيدة ، التى تعيش فى بيت يمتلىء بأشباح الحزن والخوف والعتاب .. !

        كانت دلال كلما تخيلت معيشة دانة وهى وحيدة خائفة ، مذعورة ،  لاتجد من يعطف عليها أو يأخذها فى أحضانه ليدفع عنها خوفها ، وليبدد ذعرها وهلعها ، كلما بكن وإنتحبت وتمزق قلبها ، فهى تعرف إن اختها سناء تخاف من خيالها ، وأى طقة فى الشارع تخليها تركق فوق السطح ، وتنط فى قلب التنكر ..!

        وكانت دلال تعرف أيضاً أن امها ” مو صاحية ” وإن أم جمال زوجة أبيها ، هى بعد “مو صاحية” ! وكانت تعرف كذلك إن دانة تظل بروحها فى البيت وهى لا تعرف ويت تروح ، ولا مع من تتكلم ، ولا حضن من تختبىء .. ولا فى صدر من تجد الحب والحنان .. والامان من الخوف ، الذى تحتاجه ، وتطلبه .. وتطليه !

        تنتحب دلال ، تظل تبكى وتنتحب ، وهى تدعو الله العلى القدير أن يكتب لها الحياة ، وان ينعم عليها بالسلامة وطول العمر من أجل أبنتها اليتيمة التى تحتاجها كى تربيها وترعاها وتعتنى بها .. فمن سيتولى أمرها بعدها ؟! .. تظل دلال غارقة فى بحار همومها ، وأحزانها ، وهى لا تعرف  كيف تواسى روحها ولا كيف تعزى نفسها ؟!

        يقوم بعض الشباب بإيصال المعلومات إلى جاسم ، فيخبرونه بوصول عبد الله إلى الممكلة العربية السعودية بسلام ، كما يخبرونه بمعلومات عسكرية تفيد بوجود جيش كويتى قوامه 18 ألف جندى يخدمون بالممكلة العربية السعودية ، كجزء من القوات الدولة ، إضافة إلى عشرين ألف كويتى يتدربون حالياً فى مواقع القوات الكويتية الامامية ، كما يصل الخبر أن عبد الله شقيق زوجته قد إنضم إلى لواء الشهيد هو وإبراهيم إبن خاله .. ويعرف جاسم أيضاً أن خالد أبن  خاله الأصغر ، قد إنضم إلى سلاح  الطيران التابع للجيش الكويتى ، بمنطقة حفر الباطن بالمملكة العربية السعودية ، بعد أن عرف بتمركز القوات هناك .

        آه .. لم يعد هناك بد ولا مفر من الخروج يا جاسم ! .. الحكمة تقول : إعقلها وتوكل ، والمحافظة على الروح هنا واجب وطنى يتحتم إتخاذه ، لكن .. كيف الخروج إذن والطرق كلها مراقبة ونقاط السيطرة منتشرة فى كل مكان ، ولا يكاد يفصل بين واحدة وأخرى أكثر من مائة متر ؟! ما هو الحل إذن ؟! وما هو طريق النجاة والخلاص ؟! خاصة وإن جاسم أصبح مطلوباً بالإسم ، ومعروفاً بالصورة والشكل ، فهو بطل رياضى مشهور وصوره كثيرة ومتعددة !

        آه لابد من الحيلة إذن !! لابد من تدخل بدر صانع المستحيل ليض خطة فنية محكمة تضمن هروب جاسم وخروجه سالماً من هذا المأزق الكبير الذى يتعرض له ، والذى يتهدده ، بعد أن أصبح فى حكم اليقين أن قوات الغزو تبحث عنه فى كل مكان ، وتريد القبض       عليه بأسرع ما يمكن ، بعد أن صدر تعميم بأوصافه ، وطبعت صوره على منشورات تم توزيعها على كافة نقاط السيطرة .. ! .. ما الحل  ..؟! ما الحل ؟!

        يتفتق ذهن بدر عن حيلة ذكية بارعة ، ساعدته العوامل والظروف على تنفيذها ،
فقد كان عبد الله شقيقه قد قام بتزوير وتزييف عدة هويات إحداها كانت لضابط فى القوات الخاصة ، تلك التى إستخدمها من قبل عندما تدخل لإنقاذ جاسم ودلال وشباب المقاومة فى منطفة كيفان !

        كان عبد الله بارعاً فى هذا الشأن ، تشهد له خبراته  فى عشرات الهويات التى أنجزها لبعض الشخصيات المطلوبة لدى قوات النظام العراقى ، الذى لم يستطع الوصول إليها بعد  ان إنتحلت تلك الشخصيات أسماء وشخصيات أناس بسطاء عاديين جداً وخارج نظاق وإهتمام المتابعة !

        يضع بدر خطة متقنة محكمة ، لم يشأ أن يعلن عن تفاصيلها لأحد ، فالقوات العراقية تشن حملة إرهاب منظمة ضد  المقاومة الكويتية ، والقتل مباح لمجرد الإشتباه ! والإعدام العلنى فى الساحات العامة صار شيئاً معروفاً ! فليس هناك ما يعوقه أو يمنعه ، كما أن  القوات العراقية تشن هذه الأيام حملة مداهمة واسعة النطاق ، فتقتحم البيوت على ساكنيها ، وتنسف المبانى والمجموعات السكنية على من فيها !!

        إذن .. لابد من الرحيل قبل الوقوع بين ايديهم ، فالوقت يضيق ، والزمن ليس فى صالح جاسم على الأطلاق ! كان هذا هو هاجس بدر  الأكبر ، وكان هذا هو التحدى الأعظم لقدرات فنان يتقن المحاكاة والتقليد ، كما يقدر على التخيل والإبداع والإختراع والتنفيذ .. إنه التحدى الأوحد فى حياتك كلها يا بدر !! أن تقدر على إختراق الحدود وجاسم معك ، ورغم هذا التضييق المفروض على كل الطرق والأماكن ، والجسور ونقاط السيطرة ، ومنافذ العبور ، لكن .. كيف ؟! كيف ؟!

        يرتب بدر كل شىء فيستسلم جاسم مرغماً لرغبته ، وإرادة جماعته من الشباب الوطنى المخلص ، فيتخلص من كل شىء يمكن ان يدل عليه ، يلبس دشداشة داكنة الون ويلف رأسه ( شريمبا) بغترة حمراء ، حتى يبعد عن نفسه إبحاء  الرياضة ولعب الكرة ، فقد كانت صوره معروفة تماماً لدى مسئولى النظام المحتل ، الذى صاروا يعممونها على رجالهم المنتشرين فى كافة نافط السيطرة !

        فكر بدر وحاول أن يغير من ملامح جاسم بعض الشىء ، ولكن للأسف ، باءت محاولاته كلها بالفشل ، لأن مواد التنكر التى كانت عنده إنتهت عن آخرها ! أه .. يا للحظ السيىء ؟ ما العمل ؟ لابد من الخروج الآن من الكويت بأٌصى سرعة ! لابد من إنقاذ جاسم ، فالأخبار إنتشرت فى كل مكان وأصبح  معروفاً أن الدكتور جاسم الناصر ، صار مطلوباً لدى القوات العراقية بإعتباره رأساً كبيراً من رؤوس المقاومة  الكويتية !

        كانت المهمة شاقة وعسيرة إذا لم تعد لدى بدى أى وسيلة من وسائل التموية والإخفاء تساعده فى عملية إنقاذ جاسم ، او تغيير ملامح وجهه المعروف ، والمشهورة ، والتى تكاد أن تكون محفوظة عن ظهر قلب ! إذن  .. لابد من التفكير فى خطة أخرى !

        يطلب بدر على جانح السرعة  دجاجة وحبلاً وقطعاً صغيرة من الخشب والورق ، وبعض الأربطة ، فيذبح الدجاجة ، ويضع بعضاً من دمها على رفبة جاسم ووجهه ودشداشته  ، كما يقيد ذراعيه خلف ظهره كى يبدو كأنه خارجاً لتوه من غرفة تعذيب مستعيناً على ذلك ببعض السواد والهياب الناتج عن الورق والخشب المحترق !! عافية عليك يا بدر !

        يرتدى بدر زى ضابط القوات الخاصة الذى يحمل هويته ، بينما يتكوم جاسم فى السيارة المرسيدس السوداء ذات الأرقام العسكرية ، راقد على الكنبة الخلفية وهو يتظاهؤ بالوهن والآلم من شدة الوجع الى يسببه إرتجاج السيارة ! يقترب بدر من أولى نقاط السيطرة فلا يهتم أن يقف ، فقط يحدق بقوة فى أعين الجند الواقفين ، ويمضى لا يلوى على شىء ، فى حين تؤدى له التحية العسكرية بهمة واهتمام وتعظيم ووجل !!

        وهكذا .. يظل بدر يعبر نقظة تلو الآخرى ، والحظ فى كل مرة يخدمه فى ان الواقفين عليها يكونوا سوى جنوداً بسطاء عاديين يدينون بآيات الطاعة والولاء لضباط القوات الخاصة من الحرس الجمهورى بالذات ، هؤلاء الضباط الذين لا يستطيعون مناقشتهم فى أمر من الأمور ! أو مسائلتهم ،  فى موقف من المواقف ! فقط ، ما عليهم سوى الطاعة المطلقة العمياء عند تنفيذ الأوامر ، دون أدنى نوع من التفكير فى الرفض أو الإعتراض ، مهما كانت نوعية هذه الأوامر وغرابتها ! كل ما عليهم هو الطاعة فقط لا غير ، فالسلطة هنا تصاعدية بحتة !

        لكن .. آه .. ها هى إحدى نقاط السيطرة يقف مجموعة من الضباط ذوى الرتب العليا ، ففيهم الرائد والمقدم والعميد !! آه .. إنهم يستوقفون عدداً من السيارات بعرض الطريق ، مما أضطر بدر أن يقف مدة أطول من اللازم اتاحت لأحدهم فرصة أن يقترب من السيارة ويطيل النظر داخلها ..!

        يحدق الضابط فى وجه جاسم الراقد على جنبه مدققاً فاحصاً ، وهو ينقل بصره بين الأوراق المطبوعة التى يحملها فى يده ، وبين وجه جاسم الذى يطيل النظر والتحديق إليه ! وما يلبث أن يصرخ منادياً على باضى الضباط ، مشيراً لهم أن يقتربوا بسرعة ثم ينحنى مدنياً وجهه من نافذة السيارة الخلفية ، وهو يحدق يعيينيه حيث يرقد جاسم الذى عممت قوات الغزو صورته على جميع نقاط السيطرة فى كافة أنحاء الكويت طلباً للقبض عليه حياً , أو ميتاً !!

الفصل السادس والعشرون

الحبيب الجريح

 

ينتفض بدر من شدة الغضب والإنفعال ، يفتح بسرعة زجاج النافذة الخلفية ، حيث ينحنى الضابط يحدق فى وجه جاسم ، يلتفت فى لمح البصر إلى الضابط الذى ما زال يدنى رأسه من السيدة ويبصق بقوة وعنف على وجهه ، فيرفع رأسه منسحباً على الفور إلى الخف منكمشاً على نفسه ، مبتعداً راجعاً إلى الوراء ، فى حين يجمد باقى الضباط فى أماكنهم ، لا يجرؤ واحد منهم على أختلاف رتبهم من الاقتراب من السيارة المرسيدس السوداء التى يقودها ضابط الإستخبارات الشاب الذى ينتمى إلى الحزب الجمهورى الذى تربط رجاله صلة قرابه حميمة بصدام حسين !!

يحرك بدر السيارة ، يخترق بصعوبة حصار السيارات الكثيرة المتراصة حوله وأمامه وهو يضغط بعنف وقوة على نفير الذى ينطلق علياً مدوياً يثير البلبلة والإرتباك حوله ، إلى أن تنلطق السيارة مسرعة تسابق الريح ! تعبر بإعجاز باقى نقاط السيطرة الآخرة بنفس الاسلوب ! بالعبوس ، أو الشتم ، أو السباب بلهجة عراقية متقنة ، أو البصق على الوجوه وهكذا ، إلى أن يتم خروجها إلى عرض الصحراء .. حيث بعرف بدر الطريق ، ويحفه عن ظهر قلب !

نعم .. يحفظ بدر الطريق عن ظهر قلب ، لأنه دائم الخروج والدخول منه ، فهو سبق وساعد خالد إبن خاله الطيار على الخروج للإلتحاق بجيش الكويت هناك / كنا ساعد كثيراً من الإخوان الراغبين فى الدخول إلى الكويت من شباب المقاومة ، فى بدأ الإحتلال ، منذ رجع وهو وجاسم وخالد من لندن وإنضموا إلى مجموعات المقاومة فى الداخل ،كذلك كان بدر عوناً كبيراً لكثير من أرباب الأسر الذين رغبوا ى الخروج والنجاة بنسائهم وبناتهم اللاتى خافوا عليهن من الوقوع ضحايا الإتصاب !

تصل السيارة بسلام إلى نقطة حدود السالمى ، فلا ينسى بدر أن يستبدل ملابس ضابط الإستخبارات العراقى قبل أن يصلها ، ولا يغفل أن يلقى بها فوق رمال الصحراء ، حيث تذروها رياح الشتاء الباردة ، ومعها الهوية المزورة ، كما لا ينسى أن يلبس دشداشة صوف كويتية ، وان يبرز هويته الحقيقية .. شاب كويتى .. يعشق الكويت . ويبذا الروح .. فداء الوطن .

صوف كويتية ، وان يبرز هويته الحقيقية .. شاب كويتى . يعشق الكويت ، ويبذل الروح .. فداء الوطن .

يصل جاسم إلى المملكة العربية السعودية حيث  يلقى الود ، والأمان والحب ، والترحاب ، فيلتقى هو وبددر بالأهل فى بيت نايف ، يلتقى الجميع هناك ، فتنساب الدموع ، تنفجر المشاعر  فى تلك اللحظات العنيفة اقاسية ، فلا يعود هناك مجال لكتم الحزن ، والأسى ، والألم ، فينتحب الكل لهذا المصاب الجلل الذى حل بهم ، ما بين إستشهاد فيصل ، إلى أسر منصور وأسر الرجال الطيبين أبو عبد الله وأبو جاسم ..!

فى الحقيقة .. كان مشهد هذا اللقاء العاطفى العاصف ، عنيفاً ، مروعاًً ، مؤثراً ، فالحزن عملاق يطغى على النفوس ، والكل فى بكاء  وحيب يقطع القلوب ، ولم يعرف أحد كيف يمنع هذا الأسى من إحتلال المشاعر والأحاسيس ، لم يعرف أحد ,, ولم بقدر أحد !! حتى نايف نفسه لم يقدر أن يقضب نفسه ، ذوف الدمع هو الآخر تأثراً إنفعالاً ، وهو يرى لحظات العناق الحار بين الشباب عبد الله وجاسم وبدر الذى إلتقوا بعد عناء فراق ، وعذاب بعاد !

وبعد أن تهدأ النفوس ، يودع دكتور جاسم دكتور نايف ، كما يودع أهل البيت جميعهم ، ومن بينهم سعاد ، التى كانت تود وتتمنى لو انه تحيا طول العمر مع جاسم .. بلا وداع !

لكنها الحرب وظروف الأزمة الحالية تؤثر فيهم كلهم ، تؤلمهم تعذبهم ، تشقيهم ، تفرقهم .. فها هى الحين تباعد بينها وبين زوجها .. حبيبها ، الذى ما صدقت على الله أنها تشوفه وتقابله بعد كل هذا الغياب وهذا الخوف .. وهذا العذاب !

وكان الاطفال الصغار لا يقلون عذاباً عن الكبار بسبب هذه الحرب فها هم يقفون حزانى مضطربين متأثرين لفراق والدهم ، فيقفوا يلتفون حوله ، يعانقونه ، يقبلونه ، فى حين كان جاسم يحاول أن يصطنع المرح ، وان يغالب التأثر بنفسه  ، وهو يحصن راكان بين ذراعيه ، الذى كان يبكى ويريد أن يخرج مع أبيه بعد أن شعر أنه يوشك أن يغادر البيت الحين .. ويتركه مرة ثانية !

أيضاً كانت أنوار متأثرة لفراقه وهاهى تطلب منه هذا الطلب بمناسبة عيد ميلادها القريب ، وتقول :

  • يوبا .. خلى صدام يرجع منصور عشان يحضر عيد ميلادى .. قل له أنوار تقولك هى تبى منصور .. هو ليش يخليه عنده ؟! وقل له يترك جدى أبوك .. وأبو أمى عشان تبطل أمى تبكى .. خليهم يبجوا .. لا تنس يوبا .. زين ؟!
  • زين .. زين .. على أمرك حبيبتى

أما احمد ، فقد كان يقف واجماً صامتاً ، فهو يعرف أن والده سوف يخوض حرباً عنيفة شرسة ضد عدو ظالم عنيد ، فكان يدعو الله فى سره أن يحفظه ويرعاه ، ويرده لهم سالماً منصوراً بإذن الله .

ولم ينس أحمد أن يعطى والداله مصحفاً صغيراً كان قد أشتراه خصيصاً له ، وهو يحضنه ويعانفه .. ويشد على يده بقوة .. ويسلم عليه سلام الرجال الأبطال !

ينصرف جاسم إلى لقاء وزير الدفاع الشيخ نواف الاحمد ، الذى يكشف عن أن الجيش الكويتى أقترب من إعداد لواءين كاملين إستعداد لمعركة التحرير ، وإن أحدهما قد إلتحق بالقرب من حدود الكويت ، فإنضم جاسم كطبيب يعمل لخدمة القوات العسكرية الكويتية ، فى حين ذهب كل من بدر وعبد الله ، للإنضمام إلى قولت المقاومة الشعبية الكويتية التى تخضع لتدريبات عسكرية معينة إستعداداً لمعركة التحرير .

.. تنكمش الأيام تكمن ، تقبع ، تتحرك ببطء ، كسلحفاة معتلة مريضة ، ضالة ، لا أحد يعرف وجهتها ، ولا أتجاهها ، فالكل يعانى مرور الساعات الكسيحة ، التى لا يعرف لها أحد بداية من نهاية ! الكل لا يعرف ماذا يمكن أن تسفر عنه الإحداث من مفاجأت !

تجلس النساء فى مدينة الرياض ، متشحات بالسواد ، غارقات فى الترقب ودموع البكاء ، فى حين كان الرجال كا فى موقعه يأمل ، يترقب ، ينتظر ذلك اليوم الكبير الذى يشاركون فيه فى تحرير الأرض ، وتخليص الوطن من المحتل الأثيم ، وعودة الشرعية إلى البلاد .

بمرور الأيام .. يكبر الأمل يعانق قلوب الناس ، فتدفاً أرواحهم رغم برودة الشتاء ، الذى جاء شتاءاً قارساً هذه السنة ، لكن ، تظل النفوس تهفو لتحقيق الرجاء بالخلاص من هذا الإحتلال البغيض الذى يشيع الشر حوله ، وينثر بذور الغدر والظلم والعدوان ، فتثبت أشواك الأذى تصنع سياج الألم والعذاب !

آه .. أنها القيود  تكبل حرية الأنسان ، إنها الحواجز المضروبة تحاصر حلمه الجميل فى التحرير ، فى النجاة فى الخلاص ، أنها الأمنية الحلوة .. فى أن يعود الإنسان مرة أخرى إنساناً !

.. يجىء الليل ، ويجىء معه ظلام إسود دامس حالك ، يربض مع برودة الشتاء ، ورمادية الأجواء ، التى تحولت إلى سواد قاتم ! بعد أن شبت حرائق آبار النفط ، التى تم إشعال ستة آبار منها فى الأحمدى على سبيل تجربة التلغيم والتفجير ، ثم تلبث أن تزايدت إلى أن إشتعلت النيران فى 618 بئراً دمر منها 462 بئراً تدميراً تاماً !!

آه .. يتدفق النفظ بفعل التخريب من سبعة وسبعين بئراً ، حتى تكونت مياه الخليج حوالى مائتى بحيرة نفطية ، يتراوح سمكها مابين حوالى عشرة سنتيمترات إلى مترين ياالله ! يالظلم الإنسان لأخيه الإنسان ! ياللقهر عندما يطغى الإنسان ويتجبر ، فيحرق ثروات الخير والنماء والرخاء ..!

آه .. تبدأ رائحة الزيت المحترق تحاصر الناس حتى تكاد تخنقهم ، كما يتم حفر خنادق وإستحكامات على طول شاطىء الكويت فى حين تزرع الصحراء بالألغام ! كالجو العام سواداً فى سواد ، فالظلام دامس ، والكهرباء مقطوعة ، والليل يتساوى بالنهار فى البرودة وكثافة الظلام ، وزاد من عبء الحياة إنقطاع المياه أيضاً ، وإتصال الخوف ، بلا إنقطاع ، فى كل الأوقات ! !

كانت دلال فى حالة يرثى لها ببعد إستشهاد شقيقها جمال ، وإختفاء أخيها عادل الذى لم تعد تعلم عنه شيئاً ، منذ ذهب إلى بيتها لدفن جثمان جدتها ، إختفى عادل هو ومن كان معه من الشباب الذى لم يرجع واحد منهم لأهله ! ! لكنها كانت تلتقط بعض همسات تفيد بأنهم قد رحلو إلى أحد سجون البصرة بعد أن عذبوه فى مخفر حولى !

ولم يكن عادل وحده عو الذى تعذب .. دلال أيضاً كانت تتعذب بسبب مرض سناء أختها ، التى صارت تقاسى آلاما مبرحة فى الكلى ، إثر تعرضها المستمر للبلل فى مياه الخزان فوق السطح ، التى كانت شبه مثلجة بسبب برودة الشتاء الشديدة هذه السنة ! حقاً.. كانت دلال نفسها تعانى كل العناء بسبب الظروف المحيطة بها ، تلك الظروف الصعبة التى ازدادت صعوبة بعد سفر جاسم وبدر إلى المملكة العربية السعودية .

أصبحت دلال تعيش أياماً صعبة بعد رحيلهما ، صارت تعيش فى جو من الذعر والفزع ، فقد كانت  متهمة بمحاولة تمرير السلاح لمجموعات المقاومة هناك ! لذا تركت البيت هاربة ، وإختفت من جديد فى منطقة بيان ، بعد أن عرفت أن قوات النظام العراقى تبحث عنها وتطلبها بالإسم ، لذلك كان من المستحيل أن تستمر دلال فى العيش فى بيتها فى العديلية ، بعد أن صار خالياً من الرجال ، وأصبح الحريم بروحهم ، وحدهم بدون رجل يحميهم !

الله فوق .. الله مع الجميع .

وعقب مرور الأيام والأسابيع فى هذا الشتاء الثلجى الهواء ، وبعد أن تستفيد كل الوسائل والسبل لإقناع صدام حسين بالإنسجاب وحقن الدماء ، وبعد أن انتهت المهلة المحددة للإنذار .. تصحو دانة ذات يوم وهى تصرخ من شدة العرب والفزع بسبب أصوات الإنفجارات التى بدأت  تسمع فى كل مكان !

كان الخوف عاتياً عارماً ، فالنيران ترتفع فى الفنادق والمدارس ، التى أحتوت مراكز الذخيرة الخاصة فى القوات الخاصة ، ولم تكن دانة وحدها هى التى تعيش الفزع . كان كل من فى البيت فى نفس الحالة من الإنفعال ! حقاً .. لم ينم أحد يوم الإنذار ! ظلت المقاومة حتى آخر لحظة مستمرة ، وظل العصيان مستمراً ، فالجدران ما تزال تنطق بالشعارات الساخنة التى تكتب فى الليل وتمزق أعين المعتدين فى النهار ! تطعنهم فى الصميم !!

الكويت للكويتين         لا حاكم إلا جابر        كويتنا حرة

كلنا للكويت والكويت لنا عاش جابر وعاش سعد

يا كويت عزك عزنا              أنا كويتـــى أنا

نموت وتحيا الكويت             الله والوطن والأمير

        و.. يعاود الليل إرخاء سدوله ، فى حين ترتفع إرادة شعب حر كريم ، يأبى أن يستسلم للعدوان ، يرفض الهوان ، شعب ينبذ اليأس ، والغبن ، شعب يأبى ألا أن يموت ويحيا الوطن .. عاش الوطن .. عاش الوطن

وتظل تضىء جدران الوطن رغم الظلام ، عبارات تشع النور والحق والأمل والرجاء .. تنقطع الكهرباء .. فتلمع الشموع ، تبرق القلوب .. تظل تضىء بنور الإيمان .. الله أكبر الله أكبر .

        يستمر المطر والبرد ، وأصوات الرصاص والبنادق الآلية تخترق السمع ، ترهق النفس بضجيجها ، يضم الليل أذنيه عن صرخات الإستغاثة ، ودوى الإنفجارات ، والأصوات الصاخبة التى تزلزل الارض ، وتزلزل معها المبانى ، فتهتز الإبواب والنوافذ فى المنازل ، وتنخلع لها القلوب خلعاً ..!

يرتفع بكاء دانة وعويلها ، يرتفع يجرح النفوس ، يدمى القلوب وهى تركض خلف أم دلال وأم جمال فى كل أنحاء البيت تبحث مثلهن عن ملجأ ، عن مأمن ، عن مخبأ ، فهى خائفة بعيداً عن أمها التى لا تجرؤ على العودة إلى البيت لتأخذها فى حضنها ، تطمئنها ، تهدئها ، تخف عنها ذعرها ، تزيل عنها خوفها ورعبها !

أما سناء التى كانت تحنو فهى ما تزال تختبىء فهى ما تزال تختبىء فى مكمنها فوق السطح ، الذى يحيطه الظلام الدلمس فى منتصف الليل وفى عز النهار ، والذى ينهمر المطر فوقه ممتزجاً يلزوجة الزيت المحترق . انها مذعورة هى الأخرى ، لا تقدر ان تنزل إلى البيت خوفاً من الإعتقال والوقوع بين أيدى جنود صدام الذين لا يعرفون الرحمة ، ولا يتورعون من الإغتصاب .. !

تتصاعد سحب الدخان الأسود النبعث من النفط المحترق ، تسمع أصوات المجنزرات والسيارات والشاحنات العسكرية ، وهى تتحرك فى فوضى هيستيرية بعد إنذار بوش النهائى الذى كانت مدته 48 ساعة تنتهى عند منتصف الليل !

ويعطى قائد القوات المشتركة الجنرال  نورمان شوارتزكوف وصاحب السمو الملكى الفريق أول ركن خالد بن سلطان بن عبد العزيز قائد القوات المشتركة الضوء الاخضر لشن الهجوم البرى لتحرير الكويت الذى تم على مراحل متتابعة .. الله أكبر .. الله فوق المعتدى

تبدأ معركة التحرير .. يسمع الجميع أصوات المدافع ، القنابل  ، القذف ، الطائرات ، البارجة الأمريكية تقصف الشواطىء الكويتية ، تبدأ قوات مشاة البحرية الأمريكبة ، والقوات المشتركة فتح الثغرات فى الدفاعات العراقية ، فى حين يقوم سلاح الطيران بالتحليق فوق سماء الكويت ..!

تخترق القوات المشتركة فى المنطقة الشرقية ، ومشاة البحرية الامريكية إلى الغرب منها ، خط الدفاع العراقى الأول بسرعة كبيرة دون أن تواجهها مقاومة تذكر .. تدور رحى المعركة ، تستمر ، والخوف وأراد من أن تصبح هذه القوات هدفاً للمدفعية العراقية .. ! وقبل حلول ظلام يوم 24 فبراير تنجح هذه القوات فى إقتحام خط الموانع الثانى ، فى حين كانت نيران المدفعية العراقية تقوم بالقذف المتصل !!

تستمر أكبر معركة برية فى التاريخ ! يستمر الهجوم البرى لتحرير الكويت .. يتقدم جاسم ضمن القوات البرية المشتركة بكامل عدادة فى زيه العسكرى ويده على زناد بندقيته ، فى حين يحلق خالد ابن خاله فى إحدى الطلعات الجوية ، يقصف الكويت وعينيه تدمع ، وقلبه ينعصر حزناً ، لأنه يقصف وطنه ! تدمع عيناه وهو يحى الكويت تحته .. يقبل بقلبه أرضها ، يتمنى أن تلمس قدماه ترابها .. بعد طول غياب وحب .. وإشتياق .

تنساب دموع الناس فرحاً وتأثراً .. تمتزج التهنئة بحرب التحرير مع الفرحة والبكاء والنحيب ! يجلس الأهالى فى السراديب يسمعون إذاعات العالم اجمع ، فى حين يتحمس الاطفال لرؤية الطائرات تدق معقل العدو ، تشن الحرب على ما تسبب فى الظلم والعدوان . الحمد لله . كل شىء وله أوان ، وكل ظالم له نهاية .. مهما طال الزمان !

وفى تلك الساعات الحامسة ، يتراجع الفليق العراقى الثالث إلى مدينة الكويت بشكل فوضوى ، فيشترك مع قوات الإحتلال الموجودة فى المدينة فى أعمال السلب والنهب ! وتبدأ تجوب أرجاء الكويت الباصات والسيارات العسكرية تشن حملة إعتقالات جماعية فى الأماكن المزدحمة ، حيث يتجمع المواطنون ..!

فى حين أخذت قوات الإحتلال العراقية تدمر المنشأت الحكومية والمبانى العامة ومجلس الأمة ، بينما بدأت تنسحب الآليات العسكرية العراقية على الطريق السريع الشمالى الذى تحول بفضل الضربات القوية والقصف العنيف إلى .. طريق الموت ..!

ويقول المتحدث باسم قيادة القوات المشتركة الجنرال ريتشارد إن قوات الإحتلال العراقية قامت خلال الساعات القليلة الماضية بحملة إعدامات فى الكويت ! شملت أعداداً من الكويتين وخاصة من بين الذين تم تعذيبهم وذلك حتى تخفى أى دليل على التعذيب !

يستمر القذف الذى ترقب سناء أضواء نيرانه من فوق السطح ، وهى تستمر فى البكاء ، ولا تنقطع عن الدعاء ، من قلب مكلوم محسور ، فها هى قد ترملت بعد أن إستشهد زوجها الضابط فى معارك معسكرات الجيش فى الجيوان لحظة إقتحام العدو أرض الوطن ، وهاهر صارت مريضة الحين ، صار فيها كلى !!

تستمر سناء فى الدعاء من قلب جريح برىء ، يدعو الله أن ينصر الكويت ، وأن يحرر الكويت وأن يتغمد الله برحمته أخيها جمال ، وأن يدخله فسيح جناته ، وأن يعيد أخيها عادل ، وأن يمن عليها الصحة والشفاء ، من هذه الآلام المبرحة التى لا يطاق ، وأن يشفى أمها ، وخالتها أم جمال ، وأن يحفظ دانة وأمها ، وأختها .. حبيبتها .. دلال  .

تتضخم الأصوات ،  ترتفع جلبة وضوضاء شديدة خارج البيت ، تتزايد أصوات الشاحنات والآليات  العسكرية ، وأصوات الجنود المنهزمين ينادون بعضهم العبض فى إرتباك وفوضى .. تبدأ تتحرك السيارات فى شكل فوضوى وعاجل ، تظل أم دلال ترقب الوضع من خلف ستائر نافذة الغرفة النوم فى الطابق الثانى ، ثم ننزل إلى الحوش ، وما تلبث أن تدخل  البيت خشية أن تصيبها شظايا القصف المستمر !

فى تلك اللحظة .. انت دلال بيان ما تزال تتوارى عن الأنظار فى المخبأ هناك ، وهى لا تدرى ماذا تفعل .. فخوفها على إبنتها دانة يكاد يقتلها ، وضميرها كأم يشقيها ويعذبها لأنه تركتها وحيدة بعيدة عنها فى ذلك الوقت المرعبة المخيف ، آه .. أكيد دانة خايف الحين .. خايفة .. آه .. أنها لا تدرى ماذا تفعل .. لا تدرى .. لا تدرى  .. وتنهار دلال فى بكاء ونحيب متصل رهيب .. !

آه .. إنها لا تدرى لماذا خطر جاسم ببالها فى تلك اللحظة بالذات ؟! أنها لا تدرى حتى نوع الشعور الذى يختلج فى قلبها فى هذه اللحظة ؟! بالتأكيد ليس عشقاً ، وليس شوقاً ، وليس حباً .. فماذا يكون إذن ؟! ولماذا تفكر فى جاسم فى هذا الوقت ؟! أنها لا تدرى .. ! وربما لأن دانة تحبه ، وربما لأنه تحتاج إليه كأب بديل يقف بجانبها  يمنحها إحساساً حانياً بالأبوة ، والأمان ؟ إحساساً ملحاً تحتاج اليه الآن ؟! ربما .. لأن وجود رجل قوى كبير إلى جانبها فى هذه اللحظات الحرجة لا يساويه شعور آخر فى الدنيا فى مثل هذه الظروف .. خاصة بعد إغتيال جمال الذى كانت دانة تحبه كل الحب !!

وفى نفس اللحظة .. تفكر سعاد فى جاسم أيضاً ، تفكر فى إحتياجها إليه ، فى إحتياج أولاده إلى وجوده معهم ، بينهم ، فى هذا الوقت العصيب ، فالخوف والقلق ينتاب الجميع بعد أن بدأت المعركة البرية ، وبدأت الاخبار ترد إليهم أولاً بأول عبر شاشات التليفزيون ، فها هى التصريحات حول سير المعركة تصلهم بإستمرار ، فتطمئن القلوب وتهدأ النفوس ، ويكبر الأمل ، ويتضاءل الإحساس بالخوف ولترقب والقلق !

تدعو ليلى من قلبها ان يتحرر الوطن ، وأن يحفظ الله الرجال الأبطال الذين يشاركون فى المعركة ، وأن يرجع الكل سالماً معافياً ، بإذن الله ، بإذن الله ، تدعو ليلى من قلبها للجميع ، كما تدعو لخطيبها الدكتور نايف الذى يقوم بواجبه الوطنى فى معالجة جرحى الميدان ، وكذلك مشاعل أخت نايف ، تبقى تدعو الله أن يرجع الجميع بالسلامة ، وأن لا تصيبهم الحرب بدئها الخبيث ، تدعو الله ان يرجع الجميع بالسلامة ، وأن لا تصيبهم الحرب بدائها الخبيث ـ تدعو الله راجية أن يعود خطيبها الضابط فى القوات البرية فى سلاح المدرعات السعودى سليماً معافياً بإذن الله .

تمضى الساعات بطيئة ، الكل يحبس الأنفاس فى إنتظار اللحظة الحاسمة ، والنفس تعانق الأمل المتوهج الذى تحبه . تريده . ترعاه . فاللحظة المتوقعة شديدة الإيقاع على القلب .. لحظة تحرير الكويت .. ترجف الروح فى أنتظار سماع الخبر الكبير .. أنها الامنية الحالية الغالية تحوى كل أحلام الإنسان المقهور المظلوم ، إنه التطلع إلى الغد السعيد .. إلى الأمل الجديد .. آه .. ما أقسى الإنتظار !

ينتظر الجميع فى تلهف وشغف أن يأتى  الخبر الذى يروى القلوب العطشى إلى نبع الحياة ! تنقضى لحظات تذوب النفس فيها ، فلا مصدر لها إلا تلك القوى الغربية التى تتبدى فى عمق اللحظة .. أنها قوة الإيمان ، وصلابة اليقين ، برجوع الحق إلى أصحابه المظلومين . الحمد لله .. الحمد لله رب العالمين .

يستعيد شعب الكويت والفرحة بنشوب حرب التحرير تملأ القلب نشوة ، والروح بهجة ، يستعيد كلمة صاحب السمو أمير البلاد ، حين قال فى رسالة وجهها لشعب الكويت :

  • أيها الأخوة والأخوات :

إنا علينا الآن أن ننظر إلى المستقبل بمنظار الأمل المشرق ، فلتمتلأ قلوبما بالإيمان ونفوسنا بالثقة ، ولنكن يداً واحدة لبناء كويت تشع نوراً وخيراً وتنشر المحبة والإخاء والسلام فى ربوعها وبين أشقائها وأصدقائها .

والله سبحانه وتعالى يوفقنا ويسدد على طرق الخير خطانا وهو نعم المولى ونعم النصير

                                                    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تستمر المعركة البرية بكل نيرانها وأسلحتها وذخائرها .. تنهال قذائف المدفعية المضادة من جانب العدو على القوات المتقدمة لتحرير الكويت ومن بينهم جاسم الذى يندفع بكل فرح وحب نحو الأمام ، يحدوه الأمل والحماس والإحساس بالكرامة والشرف فى المشاركة فى معركة تحرير الوطن .. تستمر المعركة .. تطول اللحظات .. تطول .. حتى تتحول دهراً فى عمر الزمان !

    وفى الرياض يجلس الجميع يتابعون سير المعركة ، وهم فى عاية التوتر والإنفعال ، لكن . تغفو سعاد  قليلاً رغماً عنها ، فالإرهاق والتعب فى حل بها ، إذا لم يغمض لها جفن منذ فنرة طويلة ، لكنها تصحو من نومها مفزوعة والدموع تبلل وجهها ! وهى تنتفض بشدة وتحس أنا أنفاسها تختنق ، وقلبها ينقبض ، وخوف غامض فظيع يغرق صدرها ، ومشاعر مرعبة مبهمة لا تعرف مصدرها أو سببها تحتاج روحها ، وقلق عارم يخترق وجدانها ،

  • جاسم .. جاسم .. صار فيه شىء .. جاسم صار فيه شىء !

بعد ذلك بقليل .. يخرج دكتور نايف مستمراً مكانه ، وهو ينظر فى دهشة وذهول إلى وجه هذا الجريح الغارق فى دمائه ، المغطى بالضمادات ، التى تكشف بعض الشىء عن ملامحه . كان هذا الراقد أمامه هو صديقه الحميم .. جاسم الناصر ..!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

       

الفصل السابع والعشرون

كواكب التحرير

كانت لحظات عنيفة مباغتة .. لكن ! ما يلبث نايف أن يتمالك أعصابه بسرعة ، فيأمر بالتجهيز لإجراء العملية فى الحال ، وإستدعاء أكثر من طبيب مساعد ليكونوا معه أثناء هذه الجراحة الطويلة التى يحاول خلالها إستخراج الشظايا من جسد جاسم .

.. كانت العملية طويلة ، طويلة ، وكان نايف مستمتيتاً فى بذل كل جهوده لإنقاذ حياة صديقه ورفيقه ، فالشظايا كثيرة متناثرة فى الجسد الشاب مما أدى إلى تهتك العضلات ، وإحداث جروح قطعية متعددة ، وإصابة إحدى فقرات الظهر .. !

حقاً .. كانت العملية من أكثر العمليات تعقيداً وصعوبة لأن الخطر هنا يتضاعف عدة مرات ، فالأعصاب مشدودة متوترة ، لأن المصاب هنا صديقاً ، عزيزاً ، غالياً ، من أخلص أصدقائه ، ومن أقرب الناس إليه .. !

كان جاسم قد أصيب فى المعركة البرية إصابة بالغة نتيجة إنفجار إحدى الدانات المعادية التى أطلقتها المدفعية العراقية ، مما سبب له الإصابة بأكثر من عشرين شظية فى أماكن متعددة من جسمه ، أسالت دمائه الطاهرة ، ولحسن حظه لم تكن إصاباته قاتلة إذ أنه كان خارج حدوده الدائرة المؤترة للإنفجار ، لكنها أثرت على ساقيه ويديه فأصابته بشلل مؤقت ، ومنعته من الحركة ومن إستخدام يده وساقيه بصورة مثلى !

وبالرغم من إصاباته المتعددة ، إلا انه حاول جاهداً الإستمرار فى عمله ، وتقديم قدراته الإنسانبة فى معالجة الغير ، لكنها وصلت به فى النهاية إلى عدم القدرة على التحمل مما أدى إلى ضرورة إنتقاله بعد ان كان معالجاً لأن يكون هو نفسه تحت العلاج ..!

وهان قام بعض زملائه بحمله على أكتافهم إلى أقرب ساتر ترابى ، ثم طلبوا من قيادتهم سرعة إستدعاء سيارة إسعاف ، ولم يؤثر فيهم على الإطلاق نيران العدو التى قد تعرضهم لأخطار الإصابة ، إيماناً وحرصاً منهم على بقاء زميلهم الطبيب ذى الأصابع الذهبية التى تساهم مساهمة إيجابية فى سرعة وعلاج وشفاء زملائهم الذى يتعرضون للإصابة فى العمليات الحربية !

وأخيراً .. نجحوا فى توصيل زميلهم إلى اقرب نقطة إسعاف ، حيث قدمت له الإسعافات الأولية ، ونتيجة لضخامة الإصابات المتعددة بجسدة ، أمر بأخلائه إلى أقرب وصل إلى مستشفى القاعدة بطائرة هليوكوبتر ومناه نقل إلى المستشفى العسكرى بالرياض بطائرة هليوكوبتر مجهزة على هيئة مستشفى ، حيث قام الطبيب المرافق بالإتصال للإبلاغ عن الحال قبل الوصول.

تهبط الطائرة ، فيتم نقل جاسم بعربة الإسعاف إلى التروللى الذى يحملع إلى غرفة العمليات ، حيث رأه صديقه الحميم الطبيب نايف الذى أجرى له تلك العملية الحساسة ، التى أتضح خلالها أنه قد أصيب بعدد كبير من الشظايا التى بات معظمها داخل الأعصاب ! والتى تأكد بعد الفحص أنه فى حاجة إلى عدة عمليات لإستخراج تلك الشظايا والربط على العصب لإيقاف النزيف الداخلى ، وللكشف على الطحال للتأكد من سلامته ، كذلك لفحص الكبد والتأكد من عدم إصابته .

.. يأتى نايف البيت زيه العسكرى ، يسمع الجميع صوت السيارة الجيب العسكرية ، يدخل مسرعاً متهجماً .. تتوجس سعاد خيفة ، وهى تترقب خبراً تتمنى أن لا تسمعه ، وهاجساً مخيفاً يفور داخلها ، يثير رعبها ، وفزعها .. !!

– عسلا الله يجعله خير .. عسى الله يجعله خير ..!!

        تنقلب الدنيا ، ينتشر الخبر بسرعة البرق ، يعرف الجميع أن جاسم الناصر اصيب إصابة بالغة ، وإنه يصارع الحياة والموت فى هذه اللحظات داخل غرفة العناية المركزة فى المستشفى العسكرى بالرياض !

فى الواقع ، كانت الجراحة التى أجراها الدكتور نايف فى غاية الصعوبة ، والمهارة ، والمقدرة ، فقد قام بإستخراج ما لا يقل عن عشرين  شظية من جسد جاسم ، إلا أن بعض هذه الشظايا لم يتمكن هو أو زملائه من إستخراجها وإستقر رأيهم على تركها فى أماكنها ، حتى لا تسبب لجاسم آلاما فوق آلامه ، إلى أن تحين الفرصة المناسبة مستقبلاً لإستخراجها.

        ترك دكتور نايف بعض الشظايا بعد أن استقر رأيه هو ومجموعة من الاطباء على ذلك ، لأنهم يرون أن هذا الوضع هو الافضصل بالنسبة لحالة جاسم ، مع أنهم يعلمون تماماَ أن تركها قد يؤدى إلى بعض الآثار الجانبية وإصابته يشلل حركى فى بعض أجزاء جسده لفترة زمنية ، لكنهم فضلوا ذلك لأنهم لو استخرجوا كل مكا فى جسده من شظابا دفعة واحدة ربما تعجز قدراته عن تحملها .. وقد يؤدى بحياته نهائياً !

        حقيقة .. لقد تمكن الدكتور نايف من تقديم أقصى قدر من العلاج الطبى .. وبعد أن شعر الدكتور نايف أنه د أكثر مما يمكن نقديمه لصديقه الحميم ، وأنه لم يعد هناك شىء يمكن أن يقدمه له سوى الوقت الذى يستلزمه العلاج الطبيعى المكثف لتقوية عضلات الظهر الذى أوصى به إستشارى جراحة العظام الذى رأى ضرورة إخضاع جاسم له ، بدأ دكتور نايف يرتب لذلك بالإتفاق مع إحدى المستشفيات المختصة فى الولايات المتحدة الأمريكية .

        وبهدوء ودماثة الطبيب المخلص الصديق ، وبدون تضخيم وبدون تخويف أوضح الدكتور نايف لسعاد حقيقة حالة جاسم الصحية كما ورت بالتقرير الطبى الذى سلمه لها ، فأخذته بيد ترتعش وبدأت تقرأه بصعوبة بالغة ..

 

 

 

 

 

 

 

تقرير طبى

الإسم   :             جاسم أحمد الناصر      

الجنسية        :              كويتى

تاريخ الميلاد :         28/10/1955

التشخيص :            ….           ….           ….

….        ….        ….

….        ….        ….

وقفت سعاد تقرأ التقرير المشتمل على الفحوصات الخاصة بجاسم ، التى تحتوى على نتائج الأشعة المقطعية للفقرات الصدرية والقطنية ، واختيار العصب الحسى ، وتخطيط العضلات .. بينما أخذت الدموع والأحزان والأشجان تنسج على عينيها غشاوة حالت دون أن تعى فى النهاية غير كلمة بشعة واحدة … شلل …شلل ..شلل !!


يوصى دكتور نايف أم أحمد بأن تلازم جاسم خلال فترة العلاج فى أمريكا ، يشرح لها ضرورة مرافقته طوال هذه الفترة لأنه فى أمس الحاجة إلى الحنان الذى لن يتحقق إلا بوجودها بجواره ، وخاصة أنه سوف يعرف قريباً أنه قد أصبح غير قادر على الإستمرار فى تقديم واجبه المقدس وعاجز زملائه المحاربين ..!

صراحة .. لم يكن جاسم يتصور مدى حجم إصابته بالرغم من كونه طبيباً ! لم يكن يدرك الوضع الصحى الذى صار عليه ، لذا كان يهوى على نفسه أنه سرعان ما سرعان ما سيقوم على قدميه ، وستكون له القدرة مرة أخرى على الإستمرار فى تقديم واجبه الإنسانى تجاه أخوانه المحاربين ، لكنه ، فوجىء بأنه قد اصبح غير قاجر على تحريك قدميه ..وساقيه .. وحتى تحريك أصابعه ..!

وفى هذا الوقت ، بعد إنتشار الخبر الذى إنفجر كالقنبلة أخذت الدعوات تتصاعد من قلوب تحب جاسم أكثر من روحها ظل الجميع يدعون له راجين من الله أن يهبه الحياة والصحة وطول العمر ، تنهمر دموع سعاد كما ينهمر  المطر ، يختلط الحزن بالنحيب والرجاء ، والدعاء بالعويل والبكاء ، الكل يدعو لجاسم بالنجاة من المحنة الصحية الصعبة .. الكبار والصغار والاطفال ..

يختلط الحزن بالفرح .. والكويت تتحرر ، تتعافى ، تتخلص من آثار الجناة الظالمين ، وجاسم مازال راقداً ، لا يدرى شيئاً عن الدنيا ! غائباً عن الوعى لا يستطيع أن يشارك فرحة التحرير التى كان ينتظرها من كل قلبه ، والتى كان يتمنى أن يشارك فيها بنفسه ، لكن .. كانت لطمة الواقع أقوى ، فها هو مازال طريح الفراش مشلولاً عاجزاً ، غير قادر على الحركة على الإطلاق !

آه .. مشاعر غريبة متضاربة ، تتراوح بين الحزن الشديد ، والخواف على جاسم ، وبين الراحة الكبرى ، والفرح الغامر بعودة الكويت محررة من الأعداء ، الذين إندحروا ، وإسحبوا ، بعد أن أعلنت الخبر الإذاعات العربية ، والعالمية وبعد أن أعطى رئيس النظام العراقى أوامره للجيش فى لكويت بالإنسحاب فوراً !

الله أكبر .. الله أكبر  .. الخبر اكبر من أن يصدق !

الإذاعات تتوالى .. الخبر يتكرر :

أعطى الرئيس النظام العراقى أوامره للجيش العراقى بالإنسحاب  فوراً من الكويت !

        تنفجر دلال فى البكاء وهى تحضن أمها التى لا تكف عن إطلاق الزغاريد ، فى حين تظل دانة تدور حول نفسها ، وهى تضحك وتبكى ، بينما تقرأ سناء آيات الذكر الحكيم على روح زوجها الشهيد ، وأخيها البطل الذى مازال منظر دمائه ماثلاً على الأرض أمام عينيها !! وتسهب فى الدعاء من أجل نجاة أخيها عادل الأسير ، أما والدتها فقد عجزت عن النطق  والحركة ، وإن لم تنقطع عن الصراخ والصياح والبكاء والعويل !

        لا ينام أحد الليل .. الكل يريد أن يطمئن إلى صحة الخبر ، لكن للأسف .. الهواتف مقطوعة ! يسهر الجميع الليل فى ترقب وإنتظار وما يلبث أن يبرغ الفجر .. فجر الحرية والخلاص والإنتصار ! وما تلبث أن تشرق الشمس .. شمس الفرحة .. شمس الحرية .. شمس الحياة !

        يدق الجيران عليهم الباب وهم يصيحون ويصرخون فى فرح حقيقى وصخب بلا حدود .. ردت الكويت .. ردت الكويت ! الحمد لله .. الحمد لله.

        تخرج دلال وسناء ودانة تستقبلن الجيران الذين تجمعوا فى الشارع وفى الحوش أمام البيت ، يهنئون بعضهم بعضاً بفرحة رجوع الوطن ، وهم يدفعون الأعلام وصور الأمير وولى العهد الامير ، وشعارات وهتافات عالية مدوية تخرج من الاعماق .. تملأ الحناجر .. تحرك القلوب .. عاشت الكويت .. عاش جبر .. عاش سعد .

        تظل تدور الأيام ودلا تنهمك فى العمل فى إحدى دور الرعاية للمعوقين  تتابع حالة إبنتها دانة التى أصيب من جراء أهوال الحرب بتلعثم فى الكلام وثل فى اللسان ، إستدعى علاجها طبياً ، كما كانت مشغولة تماماً بمتابعة حالة أمها التى ثبت أنها مضطربة نفسياً ، إمكانياتها المفقودة ، وتسترد طاقاته وقدراتها على العمل

        كانت دلال نفسها فى حاجة مساة إلى الوقوف مع نفسها  من جديد بعد عبور هذه المحنة العنيفة ، اتى أثرت فيه تأثيراً عميقاً ، والتى أحست إثرها بتغيرها الداخلى ، بعد أن زالت الغمة ، وبدأت الحياة تعود شئياُ فشيئاً لطبيعتها ..!

        وبالفعل ، تبدأ الامور تنتظم ، تبدأ تتخذ الترتيبات اللازمة لبدأ عودة الكويتين الموجودين خارج حدود الوطن تدريجياً إلى الكويت .. إلى حضن الوطن .. كما تبدأ الامور ترجع إلى طبيعتها ، بعد أن تو وقف إطلاق النار نهائياً فى حرب الخليج .

        وفى المملكة العربية السعودية يستقبل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز سمو ولى العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله الصباح وعو يقول له :

– إن الأيام أثبتت أن الكويت والسعودية بينهما ود وإتصال لم تشبه شائبة يوماً من الأيام ، وإن زادت هذه الاحداث هذا الإلتصاق والإلتفاف ، وسوف تزيدها خيراً مما كانت عليه .

      فى حين يؤكد سمو ولى العهد ورئيس مجلس الوزراء إعتزار الكويت حكومة وشعباً بمواقف خادم الحرمين الشريفين إيزاء العدو العراقى الغاشم على الكويت ، وقال :

– إن العلاقة بين السعودية والكويت سوف تشهد فى المستقبل القريب مزيداً من التعاون والتلاحم فى جميع الميادين الإقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية .

        آه .. حقاً .. المواقف صنعت ملاحم من البطولة سوف يعتز بتدوينها التاريخ ، وها هى عاصفة الصحراء تعتبر بجميع المقاييس ملحمة بطولية لقوى التحالف هذا ما يؤده نائب رئيس الأركان العامة اللواء الركن خالد جابر الصباح ، الذى شارك فى رفع العلم الكويتى ، على أول أرض كويتية من أرض الوطن يتم تحريرها وهى النويصيب المركز الحدودى الكويتى الذى قام رجال الكويت الأبطال بأداء صلاة الشكر لله والحمد لله كما قاموا بتقبيل الأرض الطيبة  التى طالما أشتاقوا وتمنوا أن يخطوا فوقها وأن يطأوا ثراها .. ! حمد لله .. حمداً لله .. ردت الكويت .. ردت الكويت .

        كذلك فعل اللواء الركن خالد جابر الصباح ، الذى شارك فى الأعمال العسكرية التى حررت الكويت بقيادة الجنرال شوار تزكوف ، وصاحب  السمو الملكى الفريق أول ركن خالد بن سلطان بن عبد العزيز ، الذى كان يتعامل طوال مدة الحرب بحسة الدينى والعربى والإنسانى ، إلى جانب قادة القوات الأخرى البريطانية والفرنسية والمصرية والسعودية وبقية الأخوة من دول مجلس التعاون الخليجى دون إستثناء ، سواء فى غرفة العمليات المشتركة ، أو فى القيادات المتقدمة ، وما تم إتخاذه من كافة الإستعدادت والخطط .

        وكان الأبناء الكويت الذين  شاركوا فى هذه الحرب دور اساسى ، فقد كان الجميع ينظرون للشهادة على انها شهادة على ارض الكويت ، واكنت الفرحة عظيمة فوق الوصف والتصوير والتعبير عندما تقدمت القوات المتحالفة ، وأخذت تعانق أرض الكويت ، حيث رفع علم الكويت الحرة المستقلة فى إحتفال مهيب ، أقيم وسط العاصمة شارك فيه أفراد القوات المسلحة الكويتية ، الذين قاموا بأداء النشيد الوطنى وسط جموع الجماهير التى إحتشدت تعبر عن الفرحة الغامرة وهى تصفق ، وتهتف ، وتهلل ، فى سعادة بالغة بهذا الإنتصار الكبير !

        يرفع العلم الكويتى فى ساحة الصفا ، حيث دخلت القوات المشتركة مدينة الكويت ، تصاحبها قوات المقاومة الوطنية الكويتية ومكان يقف بينهم بدر وعبد الله وإبن خالهما إبراهيم وسط هتاف ، وتصفيق وتهيليل الجماهير الغفية التى غمرتها الفرحة بهذا الإنتصار الكبير .. حمداً لله .. حياهم الله .

        تستمر السيارات تتحرك تحمل الفرحة إلى كل القلوب ، والاعلام الكويتية تخفق عالياً فوقها ترفرف شامخة تحت سماء الكويت وهوائها .. ومياه البحر تعانق أرضها ، تبارك لأهلها ، أه .. لوحة فرح حلوة ترسم السعادة على قلوب عاشت طويلاً تنتظر هذه اللحظة الحلم ! اللحظة الأمنية ! لحظة عناق المواطينين لفرحة تحرير الوطن ! لحظة تنطلق فيها أصوات الرجال بالإذان :

        الله اكبر .. الله أكبر

        أه .. الحمد لله .. أخيراً تتحقق الأحلام . أحلام العودة إلى الكويت المحررة , وكان خالد واحد من هؤلاء الحالمين بالعودة إلى أرض الوطن ، كان يشعرها من عل رغم أن الطائرة كانت تحلق وسط سحب مظلمة  سوداء ! .. كان يدمع حزناً وفرحاً وشوقاً ، وهو يحلم باللحظة الأمنية التى تطأ فيها قدماه أرض الوطن الذى ظل يقلبه بعينيه وقلبه ، وروحه ، وهو يحلق تحت سمائه بطائرته العسكرية يقصف معاقل الظلم وجحافل العدوان .. !

لكن .. لأسف ، لم يتحقق الحلم الذى طالما راود خياله ، فقد فقدت طائرته فى إحدى الطلعات الجوية .. ولم تعج إلى القاعدة بعد إقلاعها .. وبقى خالد فى عداد المفقودين ، الذين قدموا أنفسهم فداء الوطن .

        وفوق أرض الوطن .. تألق الحب الحقيقى ال1ى يربط بين المواطنين والوطن ، فى لحظة شوق وعناق خالص ، صادق ، صاف .. فى لحظة حب جارف ، عارم ، غامر ،  أخذ الرجال خلالها يكبرون ويهتفون ويؤذنون فى حين أخذت تنطلق زغاريد النساء تنشر البهجة والفرح ..!

        يتجمع اهل الكويت مع جنود التحالف عند مبنى السفارة الأمريكية يلتقطون الصور مع الجنود ، يقدمون لهم الهدايا والحلوى . فى حين ترتفع أعلام الكويت وأعلاه أمريكا .. آه .. هذا هو الفرح الكبير .. الكبير .. الحمد لله .. الحمد لله .

        الكل فرحان ، الكل مبتهج ، لكن .. سناء .. ما تزال تبكى ، أنها حقاً لا تقدر ، لا تستطيع أن تكبت إنفعالها ، فتنهار باكية وهى تندفع تحو صورة صدام حسين تلقى عليها الحجارة ، وهى تبكى جمال شقيقها الكبير الذى قتله جنود الطاغية ، وعادل شقيقها الصغير الذى أسره زبانية صدام .. ! وفى الحزن ، وهذا الرثاء ، لا تنسى أن ترفع سناء رأسها إلى السماء ، داعية ، راجية ، ان يحفظ الله الكويت .. وشعب الكويت .

        تظل الهتافات ، والمظاهرات ، تدور ، تلف ، مصحوبة بفرحة التحرير ، فتشمل العديد من العواصم العربية والاجنبية ، حيث تتجمع أعداداً زاخرة ، من الشعب الكويتى تعبر عن الفرحة ، الفرحة النابعة من قلب القلب .. الحمد لله .. الكويت حرة .. الحمد لله .

        وفى تلك الأوقات التى عم فيها الفرح بتحرير الكويت معظم العواصم العربية ، والعالمية شهد شارع جامعة الدول العربية فى حى المهندسين بالقاهرة حشداً هائلاً من الشعب الكويتى والمصرى ومعظم الشعوب العربية التى شاركت الكويت فرحتها وبهجتها . الله .. ما أحلى ساعات الفرح !

        .. كان الكل فى الشارع الكبير يتسابق فى الهتاف ، والرقص ، والغناء ورفع الأعلام ، واليفط ، واللافتات ، وكان أبو جمال وسط هؤلاء يرفع العقال يلفه فى يد ، يرقص به ، بينا يرقع بيده الأخرى علم الكويت خفاقاً عالياً .. ناسياً متناسياً فجيعيع فى ولديه ، الشهيد جمال .. والأسير عادل ..!

        ورغم الحزن ، رغم الأسى ، رغم الجرح ، كان الفرح كبيراً .. كبيراً ، عظيماً .. عاتياً .. مدوياً ! تعبر الفرحة النفوس تاركة وراءها الأمل والرجاء فى تصحيح الاوضاع ، نحو غد مشرق حافل بهج ، غد عامر بالخير والحب .. والرجاء .. والعطاء . وتبقى تطوف الفرحة بتحرير الكويت كل شوارع الكويت ، فترتفع اعلام الكويت خفاقة عالية فى ساحة الصفاة ، تخفق تحت سماء الوطن ، ترفرف فوق رؤوس أبناء الوطن ، وأصدقاء الوطن .. هؤلاء الرجال البواسل الذين ساهموا فى تحرير الأرض .. والإنسان !

        وفى هذه اللحظات الحاسمة ، الحانية ، تنطلق من الأفواه والحناجر ، كلمات تنتع من القلوب ، تهتف من الأعماق :

وطنى الكويت سلمت للمجد              وعلى جبينك طالع سعد

يا مهد أباء الاولى كتبوا                سفر الخلود فنادت الشهب

الله أكبر إنهم عرب                      طلعت كواكب جنة الخلد

وطنى الكويت سلمت للمجد              وعلى جبينك طالع السعد

 

 

 

 

 

 

الفصل الثامن والعشرون

اشباح العذاب !

   تدخل دلال بيتها فى السالمية .. تقف فى صمت ووجوم  وأسى ، إلى الجدران القاتمة الصامتة ، وبقايا الأثاث المبعثر الذى تناثر فى كل مكان ! تعود دلال تنظر إلى أرضية البيت ، فتتصور شكل أمها وجدتها وما حل بهما ، وعلى صوة رأتهما بعد تلك المداهمة الملعونة ، فيمتلىء وجهها رغم برودة الشتاء بحبات عرق ساخن تزيحها بأطراف أصابعها ، وسرعان ما يتساقط فوق جلدها ، فيغرقها فى تيارات من الذكرى المريرة الأليمة ، التى لا ققب لها بإحتمالها ، فتسيل دموعها ، ولا تعرف كيف توقفها ، ولا كيف تمنع سقوطها !

        تقف دلال ساكنة جامدة فى مكانها .. ترقب فى وحشة وخشية الصالة الواسعة وقد أحست بها صندوقاً معدنياً صغيراً ، يعصرها ، يطبق عليها ، يخنقها ، يسحقها رغم أنها تعرف أن تلك الجدران قد تحررت من أسر المعتدي ، وتخلصت من زبانية صدام ، هؤلاء المجرمين العتاة الذين جعلوا البيت معتقلاً يضم جدرانه صنوف التعذيب والعرب والهوان !!

        نعم .. مالزال هواء البيت مشحوناً بعذاب الذكرى .. آه .. جو لا يطاق .. فالخوف ملتصق بالنوافذ والأبواب والجدران !! تنظر دلال فى قرف ونفور لإلى المقاعد المحطمة والكنب المكسر والتائر المحترقة الممزقة ، تتلفت حولها وهى تشعر برغبة عنيفة فى تغيير كل هذا الأثاث ، الى يحمل أثار الإحتلال ، فمازال حطامه مشحوناً بأنات الألم ، وحريق الأحزان !!

        حقيقة . آثار الإحتلال . وعذاب العدوان وهوان الهوان / ما تزال تجثم على النفوس ، ما تزال تبقى تطحن القلوب ! آه .. إن الآثار باقية .. باقية ، حتى وإن أختفت المسببات ، فهاهى الحقن الفارغة متناثرة على الأرض ، والله وحده يعلم ما إذا كانت مليئة بالإيدز أم الموفين ! وهاهى أمواس الحلاقة ، وأعقاب السجائر تملأ المكان ، وهاهى بعض السكاكين الحادة والأسلاك وبقايا  الثياب الممزقة المليئة ببقع الدماء الجافة ! وها هى الحبال التى كانوا يستخدمونها فى بط وتقييد الأسرى !! وهاهى بعض القضبان المعدنية والزجاجات المهشمة .. و.. و..و ..و ..و .. ألخ .. ألخ .. !!

تجرى بسرعة من مكانها تتجه إلى الحمام ، تتقيأ ، تفرغ ما فى أمعائها .. تستند إلى الجدار تلتقط أنفاسها .. وهى تتلفت تنظر حولها .. فتفاجا بوجود أسطل قذارة مقززة تزيدها غثيياناً وهلعاً وعذاباً ، وهى ترى الأسنان والضروس والاظافر والشعر والدماء الجافة السوداء تغطى الارض داخل الحمام وتتناثر بقعاً فوق جدرانه الصفراء ..!

        تزداد دلال شحوباً ، وغثياناً ، وقشعريرة رهيبة تخشن جلدها ، فيق رعباً شعر رأسها ، وصرخات العذاب وأنات الألم ، تدوى تنقب قلبها وهى تتخيل عادل شقيقها وكيف كان يتلوى من الألم والوجع والتعذيب  ، وهو ورفاقه الأبطال ، هنا .. داخل بيتها !!

        تزداد دلا رعباً وهى تلمج أشباح العذاب تحوم داخلها تلتف بالظلام ، بالسواد والأسلاك والدماء ، وهى تملأ المكان كله الذى تحول من بيت مبهج إلى قبو مظلم مخيف !! قبو غرق فى ظلمات الليل .. وطيات العرب .. ودموع الألم .. الذى يستحق قدرات
الإنسان !

        تحاول دلال بكل ما تملك من قوة ومقدرة أن تتحمل هذا الهول الذى تعيشه هذه اللحظات الحارقة ، تتصبر على ما ترى وهى تفكر فى مخرج لهذه  الازمة التى تعيشها  ، فهى لازم ترجع مع أمها وإبنتها لتعيش فى بيتها .. بعد أن انتهت الحرب .. ولابد أن تعود الامور إلى ما كانت عليه قبلها ..!

        وهنا .. مع الصمت واظلام والسكون ، تحس دلال ثقل الوحدة ، وبشاعة الذكري ، وهول الآبة ، ورعب الظلام ، فتشن الهخجوم ، عليها جحافل الأحزان ، وأشباح العذاب ، فقشعر بدنها هلعاً ، وفكرة رهيبة بشعة تهجم هى الأخرى عليها بدروها ..!

        نعم .. تنتقض دلال جزعاً وفزعاً يقشعر من الرعب بدنها ، لهول هذه الفكرة الرهيبة التى دهمتها ، وسيطرت على عقلها ، فى هذه اللحظة العينة ، التى جعلتها تتساءل فى هلع وجزع وجنون :

– يجوز أمى تكون على حق ! يجوز تكون جدتى صحت عقب ما تركنا البيت وخليناها بروحها ! يجوز تكون طلعت تدورنا وهى ما تدل الطريق .. ولا تدرى وين إحنا !!

        آه .. تتنهد دلال جازعة مهمومة حزينة وهى تناجى خواطرها :

– يجوز تكون صحت من غيبوبة السكر ولما شافت العراقيين قدامها تكون سبتهم ولعنتهــم ؟!

يجوز يكونوا طقوها مرة ثانية وأخذوها وياهم وأسروها ؟! آه . ما ادرى . ما آدرى .. بس قلبى يأكلنى عليه ..  صدق .. يجوز أمى عندها حق .. كان لازم نتاكد من موتها قبل ما نروح ونخليها ! بس .. حنا كنا خايفين .. كنا مرتبكين .. ما كنا عارفين شنو نسوى ولا وين نروح !! وما كنا نتوقع أن جثتها تختفى ..وإن عادل ما راح يقدر يدفنها .. ما كنا نتوقع إن هذا الموقف راح يصير أبداً .. ما كان نتوقع !

        تشعر دلال بأسى دفين ، وهى تغوص فى ذكريات حياتها التى تقطعها بالنظر إلى الواع الذى آلت ، وذاك الواقع القاسى الذى يظهر الآن على حقيقته بالقرب منها ! واقع صارخ صريح يجعلها تنحنى تحت وطأة الظروف ، واقع يحاتج إعادة النظر إليه من جديد ، والبحث فى سلبياته ، وضرورة الوصول إلى إيجابياته !

        آه .. كم مضى من الزمن عليها فى محنتها هذه ؟! تنظر دلال إلى ساعتها ، وسرعان ما تفيق من شرودها ، فتطرد عنها أشباح عذابها وحزنها ، تقف وعيناها مسلبتان ، وجفناها مسدلان ، ودمعها ما يزال يسيل ، تستعيذ دلال بالله من الشيطان الرجيم ، تقرأ سورة الناس :

– بسم الله الرحمن الرحيم ” قل أعوذ بربد الناس .. ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس من الجنى والناس ”

                                                                صدق الله العظيم

        ترفع دلال ناظريها ، ترفض أن تصر على أن تأمل الجدران القاتمة حولها ، رغم أن عينيهات ما تزال تدمع ، فتمضى تفتح الباب ، تخرج إلى الطريق ، تقود سيارتها متجهة إلى جمعية الهلال الاحمر الكويتية ، حيث تتلقى مع الطبيب النفسى … دكتور نجيب الذى تطلب منه المساعدة والعون ، لإبداء الرأى فى حالة أمها وإبنتها وإخيها عادل الذى رجع من الأسر بعد أن حررته بعض فصائل المعارضة العراقية ، وأطلقوا سراحه مع عدد كبير من السجناء بأحد السجون فى العراق ، عند بدء حرب التحرير !

        يصل دكتور نجيب ، حسب الموعد المتفق عليه مع دلال ، التى تجلس فى صالة البيت تحب به ، ثم تبدأ تشرح له حالة خالتها أم جمال ، وأمها ، فى حين وقفت دانه تنظر إليه فى خوف من بعيد ، أما عادل ، فقد كان قابعاً فى غرفته ، يغلق بابها عليه ، رافضاً أن يخرج منها ، ويظل يهذى طوال الوقت صارخاً  

– جمال .. جمال .. لا .. لا تطقوه .. تركوه .. فكوا أخوى .. لا .. لا .. لا تحرقوه .. لا تكهربوه .. خلوه .. خلوه .. جمال .. جمال !

        يشتد صراخه ، يرتفع صياحه ، ثم ينهار فى بكاء رهيب ، وما تلبث أن تنتابه حالة هياج عصبى عنيف تجعله يركض فى الغرفة يرتطم بالجدران ، يصطدم بالأثاث ..!

.. وحين فتح باب الغرفة ودخل عليه دكتور نجيب لتهدئته وفحص حالته ، إذ به ينتفض
خائفاً ، راجعاً إلى الوراء مذعوراً منه ، بل .. ومن أى شخص أخر يدنو ويقترب منه ..
حتى أمه !

        .. تعود دلال تجلس فى الصالة مع دكتور نجيب بعد أن خرج من غرفة أخيها عادل تجلس تشرب دموعها مع الشاى ، وهى تشكو حالها الدكتور نجيب فى تأثر شديد ، وبكاء متصل مستمر :

– ما أدرى شنو أقولك وإلا شنو أحكى لك .. مدرتنا الحرب .. خربت نفوسنا .. وانت الحين دكتور نجيب راح تشوف بنفسك حالة بيتنا .. وراح تشوف سنو صاير فى أهلى .

        تنتهد دلال ، وهى تلتفت وراءها ، كأنها تخشى أن يسمعها أحد من أفراد أسرتها ، ثم تعود وتتابع حديثها :

– ترى أما ما ادرى أبتدى بمن فيهم .. ولا أعف شنو أحكى .. لا شنو أوصف لك .. مانى عارفة بمن أبتدى .. ببنتى وألا أمى وألا اختى وألا أخوى وألا زوجة أبوى اللى من يوم ما انقتل ولدها الشاب جمال قدام عنيها .. وهى صار فيها هياج عصبى صارت تكسر كا شىء قدامها .. وهى تصرخ وتبكى .. وراح عقلها مرة واحدة وحنا مو عارفين شنو نسوى وياها .. نخاف يصير فيها شىء ! حنا خايفين عليها .. وخايفين منها بنفس الوقت ! دكتور .. أرجوك ساعدنا .. ساعدنا .. ! ترى ما عاد فينى شدة ولا قادرة أتحمل .. مانى عارفة أروح لمين ؟!

        .. تنهار دلال فى بكاء شديد وهى تقول له :

– حتى أنا نفسى دكتور رغم إنى قاعدة أقاوم الضعف فى نفسى .. وأظل اتعلق بحبال الأمل .. إلا إنى مرات أحس بنوبات ضعف حادة  تصيبنى .. مثل الحالة اللى انا فيها الحين .. مرة أحس إنى قوية وقادرة على كل شىء بفضل الله .. ومرات أحس إنى رايحة مرة واحدة .. وما فينى شدة .. ولا صبر .. ولا تحمل .. !

        تتابع دلال حديثها وهى تشعر بأنها كما لو كانت تدلى بإعتراف يريحها ، يخفف عنها عينها النفسى ، ويزيح بعض العذاب عن قلبها ، تعود تتكلم مع  دكتور نجيب ، تسأله عن سبب توترها وإضطرابها :

– أعتقد دكتور نجيب إنى مانى صاحية .. أعتقد إنى أنا محتاجة لعلاج نفسة مثله ..!

        ويقرر دكتور نجيب أن افراد أسرة دلال بحاجة ماسة إلى علاج نفسى ، كما يقرر أنه لابد من الأنتظار بعض الشىء إلى ان تعود لخدمات الصحية إلى سابق عهدها .. وفى نفس الوقت يطمئن دلال ، يؤكد لها أنها انسانة قوية ، قدرته تصمد ، وتتحمل ، وأنها ربما تعانى الآن بعض الشىء من تأثير الاحداث .. إلا أن حالتها لا تدعو للقلق نهائياً والحمد  لله…

        تسعد دلال بما تسمع ، ويسعدها أكثر وأكثر أنها تشعر بتفجر قوتها الكامنة ، وإنطلاق قدراتها الذاتية فها هى تحس ثانية أنها قادرة بفضل الله على مواجهة أعباء  الحياة ، وتحمل كل همومها وحدها !

        تظل دلال تفكر وتفكر فهى تعرف أنها تعرضت لإمتحان شديد ، كما تعرف أن الضغوط التى تعرضت لها كانت ضغوطاً رهيبة هائلة ، لا يقدر كثير من الناس على مقاومتها ، والصمود أمامها ، فهى تدفع إلى الأضطراب والإهتزاز .. لكنها لن تستسلم .. لن تستسلم .. هى قوية بعون الله ، وستعرف كيف تغالب الضعف وتثبت فى موقعها ، وكيف ترفض أن تكون شخصية مضطربة مهزوزة .. هى ستحارب الوهن فى ذاتها ، وهى لن تعجز عن ذلك حتماً وستعرف كيف تنقذ بعون الله !

        عندئذ .. يبدأ صوت هامس يلح داخل دلال ، يدعوها للحركة ، يدعوها لأن ترفض معاناة تأثير الصدمة النفسية القاسية ، وذاك الفزع الذى ظلت تنتفسه طوال الليل والنهار ، أثناء فترة الإحتلال .. ! وهنا .. تذكر دلال على الفور كلمات سمو الامير ، الوالد الغالى الحبيب ، حين قال فى رسالة وجهها إلى كل فرد من شعب الكويت :

– أيها الإخوة والاخوات :

        إن علينا الى أن ننظر إلى المستقبل بمنظار الأمل المشرق ، فلتمتلأ قلوبنا بالإيمان ونفوسنا بالثقة ، ولنكن يداً واحدة لبناء الكويت تشع نوراً وخيراً وتنشر المحية  والإخاء والسلام فى ربوعها وبين أشقائها واصدقائها

        والله سبحانه وتعالى يوفقنا ويسدد على طريق الخير خطانا وهو نعم المولى ونعم النصير .

                                                        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        تظل دلال تسترجع كلمات الوالد الحبيب ، سمو الأمير ، مرات ومرات ، فتحس بالإرتياح العييق .. نعم حينئذ ، تشعر دلال أن قلبها قد إمتلأ إيمان ، ونفسها قد حفلت بالثقة والامان ، وأنها تستطيع أن تنظر بالفعل نحو المستقيل بمنظار الأمل .. بدلأ من نظرات اليأس والقنوط والإحباط ..!

نعم .. بدأت دلال تنهض من جلستها الكنبية المحبطة ، بدأت تسعى نحو تحقيق الذات عملياًَ ، بدلاً من أن تستمر فى تعذيب نفسها بالنظر نحو الماضى ! نعم . صارت تسعى بكل جهدها ، لتأخذ حقها من الحياة ، ولأن تعطى ما تسخو به لمن حولها ، دون أن تذوب فى بحار الوحدة والتية ، والإنسحاب من الحياة !

فى الواقع .. ثبت لدلال بما لا يدع أدنى مجالاً للشك أنها تغيرت ، تغيت ! أصبحت قوية قادرة على مواجهة الواقع وماحربة الشعور بالحاجة والإحباط داخل نفسها ، نعم مهما كان الامر ، ومهما كانت الظروف فهى ستفتدى الآخرين بجياتها ، وسوف تناضل الحياة من أجل أسرتها .. ولن تهمل فرداً واحداً منها ، وأنها بعون الله قادرة على هزيمة اليأس ، ومحاربة الضعف .. وأنها سوف تعرف كيف تصنع لنفسها دوراً هاماً وحساساً فى هذه الحياة

تظل دلال تنتظر بعين الرجاء أن تتحسن الظروف ، لتبدأ فى علاج أسرتها التى تاعنى آلاما نفسية وعضوية بشعة رهيبة مبرحة بسبب الحرب المدمرة التى كشفت لهم عن وجهها البشع القبيح ، ذلك الوجه المرعب المخيف الذى أفرز خوافاً ساحقاً حطم نفوسهم .. وها هاى نتائج آثاره السيئة تظهر عليهم الآن شيئاً ,, فشيئاً !

لكن هناك فى المستشفى العسكرى فى الرياض ، بينما كان جاسم فى فراشة مغطى بالأربطة ومحاطاً بكل أنواع العناية وشتى صنوف الرعاية والإهتمام ، لاحظ جاسم أن هانك إهتماماً زائداً عن الحد يدور حوله ! بالإضافة إلى إتصالات دائبة تعود كلها لتشخيص حالته ! كما لفت نظره كثرة  دخول وخروج زملائه الأطباء المترددين عليه إلى جانب حركة زوجته ! وأخته وأولاده وأسرته ! !

وفى موعد الزيارة التالى ، عندما حضرت سعاد بدون الاطفال حسب رغبة جاسم ، وحسب رغبتها هى أيضاً ، كى تبقى مع أطول فترة ممكنة ، دون أن يسبب له الصغار ضجة وضوضاء تزعجه وتضايقه وخاصة ما قد يسببه أحمد بالذات الذى كان يتحدث مع أبيه فى كل الأمور ، ويناقشه فى مسائل حساسة قد تسبب له حرجاً عندما يتكلم فيها أو يشعر بالألم على وجه إبنه الكبير وهو ينظر فى حزن إليه خلال رقدته على السرير وهو مغطة بالضمادات !

.. حينئذ أخذ جاسم ينظر إلى زوجته طويلاً بعينيه العميقتبن السحيقتين ، اللتين يجيد التحدث بهما واللتين لا يخفى تاثيرهما على الآخرين .. من خلال نظراته العميقة الناطقة النافذة المعبرة .. جون حاجة إلى أحرف وكلمات !

        ينظر جاسم إلى سعاد وهو يحاول أن يكون متماسكاً قوياً كما إعتاد دوماً أن يكون ، يقول لها ، وهو يركز بصره على عينينها ، ويطالع مؤخرة السرير ، محدداً لها بعينيه .. ما يريد .

        لأنه بمجرد أن يقرأها سوف يعرف كل شىء ! سوف يكتشف فداحة إصابته ! سوف يعرف أنه قد أصبح مشغولاً !!!

        ولم تفلح المحاولة إزاء إصرار جاسم وإلحاحه على الإطلاع على التقرير .. تظل سعاد راكعة على الأرض ، تحول أن تلملم نفسهها ، وإن تلتقط أنفاسها ، وهى تسمع صوت جاسم يناديها بإلحاح يرحق قلبها ، يجرح إحساسها :

– سعاد .. إعطينى التقرير .. أرجوك سعاد .. إعطينى التقرير .. سعاد .. .. .. !!

        لا تحمل أعصاب سعاد صوت جاسم الخافت الواهن وإلحاحه المتصل ، ورجائه المستمر .. ! كما لا يحتمل قلبها العاشق رءيته راقداً ضعيفاً هكذا أمامها .. لا حول ولا قوة ! .. لا تحتمل أعصاب سعاد رؤية جاسم طريحاًَ فى فراشة ، أسيراً بين أربطة ضماداته محروماً من صحته .. مجرداً من عافيته ..!!

تنهض سعاد وهى لا تقوى على حمل الأوراق التى سقطت منها على الأرض ، فتبعثرت .. وتناثرت حولها ! وإذ الدموع  التى كانت تخفيها ، والتى كانت تحاول جاهدة أن تبلعها ، وأن تداريها ، وأن تواريها ، إذ بها تنهمر كالمطر .. وإذ بسعاد تنفجر كالبركان فى بكاء حارق ملتهب ، وهى ترتمى على جاسم ، تقبل رأسه ، تمسح وجهها فى شعره ، وهى تنتحب وتقول له من بين أنفاسها المتقطعة الممزقة :

– أنا ما راح أخليك يا جاسم .. ما راح أخليك يا جاسم .. أنا ايديك ورجليك .. راح أكون العمر كله تحت رجليك .. وأنا مهما فعلت ومهما سويت ماراح أقدر أرد لك يا جاسم ذرة واحدة من اللى أنت عملته لوطنك .. انا لك يا جاسم والشر مش لك .. انا لك والشر مش لك .. !!

الفصل التاسع والعشرون

دموع القمر

 

تمر الأيام فى قلق متزايد ، فحالة جاسم الصحية خطيرة ، متدهورة ، يعمل دكتور نايف ومجموعة من الاطباء المستحيل لإنقاذه ، تتخلع قلوب الجميع خوفاً عليه ، تتصل الصلاة بالدعاء ليل نهار من أجل جاسم :

– اللهم إنا لانسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه .

        تستمر النفوس الجازعة تطلب من الله أن يمن على جاسم بالصحة والشقاء .. حمداً لله ، يتجاوز جاسم أخيراً مرحلة الخطر ، ومرحلة الشعور بالصدمة ، ويصبح فى حاجة إلى بدء العلاج الطبيعى ، بعد أن اصبح عاجزاً عن النطق ؟؟!

تهدأ المخاوف قليلاً على جاسم تطمئن  سعاد بعض الشىء لأنه بدأ فى التحسن ، تسجد لله شكراً أنه حى يرزق وأن اله قد كتب له النجاة ، كما ترتاح ليلى وتنزاح عنها مخاوف الشعور بالخطر على أخيها والحمد لله . أما أم جاسم فقد كانت معلقة بين الحياة والموت وروحها لا تبرح أبنها ، حتى أنها نسيت كل همومها ، بعد أن أنصبت مشاعرها وتركزت على جاسم .. ومصير جاسم .. !

أما الحين .. فهى تشكر الله فى كل صلاة ، وهى تسبح بحمده ليلاً ونهاراً على نجاة ابنها من موت محقق أكيد .. حمداً لله ، وفى نفس الوقت تبدأ ترتيبات عودة المواطنين إلى الكويت ، التى إتخذتها السلطات الكويتية بعد التحرير ، لكن ..  ما تزال سعاد فى مأزق لأنها مع جاسم ، وجاسم يحتاج إلى علاج طبيعى طويل والحالة الصحية فى الكويت لم تزل فى حاجة إلى إعادة البناء ..!

نعم .. الظروف داخل الوطن لا تسمح الحين بمتابعة مثل هذا النوع من العلاج الذى يتطلب عناية خاصة ، وأجهزة معينة غير متوفرة الآن فى مستشفيات الكويت التى نهبت عن آخرها !! لم يترك الغزاة فيها شيئاً ، لا أدوية ، لا أجهزة ، لا معدات ، ولا حتى أطباء ، قتلوا عدداً كبيرأ منهم وإعتدوا على الكثير منهم ، وعلى أفراد الهيئة التمريضية الذى تناقص عددهم بشكل رهيب مما أثر وما زال يؤثر على الحالة الصحية فى الكويت !

تشعر سعاد بصعوبة الموقف ، فخالتها أم جاسم تود العودة إلى الكويت ، لأنها سمعت أن كثير من الأسرى الكويتين قد رجعوا بعد أن حررهم  ثوار المعارضة العراقية الذين ذى رتبة عالية فى الجيش العراقى إستطاع أن يحرر وحده عدداً كبيراً من أسرى الكويت يتراوح ما بين ستمائة إلى سبعمائة أسير ، كان قد أخذ قوائم بأسمائهم وأطلق سراحهم ، وكانت أم جاسم ترجو الله أن يكون زوجها من بينهم إنشألله

أيضاً .. كثيراً من أفراد المقاومة الشعبية فى الكويت ، إستطاع إطلاق سراح إعداد كبيرة ممن كانوا معتقلين فى المخافر والمدارس ، والمشاتل ، والبيوت ، والقصور ، والاندية الرياضية ، حمداً لله . تم تحرير كثير من الأسرى ، وعسى أن يعود الباقون ، الذين مازالوا رهن قيود الأسر فى سجون طاغية العراق !

يسافر الجميع فى صحبة باقى أفراد الأهل ، بعد أن يودعوا أحمد الذى يوصيهم بضرورة  الإتصال فور أن يسمعوا خبراً عن جده سالم ، فهو يعتقد إعتقاداً عميقاً بأن جده موجوده هو ومنصور فى مكان ما بالكويت ! كما يؤمن أنوار وتعتقد بأن منصور بطل الكاراتيه سيعرف كيف يعود مع جده إلى البيت بعدما يغلب العراقيين ويطقهم طق .. ! لأن منصور قوى ويعرف يغلب  كل اليهال ” ؟

– منصور بطل .. أنا أدرى عنه .

        تبقى سعاد تترقب أخباراً عن أبيها إبن أخيها الصغير الحبيب منصور ، وهى تتمنى أن تصلها الأخبار قبل أن ترخل بعيداً عن الرياض  ، تدعوا أم جاسم وأم عبد الله دعاء من القلب أن يعيد جميع الأسرى ، والمفقودين ، وأن يدخل الشهداء الأبرار فسيح جناته .

        يلتقى دكتور نايف مع سعاد ، يخبرها مؤكداً لها كطبيب ، أن أى شىء فى العالم ممكن أن يعمل من أجل جاسم قد نفد بالفعل ، موضحاً لها قائلاً :

 

– واجبى كطبيب أقولك شوفى رأى ثانى .. ذى فرصة ثانية للعلاج فى الخارج لأن الحالة راح تطول .. وجاسم محتاج وقت إلى ان يسترد صحته بعون الله .. !

        يتلاقى الصديقان بعد الإياب ، وفى القلب غصة ، وفى الروح جرح ، وفى النفس عذاب على ذلك الصديق الحميم الأسير أبو عبد الله ، الذى كانت لهما معه ذكريات وزكريات ، منذ كانوا طلبة يدرسون فى الكليات المصرية فى القاهرة ، وكانوا يعيشون ثلاثتهم فى إحدى الشقق المفروشة ، حيث كانوا يقضون معاً أحلى أيام .. أيام الوناسة .. أسام  .. أيام الشباب الذى ولى وراح ..

        آه .. كبرتهم المحنى : ! زادتهم سنيناً على سنين ! أضافت إليهم عمراً على عمر ! أرهقهم ، نكبتهم بالهموم ووجع القلب المبكرة ! حقاً .. كان حزنهم كبيراً ، إحتوى أسباباً كثيرة .. فراق الوطن القهرى ، ومرارة الغربة .. وفراق الأبناء المأساوى ,, مقتل جمال ، وفقد خالد !  وإستشهاد وأسر زوجى سناء وسهام !

        أيضاً .. فراق ذلك الصديق الوفى ” ضلع المثلت الثالث ” كما أعتادوا أن يطلقوا على أنفسهم .. ! نعم للأسف .. أخترت المثلث . . فأختلفت النسب .. ولم تعد تتساوى الزورايا بعد أن تحطمت الأضلاع .. بعدما غاب أبو عبد اللخ .. وراح !

        يشعر جاسم بالعنية التامة ، والرعاية الشاملة ، والحب العميق ، لكنه  يستمر فى الرفض ! رفض الواقع ! رفض كل شىء ! وتستمر سعاد توضع لجاسم أنهاة تحبه ، تظل تعبر له عن مدى حاجتها إليه ، تبقى تؤكد له أنها من غيره ولا شىء ! ولا حاجة أنها وحدة كل شىء فى حياتها !

        يشرح الطبيب المعالج لسعاد أن جاسم يمر الآن بظروف نفسية حرجة ، وأن أى إنسان يشعر أنه عاجز ، يكون رد فعله عنيفاً أما أى شخص يحبه ، يشرح الطبيب لسعاد أنها لابد أن تتفهم دورها ، ولابد أن تؤكد له انها محتاجة إليه ، محتاجة لحبه ، محتاجة لحنانه ، محتاجة لعطفه ، وإن تظهر له كل الحب أن تبذل له كل الرعاية ، مهما كانت مشاغلها ، ومسئولياتها ، وظروفها !

        و.. مع الوقت ، مع عبور الليالى ، والأيام ، روغم صعوبة الغربة ،، ووحشية البعاد فى مثل هذه الظروف الإنسانية الصعبة ، فالزواج راقد طريق الفراش ، والأخ شهيد ، والأب أسير ، وحتى إبن الأخ الصغير منصور .. أيضاً أٍير ! ووالد الزوج .. أسير !

        لكن دوام الحال من المحال ، وسبحان من يغير ولا يتغير . ! فها هى سعاد تحس بعض الفرح فها هو جاسم قد بدأ يتغير .. نعم بالفعل بدأ جاسم تيغير ! فها هو يبدأ يتجاوب معها ، ها هو يصبح فى حالة إسترخاء ويبدأ يتقبل الدواء من بين يديها .. وتصبح عنده غبة عميقة فى تلقى العلاج هناك ، لأنه فى حاجة لأن يبقى مع أهله ، حتى لا يحس بالوحدة والضيق فى غيابهم عنه .

        تتابع السفارة الكويتية فى أمريكا حالة جاسم الصحية ، يبدى الملحق الصحى إهتماماً خاصاً به ، يزوره هو وبعض أركان السفارة فى المستشفى للإطمئنان عليه ، قبل أن يغادرها إلى البيت ، فهذا هو البطل الوطنى الغنى عن التعريف ، إبن الكويت البار ، الدكتور جاسم عبد الناصر .. حياه الله

        وفى أثناء الزيارة يلاحظ أحد الأطباء القريبين من جاسم ، أنه لا يبدو على ما يرام هذه المرة ، فهو لا يتجاوب فى الحديث ، ولا يشارك فى الحوار ، إذ يبدو شارداً ، ساهماً ، حزيناً ، مهموماً .. يائساً ! فحوال هذا الطبيب أن يخفف عنه حزنه ببعض السوالف عن المرضى وعن المرض المستعصى الذى يزول بأمر الله .

        يحكى له الطبيب قصة سيدنا أيوب وكيف أبتلاه الله بالمرض ، الذى طال طال ، لكنه صايراً ، راضياً ، إلى ان من الله عليه بالشفاء . يقترب الطبيب من جاسم ، يربت على كتفه ، وهو يشجعه ، ويذكر بقدرة الله سبحانه على إزالة هذا المرض ، ثم يضع يده  على رأسه وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم : بسم الله الرحمن الرحيم

” وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وانت أرحم الراحمين  فأستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتينه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبدين ”          صدق الله العظيم

        وينجح جاسم بالفعل فى الوصول إلى هزيمة المرض بفضلا صلابة إرداته ، وقوة عزيمته . . لم تنكسر فيه قوة العزيمة ولا جساة الروح تحت وطأة المرض الذى إستطاع أن يغلبه بفضل عظم إيمانه بالله سبحانه وتعالى .. يخرج جاسم من المستشفى على كرسى بعجل متحرك ، تبلع سعاد دموعها ، وهى تراه على هذا المنظر من الضعف والوهن ، بعد أن كان يصول ويجول فى ملاعب كرة القدم يسابق الريح كالحصان العربى الأصيل الذى يربح السباق دون منافس .. دون أن يكون له مثيل

– آه يا جاسم .. آه يا حبيبى .. ياليتنى أنا اللى كنت مكانك .. آه .. ياليتنى أنا . ياليتنى أنا !

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثلاثون

شىء من مشاعرى

يعاود جاسم حياته بطريق يحاول أن يجعلها طبيعة ، تبقى سعاد فى محاولاتها المستمرة للإقتراب منه ، وإن كان الحزن طاغياً على ملامحها ، فهى مازالت حائرة غير متأكد ، إذا كانت هى كسبت جاسم أم لا ؟! .. فبعد هذا الوقت الطويل كل واحد منهما فى غرفته الحاصة ، هى لا تعرف ، إذا كان  جاسم يرغبها كزوجة . ام أنه أكتفى بحياته ..
هكذا .. بدونها ؟!

        تسألها أمها ذات يوم عن أسلوب حياتها ، وكيف إن جاس هكذا يعيش بعيداً عنها تسأل المرأة الكبيرة فى براءة وبساطة :

– هذه هى أوامر الطبيب يا بنيتى .. يعنى لسة هو بيتعالج من الشلل ؟

لا تعرف سعاد كيف تجيب هذا السؤال المحرج الذى وجهته لها أمها ! فتقول وهى تتنهد :

– والله يوماً لو كان الدكتور طلب منه كدى .. لكان هو  من نفسه نام بروحه وخلانى .. كأن راح يظل على سرير لوحده .. وأنا لوحدى !

        وهنا تفيض مشاعر الألم داخلها ، تطغى على كيانها ، فتنفجر فى بكاء مكتوم ظل حبيس جدران صدرها ، فتقول أمها وهى تحاول أن تسرى عنها وتخفف حزنها :

– لا تاخفى يا بنيتى . ترى زوجك يبحك وأيد .. والل ما يقدر يستغنى عنك .. لا تخافبن حبيبتى .. لا تخافين .. انت بس اللى بتحبيه وايد .. وأنت الى بتغارين عليه .. جمدى قلبك شوى .. حبيه بعقل مو بها الإندفاع يا سعاد ..!

        تمشى الحياة بهدوء ودعة ، يمارس جاسم عمله الإرادة فى مستشفى مبارك الكبير بعد أن حالت رجفة أصابعه دون ممارسة عمله كجراح ، فكان يذهب إلى المستشفى ويرجع ، وهو مازال بعيداً عن ممارسة  العمل الجراحى فى غرفة العمليات .

 

        تأتى إليه دلال تهنئه بسلامة العودة والنجاة من الخطر ، تكمله فى تحشم وإحترام يتناسب ، وإرتداء الحجاب الذى يلف رأسها ويستر شعرها ، ويكبح جماح عواطفها الغزيرة التى تحولت الآن إلى منحى آخر ، بعد إن أصبح جاسم الناصر بالنسبة لها عبارة عن أخ غال ، و صديق عزيز على قلبها  

        تتحدث دلال مع جاسم عن ذكرياتهما معاً ، عن أيام المقاومة ، وعن المخاطر ، الجمة التى تعرضا لها ، وكيف كانا يكمنان معاً فى مخبأ تلو الآخر عدة ساعات معرضين فى لحظة لخطر الموت حرقاً ، أو تفجيراً ، او تعذيباً !

        ساعات وساعات .. وهى تشعر جاسم بجوارها أخاً عزيزاً يصونها ، يحميها ، يفديها بنفسه ، يحافظ عليها بعمرة ، يقدم نفسه للخطر دفاعاً عنها ! حقاً .. لم تنس دلال ولم ينس جاسم كيف تشهد على نفسيهما ، وآخذ يقرآن القرآن الكريم مرات تلو المرات ، وهما يعتقدان أنهما لن يبقيا على قيد الحياة بعد دقائق قليلة !

        الآن المقاومة انتهت ، تحررت الكويت بحمد الله ، ولم ينس الجميع أن جاسم كان بطلاً كبيراً ، لذا كان إستقباله لحظة عودته إلى الكويت وهو يستند إلى عكاز إستقبالاً كبيــراً ..

نعم . كان إستقبال جاسم هو نفسه إستقبال الأبطال الكل يعلن الحب ، يعنل التقدير ، يعلن الإمتنان

        أما دلال فقد أولت كل إهتمامها الحين لمتابعة قضية الأسرى الكويتين الموجودين لدى السجون العراقية ، وصارت تشارك فى إجتماعيات اللجنة الوطنية لشئون الأسرى والمفقودين  أيضاً دخلت مجال رعاية الاطفال المعاقين الذين يستحقون فى نظرها كل العطف والعناية ، حقاً .. تيرت دلال ، تحجبت من الداخل والخارج أضاء نور الإيمان قلبها ، بعد أن رأت العظة فى الموت حولها وعاشت الاهوال ، وهداها الله إلى طريق الحق والصواب .

        تعيش دلال تمارس دورها فى الإهتمام بشئون الأسرى والمفقوجين ، ودور رعاية الأطفال المعاقين ، فأثبتت العلاقات الإنسانية كثيراًَ من الصلات العاطفية بينهما وبين من تحتاج إليها .. نعم .. نعم هاجس دلال الأكبر الآن هو عودة الأسرى .. عودة السرى لتلكتمل بعودتهم الأفراح ، وتنسدل ستائر الاحزان فوق الجراح ، تخفف عن قلوبهم ما غاب وما راح!

        يبدأ جاسم يشعر الحب تجاه تجاه كل شىء فى حياته ، فهو يحب الكويت ، يحب كل شىء فيها ، يحس أن التنافس الذى بينه وبين سعاد لا جدوى منه ! خلاص :

– إلى متى سيبقى فى حالة تنافس ؟! إلى متى ؟! كان متنافساً فى فريق الكرة .. متنافساً فى الجامعة .. متنافساً فى عمله كطبيب ناجح مشهور .. إذن لابد أن يتقبل سعاد بتفوقها .. بكل شىء فيها .. ليس شرطاً أن يكون هو الاحسن .. بالعكس .. أنه يعرف أنه عو الاحسن لأن المفروض أن سعاد مكسب له ، وهو طبعاً محظوظ جداً لأن لأولاده مثل هذه الام  الذكية جداً يبدأ جاسم يدرك أنه لو لم يكن متزوجاً من إمرأة مثل هذه لما كان إستطاع أن يشفى من رجاحه ، لما قدر أن يتعافى من الامه ، فسعاد بحبها ، برعايتها ، بعنايتها ، إستطاعت أن تعاون معه لصنع هذه المعجزة .. ! أن يعود إلى صحته ، أن يرجع إلى حياته ، وأن يمارس ذاته مرة أخرى من جديد !! لأن .. عرف جاسم أنه فى نهايةو الأمرة ، إذا كان ممكن أن يتنافس مع أى شخص ، فهو حتماً أن يتنافس مع سعاد .. !

        يبدأ جاسم يدرك إن هذه الفلوس ليست فلوس سعاد وحدها ، لا .. إنها فلوسنا كلنا ، حقيقة الأمر . إن سعاد ملأت عليه حياته ، نعم .. سعاد ملأت عليه حياته ، جاسم يعرف أنه كان دوماً يجدها عندما كان يحتاج إليها ، جاسم يعرف أيضاً إن سعاد تشعر بحاجة الآخرين لحبها ورعايتها ، فهى تشهر بحاجته إلى هذا الحب ، فلم تحرمه من ذهذا الحب !

        سعاد اسبغت عليه الكثير .. حولت أن تمنحه الوقت الكافى لياتفت إلى دراسته وصنع مستقبله ، وأدرات حياتها بكل جدارة ، وكل مقدرة .. سعاد كانت دوماً تؤدى ما يوكل إليها بدقة ، وكانت دوماً تعامل مع مبدأ : خير الأمور الوسط .

        يعيد جاسم إسترجاع حياته فيحس كم كانت سعاد إنسانة عاطفية ، ذات روح شاعرية ! كان جاسم يعرف  أن سعاد حريصة أن لا تدع أحداً من الناس يعلم ما فى الداخل صدرها من أفكار ، فقط كانت تنتظر الفرصة المناسبة أن تسمح لها لتنال ما تريد ، دون تهديد ، دون صخب ، دون ضجيج ، بل .. بكل هدوء ، وحب ، ومودة ، لم تفرط سعاد يوماً فى الإهتمام بتنظيم حياتها ، فهى مرتبة ونظيفة ، تنزعج من الفوضى ، تحب النظم ، حريصة دوماً على تأدية واجباتها .

        يتنهد جاسم وهو يراجع نفسه ، ويعرف أن سعاد لم تجرح مخلوقاً يوماً بتصرفاتها ، بل هى دوماَ ذوق . مهذبة تحترم الآخرين ، تجيد فن التعامل مع الناس .. والحياة ! يعرف جاسم أيضاً أن ساد تحب الشمس والهواء النقى وتعشق البحر كما يعرف أنها إنسانة طموحة لا شىء يعوق صعودها حتى القمة ، فسعاد  فى الواقع ليست شخصية ضبابية ذات أمنيات عاطفية تتحكم فى حياتها . ، لا .. أنها سيدة يمعنى الكلمة ، لا تصدر عنها كلمة نابية ولا تأتى موقفاً فى غير محله ، إنها ا تضيع وقتها فى الثرثرة فهى مشغولة بحياتها بمسئولياتها ..!

        .. عندما يصل جاسم إلى هذه النقطة ، لا يستطيع أن يغالب مشاعره ، فينهض يجرى أتصالاً هاتفياً مع أحد الأصدقاء ، يأخذ موعداً ، يخرج إلى حيث يتلقى به فى فندق المريديان حيث تتناقش معه بعض الوقت فى موضوع يهم جاسم جداً أن ينجزه ، ثم يدلفان من باب الفندق الثالث حيث يدخلان أحد المكاتب هناك ..!

        ينهى جاسم التعاقد على غتسلام هذا المكتب ، الذى أمر بتجهيزه بالكامل من أجل سعاد حتى اللوحة النحاسية الخراجية يكتب عليها “شركة سعاد السالم للإستثمارات العقارية”

ينتهى من الأتفاق مع السكرتيرة ، يدخل خطوط الهاتف ، يجهز كل شىء .. كما يتمنى دوماً أن يكون !

        يعود جاسم إلى البيت وإحساسه بذاته يتضخم ، يتعملق ، فهو سعي بذلك لأنه شخص موضوعى ، منطقى عرف كثيراً من قبل كف يتدرب على السيطرة على المواقف ، كما عرف كيف يتخذ الموقف المناسب فى الوقت المناسب ، لذا كانت رده على نايف فى الموافقة على زواج ليلى عندما اتصل به من امريكا يطلب يدها رداً موفقاً للغاية .. فقد كانت أمه ترغب فى إنتظار عودة أبيه من الأسر ، لكن جاسم قال لها :

– ابوى مو موجود الحين .. بس أنا اقول لك لو أبوى موجود راح يوفق .. ولو أبوى عرف الحين راح يوافق .. ولوما عرف .. وكلن عرف بعدين أننا رفضنا تزويج ليلى لأن هو مو موجود ماراح يوافق .. ولو ما عرف بعيدين أننا رفضنا تزويج ليلى لأن هو موجود ماراح يوافق على اللى أنت تقوليه ما يوماً ..!

        يتابع جاسم كلامه :

– نايف مافى مثله يا يوماً .. وإنا عشن سنين معاه وأعرفه عدل وفاهمه من الداخل والخارج .. وأنا باقول إنى مدين له بحياتى .. لكن أنا باقول موافق لأنى عارفة نايف . وما أتمنة واحد لأختى  ليلى أحسن من نايف ، وهو راغب ليلى وليلى راغبة ، وانت ما تخلى ليلى تشعر أنها محرجة . وانها يتشوى شىء غلط أنها تتزوج وأبوها أسير !

يتابع جاسم كلامه :

– أنت يوماً لو فشانى هالزواج ستكونين غلطانة .. غلطانة لأن نايف يحبها وراح يقدرها ويحسن معاملتها .. وهو طلب يدها منى وإحنا فى أمريكا قبل الغزو وإنتظر كل هالوقت لما تحين الفرصة المناسبة .. والحين .. تم التحرير والكويت ردت والفرحة عمت ومافى داعى يوماً إننا نأجل زواجها عشان أبوها مو موجود .. !

        يستطرد جاسم حديثه مع أمه ، باذلاً كل الجهد لإقناعها ، محاولاً تبسيط الموقف أمامها :

– يوماً .. أنا أخوها وأبوها وإنشاالله يتم هذا الموضوع على خير لأن نايف كلمنى كذا مرة رغم خجله الفظيع بسبب ظروفى اللى مربت بها .. بس أنا أدرى عن نايف يوماً .. هو رجل من خيرة الرجال .. شاب من خيرة الشباب ، وكان معايا له مواقف كثيرة وإحنا زملاء فى المستشفى ,, ولما إنسبت فى الحرب وقف بجانبى فى علاجى فى  الرياض وفى امريكا .. أنا ما أنسى له يوماً هالمواقف كلها .. ترى نايف رجال ماراح تلاقى حد الليلى أحسن منه صدقينى يوماً .. صدقينى

        – اللى تبون تسووه . . سووه .. بس أنا ما أقدر أتصور .. إن ليلى تتزوج وأبوك يا جاسم مو ويانا .. ما أقدر أتصور . ما أقدر اتصو .!

        تجهش الأم فى البكاء وهى تقول بين أنفاسها اللهثة المتقطعة : –

– بس خلاص .. انت تصرف يا جاسم .. هذه أختك وانت أخوها . انت اتصرف .

        تستمر الأم فى البكاء ، وهى ما تقدر تتخيل إن ليلى تتزوج وأبوها غايب ، ما تقدر تتخيل أن ليلى تتزوج والأسرة حزينة ، ما تقدر تتخيل أن ليلى تزوج والأسرى بعيدين عناك وراء أسوار السجون .. !

        يتصل جاسم بنايف فى أمريكا ، يرحب به يسأل :

– ها .. ما وراك فى أمريكا .. واله كلنا مشتاقين لك .

نايف ير باسماً :

– إذا  انتم تبغوننى فى الكويت بأحجز دالحين وأجيكم .

        يخابر نايف الأهل فى لرياض ، تستعد الأسرة كلها للسفر إلى الكويت لترتيب إستعدادات الزواج السريع لأن ليلى ستسافر إلى أمرريكا لبدء الحياة مع نايف هناك ..!

        ينتهى حفل الزفاف الذى اقتصر على الأهل والأصحاب ، والذى اقيم فى بيت أبو جاسم فى كيفان .. تستعيد ليلى لخروج مع عريسها نايف بصحبة بعض الأهل من العائلتين إلى أحد الفنادق إستعداداً للسفر فى اليوم التالى إلى أمريكا .

        تمضى ليلى تخطو ببطء بثوبها الأبيض الاطويل ، تخترق القاعة الخارجية متجهة إلى باب الخروج .. تنتاطاً أكثر وأكثر وهى ترنهو بعينيها إلى صورة والدها  اللواء أحمد الناصر فى زيه العسكرى لوزارة الدفاع ، وقد إحتلت جزءاً كبيراً من جدار القاعة عن يمينها ، .. توقف ليلى أمامها ، لا تقوى على متابعة سيرها .. تقف ، تبكى ، تقول :

– وينك يوبا  .. وينك يوبا . كان ودى تكون الليلة ويانا . كان ودى تشوفنى وأنا عروس .. آه يوبا .. آه يوبا

        آه تبكى أم جاسم  تندب غياب زوجها الاسير ، فتنبش بذلك جراح أختها أم عبد الله التى تكت فى القلب جرحها الدامى على ابنها الشاب الشهيد ، وزوجها الرجل الطيب الأسير ، وحفيدها الطفل الصعير ، فتنهار هى الاخرى فى البكاء ، فى حين يتمزق صدر أم أبراهيم من الحزن ، النحيب على ابنها خالد الذى  مازال مفقوداً للحين ، بعد أن اختفى هو وطائرته العسكرية ولم يعتر له على اثر منذ أن شارك بعدة طلعات جوية فى حرب التحرير !

        .. ولا تحتمل الموقف إبتسام زوجة عبد الله ، التى تنتحب وتنتحب حزناً على اسر أختها أمل ، الطالبة الجامعية االجميلة التى اكنت عل وشك الخطبة والزواج .. لكنهم أسروها .. حبسوها وراء أسوار سجون الطاغية ! كما تفقد سهام بنت الخال إبراهيم وعيها حزناً وقهراً على زوجها الأسير .

        لحظات حادة رهيبة حارقة ، تمتزج فيها أحاسيس الحزن والفرح ، أحاسيس اليأس بالأمل أحاسيس الترقب والإنتظار مهما راح الوقت وإمتد الزمن وطال .. هنا .. فى تلك اللحظات العنيفة المشاعر ، تبكى فضيلة زوجها الشهيد فيصل ، وطفلها الأسير منصور ، تظل تبكى وتبكى وهى لا تستطيع أن تتوقف ، رغم أنها كانت تحاول أن تمنع نفسها من العويل والبكاء ، خوفاً على مشاعر الموجودين فى الفرح .

        يقف الاطفال حولهم ينظرون إليهم وهم فى حالة تأثر شديد ، بسبب هذا الحزن الساحق والبكاء الحافل بالعاطفة ذات الإحساس الزاخر العنيف فتبكى أنوار من قلبها ، كما تبى مريم ومنى وفضة وراكان ، أما أحمد ، فيظل كعادته ، يحاول أن يتماسك وأن يتصلب

يحاول أن لا يدمع وهو الصبى الكبير وسط كل هؤلاء البنات ..!

        يطالع أحمد خالته فضيلة ، فيتأث كل التأثر لأنه يعرف أنها تبكى خالة فيصل كما تبكى أبن خاله منصور .. يعود أحمد ينظر حوله فيشعر نفسه وحيداً بلا منصور ، حينئذ .. يزداد حزنه وهو يود ويتمنى من كل قلبه لو كان منصور معه الحين ، يحادث نفسه متسائـلاً :

– .. وينك يا منصور .. ياليتك كنت ويانا الحين .. !

        فى اللحظة نفسها ، تطالع فضيلة الاطفال الصغار الذى يحرمون حولها ، تقف تنظر نحوهم وهى تتمنى من أعماق قلبها لو كان منصور ولدها موجوداً وسطهم ، يلعب معهم ، ويلهو مثلهم ، ويضحك معهم ويفرح مثلهم ، وهنا .. لا تستطيع فضيلة أن تسيطر على مشاعرها ، وإذ بها تصرخ محسورة ملتاعة :

– آه .. منصور .. منصور .. وينك يا منصور .. هاتو لى منصو .. هاتو لى منصور .. !     .. تسقط فضيلة مغشياً عليها ، بعد أن ظلت طويلاً تحاول أن تتماسك حتى لا ينقلب الفرح حزناً ، لكنها النفس الإنسانية تعصى إرادة الإنسان ، ترفض أن تخضع لرغباته ، تتغلب أحياناً على قدراته ، تريد أن تمارس وحدها ما تشعر وما تحفل به من أحاسيس ومواقف ..!

        يجرى أحمد مسرعاً نحو غرفة أمه يحضر زجاجة كولونيا ، يناولها لجدته أم جاسم مى ترش منها على وجه فضيلة ، فهو مدرب خير تدريب على إحضار الكولونيا بسرعة ، لأنه يفعل ذلك كثيراً ، كلما فقدت جدته أم عبد الله وعيها ..!

        تحضر إبتسام زجاجة ماء باردة من الثلاجة  ، تاحول أن تسقى فضيلة بعضاً منها ، وأن تمسح بيدها المبللة على وجهها .. فى حين تقف أنوار تطالع حزينة هذا المنظر المؤلم الذى يحدث أمامها، والذى جعلها تدرك بعقلها الصغير البرىء أن خالتها قضيلة تدور منصور ، وأنها مشتاقة لمنصور ، فتقول تحادث نفسها :

– أييه .. عرفت .. خالتى فضيلة تبى تشوف منصور .. زين ،، أنا عندى صور وايد فيها منصور .. يوم عيد ميلادى كان ويانا .

        تخبر أنوار أحمد بفكرتها ، فيركضان معاً نحو الطابق الثانى ، وإذ بباقى الأطفال كلهم يركضون خلفهم ، ينهك أحمد وأنوار على لافرو فى إخراج الصور من الالبوم ، وإختيار صور منصور .. وهنا .. قبل أن يخرج أحمد من الغرفة ، ينظر إلى الملصق الكبير المعلق على الجدار المطبوع عليه :

 

لن ننسى أسرانا

فيقف على المقعد الموضوع أمام مكتبه ، ينزع الملصق من على الجدار ، يضعه فوق المكتب ، ثم يفتح الدرج يخرج الصمغ ، ويلصق عليه صورة منصور بدلاً من صورة الطفل الباكى المرسومة فى الوسط ، فى حين تشترك أنوار ومنى وفضة وراكان فى لصق صور منصور كلها عليه .. فى نفس اللحظة تدنو مريم تطلب من أحمد أن يعطيها القلم الأسود المتين لتخط بيدها عبارة كبيرة واضحة :

نريد منصور ويانـــا

ينزل الصغار على السلم وهو يرفعون فوق رؤوسهم الملصق الكبير الذى تشترك أيديهم الصغير كلها فى حمله بعد أم كتبوا عليه بالبنط العريض ، الذى يقرأ عن بعد :

لن ننسى أسرانا

نريد منصور ويانا

.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..

يجلس جاسم فى مكتبة ، شارداً ، يطالع كفه اليمنى ، يتحسس اصابعه واحداً واحداً ، ثم يعود يشرد بخاطره ، وبعدها يتأمل مرى أخرى أصابعه ، يتعمن فى كفه اليمنى وهو الجلوس هكذا وراء مكتب ، بلا مشرط ولا مبضع ولا مريض .. ينظر جاسم إلى نفسه فى حسة وهو يتنهد حزيناً :

– .. ولا جراح !

        بعد قليل .. تدخل دلال مكتب جاسم .. تسلم عليه ، تتحدث إليه وهو مصغياً لها بكل حواسه وكل جوارحه ، مستمعاً لها بقلبه وهى تبوح  لها بمكنون قلبها :

– صدق .. الحرب إنتهت يا جاسم .. مستحيل ننسى .. لكن .. العذاب ما إنتهى .. توقف سقوط القنابل .. لكن صوتها بعده يدوى فى اذنى .. رحل الحرس الجمهورى .. لكن الخوف بعده باقى فى صدرى .. مستحيل ننسى يا جاسم .. مستحيل ننسى .. !

        أنا اتمنى ننسى أتمنى يختفى الخوف من نفوسنا .. أتمنى يعود الأسرى من المعتقلات والسجون .. أتمنى .. أتمنى إنى فى يوم أقعد بنفس الشعور مليانة بالحب والنشاط والأمل والثقة والتفاؤل ..

        أتمنى إنى فى يوم أقعد بنفس الشعور اللى كنت أحسه قبل الثانى من أغسطس عام 1990 هذا العور بعد الحرب .. وهذا الخوف وهذا الدرمار بعده يدمرنى .. منظر بيتى المدمر المحطم وآثار التخريب والتعذيب بعدها عالقة فى عيونى .. فى قلبى .. فى قلبى .. تتنهد .. آه يا قلبى . تعود تتنهد :

– أتمنى أعود مثل  ما كنت أتمنى أعود مثل ما كنت !!

        تخرج دلال من مكنب  جاسم والدمع على وجنتيها والحسرة والحزن تملأ عينيها، وذكرى ماضيها مع جاسم تطغى ، تسود ، تسيطر ، على وجدانه ، فترتل بعض آيات من الذكر الحكيم :

بسم الله الرحمن الرحيم

” ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب

صدق الله العظيم 

تمضى دلال لا تلوى على شئ والحزن على الأسرى يضج بين جنبيها ، فهى ستذهب الآن إلى مستشفى الطب النفسى لرؤية أمها المريضة التى ما زالت تعانى من آثار الغزو ، حين إغتصب الجنود روحها ونفسها وهم يفترسون جسدها !! والتى ما زالت تعتقد أن أمها حية ترزق .. لم تمت !!

كانت لحظات صعبة عنيفة مدمرة .. دانه أيضاً ما زالت تعانى هى الأخرى من آثار المرض النفسى رغم أن دلال أخذتها بالأمس إلى محل اللعب بالسالمية وإشترت لها عروساً جميلة بدلاً من تلك العروسة التى تركوها فى البيت حين غادروه فجأة بعد الحادث الأثيم الذى أودى بحياة جدتها وأعصاب أمها !

إشترت لها دلال مجموعة ألعاب كبيرة كثيرة ، من نفس المحل القريب من البيت ، ملأت بها غرفتها بعد أن أعادت طلائها وجددت أثاثها ، وغيرت كل معالمها ! حرصت دلال أن تغير كل شئ ، وأن تبدل كل شئ ماعدا عروسة دانه القديمة ، صممت دلال أن تنتقى لها عروسة طبق الأصل من العروسة التى فقدتها وأضاعتها الظروف ، وحرمتها منها ، ومن كل لعبها ، أعادت دلال كل شئ لدانه ، لكن .. دانه لم تعد هى دانه .. دانه مريضة الآن تعانى إعاقة فى النطلق وفى السلوك ، دانه ما زالت مضطربة لم تعد صحتها النفسية ولا البدنية كما كانت قبل الغزو !

تقسم دلال وقتها بين أمها وإبنتها وبين الأطفال المعاقين ، وبين الأسرى المرتهنين المحتجزين ، الذين يأسرون معهم كل أهاليهم ، ومعارفهم ، وأحبائهم ، وأصدقائهم ،
وجيرانهم ، الكل حزين من أجل الأسرى ..! الكل لا تهنأ له أكلة ولا نومة ! ولا تكتمل له فرحة من دون الأسرى .. !

عسى الله أن يفك قيد أسرانا .. عسى الله أن يعيد إلينا أسرانا .

ينصرف جاسم إلى وضع آخر اللمسات فى المكتب ، تلك هى الهدية المفاجئة التى يعدها لسعاد ، حيث يختار لها سكرتيرة فلبينية لطيفة جداً ، ومكتب صغير مجهز بتليفونات وفاكس واللوحات الطبيعية الأصلية ، التى يعرف إن سعاد تحبها .

يعود إلى البيت ، يأخذ سعاد يتمشى معها العصر كأنه يتنزه نزهته اليومية العادية التى أوصى الطبيب بها ، لكنها تفاجأ به يطلب منها أن تذهب معه إلى مشوار آخر قريب ، تدخل سعاد مجمع الصالحية تركب المصعد حتى الطابق الثالث ، تمشى مع جاسم فى الممر وكلها ترقب وإنتظار لهذا السبب الغامض الذى جعله يأتى بى هنا ! لكنها .. ما تلبث أن تقف ، تتصلب فى مكانها ، وعيناها تتشبثان باللوحة النحاسبة اللامعة !! .. المحفور عليها إسمها !! ” شركة سعاد السالم للإستثمارات العقارية ” .

تتقبل سعاد الهدية المفاجئة بهدوء ، تتعامل مع الموقف المباغت بحيرة لا تخفى على عينى جاسم ! نعم .. فهذه الهدية حيرتها ! جعلتها تتسائل بينها وبين نفسها :

– ترى .. جاسم أعطانى هالمكتب عشان يبى يتخلص منى ؟! وإلا ما هو
السبب عشان يعطينى إياه بحجة أنى أدير أعمالى فى أمريكا ؟! ليش جاسم فكر بهالطريقة ؟! ليش .. ؟!

أنها لا تعرف ، لذا ، تظل محتارة ، تظل تفكر ، وتفكر ، وهى لا تدرى ماذا يدور فى ذهن جاسم بالضبط !! نعم .. هل جاسم يقول لها خذى حياتك وإستقلى بها بعيداً عنى ؟ أم إن هذه الهدية تعبير عن الحب و‘ن تقبله لها .. وتقبله لدورها كسيدة أعمال ؟!

فى الواقع .. إعتقدت سعاد أن إهداء جاسم المكتب لها هو خطوة فى بداية النهاية ، فأخذت تحدث نفسها فى أسى . هذه هى النهاية يا جاسم ؟! هذه هى المكافأة ؟! بعد ما أثبت لك حبى وإخلاصى .. ينتهى بى المطاف بهالأسلوب ؟! معقول ؟! أهون عليك يا جاسم ؟! أهون عليك ؟!

.. تتداخل كل هذه الأمور ، تبدأ تعصف بكيان سعاد .. كيف لها أن تعيش بدون
جاسم ؟ كيف لأولادها أن يستظلوا بغير ظل أبيهم ؟ آه .. تتنهد وهى تحتسى القهوة بينما تسترخى على المقعد الوثير فى الصالة الكبيرة وحدها فى حين كان جاسم يرتدى ملابس الرياضة إستعداداً للمشى حسب المدة التى قررها الطبيب .

تزداد شجون سعاد ، تحادث نفسها .. تساءل :

– شنو يبى جاسم ؟! إيش لون يعطينى هالمكتب وهو دائم السخط على عملى ؟ ودايما كان ضده ؟!

نعم .. فالمعاملة التى لاقتها سعاد من جاسم فى أمريكا ، وإنهائه الوضع هناك بهذه الطريقة المتسرعة غير المدروسة ، وإضطرارها للإبتعاد عن مكتبها وشركاتها ، وتركها تلك الاستثمارات الضخمة كل هذه الأمور جعلتها تدرك إن جاسم سوف يتخلى عنها .. ! نعم . جاسم سوف يتخلى عنها !!

تبدأ سعاد تفكر فى والدها ، إنه وحده مصدر الحب والعطف والحنان والأمان ، تبدأ تفكر كيف كان يشجعها ويأخذ بيدها وهو فخور بها ، وكيف كان يعدها ويحضرها منذ صغرها لتكون سيدة أعمال ناجحة بارزة .. !

فى الواقع حققت سعاد حلم أبيها فيها ، وهى تعتقد أن ذلك سوف يسعد جاسم ، سوف يجعله فخوراً بها هو أيضاً ، سوف يجعله سعيداً ، لأنها قدرت أن تجمع بين كل هذه المسئوليات بنجاح ، وقدرت أن تحقق كل هذا النجاح !

لكنها .. للأسف وجدت العكس من جاسم ، هى أحست بذلك ، تكاد فى الحقيقة أن تجزم بذلك ، فهى ليست من ذلك النوع التى تجهل ما يدور حولها من أمور ، صحيح هى تتجاهلها أحياناً لكنها لا تجهلها ، وياله من فارق كبير بين الجهل والتجاهل .. !

ولم يفت سعاد أن تعرف أن دلال كانت بالأمس عند جاسم فى المستشفى ، لم يخف جاسم الأمر عن سعاد بل قال لها أن دلال كانت عنده فى المكتب وأنهما كانا يتحدثان عن تلك الساعات العصيبة التى قضياها معاً !

وقبل حلول المساء .. قبيل أن تغيب الشمس وبعد أن تداعب نسمات الربيع مياه البحر فتدفعها فى حنان تعانق الرمال الناعمة الوادعة .. فى هذا الجو الربيعى الجميل ، فى هذا الفصل المشرق البهيج الذى تحبه سعاد وتسعد به ، وتظل تتمناه طوال العام .. تتمشى سعاد إلى جوار جاسم على شارع الخليج العربى بالقرب من مركز سلطان الذى يضئ المكان عن يسارهما ، يسيران وهما يطالعان عن بعد أبراج الكويت التى يحبونها ، والتى يلمحانها عن بعد صامتة ممشوقة باسقة ، تضيف بلونها الأزرق عمقاً جميلاً يتأكد مع لون مياه الخليج الزرقاء ، ولون السماء الأشد زرقه .. !

ثم .. تتأنى الشمس وهى تنحدر نحو المغيب .. تدنو فى حنو من خط الأفق البديع .. تتمشى ” سعاد ” إلى جوار جاسم وهى تمسك بيده ، لأنه ترك العصى منذ فترة قريبة من الوقت ، وهو لازم يستند على يدها لأن رجله أحياناً تقلت وركبته تهوى فيسقط على
الأرض .. ؟!

يتمشى جاسم إلى جوارها وأصوات الموسيقى تصدح فى السيارات ، وزئير الموتوسيكلات التى تركض فى شارع الخليج ، وعليها الشباب المرح ينطلق إلى جوارهما من فترة لأخرى .. !

هنا .. يبدأ جاسم يحس شعوراً غريباً ، يحس إنه لا يخجل من الإعتماد على سعاد ، مرتين إثنتين كاد أن يقع فيهما فأمسك بيدها ، تعلق بها ، استند عليها .. فعل ذلك ، دون أن يحس أنه محرج .. !

وكانت هذه مفاجأة جديدة بالنسبة له ، لأنه أدرك أنه كان طول العمر يكافح كى يوضح أنه قوى أمام سعاد ، وأنه متفوق على سعاد ، وأنه بطل فى نظر سعاد ، عمره ما سمح لنفسه أن يحس أنه ضعيف أمامها ، فكان مستغرباً كيف أصبح هكذا على راحته دون خجل أو حرج ، وهو يستند على سعاد .. !! إنه يحتاج لها .. إنه لا يخجل أن يحس إحتياجه لها !

ويظل جاسم صامتاً كأنه رحل فجأة إلى مكان آخر بعيد ، تحس به سعاد ، تلتفت
إليه ، تسأله فى حب ، فى حنان :

– مالك يا جاسم .. فيك شئ ؟! تعبان .. تحب نرد ؟!

ينظر إليها جاسم ، لكنه لا يراها ، كأنه ينظر وراءها ، أو من خلالها ، فتكرر سعاد سؤالها مرة أخرى :

– مالك يا جاسم .. فيك شئ .. تعبان ؟!

ينظر جاسم إلى سعاد ، يختلج بدنه لرؤية الحب الفظيع فى عينيها .. كأنه لأول مرة يراها أمامه !! يدرك جاسم أنه طول عمره بيحب سعاد ، وأن الذى كان يمنعه من الإعتراف بهذا الإحساس ، بهذا الشعور ، هو الكبرياء ! هو طبعاً بيحبها ، طول عمره بيحبها ، ولما تزوجا ، كان يحبها ، وقبل أن يتزوجا كان يحبها ، لكنه .. كان ينكر الإعتراف بهذا الحــب !!

.. إنه كان يشعر بصورة غريبة ، أنه لو أعترف بينه وبين نفسه بحبها ، فإن ذلك سوف يكون ضعفاً ، أو مقدمة للضعف ، أو بداية للضعف .. آه .. ما هذا التصرف الطفولى ! ما معنى أن يدخل فى منافسة مع نفسه ؟ أنه قوى بإستمرار وسيكون أقوى بإستمرار ، وسيكون ممتازاً .. إن هذا الشعور الذى كان يشعر به ليس له معنى .. فحتى فى حالة سعاد لا منافسة مع سعاد !

هذه ، فى حقيقة الأمر ، كما حدث بالضبط ، كانت فكرة خاطئة ، أدت إلى تمزيق العلاقة بينهما ، فالمحاولة المستمرة لإثبات أنه متفوق ، كانت سبباً مباشراً فى التباعد بينهما .. كان هذا كثيراً عليه ، فكأنه داخل فى منافسة مع نفسه ! وكم كانت التكلفة عالية .. ففى علاقته بها ، عمره ما كان مرتاحاً أو على طبيعته ، فمن هو القوى فى كل لحظة فى حياته ؟ من هو صاحب القرار الصائب دائماً فى كل عمل يدخل فيه ؟! هذا كثير .. كثير .. فقد كان حتى فى علاقته مع نفسه يطالب نفسه بأكثر مما يجب ، حتى فى علاقته بها .. ! وهذه علاقة غير صادقة ، لأنه لم يكن على حقيقته ، لم يكن على طبيعته ، لم يكن على سجيته !

ينتبه جاسم ، كأنه يسترجع شريط حياته من أيام سعاد ما كانت طفلة صغيرة عندها ثمانى سنوات وهو كان عنده ستة عشر سنة ، ولما كانت داخلة المدرسة المتوسطة وهو طالب كبير فى كلية الطب .. أيضاً طفلة !

ويوم راح المدرسة وهى طلبة فى الثانوية بسيارته السبور الحمراء ، ليحضر أخته ليلى ورآها من وراء زجاج الباص وهى تنظر مرة إلى الخارج ، ومرة إلى الداخل .. وكأنها لا تراه !

يتذكر جاسم حياته فى أمريكا ، وكيف إستقبل سعاد فى المطار عندما جاءت هناك لأول مرة وكيف كانت تنظر إليه مدهوشة منبهرة .. يتذكر جاسم أيضاً حين جاء مع سعاد إلى أمريكا وهما عروسان ، وكيف كان يسأل روحه هذا السؤال .. كيف لم أكن أرى هذا
الجمال ؟! كيف ؟! كيف ؟!

يتذكر كيف كان يدنو منها يسألها تريدين تشربى شئ يا سعاد ؟ وكانت هى لا تقوى على النظر إلى عينيه .. كانت تكتفى بهز رأسها وهى تتابع النظر إلى نيويورك من فوق فى الطابق السابع والخمسين .. فى حين كان يقترب منها يدنو أكثر وأكثر .. وقد إستثار إنفعال ممتزج بالشوق ، بالإعجاب ، بالحيرة من إزالة هذا الخجل والحرج عن سعاد التى كانت تزداد إنفعالاً وحيرة بين لحظة وأخرى !

يتذكر جاسم سعاد وهى تسير بجواره فى شارع نيويورك وهو زوج لها وأب لأولاده الثلاثة أحمد وأنوار وراكان ، تذكر كيف كان الجو بديعاً والشمس مشرقة والحياة هناك حافلة بالضجيج ، مزدحمة بالناس والسياح الذين يلتفون حول محلات الآيس كريم والذرة المنفوش والسندوتشات والمطاعم والمقاهى ، وشباب من جميع أنحاء العالم يرتدون الـ ” تى شيرت ” والجينز ، وضجيج سائقى السيارات فى نيويورك ، تلك المدينة ذات الإيقاع الصاخب المرتفع المرتفع !

يتذكر سعاد وهى تطاوعه وتوافقه على العودة إلى الكويت تاركة كل أعمالها فى أمريكا مضجية بكل نجاحها هناك من أجل أن تصحبه .. وتكون معه .. وتبقى إلى جانبه !

يتذكر سعاد وهى فى الكويت تصحب الأطفال إلى المدرسة ، تذهب بهم وتعود بهم راضية بحياتها الفاترة الباردة عندما كان مبتعداً عنها بقلبه ، بحرارته ، بإحساسه ، حين كان رافضاً لوجودها فى حياته ، متمرداً على نجاحها الذى صنعته بجهودها ، وعرقها وكفاحها من أجل أن تكون كبيرة فى عينيه ، ولائقة به .. كزوجها !

يتذكر جاسم الحب ، كل الحب ، منذ طفولة سعاد وحتى هذه اللحظة ، التى تمشى بجواره تفيض عيناها بحب عميق ، لا يخفى على قلبه ، قبل عينيه !

يتذكر جاسم كل شئ .. كل شئ ، وهى يتمشى ببطء من رأس السالمية وعن
يساره مركز سلطان وأمامه أبراج الكويت .. يتمشى جاسم بمشقة فيلتقى بالشباب الذين
يلعبون رياضة ، والذين يتمشون بخفة ونشاط على شاطئ البحر ، فيرونه ، ويحيونه ، يسلمون عليه :

– هلا جاسم .. هلا .. إيش لونك ؟ عساك بخير .

عسانى بخير ؟! يقف جاسم يطالع ساقه المصابة .. فيعود يحلق بخياله فى الملاعب حيث كان يركض ويصول ويجول أثناء المباريات .. عندما كان يشوط الكرة بقوة ، بنفس هذه الساق المصابة ، فتدخل المرمى .. تقتحم الشباك .. تحرز الأهداف .. تسجل الإنتصار !

يمشى جاسم وتمشى سعاد ، فيلمح سايرة سبور حمراء ، فيها بعض الشباب الرياضى فيتابع مشيته المتعثرة هو وسعاد ، وكل منهما هائم فى بحار ذاته ، غارق فى لجج ذكرياته !

تسمع سعاد صوت عوض الدوخى ينساب من إحدى السيارات التى إضطرت للوقوف أمام إحدى افشارات الحمراء ، كانت الأغنية التى تنساب عبر الإذاعة ، هى نفسها تلك الأغنية التى يحبها أبوها والتى كانت تسمعه دوماً يغنيها لها منذ صغرها ..

يا ليل دانا لنا

ياليل دانا .. لدانا

جميل وبالخد شامة

بس لو يرد السلام

يا ليل دانا لنا

يا ليل دانا لدانا

تضعف سعاد ، تنساب دموعها ، تنهار باكية .. تعجز عن متابعة سيرها تستند بظهرها إلى الحاجز الأسمنتى الرمادى ، وهى تبكى ، وتبكى ، وتبكى ، يدنو منها جاسم ، يكلمها فى حنان وحب وهو يقول لها :

– إلى متى البكاء يا سعاد ؟! يا سعاد هذا قدرنا .. يا سعاد لابد نتقبل الواقع بدون ما نفقد الأمل .. وإذا كانت هذه إرادة الله .. لابد أن يكون عندنا أمل .. وإذا كانت إرادة الله إننا ما نشوفهم ثانى يبقى حياتنا .. لابد أن نتقبل قدرنا .. أنت ما بتشعرينى يا سعاد إنك تبكين أبوك .. إنت تبكين الأمان .. تبكين الاطمئنان اللى كان يمثله أبوك .. 

يتابع جاسم كلامه مع سعاد ، وهو يشعر أنه يتحدث بصوت قلبه ، لا .. بل بكل
قلبه ، وهو يؤكد لها صادقاً مخلصاً ، واثقاً :

– ترى سعاد أنا مو بس زوجك .. أنا أبوك .. أنا أخوك .. أنا كل أهلك .. أنا عمرة ما قدرت أعبر لك عن مشاعرى يا سعاد .. يجوز لأنهم ما علمونا إننا نعبر عن مشاعرنا .. لكن إذا ما كنت قدرت أعبر لك من قبل عن شعورى ناحيتك فخلينى الحين أعبر لك واقول لك أنك إنت حياتى .. وأنا من أول يوم وأنا بأحبك .. بأحبك .. بأحبك يا سعاد .

تبقى سعاد منهارة من البكاء وهى ما تزال ترتكز على الحاجز الأسمنتى ، وجاسم واقف إلى جوارها يستند عليها ، يضع يده على كتفها وهو يقول لها ، متابعاً حديثه النابع من القلب ، بعد أن أدرك أنه يحبها ، وهى أثبتت له بالفعل أنها تحبه :

– أنا كنت غلطان يا سعاد .. كنت غلطان لأنى بأحبك .. وما كنت أريد أعترف لنفسى إنى بأحبك .. أنا صدق كنت غلطانى لأنى سمحت لنفسى أن تضيع كل هذه
السنين بدون ما أصارحك وأعبر لك عن حبى وأقولك باحبك .. باحبك .. طبعاً يا سعاد أنا ما كنت متعود أعبر لك عن مشاعرى ، بس الحين أنا بأحاول أعبر لك ولو عن .. شئ من مشاعرى !

تسمع سعاد هذه المفاجأة فتنساب دموعها فى هدوء ، دموع الفرح ، فهذه المشاعر صادقة ، هى فعلاً تحسها ، فإذا كان فى دماغها شئ هى طول عمرها تتمناه من قلبها ، إنها تعرف إن جاسم بيحبها ، وإنه يعرف إلى أى مدى هى تحبه .. ! كل ما كانت تتمناه طول عمرها هو ما عبر عنه جاسم الحين .. بعد هذه السنوات من الزواج .. بعد ثلاثة أطفال !!

تسمع سعاد هذا الكلام الآن .. تسمع هذا الإعتراف الآن .. لكن ، العجيب أن جاسم لفت نظرها إلى شئ مهم جداً ، إن جاسم بطل كرة القدم ، كابتن منتخب الكويت الوطنى ، الطبيب الجراح المشهور ، بطل المقاومة الوطنية ، بطل المقاومة الوطنية ، قدر أن يعبر عن مشاعره ، فى حين أنها هى حتى هذه اللحظة لم تقدر أن تعبر عن مشاعرها ؟!

تكتشف سعاد إنها عمرها ما قالت لجاسم أحبك ! عمرها ما قالت لجاسم إنه هو
حياتها ! مع إنها من يوم ما شعرت بنفسها ، وجاسم فى عينيها ، فى قلبها ، فى وجدانها ، فى
روحها ، فهو حبيب قلبها .. إحتمال إنها شافت صورة وجه جاسم قبل أن ترى وجهها ، إحتمال إن قلبها خفق بحب جاسم ، قبل أن يخفق لها .. إحتمال .. إحتمال .. !

تدرك سعاد إنها تحب جاسم قبل أن تدرك وجودها ، الفكرة التى كانت مسيطرة عليها أنها تدرس إنجليزى عشان جاسم ، أنها تتعلم فى الجامعة عشان جاسم ، أنها تعمل وتنجح فى العمل عشان جاسم ، وإنها تحمل وتلد ولتكون أماً .. لأطفال جاسم ، إنها تطبخ وتتقن
الطهى ليكون أكلها مستساغاً لجاسم ، كل هذا دون أن تصرح أو تبوح بشئ من تلك المشاعر لجاسم !

.. كل هذا دون أن تعرف كيف تسوغ تلك الأحاسيس فى كلمات يسمعها جاسم ! .. إكتفت إنها وضعت مشاعرها فى أعمالها ، وإعتقدت إنها بذلك تعبر عنها ، إكتفت بذلك ، دون أن تنطقها فى كلمات !!

تلتفت سعاد مبتسمة إلى جاسم ، تقول له فى هدوء :

– أنت ما كنت وحدك يا جاسم اللى غلطان .. لأنى عمرى ما عبرت لك عن مشاعرى .. وعمرى ما قلت لك إنى بأحبك .. عمرى ما وضحت لك إنك إنت حياتى وروحى .. وبعد روحى .. وبعد عمرى .. أنا مثلك يا جاسم ما ثدرت أعبر لك عن مشاعرى .. يجوز مثل كل عائلتنا ، مثل كل ديرتنا ، ما حد علمنا إننا نكشف مشاعرنا أو نعبر عن أحاسيسنا ..

بس .. أنا الحين أريد قولك .. إذا ما كنت عرفت كيف أعبر لك عن مشاعرى .. فأنت الحين خليتنى اقدر أعبر واقدر أبوح واقولك .. بأحبك .. بأحبك يا جاسم .. بأحبك ..

وهذا .. شئ من مشاعرى

تمت بعون الله

شئ من مشاعرى

  • قصة المشاعر الإنسانية الملتهبة .. !
  • قصة صراع النفس الإنسانية فى ضعفها وقوتها ، فى حنّوها وقسوتها ، فى يأسها وشجاعتها .. !
  • قصة تدور أحداثها فى خمس مدن ، وأربع قارات .. !
  • قصة تحرك أحداثها عواطف الحب والحقد والتحدى .. !
  • قصة تصنع أحداثها قوى المقت والبغض والتردى .. !
  • قصة تشتعل فيها القلوب .. والمدن .. !
  • قصة كل جزء فيها واقعى ، هى فى الحقيقة عبارة عن أجزاء من الواقع ، كما حدثت فعلاً ، قامت كريمة شاهين بتجميعها وربطها فى رائعتها .. شئ من مشاعرى .. التى تهديها بكل الحب إلى .. الكويت .


 

شئ من مشاعرى

  • قصة يحتدم فيها الصراع بين الحياة والموت ، وبين قوى الخير والشر !
  • قصة حياة تمزق أحداثها البشر ، فتحيلهم ضحايا تنهشهم أنياب الغدر والظلم والعدوان !
  • قصة النفس الإنسانية فى صراعها مع نفسها ، وصراعها مع الأحداث التى تتحكم فى تسيير مصيرها .. !

حقيقة الأمر ، مرة أخرى ، وهل يمكن أن نقول مرة أخرى .. تبين كريمة شاهين قدرتها على النظر إلى أعماق النفس البشرية .. !

.. مرة أخرى ، تثير فينا كريمة شاهين الإحساس بالسعادة والألم ، بالفرح
والحزن ، بالطموح والإحباط .. !


شئ من مشاعرى

  • قصة لم تحدث فى الواقع بالشكل الذى جاءت به ، لكن .. كل جزء فيها حدث فعلاً كما جاء !
  • قصة توضح لحظات الضعف الإنسانى حين تكشف كيف تتحكم الأحداث فى صياغة العواطف ، وتوجيه المشاعر ، حينما يجد الإنسان نفسه أمام قوى لا قبل له بها .. !
  • قصة تصور صراع النفس الداخلى ، وتحكى كيف يتحكم الحقد فى الحب .. وكيف تفّجر الأحداث .. الإحساس !

طبعاً ، لا داعى للإشارة إلى أن الأسماء التى وردت أسماءُ غير حقيقية ، لكن ، الوقائع التى تشير إليها القصة ، هى وقائع حقيقية .. حقيقية ، وإن كانت الأماكن التى تشير إليها القصة ، ليست لها علاقة بالقصة ، سوى علاقة المساعدة فى البناء الدرامى .


شئ من مشاعرى

مسلسل                                         العنوان

الفصل الأول                                           فى المدرسة ..

الفصل الثانى                                           أنين الحب !

الفصل الثالث                                           .. عاشق الشوق !

الفصل الرابع                                            صدى الصمت !

الفصل الخامس                                         حنان البحر .

الفصل السادس                                         بريق العشق .

الفصل السابع                                          حريق الذكريات !

الفصل الثامن                                           ليلة ساهمة .. !

الفصل التاسع                                          ومض الزمن !

الفصل العاشر                                          بسمة .. حائرة !

الفصل الحادى عشر                                    بعد .. البعاد !

الفصل الثانى عشر                                     وداع و .. عناد !      

الفصل الثالث عشر                                     حنين .. ورحيل !

الفصل الرابع عشر                                      أنوار العيد .

الفصل الخامس عشر                                   .. هول المفاجأة !

الفصل السادس عشر                                   الصدمة الصاعقة !

الفصل السابع عشر                                    اللحظة الحرجة !

الفصل الثامن عشر                                     البشع المشوه !

الفصل التاسع عشر                                    ليالى العذاب !

الفصل العشرون                                        الديسكو السفلى .. !

الفصل الحادى والعشرون                               الحفيد ابن الشهيد .

الفصل الثانى والعشرون                                الباطل الواضح .

الفصل الثالث والعشرون                                برحمتك أستغيث .

الفصل الرابع والعشرون                                 مصرع .. الجمال !

الفصل الخامس والعشرون                              وقفة خاصة !

الفصل السادس والعشرون                              الحبيب الجريح .

الفصل السابع والعشرون                               كواكب التحرير .

الفصل الثامن والعشرون                                أشباع العذاب !

الفصل التاسع والعشرون                               دموع القمر !

الفصل الثلاثون                                         شئ من مشاعرى

 

 

سر الحزام الأحمر

سر الحزام الأحمر

أبو الورداء .. كان رجلا حكيما سجل له التاريخ كثيرا من المواعظ العظيمة التي أخذ كثيرا من الناس بها ، ومنها هذه المواعظة :

( ثلاث من ملاك أمر ابن آدم : لا تشك مصيبتك … ولا تحدث بوجعك .. ولا تزل نفسك بلسانك  ) فكرت في هذا الكلام ،فوجدته ينطبق اكثر ما يكون على الناسايام زمان،فنحن في هذا العصر الحديث صرنا اقل حرصا على اسرارنا،بل صرنا نهرع الى الاخرين فور وقوع المصيبة نبحث عمن يساعدنا في التخفيف منها،و التقليل من تأثيرها،كما اننا قد اصبحنا اقل كتمانا ،فسرعان ما نبوح  بما يؤيؤلمنا ،باحثين عن المشاركة أما الكلام عن النفس ،ذاك الكلام المطرز بمدح الذات ،وتجميدها ،ورفع شأنها ،فاعتقد انه امر معروف للجميع لذا ،احب أن احكى لكم تلك  القصة القصيرة كما وقعت أحداثها ،في زمن جميل ، مضى و غاب ، زمن ، لم يبق منه سوى الذكرى ،وسيرة أولئك الناس الاحباب ….

منذ وقت طويل ،فى مكان بعيد بالصحراءفى جزيرة العرب ،انعقدت اواصد الصداقة و المحبة بين رجلين من التجار، كانت الثقة و الامانة بينهما لا مثيل لها لدرجة انه لم تكن بينهما اسراس،فقد كانا يتصارحان بكل امورهما نو لا يخفيان شيئا عن بعضهما البعض .

وذات يوم ، خرجا كعادتهما للاتجار في الأبل التي يأتيان بها من البادية فيهبطان بها الى الأسواق ليبيعونها بربح معقول ، ثم يخرجان للاتيان بغيرها .

وهكذا ، مضت بهما الحياة في راحة ويسر وكسب حلال ، فقد كانا صديقين مخلصين لا يكادا يفترقان في الصحبة والذهاب والاياب وان كان مال كل منهما منفصل عن مال الآخر في ذلك اليوم ، بعد أن أنتهيا من بيع الأبل في السوق ، وبعد أن أودع كل منهما ذهبه في  حزام به مخابئ لفه حول وسطه وكان لونه أحمر فاقع، وكان الحزامان من نفس الصنف واللون ، فقد أبتاعهما من محل واحد .

مشي الرجلان في الأرض ، وطال بهما السفر ، الى أن أدركهما الأعياء والتعب ، وأشتد عليهما الحر ، فناماتحت ظل شجرة  وافرة الأغصان بعد أن تخففا من ثيابهمــا ومن بينها الحزامين الممتلئين بالذهب الذي يثقلهما ويزيدهما حرارة..

وبعد أن أرتاحا بعضا من الوقت أخذ أحدهما يعد الطعام والقهوة ، بعد أن علق حزامه على ظهر راحلته ، التي ربطها تحتها ..

وهنا … حدثت مفاجأة ، فقد أتت فجأة وأختطفت الحزام الأحمر بما فيه من ذهب  بينما كان صاحبه ذاهبا ليحضر حطبا يوقد به النيران  !

وسرعان ما غابت الحدأة خلف الأفق بحملها الثمين … ياللمصيبة ؟!   أسقط في يد التاجر ، وتلفت حوله بحثا عن صديقه ليرى ما حدث .. لكنه لم يكن موجودا  بجانبه أذن .. سوف تقع الظنون … ولسوف يساوره الشك في أمره فهو قاطعا لن يصدق أن الحدأة قد أختطفت حزامه  بما فيه من ذهب وأختفت خلف الأفق .

 

كلمات من نور

 (وَهُوَ اللَّـهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ )  ( الأنعام : 3 )

!شهوات الطعام السبع

!شهوات الطعام السبع

بعض الناس حين يجالس الآخرين، في سهرة أو في حفلة يشاركهم الطعام مجاملا، فيأكل معهم دون أن يكون جوعانا… مجرد وجوده بينهم يجعله يفعل ذلك تكريما لضيوفه ربما، أو ترحيبا بحضورهم ربما!

       المهم… في جميع الحالات نجد أنفسنا أحيانا وقد بدأنا نأكل دون أن نشعر بالجوع في حين أن شهوة الجوع مهمة جدا، بل أساسية، قال في ذلك القرطبي: شهوات لطعام سبع: شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع التي يأكل بها المؤمن، وما الكافر فيأكل بالجميع.

       وفي رواية للبخاري: أن رجلا كان يأكل كثيرا فأسلم، فكان يأكل أكلا قليلا، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن المؤمن يأكل في معي واحد، وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء).

       حقا… صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع).

       وعن المقداد بن الأسود قال: قدمت أن وصاحبان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابنا جوع شديد فتعرضنا للناس فلم يضيفنا أحد، فانطلق بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله وعنده أربع عنز، فكنت أجزئه بيننا أرباعا، فاحتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فحدثت نفسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى بعض الأنصار فأكل حتى شبع وشرب، حتى روى، فلو شربت نصيبه فلم أزل كذلك حتى قت إلى نصيبه فشربته ثم غطيت القدح…

       فلما فرغت أخذني ماقدم وما حدث، فقلت يجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعا ولا يجد شيئا… وجعلت أحدث نفسي، فبينما أنا كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم تسليمة يسمع اليقظان ولا يوقظ النائم، ثم أتى القدح فكشفه فلم ير شيئا فقال: (اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني).

       واغتنم الدعوة، فقمت إلى الشفرة فأخذتها ثم أتيت الأعنز فجعلت أجتسها أيها الأسمن، فلا تمر يدي على ضرع واحدة إلا وجدته حافلا، فحلبت حتى ملأت القدح، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إشرب يا رسول الله، فرفع رأسه إلي فقال: (بعض سوأتك يا مقداد. ما الخبر؟).

       قلت اشرب ثم الخبر. فشرب حتى روي، ثم ناولني فشربت، فقال: (ما الخبر؟) فأخبرته فقال: (هذه بركة نزلت من السماء فهلا أعلمتني حتى نسقي صاحبينا) فقلت إذا أصابني وإياك البركة فما أبالي من أخطأت.

كلمات من نور

       (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ) (الأعراف: 96).


واستنكر العرب هذا الحدث أشد الإنكار

واستنكر العرب هذا الحدث أشد الإنكار

بعث الله تبارك وتعالى النبي محمد صلى الله عليه وسلم الى كافة العرب والعجم ، والجن والأنس وجعله سيدا للبشر ، ومنح بشهادة التوحيد ( لا اله اللا الله ) كمال الإيمان بشرط أن تتقترن بقول ( محمد رسول الله ) والزم الله سبحانه وتعالى الخلق بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أ أخبره عنه من أمور الدنيا والآخرة وأوضح لنا الله جل جلاله ان طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله (من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ( النساء  : 8 )

فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي سبيل الهداية الى الحق : ( وأن تطيعوه تهتدوا ) ( النور : 54 ) كما قرن الله سبحانه طاعة الرسول  بطاعته في آيات كثيرة : ( قل أطيعوا الله والرسول ) ( آل عمران : 32 ) كما بشر من أطاع الله ورسوله بالرحمة والجنة  : ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) ( آل عمران)   .

هذه كانت بعض الآيات التي جاءت تؤكد الى أي مدى يحب الله رسوله ، ويكرمه الى درجة أنه لم يناده بأسمه مباشرة كما حدث مع بعض الأنبياء والرسل وأنما كان يناديه بالقاب مثل ياأيها  ، يا أيها المدثر ، وهكذا ..

أما عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم الأنبياء والمرسلين وعن محبته الله له ، فلها دلائل كثيرة واضحة نأخذ منها الآن حادثة الاسراء والمعراج التي جاءت في وقت كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوج ما يكون لها بعد أن  لقى ما لقى من المشركين ، وبعد ما تعرض له في الطائف من عنت وقسوة  آلمته نفسيا وجسديا ..

وها هي بعض مفردات ذلك الحدث الذي أهل العرب آنذاك ، لدرجة جعلت بعضهم ارتد عن الاسلام ، كما كذب البعض الآخر ما سمع ، وأتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم باتهامات كثيرة باطلة كان لا أثر كبير على معظم الناس آنذاك ، أولئك الذين ذهب بعضهم الى صديقه أب بكر .الصديق يخبرونه بما قال محمد ، فكان رده قاطعا بان اذا قال محمد ذلك فقد صدق 

شهر رجب هذا الشهر الكريم من الأشهر الحرم بعد ظهور الاسلام بمكة ببضع سنين هو ذاتنه الذي أثار في مشركي مكة أبلغ العجب ، والدهشة ،وأشد الانكار ألا هو حادث الاسراء والمعراج .

والاسراء هو انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا من مكة الى بيت المقدس ثم عودته الى مكة في الي بيت المقدس ، ثم عودته الى مكة في اللية نفسها أما المعراج فهو صعوده صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس الى السموات العلا الى سدرة المنتهى حيث أوحي الله اليه ما أوحى ثم هبوطه الى بيت المقدس في ليلة الأسراء نفسها .. حقا .. أنها لمعجزة كبرى لخاتم الأنبياء والمرسلين ، الذين تنال بطاعته الجنة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كل أمتى يدخلون الجنة الا من أبى ) قالوا : يا رسول الله ومن يابى ؟ قال : ( من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ) قال تعالى في سورة ( النساء :80 ) ( من يطع الرسول قد اطاع

الله )

كلمات من نور

( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  ) ” أل عمران : 31 “

 

الشجاع الأقرع

الشجاع الأقرع

يقول تبارك وتعالى :

( وأقيموا الصلاة )

هذا أمر من الله لاقامة الصلاة أي  بأداء الصلاة باركانها وسناتها وآدابها ، وهيئاتها في أوقاتها المعلومة المعروفة المحددة ، فقد ورد أن أول ما ينظر فيه من عمل  العبد يوم القيامة الصلاة ، فان وجدت تم قبلت منه وسائر أعماله ، وأن وجدت ناقصة ردت اليه وسائر  عمله والعياذ بالله .

يقول صلى الله عليه وسلم من صلى الصلاة بوقتها واسبغ وضوئها وأتم ركوعها وسجودها وخشوعها عرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلى صلاه لغير ولم يسبق وضوئها ولم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها عرجت وهي سوداء مظلمة تقول شاء الله لفت كما يلف يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه .. هذا لمن لم يحن صلاته أما من استهان بها فقد عاقبه الله بخمس عقوبات في الدنيا وثلاث عند الموت وثلاث في قبره وثلاث عند خروجه من القبر فاما عقوبات الدنيا  فهي : –

الأولى : تنزع البركة من عمره

الثانية : تمحي سيما الصالحين من وجهه .

الثالثة : كل عمل يعمله لا يأجره الله عليه

الرابعة : لا يرفع له الدعاء الى السماء

الخامسة : ليس له حظ في دعاء الصالحين خاصة عندما يقولون في الصلاة السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

اما التي تصيبه عند الموت

الأولى : فان يموت ذليلا

الثانية : يموت جائعا

الثالثة : يموت عطشانا لو سقي بحار الدنيا ما روي عطشه

أما التي تصيبه في قبره : –

الأولى : يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه

الثانية : يوقد عليه القبر نارا فيقلب على الجمر ليلا ونهارا

الثالثة : يسلط عليه في قبره ثعبان أسمه الشجاع الأقرع عينه من نار واظافره من حديد  يكلم الميت فيقول أنا الشجاع الأقرع . وصوته مثل الرعد القاصف يقول أمرني ربي أن أضرب على تضييع الصلاة نم الصبح الى طلوع السمش واضربك على تضييع الصلاة من الظهر الى العصر واضربك على تضييع الصلاة من المغرب الى العشاء واضربك على تضييع الصلاة من العشاء الى الفجر  .

اللهــم بيض وجهنا ونور قلوبنا ولا تجعلنا  من اللذين تسود وجوههم يوما لقيامة .

أولئك اللذين تركوا صلاتهم ولم يحافظوا عليها روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه ( قولوا اللهم لا تدع فينا شقيا ولا محروما ، ثم قال صلى الله عليه وسلم اتدرون من الشقى المحروم ؟ قالوا ومن هو يا رسول الله قال : ( تارك الصلاة )

كلمات من نور

 ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴿٤٢﴾ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ )


!قصر الجبار .. المقلوب

!قصر الجبار .. المقلوب

ذات يوم .. ( بني جبار من الجبابرة قصراً وشيده فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه شيئاً تأوي إليه فركب الجبار يوماً وطاف حول القصر فرأى بناءها, فقال: لمن هذا؟ فقيل: لامرأة فقيرة تأوي إليه, فأمر بهدمه فهدم, فجاءت العجوز فرأته مهدوماً فقالت : من هدمه؟ فقيل لها : الملك رآه فهدمه, فرفعت العجوز رأسها إلى السماء وقالت: يارب أنا لم أكن حاضرة فأنت أين كنت قال: فأمر الله عز وجل جبريل أن يقلب القصر على من فيه فقلبه).

       كانت هذه حكاية رواها العلامة وهب بن منبه الذي ولد في زمن عثمان رضي الله عنه, والذي أشتهر بأخباره القصص.. وهي حكاية توضح نهاية كل ظالم يتجبر ويفتري على حقوق الناس, وينسى قدرة الله عليه! حقاً ..        (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من ضرب سوطاً ظلماً اقتص منه يوم القيامة).

       وحدث ذات يوم لما حبس خالد بن برمك هو وولده, وهما من إعلام البرامكة, أن قال له ولده: يا أبت بعد العز صرنا في القيد والحبس؟! قال: يا بني دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عز وجل عنها…

       هذه هي روعة الاعتراف بقيمة الظلم, الذي يجعل الله سبحانه وتعالى يقف إلى جانب المظلوم حتى ينتصر له ممن ظلمه, إلى أن يصير (من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) (البقرة :29).

       وكان يزيد بن حكيم يقول : ما هبت أحداً قط هيبتي رجلاً ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله يقول لي: حسبي الله, الله بيني وبينك.