كريمة شاهين
شئ من مشاعرى
لوحة الغلاف إهداء
من الفنان القدير …
سيد حليم
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ
صدق الله العظيم
(سورة الزخرف – الآيات 67 – 70)
إهداء
… الأحداث التى وقعت سنة 1990 أثرت على كل إنسان عاش فى الكويت .. وعانى مما أصاب الكويت .
هذه القصة .. شئ من مشاعرى
أهديها إلى من أحب ، وأعتدت دوماً أن أحب ، وأحب …
الكويت
تحياتى
كريمة شاهين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
شئ من مشاعرى
قصة ليست من وحى الخيال ، فكل جزء منها يعكس واقعاً حقيقياً حدث ، كل ما فعلته هو أننى بحثت عن هذه الأجزاء التى تناثرت مع طلقات الرصاص فى الكويت ، وقمت بتجميعها وتركيبها .. لكن .. كل جزء حقيقى .. حقيقى ، لذا أتمنى أن لا تثير هذه الوقائع الحقيقية الأحزان مرة أخرى ، وإذا أثارت فاليّعد هذا ثمناً لابد أن ندفعه ، فهذه الأشياء لا يمكن أن ننساها ، لا يمكن أن ننساها .. لسبب بسيط .. كى لا تتكرر !
نعم .. يجب أن لا ننسى الشر ، يجب أن لا نغفل عن الشر ، كى نتجنب الشر !
هذه القصة التى كتبت وقائعها ، حدثت لسعاد وجاسم ودلال ، هى لم تحدث لكريمة شاهين ، أنا غير موجودة فى هذه القصة ، وإن كنت موجودة فى الأحداث ، التى أثرّت على كل إنسان فى الكويت .. وأنا من بينهم !
وهذه الأسماء ، فى حقيقة الأمر ، أسماء خيالية ، لأننى لا أستطيع إستخدام الأسماء الأصلية لأبطالها الحقيقيين ، لهذا أحب أن أوضّح قبل النشر ، إننى لم استخدم اسم أى شخص حقيقى ، والأسماء التى وردت فى القصة ليست لها علاقة بالواقع .
أيضاً ، أحب أن أقول أن هذه القصة ليست قصة حرب التحرير ، وإنما هى قصة رجل وامرأتين ، تصادق أنهم كويتيون ، وكأى رجل ، وأى امرأة ، تتحكم العواطف فى سلوكهم ، وكأى رجل ، وأى امرأة أيضاً ، تتحكم الظروف فى هذه العواطف !
إذن .. كان لابد أن تؤثر حرب التحرير على سعاد وجاسم ودلال ، ذلك ، لأن حرب التحرير حدثت فى أرضهم ، ولأنهم كويتيون .. المسألة غير مقصودة .. !
فى الواقع لم يكن تأثير حرب التحرير على سعاد وجاسم ودلال وحدهم ، بل إن هذا التأثير طالنى أنا أيضاً ، لذا ، لم يكن بمقدورى على أية حال أن أكون موضوعية تجاه ما حدث على أرض الكويت ، لقد أثارت هذه القصة فى نفسى أثناء كتابتها مشاعر كثيرة
متعددة ، ومتضاربة ، ومتناقضة !
لقد أعادت إلى ذاكرتى تلك الأيام السوداء التى مرت بى عندما رأيت حياتى أنا ، وأسرتى أنا ، وحياة أولادى وأهلى ، وقد تلخبطت ، وتمزقت ، وتعرضّت فى أوقات عديدة للشعور بالخوف والوحدة والضياع !
آه .. إننى لا أنسى تلك الأيام السوداء التى قضيناها فى لندن ونحن لا نعلم شيئاً عن زوجى ، ولا ندرى ماذا حدث له ، كذلك لا يمكن أن أنسى ذلك العذاب الفظيع الذى بدأت أعانيه ، عندما بدأت تتسلل معا لوقت قصص التعذيب البشع الذى صار الناس يتعرضون له داخل الكويت ، ومن بينهم أصدقائى وزملائى ومعارفى !
آه .. كان إحساساً لعيناً ، عنيفاً ، موجعاً !!
حقاً .. كانت أياماً طويلة ، ذات ليالى أليمة رهيبة ، لم نعرف النوم خلالها ، ولا الراحة ولا الاستقرار فى نهارها ، فالأخبار تأتى دوماً بكل ما هو مخيف ومرعب ، والخوف والقلق على الأحباء فى الكويت يتخطى كل الحدود ، يوجع كل القلوب .. !
نعم .. كانت أخبار القتل والتعذيب والإغتصاب تغّص بها الصدور ، تتمزّق لها النفوس ، تعتصر لها القلوب ، ولم تكن العين وحدها تبكى ، الروح كانت تبكى ، النفس كانت تبكى !
آه .. كم كان هذا الحزن ساحقاً ، وكم كان لعيناً ذاك العذاب !
فى الحقيقة .. هذه القصة أعادت لى تلك الذكريات السوداء ، ذكريات الحزن والتعاسة والعذاب ، كما أعادت لى ذكريات الفرح والبهجة والسرور ، أذكر لحظة فرحة التحرير ، وكيف قفزت من على الأرض فرحاً بعودة الكويت .. !
نعم .. أذكر كيف لم ينم الناس حتى الصباح فى حى المهندسين ، بالتحديد فى شارع جامعة الدول العربية ، وكان من بينهم أبنى أحمد مع مجموعة من الأصدقاء من مصر ومن الكويت ، الذين ظلوا يرقصون ويهتفون حتى الصباح .. !
لم يكن تحرير الكويت تحريراً لأرض ، إنما جاء تحريراً للإنسان ، تحريراً
للأصدقاء ، تحريراً للأحباب .. تحريراً لزوجى ، وأولادى ، وأصدقائى ، وبيتى ، وعملى ، وكتبى ، تحريراً لحياتى !
نعم .. لقد أرتبطت حياتى بالكويت منذ اللحظة التى حصلت فيها على ليسانس الآداب قسم الصحافة .. حتى الآن ! إنه عمر .. عمر .. عزيز وغالى ، يحفل بتحقيق أحلام الطموح والنجاح والأمانى .. حمداً لله . حمداً لله . حمداً لله .
معاً سنعود بعون الله
.. أحياناً تلعب الصدفة وحدها دوراً هاماً وحساساً فى حياة الإنسان ، وهذا ما حدث معى بالفعل ، عندما غادرت الكويت إلى لندن فى الشهر السابع قبيل الغزو ببضعة أيام !
شاءت الصدفة وحدها أن تنأى بى عن مواجهة هذا الحدث المؤسف البشع ، كما شاءت أن تتيح لى فرصة لقاء صحافى آخر مع قراء ” سيدتى ” تلك المجلة السعودية ذائعة الصيت ، الغنية عن التعريف ، التى يوجد مقرها الرئيسى فى لندن .
من هنا .. صنعت الصدفة هذا اللقاء الإعلامى ، الذى أعطانى مجالاً عظيماً فى أن التقى أيضاً ، قراء مجلة ” اليقظة ” الكرام ، منذ بداية الغزو ، وذلك بعد أن إحتيجت قسراً عن الصدور !
وكان أول مقال نشر لى فى مجلة سيدتى ، قد صدر فى العدد رقم 496 فى الصفحة 18 ، بتاريخ 10/9/1990 ، وإعتباراً من ذلك التاريخ ، وأنا أكتب ، أصف ، أقول ، أعبّر عن كل ما أشعر به نحو الحبيبة الكويت ، رافضة تماماً تلك الممارسات البشعة اللاإنسانية ، التى كانت تصل إلى أسماعى كصحفية ، والتى نشرت على لسان أبطالها الحقيقيين ، طوال فترة الغزو وحتى ما بعد التحرير ، إلى أن عادت ” اليقظة ” تلك المجلة الحبيبة إلى الصدور .
معاً .. سنعود بعون الله
لذا .. أرجوا أن يعذرنى القارئ لأننى أجد نفسى مضطره أن أعيد نشر مقالاً لى سبق نشره فى مجلة ” سيدتى ” فى الشهر الثانى من الغزو لأن له علاقة مباشرة بأحداث هذه القصة ، رغم أننى أعلم أن هذه القصة ليست بحثاً فى حرب التحرير ، وأن من غير المألوف أن يضع الكاتب مقالاً صحفياً فى مقدمة القصة ، لكنى أرجو من القارئ أن يفهم أن هذه القصة ليست قصة فحسب ، إنما هى جزء من كيانى ، ومن عمرى ، ومن حياتى !
هذه القصة ، فى حقيقة الأمر ، لا تعّر عن شئ من مشاعر سعاد ، أو شئ من مشاعر جاسم ، أو شئ من مشاعر دلال .. وإنما هى أيضاً ، تعبر عن .. شئ من مشاعــرى .
كريمة شاهين
معاً .. سنعود بعون الله
هل تعتقد حقاً أنك لن تجلس على المقهى الشعبى أمام شاطئ البحر فى السالمية مرة أخرى ؟!
هل تعتقدين حقاً أنك لن تذهبى مع أطفالك إلى المدينة الترفيهية حيث يلعب ويلهو الصغار ؟!
هل تعتقد حقاً أنك لن تذهب إلى سوق السمك صباح الجمعة وتعود إلى البيت قبل أن يستيقظ الأطفال ؟!
هل تعتقدين حقاً أنك لن تذهبى إلى محل العالمية لشراء ” البيتزا ” الساخنة والحلوى الطازجة فى المساء ؟!
وهل تعتقد حقاً أنك لن تقود الأبناء إلى المدرسة قبل الذهاب إلى عملك فى الصباح وأنت حانق على زحام السيارات فى شارع الخليج ؟
هل تعتقدين حقاً على أنك لن تذهبى إلى ” الهيلتون ” و ” الشيراتون ” لحضور الأفراح وأعياد الميلاد ؟! و .. هل تعتقد أنك لن تذهب إلى جمعية الشامية لإحضار طلبات الأهل وأم العيال ؟بالنسبة لى فأنا أعرف أنى معكم سأعود بعون الله ، وسأحمل طفلتى فى سيارتى إلى مدرستها فى سلوى ، وسأصحبها مساء الأربعاء فى جولة بمجمع زهرة وأداعبها وهى تركب القطار الخشبى الأحمر ، وأضاحكها وهى تلعب وسط الكرات الملونة هناك مع باقى
الأطفال ، وسأشترى لها سندوتش ” الشاورما ” من ” كافيتريا ” فرح قبل العودة إلى البيت فى المساء بإذن الله . أنا أعرف ذلك .
معاً .. سنعود بعون الله
… هذا هو المقال الذى أحببت أن أضيفه الآن بعد تلك المقدمة السابقة ، وقد أخترته عن عمد ، لأنه نشر فى مطلع الغزو فى مجلة سيدتى ” فى العدد رقم 498 بتاريخ 30/9/1990 ، فجاء حافلاً بالأمل والتفاؤل ، رغم الشعور العام السائد باليأس ، الحافل بالخوف والقلق والإحباط ، رغم الظروف الصعبة العصبية السوداء ، التى جعلت بعض الناس لا يتوقعون عودة سريعة وعاجلة للكويت ..!
رغمّ ذاك الشعور ، ورغم تلك الدموع ، ورغم كمّ الرعب والجزع ، أتى مقال
معاً .. سنعود بعون الله شعاع ضوء ينير قلوبنا عجزت عن الشعور بالأمان والإطمئنان ، فى زامن لعين افترس فيه الإنسان ، بكل خسة ونذالة .. أخاه الإنسان !!
الفصل الأول
فى المدرسة
دق جرس المدرسة معلناً إنتهاء الحصة الأخيرة ، فاندفعت الطالبات نحو موقف الباصات ، وبينهن سعاد التى تمشى فى دعة وهدوء ، تحتضن حقيبتها بين ذراعيها ، تقترب من الباص ، تصعد السلم وهى تضمها إلى صدرها ، ثم تتجه بصعوبة تشق طريقها وسط الزحام حتى تصل إلى المقعد الأخير ، حيث إعتادت أن تجلس كل يوم .
تستريح سعاد ، تلتقط أنفاسها بمشقة من شدة الحر والتدافع والإزدحام ، تضع حقيبتها أسفل المقعد ، تدنى وجهها من فتحة النافذة الجانبية ، تأخذ نفساً عميقاً طويلاً ، ثم ، تنظر فى فتور إلى الساحة الواسعة ، حيث تقف السيارات الخاصة الكثيرة ، تطالع بلا مبالاة وجوه الأهالى الذين حضروا لأصطحاب بناتهن من المدرسة .
تمضى اللحظات مملة ثقيلة خانقة ، فالباصات ما تزال تربض فى موقعها بإنتظار صعود الطالبات ، وسعاد ما تزال تقبع فى مكمنها ترجو أن يخف الزحام المهيمن على المكان كى تبدأ رحلة العودة اليومية إلى البيت .
فجأة … فى وسط هذا الإنتظار الممل الرتيب ، يخرق سمع سعاد صياح الطالبات اللاتى تدافعن كلهن نحوها ، وقد لمعت عيونهن وارتفع صوتهن ، وهجمن على المقعد الأخير فى هوس وجنون ، حيث التصقت وجوههن بزجاج الباص العريض ، وهن يصرخن ويصحن فى هستيريا جاسم الناصر .. جاسم الناصر .. وأيديهن تلوح فى إنفعال فظيع وفرح وحشى حماسى منقطع النظير ، لتحية اللاعب الشهير كابت المنتخب الوطنى لكرة القدم ..
جاسم الناصر !
تبقى سعاد تحاول بكل جهدها أن تحتفظ لنفسها بتلك المساحة الزجاجية الضئيلة التى ظلت تنظر من خلالها إلى جاسم الناصر ، وهى تبذل كل طاقتها لترفع جسدها المتكور الذى يكاد ينقصم تحت ثقل أجساد الطالبات اللاتى يشتد ضجيجهن ، ويرتفع صياحهن عند إقتراب جاسم الناصر بسيارته ” السبور ” الحمراء من الباص الخاص بهن ، فتتلاصق أكتافهن ، تنحشر رؤوسهن تغلق فتحان النوافذ تماماً بأجسامهن ، حتى تكاد سعاد تختنق فترفع رأسها تلتقط أنفاسها ، وهى تصارع كى تبقى تتابع الموقف الخارجى ، و … تظل تنظر إليه !
تلمح سعاد ليلى تكلم جاسم الذى نزل من السيارة ليقف يحيى صديقاتها اللاتى ركضن نحوه والتففن حوله ، ووقفن يتحدثن معه فى لهفة وفرحة وإنبهار ، تنفضّ الطالبات من حول جاسم ، بعد أن أخذ سائقوا الباصات يرطنون بالهندية ويضغطون على النفير بعصبية ، ويحركون عجلاتها ، فركضن عائدات ، إلاّ واحدة وقفت ، رفضت أن تتحرك ، كأن لا أحد فى الدنيا يعنيها غيره ، وكأن الساحة قد خلت من ناسها إلاّ هو .. كانت هذه هى دلال التى انصرفت مرغمة بعد أن رأت الباص يوشك أن يرحل بدونها !
يسأل جاسم أخته ليلى :
وين سعاد ؟! ليش ما جاءت معانا نوصلها البيت ؟!
ترد ليلى ضاحكة وهى تشير نحو أحد الباصات :
سعاد قاعدة فى الباص .. تستحى تركب معانا !
يتبع جاسم إشارة أخته فيلمح وجه سعاد الجميل من وراء الزجاج .. تلتقى العيون فى نظرة خاطفة ، تخفض سعاد عينيها فى حياء وإرتباك ، بينما ينظر جاسم نحوها مبتسماً متسائلاً عن عدم مجيئها .. !
لحظات .. وينفض الازدحام بعد إنصراف جاسم ، واختفاء سيارته ” السبور ” الحمراء عن الأنظار ، تعود الطالبات إلى مقاعدهن وهن يرددن فى حماس شديد :
– أووه يا الأزرق .. ألعب فى الساحة يا كويت .
ترقبهن سعاد وهى تبتسم فى حياء ، فهن ما زلن فى غاية الإثارة ولإنفعال حتى بعد اختفائه عن أعينهن ، بل وما زلن يذكرن أسمه ويتكلمن عنه ، ويسهبن فى وصف طوله وعرضه ووسامته وشهرته ، بل وحتى ملابسه الرياضية وسيارته الحمراء ! تتسع إبتسامة سعاد أكثر وهى تباهى نفسها ، فهذا الشاب الرياضى الشهير ، حل كل بنات المدرسة ، هو جاسم … ابن خالتها !
فى الحقيقة لم يكن من عادة جاسم أن يحضر كثيراً لإصطحاب ليلى ، فقد حضر مرتين منذ دخولها المدرسة الثانوية هذه السنة ، اضطر أن يأتى تلبية لرغبتها ، بعد إلحاح شديد منها ، تعلم ليلى ذلك تمام العلم ، لكنها فى نفس الوقت سعيدة فخورة بأخيها وبشهرته التى تجعل منه نجماً لامعاً فى سماء المجتمع ، فهو هدف الفريق ، والمهاجم الأول الذى يحرز بقوة خارقة أهداف النصر للمنتخب الوطنى ، ولناديه الرياضى .
كانت ليلى تعرف أن مجرد ظهور جاسم معها أمام باب المدرسة كفيل بأن يحدث ثورة بين الطالبات ، هى تحب ذلك وتفرح بذلك ، فهى أخت البطل ، وهى الوحيدة التى سيلتف حولها الطالبات فيما بعد يخطبن ودها ، يدللنها ، يسألنها عن رقم هاتفها ، وأى الأرقام الأنسب للاتصال بها ، ومتى يكون جاسم فى البيت ، ما هى مواعيده ، متى يروح النادى ، ماذا يأكل ؟! كيف يتعامل معهن فى البيت ، هلى هو متعجرف أم مغرور ؟! وما هو أكثر شئ يحبه ؟! وكيف ؟! وماذا ؟! وأين ؟! ومتى ؟! وما ؟! ولماذا ؟!
تضحك ليلى فى خبث وهى تتخيل منظر الطالبات فى اليوم التالى ، وقد أنتظرن على نار لحظة وصولها المدرسة ، هى تعرف أن الأمر سيكون مختلفاً هذه السنة ، فطالبات الثانوية أكبر وأجراً من طالبات المتوسطة ، وهن بالتأكيد سيطلبن منها أن تخبر جاسم عن إعجابهن وسيطلبن رقم تليفونها ، وبعضهن سيرغبن فى الكلام معه فى موضوع هام ، هام للغاية ، والأخريات سيسألن متى سيأتى ليأخذها من المدرسة مرة ثانية ، ليكنّ مستعدان لإستقباله بشعر مرتب ووجه مزوّق .. وأخريات .. وأخريات !!
تعرف ليلى أن معظم طالبات المدرسة لن يمانعن فى إظهار إعجابهن بجاسم ، وإبداء رغبتهن الأكيدة فى صداقتها ، بل سوف يتقرّبن منها ، يتوددون إليها ، رغم أنها طالبة ما زالت فى الصف الأول الثانوى ، فى حين أن معظمهن فى الصف الرابع الثانوى ، وكانت على رأس هؤلاء الطالبات .. دلال .. تلك الفتاة النضرة ، رائعة الجمال ، الممشوقة القوام ، أما سعاد بنت خالتها ، الطالبة بالصف الثالث الثانوى ، فقد كانت تستحى أن تظهر مع جاسم أمام الطالبات ، فهى رغم إعجابها العميق به ، تخشى أن تتكلم عنها بنات المدرسة ويسئن إلى سمعتها ، مثلما فعلن بزميلتهن دلال التى لم تتركها ألسنتهن فى حالهـا !
نعم ، لم يتركن دلال فى حالها منذ ذلك اليوم ، عندما رأينها تقف مع جاسم مدة طويلة تحدثه حين حضر لأخذ أخته من المدرسة ! منذ ذلك اليوم وهن لا ينقطعن عن الهمس والغمز واللمز ! والغريب أن دلال لم تعبأ بهن أيضاً هذه المرة ، لم تهتم بغيرتهن وألسنتهن ووقفت تبدى إعجابها بجاسم ، وإهتمامها بالحديث معه ، رغم صعوبة الظروف المحيطة ، وعدم ملاءمة المكان .. والزمان !
كانت سعاد ترقب الموقف من مكنها الأمين فى الباطن الأخير ، وهى تتعجب من جرأة دلال الزائدة عن الحد ، وتدهش من حركات دلال التى تكاد تطير من على الأرض طيراناً ، والتى لا تكاد تقف على بعضها ، فكل شئ فيها يهتز ، يرتجف ، يتحرك ، رأسها يهتز ، يتحرك ، كتفاها ، يداها ، وسطها ، قدماها ، كل شئ .. كل شئ !
تشعر سعاد بلسعة غيرة حارقة ، فهى تعرف إعجاب دلال العظيم بجاسم ، كما تعرف صلة القرابة البعيدة التى تربط بين أبيه وأمها ، لكنها تنتهد فى إرتياح فهى تعرف أيضاً أن أم جاسم لا تحب دلال ولا ت طيق أمها ، لذا لا تقلق كثيراً من ناحيتها ، فهى واثقة من حب خالتها التى تعتبرها كأبنتها ، و … تعود تسرح بخيالها فى دنيا أحلامها مع جاسم ، الذى تعجب به منذ كانت طفلة صغيرة فى العاشرة من عمرها ، والذى تتمنى أن تمضى معه العمر لتعرف الدنيا بأسرها أن جاسم حبيبها ، وحدها ، دون غيرها !
تذكر سعاد فى حنان كيف ظلت تحب جاسم فى صمت سنوات طوال ، تذكر كيف كانت تقضى ليها تفكر ، تحلم ، تتمنى ، أن تأتى اللحظة السحرية التى يعلن فيها حبه لها ، وتعلم الدنيا كلها إن سعاد حبيبته .. حبيبته .. لكنه .. للأسف لم يفعل ! لم يفعل !! لماذا ؟! لا تدرى ! لا تدرى !!
كان النادى كله فى الواقع يعشق جاسم ، يعجب بأخلاق جاسم وشخصية جاسم ، تلك الشخصية الرياضية التى إزدادت بريقاً وشهرة أثناء تصفيات دورة موسكو الأوليمبية التى عقدت فى بغداد قبل سبعة شهور ، عندما لعب منتخب الكويت ومنتخب العراق فى شهر مارس هذه السنة ، وإنتهى الشوط الأول 2 / صفر لصالح العراق .. !!
لكن .. فى الشوط الثانى ، بعدما أجرى المدرب تعديلاً فى صفوف الفريق ، إنقلبت المباراة وأصبح لاعبو الكويت يسيطرون على الملعب ونجحوا فى تسجيل هدفين سريعين .. وسرعان ما أحرزوا الهدف الثالث لتنتهى المباراة لصالحهم .. وتتأهل الكويت لنهائيات موسكو .. !
يتعالى الهتاف ، تصيح جماهير الكويت فرحاً ، تغمر البهجة الشوارع كلها ، يخرج الشباب يرقص داخل وخارج السيارات وهم يرفعون أعلام الكويت فخراً بهذا الإنتصار الرياضى الكبير الذى انتزعه أبطال المنتخب الوطنى بجدارة وقوة إقتدار فى تلك المباراة الحاسمة .. آه .. عاشوا .. عاشوا .. وعاشت الكويت .. عاشت الكويت .
تذكر سعاد أيضاً كيف كان أخوها فيصل لاعب كرة اليد فى النادى يغار من جاسم ، مرات كثيرة كانت تحدث بينهما مواقف صغيرة تؤدى إلى التوتر بينهما ، لكن جاسم كان يأخذ الموضوع بروح رياضية وينهيه ببساطة ، فى حين لم يكن الأمر هيناً على فيصل الذى كان يرفض أن ينهزم بسهولة أمام جاسم منافسه الأوحد فى النادى ، فلجأ إلى وسيلة أخرى
وهى لفت الأنظار إليه بإقتناء أحدث الساعات والسيارات ذات الأثمان الباهظة والشكل المبهر المثير !
لكن ، رغم تفاوت المستوى المادى بين الشابين ، إلا أن شخصية جاسم المنطلقة المؤثرة ، لم تجعل لهذه المنافسة الطفيفة أدنى اعتبار ، فالبنات ما زلن يفضلن جاسم ، ولا يستطعن إخفاء إعجابهن به ، رغم كل شئ ، يبقى جاسم الناصر ، نجم النادى الأول المحبوب من الجميع ، ونجم المنتخب الوطنى اللامع فى دورة موسكو الأوليمبية ، التى لعب فيها بتألق مباراة الكويت والاتحاد السوفيتى ، حتى إن الرئيس الروسى بريجينيف أجل اجتماعاً مهماً حتى يشاهد هذه المباراة الهامة !
تبقى تدور الأحداث ، تتشابه المواقف ، تبقى تركض الأيام ، تتعاقب الأسابيع والشهور والفصول ، وجاسم مشغول بكرة القدم التى يعشقها منذ صغره ، تقول أمه ضاحكــة :
– جاسم لعب الكرة قبل ما يتعلم المشى .. أكيد كان بيتمرن وهو فى بطنى !
كما تبقى تدور سعاد فى فلكها الخاص ، تظل تخفى عن الجميع مشاعرها ، حتى تكاد تخفيها عن نفسها ، فهى تخشى أن يدرك أحد مكنون قلبها ، حتى أقرب الناس إليها ، أمها ، وليلى بنت خالتها ، فسعاد بطبعها خجولة ، حساسة ، هادئة ، وادعة ، خفيضة الصوت والنظرة ، وإن كانت غزيرة الشعور ، زاخرة الاحساس .
.. تظل تدور الأيام ، تمضى الليالى والساعات ، وظروف الحياة تجمعهم حيناً ، وتباعد بينهم أحياناً ، ينتهى العام الدراسى بنجاح الجميع ، تلتحق دلال بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية ، فتتاح لها فرصة أوسع لملاحقة جاسم والإتصال به ، والسعى للقائه ، حتى فى مستشفى الصباح بعد أن عيّن طبيب إمتياز بها !
كانت تذهب إليه بإستمرار مدعية كل يوم مرضاً مختلفاً ، أيضاً لم تكن تكف عن حضور كافة مبارياته دون أن تفوتها مباراة واحدة ! فى حين كانت سعاد تسبح فى دنياها الواسعة الساكنة ، تحاول أن تقضى وقتها بين صفحات الكتب ، والإستماع إلى الموسيقى الهادئة ، ذات الإيقاعات الحنونة الحالمة ، خاصة أغانى مطربها المفضل عوض الدوخى
الذى تعلقت بصوته منذ تخرج وهى طفلة مع أبيها فى سيارته ، وهى تدندن معه أغنيته المفضلة :
يا ليل دانا لنا
يا ليل دانا لدانا
والليل حلو الندامة
والزين عدى الكلام
عديت باب الغوى
قالوا العواذل علام
يا ليل دانا لنا
يا ليل دانا لدانا
فى الحقيقة .. كان جاسم حلماً بعيداً من أحلام سعاد ، كان بقامته المديدة الفارعة وعضلاته القوية المفتولة ، وأكتافه الكبيرة البارزة ، وصدره الواسع العريض ، وشعره الأسود الغزير الذى يبلله العرق ويتساقط منه على رقبته الضخمة القوية .. بطلاً أسطورياً يحكم ويتحكم فى مملكتها ، لكنه رغم هجومه الساحق بالكرة على مرمى الفريق الآخر مسجلاً دوماً أهداف الفوز والإنتصار ، لصالح فريقه فى معظم المباريات ، للأسف ، لم يفكر يوماً واحداً فى مهاجمتها .. أو حتى النظر إلى مرماها !!
تتنهد سعاد فى حسرة ، توقن أنها لم تكن يوماً ما هدفاً لجاسم ، تقتنع أنه لم يرها ، ولن يهتم حتى أن يراها !! تعود تواسى نفسها معزية فى رثاء :
– يجوز يشعر بى فى يوم من الأيام !!
تنهض سعاد من مقعدها ، تلقى فى ملل قصة لم تكملها ، آه .. فشلت المحاولة للمرة الألف ! لا جدوى .. لا فائدة .. جاسم يسكن عمق أعماقها ، فكلما حاولت أن تتباعد عنه ، أو تتناساه تجده بقوة وثبات يحتل تفكيرها ، يملأ وجدانها ، يطغى على إحساسها ، وعواطفها ، وأفعالها !! إحساسها به أنه دوماً موجود .. موجود .. لكنه .. يا للعذاب .. مشغول عنها بدلال ، تلك الفتاة التى تتأجج نضارة وجمالاً وفرحاً ومرحاً ، والتى تستطيع بمظهرها المبهر المثير أن تدير الرؤوس ، وتسلب العقول ، فهى ذات شعر بنى طويل ، عيونها فى لون العسل الذهبى ، بشرتها صافية خمرية اللون ، جسمها يتفجر أنوثة وإغـــراء !
لا تحتمل سعاد الموقف طويلاً ، تحرقها نار الغيرة من دلال ، تقف تطالع نفسها أمام المرآة الطويلة المثبتة فى دولابها ، تتأمل قامتها الطويلة وعودها المتناسق الجميل ، تهز شعرها الأسود الأملس الذى يقف عند كتفيها ، تنظر حانية إلى عينيها الواسعتين الداكنتين ، يزداد شوقها وهى تذكر عينى جاسم ، فتبتسم .. وتبتسم ، فالشبه بينهما واضح فى العيون بالذات .. !
ترجع تجلس فوق مقعدها الوثير ، تلقى رأسها إلى الوراء ، تسندها على ظهر
المقعد ، تدرك يائسة أن دنيا جاسم واسعة ، واسعة ، وأنها دنيا لا تتسع لها ، فهو لا يشعر ولا يحس بها ! رغم حبها العميق له ، وإعجابها الشديد به ، وشوقها الدائم إليه ، تبقى سعاد تتألم . تتعجب . وهى تسمع أخبار مقابلاته الكثيرة المتعددة مع دلال ، تلك التى لم تخف إعجابها به ، وحبها له ، منذ كانت طالبة معها فى المدرسة الثانوية !
تنهض سعاد من جلستها على صوت أبيها يناديها كى تكلم شقيقها الكبير عبد الله الذى يدرس الهندسة فى أمريكا ، تركض تتحدث مع أخيها ، تسأل عن أخباره ، تجلس مع أبيها الذى يحبها أكثر من روحه ، ويتعلق قلبه بها منذ ولادتها ، تجلس سعيدة بقربه ، فهى تأنس بصحبته الحلوة التى تشغلها عن قلبها ، وتنسى معه أفكارها ، التى تذكرها بحبها اليائس ، وعذابها المستمر .. !
تنتهى المكالمة ، فيلحظ بدر أخوها وجومها ، كما يلمح الدموع فى عينى أمه ، فيقفز مقلداً لهم النجم المفضل عبد الحسين عبد الرضا فى مسرحيته الناجحة الضاحكة ” عزوبى السالمية ” التى شاهدها بالأمس للمرة الخامسة حتى حفظها صم !
ينهمك بدر فى تمثيل كل من دور عبد الحسين عبد الرضا وسعاد عبد الله بطلة المسرحية ، حتى يزن من يسمعه عن بعد ، أن سعاد وعبد الحسين موجودين بالفعل هنا ، وأنهما يقفان فوق خشية المسرح يؤديان دورهما أمام الجمهور !! صدق ، تقليد بدر جاء متقناً كل الإتقان حتى فى الصوت ، والحركة ، والأداء .. !
تضحك سعاد من قلبها ، فى حين تتفرج أسرير أمه عن ابتسامة سعيدة بخفة دم ابنها المغرم بالفنان الكبير ، الذى يعرف أنها تحبه وتحب تشوف تمثيله ، لذلك هو ما يقّصر أبداً فى تقليده لها ، لإضحاكها وإدخال السرور إلى قلبها !
حقاً .. منذ مجئ بدر إلى الدنيا ، قبل سعاد بخمس سنوات ، وأمه متعلقة به ، فقد ولد ملون العينين ، أشقر الشعر ، أبيض البشرة ، مستدير الوجه كالبدر ، لذا أطلقوا عليه إسم بدر وأحبوه وأحاطوه بكل مظاهر الحنان والعطف ، ودللوه كل التدليل حتى شبّ حنوناً ، عطوفاً طيباً ، حافلاً بالحب والعطاء الذى لا يبخل به على أحد ، وعندما أنهى دراسته الثانوية ، إعترض إخوته الكبار على إختيار المعهد العالى للفنون المسرحية ، إلا أن والده أيده فى رغبته تأييداً مطلقاً ، فهو يؤمن بالفن وبرسالته السامية فى تهذيب النفوس وبدوره الأساسى فى تغيير أفكار الناس والمجتمع .
وفى ليلة من ليالى الصيف الحارة الساخنة ، وبينما كانت سعاد فى زيارة بيت خالتها جلست تتحدث مع ليلى عن العطلة والصيف والسفر ، وعما إذا كانوا سيذهبون إلى لندن هذه السنة أيضاً ، فالخال أبو إبراهيم وأسرته سبقوهم ، وشقة أبيها المجاورة لشقة خالها خالية ما فيها أحد ، لأن فيصل لن يسافر لندن هذه السنة لأن زوجته تريد تروح باريس مع أهلها ، وعبد الله مسافر أمريكا ، والشقة خالية بإنتظارهم .
وقبل أن تنتهى الفتاتان من حديثهما إذ بصوت السيارة ” السبور ” المرتفع يقتحم
الآذان ، يدخل جاسم محيياً الجميع فى ضجة وصخب كعادته ، ينحنى يقبل خالته الجالسة على الأرض بشوق وحرارة ، يقترب من غرفة ليلى ، يطرق الباب ليرحب بسعاد وليسلّم على أخته الصغيرة التى يحبها ويحب أن يدللها ، فهو ما زال يعتبرها طفلة تستحق الدلع والتدليل ، يسألها مازحاً :
– هاه .. كنتم بتنمّوا فى مين ؟
تضحك ليلى وهى تجيبه عابثة :
– كنا بنّم فيك أنت يا جاسم .
يسأل فى دهشة وإستغراب :
– فينى أنا ؟! كنتم بتقولوا عنى خير ولا شر ؟!
تجيب ليلى متخابثة :
– كنا نقول أنك قاسى ومغرور وما تفهم .. !
– ما أفهم ؟! مين يقول هالكلام ؟!
تشير ليلى نحو أبنة خالتها وهى تقول :
– سعاد .. أصلها تقول أنها تحبك وتموت فيك وأنت ما تهتم بها ولا منتبه لها ..!
ينفجر جاسم فى الضحك وليلى وراءه تشاركه ضحكته ، بينما تصمت سعاد ، يصفر وجهها ، ثم يحمر ، ثم يصفر ، ثم يحمر ، تتلعثم فى الكلام ، تحاول أن تدارى عينيها عن عينّى جاسم وهى تنظر نحو ليلى كمن يبحث عن مخرج !
تطالعها ليلى بدهشة .. وبنفس الدهشة التى ينظر بها جاسم إليها ، يتبادل الشقيقان نظرات تدل على أنهما قد فهما حقيقة مشاعرها ، التى حاولت وجاهدت بصعوبة بالغة
إخفاءها .. وكتمها .. ومدارتها !
الفصل الثانى
أنين الحب !
يفهم جاسم بعض مشاعر سعاد فى تلك اللحظة الحرجة التى داعبته فيها ليلى ، لكنه لم يكن واثقاً من حقيقة هذه المشاعر ، فهو لا يستطيع التأكد من مشاعر إنسان نتيجة مداعبة عابرة من شخص آخر ، لذا ، لم يفكر فى الأمر كثيراً لأنه كان مشغولاً بأشياء كثيرة جداً إلى جانب إنشغاله بعلاقته بدلال ، وسرعان ما نسى الموضوع برمته !
و .. تبقى الظروف كما هى تتوالى ، تتابع ، وأسرة جاسم لها عاداتها وتقاليدها ، فالوالد أحمد الناصر ، العميد فى وزارة الدفاع ، رجل عسكرى حياته الضبط والربط ، والدقة والنظام وهو يرغب دوماً فى تطبيق أسلوبه العسكرى على كل شئ فى حياته ، لذا قبل أن يتكلم ، يعرف كل من فى البيت ماذا يريد ؟ ماذا يجب أن يقدم ؟ ماذا يجب أن يكون ، أو لا يكون ؟ دون عجرفة أو تكبر ، إنما بالتفاهم والاحترام .
فور دخوله البيت يتصرف الجميع بطريقة شبه عسكرية ، تثير إعجاب جاسم بهيبة والده ، وقوة شخصيته ، وهو يرى مظاهر الانضباط تسود البيت كله ، كان الجميع قد تحولوا فجأة جنداً مدربة تحت أمرة هذا القائد العنيد الذى يحكم ويتحكم بنظرة قاطعة حاسمة لا تحتاج أن تصحبها أوامر مكتوبة أو منطوقة ، فكل شئ يتم إعداده فى ميعاده ، وكل شئ محدد ومعروف ومنظم ، فالفوضى لا تعرف طريقها إلى حياة هذا العسكرى .
كان جاسم شديد الانبهار بشخصية أبيه ، ذلك الرجل السهل الصعب ، الدقيق ، المرتب ، المنظم ، الذى يعرف متى يتكلم متى يصمت ، ماذا يقول ، أين يتوقف ، أنه حقاً رجل قادر ، يعرف بالتحديد ماذا يريد ، ويقدر دوماً أن يصل إلى كل ما يريد ، دون حاجة إلى كلمات كثيرة ، أو عبارات فارغة ، وإن كان أحياناً يبدو عليه التأثر بموقف ما ، لأنه فى حقيقته طيب القلب ، عاطفى ، حنون . لذا .. هو رجل الموقف الصعب ، الذى يتعامل مع الواقع بطريقة أقرب ما تكون إلى الإنسانية الحقة ، بعيداً عن التعالى والترفع ، دون غرور أو تكبر ، فهو مفرط الثقة بالنفس ، ولديه قناعة عظيمة بقيمة الذات .
أيضاً لم يتوقف إنبهار جاسم بوالده عند هذا الحد ، كان أكثر ما يثيره فيه تلك العلاقة العاطفية الحميمة التى تربطه بأمه ، فهما فى حالة تفاهم دائم ، وحب كبير مستمر ، وهى بمرحها الزائد وخفة دمها تستطيع أن تمتص غضبه ، وأن تهدئ ثورته ، فهى لا تطيق أن تراه منفعلاً عابساً ، فهو صاحب المكانة الأولى فى هذا البيت ، له كل الحقوق ، وعلى الجميع أن يؤدوا له كل الواجبات .
فى الواقع لم تكن مكانة جاسم تقل كثيراً عن مكانة والده ، كانت له أيضاً نفس الأهمية ، وإن كان جاسم يختلف عن أبيه فى طريقة التعامل مع الآخرين ، فهو كثير الصخب والدعابة والمرح مثل أمه ، يثير البهجة دوماً مع كل من حوله ، ولا يكف عن الضحك والمزاح ، خاصة مع ليلى .. !
ليلى .. قطة البيت المدللة .. حلوة ، حنون ، ذات روح فيها خفة ومرح ، هى شديدة الشبه بجاسم ، لكنها ليست فى طوله ، كما أنها أنحف منه بكثير ، إلا أنها تمتلك نفس العينين ذات النظرة المخترقة النافذة ، القادرة على تقليب أعماق الأعماق ، وهى مثله شديدة الولع والإعجاب بأبيها ، خاصة عندما يدلف إلى البيت بقامته الضخمة المديدة ، مرتدياً زيه العسكرى الأنيق الذى يستهويها ، ويجعلها تباهى العالم أجمع بأن هذا الرجل الفارس هو أبيها ، الذى يهيم بها ، ويحظر عليها أن يقترب المقص من شعرها ، الطويل الأسود المسترسل .
أما دلال ، فقد كانت لا تعرف الكثير عن والدها ، فهو رجل يحب العمل والسفر ، يرحل من بلد إلى آخر طلباً لعقد الصفقات والراحة والإسترخاء ، وكانت نوال ، أمها ، الزوجة الرابعة الأثيرة المفضلة لدى هذا الرجل فى وقت من الأوقات .. كان والدها يهوى الترحال من الكويت إلى البصرة ، ثم من البصرة إلى القاهرة ، ثم من القاهرة إلى دمشق ، ثم من دمشق إلى الكويت ، هكذا .. أنه رجل يبحث عن الإثارة والمال والأعمال ، وهو لا يكف عن ترديد عبارته المشهورة :
– ترى العمر مرة واحدة .. والإنسان ما راح يعيش مرتين !
تولد دلال ، تجئ إلى الدنيا ، وهى لا تقل جمالاً عن جمال أمها ، نوال .. تلك المرأة الجميلة المثيرة التى كانت تتفجر أنوثة وسحراً ، فهى ذات بشرة ناعمة بيضاء ، وعيون عسلية واسعة ، وجسد بض يتيه بمعالم الأنوثة التى تبرز بوضوح لا يخفى على عين الناظر ، وكان أجمل ما يميزها شعر أملس ناعم طويل يكاد يغطى ظهرها ، وقد استطاعت بحسنها وجمالها أن تمتلك زمام هذا الرجل المغرم بالنساء فترة طويلة ، إلى أن تزوج عليها .. فصدمت فيه صدمة كبيرة زلزلت كيانها ، وأثّرت فى أعصابها !
ولم تكن نوال ، والدة دلال تملك الرفض إزاء إصرار أمها على إتمام هذا الزواج ، فانصاعت مرغمة ، قبلت ، رضيت بالواقع أملاً فى حياة مستقرة تحقق من خلالها أحلامها التى تتيحها إمكانيات هذا الرجل الثرى ! لكن .. لم تمض إلا سنوات معدودات حتى بدأ يتعالى الهمس بوجود زوجة جديدة فى حياته ، زوجة مصرية اشترى لها شقة على النيل فى الزمالك ، وبدأ يقضى معظم وقته فى القاهرة بجوارها ، فى حين تجاهل وتناسى وجود زوجته الرابعة نوال ، كما نسى وجود زوجته الأولى بنت عمه ، وأم عياله جمال وسناء وعادل ، كما لم يعبأ بالمرة بزوجته الثانية التى أصرت أن تقيم فى دمشق مع أهلها
فطلقها ، أما الثالثة فكانت تقيم معظم الوقت فى الكويت ، وإن كانت كثيرة السفر إلى أهلها فى البصرة !
جن جنون نوال التى تأكدت من صحة الإشاعة فأصرّت على الطلاق ، فلم يبد زوجها رفضاً أو ممانعة ، وافقها على الفور ، طلقها ، ودلال ما تزال طفلة صغيرة فى يدها ما تدرى شيئاً عن الدنيا ! وسرعان ما غاب عن حياتهما هما الإثنتان بعد أن ترك لهما مالاً وفيراً ، ولم تعد دلال تراه إلا فى المناسبات ! إذا سمحت ظروف سفره وترحاله !! ولم تلبث أن جفت مشاعرها نحو والدها تماماً ، كان ذلك على النقيض من سعاد ، التى لم تكن تحب فى حياتها مخلوقاً قدر حبها لأبيها ، ذاك الرجل المعطاء الذى يمنح الحب والمال بسخاء ، بلا حدود ، كما يمنح العطف والحنان لكل من حوله بلا استثناء !
كان هناك دائماً نوع من الحب القوى الذى يربط بين أفراد هذه الأسرة ، كانت الأمور هادئة مستقرة تحت سقف هذا البيت الكبير الواقع فى منطقة الشامية ، الذى تحيطه حديقة واسعة رائعة التنسيق ، باسقة الأشجار ، والذى يخيم على جو رائع وديع من المحبة والود والترابط والإيثار .
كان أهل البيت يفرحون كل الفرح بدخول رب الأسرة الطيب عليهم ، الذى يبعث بمجرد دخوله البيت شعوراً عارماً يغمر الجميع بالإرتياح والفرح ، وأولهم سعاد التى تركض نحوه تحضنه ، تقبله ، تضمه فى شرور وشوق ولهفة ، وتاليهم زوجته أم عبد الله ، تلك المرأة الوديعة الطيبة ، التى لا تقل عنه حباً وعطاء وسخاء . صراحة .. الكل يحبه ، حتى الهنود الذين يقومون بخدمة البيت يحبونه ، يفرحون لقدومه ، السائق الهندى نفسه رفض أن يأخذ أجازته العام الماضى وأبى أن يسافر إلى بومباى لأن أبو عبد الله كان مريضاً ..!
و .. تبقى تدور عجلة الزمان ، تلف الأيام والساعات ، يبقى يتعاقب الليل والنهار والشواهد كلها تؤكد استمرار علاقة جاسم بدلال ، التى ازدادت وضوحاً وإنتشاراً ، فدلال تحب أن يعرف الجميع بأمر هذه العلاقة ، بالذات سعاد ، لأن دلال تفاخر وتباهى بأنها صديقة جاسم وتتمنى أن ينتهى هذا الحب بالزواج !
فى الحقيقة ، كانت دلال تعتبر علاقتها بجاسم علاقة طيبة ، سوف تنتهى بطريقة طبيعة ، كل ما فى الأمر إن جاسم ما زال يحتاج بعض الوقت كى يستسلم للأمر الواقع ، ويقّر موضوع الزواج . المشكلة الوحيدة فى حياتها ، أنها لم تكن مطمئنة إلى نتيجة علاقتها بجاسم ، فهناك دوماً سعاد ، بجمالها النفاذ وتأثيرها العميق ، وشخصيتها الساحرة ، وعقلها الكبير ، وسمعتها النظيفة النقية وثرائها اللامحدود ، كما أنها قبل ذلك كله بنت خالته ، ودلال تعلم علم اليقين مدى الحب الكبير بين الأختين ، أم جاسم وأم عبد الله ، لذا يظل هذا الخاطر يقلقها كثيراً ، يؤرقها دائماً ، فكانت كلما فكرت فى هذا الموضوع بعمق تستشعر الخطر من تلك المنافسة غير العادلة بينها وبين سعاد !
لكن لا .. دلال لا تيأس أبداً ، تظل تقاوم شعورها بالقلق حيال سعاد ، ترفض فكرة الاستسلام للهزيمة فى هذه المعركة المصيرية ، فتعيد تخطيط سياستها ، تقرر تكثيف الهجوم والإقتراب من الهدف ! لذا .. تسميت فى مطاردة جاسم ، تقتفى أثره فى كل مكان ، تبحث عن حل يرضيها ويساعدها على تفهم الكثير عن شخصيته ، فهى تعرف أنه لن يفكر يوماً فى أمرها لأنه يختلف عن هؤلاء الشباب الذين يضعون عقولهم فى أقدامهم ، ويفقدون إرادتهم أمام البنات ، لا .. جاسم قادر على ضبط نفسه على التحكم فى عواطفه ، ومراعاة كلامه وأفعاله ، فهو عميق الشعور بالذات ، كبير التقدير لأسمه ومكانته .
إذن .. الحل فى رأى دلال أن تتواجد هى فى حياته ، أن لا تدع له وقتاً كافياً يخلو فيه لنفسه كى لا يفكر فى غيرها ، يجب أن لا تعطيه الفرصة لأن يفعل ذلك ، لابد أن تبقى دوماً أمام عينيه وبالتالى فى قلبه ، فالبعيد عن العين بعيد عن القلب ، ثم أن التعود عليها ، والإرتباط بها ، سيجعله ضعيفاً أمامها ، لا يقدر على بعادها ، لأن الألفة والإرتباط الزائد يساعدان على إستمرار الحب ، هذه هى وجهة نظرها ، كان هذا منطق دلال ، وكان ذلك محور تفكيرها ، لذا أخذت تفتش عن جاسم فى كل مكان ، بدأت تتصل به فى أغلب
الأوقات ، كل الأوقات ، لا يردها عنه شئ .. !
تبدأ دلال تشن حملة مطاردة رهيبة ، لم تعد تسمح لجاسم أن يغيب عنها نصف نهار دون أن تعرف أين ذهب ، مع من تكلم ؟ ماذا قال ؟ متى رجع ؟ لماذا لم يخرج من البيت ؟ ماذا كان يفعل فى البيت ؟! من كان عندهم .. سعاد كانت عندهم ؟! ولا تكف دلال عن الاتصال به فى جميع الأماكن ! حتى فى البيت عرفوها ، أمه وأخته وأبوه ، إلا أنها كانت تتصرف معهم بحذر ، فهى لم تكن تفعل ذلك كثيراً ألا لو كانت مضطرة بالفعل .
ظلت دلال تحاول أن تحى صلة القرابة القديمة ، إلا أن أم جاسم لم تعطها وجهاً ، بينما كان والده لطيفاً بشوشاً معها ، كثيراً ما كان يسألها عن أحوالها ، وأحوال أمها وجدتها ، فهو ما زال يحس حنيناً خاصاً نحو دلال ، إنها تذكرة بصورة أمها الحسناء الساكنة ما تزال فى أعماقه ، كما لا ينسى حب جدتها له ، وترحيبها به ، حين كان يدخل عندهم ، فى بيتهم القديم بالمرقاب ، وهو عطشان ، فتسقيه بينما كان يتصبب عرقاً بعد طوال اللعب مع صبيان وبنات الفريج وبينهن نوال .. ماركور طاح بالتنور ودوامة وهمايا ودرباحة وحيلة ..!
يتذكر أبو جاسم أيضاً ليالى القرقيعان عندما كان يطوف بالأبواب ومعه نوال والصغار ، صبيان وبنات وكيف كانت أمها تجزل له العطاء ! يتنهد .. يا لها من أيام . يعود يتنهد :
– إييه .. كانت أيام .. والله كانت أيام ..!
الحين .. كل شئ تغير . الدنيا تغيرت . الناس تغيرت . حتى أبو جاسم نفسه تغير بعد عمله العسكرى فى وزارة الدفاع ، وقبل ذلك دراسته للعلوم العسكرية غيرته ، جعلت منه إنساناً آخر ، منضبطاً ، متزناً ، منطقياً ، حاسماً ، حازماً ، لذا لم يكن ممكناً أن يتفق فى الرأى والقول مع عديله أبو عبد الله ، الذى يختلف عنه فى كل شئ ، فى الشخصية ، فى الطباع ، فى الأفكار ، فى التصرفات ، فقد كان الأخير يأخذ أمور الدنيا ببساطة وسهولة ويسر ، فى حين يأخذها أبو جاسم بحزم وحسم وجدية .
الظريف فى الموضوع ، إن الشقيقتن تتجاهلان تماماً هذه الفجوة النفسية بين
الزوجين ، لا تهتمان مطلقاً بهذا النفور أو الجفاء – ما علينا – بل كثياً ما كانتا تتندران به ، وتضحكان عليه ، وتبقيان كما هما ، محتفظتين بعاداتهما الطبيعية فى تبادل الزيارات شبه اليومية التى لا تنقطع ، وفى حبهما ورعايتهما لسعاد وليلى اللتان تجمعهما ألفة ومحبة منذ الصغر ، آه .. أنهما أيضاً تتمنيان أن يتزوج جاسم وسعاد ..!
لكن .. جاسم اعتاد أن ينظر إلى سعاد على أنها طفلة صغيرة تلعب مع أخته ، فهما تلهوان معاً ، تضحكان معاً . تتخانقان معاً . معاً . وكانت نظرة جاسم تشملهما هما الاثنتين معاً ، خاصة وأن سعاد تكبر ليلى بحوالى أربع سنوات ، فى حين كان جاسم يكبر سعاد بثمانية أعوام .
لم يكن جاسم يتردد على بيت خالته كثيراً ، كانت صلته بأشقاء سعاد فاترة ، خاوية ، اللهم إلا من بعض ذكريات لعب الصبيان وشقاوتهم ، بعدها .. حين كبروا ، سافر عبد الله إلى أمريكا لدراسة الهندسة ، وفيصل ، الأخ الثانى الذى يقارب جاسم فى العمر ، والذى يلعب كرة اليد فى نفس النادى ، التحق بكلية الشرطة ، ثم صار أكثر تباعداً ، بعد أن تخرج وتزوج وانشغل بعمله وحياته الخاصة .
أما بدر ، الأخ الأصغر ، فهو أكثرهم خفة ظل وخفة دم وخفة روح ، فهو يحب التمثيل ويهوى محاكاة الآخرين ، وما أن يشاهد مسرحية أو فيلماً ، أو يتابع مسلسلاً إلا ويقلد الأبطال فى كل شئ ، الصوت ، الحركة ، طريقة المشى ، طريقة الكلام ، حتى يقتنع من يراه ويسمعه ، أنه يشاهد العمل الفنى متكاملاً ، لأن بدر فى الواقع يقدر يتقمص عدة شخصيات فى وقت واحد !
أما سعاد ، وهى الأخت الوحيدة التى أتت إلى الدنيا بعد كل هذه السنوات ، ظل إخوانها الصبيان يتخاطفونها كالدمية بين أيديهم يداعبونها ويلاهبونها ، فازداد جو البيت بهجة بوجود هذه البنية الصغيرة ، وتعالت ضحكات أبيها وجدها وهما يمزحان معها ، وكانت فرحة أمها لا تقّدر وهى ترى ابنتها الصغيرة الجميلة ، تكبر وتنمو وتزداد جمالاً أمام عينيها يوماً بعد يوم .
فى الواقع .. تغير الإحساس العام فى البيت بعد أن أتت هذه البنت اللعبة التى ملأت البيت بضحكاتها ، وصتها ، وحتى بكائها ، فرحة وحياة . جاءت سعاد وجاء الخير والسعادة معها لأهلها فبعد مولدها مباشرة قفزت أثمان العقارات إلى أرقام خيالية ! ارتفع سعر
الأرض ، جاء التثمين من قبل الحكومة التى إحتاجها لشق طرقاً جديدة ، فتدفقت الأموال على أبيها كالمطر ، فتفاءل بوجودها وإعتبرها هدية من الله .
فى الواقع ، لم يكن والد سعاد وحده المغرم بصغيرته ، فجدها أيضاً كان متيماً بها ، وهو الذى أطلق عليها اسم زوجته رحمها الله ، كان الجد صاحب هذا الخير ، فهو الذى إنتقى وإشترى قطع الأراضى المتميزة ، وهو الذى بدأ العمل فى مجال العقارات من زمان ، ثم سار أبنه الكبير سالم على دربه ، ساعده فى ذلك دراسته للتجارة فى جامعة القاهرة .
ظلت سعاد طوال طفولتها تنهل حباً متصلاً صافياً ، من الجد تارة ، ومن الأب تارة ، ومن الأم تارة ، ومن الأخوة الثلاثة أغلب الأوقات ، كانوا يحنّون ويعطفون عليها ، بل كانوا يبالغون فى سبغ هذا الحب والعطف والحنان ، إلى درجة أنهم كانوا يخشون من النسمة العابرة أن تهز شعرها ، لكن هذا النبع السخى المتصل من الحب لم يجعل سعاد طفلة لاهية ساذجة ، لا .. بل كان هذا الحب المتدفق سبباً مباشراً فى تعليمها كيف تكون أمور الدنيا منذ نعومة أظفارها ، وكيف يمكن معاملة الناس ، وكيف تتم طرق البيع والشراء ، وما هى أسس النجاح فى إختيار العقار ؟! وعرفت سعاد إجابة هذا السؤال ، وهى طفلة ما تزال تبدل
أسنانها ، كما تبدل موقعها بين حجر أبيها وحجر جدها !! ألا وهو الموقع . ثم الموقع . ثم الموقع !
سمعت سعاد الحوار المتصل بين والدها وجدها وهى تلهو حولهما ، عندما كانا يتناقشان فى أمور البيع والشراء أمامها ، عرفت كيف يتم تحديد الثمن وكيف يكون أسلوب السداد وما هى طرق المساومة والفصال ، وشروط البيع لقطع الأراضى ، سواء تلك التى على البحر فى السالمية ، أو غيرها فى بوحليفة .. أم الأفضل إختيار قطعاً أخرى فى المناطق التى لم يصلها العمران بعد ، فى الفروانية والصليبخات وجليب الشيوخ وخيطان ؟! أم تلك التى تقع على البحر مباشرة فى الفحاحيل والفنطاس وسيكون لها شأن كبير فى المستقبل القريب بعد شق الطريق الجديد ؟!
وهكذا ، عرفت سعاد سر النجاح فى مجال العمل بالعقارات ، وهى تأكل الحلوى ، أو تمضغ العلك ، أو تشرب العصير ، سمعت سعاد الكثير من المشاكل وتعلمت كيف تتم مواجهتها وكيف تقدر على حلها ، كما عرفت كيف تعقد الصفقات ، بينما كانت تنط وقفز فى جو مشوق ممتع فيه أنس وفرح ، فقد كانت سعيدة بوجودها مع أبيها وجدها ، اللذين كانا يصحبانها معهما بالسيارة لمشاهدة قطعة أرض جديدة ، أو عقار يودان تقدير ثمنه ، وأحياناً كانا يطلبان رأيها لأنهما يتفاءلان بوجودها ، ويستبشران بها .. وكانا يطلقان عليها سعاد ، أم السعد .
فى حقيقة الأمر ، إمتصت سعاد هذا الكم الهائل من الإحترام والحب ، وعكست هذا الكم الهائل من الإحترام والحب بروحها الحلوة ، ودفء إبتسامتها ، ومشاعرها الجياشة ، وحرارة ترحيبها وصدق إهتمامها ، دون تصنّع ، فهى بطبيعتها تجيد التواصل مع الناس ، وتتقن فن التعامل مع الآخرين برقة وذوق وإحساس .
سعاد ، فى الواقع ، تعلمت الكثير من حكمة جدها وبراعة أبيها ، فأكتسبت منهما الكثير ، فنشأت رزينة ، عاقلة ، غير متسرعة ، عميقة التأثير ، دافقة العطاء ، مسئولة ، ملتزمة ، طيبة ، تترك أثراً حانياً يبقى فى الناس .. حيث ينطبع ولا يزول !
هذه هى سعاد التى تفيض حباً وحناناً وعطاء لكل من حولها ، والتى تصدق فى كلامها ووعدها ، وتحترم وتعتز بنفسها ، وهى تخشى أن تخدش كرامتها أو يهان شعورها أو يطعن قلبها ، لذا لم تأخذ مزاج ليلى معها أمام جاسم بسهولة ، ظلت تسترجع الموقف نظرة . نظرة . كلمة . كلمة . حركة . حركة . و .. ضحكة . ضحكة !
نعم .. لم تزل نظرة الدهشة التى رأتها سعاد فى عينى جاسم تجرح روحها ، لم تزل ضحكاته ترن بين جدران قلبها ، لم يزل صداها يضج فى أعماق أعماقها !! إنها تذكر تلك الليلة الصيفية الطويلة ، وكيف ظلت ساخرة مسهدة حتى آذان الفجر ، منذ مازحت ليلى جاسم وأوحت له بحبها . آه .. كيف جرؤت ليلى أن تفعل ذلك بها ؟! كيف خطر ببالها أن تخضع حبها لنكتة أو مزحة كهذه ؟!
كان الصراع الداخلى فى قلب سعاد يتفاوت بين السخط على مزاج ليلى ، وبين الرضا عن مصارحتها جاسم بما تكنّه من مشاعر نحوه ، كان يمنعها حياؤها وكبرياؤها عن كشفها والبوح بها ..!
أيضاً .. كان الشئ المؤلم فى الموضوع ، الذى ظل يسحق شعور سعاد ، أن جاسم اعتبر الموقف ضحكاً أو هزاراً من ليلى ، ولم يفكر فى أهميته بالنسبة لها ، ولم يدرك خطورته وحساسيته عندها ، لأنه تجاهل كل شئ ، ومضى فى حياته كما هو ، مبقياً على صلته بدلال .. كأن شيئاً لم يكن !!
بالتأكيد دلال خططت لذلك من زمان ، وهى ماضية فيما تفعل إلى النهاية ، لذا ، تستسلم سعاد للأمر الواقع ، تترك مكرهة الأمور تسير كما هى ، خاصة وأن الظروف أيضاً ساعدت دلال على الإقتراب من جاسم ، بعد أن صممت أمه على إلحاق ليلى معها بمدرستها ، رغم أنها خارج منطقة كيفان ، إلا أن أبو جاسم إستطاع بالواسطة الحصول على موافقة وزارة التربية ، كما أن دلال لم تكن قد أنتقلت مع أمها إلى بيتهم فى السالمية بعد ، وبقيت فى بيت جدتها بالمرقاب .. وهكذا .. شاءت الظروف أن تجتمع البنات الثلاث فى مدرسة ثانوية واحدة .. يتردد عليها جاسم من وقت لآخر ..!!
ومع الوقت .. لا تعود سعاد تعبأ بشئ آخر غير حبها لجاسم ، ذاك الحب الذى يحلو لها أن تحبه ، وتحبه ، حتى لو كان حباً يائساً ، حباً من طرف واحد .. لا أمل فى تبادله !
وذات يوم رمادى الهواء والسماء ، تعلم سعاد أن جاسم على وشك السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن قبل ضمن أفراد البعثة الطبية فى وزارة الصحة ، تسمع سعاد هذا الخبر ، فتكاد تفقد وعيها حزناً على فراق جاسم .. كان لديها بصيص أمل فى أن تجعله يشعر بها ، يحس بها ، يلمس مدى حبها ، لكن .. ضاعت الفرصة ، فدلال ما تزال تقطع الطريق ، وتسد بوجودها باب الأمل أمام قلبها !
فى ذلك المساء القاتم ، قبل سفر جاسم بساعات ، أقام النادى حفلاً كبيراً لوداع البطل كابت الفريق ، حضره عدد كبير من اللاعبين والمشجعين ، تقترب مراسم الحفل من
الانتهاء ، يبدأ جاسم يودع من حوله ، يقترب من أخته ليلى التى يبدو عليها التأثر العميق يقول لها مداعباً ، ضاحكاً ، وهو يربت على كتفها فى حنان :
– منذ متى وأنت تحبينى بهالشكل يا ليلى ؟! والله اللى يشوفك الحين يقول صدق تحبينى ..!!
يدنو من دلال التى تعجز عن النظر إليه ، تبدو فى حالة إنهيار تام ، وبكاء ونحيب متصل ، ودموع لا تنقطع ، يطالعها محرجاً من تأثرها البالغ البادى أمام الجميع ، يقول لها مازحاً :
– دلال .. سكتى الله يخليك .. يا دلال أنت لو شفتى قطة مسافرة الحين راح تبكين عليها .. سكتى أرجوك .
تحاول دلال أن تتماسك وأن تتظاهر بالهدوء ، لكنها تعجز عن ذلك ، تظل تبكى بنفس الدرجة ، ونفس القوة ، ينصرف عنها جاسم مقترباً من سعاد التى تقف ساكنة جامدة كتمثال بلا روح .. ولا حياة !
يدنو جاسم منها ، يقترب ، يقف ينظر إليها نظرة عميقة نافذة مسائلة فتطرق إلى الأرض بعينيها وقلبها يرجف ، ومشاعرها تشتعل ، وهى تحس دماء ساخنة تصعد ناراً تحرق كيانها .. تتشاغل بالنظر إلى ليلى ودلال الغارقتين فى بحر من الدموع ، فى حين يبقى جاسم واقفاً يرنو إليها وحدها ، يطالعها وحدها ، كأنه يبحث عن شئ ما يسكن أعماقها .. شئ يود العثور عليه ! لكنها سعاد .. العميقة عمق البحر الذى لا قرار له ، والذى لا يقدر أحد على سبر أغواره السحيقة لا توحى له بشئ ! يصمت جاسم هنيهة ، ثم يضحك وهو يرنو إلى الفتاتين الباكيتين قائلاً :
– شوفى حالتهم كيف صارت ؟! أنا ما أدرى ما هو السبب .. أكيد فيه سبب تانى غير سفرى !
يعود يقول لسعاد وهو يشد على يدها بقوة ، بينما ينظر إليها بإعجاب :
– خذى بالك من نفسك يا سعاد .. فى أمان الله .
يبتعد جاسم متجهاً إلى مبنى إدارة النادى ، يغادر بعد لحظات إلى المطار بصحبة عدد كبير من الإداريين ، واللاعبين ، والمشجعين ، حيث يلتقى فى المطار بالأطباء المسافرين ضمن بعثة وزارة الصحة ، والأطباء المودعين لزملائهم المغادرين .
ترجع سعاد إلى البيت وهى ما تزال تلتف بالسكينة والهدوء ، تتستر باللامبالاة والبرود ، تخبر أمها بحفل النادى الذى أقيم لتوديع جاسم ، تصف الاحتفال لها بطريقة عادية طبيعية كأن الأمر لا يعنيها نهائياً .
تدخل غرفتها . تغلق الباب خلفها فى هدوء . تقف تبدل ملابسها فى هدوء . ترتدى قميص نومها فى هدوء . وهى تنعى نفسها . تلعن ضعفها . تكره عجزها عن التعبير عن مشاعرها .. وكشف حبها ..!
تفتح جهاز التسجيل الموجود بجوار سريرها . تضغط زر التشغيل . ينساب صوت عوض الدوخى فى حنو وحنان بين أرجاء الغرفة :
ظالم أقول .. وإلا أنــا
ويايا دومك فى الهــوى
ظالم أقـــــــول..
منيت قلبى بالمنـــى..
ما كان أكثر من النــوى
تتحرك سعاد ساهمة تبحث عن لا شئ . تتوه هائمة فى كلمات الأغنية التى تملأ جو الغرفة الساكنة بألحانها الحانية الآسية ، فتنساب دموعها أكثر وأكثر ، وهى تتمعن فى المعانى التى تحسها تنطبق بصدق على شعورها فى هذه اللحظة الحزينة التعسة !
تعود تفكر فى حنق وغيظ وثورة على نفسها ، وهى تعتبر تعلق جاسم بدلال
خيانة لها ، وأمتهاناً لحبها ، فهو حبيبها منذ طفولتها ، وهو حلم خيالها منذ أحست بنفسها وأدركت طبيعة شعورها .. تنهمر دموعها ، يشتد نحيبها ، لا تستطيع أن توقف بكائها ..!
تبحث عن حبوب تخفف آلام الصداع الذى يفتك برأسها ، تعود تفكر وهى تلوم
نفسها ، كيف لم تستطع أن تنفث عن حزنها لحظة وداع حبيبها .. كيف ؟! لماذا ؟! لماذا ؟! أليس من حقها أن تفصح عما فى نفسها ؟! أم أن ذلك كله من حق دلال وحدها ؟! دلال .. كيف تسمح لنفسها أن تبكى كل هذا البكاء ؟! بأى حق تعلن حبها لجاسم بهذه الطريقة الواضحة المكشوفة أمام كل الناس ؟! بأى حق ؟! بأى حق ؟!
تصارع سعاد يأسها وإحباطها ومرارة إحساسها ، تقاوم شعورها بالعجز وقلة الحيلة ، تحاول أن تأخذ نفساً عميقاً ، لكنه يخرج ثقيلاً مكتوماً ، مهموماً تتناوبها تنهيدة ترفر ناراً حامية تخرج من أعماق أعماقها ..
تنظر إلى جدران غرفتها مخنوقة . مكدودة . محبطة . لا تدرى ماذا تفعل بعد أن ضاقت الدنيا فى عينيها وأطبقت الجبال على صدرها فسحقت قلبها . تبلع حبتين مسكن للصداع . تتمدد على فراشها كارهة التفكير فى نفسها التى منعتها أن تكون ضعيفة ، فحالت بينها وبين التعبير عن ذاتها ، وإظهار مشاعرها ، وكشف إحساسها ، والبوح .. بحبها !
تتقلب سعاد فى فراشها مسهدة ، تمد يدها تطفئ النور ، تخفض بعض الشئ الصوت الذى ينساب ممتزجاً مع الليل والوحشة والأسى والأنين :
آه من حيك ويلى … هولى مرّ المذاق
تتأمل سعاد سماء سوداء تتشح برداء من النجوم المسهدة الساهرة ، وضوء خفيف يتسلل من النافذة إلى فراشها .. تحس شاعرية اللحظة تنزف ألماً خارقاً فوق ضعفها ، فوق تحملها ، فوق طاقتها ، تزداد نقمة على قوتها وثبات شخصيتها وإحساسها البالغ بكرامتها ، تلك التى منعتها أن تبكى فى حرقة وضعف ووهن .. كما بكت دلال !!
تنكفئ على وجهها ، تضع يدها على فمها تكتم زفراتها ، تنقلب على جنبها وهى تفرك عينيها بأصابعها ، تشد المخدة من جوارها تضعها فوق رأسها ، و .. يبدأ يصحب حزنها صوت عوض الدوخى ساهراً ساحراً هائماً بين جنبات الحجرة :
عذبنى هواك .. لوعنى جفاك وحبى بعده فى أولــــه
أنساك واشتاق .. وليل الشوق .. على العشاق ما أطوله
مهما تنسى .. ومهما تجفى .. من الصعب قلبى تهونـه
الفصل الثالث
.. عشـقّ الشـــوق !
يصبح كل شئ فى نظر سعاد خاوياً .. خالياً .. بعد سفر جاسم ! هذه المرة طعم الحياة يختلف . الهواء نفسه يختلف . فهى منذ ولدت لم يبعد عنها جاسم كل هذا البعد . كل هذا الوقت . صحيح هو بطل رياضى كثير الأسفار ، كثير الرحلات ، إلا أنه هذه المرة قد رحل بعيداً . هناك فى أمريكا ، لكن .. لا يهم ، فهو على الأقل موجود . يكفى أنه موجود ، ويكفى أنه حبيبها .. حبيبها .. حبيبها .
تعيش سعاد بعد سفر جاسم أصعب أيام عمرها . تضطرب نفسيتها . تهتز ثقتها بنفسها . تحاول أن تعيش حياتها وأن تتحرر من عبودية حبها . لكنها لا تقدر . لا تستطيع . فقد كانت تتمنى أن يصارحها جاسم بحبه قبل أن يسافر . آه .. لكنه سافر . سافر ! تكره سعاد كل شئ حولها . تفقد الرجاء فى تحقيق الأمانى الحلوة التى طالما حلمت بها . تحذف حقائق كثيرة تحيطها ، ولا يبقى يؤنس وحدتها سوى حقيقة وحيدة أكيدة ثابتة هى .. حبها لجاسم !
تشرب سعاد مرارة الفراق فى صبر وهدوء وسكون . هذا الشوق المرّ المذاق . هذا العشق الشديد المرارة كالعلقم ، لا يغير طعمه سوى سماع صوت جاسم من وقتِ لآخر ، عندما تكون عند ليلى ، فهو لا يتصل بها فى البيت أبداً !
تحاول سعاد رغم ذلك العذاب أن تحتفظ بهدوئها وسكونها ، فتمسى كالبحر الهادئ السطح ، الهادر الأعماق ، تمضى أوقاتها لا يسرى عنها شئ إلا وجودها بعض الوقت عند خالتها حيث يملأ طيف جاسم البيت ، كما يملأ فلبها بالمزيد من الشوق إليه .. فتنهض ترتدى ملابسها على عجل . تستأذن أمها فى السماح لها أن تذهب لإحضار كتاب من عند ليلى . تعد أمها بأنها لن تتأخر .
تدخل سعاد بيت خالتها ، فتفاجأ بأن ليلى لم تصح من نومها بعد ! تتندم لأنها لم تتصل بها قبل حضورها ، لكنها كانت متضايقة وتريد الخروج من البيت فى الحال ! تفاجأ أيضاً بأن خالتها ليست موجودة فى البيت ، فتسعد بتلك الفرصة النادرة كى تبقى وحدها فى بيت جاسم ، فزوج خالتها لم يعد من عمله فى وزارة الدفاع بعد ، تعرف سعاد أنه لا يرجع قبل الساعة الرابعة ! مواعيده منضبطة جداً . أوقات خروجه ودخوله فى منتهى الدقة !
تنتهى سعاد فرصة خلو المكان . تجلس مرهفة السمع . مشحونة الحواس . فهى هنا الآن فى بيت جاسم . لا .. بل هنا فى معبد تقدم فيه قرابين الحب لجاسم ! ذلك الحبيب الغائب الذى صار عنها بعيداً . تحس سعاد الجو داخل البيت ينعم بهدوء وصفاء نادر ، إنها تكاد تلمس طيف جاسم يملأ أرجاء المكان ! آه .. إن مقاومتها الحين تضعف . تتلاشى . إنها لا تستطيع أن تبقى مع نفسها دقيقة واحدة . أنها تتعجب من تلك الظروف الغريبة التى شاءت لها أن تأتى بيت خالتها ، وأن لا يقاطع أحد خلوتها . آه .. إنها تخلق بأحاسيسها . بمشاعرها عبر الزمان . عبر المكان .. !
آه .. تتنهد . تتساءل .. أين تلك الأيام الحلوة ؟! أين تلك الأيام التى كان يدخل عليها جاسم ضاحكاً مرحّباً ؟! .. بل .. أين جاسم ؟ أين جاسم ؟ وسرعان ما تستسلم سعاد لخيالها والشوق يملأ قلبها والرغبة الجامحة لرؤية جاسم تستبد بها . تستحوذ على ذاتهـــا ..!
تجلس سعاد على المقعد الوثير . نفس المقعد الذى يحبه جاسم ، والذى كانت تراه دوماً مسترخياً فوقه . تجلس ساهمة شاردة وقد تورّد وجهها ، وأحمرت وجنتاها ، وخيل إليها أنها تصغى بقلبها إلى صوت جاسم الضاحك وهو يرحب بها قائلاً :
– هلا واللّه سهاد .. هلا واللّه
آه .. إنها تكاد فعلاً أن تسمع صوته !! أنها تكاد فعلاً أن تراه باسماً ، محيياً كما إعتاد دوماً أن يفعل ! تحس سعاد حنيناً جارفاً ، وشوقاً حارقاً ، فكل شئ حولها يذكرها بحضور جاسم . بل إنه هو حاضر بالفعل . إن طيفه يحيطها . يلفها . يرحب بها !
تسرح سعاد فترى جاسم بعين خيالها .. فتردد كلمات أغنية حلوة تحبها . ينساب صوت عوض الدوخى من أعماق أعماقها . يؤجج حرارة الشوق ويزيد – لا يخفف – لوعة الفراق !
يا حبيبى .. يا حبيبى
كم رسمنا الحب طفلاً
حالماً عند الغــروب
وملأنا الكون لحنــاً
سابحاً فوق الجنـوب
يا حبيبى .. يا حبيبى
يا ربيب البحر زهـواً
طيفك الحانى رهـيب
آه .. تجلس سعاد ساهمة حالمة ، شاردة فى بحار الشوق ، سابحة هائمة مع هذا اللحن الحلو ، والكلمات الحانية ، تبقى بعض الوقت تستجمع قواها ، ثم ، ما تلبث أن تلقى نظرة حولها ، تنحنى تمسك حقيبة يدها ، وفى نفس الوقت تتحسس بيدها الأخرى مسند المقعد حيث إعتاد جاسم أن يفرد زراعه ! تبقى تتلمس القماش بكفها ، وهى تتنهد وتطوف القاعة بعينيها تطالع صور جاسم التى تغطى الجدران ، فها هو يقذف الكرة بقوة فى الملعب أثناء المباراة بين الكويت وتايلاند فى تصفيات كأس العالم التى أحرزت فيها الكويت 6 – صفر فى الشوط الأول و 4 – صفر فى الشوط الثانى ! عاشوا .. عاشوا .. عاشت الكويت .. عاشت الكويت .
وها هو يسلم على صديقه الحميم الشيخ فهد الأحمد رئيس اللجنة الأوليمبية الكويتية ورئيس الاتحاد الكويتى لكرة القدم ، وها هى صورة أخرى يوم الاحتفال باستلام جاسم عمله كطبيب إمتياز فى مستشفى الصباح ، ويبدو فيها وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن العوضى وعدد كبير من الزملاء الأطباء ، وها هى صورة هنا وصورة هناك وصورة هنا
و .. و .. و .. !
تتلفت سعاد فى قلق حولها ، تستحى أن يدخل زوج خالتها فيراها جالسة فوق مقعد جاسم ، كما تخشى أن تأتى خالتها فتراها قاعدة وحيدة بدون ليلى ، فتنهض واقفة ، وهى تلقى نظرة شوق وحنين حولها .. تمضى تطرق باب غرفة ليلى فى رقة وخفة ، تود أن توقظها من نومها لعل الحديث معها عن جاسم يخفف عنها ويهون عليها نار البعاد الذى يفتك بقلبها !
تستيقظ ليلى من أغفاءتها على صوت سعاد . تفتح عينيها قليلاً وابتسامة واسعة تضيئ وجهها ، وسرعان ما ترفع جسدها . تنهض تحتضنها فى حب وفرح بهذه المفاجأة الحلوة التى غمرتها بموجة لطيفة من الحب والوّد والترحيب .
يتبخر الوقت سريعاً ، تغادر سعادة عائدة إلى بيتها ، فقد وعدت أمها أنها لن تتأخر عليها ، ولم تنس أن تأخذ معها كتاباً مسلياً من عند ليلى . تغادر بيت خالتها التى تقبلّها مودعة ، وهى تدير رقم أختها ، تكلمها ، تطمئنها أن سعاد فى الطريق إليها ، فهى تعرف تعلق أختها بأبنتها ، كما تعرف مدى إرتباطها بها ، وخوفها الشديد عليها .. وبالفعل تصل سعاد بسرعة ، فالطريق من كيفان إلى الشامية ليس طويلاً ..
تتساقط الأيام فى حياة سعاد رتيبة مملة راكدة ، فكلها متشابهة . كل يوم يشبه اليوم الآخر . فهى عند ليلى أو ليلى عندها . هذا كل ما تفعل . اللهم إلا تلك الأيام التى تسمع فيها بالصدفة صوت جاسم إذا اتصل ، وكانت هى بالصدفة عند خالتها ، فيكلمها ، يسأل عنها ، يطمئن على أحوالها ، وهنا .. تختلف المشاعر ، فتختلف معها الأشياء .. كل الأشياء !
.. يطول البعاد . لم تعد سعاد تحتمل أى شئ حولها . يصبح أقل شئ يضايقها ، وأبسط موقف ولو عادى يثيرها . كل الظروف تصبح بالنسبة لها مرهقة مرهقة . فمعظم الناس صاروا مزعجين لا تحتمل وجودهم بجوارها ، حتى بنات أخيها عبد الله مريم ومنى وفضة ، تلك الرضيعة الصغيرة التى تحبها وتدللها ، المعروف حبها لها ، وتعلقها بها ، نعم ، حتى فضة ، لم تعد سعاد قادرة على البقاء معها أكثر من دقيقة واحدة ، ثم تختفى بعيداً بين جدران حجرتها ، حيث تحتمى من شقاوتهن وصخبهن !
صارت سعاد الحين تفضل العزلة بعيداً عن الجميع ، بلا ضجة ولا صخب ، أنها تحب الإعتكاف داخل غرفتها أغلب الأوقات ، حتى علاقتها مع ليلى ، أصبح يشوبها بعض التوتر ، فقهى تخشى أن تلحظ ليلى إنفعالها ، وقلقها ، بعد التغير الجديد الذى طرأ عليها ، رغم أنها ظلت حريصة على التظاهر بأن الأمور طبيعية ، وأن الأحوال تسير على ما يرام ، كأن شيئاً لم يختلف عليها بعد سفر جاسم !
وذات يوم تلتقى سعاد ودلال فى الجامعة ، فتتبادلان حواراً سريعاً عابراً ، تعرف منه سعاد أن جاسم على إتصال دائم بدلال ، وأنه متضايق ويشكو من الغربة والوحدة ، ويعانى من الإرهاق بسبب الجهد المتصل فى المستشفى ، إلى جانب الدراسة المستمرة المكثفة ، كما تعرف سعاد أنه سوف يأتى قريباً إلى الكويت !!
تتماسك سعاد . تأخذ الموقف بهدوء . تنسحب متعللة بميعاد المحاضرة التالية ، كما تعتذر عن عدم ذهابها إلى النادى لمقابلة دلال هناك ، وإن كانت وعدتها بأنها ستحاول يوماً الحضور مع ليلى .
تقف دلال مع مجموعة من الزملاء والزميلات . تلفت الأنظار إليها بأناقتها وأسلوبها المتميز فى إنتفاء ثيابها . إذ تبدو كعارضة أزياء حسناء تعلن آخر خطوط الموضة . كما أنها تجذب إليها كل المحيطين بها بطريقتها اللطيفة الودودة ، وشخصيتها المرحة البشوشة المحبوبة التى تمنح محبة ومودة وإهتماماً لكل من حولها !
صراحة .. لم يكن ذلك كثيراً على دلال ، فهى بجمالها الأخاّذ وطبيعتها اللطيفة ، شخصية جذابة مؤثرة ، تزلزل هدوء المكان بحيويتها الصارخة المتدفقة ، وتبدد مشاعر الجمود والجفاء بإبتسامتها الساطعة وأنوثتها الصارخة ! صدق . دلال دوماً قادرة على أن تشعل أى مكان حولها بكل فنون الفتنة والإغراء ، بالتالى ، لم يكن صعباً عليها بما تملك من جرأة وقدرة على التعبير أن يغفل أحد وجودها فى أى مكان تذهب إليه !
وكان من بين هؤلاء .. جاسم الذى لم تكن دلال تخجل أن تطارده ، وأن تتبعه فى كل مكان ! نعم .. كثيراً ما كان جاسم يفاجأ بوجود دلال أمامه ، كان يتعجب من حضورها غير المتوقع ! فكان يضحك مبهوراً بجرأتها ، مندهشاً من إصرارها على حصاره ومتابعته ، حتى أنه كان يتندر ويقول :
– والله .. أخاف يوم أفتح شنطة النادى ألاقى دلال قاعدة فيها ..!
حقاً .. لم تكن دلال واحدة من هؤلاء البنات الهادئات الوادعات ، التى يمكن أن تيأس وتنسحب بسهولة . لا .. كانت جريئة . مندفعة . تعرف كيف تسحر الآخرين . كيف تسلبهم أنفسهم . كيف توقعهم فى حبائلها . كيف تخضعهم لسطوة إغرائها ونفوذ تأثيرها ، مستخدمة قدراتها الأنثوية المتميزة ، وأساليب شخصيتها النافذة المؤثرة ، فلم تنقطع عن ممارسة حياتها كما هى ، بلا تغيير ، إلى أن حان وقت رجوع جاسم من السفر .
فى البيت ، كان الجميع فى سعادة بالغة وفرحة طاغية ، وحركة نشطة لإستقبال
جاسم . زفت ليلى الخبر إلى سعاد تنبئها بموعد وصوله اليوم . فرحة أمه كانت تملأ البيت كله . والده أيضاً يخرج عن وقاره لأول مرة وتزمته ويعبّر بمنتهى الفرح والبهجة عن سعادته بقرب وصول جاسم .
تلتقى الشقيقتان ، تتكلمان فى سعادة وبهجة لقرب حضور الحبيب الغالى :
– بالسلامة إن شا الله .. بالسلامة .. يا الله .. الدنيا .. الدنيا كلها ما تسوى شئ فى غياب جاسم .. طالت الغيبة هذه المرة .. ياه .. متى يرجع يملأ البيت علينا مرة ثانية ؟!
.. هذه فعلاً حقيقة واقعة . جاسم يملأ البيت . وأى بيت . وأى مكان . وكل مكان يتواجد فيه بالفرح والمرح ، فضحكته عالية مدوية ، وحركته كثيرة نشطة ، وقفشاته ضاحكة خاطفة ، وتعليقاته ذكية ناطقة تثير الضحك وتبهج كل محيطيه . فهو خفيف الدم والظل والروح . ومع ذلك جاسم شاب قوى العزيمة ، واثق من نفسه ، يعرف كيف يحدد أهدافه ، وكيف يصيبها بدقة متناهية ! يعرف كيف يحرزها بنجاح منقطع النظير ، فهو مهاجم فى فريق الكرة ، وهداف فى واقع الحياة !
جاسم بحق ، شخصية اجتماعية جذابة خلابة ، يحبه الجميع ، يريده الجميع ، لا يمل أحد جلسته ، بل يتسابق الكل للقائه ، والفوز بصحبته . وفى وسط هذا الجو المفعم بحب
جاسم ، وتقدير جاسم ، والفخر والإعتزاز بجاسم .. نشأت سعاد . فكان طبيعياً أن تشعر بالحب نحوه ، خاصة وأن الوالدتين كانتا تلمّحان من وقت لآخر إن سعاد عروس جاسم ، وإن جاسم عريس سعاد !
تحدث سعاد نفسها فى آسى ، تسأل روحها فى ألم وضعف وعتاب :
– كيف ما قدرت أخلى جاسم يحبنى ويحس فينى كل هالوقت ؟! كيف ما عرفت أخليه يعرف أنى باحبه كل هذه الفترة ؟! كيف ؟! كيف ؟!
حقاً .. كانت تربية سعاد جادة ، قويمة ، حازمة ، حانية ، فأمها إمرأة كبيرة متدنية ، واخوتها الشباب يخافون عليها من الهواء ، بإعتبارها الأخت الوحيدة الصغيرة التى يحيطونها برعايتهم وحبهم وحرصهم ، حتى أبيها وجدها رحمة الله عليه ، كانا يعاملانها مثل باقى أخوتها ، فقد كانا يعدانها منذ الصغر لتدير ذات يوم عملاً عظيماً ، ولتتحمل مسئولية كبيرة فليس عندهما فرق بين بنت أو صبى .
لذلك .. لم يكن مستغرباً أن تنشأ سعاد قوية ، قادرة ، تتقن السيطرة على تصرفاتها ، تستخدم إرادتها وعقلها ، لهذا لم تدخل دنيا المراهقات ، ولم تكن لها تجربة عابثة ذات
أخطاء ، كما لم تكن تلقى بالاً لاهتمام الفتيات بمثل هذه الأشياء ، فنالت بذلك إحترام الجميع ، وتقديرهم منذ صغرها ، مما منحها بالتالى إحساساً ضخماً بذاتها ، وكيانها ، ونظرتها لنفسها .
و .. يأتى اليوم الموعود . يتأهب الجميع منذ الصباح الباكر للقاء جاسم القادم اليوم من نيويورك . تأمر والدته بإعداد وليمة عشاء شهية تضم كل أصناف الأطعمة والمأكولات والمشروبات التى يحبها جاسم ، والتى يحب أن تكون جاهزة فى إنتظاره لحظة وصوله .
تذهب سعاد مع والدتها إلى بيت خالتها بعد أن ارتدت أجمل ثيابها ، كما ارتدت أيضاً قناعاً آخر غير مرئى تخفى شعورها الحقيقى ، وتدارى به فرحها الداخلى ، حقيقة .. كانت سعاد فى غاية الإنفعالى رغم مظهرها الهادئ الذى يوحى به سلوكها ، ولن فستانها البيج الحريرى الذى منحها مزيجاً من السكون ، والبراءة ، ومزيداً من الدعة والروعة والجمال ، الذى تؤكده بشرتها السمراء ، وشعرها الأسود الناعم الكثيف ، وعينيها الواسعتين السوداوتين العميقتين .
لا يمضى وقت طويل قبل أن يصل جاسم مقتحماً البيت صائحاً ضاحكاً مهللاً كعادته ، يحيى الجميع بحب وترحاب . يحتضن أمه بقوة . يعانقها بحماس يثير الإنفعال . فتسقط الدموع حارة غزيرة ترق لها القلوب ، بعد أن حّركت حرارة اللقاء العنيف شجون الموجودين وأثارت مشاعرهم ، فى حين كانت سعاد تتشاغل عنهم وهى تشيح بوجهها حتى لا يغلبها التأثر فتسيل دموعها !
كانت سعاد تفضل أن تموت . أن تدفن قبل أن يرى مخلوق دموعها . كانت تحس أن هذا الضعف البشرى لا يليق بها ولا يجب أن يرى يوماً إنساناً دموعها . حتى أقرب الناس إلى قلبها . هذا ما نشأت عليه وتعلمته وحدها . ربما لأنها كانت مركزاً للحب والرعاية وكانت إذا بكت وهى طفلة صغيرة تقوم الدنيا ولا تقعد . ينقلب البيت فوق تحت ، كأن بركاناً ثار فجأة . إنفجر فجأة . تغطى ثورته الجميع بلا إستثناء . أو كان عاصفة عاتية هّبت تهدد أمن وسلامة البيت ، وكل من فى البيت !
كان أبوها يحتمل أى شئ . يقبل كل شئ . ألا أن يرى دموع سعاد . كانت تسيل فى قلبه ناراً حامية كاوية ، فكان يترك كل ما فى يده . كل ما أمامه وخلفه ويجلس يدلل سعاد . يأخذها فى حضنه . يربت على ظهرها . يقبل رأسها ، وجبينها ، ووجهها ولا يتوقف ، ولا يكف إلا بعد أن تكف سعاد عن البكاء !
بعدها .. يصحبها فى نزهة بسيارته ، يأخذها فى جولة حول محلات العصير والحلوى ، يدخل معها جمعية الشامية يشترى لها اللعب والشيكولاته وكل ما تشتهى نفسها ، فهو يتركها تنتقى ما تريد ، وتختار كل شئ على كيفها !
تتابع سعاد النزهة مع والدها ، الذى يستمع إلى صوت عوض الدوخى بأذن حساسة مرهفة ، فيظل يردد معه مقاطع أغنيته العذبة الشجية التى تحبها سعاد لأنه يحبها وينفعل بها ، فتسعد لسعادته بسماعها ، وهى تراه يهز رأسه طرباً وهو يطرق بأصابعـــــه مقــــود السيارة
نشوة :
يا ليل دانا لنـا
يا ليل دانا لدانا
يا ليل دانا لنـا
يا ليل دانا لدانا
تسمع سعاد الأغنية ، فتنسى زعلها ، يتبدد سبب غضبها ، ولا يتركها أبوها إلا بعد أن يرى الابتسامة على وجهها ..! ثم يطالعها بحب ، وهو يحدق بعينيه فى وجهها ، ويقترب برأسه يلامس به رأسها .. فتضحك فى فرح وهى تسمعه يغنى لها وحدها :
جميل وبالخد شامة
بس لو يرد السلام
يا ليل دانا لــنا
يا ليل دانا لدانـا
وحين تضحك سعاد ، تضحك الدنيا كلها . يقبلها أبوها فوق خدها ، وهو يبتسم إبتسامة عذبة صافية تشجى قلبها ، لهذا كله عرفت سعاد قيمة دموعها ، وغلاوة مشاعرها ، فحرصت أن تحافظ عليها ، أن تداريها حتى عن أعز الناس إليها خشية أن تقوم الدنيا
ولا تقعد ، لذلك كانت حريصة كل الحرص على إخفاء إحساسها ، كى لا يشعر جاسم بعذابها وما يعتمل فى قلبها !
يتابع جاسم تحية الجميع ، لا يهمل أحداً فى البيت دون أن يخصه بشحنة حب وافرة ، يتجه نحو سعاد ، يدنو منها بشوق يبرق يلمع فى عينيه ، ولهفة واضحة تبدو عليه ، حين إحتضن كفها بين يديه ، فتركتها سعاد راضية مستسلمة لقوته الضاغطة عليها ، وهى تصغى إليه وهو يقول لها بصوت قلبه الذى تعلق شوقاً بعينيها الواسعتين الجميلتين :
– وحشتينى سعاد .. واللّه وحشتينى وايد .. وايد .
ترجف أعماق سعاد من حرارة هذا الإستقبال الحافل باللهفة والحنين والأشواق . تهتز مشاعرها . يخفق قلبها بشدة بسبب هذا اللقاء الحار غير المتوقع . تحس فرحاً هائلاً يحيطها ، يلفها ، تذكر على الفور يوم حضرت فجأة لزيارة ليلى ووقفت وحدها فى هذه القاعة التى كانت بدونه ، خالية ، إلا من طيفه الذى إحتواها ، ملأها ، وسيطر بقوة على إحساسها وروحها وقلبها :
– آه يا جاسم .. حمداً لله على السلامة . أنت الحين هنا .. ؟ أنت الحين هنا .. ؟ حمداً لله على السلامة .
تعود سعاد تتساءل :
– معقول جاسم هنا ؟!
تعتقد أنها تحلم .. آه .. هى أكيد تحلم ، أنها تكاد من شدة الفرح والإنفعال أن تفقد وعيها . نعم . ليس سهلاً أن تستوعب الموقف ، ليس سهلاً أن تعيش اللحظة ببساطة هكذا ! إن جرعة الشعور العاطفى الغزير هذا فوق طاقتها . فوق قدراتها . فوق توقعاتها . لا تستطيع سعاد أن تمنع عينيها من التسلل خلسة نحو جاسم ، حبيبها ، حبيب قلبها ، وروحها وعمرها ، فتلاحظ ما طرأ من تغيير عليه بعد أن أخذت نظراتها الوالهة تسجل ما تراه من تغيرات .. فرأت له إزداد جاذبية ورجولة ، بعد أن زاد وزنه ونما شعر شاربه ولحيته ، كما طال شعر رأسه وكاد أن يلامس ياقة البالطو الكحلى الغامق الذى يلبسه :
– الله يحميك يا جاسم .. الله يحفظ .
تتنهد سعاد بعمق من القلب وهى تناجى جاسم :
– آه يا جاسم لو تدرى عن حبى لك .. آه لو تعرف إيش كتر اشتاق لك ؟! آه لو تعرف كيف يتعذب قلبى بسبب جفاء قلبك ؟!
تناجى سعاد روحها عاتبة على جاسم :
– كيف قدرت تصبر يا جاسم على هالبعاد ؟! كيف قدرت تتحمل هالوقت وأنت بعيد عنى ؟! كيف .. كيف يا جاسم ؟! كيف يا حبيبى .. يا حبيبى .. يا بعد روحى .. يا بعد عمرى ؟!
يلتفت جاسم نحوها فجأة ، يصوب عينيه داخل عينيها موجهاً إليها نظرة نافذة مساءلة تخترق كيانها ، ترج أعماقها ، فترتبك سعاد ، تضرب عواطفها ، تختلط أفكارها ، تخشى أن يكون جاسم قد أحس بها ، وأدرك مناجاتها ومعاناتها ، فتدير رأسها ، تخفى عنه نظراتها ، تتشاغل بالحديث مع ليلى ، تتظاهر بالبدء فى تناول طعام العشاء !
تمضى الدقائق حميمة ممتعة فى صحبة الأسرة ، لكن .. قبل أن يتناول جاسم باقى أصناف الطعام التى إعدت خصيصاً له ، تأتى الخادمة الهندية تخبره أن له مكالمة ، فينهض جاسم يذهب إلى حيث التليفون فى ركن القاعة ، يتكلم كعادته بصوت عال يقتحم أسماع الجميع :
– هلا دلال .. هلا هلا .. لا .. لا .. لسة داخل البيت من ساعة يا دلال .. أرجوك .. إستنى شوى .. ياه .. يعنى ما فى صبر يا دلال ؟ ما فى صبر ؟ زين .. زين .. حاضر .. حاضر .. حاضر .
يقف جاسم مبتسماً معتذراً للجميع عن عدم إستطاعته متابعة السهرة معهم ، يخرج مسرعاً ينطلق بسيارة والده البيضاء التى أحضرته من المطار ، و .. يمضى متلهفاً متشوقاً للقاء دلال !
ينقطع الجميع عن تناول الطعام . تنسد شهيتهم مرة واحدة ، يخيّم عليهم نوعاً من الضيق والغم بعد إنصراف جاسم المفاجئ عنهم . تنتفض ليلى واقفة ، تدخل غرفتها حانقة . تغلق الباب وراءها فى غيظ وغضب . فى حين تتسمر سعاد مكانها . تبقى تمضغ اللقمة فى تؤدة وتمهل بين ضروسها . تبقى تمضغ . وتمضغ . وتمضغ ، بعد أن عجزت تماماً عن بلعها ..!
أخيراً .. بصعوبة تزدردها مصحوبة بدمعها الذى ينحدر داخلها ، يتجمع فى معدتها التى توشك أن تنفجر ..!
الفصل الرابع
صـدى الصمت !
يضطرب الموقف بعد خروج جاسم المفاجئ لمقابلة دلال دون أن يتناول طعام العشاء ، تفقد أم جاسم صبرها وهدوءها فتقول ثائرة :
– الله بلانا بهالبلوى اللى اسمها دلال .. الله يفكنا منها إن شاء الله .. ما خلته حتى ياكل ؟!
تجيبها أختها أم عبد الله حانقة غاضبة هى الأخرى :
– صدق ماتستحى .. والله ماتستحى !
يتعكر صفو الجلسة ، يعاف الجميع الطعام ، ماعدا أبو جاسم الذى يتابع تناول عشائه كأن شيئاً لم يكن ، يبدو أن هناك تعاطفاً خفياً بينه وبين دلال التى تمّت له بصله قرابة لا يعتبرها بعيدة فجدتها خالة أمه ، يخاطب نفسه مؤيداً :
– شاب .. واللى نفسه فيه يسويه .. خليه على كيفه .
تفتح سعاد فى تردد باب غرفة ليلى ، تدخل ، فتدهش لرؤيتها منهارة باكية ، تحاول أن تخفف عنها حدة الموقف ، لكنها قبل أن تتفوه بكلمة واحدة ، تنطلق ليلى هادرة كالطوفان :
– والله ماراح اتركها هالملعونة .. راح أشوف شغلى وياها عدل .. وأنت سعاد .. ليش ما تساعدينى ؟ ليش ما تحاولين تخلصى جاسم منها ؟ ها .. ؟ أنت ماتحبين جاسم ؟!
تبهت سعاد . تحار كيف تجيب هذا السؤال . تفاجأ بموقف ليلى المباغت ! لا تعرف كيف ترد عليها ، كما لا تعرف ماذا تقول لها ، ولا كيف تخرج من هذا الموقف المتأزم .. فتسكت !
منذ تلك الليلة الحافلة بالغيظ والحرقة والغضب ينشب نوع غريب من الصراع الغامض بين ليلى وسعاد من جهة ، ودلال وحدها من جهة أخرى ، صراع خفى ، غير
مرئى ، لكنه الآن يصبح صراعاً محسوساً ملموساً ! كما ينشأ أيضاً نوع جديد من التحالف الودى بين أبنتّى الخالة اللتان تشنان نوعاً من التحدى العاطفى للإطاحة بعرش تلك المغرورة الطائشة .. دلال !
– الله فوق .
بصبر وأناة يبدأ تخطيط دقيق منظم للأيام التالية ، صدق ، من ضحك أخيراً ضحك كثيراً ، صبراً جميلاً يا دلال ، العبرة بالنتيجة والعظة فى النهاية على أى حال !
تنتهى عطلة جاسم . تطير . تتبخر . تقفز الساعات قفزاً تنذر بقرب موعد الرحيل ، كأنها فى سباق محموم مع نفسها !
– ياالله .. صحيح الأيام الحلوة تجرى بسرعة !
الكل الحين فى حالة استنفار فجاسم على وشك الرحيل . البيت كله يقف على قدم وساق من أجل تلبية طلبات جاسم الخاصة . البن . البخور . العيش . البسمتى . الدشاديش الصيفى والشتوى . المبخرة . اللبان البصرى . التوابل المشكلة وأهمها الهيل والزعفران . كل شئ كل شئ . حتى الصابون الرقى ، حتى ليفة الحمامّ الخشنة التى يحبها جاسم .. نعم ، كل شئ تم إعداده بسرعة ، بعد أن مضت أجازة جاسم فى لمح البصر ، تلك الأجازة القصيرة التى لم يره فيها أحد ، والتى كان مشغولاً فيها طوال الوقت بلعب كرة القدم فى النادى مع لاعبى المنتخب .
ولم يكن لدى جاسم أى وقت ليلتقى بسعاد ، أما دلال فقد بقيت على عادتها .. تلاحقه ، تطارده ، فى كل مكان يذهب إليه ! تجلس تشاهد مبارياته الودية حتى فى أوقات التدريب ! حقيقة .. لم تكن دلال تريد جاسم أن يغيب عن عينيها لحظة واحدة .. يبدو أنها كانت ترفض أن تنام ، ولا أن تقفل عينيها دون أن تراه .. أو تنظر إليه ! أما سعاد ، فقد إستسلمت للأمر الواقع كعادتها ، قبلت به ، رضيت ، قنعت ، فهى لا تستطيع أن تفعل ما تفعله دلال !
و .. تأتى لحظة الرحيل الواجفة .. الوداع هذه المرة بعيداً عن أعين دلال وتأثير دلال . تجلس ليلى وسعاد فى السيارة التى يقودها جاسم بنفسه إلى المطار ، فى حين يجلس والده فى المقعد المجاور له . تضحك ليلى بينها وبين نفسها وهى تناجى روحها :
– مالك مكان بيننا الحين يا دلال .. خليك بعيد أحسن .
تشعر سعاد أيضاً ذات الشعور ، فتسعد بإحساس صلة القرابة ولذة الانتماء ، لكن .. كم تكون المفاجأة ساخرة ماكرة بانتظارهم حتى يصلون المطار ، فيجدون دلال وقد سبقتهم إلى هناك وهى تقف دامعة باكية على وشك الانهيار ! .. بعد أن ظلت تترقب حضورهم بفارغ الصبر من طول الانتظار !
تلمح دلال جاسم فتركض نحوه فور نزوله من السيارة ، تسلم عليه بشوق وشغف ، تكاد أن ترتمى فى أحضانه دون أن تضع أى اعتبار لوجودهم معه ، كأنها لا ترى مخلوقاً غيره ! تسلم عليه بإنفعال وحماس وبكاء ، وهى تنصرف بكليتها إليه دون أن تستحى حتى من أبيه الذى ينظر بعطف إلى دموعها بينما تهمس ليلى ثائرة :
– صدق ما تستحى .. ما تستحى .. هذه المعلونة مايفوتها شئ فى الدنيا .. بسيطة دلال .. صبرى علىّ !
تؤخذ سعاد بهذه المفاجأة غير المتوقعة ! تقف ترقب صامتة هذا الوداع الغرامى العنيف بين جاسم ودلال ، وعرق بارد يثقب مسام جلدها ، فى حين يجف حلقها من شدة الغيرة والغيظ والغضب !
يقف جاسم يودعهم ، يسلم عليهم بسرعة ، فالطائرة على وشك الإقلاع . يدخل دائرة الجوازات متعجلاً وهو يضع حقيبته على كتفه والأخرى يرفعها بيده . يدخل يركض فى حين ينصرف الجميع عائدين إلى حيث تنتظر والدة سعاد عند أختها أم جاسم . تصمت ليلى . لا تنطق سعاد بحرف واحد طول الطريق ، فالحوار لا ينفع الحين ، لأن والد ليلى يقود السيارة ، ولن تفوته كلمة أو همسة ..
فى البيت ، تقتل الفتاتان الموضوع بحثاً ، تقلّبان الخطط على جميع الوجوه ، تفكران فى كل الطرق والوسائل المتاحة والممكنة لإبعاد دلال عن جاسم بأى طريقة ! فى النهاية بقاوة وخبث ومكر البنات تقترح ليلى ضرورة السفر إلى أمريكا لقضاء عطلة الصيف عند جاسم هذه السنة ، تؤيدها فى ذلك سعاد بفرح وارتياح . فهذا هو المكان الوحيد الآمن خارج حدود سيطرة وتأثير ونفوذ دلال .. !
هى أمريكا إذن . فليبدأ الاستعداد لتنفيذ ذلك المخطط الصيفى من الآن . تستدرك سعاد ، تسأل ليلى فى جزع :
– تعتقدين ليلى أنهم يوافقون على سفرنا عند جاسم ؟! لا .. ما أظنهم راح يوافقوا ! أنت ما تدرين شئ عن فيصل وتزمته يا ليلى .. فيصل صعب .. أنت ما تعرفين طباعه ولا أخلاقه .. أكيد ما راح يوافق .
لا تعترض ليلى ، توافقها الرأى ، فهى أيضاً على دراية بطباع فيصل الذى يتصرف مع الجميع بصرامة رجل الشرطة الذى يتوقع الخطر ، ويتشكك فى كل شئ فهو لا يأخذ الأمور بسهولة ويسر مثل والده ، وإنما يسأل ويستفهم ويفكر .. ثم يقرر .
كانت سعاد تتوقع معارضة أخوتها ورفضهم لهذه الفكرة . لذا كان لابد من دراسة الموقف بتأنى . دون تسرع . فالمهم هنا رأى فيصل بالدرجة الأولى ، فيصل لازم يقتنع أولاً قبل أن يوافق ، فإذا وافق . وافق الجميع دون نقاش . أما والدها فهو لا يرد لها طلباً أبداً ، ويثق فيها ثقة مطلقة . لذلك أخذت سعاد تبحث عن سبب معقول ، ومبرر قوى يقنع الجميــع .
فجأة تقفز ليلى صارخة وهى تخبط رأسها بأصبعها وتقول فى فرح :
– وجدتها .. وجدتها .. خالتى أم عبد الله مريضة بالقلب .. زين ؟! وهى لازم تسافر أمريكا عشان تعمل الفحص الطبى هناك .. ؟! وجاسم لازم يشرف بنفسه على حالتها لأنه راح يترجم لها ، ويشرح لها ، ويتابع كل شئ بنفسه .. زين ؟!
تضحك سعاد من أعماق قلبها ضحكة صافية منطلقة .. تقول فى ارتياح شديد :
– برافو عليك يا ليلى .. برافو عليك .. حليتى المشكلة ..!
فى الحال يبدأ تنفيذ الخطة ، الجانب الطبى منها بالذات ، فكلما شكت أم عبد الله من الصداع تقول ليلى فى شفقة واضحة وصوت مؤثر :
– خالتى حرام عليك صحتك .. لازم تفحصين قلبك .. ترى القلب هالأيام يسبب الصداع !
وإذا حدث فى البيت وتوجعّت أم عبد الله من ألم عابر فى قدميها تهرع إليها سعاد موحية بضرورة فحص القلب . لأن من علاماته هذه الأيام وجع المفاصل ، بالذات الركب والأقدام .. تنصح سعاد أمها فى محاول إقناع :
– يّوما حرام عليك صحتك .. حرام عليك .. لازم تفحصين قلبك بسرعة عشان نطمئن عليك .
وهكذا حتى لو شكت أم عبد الله فى وجع ضروسها تنصحها الفتاتان بعد أن تتبادلان نظرات التفاهم والإتفاق بضرورة الكشف على القلب !
– بس شرط خالتى تشوفين طبيب شاطر مثل جاسم .. يقدر يشخّص الحالة عدل .. صراحة ماكو دكتور أشطر من جاسم !
وذات يوم تتكلم ليلى مع أمها عن صحة خالتها الحبيبة أم عبد الله فتقول :
يا ليت يوّما تقولين لخالتى ما تهمل فى صحتها .. ترى هى لازم تفحص قلبها .. أنا خايفة عليها وايد .. هى لازم تروح أمريكا تفحص قلبها هناك فى المستشفى عند جاسم .. وهو أكيد ما راح يقصرّ فى شئ .. وساعتها نطمئن عليها كلنا ونرتاح من هذا الوسواس مرة واحدة .. ترى صحتها هالأيام موعجبانى .. أنا خايفة عليها وايد ..!
تقلق أم جاسم على صحة أختها الكبرى ، فينتابها الخوف والقلق بسبب تكرار هذا الكلام الموحى بخطوة حالتها الصحية ، فتبدأ تختمر الفكرة فى ذهنها ، ثم ما تلبثت أن تبدأ تأخذ حيز التنفيذ العملى بعد أن اصاب القلق الجميع بعدواه ، حتى فيصل نفسه وافق على السفر ببساطة ، على العكس تماماً مما كانت تتوقع سعاد ، لم يعترض أحد من أخوتها على فكرة سفرهم إلى أمريكا ، طالما هذه هى رغبة الأم التى يحترم الجميع إرادتها .
وبنظرة حب تفيض بالحب ، يوافق أبو عبد الله على سفر زوجته وابنته التى يحبها ويتفاءل بها ، والتى شاف الخير ، كل الخير منذ قدومها ، سعاد وجه السعد ، وجه الخير ، فيها البركة والسعد ، حتى أبوه الله يرحمه كان دوماً يتفاءل بها ، كان يحب أن يتصبّح بوجهها قبل أن يخرج إلى عمله فى الصباح الباكر ، حتى لو كانت نائمة يصحيها من عز نومها ، يقّبل وجنتيها ، خدودها ، ويمضى مستبشراً متفائلاً إلى عمله ، حيث يشوف الخير ، كل الخير على نيتها ، وأسمها !
كان من عادة أبو عبد الله أن يداعب صغيرته سعاد ، بأن يناديها أمى ، وكان إذا دخل البيت ولم يجدها يسأل عنها فى لهفة :
– وين أمى ؟ وين راحت ؟ متى ترجع ؟ لا .. لا .. أخرجوا أنتم كلكم .. بس أتركوا لى أمى .. لا تأخذوها منى ..
وكانت سعاد تنعم بحب أبيها الذى لم ينقطع يوماً عن تدليلها ، حتى بعد أن كبرت وصارت صبية تستحى ، إلا أنه لم يكن يقدر أن يتحكم فى حبه لها ، ولا أن يمنع نفسه من تقبيلها ، وضمها ، وإستمراء عطفها وحنانها .. نعم .. كان يحبها أن تشعره بالحب ، والعطف ، والحنان وكان أبوه رحمة الله عليه ، هو الآخر شغوفاً بسعاد ، عاشقاً لسعاد .
وكما تعلمت سعاد فنون الإدارة التى أخذتها عن أبيها الذى درس علوم التجارة ، وإدارة الأعمال فى جامعة القاهرة ، تبدأ تنظيم شئونها ، فتضع تخطيطاً كاملاً لرحلة الصيف القادم !
– شنو راح نحتاج ؟! شنو راح نسوى هناك ؟! شنو نبى نحضره من الحين و .. و .. و .. !
كان أول شئ تعلمته سعاد فى أبجدية صنع النجاح ، هو التعامل مع الوقت باحترام ، أن يتم إعداد كل شئ مسبقاً بوقت كاف قبل الحاجة إلى إستعماله ، حتى لا يسرقها الوقت ، وتضيع منها الفرصة المواتية لإكتساب أى شئ ، لذا ، كانت تعد العدة اللازمة لترتيب شئونها دون ارتباك أو سوء تقدير .
تنتهى سعاد من ترتيب كل شئ ، ليس على الورق فقط ، بل تبدأ فى تنفيذ الجزء العملى ، فتلتحق بالدراسات المسائية فى المجلس البريطانى ، حيث يتلقى دروساً فى اللغة الإنجليزية ، فهى لا تنسى أن دلال تتقن هذه اللغة بحكم دراستها فى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية وهى لا تريد أن تتفوق دلال عليها فى شئ ، فقد تعلمت كيف تصنع النجاح منذ نعومة أظفارها ، أيضاً ، تستخرج سعاد رخصة قيادة دولية ، وتبدأ تقرأ كتيبات سياحية عن أمريكا ، وعلى الأخص عن نيويورك حيث يعيش جاسم !
فى الحقيقة لا يتوقف تطلع سعاد عند هذا الحد ، بل تحرص على إتقان وإجادة صنوف الطعام التى يحبها جاسم ، كما تضيف إليها أصنافاً أخرى مطهوة على الطريقة الأمريكية والفرنسية أيضاً .. !
فى الواقع سعاد لا تدع شيئاً يفوتها صغيراً كان أو كبيراً ، حتى طريقة إعداد أطباق السلطة العالمية الروسية ، والفرنسية ، أخذت تتفنن فيها كل التفنن .. وصارت الحين سعاد جاهزة لبدء النزال ، وخوض المعركة !
صحيح الخصم ليس سهلاً ، والهزيمة مرّة لكن ، الحمد لله ، سعاد لم تهزم من قبل ، لأنه لم تقرر قبل الآن أن تخوض المعركة بطريقة إيجابية .. حقاً .. هى لم تفكر فى منافسة دلال من قبل ، لكنها كانت دوماً ترفض هذا الأمر الواقع الظالم الذى تحاول أن تفرضه دلال دون وجه حق ..!
– صدق هى ما تستاهل جاسم .. ما تستاهل جاسم !
يدخل الصيف حاراً قائظاً ، يشكو الجميع من حرارة الشمس ، وسخونة الهواء هذه السنة ، يتأهب الكل للسفر إلى أمريكا ، ليلى وأمها وسعادوأمها ، التى تحتاج إلى إجراء الفحوص الطبية اللازمة للتأكد من حالة قلبها الصحية !
– الحمد لله جاسم هناك وراح يرتب كل شئ .. كل شئ .
تحلق الطائرة متجهة إلى نيويورك ، تجلس ليلى بجانب سعاد تتهامسان وتبتسمان وهما تتذكران أيامهما فى لندن التى توفقوا بها عدة أيام حيث التقوا خلالها بالأهل والأصدقاء المصيفين ، وأولهم الخال أبو إبراهيم المقيم هناك ليؤسس شركته الجديدة التى يريد أن يجعل مركزها الرئيسى فى لندن ، بالإضافة إلى شركاته التجارية العديدة فى الكويت والإمارات والبحرين .
تسترجع الفتاتان أحداث هذه العطلة القصيرة فى لندن ، تتذكران مواقفهما الكثيرة المتعددة مع بنات خالهما سهام ومنال وصديقاتهما اللاتى يعرفن دلال واللاتى قلن أنها ستموت من القهر بسبب سفرهن إلى أمريكا عند جاسم !
تتذكر ليلى دلال فتقول ضاحكة لسعاد :
– ها .. لا تنسين هدفنا يا سعاد .. ترى لازم نفتّك ونخلص منها مرة واحدة !
تهز سعاد راسها مؤيدة دون أن تنطق أو تتكلم ، خوفاً أن تسمعها خالتها أو أمها الجالستين أمامهما مباشرة ، وحرجاً من الخوض من حديث مباشر وصريح هكذا عن جاسم ، حتى ولو كان مع ليلى !
الموقف فى الواقع غير عادى بالنسبة لسعاد كما تظنه ليلى ، فهو موقف حساس ومحرج ، ومخجل للغاية ، فمجرد الحديث عن جاسم يجعل سعاد تشعر فى الحال بالحرج والخجل ، فهى تخشى أن تخوض تجربة صعبة مثل هذه ، لكنه الحب ، أحياناً ، يخلق نوعاً من الحنين والعناد .. والتحدى !
تهبط الطائرة مطار نيويورك .. لحظات عابرة ويلتقى الجميع بجاسم الواقف من بعيد بارزاً عن الجميع بوسامته العربية الشرقية الملامح التى تميزه عن العشرات ، بل المئات من الشباب والرجال الذين يغّص بهم المكان ، فالجبهة عريضة ، عالية ، فيها ومض الذكاء ، والعينان سوداوان فيهما بريق يخطف الأبصار ، والأنف فيه قوة وشموخ وإعتداد بالذات ، والفم فيه ضخامة وفحولة ورجولة ، والشنب يضع خطاً مؤيداً لكل هذه السمات وتلك الصفات!
تتأمل سعاد ملامح وجهه الوسيم الجذاب الشديد الجاذبية ، تعود تتأمله بإفتتان شديد ورجفّة خفيفة تنتفض فى جوارحها الفتية تزداد كلما دنت منه ، لذا لم تسرع خطواتها إليه .. كانت تمشى متمهلة فى سيرها ، تتحرك ببطء شديد لتعطى الفرصة لأمها وخالتها لسبقها ، حتى تكون هى آخر من يسلم على جاسم ، كى يأتى سلاماً طويلاً ، بطيئاً ، ليس متعجلاً .. بل ، متمهلاً .. متمهلاً !
تلتقى العينان ، تنفذ النظرات إلى الأعماق فتشعل فيها نيران الأشواق ، تضرم فيها اللهفة إلى العناق . ترتبك سعاد . تلقى نظراتها فوق حذائها ، ثم تعود إلى ترفع إليه وجهها المتورد ، الشديد الإختقان ، وإبتسامة ساحرة تحمل كثيراً من الشوق المخزون فى الأعماق ، ورغبة عنيفة فى محادثة جاسم ومصافحته .. تستبد بها !
تتهاوى لحظات الإرتباك والحرج حين يسلم جاسم عليها مرحبابها فى إنفعال واضح لا يخفى على عينيها ولا على قلبها ! هنا .. تحس سعاد جاذبية عارمة تشدها نحو جاسم ، تدخلها معه ضمن نطاق سعادة عظيمة مطلقة !
… يسيرا متجاورين ، يشقان طريقهما بصعوبة وسط الزحام فى مطار نيويورك ، ورغم الضجيج والازدحام الشديد ، تستطيع سعاد أن تسمع صوت جاسم بوضوح ، تمضى وادعة تمسح بنظراتها المكان لتستقر عيناها فى النهاية خلسة عند جاسم ، الذى تتشاغل عنه بالحديث مع ليلى ، خشية أن تظهر مشاعرها وتنكشف لجاسم أشياء لا يصح الكشف عنها ، فهو يملك القدرة على إختراق أعماقها ، وسبر أغوار نفسها ، هى تعرف ذلك جيداً ، تعرف أنه يمتلك تلك المقدرة العجيبة المبهرة !
دقائق أخرى وينطلق الجميع من مطار نيويورك فى سيارة مينى باص ، إستأجرها جاسم خصيصاً لنقل الحقائب والأمتعة ، وأكياس العيش ، وباقى الأغراض التى أحضروها معهم ، فالعطلة طويلة وحاجاتهم كثيرة ، وجاسم كان يتوقع ذلك ، فأعد السيارة لهم مسبقاً حتى لا يتعرض لأى مفاجآت .
يجلس جاسم بينهم سعيداً مبتسماً ، منتشياً ، يهنئهم بسلامة الوصول ، يسألهم عن أحوال الأهل فى الكويت :
– ما فى أحد راح ييجى هالسنة أمريكا ؟
يظل جاسم يستفسر عن أخبار الديرة والأهل والأصحاب ، لا يهدأ قبل أن يطمئن على الجميع كأنما مضت عليه أعوام طويلة لم يذهب فيها إلى الكويت ، وبين لحظة وأخرى كان يقطع حديثه ، يتشاغل بالنظر إلى الطريق ، متجنباً السؤال عن دلال !
ينتظر لحين وصولهم البيت ، ينفرد بليلى ، يسألها بعيداً عن أسماع الجميع عن أخبار دلال ، يستفسر عما إذا كانت تشوفها أو تقابلها ، أو تروح معها النادى ، تجيبه ليلى بطريقة ماكرة متخابثة بصوت عادى وادى برئ :
– دلال مثل ما هى يا جاسم ما تتغير .. يقولون أنها فى النادى كل يوم .. عندها أصحابها يروحون سوا كل يوم .. كل يوم .. !
وعلى الرغم من إتصال جاسم ودلال المستمر ، فالحديث بينهما لا ينقطع ، إلا أن دلال لم تذكر له شيئاً عن ذهابها اليومى إلى النادى !! كما لم تقل له كلمة واحدة عن هؤلاء الأصحاب اللى تروح معاهم كل يوم النادى !! عجيب !!
يغصّ المعنى الواضح فى قلب جاسم . يبلع المغزى الهادف فى هدوء . يصمت . لا يعلق بكلمة . يتّوه الموضوع بالسؤال عن أشياء أخرى بعيدة ، يسأل عن أخبار النادى ، والشيخ فهد الأحمد وعن اللاعبين حمد بوحمد والعنبرى وفيصل الدخيل والطرابلسى ..
يسأل أيضاً عن باقى اللاعبين والإداريين ، ويخص بالسؤال خالد الحربان ، الجيران أيضاً يسأل عنهم ، كل فرد فى البيت يسأل عنه ، هل هم كما تركهم ؟ هل هم بخير ؟! حتى منطقة كيفان كلها يسأل عنها ، هل صارت تغييرات عليها ؟! يسأل عن كل شئ فيها ، عن الجمعية ، والجامع ، والشجر فى الشوارع ، يسأل أيضاً عن سائقهم راجان .. و هل أخذ أجازة وراح بومباى .. وألا بعده بالكويت ؟!
يتحدث جاسم مع أمه ، لا يكفّ عن السؤال عن أحوال والده . صحته . عمله . كأنما مضت عليه سنة لم يره خلالها ، وكأنما لم يكلمه اليوم وأمس وكل يوم ..! مأنما ظل فى الغربة سنوات وسنوات ، ولم يكن فى الكويت قبل خمسة أشهر فقط ، عندما صمم أن يأخذ أجازة طارئة من المستشفى ليحضر إحتفال عيد الكويت الوطنى التاسع عشر !
نعم .. كان إحتفال الكويت بعيدها الوطنى ، سبباً كافياً جداً لجاسم كى يترك كل شئ أمامه ، ووراءه ويأتى إلى وطنه الغالى الحبيب يشاركه فرحته بهذا العيد الكبير . عيد الاستقلال . الذى لا يقدر أن يتجاهله ، ولا أن يتغافل عن حضوره ومشاهدة إحتفالاته ، بل ، والمشاركة فيها بقلبه وكيانه ..
لم يكن هذا الموقف مستغرباً من جاسم ، فهو فى الحقيقة شاب وطنى ، مخلص ، شاب صادق فى مشاعره وإحساسه تجاه الديرة والأهل ، شاب يحب الوطن بأرضه ، وسمائه ، وبحره الواسع العميق ، كما يحب رجال الوطن الذين يدافعون عنه ويفدونه بالروح والدم ، لذا .. كان جاسم معجباً كل الإعجاب بشخصية أبيه أحمد الناصر العميد بوزارة الدفاع بدولة الكويت .
كان العميد أحمد الناصر رجلاً قوياً متميزاً ، يستعمل أقل الكلمات ليمارس حياته بالطريقة التى يحب ويقتنع ، أنه لا يحتاج أن يقول أنا هنا .. حضوره وحده يكفى ، مجرد ظهوره يكفى ، مجرد تواجده فى المكان يكفى بأن يقول للجميع ها أنا ذا ، رغم صوته الخفيض وكلماته القليلة وإبتسامته النادرة .. إلا أن تأثيره الخارق لا يخفى على أحد !
كان تعبيره الفصيح عن النفس ، عما يريد ويشتهى ويرغب ، يتم دون أن يفتح فمه بكلمة واحدة . ياالله يالك من رجل قدير يا أبو جاسم .. حياك الله .
يظل جاسم فترة يسأل عن الأحوال والأخبار ، يريد أن يطمئن على كل شئ ، فالغربة نضخم الأحداث ، تجسمّ الإحساس ، تثير الحنين ، تبعث القلق . إنه البعاد بمشاعره المضاعفة ذات الصدى والرنين والأنين !
تماسك يا جاسم . تماسك . فأنت البطل . فترة من العمر وتعدى . تعبر . تمر . وبعدها .. هلا بالكويت .. ومرحبا بالكويت .
يقترح جاسم أن يأخذ الأهل إلى مطعم قريب لتناول العشاء ، أو كافتيريا رائعة قريبة من البيت تقدم أصنافاً لذيذة شهية ، لكنه يفاجأ برفض إقتراحه الذى يقابل بعاصفة من الإحتجاج ، نظراً لإرهاق السفر ، والرغبة فى فتح الحقائب وتعليق الملابس ، بالإضافة إلى الشعور العام بالتعب والنعاس والحاجة إلى الراحة والإسترخاء .
ينصاع جاسم مرغماً لرغبتهم . يفكر أن يطلب طعاماً جاهزاً ، فهو لم يكن يتوقع هذه المعارضة الصعبة على الإطلاق ! يجلس برهة حائراً يفكر فى تدبير أمر هذا العشاء بعد هذا الرفض . تضحك سعاد وهى تشعر بصعوبة موقفه ، تقول له مطمئنة ، مشجعة ، فى محاولة لإخراجه من هذا الموقف المحرج :
– لا تحمل هم يا جاسم .. راح أسوى لكم العشاء الليلة .. خليها علىّ أنا .. كلها ساعة واحدة ويصير الأكل جاهز إن شاء الله .
يرمقها جاسم بإمتنان وإرتياح شاكراً لها تخلصه من هذه الورطة التى لم يعمل حسابها ، فهو لم يحضر لهم طعاماً بالبيت لأنه كان يريدهم أن يتفسحوا من أول لحظة يصلوا فيها ، ويخرجوا يأكلوا فى مكان حلو بدلاً من البيت ، لكنهم رفضوا وهو ما يقدر يجبرهم على الخروج :
– كيفهم .. خليهم على راحتهم .
هنا .. يقرر جاسم أن يخرج ليشترى بعض الأغراض من السوبر ماركت القريب ، تصميم ليلى أن تذهب معه ، فهى لا تريد أن تظل فى البيت لحظة واحدة بعد وصولها ، تريد أن تتفرج على كل شئ فى أمريكا من أول لحظة ، دون أن فقد دقيقة واحدة !
صراحة .. كان الموقف بأكمله جديداً على جاسم ، لذا لم يعرف ماذا يشترى لهم قبل حضورهم ، أو ماذا يعّد لهم من أطعمة قد تعجبهم أو لا تعجبهم ، كان حائراً ، فالموقف غير مألوف بالنسبة له ، هذه أول مرة يصبح جاسم مسئولاً عن تدبير شئون بيت يضم عدداً كبيراً من الأفراد ، ولم يكن الأمر سهلاً بالنسبة له فهو طول عمره محاط بالعناية والرعاية ولا يعرف شيئاً عن مثل هذه الأمور الخاصة بإدارة المنزل ورعاية الأسرة ، لذلك شعر جاسم بالارتياح عندما أعلنت سعاد أنها سوف تتولى إعداد العشاء ، فعلاً .. خلصته من الإحساس بالحرج والتقصير !
تنهض سعاد تدخل المطبخ ، تبدأ فى إعداد طعام العشاء ، فى حين بدأت الشقيقتان فى أداء الصلاة بغرفة النوم الرئيسية التى تركها جاسم واختص لنفسه الغرفة الأخرى الصغيرة ذات السرير المنفرد . تنهمك المرأتان بعد أداء فريضة الصلاة فى حديث يشوبه بعض القلق عن مرض القلب ، وطريقة العلاج هنا ، والأجهزة الحديثة ومهارة الأطباء المتخصصين .. و .. و ..
تقوم أم جاسم تطمئن أختها :
– الحمد لله جاسم راح يسوى كل شئ .. لا تخافين يا أختى .. الحين الدنيا تغيرت .. الطب تطور .. ما عاد فى شئ صعب .. إطمئنى .. بسيطة إن شاء .
تتنهد أم عبد الله فى إرتياح بعد أن طمأنتها أختها أم جاسم ، وخففت عنها الكثير من القلق ، تبقى الشقيقتان فى جلستهما على الأرض تتحدثان وتتحدثان وهما ترشفان الشاى من الإستكانات الكريستال المذهبة التى أحضرتها سعاد من الكويت . تجلسان تتحدثان بعد أن تركتا الحقائب لحين رجوع جاسم وليلى لترتيب الملابس والأغراض مع سعاد ، بعد ما تفرغ من تحضير العشاء .
تتفنن سعاد فى غبداع وليمة طعام شهية لذلية ، تبتسم لنفسها مشجعة . تهمس . تطمئن روحها :
– أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته .. عدل .. طريق الوصول إلى القلب هو المعدة ! زين .. نزيد التوابل شّوى فوق اللحم .. تضيف عصير الليمون والثوم وزيت الزيتون فوق السلطة . هاه .. ياللا .. إتكلنا على الله !
تشوى سعاد اللحم فى الفرن الذى ترفع درجة حرارته ليحمر اللحم دون أن ييبس أو يجف ، تهمس تحدث نفسها فى سعادة ونشوة :
– يا سلام .. والله صرتى خوش طباخة يا سعاد !
تضع سعاد الأكل على النار ، وجاسم وليلى لم يعودا ، فتسأل أمه :
– ليش تأخروا كل هالوقت يا سعاد ؟! هم وين راحوا ؟! كم الساعة الحين ؟!
ترد سعاد على خالتها وهى ما تزال فى المطبخ :
– يجوز راحوا مكان بعيد .. لا تخافى يا خالتى .. الحين يردون .. تدرين عن ليلى وحبها للخروج .. أكيد هى اللى عطلت جاسم ..
دقائق ويدخل جاسم يتشمم رائحة الهواء رافعاً وجهه إلى أعلى ، يمضى متتبعاً مصدر الرائحة الذى يشى بوجود أصنافاً شهية من الطعام حتى يدخل المطبخ ، فيقول منبهراً صائحاً : – الله .. شنو هالأكل ؟! شنوها لرائحة ! صار لى زمان ما شمتها .. من يوم ما تركت الكويت ما شميت رائحة مثل هذه !!
يتلفت جاسم حوله كأنما يفتش عن شئ لا يراه :
– أنا ميت من الجوع .. راح آكل خروف لوحدى .
يدخل غرفته ، يبدل ملابسه ، يذهب إلى حيث تجلس أمه وخالته فى غرفة النوم الرئيسية ، يجلس إلى جوارهما على الأرض يتحدث عن صحة خالته ، يحاول أن يطمئنها :
– ترى كل شئ سهل الحين .. ماكو مشكلة .. المسألة بسيطة وايد يا خالتى لا تخافين .. لا تفكرين فى شئ .. خليها على الله .. المشكلة الوحيدة الحين إنى جوعان .. ياللا قوموا نأكل ..!
يخرج جاسم من الغرفة مع أمه وخالته إلى صالة المعيشة ، فينظر مبهوراً إلى أصناف الطعام الكثيرة ، يجلس يأكل وهو لا يصدق إن سعاد بنت خالته الصغيرة المدللة عرفت تطبخ كل هذا الأكل اللذيذ .. وحدها ..!
يقول جاسم مازحاً :
– لا سعاد .. ما أصدق أنت أكيد جيبتى هالأكل معاك من الكويت .. معقول هذا شغل يدك ؟ معقول ؟! أعتقد هذا شغل طباخكم كومار .. مو كدى ؟!
يعاود جاسم النظر إلى سعاد منبهراً معجباً متعجباً ، فيصيح كأنه إكتشف شيئاً جديداً يراه لأول مرة :
– والله كبرت يا سعاد .. والله كبرت !
ولا يكف جاسم عن إبداء إعجابه وتعجبه من شطارة سعاد ، وكيف قدرت تطبخ كل هذا الأكل اللذيذ فى هذا الوقت القصير !
يمضى الوقت خفيفاً ، لطيفاً ، حافلاً بالنكات ، والقفشات ، زاخراً بالمرح والبهجة والفرح ، بعد قليل تنعس الشقيقتان ، يغلبهما الإرهاق والتعب من طول السفر ، فتدخلان لتناما فى الغرفة الكبيرة الداخلية ، بينما تجلس ليلى وسعاد وجاسم فى غرفة المعيشة الكبيرة التى تتناثر فيها المجلات والكتب الأجنبية فى كل مكان !
تفتح ليلى جهاز التليفزيون ، تجلس على المقعد الوثير المريح ، فى حين تتربع سعاد على الأرض تتصفح عدة مجلات عثرت عليها بجوار الكنبة التى يسترخى فوقها جاسم فأرداً ظهره الذى يوجعه من شدة التعب والوقوف طول النهار ، إلى جانب أنه لم ينم منذ الليلة السابقة حتى الآن أكثر من أربع ساعات ..!
تستغرق ليلى فى مشاهدة المسلسل التليفزيونى المثير ، ينضم إليها جاسم شغوفاً بمتابعة أحداثه ، فى حين تحاول سعاد أن توزع إهتمامها بين المجلات التى بين يديها ، وشاشة التليفزيون التى أمامها ، وجاسم الموجود بشحمه ولحمه على الكنبة بجوارها ..!!
– يا الله .. معقول ؟ معقول جاسم معى فى نفس الغرفة ؟! معقول ؟! لا .. ما أصدق .. ما أصدق !
تتنهد سعاد من قلب يتشقق من شدة الإنفعال وهى لا تصدق إن جاسم الآن موجود على بعد سنتيمترات منها .. أهذا معقول ؟! أم أنه المستحيل عندما يصبح ممكناً ؟ آه .. ما هذا الذى تشعر به الآن ؟! أهو نوع آخر من أنواع الحب المشوب بالخوف والخجل والخدر ؟! أم أنه ترقب فيه إنتظار وتوقع وحذر ؟
يتحرك جاسم فوق الكنبة حركة مفاجئة ، يرفع ذراعه إلى أعلى ، يتمطى ، ويتمطى ، ثم يضغط على كتفيه بيديه يدلك أسفل عنقه ضاغطاً بقوة ، محاولاً تخفيف الألم والوجع الذى يشعر به ، تطالعه سعاد خلسة فى حنان وحب ، وهى تشعر رغبة عارمة فى مبادلته حديثاً طويلاً مباشراً ، لكنها تخمدها إحتراماً لعواطفها التى تخشى أن تشّف عما يفور داخلهــا ..!
تتمالك سعاد مشاعرها بصعوبة بالغة ، تحاول أن تحجّم إحساسها نحو جاسم ، فهى تخشى أن تفكر فيه أكثر من اللازم ، لأنها تعرف أنه سيشعر بها ، سينتقل إليه إحساسها ، سيدرك ما تضمر من عواطف ، وما تخزن من أشواق وأحاسيس ، فهو بحاسته الثاقبة قادر على إختراق أعماقها وكشف أسرار قلبها !
تهمس لنفسها :
– آه .. يكفى هذا الحب يا سعاد .. يكفى .. يكفى !
لكن .. فى هذه اللحظة بالذات يركزّ جاسم نظره عليها وهو يسألها باسماً :
– تحبين تشوفى أفلام عربى يا سعاد ؟
يسألها وهو يطالعها بنظرة حب طويلة ممزوجة بود وعطف وحنان ، يقول مشجعاً :
– ترى عندى مجموعة كبيرة سعاد .. أحسن شئ إنك تنقى منها اللى يعجبك .. آه .. تذكرت عندى بعد مسرحية عذوبى السالمية .. إيش رأيك .. تحبين تشوفيها الحين ؟!
تشكره سعاد فى لطف ، فهى تعرف أنه منهمك بمتابعة المسلسل الذى تشاهده ليلى أيضاً ، تقول فى حياء :
– لا .. شكراً يا جاسم أنا باتصفح المجلات .. بكرة إن شاء الله نتفرج كلنا على المسرحية سوا .. أمى تحب تشوف عبد الحسين عبد الرضا .. وتموت فى سعاد عبد الله .. تحبهم وايد .
هنا يعود جاسم ينظر إليها فى إجاب ، كأنه يمنحها الرد الذى تترقبه ، والذى يخلصها من حيرتها ، فيقول هاتفاً :
– شنو عالشطارة .. شنو هالأكل اللى سويتيه الليلة يا سعاد ؟! .. متى تعلمت تطبخين كل هذه الأصناف ؟! صدق علمينى .. أنت طبختيه بنفسك واللا جبتيه جاهز معاك من الكويت ؟! علمينى سعاد أرجوك ؟!
تضحك سعاد . تغمرها موجة فرح دافقة تنبع من عمق القلب . لا تصدق نفسها ، تهمس فى سرها :
– ياه .. معقول جاسم قاعد يكلمنى ويجاملنى ويردد أسمى بدل المرة مرتين ؟ .. معقول ؟! معقول يمزح ويتقشمر بعد وياى ؟!
تؤكد سعاد لنفسها أنه حتماً يحس بها . يرتاح لها . إنه يحبها . يحبها . حينئذ يخفق قلبها بشدة ، فهى تدارى حبه فى الأعماق ، تواريه فى اللاشعور ، هى واثقة أن جاسم يحبها ، حتماً يحبها ، لكنه لا يبوح .. لا يفصح .. لماذا ؟! لا تدرى .. لا تدرى !!
تغرق سعاد فى بحار التفكير العميق ، تبقى تفكر وتفكر ، تكرر السؤال ، تلو السؤال ، وهى ما تزال تدور فى دوامة هذا التساؤل الرهيب ، معتقدة إنه ربما يفضل الصمت ، لأن الصمت – لا الكلام – ينفذ إلى الأعماق !
تعود تنظر إليه ، تبادله نفس البسمة الجذابة الساحرة ، وحلماً حانياً يضم خيالها ، يحتضن إحساسها ، يعتصر أعماقها ، يرج كيانها ، فتمرح له روحها . لأنها سوف تحيا بالقرب منه أياماً حلوة ، هنيئة فى رحاب الحب والعاطفة .. وأى عاطفة !
تصمت سعاد . تنصت . تصغى لدقات قلبها . تتحسس دبيب مشاعرها ، التى أخذت تسرى فى أنحاء جسدها . تبقى تقلب صفحات المجلات بين يديها ، لعل خشخشة أوراقها تخفى ضجيج قلبها ، الذى أخذت دقاته تتعالى وترتفع شيئاً .. فشيئاً !
.. يزداد الليل عتمة ، وهدوءاً وسكوناً ، بينما الدوّى الداخلى فى قلب سعاد يزداد ضجة ونفوذاً ، فى حين يستمر حواراً ، صامتاً ، متسائلاً ، يصدر عن القلب ، يتخفى خلال المناقشة ، التى تبدأ وتنتهى بينها وبين جاسم ، الذى تحوم حوله أحلامها وحبها ، تتسكب مشاعر سعاد فياضة غامرة ، وحنان متدفق لا يتوقف ، ينصب على جاسم ذاك الحبيب ، الذى تهوى ، وتحب ، وتعشق ، منذ صغرها ..!
فجأة .. يرتفع رنين الهاتف شارخاً هدأة الليل الجميل ، ممزقاً سكون اللحظة الحلم ، مثيراً ضيق ليلى وتعاسة سعاد ، فقد كانت المتحدثة على الطرف الآخر هى .. دلال !
يأخذ جاسم الهاتف ، يدخل الغرفة الصغيرة الضيقة ، يغلق الباب خلفه مانحاً نفسه الفرصة الكافية للإنفراد بالحديث مع دلال ، تنظر ليلى إلى سعاد وقد تملكتها الدهشة وأعماها الغضب ، فتقول متبرمة ساخطة :
– أووه .. أعوذ بالله .. يعنى يا ربى هذه الدلال ورانا ورانا فى كل مكان ؟!
تبادلها سعاد نظرة منطفئة ، خابية ، وقد شملها شعور عارم بالمذلة والهزيمة
والهوان ، تطرق إلى الأرض برأسها فى انحدار وإنكسار ، تصمت صمتاً مطبقاً ، وقد فقدت نهائياً الرغبة فى كشف مشاعرها الجريحة أمام ليلى ، لا ، بل حتى أمام نفسها ، تشعر ليلى بمعاناتها فلا تعلق بكلمة إحتراماً لإحساسها ومنعاً لإحراجها ، تنهض تجلس بجوارها
تحاول أن تخفف عنها حزنها وضيقها ، فتقول لها فى صوت خافت خفيض حرصت ألا يسمعه جاسم :
– ما يهم .. ما يهم .. راح نتصرف معاها بطريقة ثانية .. ما راح نعطيها فرصة تكلمه طول وجودنا هنا .
تستطرد ليلى فى وصف الخطة المضادة لمقاومة إحتلال دلال لمشاعر جاسم ، توافق سعاد راضخة على أمل إنقاذ الأمل فى حبها ، ذاك الحب الخالد الذى لا يبرح روحها ولا يفارق خيالها ، بل يسيطر على كل كيانها ويمتلك ذاتها ويتحكم فى شعورها !
بعد قليل .. يخرج جاسم من الغرفة حافياً .. رافعاً ذراعه المغطى بالشعر الأسود الكثيف ، يشير بيده إلى التليفزيون طالباً من ليلى فى أدب وذوق أن تخفض الصوت بعض الشئ ، تجيب ليلى طلبه على الفور . فى حين ينسل إلى الداخل فى خفة ، ساحباً الباب خلفه فى هدوء !
تتبادل الفتاتان نظرات صامتة ، ناطقة ، فى حين ينساب صوت جاسم مبهماً غامضاً ، لا يفهم منه شئ سوى أنه ما يزال على الخط مع دلال ..!
تشعر سعاد بالغيرة ، والحزن ، والإحباط ، آه .. توجد أحياناً لحظات خائنة حتى فى أوقات السعادة العابرة ، تلتف سعاد بالصمت فى حين يملؤها إحساس شامل بالنفور والرفض لما يدور حولها ، ينتابها ضيق . وغم وغضب . وغيظ من دلال ، تلك الفتاة الجريئة التى لا تكف عن متابعة جاسم ، ومطاردة جاسم ، والتى تثير حوله ضروباً من الفتنة والسحر والإغراء !
تحنى سعاد رأسها إلى أسفل ، تلصق نظراتها بقدميها ، تقاوم دموعها كاوية لا تريدها أن تسيل أمام ليلى ، تنهض واقفة بقلب واجم ، ووجه منطفئ تداريه عنها .. بينما تشتعل فى صدرها حرائق نيران حامية متأججة ..!
تحاول سعاد أن تتجنب النظر إلى عينى ليلى ، فالشبه بينها وبين جاسم شديد ، فهى صورة طبق الأصل منه ، لذا لا تحتمل النظر إليها ، حتى لا توقد فيها أسىً كبيراً ، وأسفاً عارماً ، ففى جميع الأحوال .. جاسم ليس لديه عذر واحد فى أن يفعل ذلك بها !!
تدخل سعاد غرفة النوم ، ترقد تنزوى فى حضن أمها وصوتها يهتف مذبوحاً من أعماقها ، فيه إحتجاج ورفض صارخ لهذا الموقف الصعب الأليم الذى تقاسيه فى هذا الوقت من الليل حولها ، صوت حنون . تحبه . تألفه . منذ أولى سنوات عمرها . صوت يؤنسها ، يسرى عنها ، يطربها فى رحلة حياتها .. تبدأ تسترخى ، وهى تمتص صوت عوض الدوخى .. وكلمات هذه الأغنية ..
زاد الحنين للحبيــب
وإشتقت له ولوصالـه
والشوق عندى عظيـم
والنوم جفانى عليــل
ساهر أناجى خيالــه
والرب بحالى علــم
والرب بحالى عليـم
ترقد سعاد تناجى نفسها ، تدعو ربها فى رجاء ودعاء ، أن يخفف عنها أساها ، وأن يبدد عنها حزنها .. ويرفع عنها همها ، ويهّون عليها عذاب حبها ..!
الفصل الخامس
حنان البحر
تتفق ليلى وسعاد على تدبير خطة مضادة لهذا الخط المتصل الواصل بين جاسم ودلال ، هذا الخط لابد أن ينقطع ، لابد أن ينقطع ، عموماً .. الأمر ليس صعباً فى الواقع فبعد ملاحظة الوضع ، إتضح أن دلال هى التى تتصل أغلب الأوقات ، إذن ، كان على ليلى وسعاد أن تتبادلا حراسة التليفون أثناء وجود جاسم فى البيت ، فإذا سمع صوت دلال تتظاهر إحداهما بأن هناك عطلاً طارئاً قد أصاب الخط وتقفل السكة ، أو تتعلل أى منهما بأن
جاسم نائم ، أو يتكلم مع خالته ، أو فى المستشفى ، أو فى المطبخ ، أو يحضر أغراضه من السيارة !
أخيراً .. تتناقص مكالمات دلال تدريجياً ، كما تلحظ كل منهما أنها لم تعد تلك المكالمات الليلية الطويلة الهامسة ، بل صارت فى معظمها مكالمات تحفل بإتهامات كثيرة تثير حنق جاسم وغضبه ، وتجعله منفعلاً عصبياً ! وفى نهاية الشهر الأول لوجودهم فى أمريكا ، تحولت المكالمات إلى خناق فى خناق . فقدت دلال السيطرة على نفسها تماماً ، دمرّتها الغيرة من سعاد ، وأهلكها الشك فى وجود علاقة غرامية بينها وبين جاسم !
– ليش صار الحين مشغول عنى ؟ ليش يهتم فينى من أول ما وصلت سعاد أمريكا ؟! آه .. هو أكيد معجب بسعاد .. فرحان بوجودها وياه ..!
عند هذه النقطة ينتهى صبر دلال ، تفتك الغيرة بأعصابها نهائياً إلى أن تتهم جاسم صراحة وعلانية بأنه يحب سعاد ، ويرتاح لوجودها بجانبه ، تؤكد له هازئة ساخرة :
– والله جاسم إنت معذور .. عندك حق .. ترى أنا ما الومك .. البنية حلوة وجميلة وقدامك ليل نهار فى نفس الشقة .. معذور .. معذور .. سعاد عندك فكيف تفكر فينى أنا الحين ؟! ما تقدر .. قلت لك معذور .. خلاص يا جاسم .. خلاص .. حلال عليك سعاد .. بس لا تنسى أرجوك تعزمنى فى الفرح .. فى أمان الله .
تقفل دلال الخط فى وجه جاسم ، تضع السماعة فى عصبية ، فى حين يتعجب جاسم من عصبيتها الزائدة هذه ، ، بعد أن ظل ينفى الموضوع برمته لها ! يبقى صوتها وهى تصرخ ثائرة يدوى فى أذنيه :
– فسر لى كيف صرت فجأة مشغول من يوم وصلت سعاد ؟! كيف ؟ كيف ؟ فهمنى الله يخليك !
يشتعل جاسم غضباً من شدة الإحساس بالظلم والإمتهان ، يحس أن دماءه تغلى وتفور من هذه التهم الباطلة التى تكيلها له دلال .. من غير حساب ! يظل يتلقى تلك المكالمات المتصلة المتتابعة ، التى تكرر دلال فيها نفس الإتهامات التى ترّكز على حبه لسعاد ، وإعجابه بسعاد ، فلا يعود يقدر يتحملها ، يضيق خلقه بها ، وأخيراً يقتنع بــــأن دلال :
– صارت عصبية .. ما تنطاق !
يتفاقم شعور جاسم بالنفور من دلال ، والضيق من مكالمات دلال ، التى صارت مصدراً للغيظ والغضب والعصبية ، فهى فى كل مرة تتصل تظل تصرخ وتصيح :
– سعاد .. سعاد .. سعاد .. !!
.. لكن .. ما هذا الوصف اللى قاعدة تقوله عن سعاد ؟! إنها لا تسكت ولا تكف عن الصراخ سعاد .. سعاد ! صحيح هى بنت خالتى وصحيحى هى حلوة وجميلة مثل ما تقول دلال ، لكن ما فى بيننا شئ من هذه الأمور اللى تظنها دلال ، سعاد عاقلة محترمة ، ما هى طائشة ولا متهورة ، سعاد مثل أختى ليلى ما فى فرق بينهما !!
آه .. لكن .. يستدرك جاسم مفكراً قائلاً :
– لا .. هى مومثل أختى مثل ما كنت أعتقد .. لا .. سعاد جذابة .. فيها شئ يشد .. شئ مثير .. مثير .. !
و.. أخيراً .. تنجح دلال فى أن تفعل ما لم تستطع أن تفعله سعاد !! تنجح فى أن تلفت نظر جاسم وأن تنبه جاسم إلى ما لم يكن منتبهاً إليه !! ويبدأ جاسم بعدها ينظر إلى سعاد نظرة تختلف . تختلف . تختلف !
.. فها هى سعاد تتحرك أمامه ، تروح وتجئ بقوامها الفارع الممشوق ، الرائع التنسيق ، ها هى تحدثه بأدب وذوق ، وصوت هامس هادئ ، ها هى تكلمه وهى تنظر إليه بعينيها الواسعتين الآسرتين المليئتين بالحنان والود والإحترام .. وها هى تفعل كل شئ بمهارة وإتقان ، وها هى تنظم كل شئ بدقة . تناقش معه بعض الأمور بأسلوب ناعم . رقيق . وديع . كما أنها تعرف كيف تتصرف فى كل شئ بمنتهى الترتيب ، كما تعرف أيضاً كيف تتعامل مع الجميع بعقل وفهم وذكاء .. !
يتعجب جاسم من نفسه ، وهو يفتح عينيه على سعاد فجأة مبهوراً بها ، يعاتب نفسه كيف لم يرها من قبل ؟! كيف لم يقتنع بها ، إنها فتاة غير عادية ، غير عادية !
إنها تفعل كل شئ ، حتى نزهة نهاية الأسبوع تقوم هى نيابة عنه بتنظيمها والإعداد لها دون أن تنسى شيئاًُ من لزوم الرحلة حتى لو كان بسيطاً تافهاً .. إنها منظمة ، منظمة !
يتابع جاسم شعوره العارم بالدهشة وهو يسترجع تصرفات سعاد :
– ياه .. حتى طلبات البيت ومشتريات الأسرة تقوم بإحضارها بنفسها ..!
يزداد جاسم إنشغالاً بسعاد . كما يزداد إنشغالاً فى المستشفى . فهو يتابع نتائج الفحص والأشعة والتحاليل الخاصة بخالته أم عبد الله ، ويركض وراءها لسرعة إنجازها فيما بين الأقسام المختلفة ، فهو يحب خالته ويخاف على صحتها ، ومسئوليته الآن كطبيب أن يسرع بإتخاذ اللازم ليتم التشخيص فيطمئن ويرتاح هو والجميع .
لكن .. اليوم يحتاج حضورهم إلى المستشفى فى أسرع وقت ، يتصل بالبيت يطلب منهم ذلك ، بعد أن عرف من الطبيب الإخصائى ضرورة حضورهم لإجراء بعض الفحوصات الطبية والأشعة والتحاليل اللازمة .
كانت فرحة سعاد لا توصف وهى تدخل إليه ، تراه فى ” البالطو ” الأبيض جالساً خلف المكتب فى غرفة الأطباء ، وقد إنهمك فى قراءة تقرير بالإنجليزية ، أخذ بعدها يناقش ما جاء فيه مع طبيب آخر أمريكى !
تقف سعاد تنظر إليه فى هدوء وسعادة وإنبهار ، أنها معجبة به ، وبهذا الجو الطبى الفخم الذى يحيطه ، فالغرفة أنيقة ، واللغة الإنجليزية العلمية المتخصصة التى يزاولها جاسم بطلاقة تبهرها .. ! الأهم من ذلك كله جاسم بقامته الطويلة ، وأكتافه العريضة ، التى يبرزها البالطو الأبيض الناصع ، ويزيدها وسامة وجاذبية وإبهاراً !
بعد ظهور نتائج الفحوصات الأخيرة ، يخطرهم جاسم برغبة الطبيب الأخصائى فى دخول خالته المستشفى لإجراء المزيد من الفحوصات الضرورية لتشخيص الحالة بدقة ، لأنهم يشتبهون فى شئ ما فى القلب ، ويريدون أن يتأكدوا منه !
يمضى الوقت بطيئاً مشوباً بقلق الترقب والإنتظار بالنسبة لجاسم وأم عبد الله وأم جاسم ، فى حين كانت سعاد وليلى فى غاية الاطمئنان ، لا خوف عندهما إطلاقاً مما يحدث الآن ، فلا ترقب ، ولا قلق ، ولا إنتظار ، لأن الموضوع أصلاً من إختراعهما ، وفكرة المرض والسفر والفحص ، أساساً من تأليفهما وإخراجهما ..!
كانت ليلى وسعاد تتفاهمان بالنظرات ، كانتا تبتسمان ، تتهامسان ، وإن كانتا تتظاهران بالخوف والتوتر والإهتمام ، حتى لا يشك فى أمرهما أحد ، ففى بعض الأحيان عندما كان جاسم يتحدث عن الفحوصات والتحاليل كانتا تتعجبان ، بالذات سعاد ، كانت تدهش من جدية جاسم فى متابعة الموضوع ، كما كانت تتعجب من تلك الأهمية الزائدة ورئة القلق التى تبدو فى نبرة صوته ..!
كانت الفتاتان تستغربان أن يأخذ جاسم الموضوع بحساسية كبيرة مثل هذه ، بطريقة مبالغ فيها هكذا ، كانتا تضحكان فى سرهما منه ، وهما تعتقدان أنه طبيب دقيق ، ينزعج بسبب وجود مرض .. غير موجود !!
لكن .. يا للمفاجأة ! يتكدر البيت ، يقلق الجميع خوفاً على صحة الخالة الطيبة الحنون ، التى صارت تعانى آلاماً مبرحة فى الصدر !! تحزن سعاد كل الحزن لمرض والدتها تكاد تحس بالذنب وهى تعرف أنهم أجروا قسطرة للقلب فى المستشفى أوضحت أن هناك إنسداداً فى ثلاثة من شرايين القلب التاجية ، وأن الحالة تستدعى جراحة عاجلة !
يأخذ جاسم التقارير يعرضها على الطبيب الأخصائى ، ثم يجرى بها من مكان آخر فى المستشفى ، يحاول أن يختصر الوقت ، فهو يعمل كل ما فى وسعه لسرعة التحضير والتجهيز لإجراء العملية فى أسرع وقت ممكن ، بعد أن ظهرت نتيجة الأشعة وجاء التقرير الثانى يؤكد إنسداد ثلاثة من شرايين القلب التاجية ..!
لابد من إجراء العملية إذن ، ولابد أن يعرف المريض حقيقة حالته الصحية ، فيعرض جاسم الموضوع على خالته ، ينقل إليها الخبر بطريقة مخففّة ، يحرص أن يقلل فيها حجم الخوف ، فى حين أن الأسلوب الأمريكى يستلزم مصارحة المريض شخصياً ومباشرة بحقيقة حالته الصحية ، لذا طلب جاسم من الطبيب الذى أجرى القسطرة أن يترك له مهمة مصارحة المريضة بنفسه ..
فى هذه اللحظة .. تعرف سعاد حقيقة مرض أمها ، فتكاد أن تجن عندما تتأكد أن الحالة حرجة فعلاً ، وأن الموضوع ليس هزاراً كما كانت تظن وتعتقد ، لأن أمها بالتأكيد فى حاجة لإجراء عملية جراحية فى القلب !
تدخل أم عبد الله المستشفى والجميع إلى جوارها ، أبو عبد الله زوجها الذى حضر على الفور من الكويت بعد أن عرف الخبر ، وبدر إبنها الأصغر الذى جاء من لندن .. الكل يريد أن يكون إلى جوارها ، تلك المرأة الطيبة التى تمنح الحب بلا حساب ، أما فيصل فقد إكتفى بالإتصال للإطمئنان على حالة والدته لأنه لا يستطيع الحضور ، إذ أن طبيعة عمله كضابط فى وزارة الداخلية لا تسمح له أن يأخذ أجازة فورية فى هذا الوقت ، كما إن زوجته فضيلة فى المستشفى أيضاً إثر تعرضها لحادث إجهاض بعد أن سقط جنينها وهى حامل فى الشهر الثالث . كذلك عبد الله إبنها البكر إتصل عدة مرات ، وظل يتابع الوضع فى الكويت لأنه يتولى حالياً مسئولية العمل فى غياب والده .
يرتب جاسم كل شئ مع إدارة المستشفى ، يحجز لخالته جناحاً خاصاً يضم غرفة مرفقاً بها غرفة استقبال فيها سرير إضافى وصالون وثلاجة صغيرة ، ويظل بعض الوقت مع خالته فى الجناح يطمئنها ويشجعها ، فى حين يتحدث باسماً هادئاً مع الجميع يحاول أن يطمئنهم ويخبرهم أنها بخير وما فى داعى للقلق .
وقبل أن يغادر جاسم الغرفة يدق جهاز اللاسلكى المعلق فى جيبه العلوى ، فيتجه إلى التليفون يدير رقماً معيناً ، ويبدأ يتحدث بإنجليزية سليمة سريعة متقنة ، وسرعان ما ينهى الحوار ويخرج على عجل إلى حيث يريدونه ، ثم يعود بعد قليل يتابع كلامه معهم وترحيبه بزوج خالته ، وبدر ، فهو حريص كل الحرص على إزالة مخاوفهم وتخفيف توترهم وطمأنتهم ، ثم ، يستأذن معهم ليرجع إلى عمله فى غرفة الأطباء .
تضخم الأحداث كلها مكانة جاسم فى قلب سعاد . فى روح سعاد . فى وجدان سعاد . فى عقل سعاد . آه .. أنت تتربع فوق عرش القلب يا جاسم . أنت حبيب القلب يا جاسم . تنظر سعاد إلى نفسها باسمة لائمة فها هى اللغة الإنجليزية التى تعبت وطلعت روحها فى تعلمها فى المجلس البريطانى بالكويت قد تبخر جزء كبير منها هنا ! وها هى الممارسة الفعلية تثبت أنها فى حاجة إلى تعلم الكثير . الكثير . الكثير !
آه .. وهذا هو أيضاً جاسم يتألق كالقمر أثناء الإستقبال الحار الذى قابل به والدها وأخيها عندما حضرا ليطمئنا على حالة أمها .. كان منظر الرجال وهم يتعانقون فى المطار مؤثراً ، مثيراً ، لم تستيطع سعاد أن تحبس دموعها ، سالت رغماً عنها على خدها ، وسرعان ما مسحتها خوفاً على إحساس أبيها وأخيها كى لا يشعران بخطورة حالة أمها .. حقاً ، لم تتمالك سعاد إحساسها ، غلبها التأثير ، فظلت تدعو الله أن يخليهم ويطيل عمرهم ، ويحفظ أمها ويطيل عمرها .
تحمد الله سعاد على أن الصدفة وحدها أنقذت أمها من الوقوع بين براثن المرض ، تشكر الله كثيراً أن جاسم ولد خالتها ، هذا الطبيب الناجح الذى يتابع بسرعة وهمة ويستعجل كافة الفحوصات والتحاليل . تحس سعاد حباً كبيراً نحو جاسم يكبر . يتزايد . يتضخم .. يتضخم .. تقسّم سعاد وقتها بين البقاء مع أمها فى المستشفى ، وزيارة أبيها وأخيها فى الفندق فى نفس المبنى الضخم الفخم الذى يضم المستشفى والفندق معاً ، وبين ليلى وخالتها فى البيت اللتان لا تقصرّان فى الحضور يومياً لزيارة أمها فى الجناح الخاص بها .
تحاول سعاد أن تسرّى عن أبيها وتخفف عنه بعض القلق الذى يحس به عندما يأتى لزيارتهم فى المتشفى ، فتأخذ عشرات الصور لتشرح له الأماكن الجميلة التى ذهبوا إليها وشاهدوها هنا ، وكانت فى كل يوم تحاول أن تحدثه فى موضوع مختلف حتى لا يحس بالملل من طول الوقت فى المستشفى .
ينتهى الأسبوع سريعاً ، كما ينتهى وقت الزيارة . يخرج الجميع من الجناح ليتركوا أم عبد الله تنام وترتاح بعد خروجها من غرفة الإنعاش . تبقى معها سعاد ، فهى لا تستطيع أن تفارق أمها لحظة واحدة ، فهى تحبها . تحبها . وترعاها بقلبها وتمنحها حباً خالصاً ، نابعاً من أعماق نفسها ، فكانت لا تغادر غرفتها ، وتظل تقرأ القرآن الكريم أوقاتاً طويلة ، وهى تدعو لها بالصحة وطول العمر ..
و .. بعد رحيل اللحظات الحرجة الحافلة بآلام الإنتظار وقلق الترقب ، يعلن جاسم فى فرح وإنتظار أن حالة خالته الصحية قد تجاوزت مرحلة الخطر بسلام ، وأنها صارت الحين بخير والحمد لله .. يعم الفرح الجميع ، تغمرهم بهجة كبيرة عظيمة وهم يحمدون الله كثيراً أن أم عبد الله قد نجّت من الخطر ، وكتبت لها الصحة والعافية .. الحمد لله رب العالمين .
تحتاج أم عبد الله بعض الوقت إلى أن تسترد صحتها ، فلا تقّر سعاد فى العناية بها دقيقة واحدة ، كانت ترعاها بحب وحنان ورعاية ، بينما كان جاسم يتولى متابعة حالتها الصحية بنفس الحب ، ونفس الحنان ، ويشرح لسعاد ما خفى عليها من معلومات طبية ، يوضحها لها بصبر وأناة ، فقد كان الوقت كافياً لذلك ، إذ أنه لم ينقطع عن رؤية سعاد فى أوقات الغذاء والعشاء ، حيث كان يدعوها لتناول وجبة ساخنة فى الكافيتريا الخاصة بالأطباء فى المستشفى .
وكانت سعاد أحياناً تحب أن تقدم له بعض الوجبات الخفيفة التى تعدّها بيدها ، فكانا يتناولان الشاى أو القهوة معاً فى الصالون الملحق بغرفة أمها ، وكانا يجلسان يتحاوران ، ويتحدثان فى أشياء كثيرة ، كل ليلة ، قبل أن يعود جاسم إلى البيت عند منتصف الليل !
حقيقة .. لم يكن موقف جاسم مقصوداً أو هادفاً كى يقترب من سعاد ، لكنها الظروف وحدها هى التى قربّت بينهما ، هى التى خلقت الوقت ، وأتاحت له الفرصة الكافية كى يدنو من سعاد . يقترب من سعاد . يشعر بسعاد . فكان لقاؤه بها صافياً ، شجياً ، ممتعاً ، لا يقطعه موعد عمل ، أو قدوم طبيب أو ممرض ، أو حتى زائر ، فى ذلك الوقت المتأخر من الليل ، قبل أن يعود إلى البيت ، وبعد أن يطمئن عليها .. وعلى خالته !
و .. سهرت سعاد ساعات الخوف على أمها مع جاسم ، الذى كان يمنحها الإحساس بالإرتياح والسكينة والإطمئنان .. وكم كانت السويعات الخاطفة ، أحلى وأمتع اللحظات ، التى أحستها سعاد حين أتيحت لها الفرصة السانحة لتستمتع بصحبة جاسم . وجلسة جاسم . وصوت جاسم . وعيون جاسم . تلك العيون التى تحب .. وتعشق .
وهنا .. خلال تلك المواقف المتفاوتة بين الخوف ، والقلق ، والترقب ، والإنتظار ، والراحة والإطمئنان والشعور بالسكينة والأمان ، رأى جاسم سعاد فى شتى المواقف . رآها خائفة . رآها تقرأ القرآن . رآها تدعو الله . رآها نشطة . رآها ناعسة . رآها مرهقة . رآها تنتظره . رآها فرحانة . رآها ضاحكة . رآها تعد القهوة والشاى . رآها تحاول أن تتحدث بالإنجليزية مع بعض العاملين فى المستشفى . رآها تتكلم مع أبيها والحب يبرق فى عينيها . رآها تتعامل مع أخيها بمودّة ومحبة . رآها . رآها . رآها .. فى كل المواقف وشعر بها فى مختلف الأحاسيس .. وهنا .. عاش جاسم مشاعرها .. بكل مشاعره !
يمضى الأسبوع النهارى الليلى يقّرب ما بين قلبى سعاد وجاسم . حقاً .. الموقف الصعب يكشف عن معدن الإنسان الأصيل . إكتشف الإثنان معاً . فى وقت واحد . إن كل منهما قريب إلى قلب الآخر . كما تأكدت سعاد أن جاسم قد عمل كل ما يلزم لأمها . لم يقصرّ فى شئ . لم يترك لها فرصة واحدة لكى تطلب منه شيئاً . قدم لها كل ما تحتاج قبل أن تنطق أو تطلب ، كما أثبتت هى أيضاً مهارة خارقة فى فهم وإدراك بعض المصطلحات الطبية التى كان يذهل جاسم لها ، والتى أثبتت ذكاء سعاد الخارق الذى أثار إعجابه وإبهـــاره !
نعم .. تأتى الأيام بمواقف وأحداث فيها مفاجآت يعجز جاسم عن إستيعابها كلها دفعة واحدة .. كل هذه القوى الخارقة فيك إنت يا سعاد ؟! كل هذا الذكاء والثبات والصمود والقوة والإقتدار فيك إنت يا سعاد ؟ كل هذا التجلد والصبر والتماسك والتحمل فيك إنت يا سعاد ؟ حقاً .. إنها لا تضعف أمام الخطر ! لا تعجز عن مواجهة الصعاب ! يا الله .. كل هذه الصفات ، وكل تلك القدرات فى هذه الفتاة الصغيرة الهادئة ؟!
– صدق .. اللى ما يعرف الصقر يشويه !!
تغادر أم عبد الله المستشفى إلى البيت ، بحيث تكون تحت رعاية جاسم ، وفى نفس الوقت تتابع المراجعة فى المستشفى كل يوم لمدة أسبوع ، يسدد أبو عبد الله فاتورة المستشفى ، ويقفل عائداً إلى الكويت ، فى حين يستمر بدر فى إقامته بالفندق ليكون إلى جوار أمه بعض الوقت ، وحتى يطمئن عليها كل الاطمئنان .
تمتلئ الشقة بالورود والأزهار من كل الأنواع والألوان ، فأصدقاء وزملاء جاسم من الأطباء العرب والأمريكان يعرفون عن عملية خالته التى تمت بنجاح ، والتى تتماثل للشفاء الآن ، فيعد بدر حفلاً صغيراً لوالدته بهذه المناسبة السعيدة ، فيجهز غرفة المعيشة تجهيزاً مسرحياً يتحكم فى إضاءته ببعض ” الأباجورات ” ، واللمبات التى أحضرها من الغرف الداخلية ..
ثم .. يقف فى الوسط مستعداً بعد أن أزاح الطاولة الكبيرة إلى جوار الحائط ، وجعل منها بوفيهاً مليئاً بالحلوى والورود والفاكهة ، ثم يبدأ يقدم عرضاً مسرحياً ضاحكاً ، خاصاً بوالدته ، يقلد فيه الفنان الكبير عبد الحسين عبد الرضا ، الذى يعرف أنها تحبه وتفرح بمشاهدة أى تمثيلية أو مسرحية يطلع بها ، لذا يقوم بدر بدوره فى مسرحيته الجديدة ” باى باى لندن ” كما يؤدى أيضاً دور بطلتها هيفاء عادل !
لا يكتفى بدر بذلك ، بل يأخذ الغناء مقلداً أشهر المطربين ، عبد المحسن المهنا ، غريد الشاطئ ، طلاح المداح ، محمد عبده ، والفنان الذى يعشقه والده عوض الدوخى ، وحتى عايشه المرطة يغنى بعض أغانيها ، لأن خالته أم جاسم تحبها !
ينهمك بدر فى إحياء حفلته الخاصة ، الناجحة جداً ، التى إشتملت على عدة فقرات من الغناء والرقص ، والتمثيل ، والتقليد ، إلى درجة أنه غنى لفريد الأطرش ، وناظم الغزالى ، وشادية ، ونجاة الصغيرة ، بل أنه قام بتقليد مذيعة التليفزيون الحسناء أمينة الشراح ، وهى تربط بين الفقرات وتبهر المشاهدين بشبابها وجمالها !
تسعد أم عبد الله بهذه السهرة المرحة الحافلة التى عاشوا فيها مع بدر ، الذى أدخل الفرحة والضحك على قلوبهم وأسعد الجميع بموهبته ومهارته ، فأكدوا له مسرورين مبهورين أنه سوف يكون نجماً لامعاً فى عالم الفن فى يوم من الأيام !
تتماثل أم عبد الله سريعاً للشفاء . تستقر حالتها . يستأذن بدر للسفر عائداً إلى لندن حيث يلتقى خالد إبن خاله طالب الطيران فى أكاديمية ساندهيرست العسكرية القريبة من لندن حيث يقضى بعض أجازته هناك مع عدد من الأصدقاء المقربين منه ومن بدر ، الذين يتجمعون عادة فى الصيف فى عاصمة الضباب .
تمضى الأيام سعيدة يوماً بعد يوم ، وإعجاب سعاد بجاسم كطبيب يبدو واضحاً جلياً فى عينيها الواسعتين الآسرتين اللتين تكنان له الحب والتقدير والإعجاب . لكنه هذه المرة إعجاباً من نوع آخر . إعجاباً بمهارته كطبيب يعمل فى مستشفى ضخم بهذا الحجم الكبير !
رأت سعاد ذلك بعينيها أثناء وجودها فى المستشفى قبل العملية وبعدها . ورغم ضيق الوقت ، وندرته ، لا يهمل جاسم فى رعاية خالته ، تعرف سعاد ذلك ، تعرف أنه يبدأ عمله فى المستشفى منذ الرابعة صباحاً بجولة يلف فيها على المرضى لمراجعة الحالات كلها ، وكتابة التقارير عنها ، ثم يحضر الحالات التى تم الكشف عليها ويقوم بعد مراجعتها بإعداد تقرير لكل حالة يقدمه للنائب المسئول فى المستشفى .
.. يطير الوقت فرحاً يوماً بعد يوم وجاسم ينجذب نحو سعاد بدافع من هذا النوع من الإعجاب العميق الذى تكنّه له ، والذى يختلف عن ذلك النوع المألوف من الإعجاب لدى البنات المراهقات ! ذلك الإعجاب الذى ضاق به جاسم ومّل به ، وهو يراه فى عيون البنات الطائشات اللاتى يبدين ويكشفن عن صنوف الإغراء وإظهار الإعجاب بلا حساب ..!
وبصورة مباغتة .. سقطت المسافة بين جاسم وسعاد ، أحس أنه يحتاجها بعد أن شبع من تلك المشاعر الهوجاء المراهقة ، بعد أن شبع وشبع من هوس البنات اللاتى يطاردنه عقب إحراز الفوز فى كل مباراة ! إنهن يلاحقنه ، يطاردنه ، لكنهن لا يعرفن أبداً أنهن لا يتركن أدنى أثر لديه ! حتى دلال ما تزال تنظر إليه بصفته لاعب كرة مشهور ، ناجح ، وسيم ، لكن أحداً لم ينظر إليه من قبل نظرة تقدير عن معرفة ، ونظرة إحترام عن معرفة .. إنما بعد عملية خالته وبعد إقترابه من سعاد ، أدرك جاسم أنها لا تنظر إليه كشاب رياضى وسيم مشهور ، إنما تنظر إليه كطبيب ناجح قدير مسئول !
رأت سعاد المستشفى الفخم بنفسها . رأت تعامله مع الأساتذة الأطباء المختصين بعينيها . عرفت كيف ينظرون إليه كطالب عبقرى متفوق ، ورأت كيف يعاملونه كطبيب زميل له نفس المكانة ، ونفس المنزلة .. رأت سعاد ذاك وأحست بذلك .. فعكست مشاعرها كل ذلك !
يستمتع جاسم بهذا النوع الجديد من الإعجاب ، الإعجاب به كطبيب ، وليس كلاعب كرة ، يستمرئ ذلك الإحساس . يستمتع به . وهو يرى للمرة الأولى فتاة معجبة بالطب .. وبالطبيب !
كان هذا الموقف وحده دافعاً كافياً لتحقيق المزيد من التفوق والنجاح والإبهار ، ومع العشرة الطيبة والمعاملة الودودة الوادعة ، يكتشف جاسم عن قرب أن هدوء سعاد ليس غروراً أو تكبراً ، إنما هى تمارس ذاتها ، كما إكتشفت أيضاً أن سعاد لم تعد تلك الطفلة الصغيرة الوديعة التى لا تحب فى الدنيا إلا اللعب مع ليلى والإئتناس بها !
يكتشف جاسم أيضاً أنه لم يتعرف على أى فتاة عن قرب ، ورغم هذا البريق ،
وتلك الشهرة وذلك النجاح ! رغم أنه شاب لديه القدرة على التأثير على أى فتاة ، لكن .. صراحة ، لم تواته هذه الفرصة أبداً ، لإنشغاله الدائم منذ الصغر بالرياضة والتدريب على كرة القدم !
حقاً .. سرقت الكرة منه فترة صباه ، وطيش مراهقته ، وإنصرافه وهو شاب إلى دراسة الطب ومحاولته الشاقة للتنسيق بينه وبين الرياضة سرق البقية الباقية من وقته وأحلامه ! حقيقة .. لم تتح الفرصة لجاسم مطلقاً كى يتعلق بأى فتاة ، ولا أن يتعرف عن قرب على أى فتاة ! لذا ، نجحت دلال فى فرض نفسها عليه ، لكنها لم تنجح فى خلق نوع من التفاهم أو الحوار بينهما ، كانت تنظر إليه مبهورة ، مبهوتة ، مذهولة ، بكل ما يحيط به من بريق ونور وأضواء !!
كانت دلال تصدق كل كلمة يقولها ، وكل حرف ينطقه ، كانت دوماً لا تقول إلا تأييداً مطلقاً ، وتصديقاً تاماً على كلامه ، حتى لو جاء فى يوم وقال لها إن لندن عاصمة أمريكا لن تكذبه ولن تقول له أنت قلت خطأ .. ! لا .. بل ستصدق ، ستعتقد أن هذا هو الصح ، وستكون معجبة جداً بهذا الاكتشاف الجديد الذى وصل إليه جاسم ! فهى لن تنظر إليه على أنه أخطأ ، بل ستنظر له على أنها وجهة نظر جديدة فى علم الجغرافيا السياسية !!
كان جاسم يعرف دلال جيداً . يعرف كيف تفكر . كيف تتكلم . كيف تتصرف . يعرفها من الداخل والخارج . يعرف أسلوبها وطريقة رد فعلها فى أخذ الأمور . كما يعرف أنها لم تتح له الفرصة لمناقشتها ، لأنها لم تكف ، ولم تتوقف ، ولم تنقطع عن الكلام عن أحلامها . وعن أمانيها . وعن نفسها !!
لكن .. مع سعاد ، الوضع يختلف . يختلف . فكل شئ فيها مختلف . هى قارئة كبيرة . أسلوبها هادئ رشيق . مثقف . عقلها كبير . ثقافتها واسعة . شخصيتها فيها عمق . سعاد عندها شئ لم يجده جاسم فى دلال . عندها الإستماع . عندها الإصغاء . عندها الوعى . عندها العمق . عندها الإدراك .
كانت دلال تمطره بالحب . لكن مع سعاد أحس أنه يغرق فى الحب .. ! هناك عمق . دفء . إحتواء . أما الآخر .. فهو زخات مطر قوية ، لكن هذه الزخات العنيفة أحياناً لا توجد إلا مع المطر . أما مع سعاد كأن الإنسان فى بحر . فى محيط . لا يغرق مرة واحدة . لكنه كلما مشى أكثر . كلما أحس أن الماء يحيطه من جميع الجهات . هناك عمق دون أن يحس به يأخذه . يحيطه . يضمه . يحتويه . صحيح نحن نحس المطر . نجرى منه أحياناً . أحياناً أخرى نتوارى عنه . لكن السائر على شاطئ البحر يستمتع بملامسة الماء . يستمرئ أن تتبلل أقدامه شيئاً فشيئاً . يشعر دوماً أن البحر موجود . وفى أى وقت يحب أن ينظر إليه ، هو موجود . ودائماً يجده بالماء مليئاً .. مليئاً .. مليئاً .
حقاً .. تنجح سعاد أن تملأه بهذا الشعور الزاخر . الوافر . الثرى . تنجح أن تغرقه فى أعماقها . تحيطه . تضمه . تحتويه . دون صخب . دون إزعاج . إنما على مهّل . وهدوء . وحنان . وهناء . وإهتمام .. هذا الشعور الدائم الهائم يتسلل إليه على مستوى اللاوعى . اللاشعور . إلى أن يستقر فى أعماق الأعماق !
كان طبيعياً أن يحس بذلك جاسم . وأن يستمتع بذلك جاسم ، خاصة بعد سفر سعاد وأمه وأخته وخالته ، وبعد أن رأى البيت أصبح خالياً عليه وحده .. خالياً .. خالياً ..! الله .. كل هذا كان أمامى ولم أكن أراه ؟ كل هذا كان عندى ولم أكن أعرفه أو أقدّره ؟
بعد غياب سعاد ، يشعر جاسم أنه صار كالسمكة التى انتزعت من الماء ، إنه لا يستطيع أن ينسى وجه سعاد عندما كانت تضحك منه وهو واقف فى المطبخ لا يعرف كيف يقلب اللحم ! إنه يتذكر كيف إنتفض بعد أن لسعته حرارة الصينية فى الفرن ، وكيف فزعت سعاد وخافت ، وسكبت الماء البارد على يده كى تخفف أثر اللسعة عليه ، إنه لا يقدر أن ينسى أسلوبها الطبيعى الناعم الوادع البديع وطريقتها الدمثة الرقيقة الودودة الهادئة الدافئة إنه لا يستطيع .. لا يستطيع .. لا يستطيع أن يتجاهل تأثير وجودها .. !
آه .. يحس جاسم حنيناً دفيناً وإحتياجاً ملّحاً إلى الصحبة الحلو التى تبدد عنه وحشة الوحدة وضيق الفراق ، رغم أنه كان سعيداً لأن العملية نجحت ، وخالته إستردت صحتها وسافرت بسلامة الله .
كان جاسم يعتقد أنه سيتنفس الصعداء عندما يرجع إلى البيت ويجده فاضى ، كان يعتقد أنه سيكون حراً طليقاً ، لكنه وجد نفسه وحيداً . وحيداً . وحيداً .. خاصة بعد أن بدأت فى الجو تباشير برودة الشتاء التى تؤكد حاجته الملحة إلى الشعور بالدفء والصحبة الحانية والإحتماء .. فالليل صامت ساكن خامد الأنفاس ، والظلام رمادى فى الغرف المغلقة الصامتة التى كانت تزدهى بعبق روحى نافذ دافئ ، قادر على يهزم وحشة الليل ، وبرودة الشتاء !
وعلى ضوء خافت يصدر عن أباجورة فى لون المشمش عن يساره ، ينظر جاسم إلى الهاتف ، ثم ينظر إلى عقارب الساعة الذهبية الموضوعة على المدفأة أمامه ، وبسرعة يحسب الفارق فى التوقيت بين أمريكا والكويت ، ويظل راقداً بعض الوقت على أحرّ من الجمر ، يرقب مرور الزمن الذى لا يريد أن يمر ، فهو يزحف بطيئاً . بطيئاً . متماوتاً .
أخيراً .. يمسك جاسم سماعة الهاتف ، يرفعها نحو أذنه ، بينما تضغط أصابعه أرقاماً معينة يحفظها جيداً .. عن ظهر قلب .. !
الفصل السادس
بريـق العشـق !
أدار جاسم رقماً يحفظه عن ظهر قلب ، أدار رقم دلال ، لأنه كان يحس إحتياجاً عاطفياً طاغياً ينقصه إشباعاً ، ولم يكن يقدر أن يتصل بسعاد .. وفى نفس الوقت كان يحس الرغبة العنيفة الملحّة لملأ هذا الفراغ العاطفى الذى بات يعانيه الحين مع دلال .. لكن .. لم تدرك ذلك دلال ، لم تفهم حاجته إلى الإحساس بالحب .. فلم تشبعها له .. !
رغم ذلك ، ظل جاسم يتابع حديثه مع دلال ، إلى أن يفاجأ بالتغيير الواضح فى صوتها ، ويصدم من لجهة التهكم الساخرة المستترة بين كلماتها ! يتعجب من هذا الأسلوب الجديد الذى طرأ عليها وجعلها تكلمه هكذا ، يستنكر عليها هذه الطريقة ، يحس ضيقاً خانقاً ينتابه ! .. فى حين يبدأ يطغى على إحساسه شعور شديد بالإمتهان لذاته .. مع أنه حريص كل الحرص على أن يبقى دوماً بعيداً عن أى معاملة يحتمل أن تسئ إليه ، أو أى موقف قد يجرحه أو يسبب له شعوراً بعدم التقدير وقلة الإحترام !
لا يستطيع جاسم أن يجادل دلال طويلاً ولا أن يناقشها فى تلك الإتهامات المتتابعة التى تكيلها له ، ولا تلك الشكوك المتراكمة التى تصبّها عليه بمجرد سماع صوته :
– ها .. الحين تذكرت دلال ؟ الحين بس عرفت قيمة دلال ؟ آه .. وإلا عشان سعاد ردت الكويت .. وصار عندك وقت كافى قمت تكلم دلال .. ها ؟ وينك من زامن ؟! وينك من أول ؟! وإلا صرت أنا الإحتياطى عندك ؟ لا جاسم .. ترى هذا شئ أنا ما أقبله على نفسى .. يكفى عليك سعاد .. الله يخلى لك سعاد .
يصمت جاسم دون أن يصمت داخله الشعور بالضيق ، والنفور ، والإختناق ! يبقى يستنكر على دلال رنّة الزهو والإنتصار التى تحاول أن تهزمه بها ، يرفض أن يكون تحت سيطرتها وسخريتها ، ودون أن يشعر ينهى المكالمة محبطاً خائباً :
– على راحتك .. زين .. زين دلال .. على كيفك .. على كيفك .. فى أمان الله .
يغلق جاسم الخط بعد سماع كلمات دلال ليفتح قلبه على آخره مستقبلاً كل ذكريات سعاد ! يذكر جاسم بكل الحب .. مشاعر الحب التى تدفقت داخله عندما فتح الثلاجة ووجد أن سعاد قد وضعت له الأكل الذى يحبه فى صناديق ورقية ، كتبت على كل واحد منها إسم الأكلة التى بداخله ، أيضاً ، يذكر الفريزر وقد إمتلأ بعلب صغيرة فيها كل الأشياء التى يحتاجها ، وعليها التيكيت بخط سعاد يشرح ما فى داخلها .. !
ياه .. إلى أى مدى هى ذوق ! إلى أى مدى هى تهتم به ! إلى أى مدى هى تفكر أن ترعى شئونه حتى وهى بعيدة عنه ! هنا يكتشف جاسم شيئاً جديداً يثبت إهتمامها به ويزيد حبه لها . آه .. هذا يكفى ، يكفى لأن يقتنع إن سعاد تحبه .. تحبه .. !
بصورة تدريجية .. تندلع نيران الشوق هادئة ، وقد شردت عينا جاسم فى نفس الذكريات ، ثم ما تلبث أن تستحيل نيراناً هادرة يشعلها خيال سعاد ، والحنين إلى سعاد .. تزداد هذه النيران إشتعالاً كلما مضى يوم بعد يوم ، وشهراً بعد شهر ، من شتاء شديد البرودة والوحشة .. يتأكد بعده جاسم أنه لم يعد هو جاسم ! تغير .. كل شئ فيه تغير !
بعد رحيل سعاد غاب عنه جزء هام من كيانه النفسى . سعاد أخذت معها الكثير الكثير من ذاته .. صحيح هى تركت أثراً كبيراً فى نفسه ، فى بيته ، فى حياته ، لكنها فى النهاية إستطاعت أن تسلبه أى شئ تركته عنده .. بغيابها .. وبعادها .. !
– يا الله يا سعاد كيف ما عرفتك على حقيقتك كل هالعمر ؟! كيف لم أشعر بك كل هالسنوات ؟! آه .. التقصير عندى أنا ، فلو كنت فتّحت عيونى عليها وعرفت كيف أنظر إليها ما كنت تحمدّت عند فكرة كونها طفلة صغيرة صديقة أختى الصغيرة .. صدق .. العيب فينى أنا !
و .. مع برودة الشتاء ، وزخات الأمطار ، وكثافة الثلوج ، وضبابية الأجواء ، وصقيع الهواء ، لم بعد جاسم يحتمل شيئاً آخر ، لم يعد يطيق مزيداً من الوحدة والبرودة والحرمان ، يحاول أن يحتمى من هذا الجو الموحش الكئيب بذكرى سعاد التى تستطيع أن تهزم البرودة . رغم بعادها . بدفء يتأجج بإحتراق داخلى ، ما يلبث أن يجعل الشوق جذوة تتقد ، ترتفع ، تتصل بقلبه وصدره ، حيث تلتهب ، وتستعر ، حتى يكاد يحترق ببعادها عنـه !
ومع ليل الشتاء .. يسود الظلام وهو فى طريقه إلى المستشفى ، الجو صقيعى لا يفيد معه إرتداء بالطو المطر والبلوفر الأسود الصوف السميك ذى القبة العالية الذى يحيط رقبته يحميها من الهواء الساقع اللاسع ، لكن .. ما تلبث أن تطارده رغبة عنيفة فى الشعور بالدفء ، بالمزيد من الدفء ، الدائم ، المستمر ، وهنا .. تراوده فكرة تظل تتابعه كظله بالبحث عن الدفء .. وهو يعرف حتماً كيف يجده .. وأين يكون !
سعاد .. سعاد لابد أن تأتى ، لابد أن تكون بالقرب منه ، إنه يفكر الآن كيف يتعامل مع حبه لسعاد الذى بات لا يستطيع الفكاك منه . إنه يفكر فيها . إنه لا ينقطع عن التفكير فيها . هى صارت جزءاً من زمانه ، حتى وهو مشغول ، صار يحس بوجودها داخل كيانه . هذا يكفى . هذا يكفى . لابد من وجود سعاد فى حياته . يتفقد جاسم فى حرارة ولهفة آلاف الأفكار وهو يتساءل فى حيرة :
– إيش لون تيجى سعاد وهى بعدها طالبة فى الجامعة .. ؟! ما أعتقد والدها المليونير هذا راح يوافق أن يعطينى إياها الحين .. !
يعود يتساءل :
– زين .. وهل سعاد نفسها راح توافق تتزوجنى وهى تعرف عن علاقتى بدلال ؟ ودلال نفسها شنو راح تسوى ؟! أكيد راح تصير مجنونة ! عدل .. هذه أكيد راح تسوى لى قصة ثانية .. راح تسوى فضيحة كبيرة قدام الناس .. آه .. كيف أتصرف معها ؟! شنو أقول لها ؟! آه .. أنا ما أقدر أحبىّ الموضوع عنها .. وفى نفس الوقت ما أقدر أصارحها لأنى ما أعرف شنو رد فعلها .. يا الله .. دلال هذه مصيبة وحدها .. أنا ما عدت أقدر أتحمل كلامها .. وصراخها .. وخناقها .. وعصبيتها .. صوتها نفسه .. صار يضايقنى .. !
يدرك جاسم أنه قد أصبح الآن فى موقف دقيق . صعب . حرج . يفكر كيف يمكن له الخروج منه ؟!
– لكن .. أنا ما وعدت دلال بالزواج فى يوم من الأيام .. أنا ما قلت لها كلمة واحدة لا عن الحب ولا عن الزواج .. هى اللى كانت تلاحقنى وتطاردنى لما خنقتنى مرة واحدة .. صدق شنو راح تقدر تسوى ؟! ولا شئ .. ولا شئ !
آه .. لابد من العمل على إتخاذ قرار ، فالوقت يمضى ، والقلب لا يحتمل مزيداً من الانتظار ، يدير جاسم رقم بيته ، ترد عليه أمه التى كان قلبها يحدثها أنها ستسمع صوت جاسم الحين ، كانت تتوقع إتصاله بها . و .. تسمع الأم كلمات تجعل قلبها يرقص من
الفرح !
– .. الحمد لله .. كل شئ فى هذه الدنيا قسمة ونصيب .. الحمد لله .. خلاص .. ربنا هداك يا جاسم .. مبروك .. ألف مبروك يا حبيبى .
– الحمد لله .. جاسم وافق يتزوج .. جاسم يريد نخطب له بنت خالته سعاد ..
تزف أم جاسم الخبر لوالده الذى يتلقى الموضوع ببرود ، يأخذه بطريقة عادية جداً ، لا يكاد يعلق سوى بكلمة واحدة .. مبروك .! يخفى أبو جاسم مشاعره الداخلية ، فهو لا يستطيع الإعتراض طالما هذه رغبة جاسم نفسه ، فهو يحترم ولده منذ كان طفلاً صغيراً ، أنه لا يرفض له طلباً ، ولا يمانع إطلاقاً فى أن يفعل ما يريد طالما أنه مقتنع أن ما يفعل هو الصح .. وأن تصرفه سليم .
وفى الحقيقة سعاد فتاة عاقلة رزينة ما فيها عيب يشينها ، لكنه لا يرتاح تماماً لفكرة إقتران جاسم بها فهو يود لو أنه إختار دلال ، فهى قريبته من بعيد ، من ناحية أمها نوال التى كان يحبها منذ طفولته عندما كان يلعب معها فى الفريج ، وكان لما يحس بالعطش يدخل عندهم يشرب فترحب به أمها وهى تسقيه الماء وتعطيه الحلوى .. آه .. سيطرت أم دلال على أحلام صباه زمناً طويلاً . لكن .. يبقى فى القلب الحنين القديم راقداً ، باقياً ، فى الأعماق .. مدى الحياة !
تطلب أن جاسم أختها فى التليفون تخبرها برغبتها فى الحضور .. تقول لها بصوت تطغى الفرحة الساطعة عليه :
– أنا راح أجيك الحين .. ترى اكو شئ مهم راح أقول لك عليه لما أشوفك .
وفى خلال وقت قياسى قصير ، تدخل أم جاسم تقبل وتحضن أختها الكبرى وهى تبارك لها ، وتهنئها برغبة جاسم فى الزواج من سعاد ، تطلب يدها أولاً من أختها .. أم عبد الله .
و .. تأتى ليلة من ليالى العمر ، يقام حفل الزفاف فى القاعة الكبيرة الواسعة فى الفيلا الفخمة بالشامية ، التى تتحول حديقتها المزدانة بالأضواء الملونة المعلقة على الأسواء والأشجار والأقواس إلى كتلة من الأضواء البراقة ، التى تشب وتضوى فى تلك المنطقة الهادئة فى الكويت .. تتلألأ الأنوار ، يصبح الليل نهاراً ساطعاً مبهجاً ، يبعث الدفء والفرح فى كل مكان ، رغم برودة الجو فى شهر ديسمبر ، فى عزّ الشتاء !
ورغم ثلجية الهواء فى هذا الوقت من الليل ، تشعر المدعوات بالراحة والدفء داخل القاعة حيث يجلسن فى أعداد لا حصر لها فوق المقاعد التى تلاصق الجدران ، وفوق المخاد التى أضيفت ووضعت على الأرض ملاصقة لها ، لتستوعب هذا العدد الكبير من الحاضرات ، فى حين تلف وتدور ، وتلف وتدور صوانى الفضة التى تغّص بالمشروبات ، والحلوى ، والشيكولاته من أفخر الأنواع ، بينما يصدح فى الأركان غناء المطربات الشعبيات ، اللاتى يجلسن على الأرض فى وسط القاعة .
تنطلق الزغاريد . تعم الفرحة . تتألق فقرات العرس الكبير الذى يتم حسب الطريقة الكويتية القديمة ، تلك التى إختارتها سعاد بناء على رغبة جاسم الذى رفض فكرة إقامة فرح ضخم ، بسبب ضيق الوقت والرغبة فى عدم المباهاة والإستعراض .. !
تنتشى الحاضرات بسماع الأغانى إلى أن تدخل العروس تجلس وسط القاعة فى ثوبها الأخضر اللامع الطويل ، وفوق رأسها هامة مرصعة بالماس تخطف ببريقها الأبصار وتعكس الأضواء وتبهر الأنظار !
تجلس سعاد فوق مقعد فى وسط القاعة وحولها ينطلق البخور يهبّق المكان ، تنطلق زغاريد الفرحة الكبرى فى حين تقف بعض الحاضرات يمسكن المحفة الحريرية الخضراء يهفهفن بها فوق رأسها بينما البخور ينطلق حولها يفوح فى القاعة برائحة الثمين ، التى تمتزج النفاذة الأريج التى تمنح القاعة أريجاً وعبقاً بديعاً .
بعد قليل تخرج العروس إلى قاعة أخرى ، ثم تعود بثوبها الأبيض الناصع الطويل حيث تجلس فى صدر المكان المخصص لها ، وخلفها الكوشة العملاقة الحافلة بعشرات المئات من الورود والأزهار التى تمنح العروس خلفية جميلة باهرة تزيدها جمالاً على جمـــال !
يستمر الفرح ، والغناء ، والرقص ، تطلق الزغاريد ، والبخور ، وتدور صوانى الشربات والحلوى والمرطبات ، بينما تصدح الأغانى بأصوات المطربات اللاتى تشجين الحاضرات بأحلى الأغنيات ، فى حين تنهض بعض الشابات من المدعوات يرقصن تحية للعروس .
يدخل جاسم مع مجموعة من أصدقائه الشباب ، يتقدم نحو سعاد كفارس من فرسان العرب الأشداء ، على رأسه الغترة والعقال وعلى أكتافه العريضة العباءة السوداء الموشاة أطرافها بالخيوط الذهبية ، التى تنسدل فوق قامته ، فتؤكد طوله الفارع وتظهر بفخامتها ضخامته ووسامته .. ثم يجلس بجانبها يلبسها الشبكة الماسية الثمينة التى تزيد أصابعها ويديها وتفترش صدرها فتعكس أشعة الأضواء حولها ، فتزيدها تألقاً وإبهاراً يخطف الأبصار .. بينما تنطلق زغاريد المدعوات مصحوبة بفرحة الكبار والصغار .. !
تجلس سعاد تخفض بصرها خجلاً ، وحياءً ، وفرحاً ، وحباً ، وهى تشعر أنها تحلّق فوق السحاب ، وما يلبث أن يغادر جاسم القاعة متجهاً إلى حيث يتواجد الرجال ، فى حين يزداد الحفل تألقاً وإبهاراً ، رغم أن جاسم أراده أن يكون فرحاً بسيطاً عادياً ، إذ لم يكن يرغب فى مظاهر البذخ الزائدة عن الحد هذه .. !
.. رغم ذلك لم يتعجب هذا الموقف والد سعاد إطلاقاً ، فقد إعترض بشدة على أن يتم زواج سعاد إبنته ، وحيدته ، الحبيبة إلى قلبه ، بهذه الطريقة العادية البسيطة ! فقد كان أبو عبد الله يريد حفلاً باهراً لإبنته الوحيدة ، حفلاً باذخاً ، ملفتاً ، مسرفاً ، يظل حديث المجتمع سنوات وسنوات ! كان يريد أن يظهر حبه لسعاد بكل الوسائل والطرق الممكنة ، كان يريد أن يسعدها يوم زفافها ، وألا يبخل عليها بشئ مهما غلا ثمنه . فالإمكانيات متاحة ، والخير كثير والحمد لله .
الغريب فى الموضوع ، إن سعاد نفسها أخذت تلح على والدها ترجوه أن يجعل حفل زفافها عادياً ، دون مبالغة ، فهى لا تريد أن تلفت الأنظار حولها ، كما لا تريد أن تضايق جاسم ولا أن تخالف رغبته ، أيضاً ، الوقت لم يكن يسمح بإجراء المزيد من الترتيبات للفرح ، فجاسم مستعجل ، ولا يريد أى تعطيل لأن إجازته كلها لا تتجاوز الأسبوعين ، وعليه أن يعود لمتابعة دراسته فى أمريكا .. وسعاد معه !
يوافق أبوها على مضض ، يقبل رأيها وإن بدا غير مقتنع به ، وغير راض عنه ، فكيف يمكن أن تكون هذه هى الفرحة الكبرى ، وليلة عرس سعاد التى ينتظرها من زمان ، والتى كان يندر لها بينه وبين نفسه ، أن يجعل فرحها حديث كل الناس ؟! لكنه يكفّ عن الرفض ويقبل بالأمر الواقع ، طالما هذه رغبة سعاد التى تصرّ بشدة عليها !!
تتدخل أم سعاد فيترك تسيير الأمور لها ، طالما هذه هى رغبة الجميع ، لكن ، الشئ الوحيد الذى صمّم عليه ولم يتنازل عنه ، هو أن يحضر المطربة الكبيرة صباح لإحياء الفرح والراقصة سامية جمال لتزف ابنته العروس فى ليلة زفافها .
يوافق الجميع على ذلك ، رغم أن الفرح جاء على الطريقة الكويتية القديمة ، وأشجت المطربة عائشة المرطة الحاضرات بأغانيها الجميلة هى وفرقتها الكبيرة اللاتى كن جالسات على الأرض فى وسط القاعة الكبيرة الواسعة ، بينما كانت معظم المدعوات ترقصن على نغمات ألحانها ذات الإيقاعات الممتعة .
وكان فستان سعاد يوم عرسها ليس فستاناً عادياً ، كان ثميناً غالياً ، وكانت الهامة المرصعة التى أعدتها أمها ليوم عرسها منذ وقت طويل ، شيئاً فريداً متميزاً لم يرّ الناس مثله من قبل ! كذلك كان البوفيه الفخم الضخم حافلاً بكمية خيالية من الأطعمة والحلوى النادرة الباهظة الثمن ! يقولون .. الحلوى والشيكولاته جاءت بطائرة خاصة من سويسرا ، أما الطباخين فقد أحضروهم من أشهر الفنادق فى الخارج !
كل شئ كان مبهجاً مفرحاً ، وكان جاسم سعيداً فخوراً بعروسه التى كانت فرحتها به لا تقل عن فرحته بها .. غمرت السعادة والفرحة الجميع ، الكل كان منتشياً مبتهجاً ، ماعدا دلالا لتى أصيبت بصدمة عصبية عنيفة ، أفقدتها القدرة على الإتزان أياماً وأياماً ! فقد كان آخر شئ تتوقعه فى الدنيا أن يتركها جاسم .. ويتزوج سعاد ! هكذا بسرعة بلا أى مقدمـات !
جاء الخير بالنسبة لدلال مفاجأة مذهلة ، كان الموقف كله عبارة عن صدمة عنيفة فظيعة غير متوقعة ! وإن كانت هناك كثير من المقدمات التى سبقته ومهّدت له ، إلا أن دلال تعامت عنها .. أنكرتها . رفضت تصديقها . رفضت أن تعترف بها . تجاهلتها . فبقيت كما هى معتقدة أنها طالما ترغب فى زواج جاسم .. إذن .. جاسم يرغب فى زواجها !
لم تشك دلال لحظة واحدة أن هناك متغيرات كثيرة قد طرأت على جاسم بعد سفر سعاد إلى أمريكا ! لم تفهم دلال أن جاسم نفسه قد تغير . وأن إحساسه بها قد تغير . رفضت أن تصدق . رفضت أن تعترف . رفضت أن تقتنع . فكان ما كان من مشاكل بينهما . وخناقات وعصبية وتوتر ونفور ، أدت إلى خصام طال .. وطال ! فكان .. ما كان .. !
يأتى والد سعاد يقدم لها هدية صغيرة متواضعة بمناسبة هذا الزواج الميمون ، عبارة عن عقد ملكية بيت قديم كان قد إشتراه فى أمريكا من زمان ، عندما كان أخوها عبد الله طالباً يدرس الهندسة فى جامعة هارفارد بولاية بوسطن ، وبعد إنتهاء دراسته وعودته إلى الكويت ، تركه لمكتب عقارات يديره ويصرف عليه . والحين .. لم تعد هناك حاجة إليه ، فقدمه الوالد إلى إبنته هدية بمناسبة زواجها !
يطير العروسان الشابان بعد الفرح مباشرة إلى أمريكا ، تحفهما آيات الفرحة والسعادة التى ملأت أرجاء المكان ، والتى جعلت ليلى تقرص سعاد فى ركبتها ضاحكة مهنئة على هذا العريس الحلو الذى تتمناه كل البنات .. وأولهم دلال ! تشاركها سعاد ضحكتها وهى تقول فى سعادة :
– عقبالك يا ليلى .. عقبالك .
تهبط الطائرة فى مطار نيويورك .. لا تشعر سعاد خوفاً أو رهبة هذه المرة ، فها هو جاسم حبيبها ، زوجها ، يقف إلى جوارها بقامته الضخمة الفارعة ، عظيماً شامخاً أمامها وهو ينهى إجراءات الدخول ، ثم يأتى يسألها عن عدد الحقائب التى أحضروها ، يقف يراجع البطاقات الملصقة بالتذكرة ، يتأكد من تطابق العدد ، قبل أن يخرجا من المطــار .
يدخل العروسان فندق ” أوستريا ” الفخم فى نيويورك ، حيث يريد جاسم أن يقضى أيام العمل الأولى قبل السفر إلى ” سيراكيوز ” والعودة إلى العمل فى مستشفى ” سيراكيوز ” الفخم هناك .. ينهى جاسم الإجراءات فى لحظات ، فهو قد حجز جناحاً فخماً منذ كان فى الكويت .
لحظات .. وتنقل الحقائب إلى الجناح الكبير الذى اختاره جاسم بعناية ، بينما كانت سعاد تجول بعينيها فى بهو الفندق الفخم عظيم الإتساع ، تطالع مظاهر الفخامة ، والأبهة ، وضخامة الثريات الثمينة وروعة الستائر المسدلة على النوافذ العالية .
تقف سعاد تتأمل فى إعجاب جمال السلم الرخامى الدائرى والدرجات المغطى بالسجد الأحمر والذى تتناثر حوله أجمل الصالونات الفاخرة ، التى تتوزع بأناقة فى بهو الإستقبال الواسع الكبير ، كما تنظر بعين الإعجاب إلى اللوحات الفنية الكبيرة المعلقة على الجدران العالية ذات الديكور المبهر الذى تبرزه باقات الورود العملاقة التى تملأ المكان فتضخ العبق والعطر والجمال .
يرتفع المصعد بهما إلى الطابع السابق والخمسين ، يقفان على مقربة من بعضهما البعض وإحساس سعاد يحلق بها إلى السماء السابعة ، فى حين تخفض بصرها إلى قاع الأرض خجلاً . نعم .. تقف خجلى منبهرة ، لاهثة الأنفاس ، لا تعرف ماذا تفعل ، أو تقول ، ولا حتى أين تنظر ، تحاول أن تبعد تفكيرها عن جاسم .. حبيبها ، جاسم .. زوجها ، جاسم .. آه .. إنها تخشى أن يحس بها كعادته ، فتقف متشاغلة عنه .. وعن نفسها .. !
.. ثوان ويصلان إلى الدور السابع والخمسين حيث يوجد الجناح المحجوز لهما فى أقصى الممر ، يدخلان فتضاء الأنوار من تلقاء نفسها ، بمجرد أن يفتح جاسم الباب ينهمر الضوء الباهر إلى عيونها ، فتبتهج سعاد لرؤية الورود التى إفترشت أغلب الطاولات ، وعليها بطاقات التهنئة من إدارة الفندق ، وعدداً كبيراً من الأصدقاء الذين كانوا على علم بموعد وصول العروسين .. ! مبروك .
تدخل سعاد إلى الجناح وإرتعاشة حب تحوم فى جوارحها ، ورجفة شوق تخفق فى جوانحها . تدلف وكأنها تسبح فى كون آخر بعيد .. بعيد .. بعيد ! تجلس على المقعد تدارى ارتباكها ، لا تقوى طويلاً على الوقوف ، لكنها تحس حنيناً جارفاً يجذبها نحو جاسم ، يشدها إليه .. حنيناً يمتزج بخجل ساحق يبقيها مكانها حائرة لا تعرف ماذا تفعل فى هذه اللحظة الحساسة الحرجة .. يحس بها جاسم – كعادته – فيقترب منها ، يدنو نحوها ، يحدق بها ، يدعوها أن تأتى وتشاهد روعة نيويورك من أعلى ..!
تقف سعاد تطل من وراء النافذة الزجاجية العريضة .. تستغرق فى مشاعرها ، وهى تطالع المنظر العلوى لمدينة نيويورك ، وقد تهاوت مقاومتها متأثرة برهبة الموقف ، إذ ما زال جاسم واقفاً إلى جوارها ، بالقرب منها ، لا يفصله شئ عنها ، فى حين تحاول هى بكل قوتها أن تفتح عينيها الهائمتين فى عوالم سحرية ، تتخللها آلاف الحزم الضوئية الباهرة الملونة الساحرة .. !
تتشاغل سعاد بما ترى خارج النافذة العريضة العالية ، فى حين يدنو منها جاسم لا يشغله شئ آخر عنها ، يقف يطالعها وهو يعاتب نفسه أشد العتاب ، ويسأل روحه نفس السؤال والسؤال ، تلو السؤال :
– إيش لون ما كنت شايف كل هذا الجمال ؟! إيش لون كنت مشغولاً عن سعاد كل هذا الوقت ؟
يقف جاسم يرقب سعاد فى حب وإعجاب منقطع النظير ، وهو لا يكف عن ترديد هذا السؤال ، ومعاتبة نفسه على ذاك التقصير والتجاهل والإهمال !! يسأل سعاد بصوت حاول أن يجعله طبيعياً هادئاً :
– تريدين تشربين شئ يا سعاد !!
تكتفى سعاد بهز رأسها ، فهى لا تقوى على النطق ، ولا الكلام ! كما لا تقوى على النظر على عينىّ جاسم ! .. تلك العينين السحيقتين اللتين تحبهما وتعشقهما ، والتى لمحت فيهما لمعة خاطفة بهرتها .. وأخجلتها ! فأدارت بصرها ، وأخذت تتابع النظر إلى نيويورك مرة أخرى .. دون أن ترى أو تشعر أو تحس بشئ غير جاسم حولها ..! فى حين بدأ جاسم يدنو منها أكثر وأكثر ، وقد إستثاره إنفعال ممتزج بالشوق ، والإعجاب ، والحيرة ، ورغبة عارمة عنيفة فى إزالة هذا الخجل والحرج عن سعاد التى كانت تزداد إنفعالاً وتورداً .. بين لحظة وأخرى !
تقف سعاد مكانها لا يتحرك شيئاً فى كيانها ، سوى حدقتّى عيونها اللتان ترسلهما إلى الخارج ، هرباً من نظرات جاسم التى تتجه نحوها كومضات كهربائية ، غير مرئية ، تصعق جلدها ، ترجف قلبها ، فيندفع الدم حاراً لاهباً متدفقاً فى أنحاء جسدها .. وخدر خفيف يسرى فى أنحاء جسمها .. يهز كيانها . يشعل إحساسها !
آه .. اللحظة حالمة تماماً . براقة الألوان . خافتة الأضواء . عنيفة الأجواء . فجأة .. تشب النيران .. تندلع الأشواق قوية مؤثرة تبعث قوى خفية تشد سعاد .. تدفع جاسم نحوها .. الذى أخذ يقترب منها ، يحيطها بذراعه الذى إلتف بعنف حول خصرها .. وهو يشدها إليه باحثاً عن شفتيها ليبثهما رسالة عاجلة ، لاهبة ، ذات لغة بليغة لا تغيب .. بينما يتلقى وجدانها هذا النداء الخفى الذى ينبع من قلب يملؤه الشوق .. والحب .. والحنين .
الفصل السابع
حريـق الذكريات
تفتح سعاد عينيها على الضوء الخافت البسيط المتسلل إليها من نافذة غرفة نومها ، تتقلب بعض الوقت فى فراشها ، تسرح بعيداً بخيالها ، تتذكر عندما كانت تنام فى نفس الغرفة عندما جاءت أمريكا لأول مرة ، وكيف كانت تنام حزينة مهمومة متضايقة فى حضن أمها ، تدعو الله أن يهّون عليها عذاب حبها !
تتمدد سعاد ببطء ودلع فى فراشها وهى لا تعرف ماذا تفعل بكل هذا الوقت الطويل هنا ، آه .. يا الله .. الشعور مختلف هذه المرة ! الوضع مختلف هذه المرة ، هى الآن زوجة جاسم ! هى الآن فى بيتها ، فى ” سيراكيوز ” ، هى ليست ضيفة كما كانت فى المرة السابقة ! آه .. هى تحس أنها ملكة أسرة تدير وتحكم مملكتها بنفسها ، لكن .. تحت سلطة ، وسلطان ، وسطوة مليكها المتّوج على عرش قلبها .. جاسم .. زوجها .. حبيب قلبها .. رفيق عمرها .
آه .. الحمد لله .. تتنهد سعاد تنهيدة إرتياح عميقة عميقة وهى تشعر كما لو كانت قد تسلقت جبلاً وعراً عالياً ، بصعوبة وصلت إلى قمته .. حيث تحس الآن الفرح والأمان ، ونشوة الفوز ، وبهجة النجاح .. تسترخى فى فراشها ، تستلقى سعيدة بنفسها ، وبحبها ، ذلك الذى يزيد وينمو ويتشعب فى ربوع قلبها !
تنهض تحتسى الشاى فى غرفة المعيشة ، تقترب من الشرفة ، تطل على دنيا جديدة ، بنظرة جديدة ، بفرحة جديدة ، تفتح الزجاج ، تريد أن تستشعر برودة الهواء فى هذا الوقت من السنة ، تريد أن تحس نشوة ثلوجه البيضاء ، وصمته وسكونه ، وبطء حركته ، إذ يمنحها إحساساً مختلفاً هذه المرة .. إنه شعور مشوق ممتع ، شعور لذيذ أن تعيش وحدها فى بيتها ، فى النصف الآخر من العالم مع زوجها ، شريك حياتها ، جاسم ، حبيبها .. حبيبها !
ترتاح سعاد إلى إحساسها بوجودها مع جاسم إرتياحاً عظيماً ، تمضى الأيام هادئة ، هانئة ، وادعة ، تنعم فيها بحلاوة الحياة معه وهو يحاول أن يشغلها بعمل كثير من الأشياء حتى لا تحس الضيق أو الملل ، بسبب إنشغاله طول النهار والليل فى المستشفى !
و .. تسير الحياة هكذا فترة من الوقت ، إلى أن تستقر الأمور تماماً ، ويتم تنظيم كل شئ ، ينهى جاسم إجراءات إلتحاق سعاد ” بجامعة سيراكيوز ” لإكمال دراستها تنفيذاً لوعده لوالدها ، الذى صمّم أن تكمل إبنته تعليمها وتحصل على شهادتها ، كشرط لموافقته على زواجها فى هذا الوقت .
ينهى جاسم تقديم أوراق سعاد للجامعة ، وفى اليوم التالى يتصل بها من المستشفى يخبرها أن تستعد للخروج فى خلال ساعة ، لأنه سيمّر عليها أثناء فترة الغداء كى يأخذها إلى البنك لتوقّع بعض الأوراق بنفسها ، وطلب منها أن لا تنسى أن تأخذ معها جواز سفرها .
تذهب سعاد مع جاسم إلى البنك .. تقف إلى جواره تنظر إليه معجبة ، مبهورة بشخصيته وطريقته وهو يتحدث مع موظف البنك بطلاقه ، طالباً منه إستمارة يقف يعبئها بسرعة ومهارة ، ثم يدفعها على الحاجز الرخامى حتى تصل أمام سعاد ، فيطلب منها أن توقع فى مكان يحدده بأصبعه لها ! تكتب سعاد إسمها دون أن تفكر فى قراءة التفاصيل الدقيقة المطبوعة فوق توقيعها ، لكنها تفهم من جاسم أنها بذلك التوقيع يكون لها حق السحب من البنك فى أى وقت تشاء ، وأى مبلغ تحتاج !
يخرجان من البنك ، تسير سعاد إلى جوار جاسم وهى ما تزال مبهورة ، فخورة بشخصيته الجذابة الآسرة ، القادرة ، التى تجعلها تشعر أنها تسير إلى جوار مارد عملاق ، يحتويها ، يحضنها ، يحميها .. يحبها !
فى خلال أيام ، تصلها بطاقة البنك الآلى بالبريد ، فتفرح بها ، ولا تنسى أن تقدمها إلى جاسم عندما يأتى متأخراً عند منتصف الليل لتشكره عليها ، فقد كان شعورها بثقة جاسم بها شعوراً كبيراً ، فهو قد مكنّها أن تسحب من رصيده ما تريد ، دون أن ترجع إليه أو تراجعه ! كان تأثر سعاد بموقف جاسم هذا تأثراً عميقاً ، فقد أكد لها أنه يحبها ويثق بها ويحترمها ، وكانت هى تعرف أن ثقة جاسم بها فى موضعها ، وفى محلها .
فى خلال أيام تلتقى سعاد فى الجامعة بكثير من الطلبة والطالبات العرب المقيمين فى نيويورك ، تتسع دائرة معارفها ، تتوطد صداقتها بعدد كبير منهم ، تتفق معهم على تنسيق الوقت للذهاب إلى السوق والنادى الرياضى والسينما ، فهى تحس هنا بالعالم الجديد الذى تريد أن تكتشفه ، تحس فعلاً بالإنطلاق ..
كانت فرحة سعاد فى التقاء هؤلاء الدارسين العرب كبيرة ، لأنها كانت تتوق أن تتكلم مع أحد خارج حدود بيتها ، لأن لغتها الإنجليزية كانت تختلف ، وكانت تسبب لها مشكلة عندما تريد أن تتكلم مع الطالبات الأمريكيات ، فالمواضيع مختلفة ، والمزاج مختلف ، والثقافة ، والإهتمامات مختلفة . أيضاً . اللهجة الأمريكية ، والسرعة التى يتكلموا بها كانت مختلفة عليها ، كل ذلك كان يشكل حاجزاً نفسياً يحول بينها وبين الإمتزاج بهم ، أما لآن .. فمع زميلاتها وزملائها العرب ، الأمر أهون بكثير ، والحياة أسهل وأمتع وألطف .. الحمد لله .
ثم .. بدأت تظهر الحاجة للغة المكتوبة لإعداد الأبحاث المطلوبة منها ، صحيح كانت لغتها الإنجليزية معقولة ، مكنتّها من الإلتحاق بالجامعة ، وبالفعل دراستها للإنجليزية فى الكويت نفعها ، لكنها فى حاجة إلى تطوير وتعلم أكثر من ذلك ، وهذا ما فعلته سعاد بكل تمكن وإقتدار !
تنعم سعاد بحياتها فى أمريكا . تحس الحرية والرغبة فى تحمل المسئولية بتحدى وتصميم ونجاح . نعم .. هى تريد أن تثبت لأبيها أنها عند حسن ظنه بها ، وأنها ستنجح بإذن الله ، هكذا وعدته لتطمئنه قبل سفرها ، كما أنها تريد أن تثبت لجاسم أيضاً أنها ليست تلك الفتاة الصغيرة التى كان يظنها ، لا .. إنما هى الآن إمرأة ناجحة مسئولة ناضجة ، جديرة بأن تحمل اسمه وأن تنتمى إليه ، كما أنها قديرة أن تقوم بواجباتها كزوجة طبيب ، نحو زوجها ، وبيتها ، ونفسها .
فى الحقيقة ، سعاد تحب جاسم ، وتحب أن تكون عند حسن ظنه بها ، وتحب أن تثبت له بالفعل ، لا بالقول ، أنها حقاً تستحق أن تكون زوجة جاسم الناصر ..! فتبدأ على الفور فى تنظيم وقتها . تخطط كل شئ حولها . توزع بذكاء اهتماماتها ، فلا تبالغ فى الاهتمام بشئ على حساب شئ آخر ، الأهم أولاً ، فالمهم ، ثم الأقل أهمية !
آه .. هذه هى الإمتحانات على الأبواب ، والمذاكرة تحتاج وقتاً طويلاً ، تفكر سعاد بطريقة مرتبة فى إيجاد حلاً لذلك ، تطلب من جاسم أن يحددا معاً ساعات معينة للدرس ، هو مع كتبه ، وهى مع كتبها ، وأن يؤجلا بعض الوقت زيارة الأصدقاء فى عطلة نهاية الأسبوع لحين الإنتهاء من الإمتحانات .
كانت سعاد فى حاجة ماسة لمزيد من الوقت ، لتحقيق مزيد من التفوق ومزيد من النجاح ! يرحب جاسم برأيها ، يوافقها على كلامها ، مقتنعاً بوجهة نظرها ، فيقول لها :
– أنا مشغول وايد فى الجزء النظرى من الزمالة يا سعاد .. أريد أخلص منه عشان أتفرغ للجزء العملى فى المستشفى .. مشكورة سعاد على هذه الفكرة .. وهذه التضحية .
.. تمسى الساعات نسمات حانية الهمسات ، تمر الأيام ، تدور هادئة واعدة ، تحتاج مزيداً من النجاح والأشواق ، وذات يوم من تلك الأيام الحالمة الهمسات ، يتصل موظف المكتب العقارى المسئول عن إدارة البيت الذى أهداه لها والدها فى ولاية بوسطن ، طالباً رقم حسابها بالبنك كى يتم تحويل مبلغ الإيجار إليها ، بصفتها المالكة الجديدة لهذا العقار !
تخبر جاسم بذلك ، يهزّ رأسه مصغياً دون أن يلقى بالاً ، أو يبدى تعليقاً ، فهو لا يريد أن يقحم نفسه فى مثل هذه الأمور المالية العائلية ، التى تأتى خارج نطاق إهتمامه ، والتى لا يريد أن يكون لها تأثير ما فى حياته !
فى الحقيقة .. جاسم إنسان عاطفى ، شديد الإعتزاز بنفسه ، لذا هو مفرط الحساسية تجاه ثراء سعاد ، أنه لا يريد أن يتدخل فى مثل هذه الأمور ذات الرواسب القديمة عنده ، بسبب تفاوت مستوى الثراء بين الأسرتين ، صحيح هى مواقف قديمة ماضية ، إلا أن رواسبها ما زالت فى النفس كامنة .. راقدة .. باقية !
فى الواقع ، جاسم كان متضايقاً فى قرارة نفسه من هذه الهدية الضخمة ، فهو لا يريد لوالدها أن يعتقد أن زواجه من سعاد بنت خالته ، يعنى إستمرار ولايته عليها ! .. هى الحين أصبحت زوجته ، وهو الرجل الوحيد ، المفروض أن يكون الأوحد ، فى
حياتها ، ليس عنده شك فى ذلك ، لأنه يعرف سعاد ، كما يعرف مدى حبها ، وإعجابها وعشقها !
تنهمك سعاد فى ممارسة حياتها الجديدة بكل الحب ، والرغبة الأكيدة فى تحقيق النجاح ، تقضى أوقاتاً ممتعة بين الكتب داخل المكتبة الكبيرة العملاقة ، التى تطّل نوافذها العريضة العالية على حديقة واسعة تغطى أشجارها الثلوج البيضاء .. كل شئ الآن حول سعاد أبيض . أبيض . الطرق الطويلة الممتدة يتراكم الجليد على جوانبها ، فتقود سيارتها مستمتعة بكل ما هو جديد هنا .. !
وفى البيت ، فى أوقات فراغها ، تتابع سعاد محطات التليفزيون التى تعمل ليل نهار ، تبدأ الخطابات تأتى بإسمها تحتوى البضائع الصغيرة التى طلبتها من بعض الشركات ، فضلاً عن عشرات الإعلانات والخطابات التى تصلها ، وهى تتعجب لذلك ! كيف تصلها هذه الرسائل ؟ تتسائل فى حيرة وإستغراب :
– إيش لون عرفوا إسمى يا جاسم ؟! وايش لون عرفوا عنوانى ؟!
فيقول لها جاسم :
– عن طريق المجلات اللى إحنا مشتركين فيها .
هى تجربة جديدة بالنسبة لسعاد ، هى ناجحة فى كل المجالات ، وهى طالبة طموح مجّدة ، مجتهدة ، وهى صديقة حميمة لعدد كبير من الطالبات ، وزوجات الطلبة ، والأطباء المقيمين هنا ، كما أنها قبل ذلك كله زوجة محبة ، ودودة ، عاشقة لزوجها ، حبيبها ، الذى تتمدد بالقرب منه كقطة وديعة ، تنعم بالدفء لرقدتها بالقرب من مصدر حرارى ساخن ، حار أبداً ، لا يبرد ، لا يبرد !
الأيام تمر ، والأحلام حانية ، وسعاد تعيش وداخلها حلم كبير يتحقق لحظة بعد أخرى ، يقف الزمان بجانبها يؤيدها ففى كل يوم تنجز شيئاً جديداً ، مفيداً ، فلغتها الإنجليزية أصبحت متقنة تماماً ، صارت سعاد الحين تتكلم بلكنة أمريكية ، يصعب على محدثها أن يميزها عن غيرها ، كما أنها تحس الآن بحب جاسم لها ، وإعجابه بها ، يزداد ، ويزداد ، تحس ذلك رغم أنه لم يبح لها بذلك ، فهو لم ينطق يوماً كلمة .. أحبــك !!
تموج الليالى حافلة الأوقات بالحب ، بالوّد بالملذات ، تنساب الأوقات ضنينة اللحظات التى تتيحها ظروف الدراسة والعمل لتمنح جاسم الفرصة الكافية للحوار بينه وبين سعاد ، فهو مشغول بالجهود الكثيرة التى عليه أن يقوم بها ، تحس ذلك سعاد ، لكن ، رغم مشاغله العديدة ، ووقته الطويل الذى يقضيه بعيداً عنها فى المتشفى ، إلا أن شعورها الداخلى بالحب يحيطها ، ويربط دائماً بينه وبينها ، ويزيد من تعلقها به ، فهو إنسان قوى ، جرئ ، شجاع ، إنسان قادر على اتخاذ القرار ، إحساسه كبير بشخصه وذاته ، وهو يعرف جيداً كيف يدير حياته !
نعم .. رغم مشاغله الكثيرة العديدة ، لم تتذمر أبداً سعاد من طبيعة عمل جاسم كطبيب ، كانت تعرفها من قبل . منذ جاءت مع أمها وخالتها وأبنة خالتها . كانت تشعر به يتمزق بين عمله ، وبين رغبته فى أن يصحبهم إلى النزهة التسوق ، وقضاء بعض الأوقات بالخارج ، لكنه غالباً لم يكن يستطيع أن يفعل ذلك . لم يكن يقدر أن يصحبهم إلا فى عطلة نهاية الأسبوع .
أحياناً كانت سعاد تتمنى أن تأتلى ليلى لزيارتهم ، وقضاء بعض الأوقات معهم . كانت تكملها فى ذلك كثيراً وتطلب منها الحضور كثيراً . فالصداقة بينهما صداقة عمر . والحب بينهما لا يؤثر فيه البعاد والقرب .. آه .. الله يديم الحب .
كانت ليلى تسلى سعاد بمكالماتها الطويلة ، وحكاياتها الكثيرة المثيرة عن الأهل والأقارب والصديقات ، وخاصة عن .. دلال ، دلال ، التى حاولت أن تستأثر بجاسم لنفسها ، مع علمها إن جاسم منذ البداية حبيبها هى ، هذه حقيقة أكيدة واقعة لا تحتاج نقاشاً . كل ما فى الأمر أن دلال قد تجاوزت حدودها فى إقترابها منه ، وإقتناصها له . فمعروف منذ الصغر أن سعاد عروس جاسم ، وإن ما حدث مع دلال ، كان مجرد طيش شباب لا أكثر !
لذا .. كان إرتياح سعاد محدوداً عندما عرفت من ليلى إن دلال تزوجت طياراً حربياً شاباً ، وسيماً ، من عائلة طيبة ، تقدم لها بعد زواجهما بحوالى شهرين ، فوافقت عليه دون تردد ، وتم الزواج فى شهر مارس ، أى بعد زواج جاسم وسعاد بثلاثة شهور فقط !
تستطر ليلى فى دهشة وتعجب وهى ما تزال تحدث سعاد من الكويت :
– هذه وين تلاقيهم بهالسرعة ؟! كأنها تخبيهم فى جيوبها ..! هى ما تقدر تقعد من غير ماتعرف أحد .. على طول عندها الإحتياطى قاعد على الخط فى ملعبها !!
تضحك سعاد من تعبير ليلى الرياضى ، تطلب منها توصيل السلام لخالتها ، وزوج خالتها ، كما تطلب منها أن تهنئ دلال وتبارك لها بالزواج .. وعندما يعود جاسم بعد منتصف الليل من المستشفى ، تحكى له سعاد آخر أخبار الديرة ، تخبره عن زواج دلال من هذا الطيار الحربى ، لكن .. يندهش جاسم ! يستغرب !! يتعجب !! تفلت منه عبارة لم يرد لها أن تخرج من فمه :
– معقول دلال تتزوج بهالسرعة ..؟!
يصمت جاسم بعض الوقت ، ثم يعود يسأل سعاد :
– كم عمره ؟! ولد من هو ؟! من عائلة من بالكويت ؟! وين يسكن ؟! شنورتبته العسكرية ؟! و .. و .. و .. !!!
جاءت أسئلة جاسم كثيرة ، سريعة ، متلاحقة ، كان يتلهف لسماع كافة التفاصيل الخاصة بزواج دلال وكل الظروف المتعلقة بزواج دلال !! ولم يخف هذا الإهتمام الواضح البالغ على عين سعاد ، التى لم تعرف كيف تجيب هذه الأسئلة الكثيرة دفعة واحدة !! لأنها فى حقيقة الأمر لم تهتم بهذا الموضوع كثيراً ، وبالتالى لم تسأل ليلى عن هذه التفاصيل التى لم تكن تتوقع أنها قد تهم جاسم كثيراً ..!!
آه .. ويالها من تفاصيل ! تلك التى جعلته ينفعل ويتحمس ، ويصحو ، وينشط ، وتتبدد عنه علامات النعاس والتعب ، والتى جعلته يبدو فى حالة يقظة كاملة ! وهو يلقى السؤال تلو السؤال ، مستفسراً عن كل كبيرة وصغيرة ، حول موضوع زواج دلال ، محاولاً أيضاً أن يعرف كل شئ عن .. زوج دلال !!
كان جاسم يسأل وهو يتلهى فى تقليب الفحم الذى يوشك أن يشتعل فى المدفأة أمامه ، فى حين كانت سعاد تحتسى غيرتها وحيرتها وحسرتها ممزوجة بالشيكولاته الساخنة ، التى تمسك كوبها السميك فى يدها ، ذاك الذى تقلصت أصابعها عليه فجـــأة .. !!
أخيراً .. يصمت . يشرد . وهو ما يزال يقلب الفحم المتقد ، فى حين تتكون سعاد كقطعة تعانى البرد فى ليلة شتاء . ليلة شتاء طويلة مقيتة موحشة باردة ، نعم كانت ليلة طويلة أليمة جارحة موجعة ، ظلت العيون ترمق جمر المدفأة خلالها ، وهى ترقب النيران تتقد ، تتلظى ، فى حين هربت النظرات من مواجهة العين بالعين ..!
كانت الأحاسيس ساخنة لاهبة . تتنازعها الغيرة . والعشق . والحزن . والخوف . والغضب . كانت مواجهة مشاعر ضارية . صاخبة . صامتة . مشاعر عنيفة تتصارع فيما بينها ، تغالب بعضها .. فى حين يبدأ يضيع الشعور بالأمان ، يتلاشى ، كلما مضى الوقت و .. عبرت الساعات !
ترتفع درجة الحرارة داخل غرفة المعيشة ، فى حين تنخفض فى قلب سعاد ، تتأرجح ، تتذبذب وهى تشعر أن جاسم ما زال يفكر فى دلال ، ما زال غارقاً فى
بحار الذكرى التى كانت تموج ، وتهتز ، وتضطرب .. بطيف دلال !! دون مقدمات .. سقطت كثير من الحقائق بصورة مباغته ، فى نفس اللحظة ، شعر الإثنان بأن شيئاً ما كامناً ، إنكشف لهما ، شيئاً غامضاً ماضياً ، إنقطع الغموض عنه ، فتبدى أليماً .. قبيحاً .. شائهاً !
تتناسى سعاد الموقف ، تتحاشى التعليق عليه مع جاسم ، تتجنب الكلام فيه أو الإشارة إليه ، لكنها .. للأسف ، دون أن تدرى ، تختزن كل تفاصيله ، وآلامه ، وأحاسيسه فى حنايا نفسها !
تعيش سعاد حياة تحفل بالشوق . بالحب . بالغيرة . بالعذاب . حياة تحاول أن لا تحاسب فيها جاسم على أحداث ماضية ، فهى تحبه . تحبه . تذكر كيف كانت تعانى عذاب الفراق أثناء سفره وغيابه الكثير المتكرر عليها ، حين كان مشغولاً بكرة القدم .
تذكر كيف كيف كانت فخورة به وهو يلعب مع المنتخب الوطنى فى بغداد ، عندما أحرزوا أهداف الفوز الثلاثة مرة واحدة فى الشوط الثانى ، وكيف إنقلبت المبارة وتحولت هزيمة الكويت فى الشوط الأول ، إلى نصر محقق فى الشوط الثانى ، وكيف عاد جاسم وأبطال المنتخب الوطنى عودة الأبطال ، وكيف وقفت الكويت كلها تحييهم ، تهتف لهم ، تعبر عن فرحها بهم ، وهى تغنى لهم مع غريد الشاطئ :
أووه يا الأزرق .. ألعب فى الساحة يا كويت
آه .. كانت أيام ! أيام العمر كله مضت وهى تحب جاسم ! ظلت تباهى الدنيا كلها بجاسم ، فهو حبيبها ، قبل أن يكون إن خالتها . كانت سعاد تعرف نفسها جيداً ، وكانت تعرف تماماً نوعية حبها ، ذلك النوع من الحب الزاخر الوافر العميق ، الذى لا تزيده اليام إلا قوة وعمقاً وتمكناً وإقتداراً ، والذى يسبغ عاطفة دائمة سلسة ، متصلة ، متقدة ، تبقى تتأجج . تشتعل . تشتعل .. !
لذا .. كانت سعاد بمنتهى الهدوء والسكون ، تحيط جاسم بكم هائل من الحب ، الذى يشعره ، ويسعده ، ويرضيه ، ويقنعه ، دون أن تحس أن جاسم مازال محتاجاً لسماع كلمات الحب ، أو تعليقات الغرام ، أو حتى إشارات إشتعال الأشواق ، كانت سعاد تحب جاسم ، تعشق جاسم ، وكانت تعتقد طول الوقت أن جاسم يحس إحساسها ، يشعر شعورها ، وأنه ليس فى حاجة إلى سماع تعبيراتها .. أو تعليقاتها !
كان هذا الإعتقاد يقنعها ، يرضى حياءها وخجلها ، كذلك كان جاسم واثقاً ، متأكداً ، من حب سعاد وعشقها ، كما كان واثقاً متيقناً من صدقها ، وإخلاصها ، أما بالنسبة لسعاد فقد كان الوضع العاطفى عندها يختلف ، صحيح هى تحب جاسم أكثر من روحها ، لكنها أحياناً لم تكن تعرف حقيقة مكانتها عنده ولا مدى أهمية وضعها العاطفى لديه ، وكان هذا الوضع يضايقها ، لكنها ، لم تفصح أبداً عن حقيقة إحساسها ولم تصرح يوماً بما يقلقها أو يزعجها ويكدر قلبها !
كانت سعاد كثيراً ما تتساءل .. هل جاسم فعلاً يحبها ؟! أم أنه اضطر أن يتزوجها لأنها فقط بنت خالته ؟! ولأنها لم ترتبط عاطفياً بأى شاب من الشباب من قبل ؟! أو ربما لأن أمها وأمه صديقتان قبل أن تكونا شقيقتين ؟! كان قلبها الغض يضج . يضيق بالكثير من هذه الأفكار الدائرة ، المتسائلة ، الحائرة ، حول مركز سعاد من قلب جاسم ، وعن مدى أهميتها عنده ومدى تعلقه بها .. !
كان لدى سعاد للأسف كم كبير من الشك والريبة فى ذلك ، فقد كانت تظن وتعتقد أن جاسم لا يحبها ، رغم أنها كانت كثيراً ما ترى أمارات الحب فى عينيه ، إلا أنها لم تسمعه يوماً واحداً منذ تزوجا ، وحتى الآن ، يقول لها كلمة .. أحبك ! للأسف لم يبح جاسم بحبه لسعاد ، لم يصرح به أبداً ، فقط ، أكتفى بالمعاملة الطيبة المعبرّة عن الحب ، وإقتنع بالاحترام والتقدير المتبادل !
آه .. كم تتألم سعاد وهى تفكر بهذا الأسلوب ، وهى تعيد التفكير بهذه الطريقة ، فى الواقع .. كان هذا هو شعور سعاد العميق المرتكز فى نفسها ، المتراكم فى أعماق أعماق قلبها ! آه .. سعاد ما تزال تشعر بغصّة فى صدرها ، وهى ترى جاسم جالساً أمامها ، ساهماً ، شارداً ، كأنه راح بخياله هناك ، كأنه سافر الكويت يفتش ، يسأل ، يستفسر عن زوج دلال .. أين قابلته ؟! ولماذا قبله به ، وكيف رضيت ووافقت و .. تزوجت ؟! فهل أحبته ؟ هل أحبته ؟!
تتجاهل سعاد ما ترى ، تتعامى عن تلك الحقيقة العارية المجردة أمامها ، التى تشى بتعلق جاسم بدلال حتى الآن ، رغم زواجهما ، الذى مضى عليه أكثر من عام !! ياه .. بهذه السرعة مضى عام ؟! .. تغرق سعاد فى لجج الذكريات ! تذكر حين دخلت هذا البيت للمرة الأولى ، وكيف تجلس بعيدة عن جاسم ، لا تجرؤ على الاقتراب منه .. ولا تقوى حتى على مجرد النظر إليه !
تذكر كيف كانت غارقة فى بحور الشوق ، وكيف كانت تحدث جاسم عن بعد وهى لا تستطيع أن ترفع عينيها إليه ، وهو راقد ممدد على الكنبة يريح ظهره المتعب من الارهاق ، فى حين كانت هى صامتة .. تنصت . تسمع . دقات قلبها . تصغى . تحس دبيب مشاعرها التى أخذت تسرى فى أنحاء جسدها ! وهى تقلّب صفحات المجلات التى بين يديها لعل خشخشة أوراقها تخفى ضجيج قلبها ، الذى أخذت دقاته تتعالى ، ترتفع شيئاً .. فشيئاً !
آه .. تحقق الحلم .. الحمد لله . صارت هى الحين زوجة جاسم ، تتنهد فى ارتياح . تضع كوب الشيكولاتة الفارغ على الطاولة . تغيّر مقعدها . تنهص تجلس على الكنبة بجوار جاسم ، تدنو منه كقطة تنشد الدفء فى ليلة شتاء بارد ، تلتصق به وفى عينيها عذوبة ورقة وعشق وغرام ، بينما تلقى بعيداً عن خاطرها ، داخل نيران مدفأتها اسم دلال .. وسيرة دلال ، وكل الأفكار السوداء التى تذكّرها بدلال !
تلتصق سعاد بجاسم أكثر فرحة بهذا الحب الصادق النقى الذى يعتمل داخلها ، والذى يتفاعل فى أعماقها ، والذى يتزايد يوماً بعد يوم فى وجدانها ، مما يجلب مزيداً من الثقة ، والسعادة ، ومزيجاً من القدرة على مغالبة مشاعر الضعف والغيرة داخلها ، تلك التى لا تحتملها والتى تودّها أن تؤثر فى نفسها ، أو تحطم شيئاً ما فى حياتها .. فمهما كانت الظروف حولها .. جاسم هو الآن زوجها . وهو من زمان حبيبها . حبيبها وحدها .. دون غيرها !
ومع الليل والسكون والحب ، ينساب صوت عوض الدوخى ، صوت الحب ، ويضيف لليل جمالاً ، وللساعات عمقاً ، وللسهر سحراً . فتمسى الغيرة رماداً ، والغرام نيراناً ، تتوهج فى قلبىّ الشابين الزوجين ، العاشقين ، اللذين ينظران بعينى الحب ، والشوق ، إلى الفحم المشتعل فى المدفأة أمامهما ، وهما يسترخيان ، يتلذذان بالنظر إلى لهب النيران الحمراء ، التى توحى الدفء ، والشوق ، والغرام ، بينما يسمعان .. هذه العبارات الحافلة بالحب ، والغيرة ، والملام !
حبيبى حبيبى .. يا حبى ونصيبى
من قلبى وهبتك .. إخلاصى وطيبى
متى التمادى فى الظنون .. والغيرة هذه والجنون
الغيرة سبايب .. فى فراق الحبايب
أحبك وحبك .. حياتى وزادى
لا تصدق ظنونك .. وتكذب فؤادى
إذا كان يهون .. عليك الملام .. عليك الملام
الفصل الثامن
ليلة ساهمة .. !
تمضى شهور الحمل ، وسعاد تعيش التجربة السعيدة بنفس النشوة ، ونفس الإحساس بالفرح والحماس والنجاح الذى تمارس به حياتها ، فهى لا تستسلم للنعاس والرقاد ، ولا تتهاون فى دراستها لإدارة الأعمال ، كما لا تهمل القيام بدورها الأساسى والرئيسى فى الاهتمام بجاسم والاعتناء بطلباته ، لأن سعاد ليست من النوع الذى يمكن أن يضحى بزواج ناجح ، من أجل عمل ناجح .
عموماً .. الأمور تسير إلى الأفضل ، بسبب تفّهم جاسم وتقديره لسعاد ، واهتمامات سعاد ، فهو يعرف أن هذه هى وصية والدها ونصيحته لها ، فشجعها وأيدها وحثها على الدراسة والمتابعة . أما سعاد .. فقد كان هاجسها الأول والأخير ، هو حبها لجاسم ، لذا لم يطرأ على هذا الحب أى تغيير ، أو تعديل ، سوى أنه تعمّق ، وازداد ، وتضخم !
.. تعبر شهور الشتاء مثقلة بهوائه البارد وثلوجه الشاهقة البياض ، المتشبعة بشحنات الحماس للنجاح ، التى تحث سعاد على أن تأخذ نصيبها كاملاً منه ، فهى لا تتوانى عن مواصلة دربها بدأب واجتهاد ، دون أدنى إحساس بالذنب ، فهى لا تقصرّ فى رعاية وحب زوجها .
يأتى فصل الربيع ، مصحوباً بالأمل الوديع ، الذى يحيطها بالدفء ، والحنان ، والأمل ، فى أن تستنشق رحيق النجاح الذى لا حدود له ، بعد أن قدرت ببراعة ومهارة أن تصارع الضغوط التى تموج بها الحياة فى كل لحظة ، لأنها امتازت بالاختيار الدقيق للحدث ، والموقف ، كأنها مخلوقة لمثل هذا التحدى ، منذ تفتحت عيناها العميقتان على هذه الدنيا الواسعة !
تنطلق العصافير . تحلق الطيور . تنتشر أشعة الشمس تشّع الدفء والحب بين الربوع والقلوب ، وجاسم يولى عناية خاصة لحياة سعاد . وصحة سعاد . وحمل سعاد .
و.. حب . سعاد !
يحرص جاسم أغلب الوقت على التركيز الدائم على صحتها ، وتغذيتها ، وراحتها ، ونفسيتها ، وهو لا يكف عن تدليلها ، ومداعبتها ، والمزاح معها ، وتشجيعها على مواصلة دراستها ، خاصة وأنها فى سنة ثانية بكلية التجارة .. يظل جاسم يدللها وهو يقدم لها كل شئ ، لأنه لا يريد أن يحرمها من أى شئ ، فهو حريص على أن يكون هو الرجل الوحيد فى حياتها ، بعيداً عن سيطرة أموال أبيها ، أو ميراث جدها !
ومع الأيام الناعمة الهائمة ، تكبر الفرحة ، تزداد البهجة ، وبحضور ليلى مع بداية فصل الصيف يحس الجميع الراحة والسرور لوجودها المبهج ، فهى شخصية لطيفة ، ذات حيوية دافقة ، تبّث حولها إحساساً صادقاً بالحياة ، والحركة ، والشباب ، والإنطلاق ، فهى فى الحقيقة فتاة مرحة ، راضية ، سعيدة ، تفيض حباً هى الأخرى ، وذوقاً ، ولطفاً ، ورقة .
وذات صباح مشرق مشمس بهيج ، يتصل مكتب العقارات فى ” بوسطن ” عارضاً على سعاد بيع البيت الذى أهداه لها والدها ، حيث أن هناك شركة يابانية مهتمة بشرائه بعد أن اعتبر الحى السكنى القديم حياً تجارياً نشطاً تسعى إليه كبرى الشركات ! يلح فى ذلك مسئول المكتب العقارى الذى يتصل بين الحين والآخر ، فتطلب ليلى ، من سعاد وجاسم ، أن يذهبوا جميعاً إلى بوسطن ، لأنها تريد رؤية منطقة ” كوينسى ماركت ” السياحية ، تلك المنطقة المليئة بالمحلات التجارية ، ذات الطابع القديم الموحى بالفنون التى يجيئها الناس من كل أنحاء العالم .
تؤيد سعاد ليلى فى ذلك ، لأنها تود الذهاب إلى منطقة ” كمبردج ” كى ترى جامعة
” هارفارد ” التى تخرج منها أخيها عبد الله الذى درس الهندسة بها .. يوافق جاسم أخيراً على السفر إلى ” بوسطن ” طالما هذه هى رغبتهما المشتركة ! فترتب سعاد كل شئ ، تنسق مع جاسم لاختيار الوقت المناسب له . تتولى هى القيام بكل الأمور كعادتها ، فتحدد موعداً مع الرجل مسئول المكتب العقارى هناك ، وتحجز الفندق ، والطائرة ، والسيارة ، لا تهمل التفكير فى شئ مهما صغر ، ويذهبون جميعهم إلى ولاية ” بوسطن ” للقاء الرجل فى الموعد الذى تم تحديده من قبل .
وبعد مناقشة سريعة عاجلة ، يوافقون على البيع ، فالقرار شبه جاهز مسبقاً ، ولا يكتفى مدير المكتب العقارى بعمولة البيع ، بل يفكر فى عمولة الشراء أيضاً ، فيبدأ ترتيب شراء منزل لهم فى ” سيراكيوز ” ، فى ولاية نيويورك حيث يعمل جاسم ، فيرسل لهم صور البيت الواقع هناك بالقرب من المستشفى .
يقوم الرجل بالإجراءات اللازمة كلها ، فتتم بسهولة عملية البيع والشراء بدافع شديد من حماس ليلى ، التى تنبهر بجمال البيوت وفخامتها ، فتصرح بذلك فى إندفاع وإنفعال ، إلا أن جاسم يحتج ويرفض شراء مثل هذه البيوت الفخمة الضخمة ، التى لا يقدر على السكنى بها أى طبيب من زملائه ، فكيف يكون هو مختلفاً عنهم إلى هذا الحد ؟! تقتنع سعاد بوجهة نظره ، تحترم رأيه ، توافقه على الفور ، فينتقيا بيتاً صغيراً لا يعجب ليلى كل الإعجاب ، مقارنة بالبيوت الأخرى الضخمة الفخمة ، إلا أنها تستسلم لرغبة أخيها وزوجته ، وتحتفظ برأيها الداخلى لنفسها !
يتم دفع خمسين بالمائة نقداً من ثمن البيت الجديد ، فى حين يتم الاتفاق على سداد باقى الثمن أقساطاً ، يدفعها جاسم من مرتبه بدلاً من الإيجار الذى كان يدفعه لبيت المستشفى . يصمم جاسم على ذلك لأنه لا يقبل أن يعيش فى بيت دفع ثمنه بالكامل من فلوس والد زوجته !
تفرح سعاد بهذا الحل الوسط ، فهى تريد منزلاً مريحاً ، وغرفاً للنوم أكثر ، بحيث تخصص واحدة للطفل القادم ، وأخرى لأمها وخالتها ، وأخرى للمربية بحمامها الخاص بها ، فى الحقيقة .. البيت رائع ، فهو أجمل وأوسع من البيت الذى يعيشون فيه الآن ، هذا بعد أن رفض جاسم فكرة البيت الضخم ، كما رفض أن تدفع سعاد ثمن البيت الجديد بالكامل ، فأخذ بنصيحة مدير المكتب العقارى وإختار بيتين آخرين تقوم قيمة إيجارهما بتسديد باقى أقساط البنك . ويتولى هذا الرجل تقديمهما إلى مكتب عقارى قريب منهما ، فى ” سيراكوز ” لتأجير هذين المنزلين ، والإشراف عليهما .
تستقر الأسرة فى البيت الجديد ، تحس سعاد بالراحة التامة بعد أن تم تجهيز غرفة الطفل القادم ، وطلائها بلون المشمس المحبب إلى قلبها ، كما تم تأثيثها بطريقة فنية باهرة تجعل أثاثها كله على هيئة دببة تلعب فى حديقة نباتات وحيوانات .. !
تقترب فترة الحمل من نهايتها ، تستعد سعاد للوضع ، فتطلب حضور أمها ، التى لا تمانع فى المجئ إليها ، وخالتها أم جاسم ، فتقوم الشقيقتان برعاية سعاد إلى أن يحين ميعاد الوضع .. و .. يعود جاسم إلى البيت بزوجته ، وطفله أحمد من المستشفى ، ذلك الطفل الجميل الذى أتى إلى الدنيا مع بداية دخول فصل الشتاء .
يدخل جاسم البيت يحمل إبنه أحمد جاسم الناصر وفرحة الدنيا لا تسعه ، وإحساسه بأبوته ينمو ويكبر داخله ، وإحساسه بسعاد زوجته ، أم أحمد ، لا يضاهيه إحساس ! تنهال الفرحة والتهانى والتبريكات ، يعبّر الجميع عن سعادتهم بقدوم هذا المولود السعيد بعشرات الباقات من الورود والبرقيات والمكالمات التى لا تكاد تتوقف أو تنتهى !
يشعر جاسم ، أبو أحمد ، بأنه قد أحرز هدف الإنتصار الأول فى مباراة حياته الزوجية ، تعويضاً عن ذلك الهدف الذى كان يتمنى أن يحققه فى بطولة كأس العالم التى جرت نهائياتها فى أسبانيا عام 1982 ، كان ذلك قبل بضعة أشهر فقط من ولادة إبنه أحمد ، وكان جاسم يود أن يشترك فى تلك المباريات مع منتخب الكويت الوطنى ،
لكن الظروف لم تخدمه بسبب انهماكه فى الدراسة والعمل هنا فى أمريكا .. وكان عزاء جاسم الوحيد هو رؤية علم الكويت يرتفع خفاقاً عالياً فى سماء أسبانيا وسط أباطرة الكرة العالمية !
كانت سعاد توّد أن يطل أحمد على الدنيا يوم عيد ميلاد جاسم ، كانت تتمنى أن يولد فى نفس اليوم الذى ولد فيه أبيه ، لكن للأسف أختلف التاريخ بفارق يومين فقط ، لأن عيد ميلاد جاسم يوم 28 أكتوبر ، أما أحمد فقد ولد يوم 26 أكتوبر تقول سعاد لنفسها :
– ما يهم .. يكفى أن أحمد من مواليد برج العقرب مثل أبوه !
فى الواقع ، لا تكاد الدنيا تسع أم أحمد من شدة الفرح ، فعلاً ، لا تكاد سعاد تصدق نفسها إن أحمد هذاالطفل الجميلالوديع ، هو فعلاً ثمرة حبها ، وأن جاسم زوجها ، حبيب قلبها ، قد أصبح والد إبنها .. آه .. الحمد لله .. إكتملت فرحتها .. وكبرت أسرتها .. وعسى الله أن يديم عليهم السعادة والفرح إنشاء الله .
وبعد أسبوع من ولادة أحمد ، فى حفل النون ، أخذت الأسرة تتلقى التهانى من الأهل والأصحاب ، والزملاء ، وأتصلت ليلى من الكويت تهنئ بوصول أحمد جاسم الناصر وتطلب سرعة إرسال صورة لأنها لا تطيق الإنتظار حتى تراه ، ولأنها مشتاقة له ، ولهم كلهم .. حقيقة .. لولا إنشغال ليلى بدراستها كطالبة فى كلية الآداب قسم إجتماع ، لكانت الآن معهم ، خاصة أن أمها وخالتها لم ترجعا الكويت بعد .
أما فرحة أبو عبد الله ، والد سعاد فقد جاءت كبيرة كبيرة ، فهو للآن لا يصدق أن سعاد إبنته كبرت وتزوجت .. وخلّفت ؟!
– لا .. لا .. مو معقول .. بنتى سعاد صارت أ/ ؟! لا .. لا .. ما أصدق .. ما أصدق .. ودى أشوفها الحين .. ودى أشوف ولدها أحمد .. عسى الله يخليلها إياه .
لا يطيق أبو عبد الله الانتظار ، يحلق طائراً إلى نيويورك ، كى يطمئن على صحة إبنته حبيبته ، وليرى حفيده ، حبيبه الغالى ، إبن الحبيبة الغالية .. سعاد . يحمل أبو عبد الله أحمد بين يديه ، يقبله ، يدلله ، يناديه .. الغالى إبن الغالية ، وحب الدنيا كله يتدفق من قلبه ، يغطيه من رأسه حتى قدميه ، والصغير الوديع يتلقى قبلات جده الذى ما يقدر يدارى فرحته وسعادته وحبه .. للغالى إبن الغالية !
تمر الأيام سريعة سعيدة وادعة ، وجاسم لا يخفى ولعه الكبير بأبنه أحمد الصغير ، الذى أصبح الحين يعرفه ! صار يبتسم فى وجهه عندما يراه وهو يهز رجليه وقدميه بشدة كلما حمله فى حضنه ! فتعلق به جاسم إلى درجة أنه كان يوقظه من نومه يداعبه ويلاعبه ، فهو لا يطيق أن تمضى ليلة واحدة دون أن يرى أحمد ، ويلاعب أحمد ، ويشبع من أحمد .. !
فى الحقيقة جاسم أب حنون ، حنون ، كما أنه زوج مفرط الحنان ، فهو لا يقدر أن يخفى عشقه وتعلقه بسعاد ، أم أحمد ، حبيبته التى إستطاعت أن تستحوذ على مشاعره يوماً بعد يوم ، والتى كانت تبدى له حباً فياضاً غامراً ساعة بعد ساعة .
كانت سعاد تمنح الحب ، دون أن تبوح بالحب ، فالخجل يمنعها ، والحياء يحول بينها وبين هذه المصارحة العاطفية ، وإن كانت واثقة أن الحب له علامات ، له دلائل فلا داعى إذن للإعلان عنه لأنه موجود ، فالتصريح بالكلمات هنا لا يهم ! المهم .. الأفعال ، والأعمال ، فهذا هو ما يثبت الحب ، ويؤكد وجود الحب ، ويطيل فى عمر الحب .. !
كانت هذه هى قناعة سعادة ، وكانت هذه هى وجهة نظر سعاد فى التعبير عن الحب .. بالأفعال ، وليس بالأقوال !
وبعد فترة قصيرة من الوقت ، تصلها فى يوم واحد عدة رسائل دفعة واحدة من
البنك ، ومن مدير مكتب العقارات ، فتضعها على المائدة لحين يصل جاسم من المستشفى ، عادة ، بعد منتصف الليل ليقرأها ، فهى الآن مشغولة برعاية أحمد الذى وحشها ، بعد أن تركته فترة طويلة مع المربية اليوم ، حين كانت فى الكلية تجمع المعلومات التى تحتاجها من المكتبة .
تترك سعاد أحمد فى حضن والده المشغوف به ، والذى لا يتوقف عن مداعبته وعضه وتدليله وتقبيله ، فيضع جاسم أصبعه بين أصابعه الصغيرة التى تقبض عليه بشدة ، ثم يرفع ذراعه فوق ، واحداً وراء الآخر ، ثم يبدأ يمسك ساقيه ويهزهما له ، ليعلمه من الحين .. لعب الكرة ، وشوط الكرة .. وإحراز أهداف الإنتصار !
تضحك سعاد من قلبها وهى ترى هذاالمنظر الجميل ، تقول له راجية :
– شوىّ شوىّ يا جاسم الله يخليك .. أحمد بعده صغير .. إصبر لما يكبر .. وشوف إيش لون راح يلعب الكورة .. أكيد راح يصير بطل مثل أبوه ..
يسعد جاسم كثيراً بسماع هذا التعليق الحلو من سعاد ، فعشق الكرة يجرى فى دمه ، وبريق الملاعب يسطع فى عينيه ، وهتاف الجماهير ، وحماس اللاعبين ، وتصفيق المشجعين يدى فى أذنيه ، يحتضن طفله صغيره فى صدره ، يضمه ، يقبله ، وما يلبث أن يقذفه إلى أعلى كالكرة عدة مرات ، ثم يضعه فى حضنه وهو يحيطه بساعديه القويين ، ويطلب من سعاد أن تضع له شريط الفيديو ليشاهد مباريات كأس العالم للعام الماضى 1982 التى دخلت فيها الكويت ضمن المجموعة الآسيوية الثالثة .
يكمن أحمد كالقطة الصغيرة فى حضن والده ، الذى يجلس على الأرض فارداً ساقيه على آخرهما وهو يشاهد مباراة الكويت وتشيكوسلوفاكيا التى إنتهت بالتعادل بينهما والتى تحدثت عنها صحف العالم كله !!
يرقب جاسم المباراة التى لعبتها الكويت فى أسبانيا بمنتهى الحماس ، كأنه يشاهد اللعب للمرة الأولى ، فهو يعشق الكرة عشقاً كبيراً ، لذا يشاهد المباراة بقلبه ، وليس بعينيه ، فإحساسه كله يتركز فى الملعب ، فيشعر أنه يركض ، ويروح ويجئ مع أحمد الطرابلسى ، وفتحى كميل وسعد الحوطى ، وفيصل الدخيل وعبد الله معيوف ونعيم سعيد ويوسف سويد ومحبوب جمعة وحمود فليطح ..
آه .. إنه يلعب معهم ! آه .. ها هو يشروط الكرة بشدة فىالهواء حين أحرز جاسم يعقوب هدف التعادل فى مرمى موسكو ! آه .. آه .. إنه يهتف ، يصيح ، ويصيح ، ويهتف مع الشيخ فهد الأحمد الصباح رافعاً ذراعه إلى أعلى ملوحاً بعلم الكويت ، أنه يهتز بعنف من شدة الإنفعال ، وأحمد ما زال بين يديه ، تشهق سعاد فى فزع خوفاً على صغيرها ، تنهض تأخذه منه بسرعة ، وهى تقول ضاحكة :
– أخاف تحسبه كورة وتشوطه يا جاسم .. إعطنى إياه الله يخليك .
تضع سعاد أحمد فى فراشه لينام فى هدوء ، بعيداً عن الضجة التى يحدثها والده والتى يكررها فى كل مرة يشاهد فيها إحدى مباريات الكويت ، حتى لو كان يراها للمرة العاشرة !!
كانت سعاد ترى عشق الأطفال فى عينى جاسم ، كانت تلمس حبه الواضح وتعلقه الكبير بأبنه أحمد ، فى حين كانت تلمس نفوره ورفضه مناقشة أمورها المالية التى نتجت عن الأموال التى جلبها البيت الذى أهداه لها والدها ! كان جاسم يرفض مناقشة هذهالمسائلالمالية بوضوح أحياناً ، كما كان يتهرب بلباقة ، ويتملص بذوق ، دون أن يفصح أو يوضح فى أحيان أخرى كثيرة كثيرة .. !!
تستسلم سعاد صاغرة لرغبته ، لا تريد أن تلّح عليه فى مثل هذه الأمور التى لا يحبها ، فهذا هو طبع جاسم ، وهذا هو تصرف جاسم ، وتلك هى شخصية جاسم ! إنه لا يحب الإلحاح ، وعندما يقول كلمة لا يرجع عنها ، لأنه حين يتخذ القرار ، يصّر عليه ، ولا يتردد فيه ، فجاسم يعرف تمماً ماذا يحب وماذا يكره ، كما يعرف ما يريد وما لا يريد . لذا .. تسكت سعاد على مضض ، تسّلم أمرها لله ، فهذه هى المرة السادسة ، أو السابعة أو العاشرة ، التى يعتذر فيها جاسم عن متابعة موقف البنك .. أو مكتب العقارات .. !!
فى الواقع ، جاسم لا يريد أن يتدخل فى مثل هذه الأمور المالية ، لا يريد أن يقحم نفسه فى ممتلكات سعاد التى بدأت بذلك البيت الذى أهداه لها والدها عند زواجها .. أخيراً .. تدرك ذلك سعاد ! أخيراً .. تفهم ذلك سعاد ! فى تلك اللحظة بالذات ، توقن سعاد أن جاسم فعلاً لا يريد أن يتدخل فى مثل هذه الأمور التى تخصّها وحدها .. تفهم وجهة نظره جيداً ، فتبدأ فى الاعتماد على نفسها وحدها .. !
نعم . تبدأ سعاد تعتمد على نفسها وحدها لإدارة مثل هذه الأمور ، وفهم هذه الشئون المالية ، والإدارية ، والقانونية ، والعقارية ، التى تحتاج إلى علم ومعرفة وإطلاع ، فتقرر أن تأخذ دورة إضافية فى دراسة الاستثمار العقارى ، كى تقف على أسرار هذا المجال الواسع الكبير .
تقتنع سعاد أنها بحاجة ماسة إلى هذه الدراسة المتخصصة الآن ، كى تساعدها على فهم كثير من الأمور التى تراها غامضة فى مثل هذه الظروف المتغيرة ، فمثلاً .. كيف يمكنها البدأ فى عمل خطة المشروع ؟! وكيف يتم تمويل المشاريع الصغيرة ؟! وما هى دراسة الجدوى الاقتصادية ؟! وما هى الجوانب القانونية لمشروع وإجراءات الترخيص التجارى ؟!
أيضاً ، كان على سعاد أن تعرف الأفكار الإرشادية للمشروعات الاقتصادية ن فها هى أشياء كثيرة قد حصلت دون أن تعرف أصلاً بدايتها ، وبدون أن تتوقع حدوثها ! هى حصلت بالصدفة البحتة فى المرة الأولى ، كان عامل الزمن ، وتغير الأحوال والظروف ، هو السبب فى تلك الطفرة الاقتصادية ، وفى المرة الثانية داء التخطيط الجديد لهذه المنطقة ليرفع سعر الأرض بها ، وليكون سبب سعدها .. يا الله .. الحمد لله .. الحــمد لله .
لكن .. ما تزال سعاد فى حاجة لأن تعرف الكثير عن تغير الأسعار من الناحية العلمية الاقتصادية التى لا تفسر على أنها ضربة حظ ، كما توّد أن تعرف تغير القوانين ، وتفاوت قيمة المناطق ، كذلك قوانين البناء ، وقوانين البيع ، وقوانين الشراء ، وأيضاً .. شروط التعامل مع البنوك ، والتعامل مع الأشخاص أو الجهات التى تثق بها ، إلى جانب قوانين جمعيات البناء وقوانين الضرائب .. الخ .. الخ .. الخ !
كانت سعاد تتوق أن تعرف كل هذه المعلومات ، وكانت تضحك بينها وبين نفسها ، مزهوة ، فخورة ، بالرصيد التاريخى الذى تنتمى إليه ، والأسرة ذات الاسم التجارى المشهور فى الكويت ، وأبيها الذى زرع فيها الثقة بالنفس ، وليس الغرور ، والعياذ بالله ، إنما هى روح المثابرة ، والتحدى ، والرغبة التى تدفع إلى تحقيق النجاح .. تبتسم سعاد وهى تقول فى سرها :
– الله يطوّل عمرك يُوبّا .. الله ما يحرمنى منك .. الله يخليك لى .
تدور عجلة الزمان وتدور المواقف والأحداث ، وسعاد تدعو لأبيها بطول العمر ، فى حين تترحم على جدها ، تقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة ، وتبقى تتابع حياتها بنفس إهتمامها ونفس حماسها .. ! تبدأ الدراسة وتنتهى وتبدأ . وتنتهى . وسعاد تبحث ، وتدرس ، وتمارس العمل فى نطاق الإستثمار العقارى بمكتب مؤقت ، وبصورة بسيطة ، وسكرتيرة وبرأس مال معقول .
تبدع سعاد فى هذا المجال الذى أصبحت تتقنه ، كما أصبحت قادرة على خوض متاهاته بتمكن ، وإقتدار ، بعد أن عرفت المعلومات اللازمة ، والإرشادات الضرورية التى تهديها وتساعدها على خوض هذا العالم الواسع الكبير ، الحافل بالطموح والنجاح .
تنطلق سعاد كالسهم الذى تحدد هدفه مسبقاً ، تتوسع دائرة أعمالها ، يزداد عدد معارفها ، تتكثف الاتصالات المتتالية على جهاز النداء الآلى حتى لا تكاد تنقطع ، بينما هى لا تتوانى عن الاعتماد على منهج العمل الذى أدى إلى نجاحها ، وهو الجدية والسرعة ، والكفاءة فى الإنجاز ، وإكتساب ثقة الآخرين .
تظل سعاد عدة مرات تناقش هذا الموضوع مع جاسم ، تحاول أن تشرح له الموقف المالى الذى وصلت إليه ، تحاول أن تتكلم معه عن الجوانب الاقتصادية ، والأشياء التجارية الضخمة التى تحتاج فيها إلى رأيه الشخصى ، كى يمنحها مزيداً من الثقة بنفسها فى بعض هذه المواقف الصعبة الحافلة بالتحدى والإنجازات ، فيقول لها باسماً مطمئناً :
– ترى سعاد أنا أدرى عنك .. أعرفك زين .. إنت وايد شاطرة وذكية .. ما ينخاف عليك .. وأنت درست كل هذه الأشياء وتعرفينها عدل .. أرجوك سعاد .. ما فى داعى تسألينى مرة ثانية عن هذه الأمور .. لإنى ما أدرى شنو اقولك عنها .. ترى .. أنا واثق إنك تعرفينها أكثر منى ..
تحس سعاد بالضيق والخجل من نفسها بعد أن سمعت هذا الرد القاطع الحاسم من جاسم ، الذى ينهى الأمر ، ويعتقها من تكرار هذا الموقف الصعب ، ويحررها من الإحساس بالحرج والشعور بالذنب ! يحاول جاسم أن يخفف عنها حدة الموقف بعد أن لمح نظرة عيونها المعذبة ، الشاردة نحو السماء السوداء ، فى نفس الوقت يقطع عليها الفرصة نهائياً ، حتى لا تعاود معه هذا الحديث مرة ثانية ، بعد أن أوصد أمامها كل الأبواب ، تومئ سعاد برأسها موافقة راضخة ، حتى لا يصيبها حرج فظيع مثل الذى أصابها هذه الليلة ، مهما كانت حاجتها لرأى جاسم ، ومهما كانت رغبتها فى أن تعرف بدل السؤال .. ألف سؤال !
تفهم سعاد من ذلك إن جاسم يقول لها بطريقة لطيفة مهذبة .. لا تعوّرى رأسى يا سعاد ! تفهم أيضاً أنه ما زال متأثراً بنفس الحساسية الماضية من فلوس أبيها .. وثراء أسرتها ! هنا .. تحس سعاد خجلاً ساحقاً لم تشعر مثله منذ أن تزوجت جاسم ، خجلاً يخجلها ، يحرجها ، يضايقها ، يؤذيها ، وهى تسمع كلام جاسم الذى أحكم الحصار حولها ~، وأغلق كل المنافذ فى وجهها ! فعلاً .. أيقنت سعاد أنها صارت سجينة وراء أسوار مكتبها ، وأدركت أن جاسم يرفض رفضاً باتراً ، قاطعاً ، إقحامه فى أمور عملها ، كما أنه يبغض أن يتدخل ، ولو بإبداء الرأى فى إدارة أموالها .. !
تنوه نظرات سعاد ، تخرج عن إرادتها ، لا تعرف أين توجّهها ، بعد أن تكاثرت عليها ندوب الروح ، وهى لا تعرف كيف تعتذر لجاسم عن هذا الموقف السخيف الذى قد يأخذه عليها ، عندما حاصرته بأسئلتها ، التى إنتهت بإجابته الجراحة لنفسه .. ولها ، عندما أعلن لها أنه لا يفهم ولا يعرف فى مثل هذه الأمور .. مثلها !!
تتضايق سعاد أشد الضيق من نفسها ، ترنو إلى السماء ، تحاول أن تبحث عن بعض نجوم ساهرة تعّدها ، تسهر معها ، تأتنس بها ، وحياءً ساحقاً يلفها ، يحاصرها ، يحيطها ، بينما تجلس ساهمة باحثة عن لحظة صفاء حلوة ، تعيد إلى علاقتها بجاسم ذاك العشق ، وذاك النقاء ، وذاك الحب ، الذى تحب .. وتشتاق !
منذ ذلك الموقف الصعب الذى أوصد فيه جاسم من دونها الأبواب ، وأغلق فى وجهها المنافذ ، صارت سعاد أسيرة مكتبها ، سجينة عملها ، كما صارت مقتنعة بضرورة متابعة إدارة أعمالها ، معتمدة فقط على نفسها ، وحدها ! فتستمر فى إدارة المكتب الخاص بها ، بعد أن تعلمت الإستعانة بالبنوك ، والتسهيلات المصرفية لمواجهة إحتياجات التوسع فى العمل ، وتصنيف المشروع ، ودراسة المشروع وجدواه ودراسة توفير رأس المال المناسب ، دون زيادة أو نقصان ، والتفرغ للعمل ، والثقة بالنفس عند التعامل مع الآخرين ، والمنافسين ، وعدم الاستعجال ، وحساب الربح والخسارة ، لمواجهة احتياجات العمل المتزايدة .
فى هذا الإطار العملى الميدانى المالى ، تنطلق سعاد .. وتظل تعمل ، وتعمل ، وتعرف أكثر ، وأكثر ، إلى أن تدرك العديد من الأمور الخاصة بتنفيذ الأعمال ، وإلى أن تفهم خبايا هذا المجال من جميع النواحى ، وشتى الاتجاهات .
وذات ليلة من ليالى عطلة نهاية الأسبوع الساهرة ، كان جاسم وسعاد يجلسان على المقاعد الوثيرة فى قاعة المعيشة الواسعة ، الحافلة بصور جاسم ، وصور العائلة المعلقة على الجدران ، أو الموضوعة داخل أطر ذهبية وفضية كبيرة وصغيرة ، تتوزع على كل الطاولات ، إلى جانب فازات الورود ، المتناثرة هنا وهناك ، وقطع السجاد الحريرى الملقاة بطريقة فنية فوق الموكيت البيج ، ذى اللون الفاتح المريح ، والتى تحمل طاولاتها العديد ، والعديد من التحف الصينية والمشغولات الفضية والعاجية القيمة ، تلك التى تعشق سعاد جمعها وإقتناءها ، والبحث عن المتميز الثمين منها .
.. فى تلك الليلة الساحرة ، كانا جالسين يستمعان بسهرتهما معاً فى هذا الجو الحالم الذى تزيده الإضاءة الخفيفة الخافتة شاعرية ، وجمالاً ، وحناناً ، وبينما كان أحمد نائماً بعيداً فى غرفته ، إذ أن جاسم صوته عالى وأحمد يصحو من نومه بمجرد سماعه هذا الصوت الذى يحب ، شعر جاسم فجأة شوقاً كبيراً يدفعه لأن يلعب مع ابنه أحمد ، فنهض من مكانه ليحضره ، فترجته سعاد أن يتركه نائماً وهى تقول له محفّزة :
– ترى النوم يطول القامة .. خليه ينام عشان يطلع طويل يا جاسم أرجوك .
يقهقه جاسم مبتهجاً ضاحكاً :
– لا تخافين سعاد .. أكيد راح يطلع طويل مثل أبوه .. بس خلينى أشوفه .. لو لقيته نايم راح أخليه .. وإذا لقيته مفتّح عيونه وقاعد يلعب فى فراشه بروحه راح أجيبه .. أحسن له يلعب وياى أنا ..
تضحك سعاد فى فرح وسعادتها لا تسعها الدنيا كلها ، تقول لجاسم فى دلال ودلع :
– يا جاسم الله هداك لا تعلمه الشقاوة من الحين .. خليه ينام أحسن .. وإلا لازم يطلع فى كل شئ مثل أبوه ؟!
لا يرد جاسم ، لا يتوقف ، يخترق غرفة إبنه كشوطة قوية طويلة ثاقبة ، يقف يطالع إبنه الحبيب الذى كان غارقاً فى نوم عميق .. ! فى هذه اللحظة .. يرن جرس الهاتف ، وإذ ليلى تتكلم من الكويت ، وقبل أن ترحب بها سعاد ، وتنادى جاسم ليأتى يسلم عليها ، تسمع خبراً ينقلب لسماعه وجهها ، يرجف له قلبها ، مع كل كلمة تنطلق ليلى
بها .. !!
تصغى سعاد ، تسمع وإنزعاجاً هائلاً يطفح على وجهها ، وغماً مجهولاً يقبض قلبها ، يخنف روحها ، يضغط على صدرها .. فيسأل جاسم قلقاً :
– خير سعاد .. اكوشى ؟! صار شئ ؟
تنظر نحوه سعاد جازعة كأنها تودعه ، تحضنه فى حزن بعينيها ، كأنه سيطير إلى الأبد من بين يديها ، تقول له وقد تبددت سعادتها ، وهبطت إلى القاع نفسيتها :
– لازم نبعث برقية تعزية للكويت .. !
الفصل التاسع
ومض الزمن !
ينظر جاسم منفعلاً متوجساً إلى سعاد يستفسر منها سائلاً فى لهفة :
– ليش .. مين اللى مات ؟!
تنظر إليه سعاد وعلى وجهها الشاحب الحزين ، أمارات التأثر الشديد :
– زوج دلال .. طاح بالطيارة العسكرية وهو بيتدرب .. الله يرحمه .. مسكينة دلال .. الله يصبرها ..
يخبط جاسم كفاً بكف من هول الخبر غير المنتظر ، ينظر ذراعه فى الهواء كأنه يضرب هذا النبأ السئ المؤسف بقبضة يده المغلقة ، وعلى وجه تعبير غريب ، لأول مرة تراه سعاد :
– اييه .. مسكينة دلال .. صدق مسكينة .. ما عندها حظ .. ما عندها حظ !
يرتمى جاسم على المقعد وهو ينفخ فى ضيق وانفعال يتبدى فى حركاته ، ونظراته ، ونبراته وهو يقول :
– لكن شنو سوّت دلال ؟ قالت لك ليلى إنها راحت لها .. عزّتها ؟! ما قالت لك شئ عنها ؟! أوه .. مسكينة .. بنتها بعدها طفلة صغيرة .. يا الله .. شنو راح تسّوى هذه .. ؟ ترى دلال ما تعرف شئ بالدنيا .. وما تقدر تدير بالها على نفسها .. لازم حد يكون
معاها .. !
يظل جاسم يتحدث عن دلال بلا إنقطاع ، وكيانه كله ينتفض فى تأثر ، وعطف ، وإشفاق ، وهو لا يكاد يصدق أن دلال عادت تواجه الحياة وحيدة ، ضعيفة ، لا حول لها ولا قوة ، بل .. للأسف .. لقد زادت الحياة من أعبائها عليها ، فها هى الآن صارت أرملة وأما لطفلة يتيمة محتاجة لرعايتها .. وهى بعدها فى ريعان شبابها !
يلتفت جاسم نحو سعاد يسألها فى حيرة :
– ها سعاد .. إيش رأيك أدّز لها برقية .. وإلا أكلمها فى التليفون ؟! لا .. أقولك .. أحسن أكلمها .. يجوز تكون محتاجة شئ .. وألا قاصر عليها شئ !
وبدون أن ينتظر جاسم رداً من سعاد ، ينهض يكلم دلال ، يعزيها ، ويواسيها ، وهو يقطر حزناً على مصابها الأليم :
– عظم الله أجرك دلال .. ديرى بالك على نفسك .. لا .. دلال .. لا تبكين أرجوك .. أنت مو لوحدك بهالدنيا .. لا .. لا .. أرجوك دلال .. ترى أنا موجود وأى شئ يقصر عليك بس خبرينى .. فى أمان الله .
يضع جاسم السماعة ، فى حين تضع سعاد يدها على قلبها ، بعد أن إستشعرت الخطر ، كل الخطر عند سماع حوار جاسم مع دلال .. ! صحيح كان يُعزيها .. لكن .. لا .. هناك رنّة إنفعال ذات صدى عميق يضرب فى عمق الزمان .. ! هناك نبرة تعاطف تشى بإرتباط أعمق يمتد من الماضى إلى الحاضر .. وقد يطول المستقبل أيضاً !
تتضارب الأفكار فى عقل سعاد ، وآلاف الهواجس تتصارع فى قلبها ، بعد أن أقفل جاسم الخط دون أن يطلب من سعاد أن يعزيها .. ! معنى ذلك بالنسبة لها ، إن جاسم ما زال يخشى فى أعماقه الجمع بينهما .. معنى ذلك أيضاً .. أنها ما زال يُكن لدلال مشاعر خاصة .. خاصة جداً !!
تستأذن سعاد من جاسم أن يسمح لها أن تعزّى دلال فى التليفون ، فيوافق على الفور وهو يتعذر عن عدم إعطائه السماعة لها فى نهاية المكالمة متعللاً بأنه قد نـــسى .. !
تنتهى تعزية سعاد لدلال .. فى حين تبتدأ مواساة سعاد لنفسها ! .. بعد هذا الموقف الأخير الخطير ، هناك خيطاً ما يشدهما نحو بعضهما ، يربطهما .. يحركهما !! خيط لا تستطيع سعاد أن تجذبه ، كما لم يستطع الزمن أن يقطعه !!
نعم .. بدى واضحاً ساطعاً لسعاد ، أن إهتمام جاسم بدلال ، ليس إهتماماً عادياً ، كما أنه ليس إهتماماً طارئاً ، إنما هو إهتمام راسخ ، قديم ، متأصل ، كامن فى النفس .. مهما عبر الزمن .. ومضت الأيام والسنوات !!
.. تتلون الساعات ، تتغير الدقائق ، تتواثب الثوانى ، وكل شئ فى نظر سعاد يبدأ يأخذ معنى آخر ، يبدأ ينذر بأشياء أخرى غامضة ، مخيفة .. تنبعث من بين ركام الماضى ، لتبدأ تؤثر فىالحاضر ، وربما تغير .. فى مدلول المستقبل .. !
.. تمضى الأيام هادئة ، وسعاد تحاول أن تبعد عن خاطرها تلك الهواجس والأفكار ، تجتهد دوماً أن تتغافل عنها ، تتناساها ، حتى لا تفسد عليها حياتها .
تمضى الأيام .. وفى إحدى ليالى الصيف الساحرة ، بعدما وصلت ليلى لتمضى العطلة معهم ، يدخل جاسم ومعه نايف ، صديقه السعودى الحميم ، بعد أن لبىّ دعوة العشاء اليوم ، الأحد .
فى الواقع ، كانت الصلة بينهما قوية ، والصداقة عميقة ، فمنذ بدأ نايف دراسته فى المستشفى التى يعمل بها جاسم قبل بضعة أشهر ، ومنذ أن إستقبله جاسم خير إستقبال ، وقدم له يد العون والمساعدة بصفته طبيباً قديماً يسبق نايف فى هذا المضمار بثمانى سنوات .. ونايف يشعر أنه قد تعرف على أخ عزيز ، وصديق فاضل .
يظل جاسم ساهراً مع نايف ، يناقشان معاً كثيراً من أمور العمل المختلفة ، وهما يتابعان باقى السهرة فى الحديقة ، ويتحدثان على إنفراد عن الطب والمستشفى والمرضى والأطباء ، بعد أن تدلف ليلى مع سعاد إلى الداخل ، وهى مسرورة منتشية لأنها ألتقت بنايف ولو لبضع ثوان !!
و .. دون أن يشعر الإنسان المشغول حتى قمة رأسه بمرور الزمن ، تطالع سعاد الحديقة الجميلة وقد أمسى لها سحراً خاصاً فى أمسية الصيف فى أمريكا ، يزيد من سحرها سريان نسمات ندية باردة تحرك بخفة أوراق الأشجار التى توحى إختلاجاتها الخفيفة المرهفة بفرحة أغصانها ، بينما صغارها أحمد وأنوار وراكان يلعبون المساكة بين سيقانها الغليظة فى بهجة وسرور .
كان راكان الذى لم يتجاوز عامه الثانى يحاول أن يلحق بأحمد وأنوار ، إلا أنه كان يتعثر وراءهما ، لا يستطيع اللحاق بهما ، وفى أعقابه تركض المربية إيزابيلا ، تحاول أن تحميه من الوقوع بين أقدامهما وهما يجريان ويلعبان ، بينما كان هو يقف مكانه باكياً غاضباً بعد أن راح وتركاه وحيداً بعيداً عنهما !
كانت سعاد تطالع هذا اللعب الطفولى البديع وهى سعيدة منتشية ، فرحة راضية كل الرضا عن حياتها ، كما كانت تنظر إلى ليلى وهى سعيدة لها ، وبحبها ، فهى تعرف أن نايف يحتل قلبها ، وأنه محور مشاعرها ، ومركز أحلامها ، منذ أن رأته لأول مرة ، بعد أن إلتحق مؤخراً بنفس المستشفى التى يعمل جاسم بها !
منذ ذلك الوقت ، أى منذ رأته ليلى لأول مرة ، وقلبها لم يعد قلبها ، أخذه نايف ، تملكه ، لم يتركه لها ، لذا .. عندما كانت تسنح لها فرصة لقاء عابر بنايف . لقاء سريع ، ربما لا يتجاوز فى أغلب الأحيان بضع دقائق ، كانت ترتحل المشاعر ، تنمو فى أعماق كل منهما ، خيالاً ، حباً ، يستطيع أن يبقى طويلاً فى الداخل ، ولابد وأن تبدو آثاره فى الخارج ، لابد وأن تنعكس ، لابد وأن تظهر بعد أن تحولت إلى حب لا يستطيع أن يبقى طويلاً كامناً ، ساكناً الأعماق ، دون أن يسطع ويشرق فى الآفاق !
كانت هذه هى مشاعر ليلى تجاه نايف ، فهى تتحدث مع سعاد ، تبوح لها حبها ، تحكى لها عن أحلامها وأمنيتها أن يكون هذا الشاب الوسيم ، الطبيب الناجح ، فى يوم من الأيام زوجها ، تبتسم سعاد وهى تقول ضاحكة لليلى :
– إن شاالله عسى ربى يحقق كل أحلامك يا ليلى .. إنت تستاهلين كل خير .. ترى نايف طيب وأخلاقه عالية وايد .. وأنك تستحقين شاب مثله .. الله يوفقكم ويجعل لكم نصيب فى بعض إنشالله .
يستمر حوار ثنائى بين جاسم وصديقه نايف فى الحديقة ، كما يستمر داخل قاعة المعيشة الواسعة الأنيقة حواراً آخر بين ليلى وسعاد ، حواراً عن الحب والأيام الحلوة الآتية ، فتدعو سعاد لليلى من كل قلبها ، أن يصبح نايف فى يوم من الأيام زوجها .
تشرد سعاد بتفكيرها ، تذكر كيف كانت ليلى تحدثها عن علاقة دلال بجاسم ، وعن إهتمام جاسم بدلال ، وكيف كانت تؤنبها وتلومها لأنها سلبية لا تأخذ دوراً كافياً لتبديل مسار عواطف جاسم نحوها ، ثم تضحك فى سرها وهى تقول :
– الحين منو ينصح ليلى ؟ هى نصحتنى .. بس منو ينصحها يا ترى ؟
بعد قليل ، يخرج جاسم ونايف يستأذنان فى الذهاب إلى مقابلة بعض الأطباء ، الذين ينتظرونه فى الكاقيتريا القريبة من بيت جاسم ، يحييهما نايف وهو يستأذن خارجاً خافضاً بصره إلى الأرض .
تستمر السهرة بين سعاد وليلى إلى أن يدخل الصغار ليناموا ، فتقوم سعاد معهم تشرف على تهيئتهم للنوم ، وتقبيلهم قبل أن يأووا إلى فراشهم ، ثم تعود لمتابعة السهرة مع ليلى .. والحديث عن نايف .. وحبها لنايف إلى أن تنعس ليلى وتدخل تنام .
تبقى سعاد فى جلستها تتابع سهرتها وحدها ، تسلى نفسها بمشاهدة التليفزيون لحين عودة جاسم ، فهى لا تريد أن يأتى ويجدها نائمة ، فربما يحتاج شيئاً تستطيع أن تقدمه له . بعد فترة ، يعود جاسم إلى البيت ، يخلع ملابسه ، يدخل المطبخ يأخذ زجاجة مياه باردة منا لثلاجة ، يحملها معه ، يضعها على الأرض فى الصالة بجانبه ، وهو يتمدد مرتاحاً مسترخياً ، يشرب ، ثم يلتفت إلى سعاد يقول لها باسماً متحمساً :
– ترى اليوم كنا قاعدين نتكلم ونتناقش فى موضوع كبير .. !
تسأله سعاد فى مودّة :
– عسى خير يا جاسم ؟!
يقول لها بنفس الحماس والإنفعال الذى كان يتناقش به مع زملائه الأطباء القدامى والجدد :
– بعض الأطباء يفكرون فى إنشاء مستشفى متخصص فى أمراض القلب فى أمريكا .. شرط تكون الإدارة عربية بحيث لا يحتاج المريض لمرافق أو مترجم .. وشرط تكون مستشفى على أعلى مستوى علمى أكاديمى من ناحية الأطباء .. والأجهزة .. والمعدات .. والتجهيزات .. كل شئ لازم كون على أعلى مستوى بحيث لا تقل عن أى مستشفى فى أمريكا .. بس تخيّلى سعاد .. بحسبة تقريبية وجدنا هذا المشروع راح يتكلف حوالى خمسة مليون دولار تقريباً عشان نقدر نبتدى نحضرّ له ونجهزه !!
تبتسم سعاد سعيدة بالفكرة ، تقول لجاسم بنفس الحماس والإندفاع الشديد الذى
يتحدث به :
– ترى الفكرة وايد ممتازة .. نجاحها وربحها مضمون 100٪ ليش إنت يا جاسم ما تنفذ هالمشروع بروحك ؟ ما فى داعى تشتركون كلكم فى تنفيذه ترى المشروع ما يحتاج كل هالعدد من الشركاء .. المشروع مضمون النجاح .. وإحنا عندنا فى
المكتب دراسة جدوى مشابهة لمشروع مستشفى متخصص على أعلى مستوى .. وهو مشروع مثل ما قلت لك مضمون 100٪ ما فيه مجازفة أبداً .. ليش ما تعمله أنت بروحك يا جاسم ؟
ينظر جاسم إليها وهو يقول ضاحكاً :
– قلت لك سعاد .. هالمشروع يحتاج عدة ملايين على الأقل 4 أو 5 مليون دولار عشان نقدر تجهّز المستشفى .. !
تقول سعاد بنفس الحماس والإنفعال :
– زين .. ما فيها شئ .. نفذه أنت بروحك يا جاسم .. الفكرة وايد ممتازة والمشروع مضمون النجاح .. ما فيه مخاطرة .. وإذا تريد تبدأ من باكر بالخمسة مليون دولار إعتبرهم فى جيبك من الحين .
يُبهت جاسم .. ينظر إليها فى ذهول ودهشة صاعقة ! يحدّق فيها بكل قوة حدقتيه على الإنفتاح والإنغلاق ، وقد شردت نظراته وتشردّت فى نفس الوقت ! يسألها وهو لا يكاد يصدق ما سمع منها :
– شنو تقولين سعاد .. خمسة مليون دولار ؟! ها .. من وين لك هالفلوس ؟ أبوك دز لك فلوس وأنا ما أدرى ؟!
تنظر إليه سعاد متأثرة من ذهوله ودهشته وهى غير مصدقة ما تسمع ، تقول له
واثقة :
– لا .. أنت تدرى كل شئ يا جاسم .. تدرى أنى أشتغل فى العقار من زمان .. تدرى أن الشركة ناجحة وقاعدين نبيع ونشترى لما صار الحين عندنا سيولة وافرة .. هذا غير الفلوس المجمدّة فى العقار .
يصمت جاسم صمتاً مطبقاً ! لا ينطق كلمة واحدة ! فهو لم يكن يتصور إن الأيام والشهور والسنوات قد مضت بتلك السرعة ! كما لم يكن يتوقع أن تحرز سعاد كل هذا النجاح فى عالم التجارة والمال .. ! كان الأمر بالنسبة له مفاجأة ! مفاجأة ! إذ لم يخطر بباله أن يفكر ولو للحظة واحدة فيما تفعل سعاد ، وفيم تدبر سعاد ، وفيم تشتغل سعاد !!
كان كل ما يهم جاسم فى تلك الأثناء أن تنشغل سعاد بنفسها . بعملها . أن تقضى وقتها فى إدارة شركتها الخاصة كى لا تشعر بالملل ، أو تحس الضيق بصفتها زوجة طبيب مشغول طوال النهار والليل ، إذ أن عمله فى المستشفى ينتهى قبل منتصف الليل بقليل ، ويبدأ قبيل الفجر بكثير ، وباقى الوقت كله يقضيه فى المستشفى بين الدراسة ، والعمل ، والمتابعة ، بين المرضى والأطباء ، هذه هى طبيعة العمل كطبيب يدرس الزمالة ، وهذه هى نوعية الحياة التى يقضيها جاسم !
فى الحقيقة .. لم يكن لدى جاسم إلا أقل القليل من الوقت ليمنحه لزوجته ، أو لأسرته ، ولم تكن سعاد لتعترض ، بل كانت راضية . قانعة . سعيدة بحياتها . بعملها . فرحة . فخورة بزوجها ، لم تشك يوماً من الوحدة ، أو الضيق أو الملل ، بل كانت تستقبله بإبتسامة هادئة ، هانئة ، ناعمة ، نابعة من قلب عاشق محب .
.. فى حين كان جاسم متفرغاً تماماً لعمله كدارس وطبيب .. كان لكل ما يشغل ذهنه هو التفوق فى الدراسة ، وإتقان العمل ، ومتابعة صنع النجاح . صدق .. مضى الوقت سريعاً سريعاً ، عبرت السنوات بأسرع مما يظن جاسم أو يعتقد ، إلى أن إكتشف فجأة ، بعد كل هذا الوقت ، كيف إستطاعت سعاد أن تحقق كل هذا النجاح ! صراحة .. لم يكن جاسم يتوقع أن تستطيع سعاد إحراز هذا الكم من المال ! كان الأمر بالنسبة له مفاجأة المفاجأة !!
تنظر سعاد لجاسم فتراه غارقاً فى الصمت ، فتحسب أنه سعيد بهذه المفاجأة الجديدة غير المتوقعة ! تظن أنه يحسب قيمة تكلفة المستشفى على أمل أن يقوم بها وحده ، وأن ينفذ هذا المشروع دون الإستعانة بباقى الأطباء ، إذ أن لديه الآن الكم الوافر من المال والوقت ، والخبرة والعلم الذى يسمح له بإقامة مثل هذا المشروع الكبير بمفرده !
تسأله سعاد :
– ها جاسم .. متى راح تبتدى تنفذ مشروع المستشفى ؟ ترى الفكرة رائعة .. إنشالله راح تنجح .. أكيد راح تنجح .
يهز جاسم رأسه وهو يتّقد بإشتعال ذاتى داخله ، يحس دمائه تغلى . تفور . تبرد . تجمد . ثم تعود تغلى . تفور . تبرد . تجمد . يهز رأسه . يلتفت نحو سعاد .. ونظراته إليها كانت مجرد إنفتاح للعينين ، لكنه فى الواقع كان يخترق برؤياه الخاصة ركام السنوات الثمان الماضية ، وكل سنوات العمر الآتية .. ! بصورة تدريجية ، يخرج عن شروده قائلاً بصوت أجش مشروخ مجروح مطعون فى عمق رجولته وفحولته :
– الله كريم .. الله كريم .. يصير خير .. يصير خير
تستغرب سعاد بينها وبين سعاد نفسها ردة الفعل الهادئة هذه ن تلك التى لم تكن تتوقعها من جاسم ، كانت تنتظر حماساً أكثر . تشجيعاً أكثر . تأييداً أكثر ، لما إستطاعت أن تحرز من نجاح ! جاء رد الفعل محبطاً . جاء رد فعل جاسم الهادئ زيادة عن اللازم .. بمثابة نكسة عجيبة لمشاعر سعاد !! كانت تتوقع منه فرحة أكبر . تشجيعاً أكبر .
عبرت سعاد الموقف بسهولة تامة . لم تعط الأمر حجماً أكبر من حجمه . لم تتكلم فيه كثيراً . تركت الأمور كما هى . معتقدة أن جاسم فى حاجة إلى بعض الوقت لبحث المشروع الجديد ، ودراسته ، والوقوف على كل متطلباته ، والإطلاع على تفاصيل
إنشائه .
تمضى الأيام كما هى بنفس الرتابة ، ونفس الأسلوب ، ونفس المشاغل ، ونفس المسئوليات ، فالصغار الأحباء فى مدارسهم ، وجاسم مشغول أغلب ساعات الليل والنهار فى عمله بالمستشفى ، وسعاد منهمكة تماماً فى إدارة شئون شركاتها التى نمت وكبرت وإحتاجت عدداً أكبر من الموظفين لإدارتها ، كما إحتاجت محام خاص يساعده محام آخر لمتابعة الشئون القانونية الخاصة بأعمالها ، إلى جانب سكرتير ثانى وسكرتيرة جديدة ، بالإضافة إلى مدير المكتب الخاص بسعاد وحدها .
كانت الأمور فى تطور مستمر نحو الأفضل ، والأفضل ، والأفضل . حمداً لله . كانت قناعة سعاد بقدراتها ، وثقتها بنفسها فى تزايد مستمر , مستمر . وكانت قناعتها بمقدرتها على صنع النجاح ، وبأنها قادرة فعلاً على صنع النجاح ، الذى ساهم فى صناعته ، والدها وجدها ، أيضاً فى تزايد مستمر . مستمر . حمداً لله . حمداً لله .
وفى إحدى الليالى ، بينما كانت سعاد مسهدة فى فراشها لم تنم ، فى حين كان جاسم راقداً على الكنبة فى صالة المعيشة ساهراً لوحده ، كما إعتاد أن يفعل مؤخراً .. دق جرس التليفون ، فرفعت السماعة القريبة منها ، وإذ بصوت جاسم يحدث دلال !! آه .. يا للمفاجأة المفجعة .. ! تتساءل سعاد بينها وبين نفسها فى دهشة وإستغراب :
– جاسم يكلم دلال ..؟! ليش ؟! شنو الموضوع ؟! ما السبب ؟! اكو سبب جديد الحين عندك يا دلال ؟!
تضع سعاد السماعة على الفور كأنها لسعتها ، إلا أن صوت جاسم كان عالياً بالقدر الذى يتيح لها أن تسمعه ! كل شئ قاله لدلال ، وكل ردوده عليها ، كانت توحى بأن هناك مكالمات كثيرة سابقة بينهما هى لا تدرى عنها شيئاً .. ولم يشر جاسم بإشارة واحدة إليها !!
تتعجب سعاد كل العجب لهذه الطريقة الجديدة فى الكلام مع دلال ، جاسم يقول لها أنه قام بمراجعة المكتب الصحى بنيويورك ، وعرف منهم أن التقارير الخاصة بجدتها قد وصلت منذ عشرة أيام ، وأنهم سوف يقومون بالرد فى أقرب وقت بمجرد أن تأتى نتائج مراجعة المستشفى ، يقول مشجعاً :
– بس دلال أعطيهم فرصة أرجوك .. لا تخافين .. أنا قاعد أتابع كل شئ بنفسى .. لا تخافين .. لا تخافين .. سلمّى لى على أمك وجدتك .. لا تنسى .. حبّى لى دانه .
تغالب سعاد نفسها . تحس قلقاً خفياً يعيث فى قلبها ، وهى تفكر كيف أن جاسم صار مهتماً إلى هذا الحد بها ، لدرجة أن يرسل سلامه لأبنتها الصغيرة دانه ويبعث القبلات إليها ! ؟! تتنهد سعاد بينما يدهمها سؤالاً حائراً ظل يؤرق خاطرها :
– ليش ما تزوجت دلال للحين ؟ ليش ظلت بدون زواج رغم وفاة زوجها من حوالى خمس سنوات ؟! ليش ما تزوجت دلال ؟! ليش ما تزوجت دلال ؟!
يظل هذا السؤال حائراً بلا جواب ! تتكلم سعاد مع جاسم ، تسأله عن موضوع مرض جدة دلال ، فيجيبها مبدياً ألماً عميقاً للظروف الصعبة التى تمر بها دلال ، وشعوراً أعمق بالتعاطف والتعلق بها ينسحب من داخله ليخرج مع نبرات صوته :
– مسكينة دلال .. ما فى أحد عندها يقدر يساعدها .. جدتها مريضة وأمها ما تعرف شئ عن مثل هذه الأمور .. وبنتها طفلة صغيرة يتيمة تحتاج رعاية .. ودلال بروحها ما تدرى شنو تسوى .. ولا وين تروح !! ما عندها أحد بجانبها .. ما عندها رجال .. !!
تظل سعاد ترقب جاسم وهو يتكلم عن دلال .. كأنه يحادث نفسه ، بعد أن حوّل عينيه عنها ، كأنما يريد أن ينفرد برؤية صورتها الراقدة فى أعماقه .. ! كانت نظراته هائمة ، تحوم حول ذكريات الماضى المختزنة فى القلب ، تلك التى تتجمع الحين دفعة واحدة وتتحول إلى شحنة ناسفة تنذر بإنفجار كبير يدوى .. يصم الآذان .. يدمــر القلوب !
الفصل العاشر
.. بسمة حائرة !
تجلس سعاد تغرق فى صمت شارد ، وهى ترى جاسم سارحاً بعينيه ، كأنما إرتحل فجأة إلى الكويت ! حيث نبتت ذكريات علاقته بدلال ! آه .. كان يتنهد فى أسى مبدياً شفقة عميقة على ما حل! بها .. وإذ به يقول بصورة مباغتة :
– مسكينة دلال .. ما تستاهل .. !
تضيق سعاد من لهجة العطف والشفقة الزائدة عن الحد التى يشى بها صوت جاسم ، والتى تستشف من ورائها شيئاً آخر يدور ويدور حول تلك العلاقة الكبيرة التى كانت بينهما ، وحول ذلك الغرام الفظيع الذى كانت تكنُّه دلال لجاسم !
ينقبض صدرها ، وهى تشعر الخطر عن قرب يحيق بها ! هذه المرة الخطر يقترب .. يقترب ! والهواجس أيضاً والشكوك تكاد تصبح حقائق ! فلو لم تكن دلال تحب جاسم لما رفضت أن تتزوج كل هؤلاء الرجال الذين تقدموا لها .. ! نعم .. هى تزوجت أول مرة لأنها ، كما عرفت سعاد فيما بعد ، كانت تريد أن تغيظ جاسم ، وأن ترد إعتبارها لنفسها أمامه ، وأمام الناس ! لكن .. بعد ذلك .. بعد أن خفّت حدة ردة الفعل عندها ، أخذت ترفض كل من تقدم لها واحداً .. وراء الآخر !
تتنهد سعاد . تتساءل :
– يجوز تكون منتظرة تتزوج جاسم ؟! يعنى .. هى لمّا الحين تحب جاسم ؟!
يغصّ قلب سعاد بالخوف والقلق هذه المرة .. فإهتمام دلال بجاسم لم يقل ! لم ينته ! بعد هذه السنوات الطوال !! يا الله .. يبدو أن لها ذكريات كثيرة معه ! كما يبدو أن الحب ما زال كامناً راقداً فى قلبها ! حباً لا يُنسى ! لا يُمحى ! لا يتلاشى .. !
تطالع سعاد التليفون الذى ما زال ينقل صوت دلال إلى أُذُن جاسم ، ورمبا إلى قلب جاسم .. ! ذاك القلب الذى كان متعلقاً بها يوماً ما ! نعم .. هذه حقيقة راسخة ! فمهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال لا تستطيع يد وحدها أن تصفق ! لابد وأن دلال قد لاقت قدراً من التشجيع ولو بسيطاً ، لابد وأنها أحست ولو بأقل القليل من مشاعر جاسم ، وإلا لما إستمرت معه كل هذا الوقت !! نعم .. لابد أنه شجعها على أن تبقى تحبه . وتحبه . وتحبه !! تتجاهل الموقف بالحديث مع جاسم عن المستشفى الجديد الذى يزمع تنفيذه ، وعن آخر عملية أجراها ، وآخر أخبار الزمالة التى يوشك أن ينتهى منها ، والتى أخذت من عمره تسع سنوات ، كى يصل إلى هذه المرحلة !
تنفعل سعاد وهى تحاول أن تفتح حديثاً ودوداً :
– ياه .. أيام يا جاسم !! تخيل إيش لون عدّت السنين بسرعة ؟! كأننا واصلين أمريكا أمس .. والحين فاتت كل هالسنين ؟! .. كأنها حلم !!
تتابع سعاد حديثها معه ، كأنها تريد أن تنسيه دلال :
– تخيل يا جاسم .. مين يصدق ؟ مين يقول إنك صار لك الحين ثمان سنوات ؟ أنت وصلت أمريكا سنة 1981 الحين صار لك ثمانى سنوات ؟ مين يقول ؟ مين يصدق إنى أنا صار لى هنا سبع سنوات ؟! والله الأيام تفوت بسرعة .. عساها يا رب تدوم على خير .
تبقى سعاد تحاول وتحاول أن تفتح حديثاً تلو الآخر مع جاسم ، تحاول أن تستعيد الذكريات الحميمة التى تجمعهما معاً ، إلا أنه لا يبادلها الحوار ! تحس كأنها تتحدث مع نفسها ! لكنها تتماسك ! تعود تطيل النظر إلى جاسم ، كأنما تريد أن تستشف ما يدور داخله ، تحاول أن تطمئن قلبها ببعض حوارات خفيفة ، متقطعة ، إلا أن جاسم يختصر الكلمات بقدر الإمكان ، فيخترق الصمت كثيراً من المساحات الزمنية بين الإثنين !!
يختصر جاسم الرد . يبتر الحديث . يفضل السكوت والصمت بعد أن تغيرات نبرات صوته ، ورنّة إحساسه ، وضاع منه الحماس لقضاء وقت أطول مع سعاد . تشعر بذلك سعاد تشعر أن دلال قد تركت ظلالاً من التوتر غطت بظلامها القاتم البغيض مساحات الضوء والأمل والشوق بينها وبين جاسم !
نعم .. لا جدوى ! جاسم يتحدث بحماس وإهتمام مع دلال ، ومع سعاد يتكلم بصعوبة ، ينطق بالعافية ، يجعلها تشعر كأنما تنتزع الكلمات من فمه إنتزاعاً ! كأنه يتكلّف ويتعنّى ليرد على كلامها ، كأنه يريد أن يقطع حوارها كى لا يسمع إلا صوت واحد يريده أن يطرق أذنيه ! وكى لا يصغى إلى لكلمات معينة يحبها أن تدخل قلبه ، تنساب إليه .. عبّر ماض بعيد ، بعيد ، محمّل .. بطيب الذكريات !
تبتئس سعاد .. لا تريد أن تشعر إمتهاناً أكثر من ذلك ! ولا أن تعانى ضيقاً أكبر من ذلك ! فتنهض إلى غرفة نومها ، تتسلل كنسيم سار عليل مريض ، وعيناها سارحتان ، هائمتان فى أفق شاحب ، باهت ، بعيد ، أفق غامض ، مجهول ، رهيب ، تمضى وعقلها شارد . يفكر . ويفكر . أيمكن تكون العملية الجراحية هذه لجدة دلال حيلة من حيل دلال ؟! أيمكن أن تكون مجرد عذر للإتصال بجاسم وإيجاد المبرر الكافى للإقتراب من جاسم ؟! آه .. تقول سعاد لنفسها :
– أنا ما أستبعد شئ على دلال .. ما فى شئ يصعب عليها .. دلال جريئة .. قوية .. تعرف شلون توصل لكل ما تريد .. نعم .. لكل ما تريد !
هنا .. عند هذه النقطة الخطرة من التفكير ، تشعر سعاد دواراً خفيفاً وخوفاً ثقيلاً
يُجثم على قلبها ، يقطع أنفاسها ، فتظل تتقلب مخنوقة فى فراشها ، مسهدة طوال ليلها ،
لا يأتى النوم عندها ، فهى قد دخلت السرير دون أن تشعر بالنُعاس ! لم تحتمل إطالة
الموقف الجارح الذى شعرته عندما شرد جاسم بعيداً عنها ، وإرتحل سابحاً فى حور الذكرى مع دلال .. !!
لم تحتمل إهانة أكثر من ذلك ، لم تستطع أن تفعل شيئاً آخر غير ذلك ، لم تعد
تطيق أن تحس إحباطاً أفظع من ذلك ، وهى تجلس إلى جوار جاسم تشحذ منه الكلمة ، تستجدى منه الإهتمام ! لا .. هذا شئ كثير عليها . هذا شئ لا يحتمله ولا ترضاه ولا تقبله .. لا تقبله !
تبقى تتقلب فى الفراش مؤرقة بلا نوم ولا نُعاس يعرف طريقه إليها ، فى حين يظل جاسم مسهداً هو الآخر ، يحملق فى القمر الذى يتابع مسيرته الساحرة بين السحب الساهرة ، كأنما يراه لأول مرة منذ زمن طويل .. طويل .. طويل !
يطفئ جاسم ضوء الأباجورة الصينى الموجودة بجواره على الطاولة الصغيرة ، المصنوعة من الخشب الهندى الغامق اللون ، المحفور باليد على هيئة ورق وعناقيد عنب ، وهو يتمنى لو كان يستطيع السفر الآن .. فى هذه اللحظة بالذات ، إلى بلاد الشرق حيث الحرارة ، والحنان ، والسحر ، والفن ، والجمال ، والدلال !
يظل جاسم ممداً على الكنبة فى غرفة المعيشة . يبقى شاخصاً ببصره إلى
السماء . يبات راقداً لا يغير مكانه ، وهو يشعر بملل من حياته ، ورغبة عنيفة فى الغياب
عن هذا المكان الفاتر ، لكنه لا يقوى على ذلك بعد أن أصبح رافضاً للحركة والنهوض والإهتمام !
يمضى الليل طويلاً ، بطيئاً ، بطيئاً ، عليهما هما الاثنين ، وما أن تمضى ساعتان
أو ثلاثة ، إلا وينهض جاسم يبدل ثيابه على عجل ، خارجاً من البيت بسرعة ، حيث
يذهب إلى المستشفى ، للإطلاع على آخر التقارير الطبية ، المتعلقة بحالة جدة دلال
الصحية . !
تمارس الأيام هوايتها فى الرحيل والترحال ، بلا جديد تحت الشمس ، ولا قديم تحت القمر .. ولا مثير فى الليل وى فى النهار ، فالأيام كما هى باردة ، ماسخة ، لا حرارة فيها ولا طعم ! كل يوم يمضى كسابقه ، بلا حماس ولا إنفعال .. إنما هى أياماً متشابهة .. أياماً تستمر كما هى دون إضافة فى الشعور ، أو فى الحدث ، أو فى الفعل ، كل شئ يمضى كما هو ، كما هو ، بلا طعم ، ولا حس ، ولا حماس .. ولا تأثير !!
لم تعد سعاد تملك أن تمنع نفسها من الشعور بالضيق ، والألم ، والمعاناة ،
من ظهور دلال فى حياة جاسم مرة أخرى ! كانت سعاد على يقين من أن هذا التغيير الجديد الذى طرأ فجأة على جاسم ، لم يكن إلا بسبب دلال ، وظهور دلال ، ومكالمات دلال !! يا الله ماذا تفعل ؟ ماذا تفعل ؟! كيف تصحح الوضع ؟! كيف تخلص من دلال ؟! كيف تسترد جاسم ؟!
يشتعل الموقف فى قلب سعاد ، حين يتجمد موقف جاسم الفاتر البارد من سعاد ! حتى يكاد أن يصبح جداراً ثلجياً شفافاً فاصلاً بين الزوجين المحبين العاشقين ..! تأسو سعاد لنفسها . تكاد تشكو . لكنها لا تعرف لمن تشكو إبتعاد جاسم عنها وتجنبه لها ؟! آه .. إنها تمقت صمته وتباعده عنها .. ذاك التباعد الذى يتلف أعصابها ويكاد أن يدمرّ عقلها ! فماذا يمكن أن تفعل ؟ ماذا يمكن أن تقول ؟
آه .. الموقف يزداد خطورة يوماً بعد يوم ، ودلال تزداد إقتراباً من جاسم ساعة بعد ساعة ! العدو يتربص بالهدف . لابد من الدفاع عن النفس . لابد من الدفاع عن
النفس . لابد من الهجوم . فخير سياسة للدفاع هى الهجوم . لابد من إتخاذ موقف عاجل فورى .. وسريع .. !!
تنتظر سعاد . لا تنام . تبقى تترقب عودة جاسم من المستشفى ، لا يهم .. ينتصف الليل أو لا ينتصف . لا يهم .. المهم أن تلتقى بجاسم ، أن تجلس معه ، تحدثه ، تخبره بما تريد . يعود جاسم فترحب به سعاد بحب ، بشوق ، تجلس تحادثه ، تسامره ، وهى تبتسم إبتسامة حانية ، تقول له وهى تقرأ بطاقة أنيقة فى يدها :
– جاسم .. شركة الحقول الذهبية للإستثمارات العقارية دعت لحفل إستقبال فى فندق ” إستوريا ” فى ” نيويورك ” .. يوم الجمعة الموافق 18/8/1989 أى بعد ثلاثة أسابيع من الآن يا ليت نقدر نروح سوا يا جاسم ؟!
لكن .. يرفض جاسم ! لا يستجيب لدعوة سعاد ! لا يبدى أى إستعداد ، لكنها
تتحايل عليه كى يسافرا معاً ، تلّح عليه أن يقبل . تكاد تتشقق من الفرحة وهى تقول له أن حفل الإستقبال هذا ، سوف يكون فى نفس الفندق الذى أمضيا به شهر العسل ، وستكون
هذه فرصة رائعة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معاً فى نفس المكان الذى شهد بداية
حياتهما الزوجية !! تظل سعاد ترجو جاسم وتلح عليه كى يوافق ، تستحلفه أن يقبل وهى تقول له فى تأثر :
– واللى يسلم عمرك يا جاسم توافق .. إحنا صار لنا مدة طويلة ما رحنا هناك .. ياللا نتفسح شوىّ فى مانهاتن .. أنا حاسة أننا محتاجين فترة راحة إحنا الاثنين .. أرجوك يا جاسم توافق .. أرجوك .
تظل سعاد تلح وتلح على جاسم لتلبية هذه الدعوة الهامة ، خاصة وأنها تأتى فى عطلة نهاية الأسبوع ، وهو يقدر أن يضعها فى جدوله من الآن .. تفرح أخيراً بموافقته وتعتبرها فرصة مناسبة جداً لقضاء بعض الوقت الممتع معاً ، وحدهما .. حيث يستعيدا ذكريات شهر العسل الممتزج بالحب فى ” نيويورك ” دون إصطحاب الأولاد معهما ، فالمربية هى التى ستتولى تنفيذ البرنامج الترفيهى الذى ستعّده سعاد لهم فى عطلة نهاية الأسبوع .
تتنهد سعاد فى سرور وإرتياح :
– آه .. يا ليت ترجع هذه الأيام الحلوة .. يا ليت نعيشها مرة ثانية !
لكن .. مرة أخرى يحاول جاسم أن يتهرب ! أن يعتذر بلباقة ! لكن سعاد لا تترك له مجالاً للتردد أو الإعتذار ، خاصة وأنها فى حاجة إلى الراحة والإسترخاء بعد عناء العمل ، تؤكد له أنه هو أيضاً فى حاجة ماسة إلى الراحة والتغيير كى يجدد نشاطه وحيويته ، خاصة وأن الامتحانات النهائية باتت على الأبواب .
أخيراً .. أخيراً جداً ، يوافق جاسم ، فيركبان الطائرة فى رحلة قصيرة لا تزيد عن النصف ساعة . يدخلان جناحهما بالفندق الفخم الكبير . يبّدلان ملابسهما . ثم يخرجان فى جولة حرة فى ” نيويورك ” .
كان الجو بديعاً والشمس مشرقة والحياة هنا حافلة بالضجيج .. مزدحمة بالناس والسياح الذين يلتفون حول محلات الآيس كريم والذرة المنفوشة ، والسندوتشات الساخنة ، والمطاعم ، والمقاهى ، وشباب من جميع أنحاء العالم يرتدون إل ” تى شيرت ” ” والجينز ” ، وضجيج سائقى التاكسى فى ” نيويورك ” لا ينقطع .. حياة ذات إيقاع صاخب . مرتفع . مرتفع !
تشعر سعاد بالبهجة وهى ترى علامات السرور مرتسمة على وجه جاسم ، تعود الذاكرة بها إلى الوراء منذ سبع سنوات تقريباً ، عندما وطأت قدماها أرض ” نيويورك ” لأول مرة فى حياتها .. كان كل ما تحلم به وقتها هو رؤية جاسم ومشاهدة جاسم والإقتراب من جاسم ! وها هى الآن تسير بجواره فى شوارع ” نيويورك ” ، وهو زوج لها ، وأب لأولادها الثلاثة أحمد وأنوار وراكان .
– الحمد لله .. الحمد لله .. الله يحفظه .. الله يخليه .. الله يطول عمره .
تمشى سعاد إلى جوار جاسم وهى تكاد تقفز قفزاً من فرط الفرح والنشوة والسرور ، فهى لا تستطيع أن تخفى حبها الكبير له ، فهو حلم حياتها ورجل عمرها وزوجها وكل شئ بالنسبة لها .. ! تنسى سعاد نفسها . تنسى ما ورائها . فقط . تريد أن تبقى بجوار جاسم تنعم بصحبته ، تسعد بوجوده ، خاصة وأنه قد صار له وقتاً طويلاً بعيداً عنها .. مشغولاً بأشياء أخرى كثيرة غيرها ..!
تستمتع سعاد كل الاستمتاع بصحبتها لجاسم فى هذا الوقت ، تتمنى أن تتمدد الساعات وأن يتوقف الزمن ، لكن .. ينظر جاسم فى ساعته ، ينّبه سعاد إلى وقت الرجوع إلى الفندق قد حان ، لأن موعد الحفل الكبير لم يبق عليه إلا ساعة واحدة ! آه .. تفاجأ سعاد أن الوقت هكذا ، مرّ سريعاً ، سريعاً ! يتجهان عائدين مباشرة إلى الفندق ، كى يستعدا لحفل الاستقبال ، وليأخذا دشاً سريعاً ، ويبدلان ثيابهما .
ترتدى سعاد ملابسها الأنيقة ، ينتهى جاسم من عقد ربطة عنقه الحريرية الفاخرة ، يتجهان إلى قاعة الإستقبال ، حيث يرحب مدير الشركة بسعاد وزوجها وهو يقدمهما إلى زوجته على أنهما :
– مسز السالم وزوجها مستر السالم !
تبتسم سعاد فى حرج . تلفت نظر السيد المسئول عن حفل الاستقبال فى هدوء
إلى أن اسم زوجها مستر الناصر ، وليس مستر السالم ، موضحة له أن من عادات العرب
أن تحتفظ الزوجة بإسمها وبلقب أبيها ولا تحمل إسم زوجها بعد الزواج . يعتذر مدير الشركة مبتسماً لجاسم عن ذلك الخطأ غير المقصود وهو يدعوهما إلى الدخول ، والإلتحاق بالضيوف .
تدخل سعاد القاعة الواسعة فتلفت الأنظار إليها ، بإعتبارها واحدة من كبار أصحاب الأعمال ، فى مجالات الاستثمار العقارى ، خاصة وأنها صغيرة السن جداً ، مقارنة بهم ، بالإضافة إلى كونها جميلة جداً ، وجذابة جداً ، وأنيقة جداً ! تتكلم سعاد .. تتحرك .. والأضواء تسقط على وجهها الجميل وقوامها المثير ، تحيطها كل وسائل الإبهار والإثارة التى تؤهلها لخوض لعبة الحياة العصرية بموهبة ومهارة !
وكعادة الأمريكان فى مثل هذه الحفلات ، لا تتحدث سعاد مع مجموعة واحدة ، ولا تقتصر على التواجد بين مجموعة واحدة ، بل تنتقل من مجموعة إلى أخرى ، ويأتى رجال وسيدات من مجموعات أخرى للترحيب بها والحوار معها ، فتنطلق سعاد فى الحديث المتعلق بكثير من الأمور التجارية والاقتصادية المتخصصة ، تلك التى يجهلها جاسم تماماً ، ولا يهتم بمعرفتها نظراً لإنكبابه على دراسة الطب ، والحصول على درجة الزمالة فى جراحة القلب !
يقف جاسم مبتسماً ، ضائقاً ، مختنقاً من هذا الجو المقفل المكتوم ، يشعر بالملل من تكرار سماع نفس الحوار فى مجال لا يعرف خباياه ، كما يجهل آخر أخباره ، يقف ينظر إلى تلك الأضواء الباهرة التى تنير المكان ، كأنما تفقد ضوءها ويخبو نور بريقها ! ينظر جاسم منطفئاً فى ذهق وملل إلى هذا الزحام البشرى الذى تضج به القاعة ، وهو يشعر كأنه محشور فى قمقم معتم مدفون تحت قاع الأرض ، حيث لا يشعر فيه نسمة هواء واحدة ، كما لا يحس داخله بوجود إنسان واحد !
هنا .. فى هذه اللحظة ، يتبادر على الفور إلى ذهن جاسم بريق أضواء أخرى عالية شاهقة ، تنير أرض الملعب وكيف كان يدوى تصفيق الجماهير يكاد يخرق الآذان ، وبريق آلات التصوير يكاد يعمى العيون .. !
يذكر جاسم أيضاً لحظة أخرى هائلة تقتحم عقله الآن ، مشحونة بالتصفير والتصفيق والهتاف والصراخ ، لحظة يختلط فيها هدير الجماهير العاصف بالتصفيق والهتاف المنطلق من فوق المدرجات حيث تحتشد الجماهير تنتفض تطلق الشعارات ، ترفع الأعلام ، وهى تهتف وتغنى وتصفق عند إحراز الهدف .. آه صفير الحكم
يأذن بإنتهاء المباراة .. الهتاف الآن باسم جاسم الناصر يخرق الآذان ، يحّلق فى أعالى الفضاء !!
تتسع إبتسامة جاسم حين يصل إلى هذه النقطة ، لكن .. يقطب عابساً وهو يجول بعينيه فيما حوله ، ثم يعود يحادث نفسه لائماً عاتباً :
– آه .. يا الله .. وينك يا جاسم وهذا التجاهل من هؤلاء الناس ؟ مالك أنت
وهذا الحفل المطفأ الأضواء ؟ شنو تسوى بنفسك يا جاسم ؟ شنو جابك هنية ؟ ليش أنت
جيت هنية ؟ لا .. هذا مو مكانك يا جاسم .. ! هذا مو مكانك يا جاسم ! ياللا .. قوم
يا كابتن .. أخرج .. خلاص .. أطلق الحكم الصفارة .. إنتهت المباراة .. خلاص .. إنتهت .. إنتهت !
فى هذه اللحظة ذاتها .. يحتدم صراعاً عنيفاً بين جاسم ونفسه ، فيبقى طول الوقت صامتاً ! يحاول بصعوبة أن يتماسك ! باذلاً جهده كى يتصبّر على هذا الموقف الصعب العصيب الذى أوقعته به سعاد ..! ففى نفس الوقت تظل تتكرر ، تظل تستمر عدة مرات .. محاولات تعريف مسز السالم .. وزوجها مستر السالم !! فى حين تتابع سعاد محاولاتها اليائسة لتصحيح هذا الخطأ المؤسف غير المقصود الذى بدا أثره واضحاً فوق وجه جاسم المحرج المحتقن !
لا يمضى وقت طويل قبل أن تشعر سعاد بالضيق ، وبأن عليها أن تغادر القاعة ، خاصة وأنها تعلم مدى حساسية جاسم ، ومدى إعتزازه بنفسه ، وبإسم أسرته .. تقع سعاد بالحيرة والحرج ، وهى لا تعرف تخرج من هذا المأزق ! ولا كيف تتصرف أو تتملص من هذه الورطة التى أوقعت نفسها بها ! لكنها فى نفس الوقت تعلم أنها لابد أن تخرج الآن .. فوراً !
تتجه سعاد إلى صاحب الحفل محاولة ألا يشعر جاسم بما تقول أو تفعل ، تخبره فى هدوء وهى تبتسم فى حيرة وحرج أنها تشعر بتعب غير عادى ، تعتذر بصوت خافت خفيض عن الإستمرار فى الحفل ، مع وعد منها أن تتصل به فى أقرب فرصة ممكنة .. تعود إلى جاسم تخبره ، برغبتها فى الخروج من الحفل لشعورها بصداع شديد مفاجئ ، ينظر إليها جاسم بإبتسامة باهتة ، شاحبة .. يوافقها بهّز رأسه صامتاً !!
.. تلتقى العينان فتلمح فيهما سعاد قدراً كبيراً من اللوم والغضب والعتاب ..! حاول جاسم بصعوبة ألا يظهر مشاعره ، كما حاول أن يخفى نقمته وحنقه ، بسبب إصرارها على إحضاره معها إلى مكان .. لا مكان له فيه .. !!
يمضى مسرعاً نحو باب الخروج ، والغضب يسطع فى عينيه المتقدتين ، إلا أنه
كان غضباً بلا كراهية ، حتى أن سعاد تمنت لو أنها ترتمى فى حضنه ، لكنها لم تجرؤ ،
فقد كان يسير طوال ذلك الممر الطويل ، الطويل ، فى صمت مطبق ، دون أن ينطق بكلمة واحدة ..!
.. كانا يقطعانه فى وجود مكتوم ، وسعاد غارقة فى حيرتها ، وحرجها ، وحبها ، وإحتياجها .. فى حين كان جاسم يسير صامتاً ، يشف صمته عن كبرياء جريح ينزف فى أعماقه ، يدور باحثاً عن كيانه ، يثور رافضاً أن يكون فى موقع .. غير موقعه !
الفصل الحادى عشر
بعد .. البعاد !
أيام عديدة مضت منذ عودة سعاد وجاسم من حفل الإستقبال الخاص بشركة الحقول الذهبية ، دون أن يعود جاسم لطبيعته ! ظل عابساً ، متجهماً ، قليل الكلام ، قليل الحركة بلا حضور ، كأنه غير موجود ، كأن جاسم الحقيقى قد اختفى وغاب ، ولم يعد يتبقى منه سوى شبحه ، أو ظله ، أو خياله ، ذاك الذى يتحرك بدلاً منه ، ويروح ويجئ ، فى صمت ، وهدوء ، وسكون !!
وذات ليلة أخبر جاسم سعاد دون تعليق مسبق .. أو أدنى تمهيد ! أنه يوشك على السفر إلى الكويت لحضور مؤتمر طبى سوف يعقد قريباً هناك . وبعد فترة قصيرة يغادر جاسم متجهاً إلى الكويت لحضور هذا المؤتمر الطبى الإقليمى الذى أختيرت الكويت لتكون مقراً له .. وكان دكتور جاسم الناصر واحداً من أبرز الأطباء الكويتيين المتخصصين الذين شاركوا فيه ، وبذلوا كل الجهد لإنجاحه .
وبالفعل .. تتكشف أحداث كثيرة فى الكويت ، تثبت أن جاسم الناصر ، كما كان نجماً لامعاً فى عالم كرة القدم لديه قدراً هائلاً من الإحساس الدائم بالانتصار ، والرغبة الأكيدة فى التمتع بروعة الزهو الذى يعقب تحقيق ذلك الانتصار ! هو أيضاً كوكب يسطع فى دنيا الطب والجراحة !! وها هو يواصل حياته العلمية والعملية بنجاح ساحق منقطع النظير ، حتى يحصل على أعلى قدر من الشهرة كطبيب كويتى شاب ناجح قدير ، زميل جراحى القلب فى أمريكا .
تتسلط الأضواء فى مجالات الإعلام المختلفة على الدكتور جاسم الناصر ، سواء فى الإذاعة ، الصحافة ، التليفزيون ، فيبدو وهو يحاضر فى طلبة كلية الطب . يتكلم . يشرح . يناقش أحدث النظريات الطبية فى مجال جراحة القلب ، يفسر أحدث الدراسات والأبحاث المختصة فى هذا المجال . يحرر أبواباً ثابتة عن تلك النظريات المتطورة ، فى عدد من المجلات العلمية المتخصصة .
يتركز البريق على جاسم فى الكويت ، يتوزع وقته بين الكتابة فى الصحف ، والندوات ، والمؤتمرات ، والمحاضرات ، وبين اللاعبين فى النادى الذين يقومون بحملة إعلامية ضخمة حول شخصية دكتور جاسم الناصر ، كابتن المنتخب الوطنى سابقاً ، طبيب أخصائى جراحة القلب حالياً ، مما يمنحه شعوراً كبيراً بالعظمة ، والزهو ، والتفوق ، والتميز ، وتمجيد الذات !
نعم .. بعد أن استكمل جاسم الدراسة ، وحصل على شهادة الزمالة فى جراحة القلب ، أصبح واحداً من أشهر الأطباء الأخصائيين فى الكويت ، لذا ، بدأت المستشفيات فى الخليج تتابع الاتصال به ، توجه الدعوات له لإجراء عمليات قلب مشابهة ، بعد أن أثبت مقدرة فائقة فى هذا المجال .
و .. قبل أن تنتهى زيارته للكويت ، يقوم جاسم بالكشف الطبى على جدة دلال . يفحص الحالة بدقة . يوضح أنها فى حاجة إلى إجراء عدة تحاليل وأشعات يتقرر بعدها مدى حاجتها لإجراء العملية الجراحية .. تشكره دلال من قلبها بطريقة تدل على أنها مدينة له بهذاالموقف الإنسانى ، وبهذا الاهتمام الكبير بجدتها ! تعلن تقديرها العميق لوقفته معها بطريقة تكشف أنها لا تعرف كيف تخفى مشاعرها ، ولا تستطيع أن تدارى إحساسها به ، واضح فى كل شئ ، أنها ما تزال تحب جاسم ، فهى ما تزال تطلبه فى التليفون ، كما أنها ما تزال عاجزة عن التحكم فى نفسها ، لذا .. تظل تطارده وتلاحقه فى كل مكان يذهب إليه ، كما كانت تفعل تماماً من قبل .. !
.. تمسح دلال دموعها وأوجاعها . تنهض ترتدى ملابس مثيرة جريئة كعادتها . تبدو امرأة جميلة فواّحة العطر ، ناضجة ، ذات تقدير خاص ، فهى تملك من ضروب الفتنة والإغراء ما تحيى به وتميت ، خاصة بعد أن أمتلأ عودها بعد الحمل والولادة ، وبرزت تقسيمات جسدها المثير ، كأوضح ما تكون .. ! تمضى دلال نحو مقابلة جاسم فى مستشفى مبارك الكبير فى الجابرية ، تطوى الزمن فى رشاقة ، تمشى بخطى بطيئة متحدية ، وهى تكره أن تشعر من جديد بالتعاسة ، والحسرة ، والأسى ، بعد أن تذكرت كيف كان حزنها ساحقاً .. حين ترنّحت الأرض تحت قدميها ، بعدما عرفت بخبر زواج جاسم .. وسعاد !!
تذكر دلال كيف كانت صدمتها قاتلة ، كيف كان الخبر بالنسبة لها مدمراً ، تذكر كيف تفجّرت داخلها شحنة الصدمة والمفاجأة .. فحطمتها تحطيماً ! تذكر كيف كانت تتلوى على الأرض من شدة الألم ! تصرخ ! لا تصدق أن جاسم الذى كانت تنظر إليه باعتباره أهم رجل فى العالم صار الحين أقل رجل فى العالم .. ! تذكر كيف كانت تتمرغ فوق الأرض تتعصر . تبكى . وتبكى . وتبكى .. !
آه .. غصباً عليها تذكرت كيف كانت تشعر بالقلة . بالضآلة . بالنقص . حين أخذت تتخاطفها الرياح بعيداً عن جاسم ! تذكر كيف كانت تحاول أن تحافظ على توازنها ، لكنها .. ، رغماً عنها ، كانت تسقط . تقع . ترتطم بالأرض بقوة !
.. تدق دلال باب الغرفة المغلق بأطراف أصابعها ، تسمع صوت الممرضة تطلب منها الانتظار قليلاً ، لكنها ، كعادتها ، لا تصبر . تلوى المقبض . تفتح الباب . تدلف إلى الغرفة مندفعة ، ومنها بهدوء إلى غرفة أخرى جانبية متصلة بها ، حيث ترى جاسم جالساً على المكتب ، منهمكاً فى قراءة بعض الأوراق أمامه ، فلم يشعر بدخولها ، تقف دلال صامتة . تنطلق عيناها . ترقص . تنطلق ترتمى فوقه ، تضمه ، تحتضنه ، تقبل كل ذرة فى كيانه .. وروحها تهفو ، تدنو من مكانه :
– آه .. بعد هذا العمر .. جاسم الحين قدامى ؟! ما أصدق .. ما أصدق !
يشعر جاسم فجأة بوجودها ، كأنما إخترقته سهام نظراتها ، يقف مرحباً مسروراً مبهوراً بحضورها ، تدنوا إليه ، عيناها فى عينيه ، تسلم عليه ، تمسك كفه بيديها ، تقبض عليه بشدة كأنما تخشى أن يفلت منها ، بينما تقاوم رغبة جامحة دافعة للإرتماء بين ذراعيه ، والبكاء على صدره .. والبوح بحبه .. وإبداء الشوق إليه .. !
بحركة سريعة خاطفة يسحب جاسم يده منها ، يقدم لها مقعداً ، وهو يبتسم فى وجهها بحرارة ، فاتحاً موضوع مرض جدتها ، شارحاً حالتها الصحية بعد أن أتطلع على ملفها الطبى الموضوع أمامه الآن ، يطمئنها أن لا خوف عليها ، يؤكد لها أن الموضوع ليس خطيراً كما تطن !
تجلس دلال أمامه وهى تضع ساقاً على ساق .. وتبدأ تنازل جاسم عاطفياً ، فترنو إليه بشوق جامح لا يكبحه تجاهل جاسم ، تطل عيناها تبحث عن عينيه ، تزرع فيهما عشقاً جانحاً إليه ، وفيهما نفس البريق الأخاذ الذى أشعل الحب فى قلبه زمناً .. لكنه توارى فى الرماد .. فهل تندلع فيه النيران مع هذا اللقاء الجديد .. ؟ تقول هامسة بالقرب من أذنيه :
– وحشتنى يا جاسم .. وحشتنى .. وحشتنى .
يتعامى جاسم عما يرى فى عينيها ، يتشاغل عما يسمع من همس شفتيها ، يهم بشرح الموقف الصحى لجدتها ، يتجاهل حركات الشوق والشغف التى تحاول أن تبديها ، فهى بالنسبة له امرأة جاءت من ماضيه ، من علاقة حب ساخنة توقفت فجأة .. وتزوج هو بعدها وقنع بحياة أسرية هادئة .. لذا ، يقاوم دلال رافضاً عواطفها المتاحة ، ويشرح لها مفسراً التقرير باختصار شديد :
– سمعى دلال .. ترى أنا راح أسوى العملية لجدتك بنفسى فى الوقت المناسب .. أحسن ما نستعجل يا دلال .. ما فى داعى للخوف .. صدقينى .
تحاول دلال أن تطيل اللقاء .. تظل تحلم بالحب الواعد بالاستمرار واستكمال الماضى فى الحاضر ! هى تستخدم الحين كل الوسائل الممكنة لتكسب هذه الجولة ! لا يهمها أن تسرق حلم مستقبل سعاد ! لا .. بل هى تريد أن تنتقم ، فهى تعلم أن سعاد خططت لسرقة جاسم منها ، وعاونتها ليلى فى ذلك !! إذن .. المهم .. من يكسب الجولة الآن ؟!
تستمر دلال فى حوار مستميت ، تحاول خلاله إقناع جاسم بضرورة إجراء العملية لجدتها أثناء وجوده بالكويت .. لكنه .. يصرّ على رأيه ، يطلب منها أن تنتظر حتى تظهر نتائج الفحوص والتحاليل والأشعة ، على أن توافيه بها كى يستطيع متابعة الحالة أولاً بأول ، وكى يكون على علم بوضعها الصحى بعد إنتهاء المؤتمر ، وعودته إلى أمريكا .
آه .. عودة إلى أمريكا !! تتنهد دلال حزينة محسورة ، تناجى نفسها ، وهى ما تزال تطالعه بعينين ينبت فيهما شوقاً عاشقاً زاهراً عاطراً :
– آه .. قمت تتكلم عن السفر من الحين يا جاسم ؟!
فجأة تحس دلال الموقف قاسياً . عنيفاً . فوق طاقتها . فتنكمش كالقنفد . تتكور على نفسها ثم تعود تنتفخ . تتضخم . كأنها .. تشحذ كل أسلحتها ، وتستعد لشّن معركتها ، بعد أن ثارت ثائرتها وهى تحس أنها تكاد أن تفقد كرامتها ، وكبريائها ، وجاسم يتعامل معها بتجاهل ورفض ، وهو يقول لا .. لكنها هى لا تقتنع إلا بنعم ! نعم .. لا تقتنع دلال بمنطق الرجل الأب المسئول المتزوج الذى يوحى به جاسم الحين لها .. لا .. إنه يجرح أنوثتها .. إنه يحرجها .. إنه يهينها !
– آه .. لو واحد ثانى غيرك يا جاسم هو اللى يتكلم الحين لخنقته بيدى وقطعته بأسنانى آه .. أنت ما تعرف يا جاسم شنو يسّوى كلامك بقلبى .. !!
تسرح دلال فى خواطرها ، فيخفق قلبها بشدة ، متأثراً بأحاسيس حب عنيفة جارفة ، لم تزل تتفاعل فى أعماقها ، تحرك مشاعرها ، تهز إحساسها ، فتستدير نحو جاسم باسمة ، تقول له راجية مستعطفة بلهجة ضعيفة واهنة ، وقد إنطلقت نظرة توسل تتسلل من عينيها الجميلتين الجذابتين اللتين ترسلان حباً وعشقاً وهياماً ، ينساب برفق إلى قلب جاسم .. فتتحرك مشاعره ، تسلب منه القدرة على المقاومة والرفض .. بعد أن رأى على وجهها الجميل مسحة من المسكنة والضعف ، وهو يسمعها تقول :
– أرجوك يا جاسم تعالى عندنا شوف جدتى .. ترى هى مريضة وايد .. حالتها صعبة .. وما نقدر نأخذها المستشفى ونردها ثانى بنفس اليوم .. تعب عليها .. ما تتحمل .. يا ريت تقدر تيجى يا جاسم تفحصها بالبيت .
لا يملك جاسم إلا أن يوافق ، صراحة .. لم يتردد لحظة واحدة فى الذهاب معها على الفور ، وقد إجتاحه شعور عارم بالشفقة نحوها دلال أخذ يتدفق فياضاً فى قلبه ، فهو يعرف ظروفها الصعبة القاسية ، كما يعرف إن الحياة تنزل فوق رأسها كثيراً من المحن والمصائب ، مما جعله يقول راضياً :
– ما يخالف .. بس نروح الحين الآن ما عندى ساعة واحدة فاضية .. غير هذه الساعة يا دلال .
يخرج جاسم من المستشفى ، يركب سيارة دلال التى تنطلق به مسرعة إلى بيتها ، فى نفس اللحظة التى تصل فيها ليلى إلى المستشفى لتقابله ، كى تلح عليه أن يأتى معها إلى البيت لتناول طعام الغداء ، بعد أن عجزت عن العثور عليه تليفونياً !
تلمح ليلى جاسم ودلال معاً فى سيارة دلال ! فتصاب بدهشة عارمة ، تستشيط غضباً وحنقاً وثورة ، على تلك الملعونة التى ما يهمها أحد فى الدنيا إلا نفسها !! بدون تفكير تقود ليلى سيارتها خلفهما ، تتبعهما عن بعد ، وهى تكلم نفسها عاتبة على جاسم تورطه هذا مع دلال وتفضيلها عليها .. !
– آه .. الحين صار عندك وقت كافى للخروج مع دلال يا جاسم ؟! وأنا .. ليلى .. أختك .. أظل أتحايل عليك عشان تيجى تتغذى معانا بالبيت تقول لى مشغول .. ما أقدر !
فى الحقيقة كان جاسم مشغولاً فعلاً ، ومرتبطاً بمواعيد كثيرة فعلاً ، فعنده ندوات ، ومؤتمرات ، ومحاضرات ، إلا أن ليلى لم تصدق كلامه ، أحست أنه ما يزال يفضّل دلال عليها وعلى أمه وعلى أبيه !! فازداد غضبها ، وحنقها ، وأخذت تقول لنفسها ثائرة :
– آه .. الحين فهمت كل شئ .. أنكشف كل شئ .. هذه الملعونة ما تيأس أبداً .. بعدها قاعدة تحاول تلعب على جاسم .. هى ما تبى تتركه فى حاله .. ولا راح تخليه يلتفت لزوجته ولا عياله !!
تظل ليلى تكلم نفسها وهى فى قمة الغيظ من دلال ، إلى أن تبدأ تتساءل فى دهشة:
– إيش تبى هى الحين من جاسم ؟! ليش تحوم حوله مرة ثانية بعد ما تزوج وصار أب لثلاثة عيال ؟! إيش تبى منه ؟! تريد تكون زوجته الثانية !! عشان تحرق قلب سعاد وتقهرها ؟!
يشتعل فى قلب ليلى الكره والبغض والغضب من دلال ، تمتزج هذه المشاعر كلها داخلها ، فتثور فى أعماقها ، تصطخب عواطفها ، تضطرب أفكارها ، يرتج كيانها ، فهى فى الحقيقة لم تكن تتوقع أبداً أن يستسلم جاسم لها بكل سهولة هكذا ، ولا أن يخضع لرغبتها بهذه السرعة ، ويستسلم لإرادتها بهذا الشكل ! لم تكن ليلى تتخيل أن يقبل جاسم الركوب معها فى سيارتها !! فتقول لنفسها :
– الحمد لله أنى ما عرفت أصيده فى التليفون .. ما صبرت على هذه الاجتماعات اللى كان مشغول فيها .. وإلا ما كنت جيت بنفسى وشفت اللى صار .. الله أراد لى أشوفهم بعينى عشان أكشف أمرهم وأتدخل فى الوقت المناسب !
تتأكد ظنون ليلى وشكوكها ، بعد أن ترى عن بعد سيارة دلال واقفة أمام بيت أمها !! تعرف أن جاسم ما زال موجوداً بالداخل ، فتستشيط غضباً . ورفضاً وبغضاً .. !
تقود سيارتها مسرعة عائدة إلى البيت ، وعفاريت الدنيا كلها تقفز أمام عينيها .. تمضى تسب وتلعن هذه الشيطانة الطائشة التى لا تعييها الحيل ، ولا تكفّ عن الألاعيب .. ! ترفع التليفون وهى فى قمة إنفعالها ، وعدم سيطرة على نفسها ، تطلب سعاد تخبرها بما رأت .. وتقول لها أين .. يوجد .. جاسم .. الحين !!
الفصل الثانى عشر
وداع و .. عناد !
تجلس دلال تبتسم فى فرح وهى تحس إنتصاراً مؤقتاً لقبول جاسم دعوتها لزيارة بيت أمها ، تشعر أنها قد أتت إنجازاً هائلاً بإحضاره عندهم لفحص جدتها ! تظل تنظر إليه ، تتأمله ، تلتهمه بعينيها النهمتين ، وهو جالس عندهم فى غرفة الإستقبال ، فتلاحظ بعض شعيرات بيضاء ظهرت خلال شعره الكث الغزير ، كما تلاحظ إزدياد وزنه وتضخم قامته ، ووضح سمات رجولته ! لم يعد جاسم شاباً طائشاً . أصبح رجلاً ناضجاً ، لكن .. لا .. جاسم لم يعد هو جاسم ! شئ فيه تغير ! شئ فى أختلف ! شئ ما خبا فى بريق عينيه ! تلمح دلال فى نفس الوقت نظراته الشاردة ، الساهمة ، تحس أن شيئاً ما فى أعماق جاسم قد إنطفأ ! إنطفأ !
تقترب منه وقد رسمت إبتسامة واسعة مشرقة على وجهها ، تحاول أن تجسّد بالحوار ذكريات الماضى البعيد . يفهم جاسم قصدها . يتجاهل محاولتها الواضحة . يتغاضى عن هدفها ، يكلمها عن الطب والجراحة ، يزيد من الأسئلة ، مستفسراً عن حالة جدتها المريضة ماذا تشعر ؟ ماذا تأكل ؟ كيف تنام ؟ متى ترتاح ؟ إلى آخره .. إلى آخره .. إلى آخره !
فى الحقيقة دلال تشعر دوماً بالنشوة ، بالانتعاش ، فى وجود جاسم ، كما تشعر بالأمان فى وجود جاسم ، أمان من الوحدة ، من الحياة ، من العالم القاسى حولها ! وجود جاسم إلى جانبها يحميها من مخاوفها هى نفسها ، يكون سنداً لها ، لذا لا تستطيع أن تتحكم فى حركاتها ، لا تستطيع أن تدارى أهدافها ! .. تقترب من جاسم مسلّطة عليه أنوثة صارخة ، وجمال ساحر فريد ، يجعل الرجل يشعر معها كأنه طفل كبير !
فى الواقع .. هدف دلال الدائم هو فوزها بجاسم ، الذى تحبه ، وتفتخر به ، وتتمنى أن يصبح يوماً أباً لطفلها ، طفل قادم سعيد يعيش بين أبوين عاشقين .. نعم .. كانت دلال تسعى دوماً لأن تشعر بالاستقرار . بالأمان . بالاحترام . بالمركز اللائق فى المجتمع الذى يتيحه لها الارتباط بجاسم ! لذا .. تعّبر بسهولة تامة عن فرحها به ، وشعورها بالسرور إلى جواره ، إنها لا تنتقى الكلمات ، إنها تقول كل ما تشعر ، إنها تبوح بكل ما تحس .. !
أحياناً .. تأتى تصرفاتها طائشة ، وهذا ما جعل جاسم يتعلق بها أكثر . يشفق عليها أكثر . يسعد بوجودها أكثر .. وأكثر ! بالتأكيد دلال خائفة من المستقبل ، قلقة على الحاضر ، تفكر فى مأساة الماضى ، ومساوئ الماضى ، ولا تستطيع أن تحس بالراحة والهدوء ، فليس لديها أدنى إحساس بالأمان بعد أن غدر بها جاسم .. فهى تشعر إن جاسم رجل له مستقبل .. وإنها امرأة لها ماضى ! فتحزن وتحزن !!
إنها منذ تلك اللحظة المشئومة ، تدمع ! هى ليست مرتاحة فى حياتها . فالمستقبل غير مؤكد . بل مجهول بالنسبة لها . المستقبل مخيف . مخيف . فهى لا تستطيع أن تحب رجلاً آخر غير جاسم .. كانت هذه الفكرة ضمن خواطرها التى تؤرقها ، وكان هناك يقين عميق لديها أنها لا تستطيع أن ترتبط عاطفياً بعمق قلبها ، بكل مشاعرها ، بإنسان وى جاسم !
فى الحقيقة .. رغم أنها عاطفية . مندفعة . تهتم بالعواطف . فى حالة إنفعالية دائمة . وقادرة على إظهار عاطفة مبالغ فيها أحياناً ، لأنها شخصية ذات شعور متدفق ، ذات حيوية بالغة ، إلا أنها فعلاً تحب جاسم . تحب جاسم .. من أعماق أعماق قلبها !
فى بعض الأوقات ، لا تستطيع دلال أن تدير حياتها دون الاعتماد على الآخرين فى تدبير شئونها . فى أوقات كثيرة هى سلبية . سلبية . لذا كان لأمها دور كبير فى إدارة حياتها ، فهى صاحبة الرأى وصاحبة القرار . لذلك .. ترتبط بها دلال إرتباطاً شديداً ، هى تحبها لاشك ، كما تحب جدتها وتدعو الله أن يمّن عليها بالشفاء .
كانت الاثنتان ، الأم والجدة تدعوان الله ليل نهار أن يرزق دلال بابن الحلال الذى يسعدها . يرعاها . يطمئنها ، وأن يحافظ عليها وإبنتها الصغيرة الحبيبة دانا . كانت أم دلال وجدتها تتعجبان من كثرة المحيطين بدلال . المعجبين بها الذين يقعون تحت تأثير سحرها ، وجمالها ، وكانتا تتعجبان أكثر وأكثر من كثرة هؤلاء الخطّاب الذين يتقدمون لها ، والذين كانت ترفضهم دلال .. واحداً .. تلو الآخر !!
ذات يوم صرخت أمها فى وجهها ، ثائرة ، وهى تكاد تفقد عقلها :
– إنسى جاسم يا دلال .. إنسى هالملعون اللى حطم حياتك وخلاك ما تشوفين رجال غيره .. لحد أمتى يا دلال وأنت قاعدة تنتظرينه ؟ تعتقدين جاسم راح يخلى زوجته وعياله ويحيك إنت يخطبك .. ويتزوجك ؟! .. لا .. دلال .. إصحى .. إصحى لروحك وديرى بالك على نفسك .. ترى الأيام تجرى بسرعة والسنين تركض والإنسان ما يحس فيها .. شبابك راح يولى وإنت بعدك قاعدة مكانك تنتظرين جاسم ؟!
هذا الموقف كان يتكرر فى كل مرة يتقدم لدلال فيها عريس جديد ! فيستمر الصراع عنيفاً صاخباً بين الأم وإبنتها ! ويستمر الحوار بين دلال وجدتها ، وكل إمرأة فيهما تحاول أن تقنع دلال بضرورة الزواج . لكن .. بعد أن تتضخم المشكلة ، ويستمر الرفض ، تعرفان أن دلال فى حالة إنتظار وترقب لعودة جاسم .. الذى أبدً لن يعود .. لن يعود !
الجدة بالذات متشائمة ، هى واثقة أن جاسم لن يخلى زوجته وعياله ويهدم أسرته ، ويهّد بيته من أجل دلال . هى دائماً تقول :
– والله جاسم لو كان يبى يتزوجك يا دلال لكان تزوجك من زمان .. وكان الحين عندك منه عشر عيال .. إصحى يا دلال .. إصحى .. قومى شوفى حالك .. قومى .
فى أحيان كثيرة جداً ، لم تكن دلال تهتم حتى بمجرد الرد ، كانت تكتفى بالصمت . والصمت . والبكاء . فهى فى الواقع تعرف أنها تثير شفقتهما ، وأنها أحياناً تبتز مشاعرهما بضعفهما ، وإستكانتها ، ويأسها ، وحزنها ، لذا لم تكن تريد أن تشعرهما بالذنب أكثر من ذلك ، أو التقصير فى إعطائها النصيحة أكثر من ذلك . كانت تسكت . تصمت . وتبقى على مستوى اللاشعور فى حالة حب دائم لجاسم . وحزن دائم لبعاد جاسم . وإنتظار متصل لجاسم ! وأمل مستمر فى أن يعود جاسم !
تنظر دلال إلى جاسم فى تمعن . تتفرس ملامح النضج والرجولة التى أخذت تزحف بفحولة على وجهه ، وجسده .. ثم تنهض . تختفى داخل إحدى الغرف وتعود فى يدها علبة صغيرة جميلة ، تقدمها لجاسم ، وهى تمعن النظر فى ملامحه وتظل تعيد النظر إليه فى شقاوة وتركيز ورغبة مكتومة وهى تقول :
– كل عام وأنت بخير .. عقبال مائة سنة يا جاسم ..
يتعجب جاسم ! يقول فى دهشو غلبها تأثر شديد :
– أنت للحين يا دلال تذكرين عيد ميلادى ؟!
تستدير إليه دلال ، تقترب منه ، وقد وضحت على وجهها ومضة من العشق والشغف والهيام تقول له بلهجة عميقة واثقة :
– أنا عمرى ما نسيتك يا جاسم .. عمرى ما نسيت لحظة واحدة قضيتها معاك .. ولا نسيت أى شئ يخصك .. إيش لون أنسى عيد ميلادك ؟!
تتنهد دلال تنهيدة حارة لافحة حارقة :
– آه .. أنت ما تعرف قيمة نفسك عندى يا جاسم .. أنت للحين ما تدرى غلاتك عندى يا جاسم .. !
تتوه دلال فى ماضى ذكريات ، تحس حيالها حنيناً حبيباً يفيض بين حنايا كيانها ، تبتسم فى أسى ، وهى تهمس بكلمات سمعها جاسم بصعوبة :
– آه .. وين أيامنا يا جاسم .. ترى الأيام اللى تروح عمرها ما ترد .. ما ييجى مثلها أبداً !
تبقى دلال تنظر إلى جاسم ، الذى أتم اليوم عيد ميلاده الرابع والثلاثين ، والذى تحس أنه قد تجاوز هذه السنين بكثير ، فهو يبدو الآن أكبر من عمره الحقيقى ! تعود تنظر إليه خائفة من الفراق المرتقب ، والوداع المنتظر ، والسفر القريب الذى أوشك أن يحين ميعاده بعد ساعات .. فاليوم السبت 28/10/1989 ، عيد ميلاد جاسم الرابع والثلاثين والذى شاءت الصدفة وحدها أن يأتى بيت دلال ، وأن يمضى ، بعض الوقت ، فى هذا اليوم بالذات .. مع دلال !
كانت هذه وحدها مناسبة عزيزة عظيمة بالنسبة لدلال ، كلا تعبّر لجاسم عن حقيقة حبها ، وأن تظهر له إهتمامها ، وكيف أنه دوماً محور تفكيرها ، ومركز حياتها !
– آه .. جاسم راح يسافر .. راح يغيب ثانى .. ؟!
كانت دلال تعلم إن جاسم مسافر غداً ، الأحد 29/10/1989 إلى أمريكا ، إلى سعاد ، بعد أن انتهى المؤتمر الطبى الذى اختتم أعماله أول أمس .. كانت دلال تعلم أنه بعد سفر جاسم ، سوف تعود تتكوم مطحونة من الوحدة ، مسحوقة من الحزن ، آه .. كانت تعرف أنها سوف تعود تئن فى صمت كل ليلة حتى طلوع النهار .. ! فهى تحب جاسم ، تعشق جاسم ، كما تكره الفراق والوداع ، تخاف الرحيل والسفر ، فمنذ تركها جاسم أول مرة وهى تمقت تلك الأوقات ، الممزوجة بالعذاب ، آه .. هذه المرة أيضاً .. لا مفر من الفراق .. لا مفر من الفراق !
ينظر جاسم نحوها . لا يستطيع أن يقول شيئاً . أو يضيف شيئاً . ينهض واقفاً يشكرها على هديتها بعد أن طرأ فى باله عيد ميلاد إبنه أحمد ، الذى وافق يوم الخميس الماضى ، فيؤكد لنفسه ضرورة شراء هدية حلوة يقدمها له عند عودته .
للأسف .. لم يتذكر جاسم هذا التاريخ ، تنّدم لأنه لم يتصل بأحمد يهنئه بعيد ميلاده السادس . نسى ذلك تماماً ، فقد كان مشغولاً جداً يوم الخميس بالذات فى جلسة ختام المؤتمر ، التى تكدّست فيها عشرات الأعمال ، والنتائج والتوصيات ، يأسف جاسم كل الأسف على إرتكابه هذه الغلطة غير المقصودة ، يقرر بينه وبين نفسه أن يصلح هذا الخطأ بعد عودته ولقاء أحمد ..
– أكيد هو زعلان منى وايد الحين .. ؟!
يستغرق جاسم فى التفكير فى ترضية ابنه البكر ، فينهض يودع دلال ، يشكرها على كل شئ .. يشكرها على إهتمامها وعنايتها ، وقبل أن يخرج يطمئنها على صحة جدتها التى كشف عليها فور وصوله .. وقبل أن يغادر البيت ، يدخل يسلم عليها داخل غرفتها ، هى وأم دلال ، كما لم ينس أن يترك السلام لدانا التى لم تكن موجودة بالبيت ، راحت مع مربيتها الفلبينية تلعب فى نادى الشعب البحرى هى ورفيقاتها .
تصحبه دلال وهى توّد أن يموت الزمن عند هذا الحد .. وأن تقتل الدقائق ، وأن تغتال الساعات ، كى لا يرحل جاسم بعيداً عنها .. ويذهب إلى سعاد .. ! لكنها .. لاحظت إن جاسم تغير عن زمان ! لم يعد هو جاسم الذى تعرفه من زمان ! جاسم تغير . تغير . تغير !! كله بسبب سعاد ، هى السبب ، هى السبب !
آه إن غيرتها من سعاد لا يعلم مداها إلا الله ! إن حقدها على سعاد لا يستطيع مخلوق أن يتخيله ، أو يقّدره ، إنها تكرهها . تكرهها . فهى التى خطفت منها جاسم ! هى التى أخذت منها حبيبها . حبيب عمرها .. هى التى حطمّت حياتها . حطمّت حياتها ! تصمت دلال .. فلا مجال لمثل هذا الشعور أو هذا الكلام الآن ، تصمت . تبقى تسترق النظر إلى جاسم فى حب وحنق وعتاب ! فهو بزواجه من سعاد قد جرح كبرياء الأنثى داخلها ، حطم صورتها مرة واحدة قدام كل الناس .. كل الناس .. !
آه .. للأسف .. تصل السيارة بسرعة إلى الجابرية . تقف عند مستشفى مبارك . ينزل جاسم . يشد على يدّى دلال مودعاً . شاكراً . يختصر وقت الوداع ، فهو يتحاشى النظر فى عينيها الدامعتين ، لا يريد أن يضعف أمامها ، كما لا يريدها أن تضعف أو تنهار أمامه . فهو يعرفها . نعم . يعرف جاسم دلال حق المعرفة . يعرف قدراتها العاطفية الضعيفة ، ويعرف سرعة إنفعالها ، وإشتعالها . يعرف أنها لا تستطيع أن تتحكم فى نفسها ولا أن تكبح دموعها ، خاصة عندما يتعلق الأمر به ، وبحبه ، وبقلبه !
تلف دلال السيارة عائدة . منهارة . باكية . فى عينيها دموع وغضب حتى لا تكاد ترى الطريق أمامها . لكن .. على شفتيها يرتسم وعد ووعيد ، وتصميم يجعلها تؤكد لنفسها .. ما زالت هناك فرصة باقية أمامها .. ! نعم .. ما زالت عندها الفرصة .. ما زال هناك متسع من الوقت .. فجاسم حبيبها سوف يسافر غداً .. تمضى يبكى كيانها . تبكى كل خلية من خلايا جسدها .. باقى بضع ساعات أخرى .. سوف تحاول أن تراه مرة أخرى خلالها .. ! نعم .. ما زال لديها بعض الأمل فى أن تنعم بصحبته بعض الوقت ، ولو أقل الوقت .. !
– لا .. ما راح أخليك يا جاسم .. ما راح أخليك .. أنت حبيبى .. حبيبى أنا .. ولازم تنصلح كل هذه الأمور .. لازم سعاد تعرف إنك حبيبى .. وإنك عندى فى بيتى .. لازم سعاد تعرف .. لازم أغيظها .. لازم أحرق قلبها .. لازم أقهرها قهر .. لأنها واحدة أنانية ما تهتم إلا بنفسها .. ما يهمها شئ فى الدنيا غير أنها تجمّع الفلوس وبس .. كل اللى يهمها فى الدنيا الفلوس .. الفلوس .. أما أنت يا جاسم فهى أهملتك .. غيرتك .. ضيعتك !
الفصل الثالث عشر
حنين .. ورحيل !
لكن .. لم تستطع دلال لسوء حظها أن تلمح جاسم مرة أخرى . كان من الصعب ، بل من المستحيل ، أن يعثر عليه أحد فى تلك الساعات القليلة الباقية له فى الكويت ، قبل عودته إلى أمريكا .
تصل طائرة جاسم إلى مطار نيويورك ، فتدهم فكره ذكريات الحب مع سعاد فى تلك الأيام الحلوة خلال شهر العسل ، التى قضياها فى ” مانهاتن ” ، تلك المنطقة الرائعة التى شهدت أجمل لحظات حبهما ، كما شهدت أروع ساعات غرامهما !
يذكر أيضاً فندق ” إستوريا ” ، وكيف كانت تقف سعاد فى البهو مبهورة بفخامته ، وإتساعه ! يذكر كيف كان هو نفسه وقتها يتعّجل إنهاء إجراءات الدخول الىا لجناح الخاص بهما ، بينما كانت سعاد تقف إلى جواره حائرة لا تعرف ماذا تفعل ؟ أو ماذا تقول ؟ أو أين تنظر ؟!
آه .. يذكر جاسم ” نيويورك ” ، فيطرأ على باله حفل الإستقبال الكبير الذى عقد فى نفس الفندق للقاء رجال الأعمال .. يذكر كيف كان يقف خارج دوائر الضوء والاهتمام ، بينما كانت كل الأنوار والألوان تتسلط ، تتحدث بلباقة كعادتها عن مجالات التجارة والمال والاقتصاد !
يكره جاسم هذا الشعور البغيض ! يرفض أن يدهمه مرة أخرى ! يتابع رحلته إلى ” سيراكيوز ” فى شمال ولاية ” نيويورك ” ، حيث تبدأ برودة الجو فى هذا الوقت من السنة تسرى فى أطرافه ، أنها أيام الخريف ببرودتها ، وجفافها ، ووحشتها ، تدهم مشاعر جاسم مرة أخرى !
يدخل جاسم البيت ، يحيى سعاد ببرود ، بلا أى إنفعال ، أو شوق ، أو حماس ، كأنه لم يكون مسافراً ، كأنه لم يكن عنها غائباً ! وما يلبث أن يغرق فى صمت مطبق طول الوقت ، حتى المكالمات الهاتفية التى تأتيه لم يعد يطيل فيها ! زيارات الأصدقاء والحفلات والإستقبالات قلت تماماً ! لم تعد ممتعة ، لأن جاسم فقد روح المرح والبهجة والإنطلاق !
تغيرت شخصيته ، بعد أن أحس أنه لم يعد له دور . بعد أن أيقن أنه قد فقد أهميته رغم أنه إعتاد طول عمره أن يكون هو موضع الأنظار . خاطف الأبصار . محور الاهتمام . نعم ، هذا واقع حقيقى ، لا مبالغة فيه ، لأن جاسم تربى ونشأ فى بيت والده اللواء أحمد الناصر ، رأى كيف يشّع والده فى المنزل طمأنينة وقوة ، وسلطة ، ونفوذاً دون أن يرفع صوته ، وأحياناً ، دون أن يستخدم صوته !
كان جاسم يشعر أن وجود والده فى البيت فيه سلطة . ما هفى شئ يتم إلا بعد أن يعلم الكل أنه موافق عليه . هو لا يحتاج أن يقول لا . والده عمره ما قال لا . لأنه معروف ، ماذا يحب ، ماذا يكره ، وما يريده ينفذ ! الناس تحب أن تسمع منه كلمة نعم ، لأنهم يطلبون منه ، فيقول :
– حاضر .. يصير خير .. إن شا الله .. ما يصير خاطرك إلا طيب .. ما يخالف .. عدل .. زين .. زين .
موقف جاسم فى حقيقة الأمر مشتت . ممزق . لا يقدر أن يقول لا . لم يطلب منه أحد شيئاً كى يقول لا أو يقول نعم ! جاسم ليس غبياً . جاسم يدرك أن موقفه على العكس من موقف والده . جاسم يعرف إن موقفه ضعيف ، وأن وجوده فى البيت لا يشّع طمأنينة ولا سلطة ! إنما يشع إحتجاجاً .. ورفضاً .. وضعفاً !!
هذا الدور الباهت هو لا يقبله ، ولا يستطيع أن يستمر فيه مهما حاول ، لا .. لن يأخذ الحياة باعتبارها سلسلة من التنازلات المستمرة ! المشكلة أنه لا يجد له مخرجاً ، إنه لا يقدر أن يلوم سعاد ، فهل يلومها لأن حظها حلو ؟ أنها لأنها إنسانة ذكية ؟ أم لأنها تشتغل بكل قلبها ؟؟ أم يلومها لأنها أصبحت سيدة أعمال ناجحة ؟؟
أيضاً .. هو يدرك أن اللوم لا فائدة منه ، فما هو المخرج إذن ، ما هو الحل ؟ هل تبقى سعاد فى البيت وتتخلى عن عملها ؟ وحتى لو تخلت عن عملها .. كيف تتنازل عن فلوسها ؟ أتمنحهم هبة للجمعيات الخيرية ؟ لا .. هذه ليست فلوسها وحدها ، أنها فلوس أحمد وأنوار وراكان ، وحتى لو وافقت سعاد أن ترمى الفلوس فى المحيط ، هو لن يوافق ، فهى فلوس أولاده . المصيبة .. إن هذه الفلوس أغنت أولاده عنه ، جعلتهم أكثر ثراء منه .. !!
من هنا .. إزدادت الإتصالات بدلال ! كان يكلمها كلما أحس الاحتياج للشعور بالارتياح ، فهى دائماً تطلب منه شيئاً . قائمة طلباتها لا تنتهى . شكرها لا ينتهى . دائماً تطلب . دائماً تشكر . دائماً تلّح . دائماً تقول . وهذا شئ طبيعى فينا ، إننا نحس الإنسان الذى نعطيه أكثر بكثير من الإنسان الذى نأخذ منه ! .. وهذا هو نفس السبب الذى يجعل الأم تحب صغارها الرضّع ، لأنها تمنحهم الإحساس بالأمان ، بالحياة ، ولأنها تعرف أنهم من غيرها يموتوا !
تتظاهر سعاد أمام جاسم أنها لا تعلم شيئاً عن تطور علاقته بدلال ، رغم أن الأخبار تصلها منا لخارج .. إن جاسم مهتم بدلال ، وأسرة دلال ، تخبرها ليلى بهذا الموضوع ، وهى تحذرها :
– فتحى عيونك عدل يا سعاد .. خذى بالك .. ترى دلال ما راح تسكت .. وما راح تخلى جاسم .. ديرى بالك !
تحتار سعاد . تصمت . لا تعرف كيف تفاتح جاسم فى هذا الموضوع المحرج ، فهو لم يعد يتحدث معها أصلاً ، أصبح يدور على أى مؤتمر فى أى مكان كى لا يبقى فى البيت . إنه فى حالة بحث دائم ومستمر عن المؤتمرات ، وهى طبعاً لا تقدر أن تكلمه أو تفتح معه موضوعاً مثل هذا ، فهذه المؤتمرات والمحاضرات ، وهذا الكم من العمل من صلب عمله ، فلا تفعل شيئاً سوى أن تخفف غيابه عن أولادها الذين يفتقدونه ، ويبكون لكثرة غيابه عنهم ، لأنه ذوق معهم جداً ، يحبهم جداً ، وفى اللحظات التى يشوفهم فيها يكون فى منتهى السعادة .. لكنه غالباً لا يراهم !!
فى هذا الوقت ، تنظر دلال إلى جاسم على أنه من حقها وحدها ، وأنها لازم تسترد حقها الذى سلب منها ، فهى لا تنسى ما فعلته سعاد وليلى بها عندما أفسدتا العلاقة بينها وبين جاسم عندما قطعتا الإتصال بينهما ، فهى تحب جاسم وما تقبل تعيش من غيره ! ولازم جاسم يرجع لها .. نعم .. جاسم لازم يرجع لها .. إنها تعانى العذاب الآن بعد سفره ، وإبتعاده عنها !
ترفع دلال التليفون تتصل به تشكره على إهتمامه بجدتها . حتى أمها أيضاً تكلمه تشكره . تحييه . تخبره أن أمها بخير ، وأنها تتابع الفحوصات التى قال لها عليها ، حتى دانه تكلمه ، تطلب منه فيلم كارتونى للأطفال لم يصل إلى الكويت بعد . الكل يطلب منه . الكل يحييه . الكل يشكره .. الكل يحتاج إليه . الكل يمنحه إحساساً حقيقياً بأهميته .. بدوره .. بقيمته !
تظل دلال تتابع أخبار جاسم .. وتظل تنقم على سعاد ! تلك المرأة الغنية اللى فلوسها عندها . أبوها عندها . إخواتها عندها . حتى أولادها عندها . كل شئ عندها ! هى ليست محتاجة لجاسم مثلها .. هى صحيح أخذت جاسم منها .. لكنها ما حافظت عليه ! دمرته . ما أسعدته . تغير جاسم . ما عاد جاسم . صار واحد ثانى .. ما له علاقة بجاسم الذى تعرفه !
الأخبار تصل دلال إلى الكويت ، إن جاسم ما صار يشوف أحد ! ما عاد يقابل أحد ! ما عاد يتكلم مع أحد ! ما عاد أحد من أصحابه يروح البيت ! الكل لاحظ أن جاسم لم يعد يبتسم ! لم يعد يضحك ! لم يعد يرحب بهم ! لم يعد يرغب فى حضورهن .. فأنقطعوا عنه !! وسعاد .. مشغولة على طول الوقت بمشاريعها وشركاتها وعقاراتها ! فى
الواقع .. سعاد ما عندها وقت لجاسم ، أما هى .. فعندها كل الوقت .. كل الوقت .. كل الوقت .. !!
يبقى جاسم يفكر ماذا يصنع فى هذا الصراع الذى وقع فيه ؟! .. ماذا يفعل فى ذلك الموقف الصعب الذى يعانيه ؟ إنه لا يطيق البقاء . إنه شرب الدرس . وعرف أن سعاد سيدة أعمال مستقلة . ثرية . ثرية . فى غنى تام عنه . فى عدم إحتياج إليه . حتى أولاده .. صار لا يراهم إلا نادراً ، ومع ذلك هم مجتهدون فى مدارسهم .. لا يحسون النقص فى أى شئ ! يدرك جاسم إن الظروف الحين قد تغيرت ، كما يدرك إن كل شئ فى حياته لم يعد متوازناً كما كان !! يعود يتشكك فى حب زوجته له ، وحتى حب أولاده .. ! يعود يتأكد أنه لا يستطيع أن يحتمل ولا أن يقبل مثل هذه حياة .. !
لذا .. قرر جاسم الرجوع إلى الكويت ! ، قرر جاسم الرجوع إلى الكويت لأنه شعر بنفسه فى الكويت ، لمس قيمة نفسه فى الكويت ، أدرك أنه ما زال فى نظر الجميع هناك جاسم الناصر ذلك البطل القدير المحبوب من الجميع ، المطلوب من الجميع ، المرغوب من الجميع ! كما قرر أن ترجع سعاد إلى البيت مثلها مثل أى زوجة طبيب أخرى . مجرد امرأة عادية تراعى بيتها ، وعيالها ، وبس ! لكن .. كيف ينفذ ذلك ؟ إنه لا يعرف كيف يعبّر عن رأيه .. إنه لا يريد أن يقول لا !
والده .. الناس كلها تبوس يده كى يقول نعم ، لكن .. كيف تجبره سعاد أن يتخذ هذا الموقف المستبد ؟ كيف تجعله يتصرف بهذا الأسلوب معها ؟! لماذا تضعه فى هذا الموقف ؟ هو مدرك أنها لم تقصد أن تضعه فى مثل هذا الموقف .. الظروف هى التى وضعته ووضعتها !!
لكنه يعلم جيداً ، بالرغم أنه لا يد لسعاد فيما حدث ، إنما هى الظروف وحدها ، إلا أنه لا يستطيع أن يعيش فى ظل هذه الظروف . لا يقدر أن يستمر تحت ضغط هذه الظروف . لا يستطيع أن يمارس حياته بصورة طبيعية فى مثل هذه الظروف . صحيح .. لا ذنب لأحد فيما حدث . لكنه لا يستطيع الاستمرار .. لا يستطيع الاستمرار !
إحساسه الدائم والخفى بتفوق سعاد مادياً عليه . يشقيه . يعذبه . هو غضبان لأنه لا يقدر أن يمارس دوره . غضبان لأن سعاد استغنت عنه ، ولم تعد تطلب منه شيئاً . غضبان لأنها لا تطلب منه ويقول لها حاضر . غضبان لأنه لا يقدر أن يرشدها أو يشرح لها الأخبار بالإنجليزية ، أو يأخذها إلى مكان جميل تنبهر به . مكان لم تره من قبل . غضبان لأن أى مكان يذهبان إليه الناس تعرفها هى . تنظر إليها هى . تتهامس عليها
هى !!
غضبان منا لدراسات والأبحاث والنظريات الإقتصادية التى إحتلت الجانب الأكبر فى المكتبة ، فتضاءلت إلى جوارها أبحاثه ودراساته فى الطب .. ! غضبان لأن الأرض بجانب السرير مغطاة بالتقارير التى يجب أن تأخذ فيها سعاد قراراً محدداً قبل أن تنام ! غضبان من الكمبيوتر الذى دخل البيت ، وإتصل بالعمل ! ومن جهاز النداء الآلى الذى تحمله سعاد معها للإتصال بها عند الضرورة ، وكلما إليها !
صراحة .. لم ينتبه جاسم لكل ذلك من قبل ! لكنه وجد فجأة أن البيت صار بيت سعاد ! وأن الإتصالات المستمرة بها هى ، وإنشغالها وتفكيرها فى عملها لا ينقطع ! واضح الآن أن سعاد تبذل مجهوداً كى تسأل عن شغله . واضح أنها مجاملة . فى الأول كان إهتمامها حقيقياً ، لأنه لم يكن فى حياتها غيره ، لكن ، الآن .. أصبح سؤالها عنه وظيفة تؤديها ! وجاسم لاحظ أنها تهتم به عشرين دقيقة كل يوم !!
لاحظ جاسم أن سعاد وضعت فى جدولها اليومى ، عشرين دقيقة للسؤال عن عمله ! عن عمل جاسم ، والإهتمام بجاسم !! نعم .. لاحظ جاسم أن دور سعاد تجاهه أصبح وظيفة ، وليس من طبيعة الأمور ! لم تعد سعاد هى التى تنظر إليه على أنه البطل الوحيد فى حياتها . يعتقد جاسم أنه لم يد محور حياة سعاد . فحياتها مليئة مليئة . وهذا ما كان يضايق جاسم ويقتل فيه الإحساس بالرغبة فى الإستمرار فى مثل هذه حياة .. !
لم يعد جاسم يطيق البيت . لم يعد يطيق نفسه بعد إحساسه بالضآلة والقلة ، والرغبة الدائمة فى الإنزواء .. والإختباء ! كان الإحساس بالمرارة لديه سببه شعوره أنها هى التى ترغبه ، هى التى تريده ، إنه صار شيئاً فى حياتها ! شيئاً له أهمية خاصة لديها ! ربما لإستكمال مظهرها الاجتماعى الناجح ؟ ربما لأنها ترغب أن يكون لديها زوجاً شاباً ، وسيماً ، مشهوراً ، رياضياً ، طبيباً ناجحاً ، لإستكمال المظهر الاجتماعى المطلوب المناسب لمكانتها الحالية !
لكن .. جاسم يرفض أن يكون مرغوباً . يرفض أن يكون شيئاً . يرفض أن يكون إستكمالاً لمظهر إجتماعى . جاسم كغيره من الشباب العرب الذين يحبون ممارسة دورهم الطبيعى . أن تستمر سعاد معه ، لأنها حلوة . إمرأة . أنثى . يرغبها . يشتهيها . يريدها . نعم .. أن تستمر سعاد معه لأنها أم أولاده . لأنها تشرفه أمام غيره من الزملاء .. هو الذى يريدها أن تستمر معه لأنها زوجة ناجحة .. وأنثى مثيرة !
حقيقة الأمر .. لم يكن عند جاسم أى مانع أن تكون سعاد إستكمالاً لمظهره
الإجتماعى . لكن .. هو لديه ألف مانع أن يكون جاسم الناصر إستكمالاً لمظهر سعاد الإجتماعى !!
وذات يوم .. وهما يتناولان طعام الإفطار ، كالعادة ، مبكر جداً ، قبل طلوع النهار ، بلا حوار . بلا جدال . بلا نقاش ، يخبر جاسم سعاد :
– آه .. ترى سعاد .. بقولك . أنا حجزت يوم 21 فبراير عشان نرد الكويت مرة واحدة .
هنا .. تفاجأ سعاد لأنه يقول لها سنرجع الشهر القادم ! كانت مفاجأة صاعقة لها إلى درجة جعلتها لا تعرف كيف ترد وهى تسمع جاسم يقول ببساطة :
– آه .. ترى سعاد بقولك .. إحنا راجعين الكويت إن شاء الله بعد حوالى ثلاثة أسابيع .. لأنى حجزت يوم 21 فبراير بدل ما ننتظر لحد شهر سبتمبر .. !
مفاجأة خطيرة لسعاد ! هى من فترة تشعر أن جاسم ينسحب منها ! يتباعد عنها ! يتهرب إلى المؤتمرات !! تتذكر تحذيرات ليلى على الفور ، وهى تنبئها أكثر من مرة ، وتلمّح لها ألف مرة ، كى تأخذ بالها ، وتنبهها كى تحترس من دلال .. تعود تقول لجاسم :
– أنا أدرى أن عقد الوظيفة مستمر لغاية 15/8/1990 فأيش لون تقدر تسافر الحين يا جاسم وتخلى المستشفى ؟!
يرد بهدوء :
– هذا صحيح .. بس أنا تفاهمت معاهم فى المستشفى .. قلت لهم إنى راح اشتغل نصف المدة وما راح أكمل السنة .. وأنا الحمد لله رتبت كل شئ فى الكويت .. وقبلت عرض وزارة الصحة لتعيينى رئيس قسم القلب فى مستشفى مبارك الكبير .
آه .. تصرخ سعاد ملتاعة من قلبها ، تقول جازعة لنفسها :
– رتبت كل شئ يا جاسم .. وأنا آخر من يعلم ؟! إيش أقدر أنهى كل أعمالى هنا فى قلاقة أسابيع بس ؟! إيش لون ؟! ليش ما قلت لى من الأول يا جاسم .. ليش ؟!
تسأل بصوت متلهف :
– ومدارس الأولاد والشركة والبيت ؟! إحنا ما قدمنا للأولاد فى مدارس الكويت .. وهذه أشياء تحتاج وقت طويل يا جاسم .. ما يصير نرجع فى نصف العام الدراسى .. ما يصير الحين نسا .. يقاطعها جاسم فى إصرار :
– لا تحملين هم .. كل شئ راح يتدبر .. هذه كلها أشياء بسيطة .. ما عليك .. خليها علىّ أنا .. راح أدبر كل شئ هناك ..
تغلى دماء سعاد فى عروقها . لكنها تكظم غيظها . إنه حتى لم يعطها فرصة للسؤال عن التقديم للأولاد فى المدارس !! متى ستلحق تستعد لهذه النقلة الكبيرة المفاجئة ؟! كيف ستقدر أن ترتب حياتها فى الكويت بعد كل هذه السنوات من الغياب ؟!
آه .. تعود سعاد تتساءل بينها وبين نفسها ومليون استفهام يلف ويدور فى عقلها :
– .. ما هو قصد جاسم بهذه الحركة ؟ هو ما ينسى شئ بالمرة .. هو إنسان دقيق منظم .. طول عمره يقدر يوفق بين كرة القدم والطب .. هو حصل على أعلى شهادة فى جراحة القلب .. مثل ما وصل إلى أعلى مستوى فى الكورة وصار كابتن فريق المنتخب الوطنى .. فكيف يتصرف وياى بهالطريقة العفوية ؟! لا .. لا .. هذا الشئ ما يفوت على جاسم .. ليش ما قال لى أول ما إتخذ القرار ؟ ليش يجعل الموضوع بالنسبة لى كأنه جاء صدفة ؟! وأنا أدرى أنه مرتب أموره من أول .. وأن هذا الموضوع ما هو صدفة ؟!
تتنهد سعاد .. تناجى ذاتها فى حيرة وأسى وألم :
– آه .. ليش يهملنى بهالطريقة ؟ ليش يريد لى إنى مانى مهمه فى حياته إلى هالحد ؟! ليش يريد يشعرنى إن أرانى غير مهمة .. وأن قرارى غير مهم .. حتى علمى بالموضوع .. غير مهم .. غير مهم ؟! ليش ؟! ليش ؟!
تبقى تتساءل سعاد وهى غارقة فى حيرتها ، حول مغزى هذه الحركة الغريبة من جاسم ، وهذاالموقف العجيب الذى بدر منه ، تتساءل دون أن تفهم السبب ، دون أن تعرف السبب ، وفى داخلها سؤال واحد يهّز أعماقها :
– ترى جاسم يريدنى .. وألا صار الحين يبى دلال ؟!
و .. تبدأ سعاد تربط هذه المتغيرات التى أخذت تحدث فى حياتها بعد ظهور دلال على خريطة حياة جاسم ! نعم .. دلال ظهرت فى نفس وقت رحلة ” نيويورك ” وإكتشاف جاسم لأمر الملايين فى حساب شركة سعاد ! سعاد لم تكن تدرك أن دلال ظهرت فى نفس اللحظة التى أفاق فيها جاسم ، وعرف أن حياته تغيرت وأن سعاد لم تلك الطفلة التى تزوجها وإنما أصبحت سيدة أعمال تملك شركات إستثمارية ضخمة تقدر بملايين الدولارات !
لم تفهم سعاد أن ظهور دلال جاء فى نفس الوقت الذى أدرك فيه جاسم حقيقة الوضع المادى الجديد ! لذا .. كانت سعاد معذورة فى إعتقادها أن دلال هى السبب الوحيد والمباشر فى تغير جاسم نحوها ! .. ففى الواقع لم يخطر ببالها أنه ربما يكون هناك سبباً آخر
غيرها !
وتمضى فى لمح البصر المهلة البسيطة التى حددها جاسم لسعاد .. وفى صباح يوم السفر ، تستيقظ الأسرة مبكراً . تقوم المربية بإعداد الأطفال للسفر . يحضر السائق لإنزال الحقائب ، يخرج الجميع لركوب السيارات متجهين إلى المطار . تترك سعاد خطاباً لمدير الشركة على المائدة يحوى آخر التعليمات وشكرها وتقديرها للمجهودات التى بذلها خلال السنوات التى عمل لديها .
تقف سعاد تنظر إلى البيت بحب وحنين ، فهذا هو البيت الذى حملت فيه ، وتربى فيه أحمد وأنوار وراكان . هذا هو البيت الذى سهرت فيه الليالى الحلوة مع جاسم ، ثم سهرت فيه الليالى الطويلة لدراستها ، والليالى العديدة لرعاية أطفالها ، كما سهرت فيه لإدارة أعمالها ! هذا هو البيت الذى أحبت فيه رائحة القهوة فى الصباح ، وموائد الإفطار قبل ذهاب الصغار إلى مدارسهم . هذا هو البيت الذى إكتمل فيه حبها ، ونجاحها ، وأنهى فيه جاسم دراسته وحصل على درجة الزمالة فى الجراحة .
.. هذا هو البيت الذى شهد مآدب الغذاء فى عطلة نهاية الأسبوع ، وموائد الإفطار فى شهر رمضان لزملاء وأصدقاء جاسم .. هذا هو البيت الذى صارت فيه أم أحمد وأنوار وراكان .. هذا هو البيت الذى شهد سبع سنوات من أجل سنوات عمرها وأسعد فترة فى حياتها .. !
تنظر سعاد مرة أخرى إلى البيت بحب .. لكنه كان حباً يشوبه الحزن ، إذ هى تغادره خائفة ! لم تكن تود أن تغادر هذا البيت بهذه الطريقة ، وبهذا الشعور .. فهى تجهل سبب هذا الموقف الطارئ الذى إتخذخ جاسم نحوها ! حقاً .. لم تعد تعرف ما يوجد فى رأس جاسم .. ولا فى قلبه !!
تنطلق السيارة فوق طرق بيضاء . تنظر سعاد إلى البياض الذى يغطى كل شئ فى المدينة . فتشعر إن قلبها يهبط . ينقبض . هذا البياض مخيف . مخيف . إنه لون الكفن .. ترى .. هل سيموت حبها ؟ هل سيدفن ويتوارى فى مثل هذا البياض ؟!
تتذكر سعاد منظر المدينة عندما رأتها لأول مرة قبل أن تتزوج جاسم ، عندما كان يموج كل ركن فيها بالفرح . بالحياة . كانت كل زاوية فيها تعكس أشعة الشمس ، فتظهر من كل ثغرة فيها نبتة .. كانت مدينة مبهجة خضراء . مدينة تبتسم فى مودة ، تستقبل القادمين بحب وترحاب ..!
تنظر سعاد إلى الطريق أمامها . فتلتاع نفسها . تجزع روحها ، فهذه الأشجار مخيفة .. أشجار شبة ميتة ! مستحيل أن تكون أشجاراً فيها حياة .. لا .. إنها أشجار مرعبة ! ترقب سعاد المنظر فى ذعر ، كأنها تشاهد فيلماً من أفلام الرعب .. ! يا إلهى .. أهذه هى نفسها ذات الأشجار الجميلةالتى رأتها لأول مرة ؟! .. لا .. مستحيل .. مستحيل .. أنها تختلف ! تختلف !
تستمر السيارة فى سرعتها تنهب الأرض نهباً إلى المطار ، فى حين تشيح سعاد بوجهها عن هذه المدينة البيضاء الشاحبة الباهتة ، التى يبدو أنها قد نزفت دمائها ، قطرة قطرة ، حتى لم تعد بها نقطة واحدة توحى أنها ما تزال .. على قيد الحياة !
الفصل الرابع عشر
أنوار العيــــد
تطول الرحلة ، تستغرق حوالى ثمانية عشر ساعة ، يبدو الإرهاق النفسى على ملامح سعاد ، التى تشعر قلقاً خفياً يعترى قلبها ، وإنقباضاً مخيفاً عميقاً يسمم إحساسها ، يضخ فيها شعوراً حاداً بالتوتر والتوجس ، وتوقع الخطر !
تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، تحاول أن تبعد الهواجس عن نفسها ، تحاول أن تبدو أكثر تفاؤلاً مما تشعر ، تبحث بعناء عن إبتسامة ترسمها على وجهها ، لكنها ، تأتى إبتسامة باهتة ، شاحبة !
.. فى حين يبدو جاسم طول الوقت أكثر خفة ونشاطاً على غير عادته ! تصرفاته الآن فيها حيوية زائدة ، وحركة كثيرة ، تختلف عما كانت عليه فى الفترة الأخيرة فى
أمريكا ! واضح أنه الحين أكثر سعادة من زوجته ، التى تكاد تسقط من طولها ، خوفاً ،
وقلقاً ، ورهبة ! أما الأطفال فكانوا يلتفّون حول والدهم الذى يفرحهم وجوده معهم كل هذا الوقت المتصل ، صار لهم زمان لم يجتمعوا كلهم معاً .
يحادث أحمد المربية البرازيلية يصف لها الكويت ، وبحر الكويت ، والرمال الناعمة على الشاطئ الطويل ، والأبراج الزرقاء التى يوجد بها مطعم جميل ، وأرض تدور تخليها تشوف الكويت من كل الجهات ! يعدها أحمد بأنه سيأخذها يوماً إلى هناك ، وسيأخذها
فى نزهة بحرية فى اليخت الخاص الذى يملكه جده سالم ، وأنه سوف يعلمها كيف تصطاد السمك !
يعدها أحمد أيضاً بأنه سيأخذها معه إلى النادى لتراه وهو يلعب الكاراتيه والجودو والتايكوندو مع منصور ابن خاله فيصل .. وما أن تسمع أنواع اسم منصور حتى تقاطع أحمد فتكلم مربيتها عنه فى حماس شديد وهى تصفه لها :
– ترى منصور بطل .. منصور يقدر يغلبك أنت لو لعب معاك كاراتيه .., منصور قوى وايد ما حد يقدر يغلبه !
و .. تبدأ إحتفالات عيد الكويت الوطنى التاسع والعشرون .. يأخذ بدر أحمد وأنوار وراكان ، ومربيتهم البرازيلية معه فى السيارة المكشوفة ، كما يأخذ منصور ابن أخيه فيصل ، ومريم ومنى وفضة بنات أخيه عبد الله ومربيتهم الفلبينية ، ويذهب بهم جميعهم مع أصحابه ، مع الربع ، إلى حيث ينضم للركب الكبير الذى ينطلق يعبر عن الفرحة بالعيد الوطنى فى شارع الخليج العربى !
ترتدى البنات اثواباً على هيئة علم الكويت ، فى حين يلبس الصيبان ” تى شيرت ” عليه العلم الكويتى ، وهم يرفعون صور الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير البلاد وولى العهد الأمين الشيخ سعاد العبد الله الصباح ، كما يلوحون بالأعلام عالياً فى أجواء الكويت .. الكل يرقص . الكل يغنى . الكل يعبر عن الحب الكبير للكويت .
تنطلق الفرحة من القلوب ، تخرج إلى كل أنحاء الديرة ، تشمل كل الكويت الحبيبة ، فيشعر الجميع بجمال عيدها وبهجة أهلها وحلاوة أيامها ، الفرحة تطغى كل شئ ، تعم الهواء والأرض والسماء ، حتى البحر تضحك ، كل شئ فى الشارع الكبير يضحك ، الشباب فى السيارات من الجنسين يعبرّون عن سعادتهم بإطلاق الألعاب الصغيرة على بعضهم البعض ، ذاك النوع من الرغاوى التى تيبس بمجرد أن تلامس الهواء ، وتتحول إلى خيوط جميلة ملونة من البلاستيك تلتص بالشعر والملابس .. البالونات أيضاً والزمامير ، الصفافير ، الطراطير الملونة ، شرائط الأوراق الذهبية والفضية وكل الألوان ، كل شئ .. كل شئ يبتدى من صنوف الزينة والفرحة .. صدق عيد .. عيد الكويت الوطنى المجيد .
تظل الكويت ساهرة تطلق فرحتها بعيدها الوطنى ، فالمنشآت الحكومية ، والمبانى العامة ، ومجلس الأمة ، والوزارات ، والفنادق تغطيها حبال اللمبات المضيئة الملونة ، والأعلام ترتفع فوق هامات الأبنية ، كل شئ فى الكويت يضحك ، يفرح بعيد الاستقلال التاسع والعشرين ، الأغانى الوطنية الحماسية تسمع عن بعد فى مسجلات السيارات ، يتوقف الشباب أحياناً ، يفتحون الأبواب وينزلون يرقصون فى الشارع ثم يقفزون يركبون السيارات ثانية ، وكل من فى الكويت يغنى للكويت :
يا كويتنا يا حبيبة من عندنا غيرك وتدومى فرحانة
يقف الشباب فى السيارات المكشوفة السقف ، يرقصون ، يلوحون ، يغنون ، يعابثون الشباب فى السيارات الأخرى ، وهم يضغطون على الإسبراى الذى يجمد ويصير كالمطاط بمجرد أن يلامس الهواء .. فرحة .. فرحة طاغية وبهجة كبيرة عارمة ، وشعور رائع بالانتصار والسرور بالديرة ، وأهل الديرة ، والأمير وولى العهد الأمين ، والشعب الكويتى الأصيل ، والأرض الطيبة :
يا أرضنا يا لطيبة من عندنا غيرك .. والمولى يرعانا
تستمر إحتفالات عيد الكويت الوطنى طوال يوم الأحد الموافق 25/2/1990 ، يعقبها إحتفال آخر رائع بديع يقام يوم الثلاثاء 27/2/1992 عيد ميلاد أنوار .. الذى تم الإعداد له فى بيتهم فى كيفان ، حيث وجهت الدعوى لأطفال العائلة لحضوره وأولهم منصور ولد خالها فيصل ، الذى تحبه أنوار وتموت عليه ، كما تأتى مريم ومنى وفضة بنات خالها عبد الله ، ومجموعة كبيرة من تلاميذ فصلها ، جاءوا يحضرون الإحتفال بعيد ميلادها الرابع ، الذى تم الترتيب له منذ لحظة وصولهم إلى الكويت !
تتجمع البالونات اللامعة المنفوخة بالغاز فى سقف القاعة الكبيرة ، التى تكاد تتغطى بالزينة البراقة الملونة ، وترتفع فى الركن كومة من الهدايا الملفوفة بالأوراق اللامعة لتقدمها أنواع أثناء عيد ميلادها عبر مسابقات مختلفة إلى الأطفال أصحابها ، وفى ركن آخر تبدأ ترتفع كومة أخرى حيث تضع أنوار الهدايا التى تتلقاها من أقاربها وأصدقائها ، وبنات وأبناء جيرانها ، وأصدقاء أبيها وصديقات أمها .
كان الحفل جميلاً بهيجاً حرص جاسم هذه المرة أن يحضره ، فازداد بهجة وجمالاً ، كان جاسم حريصاً على حضور عيد ميلاد أنوار ليعّوض غيابه عن حفل عيد ميلاد أحمد عندما كان فى الكويت فى شهر أكتوبر الماضى ، و .. ربما لأنه كان فى شوق لأن يتواجد مع أسرته وأبنائه ، بين أهله وأصحابه وزملائه ، الذين حرصوا جميعهم على الحضور والتجمع فى هذه المناسبة الجميلة المفرحة ، التى كانت أنوار تتألق فيها كعروس لعبة جميلة بفستانها الوردى الطويل ، الذى يظهر روعته شعرها الناعم المنسدل على ظهرها ، ويزيده جمالاً الأساور الذهبية ، والمحزم الذهب حول وسطها ، والحذاء والشراب المطرز بالفصوص الماسية .. كانت حقاً عروساً تتحرك ، تثب ، تقفز ، تخطر وسط الحاضرين كأجمل ،
وأبهج ، ما تكون .. وأشيك ما تكون !
الحفل كان رائعاً ، والفرقة الموسيقية التى أحيته كانت مدربة خير تدريب على إحياء حفلات الأطفال ، وأغانى وموسيقى الأطفال ، ومسابقات الأطفال ، التى كان منصور يفوز بأغلب جوائزها ، فهو سريع الحركة ، ، خفيف الدم ، لمّاح ، يعرف كيف يقتنص الحل ، ويفوز بالجوائز .. كما يعرف كيف يحظى بالتصفيق .. وينال الإعجاب !
كان الكل يضحك ويمرح . صدق .. أعياد الكويت كلها أعياد ، والفرحة فى الوطن ما لها مثيل بين الأحباب ! عاشت الديرة وعاش أهلها ، تسلم الكويت ، عاشت الكويت .. فعلاً .. الحياة بين ربوع الوطن شئ آخر ، يختلف عن الحياة بعيداً عن الأرض ، الأهل ، الناس ، هؤلاء الذين يمنحون الحب ، الوّد ، التعاطف ، الإحساس .. !
كانت هذه المشاعر كلها تتجمع خلال الحفل الذى حضره عدد كبير من أصدقاء جاسم لاعبى كرة القدم ، الذين حرصوا أن يشاركوه فرحته بعيد ميلاد أنوار ابنته ، حيث أنها المناسبة الأولى التى يحتفل بها جاسم بين أهله ، وأصحابه ، وزملائه ، فى وطنه ، فى
ديرته ، بين أبناء عشيرته .. الله .. ما أروع العودة إلى الوطن بعد طول غياب .. وما أجمل لقاء الأحباب .. بعد طول إغتراب !
فى الواقع ، كان جاسم سعيداً كل السعادة بتواجده فى الكويت وسط الأهل ، وسط الأحباب ، وسط الناس الطيبة ، فوق الأرض الطيبة التى تسبغ الحب والحنان على أهلها ، ومواطنيها ، وشعبها ، دامت الكويت .. عاشت الكويت .. حفظ الله الكويت وشعبها ، دامت الكويت .. عاشت الكويت .. حفظ الله الكويت وشعبها من كل مكروه وشر .
ينتهى الحفل .. يمعن الليل أبحاراً وإنحساراً .. وجاسم لم يعد بعد ! خرج مع أصحابه ، لكنه حتى الآن لم يعد .. ! آه .. الليل الطويل الممّل يبيت حزيناً ، يزيد إلحاحاً ، يفيض احتياجاً ، مثلها ، إلى وجود جاسم الغائب دائماً !! تنظر سعاد إلى الفراش الخالى ، الفاضى بدونه ، البارد من غيره ، الذى لم يعد يعّطره بعبق أنفاسه ومشاعره ، تلك التى تحبها وتشتاقها .. يالله .. الصبر يا رب .. الصبر .
يضيق صدر سعاد وهى ترى جاسم يتمادى ، يستمر ، يتزايد ، يمتد ، تتنهد فى اسى ، تتساءل فى عذاب :
– يا رب .. شنو سوّيت بحياتى عشان جاسم يعاملنى بهالأسلوب ؟! ليش يعاقبنى كل هالعقاب ؟! أنا ما سو!يت شئ غلط .. ما سوّيت شئ غلط !!
آه .. لا تدرى ماذا تفعل سعاد ، عزاؤها الوحيد فى هذه الفترة العصيبة من عمرها إن ليلى ووالدها وأمها يحبونها كل الحب ويعوضونها بعاطفتهم الجياشة عن هذا الجفاف العاطفى الذى أخذ يتسرب إلى أعماق نفسها .. فتكاد تيبس روحها .. وتجف بدورها !
صدق .. سعاد تحس إن أهل جاسم فرحين بوجودها ، لكنها تحب جاسم ، تريد جاسم ، وهى لا تدرى ماذا تفعل كى تقضى على هذا الصّد ؟ كى تزيح هذا السد ؟ أنها لا تجد وسيلة لوقف هذا الهجر ! فى جميع الحالات جاسم ليس له عذر فيما يفعل ! تعود .. تفتح صوتاً ينساب إليها عبر الأثير ..
تشكى لى ما يفيد أنا فى هجرك أزيد
العوازل خلّى تفيدك وأنا عن عينك بعيد
كم تزجيتك ولكن أنت يا ظالم عنيد
و .. تمضى سعاد ليلة أخرى ، ليلة مثل غيرها من تلك الليالى الطوال الطوال ، تبات تعد نجوم الليل واحدة ، واحدة ، تبات تحدق فى جو معتم ، أسود ، مقبض ، تتنهد ، تقول تواسى نفسها :
– صحيح .. جاسم مشغول وإهتمامه الحين كله ينصب على عمله لأنه طبيب بارز له مكانته ويجوز يكون مشغول زيادة عن اللزوم هذه الأيام عشان إحتفالات يوم الصحة العالمى اللى راح تبدأ الشهر الجاى .. فى أول مايو .. بس هذا مو سبب كافى إنه يتجاهلنى بهالشكل .. مو معقول يظل هاجرنى كل هالأيام والليالى كانى مو موجودة قدامه .. ؟! مو معقول ؟! يعنى أنا مالى وجود فى حياته ؟!
ينغلق قلب سعاد على كم هائل من الهم والأسى والحيرة والعذاب ، بسب هذا الهجر والبعاد ! ينطفئ وجهها كمداً وغيظاً ، تحس قهراً وحزناً ، وهى تفكر بينها وبين نفسها فى أمر جاسم الذى يتجاهلها ، يهجرها ، ينصرف عنها .. !! آه .. هى دلال إذن ! نعم .. دلال أخذته مرة ثانية منى ، عرفت كيف تناله كله هذه المرة !!
.. تنهض سعاد فى الصباح تتابع إعداد أطفالها للمدرسة ، تعتذر لهم عن عدم ذهابها معهم اليوم بسبب تعبها وإرهاقها ، تطلب من السائق أن يوصلهم بدلاً منها ، تعود تنزل إلى المطبخ تعد لنفسها قدحاً من القهوة ، تجلس تحت فى القاعة الكبيرة على نفس مقعد جاسم الذى تشتاق إليه ، تتشمم رائحته ، تحن إلى وجوده بجانبها .. تجلس تحتسى القهوة وحدها .. !
.. فى تلك اللحظة تلمح سعاد سيارة بلون سيارة أمها ، وما تلبث أن ترى سائقها الهندى يدفع باب البيت الخارجى الذى تركته أنوار مفتوحاً خلفها ، تنهض سعاد مضطربة من مقعدها ، تقفز السلم جازعة بسبب رؤية أمها التى تتجه إليها مسرعة فى هذا الوقت المبكر من الصباح ، وقد لفح الهواء أطراف عبائتها السوداء إلى الوراء .. !
تفاجأ سعاد بحضور أمها فتسألها فى لهفة :
– خير يوماً أبوى فيه شئ ؟ صار عليكم شئ ؟!
تهدئ أمها روعها ، تقول لها وهى تبتسم :
– ما فينا إلا الخير يا بنيتى .. بس أبوك يبيك الحين تجين وياى البيت .. هو يبى يشوفك عشان يتكلم معاك .. هو ما نام طول الليل .. قعد قبل الفجر وقال لى لازم تروحين تجيبين لى سعاد .. بنتى فيها شئ .. أمى فيها شئ .. أنا مانى مرتاح .. ترى حال سعاد هالأيام موعاجبنى .. مانى مرتاح .. هاتى لى سعاد .. هاتى لى أمى !
ترتدى سعاد ملابسها على عجل ، فهى تعرف حب أبيها لها ، وتعلقه بها ، وقلقه عليها ، تجلس أم سعاد تشرب الشاى مع أختها ، فى حين كانت ليلى تستعد للخروج إلى الجامعة ، بينما كانت سعاد تتأهب للذهاب إلى بيت أبيها ، وقبل أن تغادر البيت ، توقظ جاسم من نومه تستأذنه ، فيبدأ يتقلب فى فراشه إستعداداً للنهوض والخروج إلى عمله فى مستشفى مبارك .
يهم أبو جاسم بمغادرة البيت ، يسلم على أم عبد الله ، يطلب منها السلام إلى أبو عبد الله ، يسأل عن أحواله ، ثم يغادر إلى عمله فى وزارة الدفاع ، وبعده تذهب سعاد مع أمها إلى بيت والدها فى الشامية وهى ما تزال حزينة الروح ، جريحة الفؤاد ، فالحال أصبح لا يحتمل .. لا يطاق !
تسأل أمها فى حنان :
– مالك سعاد .. أيش فيك يا بنيتى ؟!
تنفجر سعاد :
– أنا ما عدت أقدر أتحمّل يوماً .. ما أقدر .. صبرى نفد .. خلاص ما عاد فينى صبر مرة واحدة !
تسأل الأم فى جزع :
– خير يا بنيتى .. أكو شئ مزعلك ؟!
خير .. فيك شئ ؟! قاصر عليك ؟! .. جاسم سوى شئ ؟!
تقول سعاد باكية :
– يا ليته سوى شئ .. يا ليته .. جاسم ما عاد يشوفنى .. ما عاد يحس فينى .. ما عاد يعتبرنى زوجته .. جاسم خلاص .. راح .. راح .. !
تجيبها الأم فى عطف وإشفاق :
– لا .. طوّلى بالك .. جاسم يحبك ويخاف عليك .. بس يجوز أنه مشغول شوىّ هالأيام .. أكيد عنده شغل وايد .. زوجك طبيب يا سعاد ومسئولياته كثيرة .. طولّى بالك عليه شوى يا بنيتى .. طوّلى بالك .
– لا يومّا .. جاسم راح من زمان .. بس أنا ساكته ما أتكلم .. ما كان ودّى أبوح وأقولك بس لولا جيتك اليوم .. ما كنت قلت شئ ولا تكلمت فى شئ .. و .. و .. و .. !!
تقترب السيارة من البيت الأبيض الكبير فى الشامية ، تمسح سعاد دموعها بسرعة كى لا يلمحها أباها ، لكنها تفاجأ به واقفاً أمام باب البيت الخارجى .. منتظراً حضورها .. مشتاقاً لرؤياها !
تنزل سعاد من السيارة وهى لا تتمالك نفسها من آثار هذا الانهيار الذى فجرّته أسئلة أمها ، تسلم على والدها وهى تتباعد عن عينيه بعينيها حتى لا يرى آثار الدموع على وجهها ، تدلف إلى الداخل ، وهى تطرق إلى الأرض برأسها ، كأنها تعد أزهار الحديقة المزروعة فى تنسيق بالقرب من أقدامها !!
تدخل القاعة ، تجلس ، فى حين يتجه أبيها إلى جهاز التسجيل يضغط زراً .. فينساب صوتاً يحبه كلاهما ، صوتاً يرتبطان به كلاهما ، صوتاً له ذكريات عزيزة غالية عليهما .. !
تجلس سعاد تغالب بصعوبة دموعها ، وهى تسمع أغنية عزيزة تحمل ذكريات حميمة حبيبة إلى قلبها ، يعود أبيها يجلس بجوارها ، يبحث عن إبتسامة حلوة ، يحبها ، يريدها ، يقترب برأسه يلامس به رأسها ، وهو يهزها مع كلمات الأغنية العذبة التى يرددها بصوته الدافئ ، الحنون ، فى حين يغنى لها وحدها ، وهو يلصق خده بخدها .. !
يا ليل دانا لنا ..
يا ليل دانا .. لدانا .
مجروح وقلبى إنكوى
هايم فى حبه وغرامه
يزداد شوقه هيام
يا ليل دانا لدانا ..
تظل سعاد تسمع ، وتسمع ، تظل تتماسك ، وتتماسك ، تظل تقاوم وتصارع دموعها ، لكنها ، ما تلبث أن تنهار فى بكاء حاد رهيب ، بعد أن أحست دموع أبيها تسيل ، وتسيل ، تبلل وجهه .. ووجهها !!
الفصل الخامس عشر
.. هــول المفاجأة !
ترتاح سعاد للقرار الذى أتخذه أبوها نيابة عنها ، بعد أن صمم أنها تسافر أمريكا وتروح تغير جو ، وتعود بعض الوقت إلى عملها ، الذى يشغلها عن نفسها ، وعن مشاكلها مع زوجها ، يضمم أيضاً أن تسافر معها أمها لتكون فى صحبتها ، تسليها وتؤنسها ، بهد أن لاحظ أنها مصابة باكتئاب حاد يكاد يقضى على حيويتها ، ويبدد طاقتها ، ويتلف جمالها ! يصمم الأب على ذلك بشدة ، وهو يقول لأبنته :
– إذا ما وافق جاسم على سفرك خلينى أنا أكلمه .
تجيبه سعاد مهزومة يائسة :
– لا تخاف يوّبا .. جاسم ما راح يرفض .. راح يوافق على طول .
وبالفعل .. لا يعترض جاسم على سفر سعاد والأولاد إلى أمريكا ، خاصة وأن عطلة الصيف قد بدأت ، وهو مشغول تماماً بين عمله فى المستشفى ، ولعب الكرة فى النادى !
ترحل سعاد عائدة إلى أمريكا ، تقبع فى مقعدها داخل الطائرة تنظر إلى الكويت حزينة ، مهمومة ، منقبضة ، رغم أنها تأبى أن تفكر فى موقف جاسم المخزل المحبط ، ترفض أن تعترف بوضعها الحالى ، فتحاول أن تحارب شعورها بالحزن والأسى والانسحاق الذى جعلها تتضاءل وتتضاءل ، حيال صورة دلال التى ظهرت عند خط الأفق ، وأخذت تكبر وتكبر وتكبر .. فى حين بدأت تحلق الطائرة !
.. تدخل سعاد بيتها فى ” سيراكوز ” فتدهمها الذكريات . كل الذكريات . ترنو إلى الصور التى تغطى الجدران وتملأ الطاولات فى البراويز الصغيرة التى تتناثر فوق رف المدفأة الرخامى ، فتعتريها رجفة شوق ورعشة وحشة وهى تجوب بقلبها أرجاء المكان غارقة فى صمت شارد ، غائصة فى حزن جارف ، فى حين تتقدم نحو غرفتها تستضئ بومض الذكرى الذى يحيل عتمة البيت ضوءاً باهراً ينير ظلام روحها المطفأة !
تنحدر دموعها مستنكرة ما وصل إليه حالها مع جاسم ! تتداعى الذكريات ، تنهمر دفعة واحدة ! هذه صورتها معه ، ألتقطت لهما فى شهر العسل . وهذه صورتها لوحدها وهى حامل . تبتسم ، وهى تذكر كيف إلتقط لها جاسم هذه الصورة من زاوية معينة توضح ضخامة بطنها ! كان جاسم يصورها وهو غارق فى الضحك . يكاد يقع على ظهره . كانت حامل فى شهرها التاسع فى أحمد ، وكان الوقت بارداً ، ورغم البلوفر الصوف الثقيل وبالطو المطر إلا أن الصورة أظهرت حجم بطنها الضخم المنتفخ !
وهذه صورة أخرى ألتقطت لهما فى حى ” مانهاتن ” فى ” نيويورك ” ، حينما كانا يتناولان العشاء فى الفندق أيام شهر العسل وهما فى حالة حب متصل ! وهذه صورة جاسم وهو يتناول طعام الغداء مع صديقه نايف وعدد آخر من الأطباء فى عطلة نهاية الأسبوع أثناء إجتماعهم لمناقشة مشروع المستشفى الخاص بهم ! وهذه صورتهم كلهم ومعهم ليلى وهم يلتقطون أنفاسهم ، والعرق يبلل ملابس ، بينما هم يجلسون يأكلون السندوتشات والبطيخ بعد أن لعبوا الكرة فى إحدى الحدائق يوم الرابع من يوليو وهو عيد إستقلال أمريكــا .
تبتسم سعاد فى حنان .. تناجى نفسها ودموعها ما تزال تفيض فوق وجهها . تسرح بعيداً تحلق بخيالها .. تتنهد .. آه .. ما أحلى تلك الأيام ! ما أحلى تلك الأيام !! ها هى صورة جاسم لوحده وهو يبتسم . تحس سعاد أنه يبتسم لها ، وهو يحدق فيها بعينيه الواسعتين العميقتين اللتين إعتادتا أن تخترقاها .. حتى عمق الأعماق ! فتحس إنها تموت شوقاً إليه ، تعتب عليه كل هذا الغياب بعيداً عنها .. تتنهد .. آه يا جاسم .. الأيام تمر من غيرك كأنها سنوات .. تتساءل سعاد فى حسرة آسية :
– ترى شنو تسوى الحين يا جاسم ؟
يعود ينطلق داخلها لحن شجىّ تحبه . تطرب إليه . تصحبه كلمات كالحلم . تنصت بإحساسها .. وحبها .. وشوقها .. وحنينها ..
إنت ياللى عنى غايب فى ديارك البعيدة
مثل قلبكِ إنت دايب وألا أيامك سعيدة
قلت شسّوى شوقى زايد
طال غيابك عنى وايد
إنت ياللى عنى غايب
تصحو سعاد من خواطرها على صوت أمها يناديها ، تمسح دمعها بسرعة ، تمضى إليها ، لكنها لا تستطيع أن تخفى سمات الحزن بنفس السرعة ، فتظل مرتسمة واضحة على وجهها ، فتسألها أمها جازعة واجفة :
– مالك سعاد .. فيك شئ ؟!
تحتوى سعاد أمها فى حنان . تضمها بين ذراعيها فى حب . تقول بصوت تدارى
فيه شعورها اليائس المشوب بالألم والأسى وهى تسند رأسها على كتفها وتدس وجهها بالقرب من وجهها .
– أنا بخير يوّما .. ما فينى شئ .. ما فينى شئ .
تسكت الأم على مضض ، فهى لا تريد أن تنكأ جراح إبنتها بكلامها ، ولا تريد أن تثير مشاعرها مرة ثانية ، ولا أن تحرك أحزانها ، فهى تفهم سبب علّتها ، وتعرف سر تعاستها ، فالأمر الحين لم يعد سراً يخفى على أحد .. الكل يعتقد إن جاسم يركض وراء دلال ، والكل يدرى أن جاسم صار يهمل سعاد .. وما عاد يسأل عنها مرة واحدة !
تطلب الأم من سعاد أن تتصل بأبيها فى الكويت ليطمئن على وصولهم . تتصل سعاد . تكلمه . يرتاح . يهدأ . فى نفس الوقت تتصل بالبيت لتخبر جاسم بسلامة وصولهم . لكنها لا تجده ! تكلم ليلى وخالتها تطمئنهم على وصولهم بالسلامة ، أما زوج خالتها فقد كان نائماً .
بعد قليل ، يأتى أحمد يطلب أن يكلم أبيه ، فتخبره سعاد أنه ليس موجوداً بالبيت الحين ، فيطلب أن يتحدث إلى جده :
– ترى جدى وحشنى وايد .. وايد .
تتصل سعاد بأبيها مرة أخرى ، فيكلمه أحمد فى حماس شديد :
– وصلنا بالسلامة .. لا تخاف عليهم .. ترى أنا وياهم .. لا تحمل همهم .. راح أظل شوىّ فى أمريكا .. وبعدين راح أجيك الكويت نقضى العطلة سوا .. إنشا الله .. ماراح أتأخر عليك .. !
تمضى الأيام ، وسعاد لا تكف عن سلب نفسها من نفسها ، تنهمك فى العمل حتى رأسها ، لا تريد أن تمنح ذاتها لحظة فراغ أو راحة واحدة حتى لا تتعذب بغياب جاسم ، فهى ما زالت عاجزة عن الرد عندما يسألها أحمد :
– متى راح ييجى أبوى ؟!
وألا أنوار لما تقول لها :
– ودى أشوف أبوى .. ودى يلعب معاى المساكة .. ودى يركض وراى فى الحديقة.
تحترق سعاد فى أتون الذكرى ، تناجى جاسم بإحساسها ، تحاول أن تخمد نيران الشوق والحب فى قلبها ، لكنها لا تقدر ، تتصل بجاسم تقول له :
– أحمد متضايق وايد يا جاسم .. يبيك تيجى .. متى راح تقدر تيجى .. ؟!
لكن .. يعتذر جاسم بسبب الشغل ، ويعتذر بسبب ضغط العمل ، ويعتذر بسبب ضيق الوقت ، ينفد صبر سعاد ، تقرر ألا تطلب منه الحضور مرة أخرى ، وأن تتركه على كيفه إلى أن يقرر أن هو بنفسه متى يأتى .. تتنهد مهمومة هامدة :
– آه .. ما فى فايدة .. ما فى نتيجة .. صدق ..
وأعذر ما تنفع
وأنا بالشوق
مقلتى تدمع
وفى يوم ، يتصل نايف بسعاد يسأل عن جاسم ، فتوضح له سعاد أنه ربما يأتى
قريباً ، فيقول لها :
– متى ييجى جاسم بالتحديد .. لأنى أبغى أتكلم معاه فى موضوع مهم .
يؤكد لها نايف :
– أرجو أنكم تعتبرونى مثل جاسم .. كأنه موجود .. وإذا احتجتم أى خدمة أو أى طلب أرجوكم تخبرونى .. رجاء أخت سعاد لا تترددن .
تسألها أمها :
– منو هذا اللى قاعد يكلمك يا سعاد ؟!
– هذا نايف يوما صديق جاسم .. هو طبيب سعودى بيشتغل مع جاسم فى نفس المستشفى ، وهو اللى جاءنا الصيف الماضى ، وحضر عندنا حفل عيد ميلاد راكان .. تذكريتــــه ؟!
وهو اللى جاءنا الصيف الماضى ، وحضر عندنا حفل عيد ميلاد راكان .. تذكرينـــه ؟!
ذاك الشاب الطويل النحيل اللى إنت قلت عليه يشبه فيصل أخوى .. ها .. تذكرتى ؟!
تجتهد الأم أن تتذكر ، لكنها تعجز ، ما تقدر ، فتقول :
– والله يا بنيتى ما اذكر شئ .. لو سألتينى شنو أكلت البارحة ما أعرف أرد عليك !
تنهض سعاد . تتصل بالكويت . تقول فى فرح تبشر ليلى بهذا الخبر المثير :
– ليلى .. سمعى .. نايف إتصل اليوم بنا وسأل عن جاسم .. أعتقد أنه يبى يقول له شئ مهم .. ما أدرى يا ليلى شنو يريد .. يجوز راح يطلب يدك منه .. أنا قلبى يحدثنى أن هالإتصال فيه شئ غير عادى !
تطلب سعاد من ليلى أن تحاول الحضور بأى طريق . تقول لها مؤكدة :
– لا تطولى الغيبة يا ليلى .. ترى وحشتينى وايد .
وفى الكويت تقوم ليلى باللازم . تلح هى وأمها على جاسم تطلبان منه السفر .
تقول له :
– ترى أنا ملّيت من الإنتظار ومستعدة أسافر الحين يا جاسم .
يقول لها جاسم راجياً :
– الله هداك يا ليلى .. أرجوك صبرى شوّ بس أخلص عملية جدة دلال .. وأسافر وياكم على طول .. ترى ما باقى ألا الأيام !
تصيح ليلى غاضبة :
– أى أيام هذه يا جاسم اللى قاعد تتكلم عنها ! ترى الصيف خلصّ .. ما باقى شئ عليه ؟! حنّا الحين فى شهر يوليو .. وإلا راح تنتظر لما الجو يبرد هناك وما نعرف نتحرك ؟! لا يا جاسم .. أرجوك خللى دكتور ثانى غيرك يسوى لها العملية .. وياللا ويانا نسافر .. ترى أنا مت من الحر .. !
يقول جاسم فى دهشة وإستذكار :
– ما أقدر يا ليلى .. ما يصير .. أنا الطبيب المختص اللى متابع الحالة من أولها .. ولازم أنا اللى أسوّى العملية بنفسى .. ما أقدر أعطى هذه الحالة بالذات لأى طبيب ثانى ..!
تسكت ليلى تبلع غيظها . تدمدم حانقة على دلال وأم دلال وجدة دلال . تتمتم فى ثورة مكتومة وهى تنفخ فى غيظ :
– ما أدرى متى راح تفتّك من دلال وأمها وجدتها بعد .. ! ياااه .. الله يخلصنا منهم كلهم مرة واحدة .. !
وفى عصر نفس اليوم ، تتصل دلال بجاسم توقظه من نومه ، تطلب منه الحضور فوراً إلى البيت ، إذ أن جدتها أصابتها غيبوبة سكر ، ولا تعرف ماذا تفعل لها ، تلّح دلال :
– أرجوك يا جاسم .. أرجوك .. لا تتأخر .. جدتى شكلها يخوف .. حالتها خطيرة !
يثب جاسم من فراشه بعد أن طيرّت دلال بصوتها المفزوع النوم من عينيه ، يبدّل ثيابه فى عجل ، يخرج فى لمح البصر مسرعاً إلى بيتها ، فهو يدرك الظروف الصحية الحرجة التى تتعرض لها جدتها ، بعد أن أظهرت نتائج التحاليل والأشعة والقسطرة إصابتها بإنسداد فى الشريان التاجى بالقلب .. الحالة فعلاً خطيرة لا تحتمل تأخير أو تأجيل !
يدخل البيت عندهم مسرعاً ، يتجه إلى غرفة الجدة مباشرة ، يفحصها بدقة ، يعطيها حقنة تساعدها على تجاوز هذه الأزمة الصحية ، ثم يجلس فى غرفة الجلوس يحتسى الشاى بإنتظار أن تفيق من غيبوبتها ، كى يطمئن عليها ، يقول لدلال :
– جدتك لازم تدخل المستشفى الحين يا دلال .. راح أرسل لكم سيارة إسعاف .. جهزى أغراضها .. هى الليلة لازم تبات فى المستشفى عشان الصبح نسوى لها التحاليل الخاصة بالعملية .. خلاص .. ما فى داعى للإنتظار .. ما فى مجال .
تنهمر دموع دلال . تسأل جاسم خائفة :
– هى حالتها خطيرة يا جاسم ؟
يقول لها جاسم :
– لا تخافين .. إتركى الأمور لله .
يحتسى جاسم الشاى ، ينهض يستعد للعودة إلى المستشفى ، وإذ به يفاجأ بدلال تبكى وتبكى وتنهار فى بكاء حاد ، يطالعها مستغرباً ، قائلاً :
– قلت لك لا تخافين .. حالتها ما هى خطيرة لهذه الدرجة .. !
تجيب دلال فى لهجة غريبة :
– لا .. أنا مانى خايفة على جدتى .. أنا بس أريد أسألك .. إنت كيف تزوجت غيرى يا جاسم ؟!
يدهش جاسم من حدّة المفاجأة ، وعدم توقع هذاا لموقف العاطفى المباغت الذى جاء فى وقت غير وقته ! يقول بسرعة وهو فى غاية العجب والحرج :
– أنا عمرى ما وعدتك بالزواج يا دلال .. ترى إنت الحين أم .. وأنا رجل متزوج .. وأب لثلاثة أطفال .. هذا الكلام ما يفيد فى شئ يا دلال .. !
تقول دلال وهى شاردة فى متاهات الذكرى والشوق والحنين ، كأنها لم تسمع من جاسم جملة إعتراضية واحدة :
– لكن هذا كان شئ متوقع .. كان شئ معروف .. للكل مو بس لى أنا وحدى .. !
يقول جاسم بنفس اللجهة الحافلة بالحيرة والإستغراب :
– بس إنت تزوجت يا دلال !
تقول فى نفاد صبر :
– أنا صحيح تزوجت .. لكن كنت بأتزوج عشان أنتقم منك يا جاسم .. كان لازم أرد إعتبارى قدامك وقدام نفسى وقدام الناس كلهم .. لكن .. أنا عمرى ما نسيتك .. عمرى ما حبيت غيرك .. وهذا هو الشئ اللى كان معذبنى لأنك دايماً كنت فى بالى .. ودايماً كنت فى حياتى .
تتابع دلال لومها وعتابها بصوت متهدج تشوبه نبرات بكاء مختنق :
– أنت ظلمتنى يا جاسم .. ظلمتنى .. أنت أول إنسان حبيته فى حياتى وآخر إنسان راح أحبه .
يفاجأ جاسم بهذا الهجوم العاطفى الساحق ، فيقول بصوت خفيض ، يحاول أن يجعله هادئاً متماسكاً :
– هذا شئ راح وانتهى من زمان دلال .. ترى هالكلام فات أوانه .. ما فى داعى لفتح هذا الموضوع أرجوك دلال .. لا تنسين إنى الحين رجل متزوج !
تصرخ دلال فى هيستريا :
– متزوج .. متزوج .. !!
تستمر فى بكاء حاد عنيف يكاد يقطّع قلبها ، تبكى فى حب ، ويأس ، وحزن ، تظل تبكى ، وتبكى ، وتبكى !!
يرتبك جاسم بسبب هذه المفاجأة الإنفعالية العصبية التى وجد نفسه محاصراً بها ، فيصاب بضيق مباغت يفقده القدرة على البقاء مع دلال فى نفس المكان دقيقة واحدة ، فيخرج من الغرفة ، يمضى لا يلوى على شئ دون أن يسلم على أحدٍ من أهل البيت !
يتعكر دم جاسم ، لا يرغب فى العودة إلى البيت مرة أخرى ، كما لا يود الذهاب إلى المستشفى ، يحتار .. وين يروح بهالوقت ؟! يفكر أين يذهب بعد أن صار عاجزاً عن تكملة النوم .. ومتابعة العمل !
يقطب جاسم ما بين حاجبيه حين يتذكر إتهام دلال له بالظلم ، فيحس أنه هو المظلوم ، كما يحس بالضيق والألم لأنه لم يعرف كيف يرد عليها ويوضح لها كل الأمور ، ليدفع عن نفسه هذا الإتهام الباطل الذى فاجأته به ! يلف سيارته حانقاً ، راجعاً إلى النادى ، يتصل بالمستشفى قبل أن يدخل طالباً من الطبيب المقيم اتخاذ اللازم لإرسال سيارة إسعاف إلى العنوان والإسم الذى حدده ، يملى عليه أيضاً رقم الهاتف ليتم إخطار المريضة بأن سيارة الإسعاف فى الطريق .
يدلف جاسم إلى النادى حيث يلتقى بعض الأصدقاء واللاعبين الذين يرحبون به كل الترحيب ، وعلى الفور يتشكل فريق يلعب مباراة كرة قدم ودية . يلعبها جاسم بفتور . بلا حماس .. فلا يستطيع أن يسجل ولو هدفاً واحداً .. !
يجلس بالنادى بعد المباراة يتحدث مع بعض الإداريين عن تطوير دورة الخليج فى المستقبل ، وكيف أن الشيخ فهد الأحمد رئيس اللجنة المنظمة لدورة كأس الخليج العاشرة ، ورئيس الإتحاد الكويتى لكرة القدم أعلن اليوم أنه سيلتقى مع رؤساء اتحاد الكرة بدول الخليج فى وقت لاحق بالبحرين لمناقشة إستمرارية دورة الخليج فى المستقبل ! يؤكد أحد الإداريين أن الشيخ فهد الأحمد أعلن فى مؤتمر صحفى اليوم أن الكويت كبلد مضياف يتجاوز عن الغرامة المالية التى تقضى بها اللائحة ، والمفترض أن يدفعها منتخب العراق لكرة القدم بسبب إنسحابه من الدورة !
يستمر النقاش مع جاسم وباقى اللاعبين والإداريين حول مستقبل الكرة وموقف العراق من الدورات الخليجية اللاحقة التى لن تتوقف فى المستقبل ، وإن كانوا غير واثقين مما إذا كانت الدعوة للمشاركة فيها ستوجه للعراق أم لا .. !
ينصرف جاسم من النادى ، بعد أن خففّت المباراة توتره وإنفعاله ، وأعاد اللعب إليه بعضاً من هدوئه ، ومرحه ، وإنسجامه مع نفسه وعمله وحياته ، فيتصل بدلال من السيارة يطمئن منها على وصول جدتها إلى المستشفى ، مؤكداً لها أنه سوف يجرى لها العملية باكر إنشا الله .
وما هى إلا أيام قليلة .. حتى تجاوزت جدة دلال مرحلة الخطر والحمد لله ، تخرج من غرفة العناية المركزة إلى غرفتها الخاصة بالجناح ، فيخبر جاسم دلال إن حالتها فى تحسن مستمر ، وإنها قد إستقرت الآن ، فلا داعى للقلق ، كما يعرفهم أن زميله الدكتور هاشم سوف يتابعها أثناء غيابه ، لأنه مضطر أن يسافر غداً إلى أمريكا !
تسكت دلال ، كارهة فكرة رحيل جاسم عنها ، لكنها لا تستطيع أن تفصح عن شعورها الحقيقى ، فهى تعلم مدى تعلقه بإبنه الصغير راكان ، هذا الذى يأخذ عقله ، ويأكل قلبه ، والذى يظل يتكلم عنه طول الوقت ، فهو الذى أختار له هذا الإسم القديم الذى يعبّر عن مدى شوقه وحبه للكويت ، عندما كان مقيماً فى أمريكا .
لم تستطيع دلال أن تعترض ، فجاسم قد أدى ما عليه وزيادة ، وهو يشكر على كل ما قدمه لها ، وعلى هذا التعب الشديد الذى تعبه مع جدتها ، وحرصه العظيم على متابعة حالتها ، تشكره أمها أيضاً كل الشكر ، وهى تحمد الله أن ربنا بعثه لهم لنجدتهم ، وإنقاذ أمها ، كما تدعو الله ألا ينحرموا من وجوده ، فتظل تدعو له وهى تقول من قلبها :
– الله يخليك لنا يا جاسم .. الله يطول عمرك ويحفظك ويحميك .
.. يسافر جاسم ، يدخل بيته فى أمريكا ، يضيئه بحضوره الحلو المحبوب ، تنظر إليه سعاد فرحة مبهورة بوجوده !! يا ألهى .. ألا يعرف أنه حبيبها .. حبيبها ! يتأجّج إحساسها برؤيته ، يلتهب حنينها إليه .. آه يا جاسم آه ..
يا أجمل شئ فى عمرى وفى بالى
يا مالك مهجتى وفكرى وآمالى
يلتقى الجميع على العشاء ، نايف وجاسم وعبد الرحمن ، الطبيب الجديد القادم من دولة الإمارات العربية المتحدة ، يجلس الأطباء الثلاثة ، يتناولون طعام العشاء الذى أعدته سعاد وليلى ، وفرحة غامرة تملأ القلوب ، فاليوم 31/7/1990 يوم عيد ميلاد راكان الثالث ، والحفل مبهر ورائع ، حضره عدد كبير من الأصدقاء المقيمين هنا ، والزملاء الأطباء العاملين فى المستشفى مع جاسم ، الذين حضروا جميعهم لتهنئته بسلامة الوصول وبعيد ميلاد صغيره راكان .
تكتمل الفرحة بذاك الخبر السعيد الذى أثلج صدر ليلى ، عندما أخبرها أخوها جاسم عن رغبة نايف فى الزواج منها ، وسألها عن رأيها .. تهز ليلى رأسها فى حياء لتعّبر عن موافقتها . يحمل جاسم البشرى إلى نايف ، فقط ، يطلب منه الإنتظار بعض الوقت لحين أخذ موافقة الوالد .. تغمر الفرحة سعاد التى تقّبل ليلى عشرات القبل وهى تهنئها مبتهجة :
– مبروك يا ليلى مبروك .. ألف مبروك .
تتلقى ليلى التهانى من أمها وخالتها ، وأحمد ابن أختها الذى يعبّر عن إعجابه بنايف ، وأيضاً من أنوار التى تقول لها فى براءة :
– نايف وايد حلو يا ليلى .. وايد حلو !
ولأول مرة منذ فترة طويلة ترى سعاد إبتسامة جاسم .. يا الله .. كم وحشتنى هذه البسمة ! يتغير جو البيت الذى تملؤه الورود والزهور والهدايا التى إنهمرت عليهم فرحاً بهذه المناسبة السعيدة التى بدى أثرها على وجوه الجميع .. حمداً لله . عسى تدوم الأفراح ، وكل عام وراكان بخير . وما هى إلا ساعات قليلة حتى يأتهم خبر آخر جميل ، ينّم عن الفرحة الثالثة ، هو ولادة عبد العزيز ابن عبد الله ، شقيق سعاد الكبير ، الذى جاء شقيقاً لمريم ومنى وفضة .. مبروك ألف مبروك .
تنطلق الفرحة تزغرد تملأ البيت كله .. الحمد لله .. الحمد لله .. ربنا أكرم عبد اله وزوجته إبتسام ، بالولد الذى كانا يطلبانه من الله ، وينتظرانه من زمان .. الحمد لله . صحيح ولد ناقص النمو ، لكنهم وضعوه الآن فى الحضانة بمستشفى الولادة فى الشويخ .
– ياللا .. بسيطة .. بكرة يكبر ويصير رجال قد الدنيا !
فى هذا اليوم يخبر جاسم سعاد أنه سيناقش مع نايف الليلة موضوع زواجه من ليلى ، وكيف سيتم ترتيب كل الأمور ، وراح يتفاهم معه على تلك الإجراءات الشكلية البسيطة .. تؤيد سعاد كلام جاسم وإبتسامة واسعة تضئ قلبها ، فها هو جاسم يتحدث إليها ، ها هو يقول لها أين سيكون الليلة .. الحمد لله ها هو يعاملها مرة ثانية بإعتبارها زوجته !! آه .. إنها كانت تنسى ذلك .. لا .. بل أنها قد نست منه ذلك ! نست كيف يعاملها كزوجة !! آه .. كل ذلك بسبب دلال .. !
دلال .. دلال .. كانت دلال تجلس فى ذلك الوقت فى بيتها بالكويت مع أمها التى تكاد تفقد عقلها ، خوفاً على والدتها الراقدة بين الحياة والموت فى مستشفى مبارك ، والتى فقدت تماماً سيطرتها على أعصابها حنقاً وغيظاً ، فظلت تقول لدلال وهى تتمزق من الغيظ :
– ليش خلانا جاسم بروحنا وسافر يا دلال ؟! ليش ما إنتظر ويانا لما أمى تطلع من المستشفى وترد البيت ؟! يعنى خلاص .. الدنيا طارت ! يعنى أنت يا دلال مالك خاطر عنده ولا إعتبار ؟! كيف يترك أمى ويخليها لدكتور تانى غيره ؟! مو جاسم هو اللى سوى لها العملية ؟! يعنى من هو أحق الحين بجاسم .. أنت يا دلال وجدتك إلى بين الحياة والموت .. وألا هذه سعاد اللى بس عندها حفلة عيد ميلاد ولدها بو سنتين ؟! هذا يصير ؟! والله ما يصير .. والله عيب عليه !
هنا .. تتمزق دلال من الغيرة والغيظ والغضب بعد أن سمعت كلام أمها هذا ، فتعود تذكر كيف تآمرت عليها سعاد وليلى ، وكيف أدت مؤامراتها الدنيئة إلى أن تسرق سعاد منها جاسم !
آه .. يشتعل الغيظ داخلها ، يتفّجر الغضب بركاناً ثائراً فى أعماقها ، تتطاير الغيرة شرراً يحرق أعصابها ، فلا تقدر أن تمنع نفسها من البكاء من شدة القهر ، وهى تندب حظها ، وتقارن حالها بحال سعاد !!
ينتهى حديث دلال مع أمها التى تهّب واقفة ، حانقة ، تدخل تنام فى غرفتها ، كى تصحو مبكراً تروح تطمئن على صحة والدتها فى المستشفى ، فتثور ثائرة دلال ، تنهض تمسك التليفون تدير رقم جاسم فى أمريكا ، لكن .. كالعادة تجيبها ليلى ببرود :
– جاسك طلع .. مو موجود الحين بالبيت !
تستشيط دلال غضباً وغيظاً ، فتصرخ فى ليلى :
– قلت لك أعطينى جاسم .. وإلا راح أروايك شغلك يا كذابة .. جاسم عندك .. أعطنى إياه .. تصرخ ليلى فى ثورة عاتية :
– إنت اللى كذابة وستين كذابة .. ياللى ما تستحى .. جاسم الحين متزوج وعنده ثلاث عيال .. إيش تبين منه أنت ؟!
تغلق ليلى الخط فى وجه دلال ، وفى خلال دقيقة أخرى يرن الجرس ، ترد ليلى :
– ها .. أنت مرة ثانية ؟! إيش تبين من جاسم ؟! أنت ياللى ما ..
وقبل أن تكمل ليلى جملتها .. تمد سعاد يدها تأخذ السماعة منها ، تتكلم مع دلال ، مستسلمة لسيطرة اللحظة ، فهى لا تستطيع أن تتجاهل هذا الموقف الإنسانى المعقد ، وهى تسمع دلال تبكى ، وتصرخ ، وترجو أن تكلم جاسم لأن جدتها المريضة فى حالة خطرة وتوشك أن تموت !!
تستسلم سعاد لسطوة الموقف ، فهى لا تستطيع أن تتناسى إن جاسم ، زوجها ، هو طبيب .. أولاً !
تعطى سعاد رقم بيت نايف لدلال وهى تقول لها فى هدوء :
– تقدرين تتصلين فيه الحين على هذا الرقم يا دلال .
تضع سعاد السماعة ، وبدنها كله ينتفض ، تبقى جالسة فى مكانها ، قلبها يخفق ، لونها يمتقع ، تصمت ، لا تنطق ، بينها تتسع عينا ليلى على آخرها دهشة وذهولاً مما سمعت ! فى حين إستنكرت عليها خالتها وأمها أن تعطى الفرصة لدلال كى تتصل بجاسم .. حتى عند نايف !!
بعد هذا الموقف المثير ، يسكت الجميع ، كأن إتفاقاً خفياً عقد بينهن بانتظار رجوع جاسم الذى سيظهر عليه تأثير مكالمة دلال بعد خناقتها مع أخته ليلى ، يضيق خلق أم جاسم خوفاً أن تشكو دلال ما فعلته ليلى بها ! تسكت دون أن تعرف كيف تخمد غضبها أو تنفث عن ضيقها ، فتطلب من ليلى أن تشغل لهم فيلماً عربياً يسليهم ، لكن .. قبل أن تنهض من مكانها ، يجرى أحمد يحضر مسرحية ” باى باى يا عرب ” للفنان عبد الحسين عبد الرضا ، والفنانة حياة الفهد ، كما يحضر مسرحية ” فرسان المناخ ” لعبد الحسين عبد الرضا أيضاً .. ويسألهم أى مسرحية من هذه تفضلون ؟! يقولون له :
– اختار على كيفك يا أحمد .
يجلسن جميعهن يشاهدن أحداث المسرحية الضاحكة الساخرة ، فى حين تطالع سعاد أبنها فى حب بين فترة وأخرى ، وهى ترى إعجابه وإندماجه وإنفعاله بأداء هذا الفنان المسرحى ، فتبتسم فى حنان لأنها تعرف أن أحمد طالع مثل خاله بدر يحب الفنان عبد الحسين عبد الرضا ، كما تعرف أنه أكتسب هذا الحب منذ صغره ، لما كان يراقب خاله بإنبهار وهو يقلد هذا الفنان الكبير !
فجأة .. يدخل جاسم دون توقع ! يحضر مبكراً جداً اليوم على غير عادته ! ، فالساعة الآن حوالى السابعة مساءاً بتوقيت نيويورك وهو لا يعود إلى البيت أبداً قبل منتصف الليل !!
يدخل عليهم جاسم بوجه متجهم ، منزعج ، وسحنة حادة مقلوبة ! كانت حالته غريبة .. مخيفة ، فهم لم يروه أبداً بهذا الشكل !! يجلس عابساً صامتاً متجاهلاً وجودهم ، حتى وجود أحمد ابنه بينهم ، يتجاهله أيضاً كأنه لا يراه .. !!
يجلس صامتاً عابساً ، دون أن ينطق كلمة ، كأنما فقد القدرة على النطق تماماً ،
يظل يهز قدميه فى عصبية بطريقة لا إرادية ، وقد بدى عليه وجوم ، وغضب شديد وحزن وذهول !!
كان يبدو حائراً يفكر كيف يبدأ الحديث معهم ، كيف يفتح الكلام ! تحس ليلى خوفاً هائلاً من شكل جاسم الغريب ! تطالع أمها فى وجل وهلع تبحث لديها عن ملجأ يحميها من غضبه جاسم ، ويقيها من ثورته المرتقبة التى حتماً سوف تكون ثورة عاتية عارمة !!
تنكمش ليلى داخل نفسها تكتم أنفاسها ، وهى لا تقوى على النظر إلى أخيها ، الذى بدى وكأنه قنبلة موقوتة .. على وشك الإنفجار !! لكنها تتماسك ، تقول :
– أنا آسفة يا جاسم .. أنا ما كنت أقصد أجرح دلال .. أنا كذ …. !
وقبل أن تكمل ليلى إعتذارها ، يرفع جاسم نحوها عينيه الشديدة الإحمرار ، كأنما غمستا فى بحار من الدماء .. ثم .. ينفجر فى بكاء رهيب ، رهيب ، يرجّ بدنه رجاً .. يصيح وهو يخفى وجهه المحنى بين كفيه .. راحت الكويت .. راحت الكويت !!!
الفصل السادس عشر
الصدمة الصاعـقّة !
تخيم ظلال الحزن على البيت . تنفجر الآلام من الأعماق . تطغى على الوجوه التى لم تستطع أن تصدّ عن ملامحها آثار الصدمة والذهول والرهبة . بعد أن انقطع الإتصال بالكويت عند منتصف الليل ، وإنعزلت الديرة بمن فيها عن العالم أجمع !!
الرحمة بعبادك يا رب .. يا رحمن يا معين .
يتكلم الجميع فى وقت واحد . يصمت الجميع فى وقت واحد . يتساءل الجميع فى وقت واحد ، عما يمكن أن يحدث ! وعما يمكن أن يكون !!
تظل سعاد تلف . تدور . تحاول الإتصال بوالدها الذى كلمته أول يوم الغزو . تعود تحاول ، وتحاول ، لكن .. دون جدوى .. إنقطع الإتصال بالمرة !!
آه .. ينقطع الإتصال ، يتصل الحزن ، والعويل ، والبكاء ، الكل يبكى ، كبيراً وصغيراً ، الكل يرفض أن يصدق ! الكل فى ذهول !!
مائة ألف جندى من القوات العراقية تجتاح الأراضى الكويتية ، تستولى على قصر سمو الأمير ، والمبانى الهامة فى هجوم مباغت عند الساعة الرابعة والنصف صباح يوم الخميس الثانى من أغسطس 1990 !!
يتسع شرخ الخوف . يسرى الرعب . يستمر البكاء . والنحيب . والنواح . يتخبط الصدى بين الجدران حتى تكاد تهتز . تفيض بالدموع والهموم والأحزان . يغرقا لكل فى الآلام . الكل يبكى . حتى راكان الصغير يبكى . يبكى دون أن يفهم سبباً لبكائه ! لكنه يبكى ويبكى ، فكل من فى البيت يبكى ! الكل فى حالة حزن حزين وخوف مخيف يصيب هذا الطفل الصغير بالذعر والهلع ! خوف رهيب منقطع النظير يجعله لا ينقطع عن البكاء !
الله .. يا رب . يا مغيث . يا سامع الدعاء . ارفع عنا هذا الغم وهذا البلاء .
تتوقف الدنيا . تنفجر اللحظة . لا يعود أحد يعرف ماذا يفعل بعد أن جاء هذا الخبر المفجع ! الكل ينصت ، يصغى . يسمع . تشحذ كل الحواس فى الأذهان ، تتلقف الأعين والآذان شتى الأخبار ، المعلومات ، الأنباء ، عبر كل وسائل الإعلام .
الجميع بعد أن قطعت الأخبار نهائياً عما يجرى فى الكويت ! يغزو الخوف القلوب . يتأصل القلق . يستفحل كمرض خبيث يستشرى فى النفوس . يحاولون إدراك الموقف بكل أبعاده ، لكنهم يفشلون ، لا يفهمون شيئاً ، فليس هناك مبرر على الإطلاق لما حدث ! كما أنه لا يوجد سبب واحد مقنع ، لما يكون !! الوضع غير مألوف !!!
يتساءلون .. أهو الزمن الذى يبطئ فى سيره ؟! أم هى الساعة التى صارت معتلة كسيحة تعجز عن الحركة والدوران ؟! إنهم قابعون فى إنتظار الأخبار التى تنهال على قلوبهم كالأحجار ! تهيل الهم والغم والحسرة على نفوسهم ، والحزن .. بلا حساب .. تتساقط الأنباء كما تتساقط الصخور والجبال بلا رحمة فوق رؤوس الجميع ، الذين يتلقونها فى ذهول ، وصدمة ، وهلع ، جزع ، وإعياء !
تهبط النفوس إلى القاع ، بينما تبقى القلوب واجفة داعية ، راجية ، تترقب الأخبار فى جميع المحطات ، وعلى كل القنوات . يجلس جاسم متعباً . مرهق النفس ، والروح ، والقلب . يرفض ما يتوارد من أنباء . يأبى أن يصدق ! لكنها للأسف ، حقيقة أكيدة ، واقعية ، فالأخبار مخزنة مؤسفة ، وإن كانت غير منطقية .. غير منطقية !!
صرخة حزن ملتاعة تخرج من القلب عندما يهجم الحزن حاملاً هذا النبأ :
قوات الغزو تحتل قصر دسمان .. مقر إقامة أمير الكويت ، وتحوله إلى ثكنة عسكرية !
آآآه .. آهات حزن طويلة ملتاعة تصرخ . ترج الجدران .. راح الشيخ فهد الأحمد ! راح وهو يدافع عن القصر والأرض والعرض !! إستشهد البطل ، وهو يفدى بدمه الطاهر أرض الكويت .. بكاه جاسم من القلب ، كما لم يبك أحداً فى حياته من قبل !!
دهم الغزاة قصر دسمان ! كان الشيخ فهد خارج القصر عندما سمع النبأ ! فأخذ سيارته وإتجه مسرعاً إلى القصر ، وهناك إشتبك مع الغزاة ، وقاوم قدر المستطاع إلى أن نال الشهادة !
يبكى جاسم الشيخ فهد الأحمد بكاءً مريراً وهو يخبط كفاً بكف ! يقول وهو حزين مذهول لا يكاد أن يصدق حزنه وذهوله وفجيعته :
– كان يحارب وياهم فى الفاو !! كان يحس أنهم أخوانه ويعتبر إن هذا واجبه نحوهم وإنه لازم يقف يدافع عنهم وعن وطنهم .. والحين .. هم اللى يقتلونه ؟! بأيديهم يقتلونه ؟! بعد كل اللى سواه عشانهم !!
تجلس سعاد فى جزع فوق المخاد على الأرض ، تمسك فى يدها المرتعشة زجاجة الكولونيا تنثر منها فوق جبهة أمها التى غابت عن الوعى عندما وصلها خبر إستشهاد فيصل ، ابنها الشاب الرائد فى وزارة الداخلية ، أستشهد فى مخفر شرطة العاصمة ، وهو يؤدى واجبه فى الدفاع عن الوطن ، عندما إقتحم المعتدين المخفز ، وقتلوا كل من فيه ، فى أولى ساعات الغزو اللعين !
.. يا رب .. يا رب .
يجلس جاسم يرتل آيات الذكر الحكيم :
” وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ”
صدق الله العظيم
تتسرب الأخبار والأنباء عن هذا الهول اللعين الذى يجتاح أرض الوطن كالطاعون ! يجزع كل من يسمع هذا النذير الأسود الذى يحيق بالأرض الطيبة ، يفتك بها ، وبمن عليها من الناس الطيبين ! ترجف القلوب . تجزع النفوس . يزيد البكاء . تتورم الجفون . ينمو الخوف . يتضخم ، فلا أحد يعرف ماذا يجرى ؟ أو ماذا يدور ؟! لا أحد يعرف مصير الأحباء الغاليين الموجودين فى الكويت !
يشتد الجزع بعد سماع نبأ أوردته وكالة رويتر تعلن فيه أن :
حوالى 600 إلى 800 كويتى قد لقوا مصرعهم أو أصيبوا منذ اليوم الأول للغزو العراقى .. !
يزداد الهلع عندما يسمعون الشيخ سعود ناصر الصباح ، سفير الكويت بالولايات المتحدة وهو يعلن أن :
القوات العراقية تواصل إنتهاك حقوق الإنسان بممارسة الأعمال البشعة ضد المدنيين !
آه .. صرخة حادة من القلب تخرج تشق الحنجرة :
– آه .. يا ترى مين حى ؟! يا ترى مين ميت ؟ يارب سترك . يا رب رضاك . يارب الرحمة بعبادك يا أرحم الراحمين . يارب أحفظهم . يارب نجهم . يا منجد . يا منقذ . يا مغيث .
تنفجر سعاد فى بكاء متصل ! وهى تفكر فى أهلها ، فى والدها ، فى أشقائها ، فى زوجاتهم ، فى أطفالهم :
– آه .. يارب .. الله معهم .. الله معهم .. ترى شنو يسوون الحين ؟! إيش لون يقدروا يتحملون كل هالأهوال ؟! وأبوى .. سالم .. هذا الرجل الطيب المسالم .. شنو يسوى وياهم .. آه .. يارب .. يارب .. !
تبكى سعاد ملتاعة جازعة :
– آه يوبا .. وينك يوبا ؟ وينك يا عبد الله .. آه .. الله يرحمك يا فيصل .. الله يرحمك .. آه .. إيش لون منصور الحين قادر يعيش من غيرك ؟!
تنخرط سعاد فى بكاء حاد يقطّع القلوب . تتعذب خوفاً وقلقاً على الأهل فى الكويت . تدعو الله أن يفرّج عنهم :
– يارب نّجى الجميع يارب يا قادر .. يا معين .
تنسدل ستائر الحزن السوداء . تزداد قتامة وحلكة الليالى والأيام . لحظة بعد أخرى ، يحاول جاسم المستحيل لمساعدة من حوله والتخفيف عنهم ، فحالتهم الصحية والعصبية تتدنى بصورة مخيفة ، واضحة ، مقلقة ، فالحزن طاغ يطحن الروح ، والقلق ساحق يرهق النفس ، يذيب القلب ، يزيد من إحتمالات الخطر ، خاصة ، أن خالته فلبها ضعيف ما يتحمل كل هذا التوتر والإنفعال ، ولا كل هذا الحزن والأسى والبكاء !
تتسرب الأنباء إليهم ، يعرفون أن قتالاً ضارياً نشب بين قوات الغزو والعسكريين فى منطقة كيفان ، إستمر لمدة ثلاثة أيام ، إستخدمت فيه مختلف الأسلحة ، وتم تبادل إطلاق النيران ، وبعدها وقع فى قبضة قوات النظام عدد كبير من العسكريين والمدنيين الكويتيين ، الذين تم أسرهم ، ولا يعرف أحد مصيرهم !!
يزداد الموقف بشاعة وحزناً وهلعاً ، بعد إنهيار أم جاسم وليلى ، اللتان غابتا عن الوعى بعد سماع تلك الأنباء المؤسفة التى يتعرض لها المواطنون هناك ! الذين ظلوا يصارعون العدوان قدر طاقتهم ، إلا أن قوى البغى طغت وتجبّرت ، وتمادت فى الظلم والقهر والعدوان !
تظل ليلى تحاول الوقوف على أخبار والدها اللواء أحمد الناصر فى بيتهم بكيفان ، وهى فى حالة جزع لا توقف ، بعد أن إنتابها خوف داهم على مصيره إثر تلك الأنباء المروعة التى وصلتهم .. لكن .. لا أمل .. لا جدوى !
تصرخ ملتاعة :
– آه .. ياربى .. شنو راح يسوون فيهم .. شنو راح يعملـــــــون وياهم .. آه .. آه .. !
تنهار ليلى فى البكاء تشاركها أمها وخالتها ، وسعاد وأولادها ، أولهم أحمد وآخرهم راكان ، حتى المربية البرازيلية تبكى لبكائهم ، تحزن لحزنهم ، حتى السائق والموظفين الأمريكان فى شركة سعاد يشعرون ويتأثرون بما حل بهم ، الكل يشاركهم أحزانهم ، فالمصاب فادح . فادح . أليم . أليم !
مع الوقت ، تتأزم الظروف ، يزداد الموقف صعوبة وضنكاً ، تطحنهم المحنة ، تحاصرهم ، تمزقهم بمخالبها وأظفارها ، لا يعرف جاسم ماذا يفعل بعد أن عرف أن الولايات المتحدة الأمريكية قد جمّدت الودائع والممتلكات الكويتية لديها ولدى الفروع والمؤسسات التابعة لها بالخارج !
يا الله .. ما العمل ؟! كيف التصرف فى هذه الورطة غير المنتظرة ؟! يستنفد الموقف المباغت قدرة جاسم على التحمل بعد أن أكتشف أنه لم يعد يمتلك شيئاً من المال !! كان جاسم قد حول معظم رصيده قبيل سفره إلى الكويت فى شهر فبراير الماضى ! يدرك جاسم الآن إنه قد أصبح لا يمتلك من المال إلا أقل القليل ! يا الله .. الظرف صعب . عويص . شاق . عسير . الأحوال تنحدر بسرعة إلى أسفل . تجرفهم نحو هاوية سحيقة القرار !!
يخرج جاسم ، يذهب إلى المستشفى ، يحاول أن يلتقى مجموعة الأطباء العرب
هناك ، ليناقش معهم ظروف المحنة الحالية ، فهو لا يعرف ماذا يفعل ولا يعرف كيف يتخذ أى حل أو قرار ! وبعد تفكير مشتت سريع ، ينصحه بعض الزملاء بالعودة إلى العمل فى المستشفى ، فيقوم جاسم بتقديم طلب إلتحاق بالعمل ، فيقابل هناك بذوق وترحاب . يأخذون منه الأوراق على وعد الإتصال به فور أن يخلو المكان المناسب !
يعود جاسم إلى البيت محبطاً . يضع سلسلة مفاتيحه ونظارته على الطاولة فى غرفة المعيشة . يدخل حجرة نومه مختنقاً . منقبضاً . غاضباً من هول الموقف المفاجئ الذى يمر به . تصطدم يده بالمحفظة الجلدية التى تحوى جميع بطاقات الائتمان ، الفيزا كارت ، الماستر كارت ، الأميركان إكسبريس ، الدينرز ، يخرج هذه البطاقات من المحفظة ، يمسكها ، يفردها بين أصابعه ، يطالعها واحدة واحدة فى هم وأسى ، فهى فاضية . فاضية . لا قيمة لها . صارت مثل ورق اللعب .. لا فائدة ترجى من ورائها !!
يرميها فى قرف على الدرج الخشبى بجوار الفراش ، يكمل خلع ملابسه ، يدخل الحمام الملحق بغرفة النوم ، يأخذ دشاً بارداً ، ينهمر الماء فوق رأسه المتقد ، عله يطفئ النيران المشتعلة فى كيانه ! ينفض الماء عن شعره ، وهو يهز رأسه بشدة يميناً ويساراً ، بعد أن خرج من الحمام دون أن ينشف جسده ، لعل الماء البارد العالق بجلده يخفض درجة حرارته الآخذة فى الارتفاع ، ولربما يخفض سرعة دوران أفكاره أيضاً !
يخرج جاسم مرتدياً دشداشة بيضاء ، يجلس على الأرض ، فى صالة المعيشة بجوار ليلى ماداً ساقيه إلى آخرهما ، مستنداً بظهره إلى الكنبة الطويلة ، التى إعتاد أن يرتاح عليها ويتمدد فوقها . يدنو من أخته ، يربت على كتفها . يقول لها مواسياً مخففاً :
– لا تخافين يا ليلى .. لا تخافين .. أبوك بخير .. الكويت بخير .. إن شا الله ما راح يصير إلا الخير .ز لا تخافين .. لا تخافين .
تجيب ليلى بين دموعها :
– بس هم قالوا فى الأخبار إن الحالة سيئة هناك .. وأنت تدرى عن أبوى ما يقدر يتحمل الغلط .. أبوى ما راح يسكت .. أنا عارفة .. ما راح يقبل الإهانة .. أبوى رأسه كبير يا جاسم وأخاف يقتلونه بدون سبب لأنه عسكرى !
يرد جاسم فى محاولة يائسة لإدخال الطمأنينة إلى قلبها :
– يا ليى سكتى الله هداك .. ترى أبوك بطل ما ينخاف عليه .. هو يقدر يدّبر حاله .. لا تخافين .. ترى ما فى داعى أمك تسمعك وأنت تقولين هالكلام راح يطير عقلها طير .. حالتها ما تسمح يا ليلى .. أرجوك راعى ظروفها .. امسكى نفسك شوى .. الله كبير .
تنظر ليلى إلى أمها المكوّمة على الأرض أمام التليفزيون ، يلتصق عقلها وقلبها بشاشته الفضية ، تتمنى أن تسمع خبر الإنسحاب الذى سمعوا عنه ، حين أذاعت النبأ بعض وكالات الأنباء ، وقيل أن العراق بدأ يسحب قواته من أرض الكويت منذ الساعة الثامنة صباحاً ، بالإتفاق مع ما يسمى بحكومة الكويت المؤقتة ! تظل أم جاسم مكانها لا تتحرك . تبقى تنتظر أن يتحقق هذا الخبر ، لكنها ما تلبث أن تنهار عندما تعرف إن الشيخ سعود السفير هنا قال إنها أكذوبة لا يمكن لأحد أن يصدقها !
كانت أم عبد الله ما تزال نائمة ، إذ أن جاسم لم يتوانى عنها ، كان يواظب على حقنها بالمهدئات من وقت لآخر ، كى لا تتدنى حالتها ، ولا يتعرض قلبها إلى المزيد من التوتر والإنفعال ! فى حين تبقى ليلى مذعورة ملتاعة جازعة ، بسبب الظروف الرهيبة المفزعة التى يمرون بها ، فها هو نايف جاءهم يسلم عليهم مودّعاً ، لأنه سيسافر عائداً إلى الوطن الآن بعد أن أعلنت المملكة العربية السعودية عن بدء التعبئة العامة لقواتها المسلحة ، وأخذ راديو الرياض يدعو جميع الشبان فى سن الخدمة العسكرية إلى حمل السلاح ، كما تم تعبئة سلاح الجو السعودى .
تتمنى ليلى من أعماقها أن تنتهى هذه المحنة ، وأن لا تطول الأزمة ، وأن يسحب صدام قواته من الكويت ، وأن تعود الأمور إلى طبيعتها بعون الله . لكن .. فى خلال ساعات تنقلب الدنيا حولهم فى أمريكا ، فالرئيس الأمريكى جورج بوش يستدعى كبار مستشاريه لاستعراض البدائل العسكرية الممكن اللجوء إليها فى حرب الخليج ، كما تقوم الولايات المتحدة بعملية حشد وتعبئة قواتها البحرية ، ومشاة الأسطول وقاذفات القنابل فى المنطقة
ذاتها !
تجلس سعاد فوق الفراش فى غرفتها تتحدث مع أحمد الذى يمسح دموعه وهو يسال فى خوف الكويت ، وعما صار فيها :
– ليش قتلوا خالى الفيصل ؟! ليش هاجموا المخفر ؟! مو أحنا كنا نحبهم ونساعدهم وكنا نعطيهم فلوس وأكل لما كانوا بيتحاربوا مع إيران ؟!
تحتار سعاد ، لا تعرف كيف ترد عليه ، فقد كانت هى نفسها تسأل نفس السؤال دون أن تستطيع العثور على إجابة له ! يشتد جزعها على ولدها ، وهى تراه متأثراً كل هذا
التأثر ! كان حزنه واضحاً وخوفه أليماً . كان بكاؤه على خاله فيصل يقطّع قلب سعاد ، كان أحمد فى حالة مضنية من الحزن الشديد . كان يبكى فى صمت ، وكانت أمه تتقطع وهى تراه يبكى ، فهى تعلم أنه لا يحب أن يراه أحد وهو يبكى ، لذا كان يبكى فى صمت بعيداً عن العيون . كان لا يوّد أن تراه أنوار التى كانت تنهار فى البكاء لو أحست به يبكى . وراكان أيضاً كان لا ينقطع هو الآخر عن البكاء !
لم تتمالك سعاد نفسها وأحمد يسالها :
– بس يوّما أنا وعدت جدى إنى أرجع عشان أقضى وياه الأجازة .. الحين إيش لون أرجع الكويت ؟ كيف أشوف جدى ؟ ها .. الحين إيش لون ؟! .. كيفغ أرد الكويت ؟! أنا اتفقت معاه إنى ..
وهنا .. لا تستطيع سعاد أن تتمالك نفسها ، تنهار فجأة باكية بصوت يقطّع القلوب ، ولا يدع أحمد يكمل كلامه ، يتفجّر حزنها على أخيها ، وخوفها على أبيها ، وقلقها على حماها ، وخشيتها على أهلها وكل الناس فى وطنها .. حتى البحر .. الشاطئ .. الأبراج .. قصر المؤتمرات .. النادى .. بيتهم فى الشامية .. بيت جاسم فى كيفان .. وقصر دسمان .. إقتحموه .. حطموه .. !!
يتمزق قلبها .. تخفى سعاد وجهها بين يديها ، تنهار باكية ، تظل تبكى ، وتبكى ، يخرج أحمد من الغرفة منزعجاً ، لا يعرف ماذا يفعل ، يذهب يخبر والده عن بكاء أمه الشديد فيهب جاسم واقفاً يدلف مسرعاً إلى الغرفة ، يقترب من سعاد التى تراه فيشتد نحيبها ويظل يعلو ويهبط صدرها فى نشيج مقتطّع مكتوّم !
يجلس جاسم على الفراش بجانبها . يأخذها فى حضنه مواسياً معزياً . يربت بيده فى حنان على ظهرها . يملس بكفه على شعرها ، يستشعر خوفاً ، يهدئها ، يمنحها إحساساً زاخراً بالحب ، يملأ صدرها بالشعور بالمشاركة والمواساة ومشاطرة الأحزان .
تهدأ سعاد بعض الشئ ، فتسترخى تفرد ظهرها ، تسند على المخدة رأسها ، فتلمح بطاقات الإئتمان المبعثرة بلا مبالاة بجوار الفراش ، تفهم على الفور حقيقة الموقف الذى يمر به جاسم، فتتجاهلها كأنها لا تراها ، حتى لا تتسبب فى إحراجه . تحاول أن تتماسك وأن تكف عن البكاء إلا أنها تشعر بإعياء شديد وإرهاق أشد يجعلها ترتمى فوق فراشها ، تلتصق بظهر السرير الحريرى رأسها ، وهى تعجز عن إلتقاط أنفاسها المتقطعة ، كأنها دجاجة مذبوحة تلقط أنفاسها .. !
يظل جاسم جالساً على الفراش بجوارها يمسح بأصابعه وشفتيه الدموع عن عينيها ، وهو يقب وجهها ويربت على وجنتيها ، بينما يبقى يطالعها بحنان وحب لا يخفى على قلبها ، الذى دفع الدم حاراً إلى جلدها ، فتحولت سمرته الحلوة التى يحبها إلى اللون القانى الداكن الشديد الإحمرار !
يطمئن جاسم على سعاد ، يخفى جزعة عنها ، يود أن يعود ليزاول خفارته الليلية فى غرفة المعيشة ، حيث يطمئن على أحوال مرضاه ، أمه ، وأخته ، وخالته ، وأولاده الصغار ، هؤلاء الرافدين منتظرين ليل نهار سماعه الأخبار ، وفى مقدمتهم أحمد الذى يترجم لهم أولاً بأول ما يسمعه من أنباء ومعلومات تثير مخاوفهم ، تشد أعصابهم ، ترهق قلوبهم ، حتى تحول أفراد الأسرة جميعهم فى نظر الطبيب جاسم إلى حالات خاصة ، لكل منهم معاملة طبية معينة ، وعلاجاً صحياً محدداً !
وكان أكثر ما يقلق جاسم ، هى حالة خالته أم عبد الله ، وحالة إبنه الصغير راكان ، الذى بدا واضحاً أنه صار يعانى هو الآخر من إكتئاب حاد ، أدى إلى اضطراب نومه ، عزوفه عن الطعام !
ينهض جاسم واقفاً . يهم أن يعود لغرفة المعيشة ، لكن ، قبل أن يتحرك من مكانه ، تمسك سعاد يده ، يقبض عليها بقوة ، ترجوه أن يبقى معها دقيقة واحدة فقط !
يجلس جاسم مندهشاً مستغرباً من حركة سعاد المفاجئة هذه ، فينظر إليها ، ينتظر أن يسمع منها ما تريد أن تقول .. وبهدوء وتماسك تطلب سعاد :
– جاسم .. أرجوك .. أنا عندى كلام أريد أقوله لك .. بس مو فى البيت .. بكره إن شا الله نروح كافيتريا ” ريشو ” القريبة هذه .. عشان أقدر أتكلم معاك على راحتى .. أرجوك يا جاسم لازم نروح .. لازم .
يتذكر جاسم إن كافتيريا ” ريشو ” هذه ، شهدت أروع لقاءاته مع سعاد ، حين حضرت إلى أمريكا لأول مرة ، قبل أن يتزوجا ، وبعد أن تزوجا ، وأنجبا ، كانت هى المكان المفضل لهما فى أوقات السعادة والفرح ، لذا تزداد دهشته من طلب سعاد فى هذا الوقت المتوتر بالذات ! تجيب سعاد تساؤله الصامت قبل أن ينطق به :
– أرجوك .. لا تعتذر يا جاسم .. ضرورى نروح .. أنا مانى عارفة أتكلم معاك فى البيت .. ما فى فرصة .. أرجوك يا جاسم توافق .
يجيب جاسم طلب سعاد فى دهشة كلما نظر إليها ! وكلما أحس إلحاحها ، وشعر برجائها :
– زين سعاد .. تكلمى .. قولى إيش عندك .. قولى الحين .. لا تؤجلى الموضوع لباكر !
– لا .. ما أقدر يا جاسم أتكلم الحين .. ما عندى استعداد .. خليها بعدين .
يوافق جاسم على طلب سعاد ، ينهض واقفاً خارجاً إلى صالة المعيشة ، حيث يتواجد أفراد الأسرة كلهم ، بما فيهم راكان ، الذى يظل مستيقظاً ، يروح ويجئ بينهم وبين أمه طول الوقت ! يجلسون جميعهم بين يدى الله ، يصلون . يدعون . يبتهلون ز يرجون الله أن يحمى الأهل والوطن من هذا الهول الذى إقتحم عليهم ديارهم ، وأن يرفع عنهم هذا البلاء ! تقرأ ليلى آيات الله البيّنات دون إنقطاع داعية الله أن يحفظ الكويت وأهلها من كل شر وعدوان ، وأن يقهر هذا الظالم صدام اللى ما يخاف ربه ، وأن يبعد زبانيته عن أرضهم ، ويخرهم من ديارهم . آمين يا رب العالمين . آمين يا أرحم الراحمين .
.. يمضى الليل أسوداً . جباراً . مهيباً . مخيفاً . تتناوبه ظلمات الشك ، والريبة ، والوساوس والهواجس ، تلك التى تتكدس فى لقب جاسم فتطحنه طحناً . تسحقه سحقاً . تدمره تدميراً . وأهوال الدنيا كلها تنهال فوق رأسه . تبقى تتزايد حوله ، بعد أن تدهور الحال به من القمة إلى القاع !
يظل جاسم مسهداً ساهراً مؤرقاً لا يغمض له جفن طول ليلة .. لم ينم ليلها ! يعود يحادث نفسه للمرة المليون مسائلاً :
– شنو تبى سعاد ؟! شنو تبى ؟! هى تبى شئ أسوّيه لها ؟! وألا هى تبى تسوّى لى شئ ؟!
لا يعرف جاسم طريقاً إلى الراحة والسكون ، فعقله ما زال يلف ويدور ، يظل يقلّب الموقف على كل الوجوه .. يبقى متيقظاً ، حائراً ، متخوفاً مما سوف يسمعه من سعاد ، متمنياً فى قرارة نفسه أن يكون الموضوع بعيداً عن دلال لأن الكلام فيه يحرج سعاد قبل أن يحرجه .. وهو لا يريد إحراجاً سواء له ، أو لها !
لذا ، يظل يفكر ويفكر ، لا تغمض له عين حتى مطلع النهار .. ! يبقى يحدق فى سقف الغرفة شارداً ساهماً . مستغرقاً فى تفكير عميق عميق . ومخه لا يتوقف عن الدوران ، حول توقعاته المرتقبة بسبب هذا اللقاء العجيب الغريب .. الذى تحدد فى وقت أعجب
وأغرب .. !
الفصل السابع عشر
اللحظة الحرجة !
صرخة ذعر ملتاعة تشق سواد النهار .. تهّب دلال من نومها مذعورة حوالى الساعة العاشرة على دوى القنابل ، وفرقعة الإنفجارات ، وهدير الطائرات التى تملأ عنان السماء ! وخهى تحلق على إرتفاع منخفض فيزلزل صوتها المروع سكون المكان ! ويعطى إحساساً مفزعاً كأن القيامة ! والدنيا إنهدت على من فيها .. !
تنهض دلال خائفة مذهولة تسأل عن مصدر هذه الأصوات المرعبة ، وهى تضم إبنتها دانه إلى صدرها وتحتضنها بقوة . بعد أن صحت من نومها صارخة باكية ، فى حين كانت دلال خائفة ، حائرة ، تحس قلقاً مبهماً ، وذعراً غامضاً من تلك الأصوات المتفجّرة القريبة والبعيدة التى تسمعها من الكويت لأول مرة فى حياتها !
تتمتم جازعة عاجزة عن الحركة أو ردة الفعل إزاء هذا الرعب المباغت :
– شنو هذا ؟! شنو هذا ؟!
لحظات وتخرد دلال من غرفتها ، تدخل غرفة أمها ، فلا تجدها فى فراشها ، تفتش عليها فتراها تركض فى البيت وعيونها مفتوحة على آخرها .. وهى تسأل دلال فى دهشة وذعر :
– بسم الله الرحمن الرحيم .. شنو هذا يا دلال ؟! إيش صاير ؟
ولا تنتظر أمها الإجابة ، تركض نحو السطح ، تصعد بسرعة ، تنزل بسرعة ، تركض بسرعة من غرفة لغرفة وهى لا تعرف .. شنو صاير ! .. ولا تعرف سبب الحرائق المشتعلة فى كل مكان ، ولا سبب هذه القنابل اللى قاعدة تنضرب على البنايات الكبيرة بكل الكويت ..!
تسمع دلال بصعوبة رنين الهاتف ، فتركض ترفع السماعة ، وإذ بصوت أخيها الكبير جمال :
– دلال .. سمعى .. ترى العراق دخل الكويت .. جهّزى حالك بسرعة .. راح آجى الحين آخذكم !
تسأل دلال أخيها الكبير مذهولة مما تسمع :
– شنو تقول جمال ؟ العراق دخل الكويت ؟ ليش ؟! متى ؟!
هنا تقفز أم دلال ، تنط كمن لدغها عقرب تخطف السماعة من يد دلال تعيد السؤال على جمال :
– جمال .. شنو تقول جمال ؟ العراق أخذ الكويت ؟ شنو هالحكى ؟! مين يقول ؟! شنو صاير جمال ؟! شنهى السالفة ؟!
تسمع نفس الرد المسرع المتوتر ، فترمى السماعة من يدها .. تجرى تفتح الراديو ، وما هى إلا لحظات .. حتى يصلها النبأ اليقين .!
تصرخ أم دلال ، تولول حينئذ نائحة :
– أمى .. أمى فى المستشفى بروحها .. أكد يراح تموت من الخوف .. آه يوّما .. آه يوّما .. قلبك ما يتحمل هالمصيبة .. ياربى .. أمى راح تموت .. راح تموت !
تلتقط دلال السماعة تكلم أخيها جمال ، وهى لا تعرف ماذا تقول له ، فهو يصرّ على أخذهم عندهم بالبيت فى العديلية ، لكنها تعتذر بسبب إصرار أمها على الذهاب إلى المستشفى ، فيقول جمال معترضاً رافضاً :
– ما يصير دلال تظلون بروحكم فى البيت بدون رجال معاكم .. ماحد يعرف شنو راح يصير .. الدنيا كلها ملخبطة فوق حدر .. ما يصير .. !
وقبل أن ترد دلال على أخيها ، تصرخ أمها فى وجهها ، بصوت يخرق أذن شقيقها جمال :
– لا .. أنا ما أقدر أروح عند حد وأخلى أمى بروحها فى المستشفى .. أنا باروح الحين أشوفها .. لا .. لا .. ما أقدر أسيبها .. ما أقدر أخليها .
تهرع دلال مع أمها ودانة إلى مستشفى مبارك الكبير ، حيث ترقد الجدة العودة منذ إجراء عملية القلب لها فى غرفتها الخاصة بالجناح . وبدون أى توقع يصبح الطريق القصير من السالمية إلى الجابرية ، حيث توجد المستشفى طريقاً بلا نهاية !!
ترتبك حركة مرور السيارات التى تنطلق فى كل مكان ، فإشارات المرور تحولت إلى هياكل معدنية ليس لها أهمية ، فى حين صارت ألوانها الحمراء والصفراء والخضراء بلا أى معنى أو مغزى ! فالسيارات تنطلق عكس السير ، الكل يجرى . الكل يتحرك فى كل إتجاه . الفوضى تحكم الموقف . فلا ضبط . ولا ربط . لم يعد هناك أى إعتبار لقواعد السير المتعارف عليها !
وبشق الأنفس ، تتجاوز ، سيارتهن ذلك الإزدحام الفظيع الذى دهم محطات البنزين سواء فى السالمية ، أو الجابرية ، كانت عشرات السيارات تصطف تعبئ الوقود داخلها بالإضافة إلى صفائح أخرى إضافية ، معدنية كانت ، أو بلاستيكية !!
معجز إلهية وحدها أوصلتهن إلى مستشفى مبارك ، ركضن جميعهن إلى غرفة الجدة التى وجدنها نائمة فى فراشها ، لا تدرى عن الدنيا شيئاً ، ولا تعرف ماذا يدور حولها ! ولا تعلم شيئاً عن الغزو الذى بدأ قبيل الفجر بقليل !!
تمشى دلال فى الممر ، تحاول أن تقابل أحداً تسأله عن وضع المرضى الآن ، لكنها تجد عند كل شخص تتقابل معه فى المستشفى دهشة عصبية بادية فى الأيدى ، وفى الأصوات ، وفى الحركات ، فلا أحد يعرف ماذا حدث ، أو يحدث ، أو سوف يحدث !
أخيراً تلتقى دلال أحد الأطباء .. تسأله فى جزع عن وضع جدتها ، تستفسر منه عن مكان الطبيب المختص الذى سيتابع حالتها لتعرف منه حقيقة حالتها الصحية الآن ، ولتسأل ما إذا كان فى إمكانهم أخذها إلى البيت ، أم أن هناك ضرورة تحكم بقاءها فى المستشفى ؟!
لكن .. قبل أن يقرر الطبيب ماذا يقول ، تصرخ أم دلال فى ابنتها رافضة هذا الرأى ، مصممة أن تبقى أمها فى المستشفى :
– أمى ما تطلع من المستشفى .. أمى لو دشَت الحين البيت راح تموت .. أمى لازم تظل بغرفتها تأخذ علاجها وما تخرج إلا وهى سليمة تمشى مثل الحصان !
وفى وسط هذا الحدث المباغت المخيف، وفى قلب هذا الموقف المرعب الرهيب ، تقتحم صورة جاسم بشاعة اللحظة الحرجة ، فلا أحد يدرى ماذا يفعل ؟ وماذا يمكن أن يكون ؟! وضع غريب مفاجئ بغيض . فلا أحد يتوقع سوى الموت والخطر الذى يتوفر عادة فى مثل هذه الظروف تحت سيطرة الغزو والعدوان !!
هنا .. يصير جاسم محور الأمن والأمان فى وجدان دلال التى تنادى فى إحتياج وإلتياع :
– وينك يا جاسم ؟ .. وينك يا جاسم .. ؟ ليش خليتنى بروحى .. ليش تركتنى لوحدى ؟
تبكى دلال من قلب مجروح ، وهى تمشى بين ردهات المستشفى ، تمشى تنظر إلى المكاتب الصغيرة المفتوحة الأبواب ، فتلمح فى بعضها أعضاء الهيئة التمريضية ، كما تلمح البعض الآخر وقد خلا منهم ، لا تعرف مع من تتكلم ، أو ممن تطلب الدواء اللازم لجدتها ، إلى أن تلتقى بعض الأطباء الذين طمأنوها ، ونصحوها بعدم أخذ جدتها من المستشفى ، حتى لا تتعرض للإهمال أو نقص الرعاية لأن حالتها لا تسمح بخروجها من المستشفى الآن .
تقتنع دلال أخيراً برغبة أمها فى عدم إصطحاب جدتها إلى البيت ، بعد أن تضاعف مع الوقت الشعور بعدم الأمان ، فتبكى وتبكى ، تسيل دموعها فى حرقة ، وهى تحاول أن تعرف ماذا يحدث ، وماذا يمكن أن يحدث .. وماذا يمكن أن تفعل ، بعد إحساسها بالخوف الداهم ، والإحتياج الملحّ لجاسم .. ووجود جاسم !
يظل الذهول هو الشعور الوحيد المسيطر .. الذهول .. الذهول .. !!
فالمحنة المباغتة أذهلت الجميع . لا أحد يدرى ماذا يمكن أن يكون . أو ماذا يمكن أن يفعل !!
تظل دلال تنادى جاسم .. تظل تتمنى وجود جاسم فى هذه اللحظات بالذات . لكن .. هيهات أن تتحقق أمنيها ، فجاسم الحين فى أمريكا ، وهى هنا ، داخل الكويت ، التى أصبحت معتقلاً كبيراً محاصراً .. بالجنود .. والسلاح . والخوف . والفزع . والموت !
ترجع دلال ، يرتج بدنها من شدة الخوف ، كلما أحست إحساساً متزايداً يؤكد عدم وجود جاسم بجانبها فى هذه المحنة ! نعم .. هى تحتاج جاسم .. هى تريد جاسم .. هى تدعو الله أن يأتها جاسم ..
– آه .. وينك الحين يا جاسم ؟!
فى أمريكا ، فى ” سيراكيوز ” ، يجلس جاسم فى قاعة بيته صامتاً ، ساهماً ، واجماً ، يحاول أن يمنع دموعه التى تسيل حزناً على الشيخ فهد الأحمد ، يحاول أن يبعد عن عيونه الصور المعلقة على جدران غرفة المعيشة أمامه ، ومن بينها صورة الشيخ فهد الأحمد ، رحمه الله ، وهو يرفع بيديه الاثنتين كأس دورة الخليج إلى أعلى ، فرحاً بذلك الإنتصار الرائع الذى أحرزته الكويت فى مبارياتها الحاسمة الرهيبة مع العراق !
آه .. قتلوه الأوغاد .. ! قتلوه الأنذال .. ! وهو يدافع عن الكويت .. ! البطل .. رحمة الله عليه .. يعود جاسم مرة ثانية يطالع الصور ، لا يستطيع أن يمنع عينيه عن النظر إليها ، فيرى صورته مع الشيخ فهد عندما إلتقى به فى شهر مارس الماضى ، قبل خمسة شهور فقط ، عندما قابله فى الكويت ، وكيف كان مشغولاً بسبب تلك المواقف التى إعترضت دورات الخليج ، وكادت تفشّلها .. !
إن صور الشيخ فهد الأحمد تحتل جانباً كبيراً من جدار قلبه ، قبل أن تحتل مساحة كبيرة على جدار غرفة المعيشة فى بيته ! إن جاسم لا يستطيع أن ينسى حبه للشيخ فهد ، فها هى صورة كبيرة معلقة له ، توضح إلى أى مدى هو غاضب ، حانق ، أثناء بطولة ” سيئول ” الأوليمبية ، كان ثائراً خارجاً عن طوره وعن شعوره ، عندما وضعت القدس على الشاشات عاصمة لإسرائيل ! فوقف فيها هادراً ثائراً كالأسد . وقف يعترض ويرفض هذا الوضع . وهذا الإعتداء على العروبة . ولم يسكت إلا بعد أن إعتذرت اللجنة المنظمة عن ذلك !
.. مات الشيخ فهد الأحمد وطنياً ، كان بطلاً عربياً رياضياً على الصعيد الدولى .. الله يرحمه .. الله يرحمه . تجيش المشاعر فى نفس جاسم ، فتفيض أحزانه ، تطغى شجونه ، تسيل دموعه ، يغّص قلبه بالحزن والأسى ، فلا يقدر أن يطالع باقى الصور التى تغطى الجدران أمامه .. ! ويجهش بالبكاء .
وهنا .. يوقف رنين التليفون سكين الآلم الذى يذبح جاسم ، يشق قلبه شقاً ، فيجيب بصوت حاول ألا يكون جريحاً يشئ بحالته النفسية الكئيبة ، إلا أنه لم يفلح . يعرف جاسم المتحدث على الطرف الآخر ، إنه خاله أبو إبراهيم يتكلم من لندن يطمئن عليهم ، وعن أحوالهم ، وهو وخالد وبدر ، كانوا قلقين على أحوالهم ، يريدون أن يطمئنوا عليهم ، كما كانوا مصرّين أن يتجمعوا كلهم فى لندن ليكونوا معاً حيال هذه المحنة يشدّون أزر بعضهم البعض ويشعرون بالعزوة والسند ، ويكونوا جنباً إلى جنب فى هذه الظروف الصعبة التى لم يكونوا يتوقعونها أبداً .. أبداً .!!
ينهى جاسم المكالمة بعد أن يعدهم بالاتصال ثانية عندما تصحو أمه وخالته . يسأل فى قلق عن أخبار الديرة والأهل هناك ، فيجيئه الرد مبهماً ، غامضاً ، فالإشاعات كثيرة ، والحقائق ضائعة ، لا أحد يعرف بالتحديد ماذا يحدث أو يكون فى مثل هذه المواقف والظروف والأحوال .. غير المتوقعة على الإطلاق !
يشرد جاسم مع أفكاره ، يحس خطوات سعاد متجهة إليه ، يحاول أن يرسم إبتسامة على وجهه المرهق ، إلا أنها تأتى مهمومة واهنة ، واهية ، باهتة .. !
تنظر إليه سهاد ، فتراه جالساً ما يزال بملابسه الرياضية الزرقاء .. ذلك اللون الذى يحبه ويعشه .. فهو يذكره بلون فريق المنتخب الوطنى ، كما يذكره بلون البحر .. والسماء .. والوطن .. والإنطلاق !
تعرف سعاد أن جاسم يحب أن يلبس هذا اللون كلما أحس بشئ من الضيق ، فهى تعرف أنه يمنحه إحساساً بالراحة والسكينة والهدوء أنه ينقله إلى أجواء الكويت ، وشارع الخليج ، وأبراج الكويت ، إنه يذكره بأصحابه فى الكويت ، فهو لون فانلة المنتخب الوطنى ، الذى يعيده إلى ملاعب الكويت .. وسعاد تعرف إن جاسم يتمنى ويشتاق أن يكون
هناك الآن !
يخرج جاسم مع سعاد ، يمشى مثقل الخطى ، مهموم القلب ، ساهم النظرة ، يعانى من حالة نفسية متدنية لا يستهان بها ، يبدو واضحاً أنه يعانى توتراً نفسياً وعصبياً ، وإرهاقاً بدنياً شديداً لدرجة أنه أصبح غير قادر على أن يفكر فى شئ ، ولا أن يتحمل أى شئ !
كان جاسم يرجو أن يكون الموضوع الذى تريد سعاد أن تحدثه فيه بعيداً كل البعد عن دلال ، وموقف دلال من ليلى ، حتى لا يتسبب ذلك فى إثارة ضيقه وإحراجه !
يدخلان الكافتيريا الفاخرة ، ذات الطابع الحالم القديم ، والديكور الهادئ المريح للأعصاب ، يجلسان على إحدى الطاولات الصغير المخصصة لشخصين ، تشد سعاد المقعد لتقترب من جاسم ، الذى يجلس جريح النفس ، مبعثر الرؤية ، والخاطر ، والوجدان .. يطلب فنجان قهوة إيطالى ، فى حين تطلب سعاد الشاى وطعام الإفطار .
يظل جاسم متشاغلاً برشف القهوة الساخنة ، منتظراً أن تفتح سعاد الموضوع الذى تريد أن تكلمه فيه . يرفع بصره نحوها ، فيجدها جالسة تنظر إليه بعينين يملؤهما الحزن والأسى ، يكاد الدمع يطفر منهما ، وما يلبث أن يختفى هذا التعبير الحزين الذى لم يستغرق سوى ثوان قليلة ، ليظهر بدلاً منه تعبيراً آخر يشوبه إنطباع الرغبة العميقة الصادقة فى الوصول إلى إقناع جاسم بضرورة التأقلم مع الوضع الحالى ، ومواجهة الظروف الطارئة بطريقة عملية واقعية .
تنتهى لحظات الترقب والحرج ، تخرج سعاد عن صمتها ، تتخلص من حرجها ، فى حين كان جاسم متشاغلاً عنها برشف القهوة ، يحاول أن يتهيئ ليكون على أهبة الاستعداد لما تقوله سعاد .. !
تلتفت سعاد تبحث عن عينّى جاسم الذى يتحاشى النظر إليها ، تجرد المقعد بإتجاه الطاولة مرة أخرى ، لتدنو منه أكثر وأكثر .. تقول بصوت يمتزج بالحب ، ويقظة العقل ، ورهافة الحس :
– جاسم .. أنت تدرى مكانتك عندى وتعرف معزتك .. تعرف حبى لك وتعرف إنك عندى أغلى الناس .. أغلى من الدنيا كلها .. أرجوك يا جاسم إعطينى فرصة أعبّر لك عن مشاعرى .. أرجوك .. نروح الحين البنك عشان نعمل الحساب المشترك ..
.. الحساب المشترك ؟! تعصر هذه الجملة قلب جاسم عصراً ! رغم أنه كان يتوقعها ، إلا أنه غصّ بها . يظل ينظر إلى فنجان القهوة الفارغ أمامه وهو يحركه بين أصابعه ، فجأة .. يوقف الفنجان عن الدوران ، يضع كفه عليه ، يكتمه وهو يقول لـ سعاد :
– أنا ما عندى مشكلة يا سعاد .. لا تحملين هم .. ترى أنا عندى فلوس وايد .. وراح تجينى فلوس من صديق لى فى الإمارات .. و .. و .. !
تقول سعاد فى حنان بالغ ، بطريقة هادئة ناعمة حنون ، لا توحى بعدم تصديق
كلامه :
– أنا زوجتك يا جاسم .. أنا ما أمون عليك .. ما فى فرق بيننا .. هذى فلوسنا كلنا .. أرجوك يا جاسم لا تحرمنى من الإحساس إنى واقفة جنبك فى هذه الظروف الصعبة وإنشالله تتحسن الأحوال وترجع الأمور لطبيعتها ..
تقول سعاد ذلك ، كأنها تستأذن ، أو تعتذر ، كى يسمح لها جاسم ويوافق على الذهاب معها إلى البنك . تبقى تلح عليه ، تظل ترجوه ، وفى عينيها منظر بطاقات الإئتمان الملقاة فى إهمال بلا مبالاة بجوار الفراش .. يمزق قلبها أو يخدش شعورها .. تحس حيرة جاسم ، فتقول بنفس الحنان :
– هذا الوضع ما راح يستمر يا جاسم .. ما راح يطّول .. وما تنسى إننا قدامنا سفر .. لازم نروح لندن عشان نكون جنب خالى .. هو كمان راح يخفف عن أمى وخالتى كتير .. وراح يطمئنهم كثير .. وإنشا الله يرتاحوا هناك أكثر وخصوصاً إن بدر وخالد هناك .
يفكر جاسم بسرعة فى موقفه الطارئ . يعيد الموقف مرة أخرى ، يتحرك فى مقعده . يفرد ظهره ، ثم يعود ينظر إلى فنجان القهوة الفارغ ، ينادى على المضيفة يطلب منها فنجاناً آخر ، يسأل سعاد ما إذ كانت ترغب فى فنجان آخر من القهوة ، فتوافق .
يحس جاسم أنه مقيد أمام عينى سعاد . يحس إرهاقاً نفسياً شديداً ، إذ أنه لا يجد مخرجاً آخر غير الموافقة على الذهاب معها إلى البنك !
يعيد جاسم الحوار مع نفسه ، يحاول أن يفلسف أموره ، فهذه هى حالة الحرب ، وهذا وضع مؤقت وأمر طبيعى يحدث دوماً أثناء الحروب ، فالإنسان لابد وأن يساير الظروف ، وأن يتقبل الواقع الجديد بكل أبعاده ، وإلا خسر أشياء كثيرة لا تعوّض .. !
يوافق جاسم . يرفع رأسه فيرى إبتسامة الرضا فى عينىّ سعاد ، ينهضا بعد أن يحتسيا القهوة ، فى حين لم يلتفت أحدهما إلى طعام الإفطار ، الذى بقى كما هو على الطاولة لم يمس !
يخطو جاسم مع سعاد داخل البنك ، وهو يحاول أن يأخذ الموضوع بروح رياضية ، يهوّن على نفسه صعوبة الموقف ، فمهما كانت سعاد ، هى زوجته وأم عياله ، ما هى غريبة عليه ، بل حتى الغرباء يقفون جنباً إلى جنب فى مثل هذه الظروف لمغالبة صعوبة والواقع ، ومحاربة تحدى الظروف ، نعم .. لابد إذن من التعاون والمشاركة لمواجهة هذه الأزمة الطارئة !
يجلس جاسم على المقعد أمام مدير البنك المساعد فى إحدى غرف البنك الجانبية ، يوقع الأوراق التى عبأتها سعاد .. و .. وقعتها سعاد ! يبتسم مرغماً جاهداً أن يدارى فى نفسه ما فى نفسه ، بينما يبدأ يغوص فى أعماق بحر متلاطم الذكريات ، يرى خلال أمواجه الغزيرة الهادرة .. سعاد عندما جاءت عروساً إلى أمريكا ، يذكر كيف إصطحبها إلى البنك ، حيث كانت تقف تنتظر أن يخبرها ماذا تفعل .. وأين توقع ؟
– يا الله .. ! يا مغيّر الأحوال من حال إلى حال ! سعاد .. ما كانت تفهم فى ذاك الوقت تفاصيل هذه الإستمــــــارة .. وما كانت تعرف إيش لون تملأها .. !! والحيـــن .. أنا …. !
.. يتأمل جاسم نفسه فى عمق اللحظة ، يستحث فى ذاته مزيداً من القدرة على الإحتمال ، كى يتاح له أن يتحمل هذه المشاعر العنيفة المتضاربة ، ذات الأثر الحاد على نفسه فى هذه اللحظة الحافلة ، كى لا تترك أثراً حاداً يفقده رؤيته الواضحة بعمق الموقف !
يقف مثقلاً ، مشحوناً بهدير الإنفعال ، فى حين يحاول أن يصل فى أعماقه إلى درجة أعلى من درجات القدرة على التحكم فى الذات !
.. يستيقظ العقل فجأة ، يغالب هذا الضعف والوهن ، فيصبح من القوة بحيث يسيطر على تلك الإنفعالات المتفاعلة ذات التأثيرات الضارة الجارفة التى تكاد أن تطحنه .. بقسوتها .. وحدتها .. !
يمضى جاسم خارجاً من البنك ، منتصب القامة ، مرفوع الراس ، مشدود الظهر ، يمشى وهو يشعر أنه قادر على إختراق الجبال ، وصهر الجليد ، وعبور الصحارى ، ومناطحة السحاب !
يمضى جاسم خارجاً من البنك وهو يجعل من نفسه مركزاً للتأمل ، ومحوراً للتفكير يدور حول ذاته ، يلتف حول كيانه ، ذاك الذى يتعملق رغم ضآلة الحدث ، يتضخم رغم ضمور الموقف ، ليبقى يخطو فى إعتزاز زائد بالذات ، وثقة مطلقة بالنفس ، مناجياً موحياً لمن حوله ومن بينهم سعاد :
أنا .. جاسم الناصر .. !
الفصل الثامن عشر
البشع المشــوه !
فى غرفة المعيشة المتسعة ، العالية السقف ، المتعددة النوافذ ، الشاسعة المساحة ، فى شقة الخال أبو إبراهيم فى ضاحية ” سانت جونس وود ” بلندن ، فى تلك الشقة الكبيرة الواسعة المطلة على حديقة ” ريجنت بارك ” بالقرب من مسجد لندن الكبير ذى القبة الذهبية العملاقة ، وقف الجميع يؤدون صلاة العشاء ، يؤمهم الخال أبو إبراهيم ، الذى وقف أمام ربه خاشعاً ، داعياً ، أن يزيح الله عنهم هذا البلاء .
.. بعدها جلسوا جميعهم يتابعون الأخبار عن الكويت ، يتابعون الأنباء بقلوبهم ، قبل عيونهم وآذانهم ، فهم يتلهفون على سماع أخبار الغزو الغادر الذى يرمى ظلاله السوداء على أرض الكويت ، للأسبوع الثالث على التوالى ، فكانوا يبكون ويتألمون من هول الموقف ، وهم يشاهدون كيف يمارس العدو المنتصب أساليب القذرة ، وكيف يعبث بكرامة المواطنين فى قلب الوطن !
تسود أحاسيس الحزن أنحاء الشقة الكبيرة ، تزاحم أصحابها ، تعذبهم أثناء الليل ، تشقيهم أثناء النهار ، فتحرق قلوب ساكنيها بنار الأسى ، والضيق ، والوهن ، فيصبح أى تعبير يوحى بالفرحة تعبيراً مرفوضاً ، بعد أن أتفق جاسم وبدر ، وابن خالهما خالد ، الطيار الحربى خريج كلية الطيران فى ” ساند هيرست ” بإنجلترا على العودة إلى الكويت ، عن طريق السعودية لينضموا إلى صفوف المقاومة الوطنية ..
كان الموقف لحظة رحيلهم صعباً ، قاسياً ، كانت ساعة الوداع فوق إحتمال البشر ، تفّجرت الدموع فى العيون دون أن يتمالك أحد نفسه فى وقت الفراق العصيب هذا ! نعم .. فى ذلك الموقف الرهيب كان الكل يخشى النتائج المجهولة الآتية ، فالأرواح مهددة ، والموت يتربص .. يحصد المئات هناك !!
آه .. يارب الأرض والسموات . يا حافظ . يا منجّى . يا منقذ . يا مغيث .
كان الكل فى حالة من الأسى الواضح على الوجوه ، إلا بدر الذى إستطاع بموهبته التمثيلية الفذة ، أن يقتلع الإبتسامة من بين الدموع ، أن يرسمها على الوجوه التى تنضح حزناً وخوفاً ، وقلقاً ، ورهبة !
وأنوار ، وراكان ، حتى المربيتان البرازيلية والفلبينية ، لم تستطع إحداهما أن تكبح دموعها ، ولا أن تمنع نفسها من البكاء ، فيما عدا بدر ، الوحيد الذى أخذ الموقف ببساطة ، وعالج الرغبة فى البكاء ببعض الكلمات الساخرة ، والقفشات والعبارات العابثة ، التى خففت حّدة البكاء !
لكن .. ما أن يغلق الباء وراءهم ، حتى تقع أم عبد الله من طولها على الأرض مغشياً عليها بجوار الباب ، وفى نفس اللحظة ترتمى إلى جانبها أم جاسم بعد أن عجزت هى الأخرى عن تحمّل هذا الموقف المخيف الذى يتهدد حياة الشبان الثلاثة بالموت ! ..
يبكى الجميع الذين تجمعّوا حولهما ، حتى الأطفال كلهم يكون ، فيحاول أبو إبراهيم تهدئتهم ، إلا أن دموعه هو أيضاً تخونه ، فلا يملك إلا أن يفتح كتاب الله الكريم ، وهو يجلس القرفصاء على الأرض بينهم ، يقرأ عليهم بعض آياته علها تدخل السكينة على قلوبهم .. ويظل يرتل عليهم آيات الله البينات :
” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ”
صدق الله العظيم
يهدأ الكبار ، ترتاح قلوبهم ، لسماع كلمات الله ، فى حين يشعر الصغار أحمد وأنوار وراكان بحزن شديد ، وبوضع جديد ، يطرأ عليهم ، يدعوهم أن يغّيروا سلوكهم ، وطريقة تفكيرهم ، فلم يعد أحمد يهتم بالذهاب إلى ” البيكاديلى سيركس ” ليلعب البولينج فى ” التروكاديرو ” ، ولا سباق الجمال الخشبية ، الذى كان يشترك فيه مع خاله بدر فى الإجازات السابقة ! كما أصبح يرفض الذهاب إلى صالة التزلج على الجليد فى ” كوينز واى ” ، ولم يعد يرغب حتى فى التنزه عند البحيرة فى حديق ” هايد بارك ” .. !!
صار أحمد فجأة رجلاً ناضجاً ، يشعر بأهمية الحدث ، وجدوى الوقت ، وقيمة المال ، صار يتمنى أن يشارك فى المظاهرات التى تنظمها الجالية الكويتية فى لندن ، فهو يودّ أن يكون له دوراً كبيراً يؤكد رغبته العميقة فى المشاركة فى تحرير الوطن ، فصمم أن يمشى رافعاً أعلام الكويت وصور الشيخ جابر ، والشيخ سعد ، فى المظاهرات ، التى أصبح يصّر على الإنضمام إليها كلها ، مهما كان عددها !
تمضى الأيام مقيتة ، ثقيلة ، مقلقة .. بعد رحيل الشبان الثلاثة ! يجلس الأشقاء الثلاثة يدعون الله أن ينجى أبناءهم ، وأهل الكويت جميعهم من كل سوء وشر يتربص بهم . آمين يارب العالمين .
وفى ليلة من ليالى لندن الباهتة الباردة ، وبينما هم يتحلّقون حول التليفزيون ، إذ برسالة سمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح ، تبث إلى شعب الكويت ، فيسمعون صوته يخترقه قلوبهم ، يهّز نفوسهم وذلك بمناسبة مرور شهر على العدوان الغاشم ، فيجلسوا ينصتون بكل الحب إلى صوته الكريم ، وهم يحمدون الله ويشكرونه كل الشكر على نجاته وسلامته من الوقوع بين أيدى المعتدين ، فهو الأمير ، وهو الأب ، وهو الرمز ، وهو الملاذ ، وهو الأهل .. وهو الوطن .. يسمعونه يقول :
– يا أبناء الديرة الكرام .. يا من شاءت الظروف الحرجة أن تكونوا خارج الكويت ، إن مسئوليتكم اليوم لا تقل عن مسئولية إخوانكم فى الداخل ، فإن لم يسمح لكم الحال بمشاركتهم فى التصدى للعدوان ، فلا أقل من أن تثبتوا لهم ، وللعالم أجمع إنكم معهم تناصروهم بجهودكم وإمكاناتكم المتاحة ، وتدعمون صمودهم لتحقيق النصر بإذن الله .
يسمعونه .. فيتأثرون ، يبكون وهم يدعون له بطولة العمر والصحة والعافية ، وأن يحفظه الله للكويت ولشعب الكويت .. يذكرون بداية الغزو عندما إنقطعت الأخبار عنهم ، وكيف كانوا يسألون فى لهفة عن الأمير ، والشيخ سعد ، وهم فى غاية الذعر والقلق والخوف عليهما ، ثم يذكرون كيف أحسوا بالإرتياح والفرح عندما أطمأنوا عليهما ، وعرفوا أنهما صارا فى مأمن بعيد عن الخطر ، بعيد عن أيدى الغزاة وغدرهم .. حمداً لله .. حمداً لله .
يظلوا يصغون ويصغون إليه بقلوبهم إلى أن يقول فى نهاية رسالته العزيزة العميقة الغالية :
– إخوانى وأخواتى .. أننا نؤمن إيماناً راسخاً بأن الله سبحانه وتعالى قد إبتلانا بما نحن فيه ، وإن من آمن وعمل وصبر على هذا الإبتلاء فإنه هو الظافر بنصر الله وتأييده ، وإننى على ثقة بأنكم ستكونون من الظافرين بعون الله .
وصدق الله عزّ وجل فى محكم كتابه :
” أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ”
صدق الله العظيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رب نار تصبح رماداً .. نحن بخير ما دام الأمير بخير .. الحمد لله على كل شئ . ينهض أبو إبراهيم من مكانه ، يجرّب شريط الفيديو ، يطمئن إلى أنه قد سجل رسالة الأمير ، كى يتمكن من سماعها وتكرارها ، ليغذى بصوته روحه ، ويسعد بصورته قلبه ، ويثلج بوجوده صدره ، الذى إزداد إحساسه بالأمان والإطمئنان بعد سماع هذه الرسالة المؤثرة التى منحتهم إحساساً خالصاً بأن المحنة طارئة ، وإن الأزمة زائلة .. وإن الأمور ستعود إلى طبيعتها فى القريب العاجل بإذن الله .
يجلس أبو إبراهيم مع شقيقتيه أم عبد الله ، وأم جاسم ، وهو يدعون الله جميعاً أن ينصر الكويت ، وأن يعيد الأمير ، وولى العهد الأمين ، إلى ديارهم بإذن الله سالمين معافين .. تمضى الأيام ، وما تلبث الأخبار أن تصل تباعاً ..
حركة المقاومة الوطنية الباسلة تصعّد عملياتها ضد قوات الغزو .. وتنفذ سلسلة عمليات ناجحة على مدى الأيام الماضية . وتوقع إصابات بين صفوف القوات الغازية !
– الله أكبر .. الله أكبر .. الله يسترها معاكم يا ولادى .. الله ينجيكم .. وينجى الكويت من أيديهم .. الله يحفظكم .. الله يخليكم .. يارب .. أنت الحافظ .. يارب .. أنت المعين .
ينهمر الدعاء مختلطاً بالدموع والبكاء بينما يتصاعد نداء من الكويت ، من قلب الوطن الغالى ، توجهه القوى الوطنية الكويتية إلى كل المنظمات الشعبية ، والشخصيات الوطنية العربية ، تطالبهم فيه بالوقوف ضد إحتلال الكويت .. الله فوق الجميع .
تمسك أم جاسم قلبها بيدها . تضغط صدرها وهى تدعو الله دامعة أن ينقذ ولدها ، وشباب الكويت من أيدى هذه الطغمة الظالمة الباغية فى الأرض ، وأن ينجيه هو ومن معه ، تظل تبكى وهى تقول بمنتهى الألم والعذاب :
– يا ليتنا كنا رحنا وياهم .. واللى يصير عليهم يصير علينا .. يا ليتنا كنا هناك قاعدين فى بيوتنا مع أهلنا .. كان أهون وأرحم من هالعذاب اللى إحنا فيه الحين .. يارب .. يارب خفّ عنا وهو علينا وأرحمنا يا قادر يا كريم .. يا أرحم الراحمين .
يتصاعد الدعاء ، فى حين تتدهور حالة أم عبد الله تدهوراً سريعاً بعد أن وصلت الأخبار الخطيرة من الكويت عن الصراع العنيف الدائر هناك ! تحاول سعاد أن ترفع روح أمها وخالتها المعنوية ، فهى لم تفقد الأمل لحظة واحدة فى عودة الوطن وسلامة الأهل الغاليين هناك .
كانت أم عبد الله تعانى من خوف داهم يفقدها القدرة على الاستمرار ، وعلى تحمل ذلك القلق المرهق المروع ، الذى يفتك بقلبها الضعيف ، ساعة بعد ساعة ، ويوماً بعد يوم ، منذ مقتل أبنها الشاب الشهيد وسماع الأهوال اللى يشيب لها الولدان ، فقد كانت الأخبار التى تأتى مع القادمين من الوطن تنقل صوراً بشعة من ألوان التعذيب والهوان والإمتهان للأهل هناك !! يارب أنت الحافظ .. أنت المنجى .. أنت خير الحافظين .
بطبيعة الحال كانت الأخبار تصل شنيعة . فظيعة . بشعة . مقززة ! لدرجة إن بعضها كان لا يحتمل التصديق ! لكن .. رغم ذلك ، كان واضحاً أن معظم الناس ليس لديهم سوى فكرة واحدة تسيطر عليهم ، أن هذه الظروف الصعبة الطارئة سوف تتغير ، وإن هذا الوضع لابد وأن ينتهى . نعم . حتماً .. لابد وأن ينتهى .. ينتهى .. ينتهى .
يجلس الجميع فى صالة المعيشة الكبيرة الواسعة ، يلتفون حول بعضهم البعض أمام المدفأة ، التى تشيع نيرانها الحمراء الدفء فى الأطراف ، التى يؤذيها برد الشتاء هذا العام ، فالثلوج البيضاء تغطى الشوارع ، والشتاء عنيف هذه السنة ، لم يأت مثله منذ سنوات ، فالهواء ثلجى النفحات ، والبرودة خارج البيوت لا تطاق ، لا تحتمل ، فالتدفئة داخل البيت نعمة ورحمة .. ويل لمن يخرج إلى الطريق .. البرد له بالمرصاد !
أيام .. وترد رسالة صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح تريح القلوب من عناء القلق . تجلب الهدوء للنفوس الحائرة الملتاعة ، حين يؤكد صاحب السمو لأبناء الكويت فى الداخل والخارج قائلاً :
– بين فترة وأخرى أجد نفسى بحاجة إلى أن أتحدث إليكم حديث القلب للقلب .
.. إن التضحيات الغالية التى يقدمها أبناء الكويت ، وهم يواجهون جنود الباطل ستشكل قاعدة صلبة وراسخة لإنطلاقة الكويت المستقبلية .
و .. تنطلق من داخل الكويت أسمى آيات البطولة ، وأعلى إمارات السرور والفرح بعودة جاسم ، التى أشاعت جواً من البهجة ورفعت الروح المعنوية ، وأدت إلى راحة نفسية عميقة غمرت دلال وأمها وجدتها ، وكل من عرف هذا الخبر العظيم ! كانت فرحة دلال برؤية جاسم بعد الغياب ، أضخم شعور ، وأحلى شعور ، أحست به منذ ولدت وجاءت إلى هذه الحياة !
تصرخ دلال . تقفز . تنط ، لا تصدق عينيها ، تفركها بعنف بيديها ، عندما رأت جاسم واقفاً أمامها ! كادت أن تكذّب نظرها ! وأن تكذّب سمعها ، وأن تكذّب كل حواسها ، وهى تصيح وتصرخ فى هوس وجنون :
– معقول ؟! جاسم ؟ إنت رديت الكويت ؟! إنت فى الكويت ؟! متى جيت ؟! متى جيت ؟!
تنهار دلال فى بكاء فظيع ، فجرتّه مفاجأة الصدمة عند رؤية جاسم ، تستمر تبكى وتبكى وهى عاجزة عن التصرف أو الكلام ، بعد أن أجَج الفراق نار الحب وزادها وهجاً ولهباً وإشتعالاً ! صراحة .. كانت فرحتها برجوع جاسم فوق كل توقع ، وفوق كل تحمل ، وفوق كل المفاجآت !!الحمد لله . الحمد لله .
كانت هذه العودة أشبه بمغامرة خيالية ، إذ لم يكن دخول الكويت سهلاً ، ولا متاحاً ، إلا لهؤلاء الأفراد الذين يعرفون الطرق الخاصة بذلك .. صدق .. أهلها أدرى بشعابها ! كانت هناك عدة وسائل منها التنكر فى ملابس المزارعين ، وأسهلها الدفع وشراء الدخول ! .. وكان هذا هو الطريق الأضمن والأسهل ، فقد كان معروفاً إن كل ضابط له ” خط ” فى الصحراء خاصاً به ! ومن يدفع الثمن يستطيع أن يمر وسط هذا الحشد من الجند ، وذاك الكم من السلاح !!
يبدأ جاسم يتحرك بحذر شديد بين شوارع منطقة كيفان ، تلك المنطقة التى شاهدت طفولته وصباه ، والتى يحفظ طرقاتها ، وشوارعها ومعالمها ، عن ظهر قلب ! أنه يعرف كيف يؤدى دوره بمهارة كطبيب جراح يقوم بمعالجة جرحى المقاومة .. هؤلاء الأبطال الذين لم يبخلوا بالروح ، والدم من أجل تحرير الكويت .
يرفض جاسم العمل فى مستشفى مبارك ، بعد أن سيطر عليه جنود الإحتلال الذين أخضعوا جميع المستشفيات تحت سيطرتهم بعد إستيلائهم عليها ! وكان أى طبيب يرفض أن ينصاع لهم ، أو ينفذ طلباتهم ، يقتل على الفور ! لذلك بدأ جاسم يمارس عمله كطبيب ، بعيداً عن أعينهم ، وخارج حدود سيطرتهم !
.. يقف جاسم فى السرداب ، فى أحد بيوت منطقة كيفان ، حيث توجد طاولة خشبية ، وقليل من الأدوية ، ومقصات وأدوات جراحية ، وبعض المعدات الطبية ، من قطن وشاش ، ومطهرات وكل ما أمكن بعض المواطنين الإستيلاء عليه ، من المستشفيات ، ومخازن وزارة الصحة ، قبل أن يسلب العدو ما تبقى بها !
كان السرداب أشبه ما يكون بغرفة العمليات ، وكان جاسم يقف يمارس عمله كطبيب بأقل الإمكانيات المساعدة ، فكان يجرى عملية جراحية إثر أخرى لوقف نزيف غزير من ساق شاب أطلق عليه الرصاص ، بينما كان يتمدد آخر على الأرض ، يتأوه من شدة الألم ، بعد إصابته برصاصة ما زالت مستقرة فى كتفه !
هذا إلى جانب جرحى كثيرين تم تخديرهم ، أو فقدوا الوعى من شدة الألم ، فرجال القوات الخاصة قد ألزموا المستوصفات ، والمستشفيات ، بإخطارهم عن أى جريح يرد إليهم كى يتأكدوا من سبب إصابته ، ليعرفوا كيف إصيب ، ليعتبروه فى النهاية واحداً من شباب المقاومة إذا لم يستطع تبرير السبب ، فيهتمون بذلك ، ويعتقلوه .. ثم لا يعود أحد يعرف له مكاناً .. !
كان الجو مشحوناً بالتوتر والخطر ، حين أنتهت دلال من تلقى دورة فى التمريض ، فى مقر جمعية الهلال الأحمر ، فتخرج بعدها تقود سيارتها متجهة إلى كيفان ، وهى تحاول أن تلفظ ذكريات ليل طويل ، مخيف ، عانت فيه العذاب ، كل العذاب من شدة التفكير ، والتركيز على أمور حياتها الحالية ! فماذا تستطيع أن تفعل ، وهذا الهّم يحيطها ، يحاصرها ؟ كيف تستطيع أن توزع جهدها بين جدتها ، وأمها ، وأبنتها ، ونفسها ، ووطنها !!
آه .. ها هى تتوقف الآن مرغمة وسط الطريق أمام إحدى نقاط السيطرة ، يسألها الجندى الواقف فى صلافة عن الهوية ، ورخصة القيادة ، ووجهتها ، ونظرات عيونه النافذة الثاقبة تخترقها فى تحد ، تقدم له الأوراق المطلوبة دون أن تجرؤ على النظر إليه . تنكس رأسها بإنتظار إسترداد الأوراق التى أخذها منها ، والتى مازال يحملها فى يده ، ويلف ويدور بها .. حول السيارة ، وهو يطالع أرقامها ، ويقارنها بالأوراق التى بين يديه .. تشتد سطوة المواجهة بينهما ، وهو يسألها عن وجهتها . تقول له وقد إزدادت رغبتها فى الصبر والتحمل والتحدى :
– باروح أشترى خبر .
فى النهاية يعطيها أوراقها ، ونظرات عينيه كافية بأن تخرس الحوار الصامت بينهما . يشير لها بيديه أن تمضى ، فتحرك سيارتها وهى تتنفس فى إرتياح ، وتشد الحجاب على جبهتها ، وتتأكد من إحكام ربطته حول عنقها .
تجرى السيارة فوق طرق خالية بلا روح ، بلا إحساس ، مجرد شوارع عارية مرعبة مجردة من الحياة ، حافلة بالخوف والتوجس والقلق ، فها هى منطقة كيفان قد صارت شبه خالية من المارة ، بعد أن إمتدت إليها أيدى المعتدين الآثمين ، بالتخريب والدمار ، الذى يظهر واضحاً للعيان ، إذ لم يبق منزلاً إلا وأعتقل واحد من أفراده ، أو أكثر ، إلى جانب الخطف والإغتصاب والحرق والقذف بالقنابل والهدم بالمتفجرات !!
أخيراً .. تلتقى دلال بجاسم . تحاول لا إرادياً أن تحتمى به ، تلوذ بجانبه ، لكنها تلمح إلى جواره أحد الشباب وقد ظهرت إمارات الألم بادية عليه ، تلمح كدمات غامقة على ذراعيه وأثار جراح ، وبقايا دماء سوداء على جانب رقبته ! فتنحدر دموعها فى صمت ، وحزن يجرفها يخلخل تماسكها ، ويزعزع إتزانها !
تجوب دلال بعينيها الباكيتين فى أرجاء السرداب ، فتلمح خطوط دماء جافة ، وبقايا ثياب ، وعلب أطعمة فارغة ، ومعدات طبية ـ وبقايا عقاقير وأدوية ، وبعض مخلفات تثبت أن هذه القاعة الكبيرة قد تحولت بفضل الله ومجهود جاسم إلى مستشفى عملاق ، تجرى به عمليات عاجلة لإنقاذ حياة الكثير من الشباب الأبطال ، الذين اختاروا تقديم أرواحهم فداءاً للوطن .
يتحدث بعض الشباب بعضهم مع بعض أثناء وجود دلال ، فيأتى ذكر بدر فتسأل عنه ، فيقولوا لها أنه موجود الحين فى مقر سرى مع خالد ابن خاله فى منطقة الرميثية ، لأن هناك بعض الشكوك تدور حولهما ، بالذات حول خالد إذ يقال إن بعض الوشاة قد أخطروا جنود صدام عنه ، وكشفوا هويته العسكرية ، وأخبروهم أنه ضابط طيار فى الجيش الكويتى ، لذا أخذه بدر كى يخفيه عن الأعين ، ويؤمن له مكاناً آمناً مع بعض الشباب المنضمين إلى مجموعة المقاومة التى تتخذ لها مقراً فى المنطقة هناك ، وهم كاظم ، وجابر ، وعلى ، ومناور ، وعبد الرضا وسعاد ومحمود وعبد العزيز وغيرهم وغيرهم .. هؤلاء الأبطال .. حياهم الله .
تدور العيون فى صمت ، وجاسم لا يقدر أن يضيع دقيقة واحدة فى الكلام ، الكلام مع دلال ، فالعمل أمامه كثير والوقت قليل ، والسباق مع الزمن عسير ، عصيب ، فالحالات حرجة تتطلب جراحة فورية لابد وأن تتم بأسرع ما يمكن ، لكى يتم إنقاذ حياة هؤلاء الجرحى النازفين أمامه !
لابد أن تتم هذه الجراحة بأسرع ما يمكن قبل أن تتضاعف الخسائر ، إذ أن هجمات المعتدين ، ومداهمتهم للبيوت لا تجعل الأعصاب فى حالة إسترخاء ! تشتعل دلال حماساً ، وهى ترى همة جاسم ، وحرصه وبذله ، وعطائه ، فتخلع عباءتها ، وتشمر من أكمامها ، وتبدأ على الفور تنظيف المكان ، وتقديم المساعدة للجميع ، ومعاونة جاسم فى عمله رغم صعوبة النظر إلى الجراح ، ورؤية الدماء ، وسماع أنين الجرحى ، وتأوهاتهم ، لكنها تتماسك ، تصمد ، تستمر ، وهى لا تشعر كم من الوقت مضى عليها ، قبل أن تفكر فى الرجوع ، والعودة إلى البيت !!
تقترب دلال بسيارتها من البيت فى السالمية ، فتطالع فى حسرة ذلك المستطيل الكبير الذى يضم عدة محلات تحيطها ساحة وقوف سيارات واسعة ، تنظر إلى محل السمك المغلق على اليمين ، ذاك المحل الذى كان يحلو لجدتها أن تشترى منه السمك الطازج وهى سعيدة بقربه بدلاً من الذهاب إلى سوق السمك فى المباركية ، والعناء فى شيله وإحضاره .
آه .. تنبض الذكريات فى قلب دلال ، تخفق ساعات السعادة فى العام الماضى عندما ذهبت تشترى تورتة عيد ميلاد دانا على شكل ” ميكى ماوس ” من محل الحلوى العالمية ، تذكر كيف كان يضج بالناس ، والزحام ، والحياة فى حين تتصاعد رائحة الكعك والحلوى ، كان كل شئ فى هذا المستطيل يثير مشاعرها ، فهذا هو محل لعب الأطفال فى الواجهة ، ما زالت اليافطة الوردى التى تحمل إسمه باقية ، إلا أنه صار خاوياً فارغاً ، بعد أن كان يغصّ باللعب ، خاصة تلك العروسة الكبيرة التى تحبها دلال والتى إشترتها لها فى عيد ميلادها الماضى .. !
تتنهد دلال وهى تعود تطالع محل الأسماك الخالد قبل أن تستدير بسيارتها نحو بيتها ، وهى تتمنى فى قرارة نفسها وتحلم ، وتتخيل ، لو كان مفتوحاً لأشترت منه السمك لجدتها الذى تحبه وتفضله على اللحوم والدجاج ! هى فى الحقيقة تكاد لا تأكل غيره .. لذا كانت زبونة شبه دائمة لهذا المحل القريب ، الذى ينظف السمك بطريقة صحيحة ، ويقطعه ، ويجهزه حسب رغبة الزبون فى الحال . آه .. متى يعود الحال إلى ما كان عليه ؟! متى تفتح هذه الأبواب المغلقة .. وتمتلئ هذه الساحة بالسيارات كما كانت من قبل ؟! متى ؟! متى ؟!
تتحسس دلاء الدواء الذى أحضرته لجدتها بإرتياح شديد ، بعد أن أخذته بصعوبة من عند جاسم ، الذى كان يدبر الأدوية لعلاج المصابين بشق الأنفس ، تحمد ربها أنها قدرت أن تنفذ هذه المهمة الصعبة بنجاح ، بعد أن أخفت الدواء فى جيبها ، وغطته بعبائتهــا .
تقترب دلال من البيت سعيدة بإحضارها الدواء وعبورها به ، تحمد ربها أن إحدى نقاط السيطرة لم تقم بتفتيشها ذاتياً ، وإلا كانوا صادروه منها ، بل .. وصادروها هى نفسها ، وساعتها لا يعلم سوى الله ماذا يمكن أن يصيبها ويحدث لها !!
تصل دلال إلى البيت ، تنزل من السيارة وهى فرحة سعيدة بغنيمتها ، تقترب من باب البيت الحديدى الخارجى ، فتجده مفتوحاً ! تقفز مسرعة فوق الدرج ، فتفاجأ بأن الباب الداخلى أيضاً مفتوح ، فتحبس أنفاسها ! ينقبض قلبها ! وهى تدلف إلى الصالة ، فتفاجأ بآثار الدماء تغطى الأرض !!
تشهق فزعاً ، ترتجف كريشة فى مهب الريح ، تقول وهى تغرق فى هول اللحظة المرعبة التى لا ترى فيها أحداً بالبيت ، لا إبنتها ، ولا أمها ، ولا جدتها .. !!
– وينهم .. شنوصار عليهم ؟!
تحدق دلال حولها مثلجة الأطراف ، تخطو إلى الداخل مكبوتة ، مرعوبة ، تُقدم رجلاً ، وتؤخر أخرى ، وهى تكاد تموت رعباً ، عندما يخرق سمعها أنين أمها ، ونشيج بكائها ، الذى يذكرها بأنين جرحى المقاومة .. فتكاد أن تقع من طولها ، وهى تنظر مذعورة إلى جسد أمها المكتوم وراء الكنبة فى الصالة وهى غارقة فى دمائها .. فى حين تتساقط من فمها وأنفها الدماء التى تغطيها وما تزال تسيل من رأسها حتى أخمص قدميها !!
ينحبس صوتها . تنشل حركتها . حين تلمح جدتها منبطحة على الأرض .. جثة هامدة ! مفلوجة الرأس منتفخة العينين ! بينما كانت أمها تحاول أن ترفع وجهها المتورم ، المُنتفخ ، من شدة الضرب ، وتجاهد بصعوبة كى تفتح عيونها المتقرحة من شدة البكاء ، وهى تلملم ثياباً ممزقة تدل على هول الإغتصاب الذى تعرضت له على أيدى هؤلاء الجنود الذين سفحوا شرفها وهدروا كرامتها ، بالتناوب ، واحداً تلو الآخر على أرضية المطبخ .. أمام عينى دانة .. حفيدتها . !!
وما أن رأت الأم إبنتها دلال حتى أخذت تصرخ فى هيستريا وجنون :
– كانوا هنيه .. كانوا هنيه !
تترنح دلال فى الهواء ، وهى تعض شفتيها بأسنانها حتى تدميها ، تبقى تعض أصابع يديها التى وقع منها الدواء وتبعثر على الأرض حواليها ، وهى تسير مصدومة مكلومة ، تتحرك فى هلع وذهول نحو غرفة إبنتها .. فى حين أخذ يموت قلبها رعباً وخوفاً وهى تبصر فراشها خالياً بدونها ..!
تجرى دلال نحو المجهول ، تفتش المنزل فى هلع وجنون ، بحثاً عن وحيدتها ، صغيرتها ، وهى تصرخ حتى تتمزق حنجرتها بصوت يعوى بين الجدران ..
– دانه .. دانه .. دانه !
الفصل التاسع عشر
ليالى العذاب !
تلمح دلال إبنتها دانه وقد إنحشرت بين البوتاجاز والثلاجة فى المطبخ فتسحبها ، تشدها ، تحضنها ، تعصرها بين ذراعيها فى هيسيتريا وهى تصرخ وتبكى ، فى حين كانت الصغيرة مفتوحة العينين على آخرهما ، وقد إرتسم فيهما الرعب والفزع ، بعد أن رأت ما رأت ، وشاهدت ما شاهدت ، وبعد أن صارت عاجزة عن النطق !
كان الموقف بشعاً ، فظيعاً ، مقززاً ، كان فوق طاقة البشر ، فوق إحتمال بنى الإنسان ، فما بال طفلة صغيرة بريئة ترى الجنود يضربون جدتها نوال بشراسة ، وعنف ، كما رأتهم وهم يمزقون ثيابها ، ثم رأتهم وهم يتناوبون إغتصابها على أرضية المطبخ .. أمامها .. !!
كان الموقف بشعاً شنيعاً مشوهاً ، فقد إقتحموا البيت بأسلحتهم ، وذخيرتهم ، وملابسهم العسكرية ، فجأة .. رأتهم دانه حولها فى المطبخ ! كانت الطفلة المسكينة جائعة ، فنهضت جدتها تحضر لها الطعام ، حين دخلوا البيت بدون توقع أو إنتظار ! وأطبقوا عليها كالوحوش المفترسة ، بينما كانت الجدة العودة نائمة مريضة فى غرفتها ، بعد أن طردها الغزاة من المستشفى قبل أن تستكمل عرجها ، وذلك ليتاح للجنود الجرحى أن يحلوا مكانها !
سمعت الجدة العودة صراخ إبنتها ، نوال ، وبكاء حبيبتها دانه ، وأحست بحركة الجنود فى البيت ، فأدركت بغريزتها ماذا يمكن أن يحدث ! فتحاملت على نفسها ، ونهضت من فراشها ، وأخذت تستعطفهم وتسترحمهم ، كى يتركوا إبنتها ولا يهينوا كرامتها ، ويهدروا شرفها ، لكنهم لم يسمعوا .. لم يسمعوا .. !
فظلت العجوز المريضة العاجزة تصرخ عليهم ، تسبهم ، تلعنهم ، تضربهم ، وهى تحاول أن تمنعهم من هتك عرض إبنتها وهدر شرفها وتمزيق ثيابها وإغتصابها ، إلا أن أحدهم فقد صبره وطقها بكعب البندقية فى رأسها ، فسقطت صريعة على الأرض فى الصالة .. أزعجهم صراخها ، وإعتراضها ، وعويلها ، فأزهقوا روحها !
وبعد أن إنتهوا من ممارسة جريمتهم البشعة المقززة ، لم ينسوا أن يكسّروا البيت ، وأن يسلبوا أغلى ما فيه ، وأن يخّربوا ما تركوه ، وأن يحطموا ما لم يستطيعوا أن يأخذوه معهم ، قبل أن يمضوا باحثين عن ضحايا جدد ، متعللين بالبحث عمن يشارك فى أعمال المقاومة .
تستند دلال على جدار البيت الخارجى ، بجوار والدتها التى ترتمى نظراتها حزينة ذليلة على الأرض تحتها ، تسقط أيضاً كلماتها ضعيفة مهانة واهنة لا تكاد تقوى على نطقها ، ولا تكاد دلال تقدر على سماعها ، وهن جالسات على الأرض بالقرب من باب البيت
الداخلى ، بإنتظار وصول جمال شقيق دلال الأكبر ، ليتولى الأمر نيابة عن أخته ، التى تبدو خابية العين ، قتيلة القلب ، ضريرة النظرة ، وهى تتعامى عن رؤية دانه القابعة كالحجر الساكن بلا صوت ، ولا حراك ، كأنما سلبت منها روحها ، وسرقت منها بهجة طفولتها ، وفرحة عمرها ، لهول وقبح ما رأت .. ولبشاعة وشناعة ما شهدت !
يطول الوقت ، يتضخم الزمن ، يزداد الترقب ، والخوف يثير التساؤل والوجع فى النفوس ! يطغى الصمت الأخرس .. حين يتراوح إلى إسماعهم صوت سيارة غريبة تقف بالباب ، يقفز منها جمال ، الذى يحدق فى أخته مصدوماً ، وإن كان متوقعاً ماذا يمكن أن يكون قد حّل بهم .. بعد أن ظل يطالع نوال أمها التى تفترش الأرض ممزقة ، مهانة جريحة ، ذليلة ! وما أن حوّل بصره إلى دانه حتى كاد أن يفقد أعصابه بعد أن رأى أمارات الذعر ما تزال مرتسمة على وجهها .. وتعبيرات أخرى شائهة بدلّت ملامحها وغيرت شكلها !
يستشيط جمال غضباً ، يشتعل نقمة وثورة وغيظاً ، وهو يقسم أن يثار من هؤلاء الذئاب الشرسة الجائعة ، وأنه سوف ينتقم منهم أشد الانتقام !! يعبر فى ذهنه خاطر معين ما يلبث أن يكبر ، يتعملق ، حتى يحتل كل تفكيره ، يعد أن إجتاحت آلام الحنق ، وأوجاع المرارة أعماق مشاعره ، فرجتّها رجاً ، وحطمتها تحطيماً !
يعود جمال بأخته دلال وأمها وأبنتها إلى بيتهم بالعديلية ، فى حين تنخرط دلال فى بكاء ونحيب يقطّع القلوب ، مما يعمّق وقع الحدث فى نفس جمال الذى يصمم على ضرورة الثأر والانتقام . يصل جمال إلى مرحلة إتخاذ القرار ، فى حين يرتج عليه القول ، فلا يعرف ماذا يقول إزاء صعوبة الموقف .. لا تعد لديه القدرة على النطق .. ولا الكلام . فقط ، ينخرط فى بكاء صامت أخرس . بكاء .. بلا دموع !
ترقب دلال الطريق من وراء الزجاج فى سيارة أخيها ، تلتفت إلى محل لعب الأطفال المغلق ، فتتذكر عروسة دانة التى تحبها ، والتى لا تقدر أن تنام بدونها ، فتطرأ ببالها فكرة العودة إلى البيت لإحضارها .. لكنها تلفظ هذه الفكرة فوراً ، تطردها بعيداً عن ذهنها ، فهى لا تقوى على الدخول ثانية بعد الهول الذى حدث به ، ولا تقدر حتى على مجرد النظر إلى آثار العدوان ، خاصة وأن جثمان جدتها ما زال ملقى على الأرض فى الصالة هناك .. !! آه .. تلك اللحظات العنيفة القاتلة ! دمرتها .. دمرتها .. !!
تغلق دلال زجاج نافذة السيارة لأنها تخشى لفح الهواء أن يلامس أمها ، وإبنتها ، تعود تبكى فى إنفعال هيستيرى ، لا تعرف كيف تتحكم فيه أو توقفه .. أنه بكاء تلك
اللحظات التعسة ، والساعات الشقية ، التى تجلب البؤس والخراب ، إلى النفوس والديار فتسحقها سحقاً !
آه .. ماذا حل بالدار ؟! ماذا أصاب أهل الدار ؟! ماذا حل بالديرة .. ماذا دهى أهلها الكرام ؟!
آه .. كيف يمكن أن ينسى الإنسان ذاته ؟! كيف يقدر أن يتجاهل عذابه ؟! عندما يصبح فى بيته غريباً بلا بيت ! عندما يصبح فى مأواه شريداً بلا مأوى ! عندما يصبح فى وطنه طريداً .. بلا وطن .. بلا وطن !!
الرحمة يارب . ألطف بعبادك يا قادر يا كريم .
كان رجال العدو يجوبون المنطقة بحثاً عن شباب المقاومة ، الذين لا يتوانون
لحظة عن الفتك بهم حال رؤيتهم ، كما أن آثار عدوانهم على المنطقة صارت أكثر وضوحاً فى هذه الأيام بعد أن إزدادت حركة المقاومة شراسة وعنفاً ، فإزداد رد فعلهم ضراوة
وقسوة ، وإزداد عدد البيوت المحترقة ، كما إزدادت نقاط السيطرة التى إنتشرت فى كل شوارع الكويت !
يستمر جاسم فى عمله البطولى منقذاً شباب المقاومة من الموت المحقق ، بتضميد جراح الكثيرين منهم الذين لو سقطوا بين أيدى الأعداء لما قدّرت لهم الحياة ! كان بين يوم وآخر يغير مكان عمله الإنسانى ، قبل أن تتسرب الأخبار التى تشى به ، وتدل عليه ، يساعده فى ذلك بدر الذى يتقن جميع اللهجات العربية المتعددة ، كما يقدر أن يتنكر فى زىّ أهلها ويتكلم بلسان مواطنيها بطريقة لا يمكن الشك بها !
كانت تنطلى حيلة بدر على الجميع ، فهو بارع فى التمثيل ، والتقليد ، والمحاكاة ، إلى درجة تجعله فوق الظنون والشبهات ، كما أنه يعرف كيف يضبّط حالة ، ويرتب مظهره ، ويغير حركاته ، حتى طريقة مشيته ! كأنه واحد من هؤلاء الذين يحاول الإنتماء إليهم !
فى الحقيقة ، بدر يتمتع بمقدرة نادرة وغريبة على تقّمص الشخصية التى يختارها ، مستعيناً على ذلك ببعض الهويات المزورة التى يقتنيها ، والتى تمنحه المزيد من القوة ، والقدرة على الإقناع !
كان بدر يفلت مثل الزئبق ، دون أن يتعرض للخطر ، رغم أنه كان كثير الخروج من البيت ، فهو يخرج ويدخل بعد أن ينتحل فى كل مرة شخصية جديدة مختلفة ، يعّد نفسه لها مسبقاً بالأوراق اللازمة التى تثبتها ، وتؤكد حقيقتها ، مستخدماً الأدوات والملابس التى تبرزها ، وتزيل الشك عنها !
وبالطبع ، قبل ذلك ، كان بدر شديد الذكاء ، حذر ، حريص ، إلى درجة أنه كان يحصّن نفسه بإقتناء بدلة ضابط عراقى فى جهاز المخابرات آمر الفرقة 606 وهويته المزورة ، التى جهزها له شقيقه الأكبر عبد الله ، الذى ساعدته دراسة الهندسة على إجراء هذا العمل بدقة متناهية !
تعلم بدر الكثير من حيل الخداع والتمويه والإختباء ، فهو يفكر بطريقة سريعة فى معالجة المواقف الطارئة ، والمفاجئة ، وكان يتخذ القرار فى الحال ، بلا أدنى تردد ، فلا يتلعثم ولا يرتبك ، ولا يبدو عليه أى إضطراب أو توتر .
وهنا .. ينتصب الخوف شبحاً هائلاً مذهلاً يفتك بالذات ، يسلب النفس الإحساس بالأمان ، والراحة والسلام ، فالكل هنا فى لندن يعانى الأسى ، يقاسى العذاب ، الكامن فى طيات الزمان ، الذى يزلزل الذات ، ويرهق الفؤاد ، ويحطم الفؤاد .. !! يا الله .. يا الله .
الكل هنا فى لندن يتمنى العودة إلى حضن الكويت . يشتد بهم الشعور بضراوة الغربة وقساوة سلب الوطن . ينتمون أن تنتهى هذه المحنة ليطمئنوا على الجميع الذين لم تعد تصلهم الأخبار عنهم ، ولا كيف يعيش الأهل بالداخل !
تبكى أم عبد الله ، وأم جاسم بكاءاً مريراً ، وهم يسمعون عن التكبير ، وكيف صعد أهالى الكويت كلهم يوم الثانى من سبتمبر إلى الأسطح يكبّرون ويكبّرون . يدعون الله أن يزيح عنهم هذا البلاء ، وتظل تدوى تحت سماء الكويت الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر .
كانت فصائل المقاومة تدعوا إلى هذا اليوم . فجاء يوم الحزن والبكاء ، وكان الدعاء الله والوطن والأمير .. عندما أنتصف ليل يوم الثانى من الشهر التاسع فوق أسطح المنازل ، فكان الرد من هؤلاء الغزاة هو إطلاق الرصاص عليهم .. رصاصات الغدر والقتل والموت !! رصاصات الظلم تسفك دماء الأبرياء .. فوق أرض الوطن !!
آه .. كما يشتد الحنين للعودة إلى حضن الوطن ! فالأيام هنا مرهقة ثقيلة خانقة بعيداً عن أرض الوطن ! رغم رصاص الغدر .. وبشاعة العدوان .. فرغبة التعبير والمشاركة فى عمليات تحرير الوطن تستبد وتسيطر على الجميع .
تشترك سعاد وليلى وأحمد وأنوار فى مسيرة صامتة ، تجوب أنحاء لندن فى ذكرى مرور أربعة أشهر على غزو الكويت ! تبكى سعاد ، تنتحب ليلى وأنوار ، فى حين يبكى أحمد وهو يرفع علم الكويت عالياً بذراعه ، محاولاً أن يدارى به دموعه ، ويخفى أحزانه ، كى يظل رجلاً قوياً ، يدير باله على نساء أسرته ، فهو الرجل الوحيد الآن الذى يصحبهم إلى كل مكان يذهبون إليه ، بعد إن رغب الخال أبو إبراهيم عن الخروج ، فهو لا يكاد يبرح شقته .. يبقى بها يتابع أخبار العالم ليل نهار ، بكل اللغات التى يفهمها ، والتى لا يفهمها !
الجو هنا بارد ، مثلج الهواء ، الأشجار مجردة من الأوراق ، الأغصان كأذرع خشبية عملاقة لا حياة فيها ، الشتاء هذه السنة فى لندن موحش ، كئيب ، شديد البرودة ، رمادى الأجواء ، يزيد فى القلب مشاعر الوحشة واللوعة والوحدة ، والإحساس بمرارة الإغتراب ، ومعاناة البعاد عن الوطن .. وأرض الوطن .. وتراب الوطن ، لا يضاهيه فى ضراوة
العذاب إحساس !
يعودون للبيت مرهقين باكين وعلى صدورهم شعارات تؤكد حرية الكويت ، وفى قلوبهم حب الكويت ، وعشق الكويت ، والرغبة العميقة فى العودة إلى الكويت .
تفاجأ سعاد بأن أمها ما زالت غاضبة لأنهم رفضوا مشاركتها فى تلك المسيرة
الوطنية ، بعد أن صممت أن تساهم فى هذا العمل الوطنى البسيط ، على قدر طاقتها ، ولم يثنها عن عزمها إلا بقاء أختها أم جاسم معها ، بعد أن تعبت حتى أقنعتها بالعدول عن هذه الفكرة خوفاً عليها من الإرهاق والتعب ، ومضاعفات الموقف والإنفعال والتأثر الذى قد يضر بقلبها !
يخفف عنها أبو إبراهيم مؤكداً :
– والله أكيد كنت راح تتعبين يا أم عبد الله .. ترى المسافة طويلة والعدد كبير حوالى عشرة آلاف كويتى كانوا ماشيين فى المسيرة .. لا .. حرام عليك .. هذا تعب عليك .. ما تقدرين . كل الناس كانوا هناك .. كل الخليجيين اللى فى لندن كانوا هناك .. الدنيا فوت تحت .. وكالات الأبناء والصحف العربية كلهم يتابعونهم .. ورجال الشرطة الإنجليز كلهم ماشيين جنب المسيرة من اليمين والشمال .. الدنيا كانت زحمة وايد كأنه يوم الحشر .. إحنا خفنا عليك يا أم عبد الله .. أرجوك لا تزعلين .. حنا ما قصدنا نزعلك .
لم تهدأ أم عبد الله رغم هذا الكلام والتبرير والإعتذار ، تفجّر إحساسها بالقهر والغبن ، لإنهم أجبروها على البقاء فى البيت غصباً عليها ، فى حين كانت هى تصرّ على المشاركة فى هذه المسيرة ، فظلت غاضبة حانقة ، لا يعرف أحد كيف يهّدأ من ثورتها ، الكل يعجز عن تهدئتها حتى أخيها أبو إبراهيم لم يشفع له إعتذاره عن هذا الخطأ غير المقصود الذى وقع فيه بسبب الحب لها ، والحرص على صحتها وراحتها !
كانت أم عبد الله تبكى وتندب وهى تدعو الله أن يعيدها إلى الكويت ، وبيتها فى الكويت مع زوجها وعيالها هناك ، كانت تبكى وهى تقول :
– ردونى الكويت .. أنا ما بى أقعد هنيه .. أنا أبى أراد الكويت .. شوفوا لى طريقة تردونى بها الكويت .. مثل ما دشوا بدر وجاسم وخالد أنا راح أدش مثلهم .. بس أنتم خذونى هناك .. وما عليكم أنا بأدس بروحى .. واللى يصير عليهم يصير علىّ .. أنتم بس خلونى أروح .. ترى أنا مليت وايد من لندن .. وبرد لندن .. !
كانت المشكلة الحقيقة التى تواجههم فى تلك اللحظة ، كيف يجعلون أم عبد الله تتخلص من هذا الغضب ، فالجميع يقّدرون حزنها على إبنها الشهيد فيصل الرائد بوزارة الداخلية ، فالحزن ما زال متأججاً لاهباً ، وثورتها لا تنتهى على هذه الظروف الصعبة التى تعيشها فى بلاد الغربة ، بلا وطن ، بلا أهل ، بلا بيت ، بلا أسرة ، بلا لغة ، فهى لا تعرف تتكلم إنجليزى ، ولا تقدر أن تفّسر الأخبار ، كما أن لسعة البرد الحالية صارت تؤذيها ، يوماً بعد يوم ، صار الوجع ينخز فى مفاصلها ، كما تفاقم الوجع النفسى أيضاً ، صار ، أقسى ، وأصعب ، وأفدح ، كان يتزايد كلما شاهدت نشرات الأخبار ، وشافت الفظائع التى ترتكب فى الكويت .
مع الوقت ، تدنت درجات الحرارة كثيراً تحت الصفر ، فتكثفت وحشة الشتاء ، صارت بغيضة لا تطاق ، وصار الإنتقال إلى بلد عربى خليجى ، قريب من الكويت ، هو الهدف فى هذه اللحظة ، وكان بديهياً أن يتم إختيار المملكة العربية السعودية ، حيث الأهل هناك ولأنها على مقربة من الطريق البرى الذى يؤدى إلى الكويت ، ذاك الذى يسلكه الناجون من عذاب الغزو ، وبشاعدة العدوان ، فيكونوا بالتالى قريبين من طريق الإتصالات بينهم وبين من هم فى الداخل !
يتم ترتيب كل شئ للسفر .. وكم كان صعباً عليهم أن يسافروا وحدهم بدون جاسم الذى تعودوا أن يكونوا دوماً فى صحبته . بكت أمه كثيراً ، وأخته ، أما زوجته ، فقد كانت دموعها تسيل من القلب ، وهم يأخذون طريقهم إلى مقاعدهم فى الطائرة السعودية ، المتجهة إلى الرياض ، فى حين وقف أبو إبراهيم فى الممر يطمئن عليهم ، حتى يأخذوا أماكنهم ويقعدون كلهم ، ثم يجلس أخيراً فى مقعده المخصص له .
تهبط الطائرة فى مطار الرياض ، حيث يتدفق الشعور بحرارة الشوق ، ودفء الأمان ، وراحة الاطمئنان ، والتلهف لسماع أخبار الغاليين الأحباء ، الذين تتسرب أخبارهم من الكويت إلى هنا مع النازحين من جحيم النيران !
يتوجه الجميع إلى فندق ” إنتركونتيننتال ” المكتظ بأعداد وفيرة من أبناء الكويت ، الذين جمعتهم المصيبة ، وجعلتهم الأزمة يداً واحداً ، لا هم لها إلا السعى والدعاء ، والرجاء ، لإعادة الوطن السليب ، ومتابعة أخبار من هم فى الخارج ، المتواجدين هنا معهم ، وأخبار الأهل فى الداخل .. !
نعم .. كان الوضع فى الداخل عسيراً ، رهيباً ، لا يطاق ، فبعد ، أن وصلت دلال إلى بيت العديلية ، على الفور يخبر جمال أخيه عادل بما حدث فى بيتها ! فيهب عادل إلى زملائه من شباب المقاومة ، ثم يتجهون جميعاً إلى بيت أخته فى السالمية ، ليقوموا بحمل جثمان جدتها الطاهر إلى مثواه الأخير ، ليدفن فى مقابر الرقة ، قبل أن يصل الجنود ، ويلقون به ضمن مئات الجثث التى يمنع دفنها ، وتتكدس أكواماً فى صالة التزلج على
الجليد !!
.. يدفع عادل باب البيت الخارجى ، يصعد بضع درجات ، يدخل إلى الصالة ، يبحث عن جثمان جدة دلال فى المكان الذى وصفته له .. لكنه يقف مشدوهاً ، مستمراً فى مكانه ، كأنه أصبح تمثالاً من حجر .. !
.. إختفى الجثمان .. ! فى حين رأى عادل مكانه شيئاً آخر مرعباً .. ! لم يكن ينتظره أبداً .. أو يتوقعه !!
الفصل العشرون
الديسـكو السفلى .. !
يدخل عادل ورفاقه بيت شقيقته دلال فيرى بدلاً من الجثمان عدداً من الجنود المسلحين القابعين فى صمت وسكون فى ” كمين ” بانتظار وصول هؤلاء القادمين الذين سيقومون بالدفن !!
كان الجنود العراقيون يعرفون إن ” المخربين ” الذين يتولون هذه المهمة لن يتأخروا عن الحضور . لابد أنهم سيأتون فى أسرع وقت للقيام بهذا العمل ” الإجرامى ” المضاد للقانون الذى لا يحتمل تأجيل أو إبطاء ! ..
نعم .. كانوا يتوقعون وصول هؤلاء ” الملاعين ” ” بهالوقت ” لأخذ الجثمان ونقله .. ودفنه ! مع إنهم ” هذولة الشياطين ” يتحدون بذلك أوامر ” القيادة ” الواضحة والصريحة ، التى تحرم ، دفن الموتى !! وهم بذلك يستحقون أن توقع عليهم أشد أنواع العقوبة ، وأقسى أنواع العذاب !!
آه .. شلتّ هذه المفاجأة المذهلة عادل ورفاقه الشباب من أبطال المقاومة الوطنية ! فتسمّروا فى أماكنهم ، بسبب هذا الموقف المباغت الذى أوقف عقولهم ، وأعجزهم عن الحركة والتصرف والتفكير !!
آه .. يا للأسف .. يا للأسى .. سقط الأبطال فى الفخ .. صادوهم ! فوقعوا على الفور تحت طائلة تعذيب وحشى ، كى يعترفوا ويرشدوا عن الباقين المشتركين معهم فى أعمال الشغب والتخريب .. ومقاومة السلطات !
.. يستمر العذاب ساعات وساعات ، آناء الليل وأطراف النهار ، يتحول بيت دلال إلى ” مقر ” تعذيب رهيب ، تقشعر له الجدران ، تشمئز منه الحجرات .. حين تنطلق بين أرجائه صرخات الألم . وعويل الوجع . وصيحات العذاب !! تحول البيت الآمن المسالم إلى ” مقر ” مرعب تقع بين جنباته أقذر أنواع التعذيب وأخط أساليب الهوان !
كانوا يستخدمون فى ذلك ، أسوأ الأدوات وأبشع السبل والوسائل ، التى تحطم إنسانية الإنسان ، وتسحق وتدمر قدرته ، وتبدد طاقته على الصبر والجلد والإحتمال ، فقد كان لديهم الكثير من الكيبلات والحبال والحراب والفلقة والسكاكين العسكرية و .. و .. و .. ألخ !!
يتساقط شباب المقاومة البواسل تحت سيطرة أيديهم القذرة الظالمة الباغية ، وهم يقاسون ويئنّون ويتأوهون ، بعد أن مارسوا عليهم ما لا يحتمله بشر من تعذيب وهوان ، وما لا يطيقه أن يصمد حياله إنسان .. أو حتى حيوان !!
وما يلبث أن ينقلوهم إلى مقر التعذيب الرئيسى فى مخفر ميدان حولى بالطابق السفلى الذى أطلقوا عليه إسم ” الديسكو ” حيث توجد كميات ضخمة من أدوات التعذيب الكثيرة كالهوزة المكهربة والعصى الكهربائية والدريل الكهربائى ، والأسلاك الكهربائية ، وصورة صدام المكهربة التى يجبرون المعتقلين على تقبيلها ، فكان شباب المقاومة البواسل ينتفضون . يسقطون . يرتمون . يقعون على الأرض من شدة الألم وهول العذاب !
.. تعلم دلال الخبر ! فتظل تصرخ وتصرخ وقلبها يتمزق قطعاً ، تسيل دماً وحزناً على عادل أخيها وفاقه من أبطال المقاومة ، أصحاب الشهامة والمروءة الذين ذهبوا للقيام بهذا العمل الإنسانى لدفن جثة جدتها ، والذين وقعوا بين أيدى هؤلاء الطغاة الغزاة !
ترتعش دلال خوفاً وهى تتوقع الإعتقال فى أى لحظة من الحين ، لأنها حتماً ستكون ضمن هؤلاء المطلوب القبض عليهم ، هى وجاسم أيضاً ، وباقى الشباب المشتركين فى نفس مجموعة المقاومة !
لهذا ، تنهض فى الحال ، تثب ، تركض ، تنطلق إلى كيفان بأسرع ما يمكن ، حيث تستطيع الإختباء هناك بعيداً عن الأعين التى تطاردها وتبحث عنها .. فى حين يبدأ أخيها الكبير جمال فى تخطيط عدة عمليات إنتقامية ، ثأراً لما أصاب أخته واسرتها ، ولما حّل مؤخراً .. بأخيه ورفاقه !!
تتصاعد أعمال المقاومة ، وفى نفس الوقت تشتد محاولات مناهضتها وسحقها ، فتتخذ كافة أنواع العنف والقمع طريقها إلى تلك القلوب المؤمنة الطيبة المدافعة بيقين عميق ، وإيمان مطلق عن حقها الكبير فى تحرير أرضها ، وتخليص وطنها من هذا المعتدى الظالم البغيض !
تشتعل الأماكن . يتزايد القهر . يستمر العدوان . كما تستمر مقاومة العدوان . لا يأس مع الحياة ، لا قبول بالظلم . ولا تقبل للواقع المفروض ، إنما هى المقاومة ، المقاومة ، مهما كانت الأحوال ، ومهما كانت الظروف !
فى تلك الأثناء .. يتمادى الظالم فى غيّه وبغيه وعدوانه ، تتفشى وحشيته . ينتشر فجوره وظلمه وإمتهانه لهذا الشعب الطيب ، وذلك البلد المسالم ! .. تمضى فترة كئيبة سوداء كالليل ، فلا أخبار تصل عن الأهل .. لا أحد يعلم ما صار عليهم أو حلّ بهم ! .. ففى كل يوم والتالى ، يظلوا يترقبون حضور بعض شباب المقاومة الخارجين من الكويت ليطمئنوا على ذويهم ، فلربما تستطيع سعاد وأهلها الاطمئنان على من بالداخل بإحدى الرسائل السرية ، أو عن طريق بعض المكالمات اللاسلكية .
لكن .. يزداد التعتيم الإعلامى كثافة . تنقطع الأخبار تماماً عن سعاد وليلى وأمهاتهما اللاتى صرن فى حالة يرثى لها ، فمنذ الأيام الأولى للغزو ، والخوف على الأهل فى الداخل يصبح وحشاً مفترساً ينهش نفوسهم ، تحاول سعاد أن تتعزى عن هذا الواقع العنيف الذى يعذبها ، بعدما عرفت أيضاً أن جاسم ودلال صارا لا يفترقان منذ إنضمت دلال إلى نفس مجموعة المقاومة التى يرأسها جاسم !
تظل سعاد تفكر وتفكر فى موقف جاسم نفسه من دلال ! بل .. ومنها هى نفسها !! تصمت سعاد مقهورة مرغمة ، فهى تعرف إنها لا تقدر أن تفعل شيئاً فى مثل هذه الظروف الصعبة الطارئة . تستسلم مضطرة مجبرة للأمر الواقع عليها .. تنرك الزمن الصعب يمارس طقوسه الشاقة القاسية كما يشاء ! تبقى تحاول قدر الإمكان أن تتغاضى عن مشاعر الغيرة والغضب ، وأن تحذف أحاسيس الغيظ والمذّلة والهوان التى تعانيها ، فظروف الإحتلال وسلب الوطن تتطلب أن يتسامى الجميع ، وأن يترفع الكل عن مشاعره الخاصة ، وأحاسيسه الذاتية !
تتشاغل سعاد بالحديث مع ليلى عن نايف ، وكيف أنه إتفق مع خالها أبو إبراهيم على ألا يبقوا فى الفندق يوماً واحداً بعد الآن ، تقول لها :
– خالى قال لى إننا راح ننتقل الليلة إلى بيت نايف فى حى صلاح الدين .. هو وافق بعدما أخبّره نايف أنه إتفق مع جاسم أول ما وصل من لندن على إننا نبقى بالبيت عندهم .. وما فى داعى نظل فى الفندق .
– ومتى راح نترك الفندق ؟!
– إنشا الله اليوم يا ليلى .. اللى أنا دريته من خالى إنهم راح ييجوا يأخذونا الليلة عشان نروح وياهم لأن خالى قال لى إن عندهم فيللاً خاصة بالحريم ، وفيللاً خاصة بالرجال.
وفى المساء ، بعد صلاة المغرب ، يحضر نايف وأمه وأخواته مذنة ونورا ومشاعل ، إلى الفندق ، حيث تستقبلهن أم عبد الله وأم جاسم وسعاد وليلى ، ترحبن بهن ، فى حين
يجلس نايف مع الخال أبو إبراهيم فى غرفته الخاصة ، ثم ينزلان تحت حيث يقوم أبو إبراهيم بتسديد الحساب .
ينتقلون إلى البيت الفخم فى حى صلاح الدين ، فيرى أحمد وأنوار وراكان حمام السباحة فيفرحون به كل الفرح ، إذ أنهم يدركون أنه سيسبحون هنا بلا مواعيد تحدد
للأطفال ، وبلا مربية ترافقهم ، وإن كانت أمهم لن تسمح لهم بالنزول دون إشراف .
يخبر نايف الخال أبو إبراهيم إنه سيضطر أن يقيم فى المستشفى العسكرى ليل نهار لأن البلد فى حالة طوارئ ، وأنه لن يكون متواجداً على الإطلاق هنا فى البيت ، وإن
كان الوالد سيكون موجوداً لتلبية أى شئ يحتاجون إليه . يشكره أبو إبراهيم من قلبه
ويقول له واثقاً :
– لا تحمل همنّا يا نايف أنت بس خليك فى حالك وشوف شغلك .
يقوم نايف بتعريف أبو إبراهيم على والده ، الذى يهّب مرحباً به مسلماً عليه .. فاتحاً ذراعيه ، وهو يقول باسماً :
– حياك الله .. حياك الله يا أبو إبراهيم .. البيت بيتك يا خوى .. إنتم أهل الدار وحنّا ضيوف عندكم .. يا مرحباً .. يا مرحباً ..
فيرد أبو إبراهيم ضاحكاً :
– ترى حنّا فى بلدنا ما معّود .. وهذا بيتنا ما فى فرق .. كلنا أهل .. حنّا مو أغراب ..
وفى اليوم التالى مباشرة ، يغادر أبو إبراهيم البيت ، بعد أن يطمئن على سلامة الحريم ، وأنهن صرّن الحين فى أيدى أمينة .. يسافر إلى القاهرة ليطمئن على أسرته المقيمة بها ، حيث أن زوجته وكريمتيه سهام ومنال وعيالهما بروحهم هناك ، منذ أن إلتحق إبراهيم بالجيش الشعبى ضمن القوات المرابطة فى حفر الباطن .
يلتقى ابو إبراهيم صديق عمره ، صديق دراسته ، أبو جمال الذى جاء إليه يسلم
عليه ، ويستفسر منه عن آخر أخبار الكويت وعما إذا كان يعرف شيئاً عن أخبار الأهل
داخل الوطن . ينهمكان فى حديث طويل حول الوضع السياسى الحالى عن الكويت ،
وأزمة الكويت .
وبعد قليل يغادر أبو إبراهيم وأبو جمال ليذهبان إلى مقهى فى ميدان ” سفنكس ” بالمهندسين ، حيث يجلسان يتحدثان عن توقعاتهما المرتقبة للموقف السياسى ، وما يلبث أن ينضم إليهما عدد كبير من رجال الكويت المقيمين حالياً فى القاهرة .
يطمئن أبو إبراهيم على أحوال أبو جمال ، يعرف منه أنه بخير وكل الأخوة الموجودين هنا بالقاهرة بخير ، وأنهم يتقابلون من وقت لآخر ينظمون أمورهم ، ويحلّون مشاكلهم ، ويتابعون آخر أخبار وطنهم ، ويرتبون لمقابلة كبار المسئولين لشرح وجهة نظرهم والمناداة برفع الظلم عن مواطنيهم وتحرير وطنهم ، ففى الواقع الجالية الكويتية فى القاهرة لها دور سياسى كبير بارز ونشط ، أيضاً رجال السفارة أنفسهم ما قصّروا فى تقديم كل المساعدات المطلوبة لمواطنى الكويت .
تمضى ساعات المساء رتيبة بطيئة ، فى حين كانت أعداد الأخوة الكويتيين المنضمين إلى الجلسة تتسع بطريقة سريعة .. فأخذوا يتناقشون فى كل الأمور المتعلقة بالوضع السياسى ، وتوقعات إنهاء الأزمة وهم يعانون من مرارة الظروف والشعور بالألم ، والظلم ، والقهر ، فيستغرقون فى متابعة الأخبار عبر شاشة التليفزيون ، بينما تدور حولهم طلبات القهوة والشاى والشيشة .
فى هذه الأثناء .. يشاهد أبو جمال وإلى جواره أبو إبراهيم وباقى الرجال الرئيس حسنى مبارك ، وهو يؤكد للعالم أجمع فى مؤتمر صحفى تبثه وسائل الإعلام العالمية ، وتنقله شاشة التليفزيون أمامهم ، فيسمعونه وهو يعلن :
– إن العالم كله يتفق معنا فى السعى لحل أزمة الخليج سلمياً مع الإستمرار فى الإستعدادات العسكرية .
كما ركّز الرئيس على ضرورة الإنسحاب الكامل للقوات العراقية من الكويت ! يشرد أبو جمال بذهنه .. حيث تحلق روحه تحوم سماء الكويت ، حول عياله وبيته فى العديلية ، يتنهد وهو يتأمل حاله وحيداً بعيداً عنهم .. جمال وسناء وعادل .. وأبنته دلال التى صار له مدة طويلة ما شافها ، لم يطمئن على أخبارها ، يحس ضيقاً يطبق على صدره وهو يفكر فيهم ، كما يشعر بقلق عميق يعتريه ، يصيبه فجأة نوعاً غامضاً من الخوف على مصيرهم ، يظل يدهمه ، يرهبه بعد أن سمع عن الأهوال التى يتعرض لها المواطنون هناك !
فى نفس اللحظة ، داخل الكويت ، كانت دلال حائرة كل الحيرة ، وهى تحس أنها وحدها فى هذا الموقف الشاق الذى يعترضها ، ويسبّب لها كل هذا الضيق والإرهاق ، فهى لا تعرف كيف تتصرف حيال هذا الخطر الذى يحيق بها طوال الوقت ! كما لا تعرف كيف تتقيه ، وكيف تتجنبه ، وهى ترى الرغبة فيها تتلظى فى عيون الناظرين إليها ، خاصة من هؤلاء الجنود المتحكمين فى نقاط السيطرة والمنتشرين فى كل مكان ! هذا ، مع إن دلال كانت تحرص أن تدارى معالم أنوثتها قدر الإمكان بعد أن حذفت تماماً من قاموس حياتها شيئاً أسمه ” الزينة ” أو الإهتمام بالشكل والمظهر بأى أسلوب كان !
ومع الوقت تزداد الظروف صعوبة ومشقة ، فيبدأ تطبيق حظر التجول مما أدى إلى تقلّص نشاط المقاومة القتالى ، وإزدياد العمل السرى ، الذى يشمل البحث عن الأسرى ، ومساعدة الأسر المحتاجة ، وإستلام المساعدات المالية ، وتوزيعها على الأسر ، وحرق القمامة ، ودفن الموتى .. وغير ذلك كثير من الأعمال الفعلية التى تعتبر نوعاً من أعمال المقاومة الوطنية الإيجابية .
ورغم فظاعة الأعمال القمعية وقسوتها ، إلا أن ذلك لم يمنع أن يستمر المواطنون فى المقاومة ، وذلك على الرغم من أن سياسة التعذيب قد تزايدت إلى درجة مخيفة ، مما جعل ساحات النوادى نفسها تتحول إلى ساحات تعذيب ، حيث يتم جلوس المقبوض عليهم فى حلقات كبيرة واسعة داخل الملعب ، ويتم التعذيب واحداً واحداً فى الوسط أمام الجميع ! بحيث تكون نتيجة التعذيب مزدوجة على من يقع عليه التعذيب وعلى من يشاهده !!
لكن .. رغم ذلك لم يتورع جمال عن الإستمرار فى المقاومة ، لم يردعه أو يخيفه شئ يحول دونه والدفاع عن أرض الوطن ، فها هو يشترك فى عملية نسف مركز تجمع الشاحنات التى راح فيها عدد كبير من جنود العدو ، وكان ذلك بعد أن شارك هو وبدر فى عملية تحرير وإنقاذ حوالى سبعين كويتياً كانوا فى أحد السجون العراقية بمنطقة صفوان ، كان من بينهم راشد وعبد النبى وعلى الذين تم تحريرهم إستطاعوا بحمد الله أن يعودوا جميعهم فى سلام هم والمجموعة التى شاركت معهم فى هذه العملية إلى الكويت ، وكان من بينهم محمد وناصر وكاظم الذين استطاعوا إنقاذ عدد كبير من الأسرى وتحريرهم .. حمداً لله .. سلمت يد أبناء الوطن البواسل .
فى الواقع .. الكل سواسيه أمام رجال الفرق الخاصة ، الذين تربطهم بصدام حسين صلة قرابة مباشرة والذين أرسلهم بعد أن صار يخشى تذّمر الجيش العراقى عليهم ، مما جعله ينفذ حكم الإعدام فى أعداد كبيرة من الضباط ذوى الرتب المختلفة الذين أدانوا ورفضوا المشاركة فى غزو الكويت .
كان عدد كبير من ضباط الجيش العراقى فى حالة إستنكار ونفور من تلك الأوامر العسكرية الصادرة إليهم من صدام حسين والتى تأمرهم بممارسة أعمال العدوان البشعة ، مما جعل حالة من الرفض تنتشر بينهم ، لذا قام صدام بتدعيم الحرس الجمهورى بهؤلاء القوات الخاصة المرتبطة مباشرة به وبأسرته ، ليباشروا بأنفسهم تنفيذ تلك الأوامر اللاأخلاقية واللاإنسانية !!
لذلك .. كلما إزدادت حركة المقاومة الكويتية من أجل الدفاع عن الوطن ، إزدادت بالتالى حركة مناهضتها ، مما أدى إلى وقوع الكثير بين أيدى هؤلاء الظالمين الذين لم يتورعوا عن إيذائهم وتعذيبهم ، والتنكيل بهم ، إلى درجة القتل والتمثيل بجثثهم ، بعد التعذيب أمام أهاليهم وأقاربهم ومنع دفنهم .. ! يا الله .. الصبر يا رب .
لهذا .. كان طبيعى أن يزداد العبء النفسى والبدنى على جاسم ، الذى بدا مرهقاً بعد أن فقد الكثير من وزنه فقد كانت الحالة الصحية فى الكويت متدنية للغاية ، إلى درجة أن المؤتمر السابع والثلاثين لشرق البحر المتوسط التابع لمنظمة الصحة العالمية بدأ يعرب عن قلقه إزاء تدهور الأوضاع الصحية فى الكويت ، وأكد أن الإحتلال أدى إلى تدهور كبير فى الرعاية الصحية للمقيمين فى الكويت وإلى تردى الأحوال الصحية ، الأمر الذى يعتبر خرقاً صارخاً لدستور منظمة الصحة العالمية !!
.. ولم يكن يخفى على عين أحد مظاهر الضعف والوهن والإرهاق التى بدت على دلال أيضاً ، فهى لم تكن تنام بالقدر الكافى ، ولم تكن تأكل بالقدر الكافى ، كانت فقط تفكر كيف تقاوم ، وكيف تنتقم . وتنتقم . وتنتقم !
نعم .. تنتقم من أجل وطنها ، من أجل أمها المغتصبة التى يكاد يختل عقلها ، من أجدل جدتها التى لا يعرف أحد حتى الآن مصيرها ؟! وهل دفن جثمانها ؟! أم أنها كانت فى غيبوبة السكر كما تقول أمها وإستردت وعيها وخرجت على غير هدى للبحث عنهم فضلت طريقها ؟! أم أنهم أسروها ؟! .. عذبوها ؟! .. إغتصبوها ؟! سواء حية كانت .. أم ميتة !!
يلتاع كبد دلال ، عندما تتذكر منظر أمها والدماء تسيل من فمها ، حتى تبلل أقدامها .. ومنظر جدتها ودمائها تنزف من رأسها فتخفى ملامحها وتغطى رقبتها وصدرها .. ! آه .. هنا تسترجع دلال المنظر الدامى بكل تفاصيله المرعبة .. فيبدأ يتسرب الشك داخلها .. تبدأ تساورها أفكاراً رهيبة مخيفة ، تحوى إحتمالات صحة إتهام أمها ، بأن جدتها لم تمت بعد .. وأنها ما زالت على قيد الحياة !! لكن .. تستعيذ دلال بالله من الشيطان الرجيم الذى يتعسها ويشتقها بهذه الظنون والشكوك .. فجدتها كانت مفتوحة العينين على آخرهما .. وكان الموت مرتسماً فيهما !!
تتعذب دلال بمصير إبنتها ، بعدما ساءت حالتها الصحية ، التى ترتب عليها إصابتها بعاهة نفسية بالغة الأثر ، أدت إلى تعثرها فى الكلام ، وإضطرابها ، وخلخلة سلوكها ، وتبولها اللاإرادى ! وكانت الحاجة إلى وجود طبيب نفسى مختص حاجة ماسة ملحة وأساسية .. لكن كان ذلك مطلباً مستحيلاً فى ظل هذه الأوضاع الصحية المتردية !
كذلك .. كان العمل بالنسبة لجاسم كطبيب عملاً صعباً عسيراً ، بل مستحيلاً ، فكمية الدواء ظلت تتناقص إلى حد يشّل حركته كطبيب جراح ، كما أن المواد اللازمة والمساعدة ، والأدوات المطلوبة لإجراء العمليات الجراحية ، أخذت تقل وتقل ، رغم أنه قد إستطاع بفضل معاونة الزملاء الأطباء الحصول على كمّ وفير من الدواء ، إلا أنه أخذ يقل ويتناقص .. ويتناقص !
ولم يكن يخفى هذا الوضع الصحى المتردى على رجال الحكومة ، فطلبت الكويت من الأمم المتحدة إرسال إمدادات طبية عاجلة لإنقاذ المرضى فى الكويت الذين يموتون بسبب نقص الأدوية ، بعد أن تمت السيطرة على جميع المستشفيات التى سلبت ، وجردت من الأدوية والأجهزة .. !!
كان الوضع متردياً ، كما كان جرح الروح غائراً ، فهاهو ملعب النادى الذى يحبه جاسم ، والذى طالما لعب فوق أرضه وركض تحت أضوائه ، قد تحول إلى ساحة شاسعة للتعذيب الجماعى ! وهاهى الطرق المؤدية إليه صارت خاضعة لنقاط السيطرة المحكمة ، التى لا يبعد بعضها عن بعض ، أكثر من مائة متر والمزودة بجميع صنوف الأسلحة حتى صواريخ أز. بى. جى. !!
يتأزم الوضع أكثر وأكثر ، فيصبح الشعور بالخطر الداهم مسيطراً على قلوب الجميع ، فأقل حركة تنذر بالمداهمة والقتل ! والتعذيب لا يحتاج إلى شرح أو وصف بعد أن تجاوز كل حد !!
لذا .. يشتد الصراع فى نفس دلال فهى تفكر الحين فى العودة إلى العديلية لتطمئن على أمها وابنتها ، لكنها تتردد لأنها تودّ أن تبقى إلى جوار جاسم تشد من أزره ، تشجعه على الإستمرار فى عمله الذى يحتاجها معه ، بالذات بعد أن زادت أعباؤه ومسئولياته ، وبعد أن أصبح رمزاً للمقاومة والصمود والتصدى ، وبعد أن صار فى عينيها بطلاً وأخاً وصديقاً عزيزاً ، تتمنى أن تسانده وقت المحنة ، وقت الضيق ، وأن لا تتخلى عنه وهو فى أمس الحاجة إلى وجودها ومساعدتها .. !
حقاً .. الإختيار صعب ، والأصعب أتخاذ القرار ، قبل أن يبدأ خطر التجول الذى يسرى عى الجميع مع حلول المساء .. وبينما كانت دلال تفكر فى الذهاب إلى بيتها ، رغم إحتمالات الخطر التى تعرّها للقبض عليها بعد أسر شقيقها ، وبينما كانت تفكر حائرة مترددة بين البقاء والرحيل ، إذ بها تشهق شهقة رعب مكتومة وهى ترجع فجأة إلى الوراء ، فترتطم بالحائط بشدة وهى ترى باب السرداب يفتح بهدوء .. ويدلف من خلاله ضابطاً مسلحاً من ضابط القوات العراقية العسكرية !!
ترفع دلال يدها تكتك صرخة رعب تكاد تخرج من فمها ، وهى تضع يدها الأخرى فوق قلبها ، فهى تعرف ماذا سيحل بهم ، كما تعرف سوء مصيرهم ، لكن .. إذ بها تصرخ فى فرح وحشى وجنون وقتى :
– بدر .. بدر .. خوفتنّى .. ظنيتك واحد منهم .. ظنيتك واحد منهم !
يسكتها بدر بإشارة من يده ، وهو يقول لهم فى صوت خفيض وتوتر بالغ ، وقلق ظاهر موجهّاً كلامه إلى جاسم بحيث يسمعه الجميع :
– ياللا .. بسرعة .. قوموا .. ترى راح يحاصرون المنطقة كلها الحين يفتشون عن شباب المقاومة .. قوموا .
ينظر جاسم حوله وقد قطّب جبينه ، وتصلبتّ أصابعه على المشرط الذى يخرج به رصاصة من كتف أحد شباب المقاومة وقد وقف حائراً بين إتمام العملية وبين إتمام العملية وبين المبادرة بالفرار والهرب ، لكنه قبل أن يتحرك من مكانه ، يسمع الجميع بمن فيهم بدر صوت سيارة جيب عسكرية تقف أمام باب البيت .. يهبط منها جنود عراقيون تدل عليهم لهجتهم وقرقعة أسلحتهم !
تسند دلال ظهرها للحائط خلفها قبل أن تقع على الأرض من شدة الفزع ! فى حين تبرز عيناها هلعاً ورعباً مما ينتظرها على أيدى هؤلاء الجنود المدربين على فنون القتل والتعذيب ! يجمد جاسم مكانه . تتغير ملامحه . تتصلب أصابعه ! .. فى حين يخيم الظلام .. يكف الهواء عن الحركة .. تتوقف الأنفاس تماماً .. بينما يدور بدر بسرعة حول نفسه يقفز السلم صاعداً رافعاً سلاحه فوق رأسه صارخاً بأعلى صوته .. !
الفصل الواحد والعشرون
الحفيد بن الشهيد !
يصعد بدر الدرج فى سرعة الصاروخ ، يصرخ فى وجه الجنود بلهجة عراقية
متقنة :
– حرك .. ياللا .. قبل .. قبل .. هربوا المخرّبين .. ماكو أحد داخل .. ياللا .. لحقوهم .. حرك قبل ما يروحوا مخبأ ثانى ..!
ينظر بدر إلى السائق نظره مخيفة نافذة وهو يقول بلهجة آمرة :
– ياللا .. حرك .. قبل .. قبل ..
ينطلق الجنود بالسيارة مسرعين ، طاعة لأمر ضابط المخابرات من القوات الخاصة ، الذى لا ترد له كلمة ، ولا يعصى له أمراً ! تنطلق السيارة بهم بأقصى سرعة لمطاردة المخربين الهاربين .. دون أن يعرفوا إلى أى طريق يتجهون ! .. ولا .. من هم هؤلاء المطاردون المخربون الهاربون !
يدور بدر بسيارته دورة قصيرة ، وما يلبث أن يعود فى الحال ملتفاً بظلام الليل ، فينزل إلى السرداب ، يتعاون مع جاسم ودلال فى نقل الجرحى إلى سيارته ” الجيمس ” ذات الأقرام العسكرية ، بعد أن إنتحل شخصية ضابط الإستخبارات القتيل الذى زوّر عبد الله هويته ، وإرتدى هو ملابسه !
كان عبد الله شقيق بدر يتقن عمل الهّويات ، ينفذها صورة طبق الأصل ، ساعده فى ذلك تدربه الدقيق على رسم الخطوط الهندسية ، وإتقان الرسومات الفنية التى إعتاد أن يقوم بها منذ التحاقه بكلية الهندسة بولاية ” بوسطن ” بأمريكا ، فى الحقيقة ، لم تكن تواجهه أدنى صعوبة فى تقليد أى هوية ، لذا كان لدى بدر عدداً ضخماً منها ، يضم جميع الجنسيات ، فكان يتصرف فيها كيفما يشاء ، مما ساعده كثيراً على التنكر ، والتقمّص ، وإنتحال أى شخصية يريدها ، فقد كانت موهبة بدر ومقدرته على التمثيل ، طبيعة فطرية ، لا تحتاج إلـى جهد كبير ، ولا تتطلب منه أداءاً مصطنعاً !
.. كان من المستحيل أن يكشفه أحد ، أو يشك فى أمره أحد ، فقد كان ما يفعله ، من صوت وحركة وطريقة كلام ، كلها تصرفات تجعل منه صورة طبق الأصل من الشخصيــة .
كان بدر يمتلك إلى جانب تلك الموهبة والمقدرة وخفة الحركة ، وسرعة البديهة ، وحدّة الذكاء .. كان أيضاً يمتلك أسلحة أخرى أساسية ، أهمها خفة الروح والدم الظاهرة ، والقدرة على الخروج بسرعة خارقة من الموقف المتأزم ، إلى جانب أنه كان يتقن ألعاب الجودو والكاراتيه والتايكوندو !
ينتقى بدر إحدى البنايات المحترقة ، يحدد موقعها ، يأخذهم إليها بسرعة ، يتركهم داخلها فى هدوء وصمت ، ينطلق مبتعداً حتى لا تدل السيارة الواقفة أمامها بأن أحد بداخلها ، وذلك بعد أن وعد جاسم وأكد لدلال ولباقى الشباب ، بأنه لن يتأخر كثيراً عنهم وبمجرد أن ينفك الحصار ، وينصرف الجنود ، سوف يعود إليهم فى أول فرصة تسمح بذلك لإخراجهم من هذا المخبأ المهدم ، وأخذهم إلى مكان آخر أنظف وأرتب . فقط .. يجب الإنتظار إلى أن يغادروا المنطقة ، ويبتعدوا عنها .. !
كان هذا هو الحل الوحيد المتاح أمام بدر ، أن يخبئهم فى هذه البناية المحترقة
المدمرّة التى قصفها الجنود بمدافع آر. بى. جى منذ أيام ، والتى لا ينّم مظهرها عن بادرة واحدة توحى بالحياة ! لأن منطقة كيفان قد تم محاصرتها الحين ، وصارت محاطة كلها من الخارج ، ثم بدأوا يفتشون عن بعض الشباب المشتركين فى أعمال المقاومة فى الداخل ، بعد أن وصلتهم إخبارية عن ممارسة نشاطهم التخريبى كما يقولون ! لذا كان لابد من الصبر والتحمل إلى أن تنتهى هذه المداهمة ، ويكفون عن عمليات التفتيش ، ويعودون من
حيث أتوا .. !
ولم تكن هذه هى البناية الوحيدة التى تم إحراقها ، بل كانت هناك بنايات كثيرة مثلها ، بعد أن هاجم الجنود المعتدون المنطقة بأكملها وعاثوا فيها فساداً لدرجة أنهم إستعملوا أعمدة النور المنتصبة فى شوارعها ، لتعليق جثث الرجال الأبطال ، بعد شنقهم عليها .. !!
.. تظل دلال داخل المخبأ تنتفض رعباً ، فالظلام دامس ، والمكان مقبض ، وآثار الحريق تترك السواد مفروشاً على الحوائط والأرضيات ، وبقايا الأثاث تتناثر فى فوضى كأنها أشباح الفزع والهلع فى قلبها ! كأنها ترى مشهداً فى أحد أفلام الرعب التى يتوقع المشاهد أن يرى فيها ” دراكولا ” خارجاً من بين طيات الظلام كاشفاً عن أنيابه الطويلة البيضاء ، وقد غطتها الدماء الحمراء ، بعد أن إمتص سائل الحياة من ضحاياه !!
كان الموقف مخيفاً .. مخيفاً .. فصوت عجلات السيارات اللاهثة التى تعبر الشارع بجنون يثير الفزع ، يدفع الدمع إلى عينّى دلال التى تتوار خائفة خلف بقايا مقعد محترق ، وهى تكاد أن تغيب عن وعيها ذعراً ، وخيالها بعيداً حول إبنتها اليتيمة ، وأمها المريضة ، وأهلها فى العديلية ، الذين لا يعرفون مقرها ولا مصيرها .. !
فى تلك اللحظة الحرجة المحبطة كان جاسم يقف ملتصقاً بالجدار يرقب الطريق بإحدى عينيه حتى لا يلمحه أحد ، بعد أن سمع صوت إحدى السيارات المجنزرة التى تجوب المنطقة بحثاً عن شباب المقاومة .. تقف بالقرب من البيت الذى يختبئون داخله .. !!
تمضى دقيقة ، تعقبها دقيقة أخرى تمر بسلام ، فيشعر جاسم ومن معه بأنهم قد تجاوزوا حد الخطر ، لكن .. الموقف برمته ، كان يهز وتراً حساساً فى قلب دلال التى بتأثير هذا الإنفعال الشديد ، وهذا الجهد النفسى والعصبى المتصل ، يعاودها حلمها التعس القديم ، الذى يم يتحقق منه شئ ، تعود تحتل مخيلتها أحداث حياتها كلها دفعة واحدة ، فتضيق نفسها بعذاب السنين التى عانتها وقاستها ، وتعود تعانى عبء الماضى بكل همومه وإحباطاته ، وهول الحاضر بمخاطره وعدم إستقراره ، فتبدأ ترقب فى أسى المستقبل الغامض عبر ذلك الغد ، الذى لا ملامح له ولا تفاصيل .. !!
فى الحقيقة ، كانت دلال تعانى حالة من العجز والجزع ، بعد أن إكتشفت أن الشعور بينها وبين جاسم قد أصبح شعوراً غريباً ، يزيد من العطف والشفقة والصداقة ، لكنه ليس شغفاً ، ولا شوقاً ، ولا حتى حباً بأى حال من الأحوال ! نعم .. لم يعد حباً ، إنما هو شعور آخر عجيب غامض غريب ! شعور نشأ بعد أن غيّرت الظروف المشاعر ، وتدخلت الأحداث فى تسيير الإحساس ، وجعلت المواقف المحبطة المتكررة من دلال واحدة أخرى ، تختلف عن دلال التى تعرفها عن نفسها ! شعور ظهر بعد أن صهرت صعوبة الواقع الجديد جاسم ، وجعلت منه رمزاً من رموز المقاومة ، وحوّلته إلى واحد من هؤلاء الشباب الأبطال الذى يحفل بأحاسيس التضحية والفداء ، وبذل الروح رخيصة من أجل الوطن !
.. وفجأة اختلطت هذه المشاعر داخل أعماق دلال .. فبدت من بين طيات الظلام مخاوفها ، أخذت تتحرك حولها كالأشباح – ! فبدأ بدنها كله يرتجف ، وفشلت فى حبس دموعها التى أخذت تنهمر بشدة ، وهى تعانى شعوراً ساحقاً بالضآلة والقلة والنقص يجعلها تعتقد أنها قطة ضالة ضائعة مشردة .. بلا مأوى .. ولا مأمن .. ولا معين .. !!
كانت دلال تتفجّر فى بكاء حار بحثاً عن شئ من الطمأنينة والأمان ، كان بدنها يهتّز من شدة التأثر والإنفعال الذى ينذر بإنعدام هذه السيطرة وفقد أعصابها وإتزانها ! فتحرك نحوها جاسم بحذر وخوف مبتعداً عن مكانه فى هدوء مقترباً منها فى قلق ملطفاً ، محاولاً التخفيف عنها ، خشية أن تتفاقم حالتها ، وتصاب بنوبة هيسيترية تجعلها تصيح وتصرخ ، فتلفت النظر إليهم ، ويضيعون كلهم !
يقترب منها جاسم ، لكنه يقف حيالها مرتبكاً ، منزعجاً ، حائراً ، عاجزاً ، لا يدرى ماذا يفعل كى يطمئنها ، ويخفف عنها إنفعالها وخوفها ، إنقاذاً لحياتهم وحياتها ، وهنا .. ينطلق صوت شاب من جرحى المقاومة الراقدين على الأرض ، ينطلق صوته شعاعاً من نور سماوى مبدداً ظلمات الليل ، منيراً للقلوب بضوء الأمن والأمان والإيمان .. فتتبدد عتمة الخوف ، ووحشة اللحظة ، حين يرتفع صوت الشاب عذباً ، عميقاً ، عالياً ، مرتلاً آيات الذكر الحكيم :
بسم الله الرحمن الرحيم
” اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ”
صدق الله العظيم
.. عندئذ يسبغ الله السكينة والهدوء عليهم ، والطمأنينة والراحة والأمان . ترتاح دلال .. يزول عنها التوتر والعصبية والشعور الطارئ بالضعف والوهن . تحمد الله الذى رفع عنها هذا الإحساس الثقيل ، المقبض ، الذى كان يطحنها ، يهدّها ، يخيفها .. تغمغم دلال وهى تغمض عينيها من الإعياء ، إعياء الخوف الذى كان يرهقها ، وكاد يضعفها ، يهدمها ، وهى تقول :
– الحمد لله والشكر لله .. لا تخاف علىّ يا جاسم .. أنا بخير .. أنا بخير .
يعود جاسم يقول بصوت هادئ واثق :
– إشتّدى يا أزمة إنفرجى .. وانشا الله تتحسن الأمور يا دلال .. ما تضيق إلا ما تنفرج .. تحملّى يا دلال .. تحملى .. أنت أخت الرجال .
وهنا .. تحس دلال أنها حقاً صارت أختاً لجاسم ، وأختاً لكل هؤلاء الشباب الأبطال الموجودين بجوارها ، أختاً عزيزة كريمة فاضلة ، لا ينقص قدرها شيئاً ، ويفرض إحترامها وتقديرها على الجميع ، فتهدأ .. وتسكن .. وترتاح .
يطمئن جاسم على حالة دلال ، فيق ينظر فى حزن وأسى إلى هؤلاء الشباب الراقدين على الأرض بجراحهم المفتوحة التى ما تزال تنزف ، فيلتصق الرماد والتراب بأجسادهم مما يعرضهم للتلوث ، ويتهدد حياتهم بخطر الموت .. ! كان جاسم يتمزق من القهر والغيظ ، وهو يشعر بالعجز التام وعدم القدرة على عمل أى شئ لإنقاذهم ومساعدتهم فى مثل هذا الموقف .. !!
فى الواقع .. لم يكن جاسم قادراً على فعل شئ ، أى شئ ، سوى التفكير فى أسرته ، خاصة صغاره الذين إشتاق إليهم ، وظل يحمل همهم لو أصابه شئ الحين ، فيتربون بعده أيتاماً .. ! كان قلبه يتحرق شوقاً لرؤيتهم .. والإطمئنان عليهم ، فقد كان يعرف أنهم يعانون كثيراً لغيابه عنهم ويتعذبون بسبب خوفهم عليه .. فهو يعرف أن إبنه أحمد طفل ذكى ، نبيه ، حساس للغاية وأنه يعانى كواحد من الشباب الكبار من هول الأحداث الجسام ، وربما أكثر !
وكان أحمد فى ذلك الوقت فى الرياض ، يمسح دموع حزنه . يحاول أن يعود إلى نفسه ، يتماسك قليلاً كى يتحدث مع جدته أم جاسم ، عن والده :
– يا ترى وين أبوى الحين ؟! .. أنا خايف وايد عليه .. ودى أشوفه .
تتأثر جدته لمرأى الحزن على وجهه ، فتثور مشاعرها خوفاً على أبنها ، وحسرة على زوجها فتبكى بكاءاً مريراً ، وتظل تنتحب وتنتحب وتنتحب ، فى حين يظل أحمد يتعذب ويتعذب ، فهو يتشاق العودة إلى الوطن ليلتقى مع أبيه وجده وإخواله وليعود إلى بيته ، ليقضى العطلة مع بنات خاله عبد الله ، ومنصور أبن خاله فيصل صديقه وحبيبه .
لكن .. كانت الأيام تمضى ثقيلة ممّلة ، فالإنتظار قاتل رهيب ، والخوف فظيع ، والقلق وحش يفترس النفوس ، مع أنهم كانوا ساكنين فى بيت أهل نايف فى حى صلاح الدين بالرياض ، وكان أحمد ونوار وراكان يلعبون مع أولاد مذنة ، وبنت نورة ، ويلهون معهم فى حمام السباحة طوال النهار .. !
كانت مذنة ونورة ومشاعل وأمهم فى غاية الذوق والمودة معهم ، والترحيب بهم ، فى حين كانت مشاعل مخطوبة ، وفى أغلب الوقت مشغولة بالحديث مع ليلى عن حياتها المقبلة مع خطيبها ، فقد كانت تجمعهمها لغة الشوق والحب والإنتظار والفرح القادم السعيد بعد إنتهاء الأزمة بإذن الله .
كان للفتاتين أحاديثهما الخاصة ، ولغتهما الخاصة عن الحياة الجميلة فيما بعد الحرب ، إنشا الله ، وكانت مشاعل تسعى دائماً للتخفيف عن ليلى حزنها ، وخوفها ، بالحديث عن نايف ، وعن خطيبها ، كى تحيد بعض الشئ بأفكارها ، فلا تتركز دائماً حول الوضع الحالى للأزمة ، الذى يرهق قلبها ، ويشقى نفسها !
فى الحقيقة .. أخوات نايف كن فى غاية اللطف مع ليلى ، كن متعلقات بها ، يحببنها وكن معجبات بأخلاقها الحلوة ، وذوقها ونعومتها ، وكن يتألمن كل الألم ، ويشفقن عليها وهن يرينها تبكى والدها ، وتبكى ظروفها الصعبة التى تجعلها تعيش الخوف والقلق على أخيها ، وأهلها ، وعلى سير الأحداث .. التى سوف تحدد مصير حياتها .. !
أما الأب والد نايف فلم يكن يراه أحد ، لم تكن تقع عليه عين إنسان ، فهو مقيم فى جناح الرجال ، دائم التواجد فى غرفة مكتبته الواسعة ، التى تغّص بآلاف الكتب ، باللغتين العربية والإنجليزية ، وهو مشغول دوماً بالقراءة والصلاة وترتيل القرآن ، داعياً الله أن تنزاح هذه الغمة وأن يفك الله هذا البلاء .
آه .. إنها أياماً سوداء على الجميع ، فطول الوقت النساء لابسات السواد وهن فى حالة ترقب وإنتظار ، وطول الوقت توجد مساندة من مذنة ونورة ومشاعل ، والأهل عموماً ، لكن الأمهات ، كل واحدة منهما تقاسى حزنها ، فهما لا تستطيعان أن تناما ، أو تأكلا ، صار القلق .. لا يحتمل .. لا يحتمل .. لا يطاق .. !
ولم تكن سعاد أقل من غيرها حزناً وعذاباً .. كان الواجع يلوى أعماقها ، يكاد أن يفقدها عقلها ، بعد أن طال وقت الأزمة ، وتشابكت الظروف ، وأصبحت الأحوال تتراوح بين أحاسيس الخوف والذعر والرعب والتوتر والقلق .. ! أصبحت سعاد تشعر أن الحياة صارت بالنسبة لها معركة شرسة حامية ، تدور رحاها داخل القلوب والصدور التى يمتزج بها الحب بالحرب .. !!
نعم .. هذا شئ واقع ، فالأحداث فوق قدرة البشر ، ولا يستطيع أن يتدخل فى صياغتها أفراد ، لا هى ، ولا جاسم ، ولا دلال .. لذا .. لا تستطيع سعاد أن تتصور من التى ستنتصر فى نهاية هذه الحرب ومن التى سوف تغنم جاسم ، ومن التى سوف تنهزم وتسحق .. وتمضى بعيداً عن جاسم ؟! حقاً .. لا تعرف سعاد إجابة لهذا السؤال !!
و .. كالجمر القانى المتقّد تكوى دموع الحزن وجناتها . تحرق قلبها حرقاً . فهى لا تستطيع أن تبوح بأحاسيسها التى تحفل بالحب .. والغيرة ، والحنق ، والغضب . الغضب الصامت الأخرس الذى لا تقّدر أن تنطق أو تبوح به ، فهى تستحى أن تتحدث مع أحد
ولو بكلمة واحدة فى هذا الموضوع ، بالذات فى مثل هذه الظروف الصعبة ! فهذا ليس وقته ولا أوانه !! هى تدرى ذلك . هى تعلم ! لذا .. هى تحترق بنيران مشاعرها ، وتتلظى
بجمر حبها .. !
تنطوى الليلة ، مثل كل ليلة ، على الحزن والألم الذى يفتك بنفس سعاد ، فيذيب بدنها ، ويجرح روحها التى تطوى الليل تدارى به جراحها .. ! وتنطوى الليلة كواحدة من الليالى السابقة التى صحبت سعاد فى وحدتها وحسرتها وحنينها وحبها وأنينها ، وهى تبات ساهرة ، مسهدة ، مؤرقة ، لا تعرف كيف تواسى نفسها ، كما لا تعرف كيف تطفئ النيران المشتعلة فى قلب قلبها !
كانت سعاد تستسلم للواقع الصعب فى هدوء وصمت ، منذ أن خيّم شبح الحرب المفزع على الجميع ، وتحكم فى تسيير حياتها ، بأن فرض عليها البعاد قسراً عن زوجها ! وقرّيه فى نفس الوقت من دلال ، غريمتها فى غرامه ، التى ظلت تقترب منه بنعومة قاتلة .. وفى يدها سلاح حاد هو حبها العنيد المستميت لجاسم ، ورغبتها الدائمة فيه ، وإصرارها على الوصول دوماً إله !! فهى لا يردعها ولا يبعدها عنه شئ فى هذا العالم ، وهى تستغل ببراعة كل الظروف والمواقف ! نعم .. حتى ظروف الحرب عرفت دلال كيف تستفيد منها !
عرفت كيف تتقن إستخدامها ، لتقترب من جاسم أكثر ، ولتكون إلى جواره أكثر ..
وأكثر .. وأكثر .. ! .
تسرح سعاد بذهنها ، وإحساسها يختلع فى صدرها ، وهى تعّد الأيام والليالى
والشهور الطويلة التى مضت وجاسم بعيداً عنها ، وفى نفس الوقت قريباً من دلال !!
بعد أن تحكمّت الحرب فى مصير قلبها .. وتدخلت فى صياغة إحساسها وشعورها ، كلما أيقنت أن جاسم ، زوجها ، حبيبها ، موجوداً أغلب الوقت مع دلال .. هناك ، داخل الوطن .. بعيداً عنها ، بعيداً عنها .. ! فتنطلق سعاد بجناحى قلبها ، تحوم تحلق فى سماء الكويت ، ترفرف روحها تبحث عن زوجها ، لكنها لا تعرف له مقراً ، ولا مكاناً ، فتزداد قلقاً
وخوفاً .. وهواناً !
وتبدأ .. تتسرب إليهم الأخبار عن إختلال الأمن داخل الوطن المغتصب لدرجة أن الشيخ سعود الصباح سفير الكويت فى الولايات المتحدة الأمريكية ، دعى الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى وضع قانون جنائى دولى تتم بموجبه محاكمة الجرائم كالإحتلال العراقى للكويت ، وقال إن الإحتلال العراقى يستهدف تدمير الكويت ! وهو ما يؤكد الحاجة لمثل هذا القانون .
لكن .. على الرغم من ذلك ، لم يكن رجلاً مثل سالم المشهور عنه الكرم والشهامة والوفاء ليقبل أن يتغاضى عن حاجة إخوانه فى الشدة ، فها هو يمد لهم يد المساعدة ، ويتبرع بما لديه من أموال يساهم بها فى التخفيف عن الأهل والصحاب ، حتى مع الأجانب اللذين كانوا يختبئون خوفاً من جنود صدام فى بعض البيوت التى يعرفها سالم جيداً هو وأصحابه ، كانوا أيضاً يزودونهم بالأموال والمؤن ويساعدونهم على الإستمرار والبقاء إلى أن تتغير الظروف وتتبدل الأحوال .
فى الواقع .. لم تكن المقاومة الوطنية الكويتية قاصرة على الشباب وحدهم بل كانت مسئولية الرجال كلهم شباباً ورجالاً ، بل حتى الأطفال ، الصبية الصغار كان لهم دوراً لا يستهان به ! نعم .. لم تكن أعمال المقاومة مسئولية عبد الله وبدر بل كانت مسئولية أبو عبد الله وأبو بدر ، فهاهو سالم الرجل الطيب اللطيف المسالم ينقلب بطلاً من أبطالها ، لا يقل عن لديه تضحية وإنفعالاً وبذلاً وعطاءاً !
فىالواقع .. كان سالم نواة خلية من خلايا تقديم الخدمات داخل منطقة الشامية والمرقاب وما يجاورها من أحياء ، وقد لمس الرجال المتواجدين معه هذا الدور الكبير الذى يقوم به حتى مع الأجانب أو الرهائن ، فقد كان له معهم دوراً كبيراً فى معاونتهم ، ومساندتهم ، بشكل عفوى وسريع .. وعظيم !
كان الدور الذى يقوم به سالم ملفتاً للنظر ، داعياً إلى إثارة الشكوك حوله ، فالأموال الكثيرة التى يمنحها للآخرين والتى تساندهم وتساعدهم على الإستمرار فى تعزيز العصيان المدنى ، كانت شيئاً ملفتاً للنظر ، مما يثبت أمن القضية كانت منظمة جداً ، وأنها ترتبط مباشرة بالحكومة فى الخارج وتشّكل تنظيماً دقيقاً فى الداخل .. !!
لذا أصبحت العين تتجه نحو سالم ، تفتش عن سالم ، لكنه لم يلق بالاً إلى هذا التهديد الخفى ولم يهتم بما يمكن أن يناله ، فقط ، كان إهتمامه مركزاً حول دوره الوطنى ، وما يجب أن يقوم به فى مثل هذه الظروف وفى مثل تلك الأحوال ، التى يحتاج فيها المواطنون إلى مساندة بعضهم البعض بغض النظر عن الأخطار التى تحيط بهم !
لم يستمر الوضع طويلاً كما كان عليه ، تغيرت الظروف بالفعل ، صارت عمليات المتابعة والمراقبة مستمرة ، إلى أن جاء يوم كان سالم على موعد مع الرجال هناك بالمسجد وكان لابد أن يذهب للقائهم ، فقد كان يدرك إن وجوده بينهم يرفع من روحهم المعنوية ، وأنهم بلقائهم جميعهم يتخففون من بعض الأحزان والآلام ، ويتصبّرون على ما يلاقونه من تعذيب تقشعر له الأبدان !
لكن .. حين بدأ سالم يهم بالخروج لأداء فريضة صلاة الجمعة فى المسجد القريب من البيت ، المجاور لجمعية الشامية ، وقف منصور متعلقاً به مصمماً أن يصحبه على أمل أن يصلى فى المسجد معه ، ثم يروح الجمعية بعد الصلاة ليشترى الأغراض التى يحتاجها الأهل فى البيت رغم أنها فقدت الكثير من بضائعها ، وقلت ساعات بيعها ، إلا أنه كان يعتبرها نزهة يحب أن يحظى بها !
فى البداية رفض أبو عبد الله أن يأهذ حفيده الصغير معه ، طلب منه أن ينتظره فى البيت لحين رجوعه فهو لن يتأخر كثيراً ، وسوف يحضر له كل ما يريد من الجمعية ، إلا أن منصور أصرّ على الذهاب معه وصمم على ذلك ، وأخذ يبكى وهو يتحايل على جده كى يأخذه معه .. وهنا نظرت إليه أمه بعين العطف والشفقة وقالت فى حنان :
– خليك فى البيت يا منصور .. ما فى داعى تروح المسجد الحين .. خليك قاعد معانا .. وجدك راح يجيب لك كل شئ لما يرجع .
لكن .. إستمر منصور فى الرفض والبكاء ، وأمام إصراره وتشبثه بالذهاب مع جده تستسلم أمه ، وتسمح له بالخروج ، فهى تعلم تعلقه الشديد به . تسكت على مضض . لا تعترض . تقول لجده :
– ما يخالف يا عمى .. خذه معاك إذا ما كان يضايقك .
تقبل فضيلة خروجه مضطرة مرغمة ، فيخرج منصور من البيت ، ومعه يخرج قلبها الذى يعتريه شعور كبير بالضيق والإنقباض .. شعور غامض بغيض رهيب .. لا تدرى له سبباً ، ولا تعرف له تفسيراً أو تعليلاً .. !
يقف المصلون يؤدون شعائر صلاة الجمعة ، تنتهى الصلاة ، فيبدأون الدعاء وبينهم سالم وحفيده منصور ، يخرجون من المسجد أفراداً وجماعات ، لكن .. قبل أن يبتعدوا عن بابه الكبير ، يفاجأ المصلون بوجود سيارة عسكرية تربض أمام المدخل وعدد من الجنود والضباط يأمرون أبو عبد الله بالركوب فيها بعد أبلغوا المصلين إن قانون حظر التجمعات يسرى أيضاً على المساجد !!
يبهت الحاضرون . يسقط فى يد أبو عبد الله ! فحفيده منصور معه ، لا يدرى ماذا يفعل ؟! أذهلته المفاجأة ! وهو يخشى عليه أن يناله شر وأذى ، فيطلب منهم أن يذهب الطفل مع أحد الرجال الموجودين فى المسجد ليعيده إلى البيت عند أمه ، لكنهم يرفضون تلبية هذه الرغبة الإنسانية ، ويصرّون على أن يركب الحفيد معه .. لا .. بل قبله إذا أمكن ذلك !
ويرفض منصور أيضاً أن يترك جده ، يظل متشبثاً به ، يمسكه بشده وهو يبكى خائفاً من منظر الجنود وشراستهم التى بدت فى معاملتهم الخشنة لجده ، وصراخهم عليه حين أمروه بالركوب معهم بالقوة .. يطبق الطفل على كف جده بكلتا يديه ، وهو يبكى ويقول :
– لا .. لا تخلينى .. أنا باروح وياك .. راح آجى وياك .. !
وحيال هذا الموقف المأساوى الذى يمرّ سريعاً فى لمح البصر ، لا يستطيع أبو عبد الله أن يفعل شيئاً آخر لإنقاذ الحفيد ابن الشهيد ، سوى أن يقبض بقوة على ذراعه ، ثم يرفعه ، يحمله ، يضمه ، يحضنه ، وهو يصعد به السيارة العسكرية ، وأصابع منصور الصغيرة ما تزال تتشبث به ، تتمسك به ، فى حين يبقى منصور متعلقاً بجده ، يحضنه باكياً خائفاً وهو يأبى أن يفارقه .. بينما تنطلق بهما السيارة إلى جهة مجهولة .. ومصير غير معلوم .. !!
الفصل الثانى والعشرون
الباطل الواضح
لم يعد أبو عبد الله ! ولم يرجع منصور ! يجن جنون عبد الله عندما يعرف خبر القبض على أبيه وأبن أخيه !! بعض الجيران وشهود العيان أخبروهم بما حدث ! يتمزق عبد الله من الغيظ والقهر من هذا الفعل الإجرامى اللاإنسانى الذى لم يفرق بين رجل كبير وطفل صغير تم أسرهما معاً .. بلا رحمة ولا تمييز ! يريد عبد الله أن يذهب إلى المخفر فى الحال يسأل عنهما لكن ، الكل يمنعه .. قالوا له أنت لو رحت المخفر برجليك فلن تخرج منه إلا على ظهرك ! .. سيصدونك ، سيقتلونك ما راح يخلوك تطلع حىّ .. إلا لو نقلوك أسير إلى سجن من السجون هناك .. حاذر .. لا تروح .. لا تروح !
يأخذ عبد الله بالنصيحة ، لكنه يستشعر الخوف والقلق ، فهذا مؤشر معناه أنهم سوف يحضرون سريعاً إلى البيت يفتشون عن أى شئ يدين والده ، يثبت أى تهمة عليه ! فإذا وجدوا فى البيت علم ، أو كاميرا ، أو طلقة رصاص .. سوف يعتبرون ذلك دليل إدانة يقتلونه بسببها .. رغم أنهم ليسوا فى حاجة إلى دليل يبرر القتل .. ذاك الذى يمارسونه دون حاجة إلى دليل .. أو ضمير !
تندفع الأحداث بسرعة البرق .. تتداخل .. تتداخل الظروف فى لمح البصر . تمضى الساعات أشد سواداً من السواد نفسه ، وعبد الله يأخذ حريم بيته ، يتحرك بهن بصعوبة طوال الطريق إلى بيت أهل فضيلة من ضاحية عبد الله السالم .
كان السير والوقوف متقطعاً ، فنقاط السيطرة تنتشر فوق الشوارع والطرقات ، تنشلا الرعب ، وتهدد بالخطف والإيقاف والمصادرة .. والقتل ! يتمنى عبد الله ويدعو أن يبتعد بأقصى سرعة عن بيتهم فى الشامية ، بعيداً عن أعين الجند الذين سيأتون حتماً يقبلونه رأساً على عقب ، ويعتدون على كل من فيه بلا إستثناء ! نعم .. كان عبد الله يتوقع بين دقيقة وأخرى مداهمة بيتهم فى الشامية ، من قبل قوات الرعب العراقية .. !
يجلس الجميع فى البيت بالضاحية ، عند أهل فضيلة ، الذين عرفوا مدى الخطر
الذى يتعرضوان له ، فحاولوا تهدئتهم ، وإدخال الطمأننة إلى قلوبهم ، فالحين الكل يشعر
روح التآخى والتآزر ، تألق مفهوم الأسرة الواحدة ، الذى تنمو معانى المحبة والتضحية والإيثار !
شئ يدينه ، لذا .. كان عليه أن ينفذ شيئين على درجة بالغة من الأهمية .. تبديل أسمه ، وتغيير شكل !
وكان على عبد الله أن يصل إلى بدر بأسرع طريقة ممكنة ، بعد أن تعّذر للغاية الإتصال به طوال الأيام القليلة الماضية .. ! وكما يقولون .. تصل الأخبار إلى من يريدها ويهتم بمعرفتها ! بالفعل ، بطريقة ما ، يعرف بدر أن أخيه عبد الله يبحث عنه ، فيأتى إليه ، يعانقه فى تأثر بسبب إختطاف والده ومنصور ، إلا أنه يداعبه ، ويقول له باسماً مخففاً وقع الحدث خلال هذا اللقاء :
– ها .. أنا قلت لك من أول .. أبو الخبز ينّدل أبو المرق !
يبتسم عبد الله وهو يهز رأسه لأخيه مؤيداً ، معجباً بروح الشجاعة والمرح التى يتعامل بها مع أعتى أنواع الشدائد ، وأصعب المواقف ! يتفق الشقيقان على ما يجب عليهما عمله بعد إعتقال والدهما ، وإبن أخيهما الشهيد ، فيقررا ماذا يجب أن يتم بعد أن أكد بدر لعبد الله أنه قد قام منذ فترة طويلة بتجريد البيت من كل ما فيه من أوراق ومستندات قد تكشف أسمائهم الحقيقية وتدّل على هويتهم الأصلية .
وفى التو واللحظة .. يبدأ عبد الله يمارس عمله الدقيق الذى يتقنه ، فيبدأ فى تصميم وتنفيذ هوية جديدة تتناسب والظروف الحالية التى باتوا يتعرضون لها . كما يبدأ بدر على الفور حملة بحث وإستقصاء وإستفسار – بطريقته الخاصة – عن المكان الذى يحتمل أن يكون والده موجوداً به .. ويستعد هو ومجموعة من شباب المقاومة لتنفيذ عملية جريئة ربما تقودهم إلى التوصل لمعرفة الحقيقة وملابسات الحادث وظروفه !
بعدها .. يسمع عبد الله خبر إغتصاب طفلة عمرها 12 سنة ، تناوب الجنود إغتصابها !! فيعتصر الذعر قلبه عصراً ، وهو ينظر إلى بناته الثلاث ، مريم التى تناهز الرابعة عشر ، ومنى التى تجاوزت الثانية عشر ، وفضة التى تبلغ التاسهة من عمرها ، ويكاد يموت من الخوف عليهن خشية أن ينالهن سوء .. فيظل يقرأ آيات الذكر الحكيم داعياً ربه أن يستر عرضهن ، وأن يحفظهن من كل سوء وشر .
آه .. المسئولية جسيمة فادحة ، فالآن عبد الله مسئول عن زوجته إبتسام ، وبناته الثلاث ، وفضيلة زوجة أخيه الشهيد فيصل وأمها !! آه .. يارب .. الحمل ثقيل يا عبد الله .. الله معك .. كان الله فى عونك .
.. اللحظات تمضى حادة ، عنيفة ، حارقة ، محرقة ، فالظروف تتدنى ، والأحوال تنحدر ، تتدهور ، والخطر يحيق بأهالى الكويت ، يحيط بهم ، يقترب منهم ، وأخبار إعتقالات الشباب تتزايد بعد أن زادت شراسة العدو وتفاقمت وحشيته وضراوته !
تمسىا لحياة فى الكويت فوق تحمّل البشر ، فالموت كما نعرف ، أصبح هو الشئ الوحيد المتاح والمتوفر فى ذلك الوقت ، فهو يأتى فى لمح البصر ويصيب الجميع على أهون سبب !
صراحة .. كان بدر يتعامل مع الواقع البشع بروح التحدى والمغامرة والقوة والمثابرة ، وكان عندما ينجح فى الخروج من مأزق ، أو يتخلص من موقف عصيب ، أو يوفق فى إنقاذ بعض الزملاء المشتركين فى المقاومة ، يقتنع هو ذاته بقدرته أكثر وأكثر ، ويزداد إيمانه بموهبته أكثر وأكثر وأكثر !
وهذا ما حدث ، عندما نجح بدر بعون الله وفضله فى نقل جاسم ودلال وجرحى المقاومة ، فى وضح النهار ، من منطقة كيفان إلى منطقة الرميثية ! حيث تم إخفائهم هناك ! رغم كثرة نقاط السيطرة وإنتشارها ! الحمد لله أعمى عنهم عيونهم .. إنه على كل شئ قدير .
وعلى الفور ، يبدأ جاسم يباشر عمله فى الحال كطبيب جراح إنقاذاً لهؤلاء الأبطال الذين لم يتهاونوا فى التضحية بأنفسهم من أجل الوطن ، ساعده على ذلك توفر بعض العقاقير والأدوية والمعدات والأدوات المعاونة ، المساعدة له على ممارسة عمله الإنسانى .
كان جاسم يناض ضد الظلم بطريقته الخاصة ، بمزاولته الطب رغم كل الظروف المحيطة المحبطة التى تحّد من قدراته كطبيب .. ! لكنه لم يكن من هذا النوع من الرجال الذى يقبل بالهزيمة أو الإستسلام .. ! كان جاسم يقاوم الإحتلال بكل ما يملك من عزيمة وإرادة ، وبكل ما يمتلك من علم ومعرفة ، ولم يكن جاسم ليقبل أن ينحنى إزاء تلك الظروف القهرية غير العادية .
ورغم الحزن والغضب لما حلّ بوالد زوجته ، ذلك الرجل الطيب أبو عبد الله ، وحفيده منصور ، اللذان قام جنود صدام بإعتقالهما .. ! إلا أنه لم يدر ماذا يفعل إزاء هذه المصيبة الفادحة التى حلّت بالعائلة ، فهو يلعم مدى حب سعاد لأبيها ، وتعلقها بمنصور ابن أخيها !
وغم هذا الظلم الدائم الوقوع على الأبرياء ، ورغم هذا العدوان المتصل المستمر الذى يصيب هؤلاء القوم الشرفاء ، فإن النفوس لم تنكسر ، والرؤوس لم تنحنـى .. حمداً لله .
رغم كل شئ ، تبقى المقاومة الوطنية فى الكويت ، التى يقوم بها العديد من شباب الكويت
فى مختلف المناطق ذات دور رئيسى وأساسى فى رفع معنويات الشعب الكويتى ، كما كان لها فى نفس الوقت أثراً كبيراً أدى إلى إرباك وقع فى صفوف قوات الإحتلال الذين إحتاروا أمام هذا العدد الهائل من الشباب الذى تطوع ، وحمل السلاح ، ليقّتص من هؤلاء المعتدين الآثمين !!
كان بدر يوزّع وقته بين مجموعات المقاومة التى تشكّلت فى كل مناطق الكويت الرئيسية ، وكانت أغلب المجموعات تضم بينها بعض العسكريين ، والمدنيين فى حين كان بعضها الآخر على إرتباط بالحكومة فى المنفى ، وبعضها يعمل مستقلاً ، فكان يأخذ على عاتقه التنسيق والتعاون فيما بينها ، خاصة فيما يتعلق بتبادل الأسلحة والذخائر والمتفجـرات !
نعم .. كان بدر يتحرك بخفة ويسر وسهولة ، كالدينامو ، فكان يفلت من قبضة الآثم المعتدى مثل الزئبق ، وكان فى كل ينتحل شخصية مختلفة ، ذات جنسية مختلفة ، بلهجة مختلفة ، بهوية مختلفة ، بحيث لا يقدر أحد أن يمسك عليه شيئاً ، ولا يستطيع أحد أن يتعرف على شخصيته الحقيقية !!
فى الواقع .. بدر كانت لديه المقدرة على أن يبدو هادئاً وادعاً ، يساعده على ذلك شكله البرئ الوسيم ، الذى توحى به ملامحه الجذابة التى تمنح إحساساً دافقاً بالراحة والدعة والإطمئنان ، بعيداً عن أعمال القتل والشراسة والعنف ، التى يقوم بها دفاعاً عن الوطن .. وأهل الوطن .. إنقاذاً للوطن من هذا المحتل البغيض ، الذى لا يرعى حرمة ، ولا يصون عرضاً ، ولا يحفظ عهداً !
وهكذا .. ظل بدر يتصرف بمهارة وخفة ، أخذ يتحرك من ديوانية لأخرى كى يعرف آراء الشباب وأفكارهم لنسق فيما بينهم ، فكان له فى الحقيقة دوراً إيجابياً كبيراً ساعد على إستمرار أعمال المقاومة الكويتية التى تضم عدداً كبيراً من العسكريين الذين زودها بمصادر السلاح ، التى لا يعرف غيرهم أماكن مخازنها التابعة لمعسكرات الجيش ، والشرطة ، والحرس الوطنى .. وكان بدر يستطيع أن يوصل هذه المعلومات من هنا إلى هنا ، إلى هناك ، بحرية تامة وسهولة مطلقة فى الحركة ، كانت تدعو دوماً إلى الدهشة والعجب .. والإعجاب !!
بعدها .. بدأت تشاهد عشرات الآليات العسكرية العراقية المحترقة ملقاه على جوانب الطرق بعيداً عن المناطق السكنية حتى لا تتعرض للإنتقام والقذف والقصف ، فى حين تركزّت مظاهر وآثار المقاومة على الطرق الرئيسية ، وطالت أيضاً سيارات الأجرة العراقية التى فجرّت المقاومة أعداداً كبيرة منها ، وقتلت من فيها ، مما حدّ من هجمة مدنية عراقية كبيرة ، كانت تستهدف الكويت بأعداد غفيرة !
صار بدر ورفاقه فى مختلف مناطق الكويت مثالاً ناجحاً للشباب الكويتى ، الذى رفض إحتلال بلاده ، فلم يهدأ ، ولم يستسلم للظلم الواقع عليه ، ولم ييأس من رؤية الأعداد الهائلة المسلحة للجيش العراقى تجوب أرض بلاده ، بل إندفع فى عمليات مقاومة إنتحارية تثبت للعالم أجمع ، أن الشاب الكويتى بطل يستهين بالروح فى سبيل تحرير الوطن ، وأنهم وقت الشدة .. رجال من خيرة الرجال .. وفقهم الله .
ولم تكن دلال لتقل إندفاعاً عن بدر فى التعبير عن حبها للوطن ، فقد ساعدت كثيراً فى أعمال المقاومة ، فكانت تقوم بنقل السلاح ، كما كانت تشارك فى تلغيم السيارات ، التى كان عبد الله يقوم بتزوير دفاترها ، والتى يوقفها بدر فى مكان تجمّع العدو .. ثم يتم تفجيرها عن بعد !
نعم .. كانت دلال مثالاً ناجحاً للفتاو الكويتية ، ورمزاً طيباً للمرأة الكويتية ، التى كان لها دوراً كبيراً فى مقاومة ومناهضة الإحتلال ، مما أثار حولها كثيراً من الدهشة ، لما تحلّت به من صفات بطولية ووطنية ! حياها الله .
ورغم التهديد الواضح والصريح الذى كان مسلطاً على دلال ، ورغم أعمال الإعتداء والعنف التى كانت تقع على الفتيات والنساء من قبل وحوش الطاغية ، والتى كانت تنفّذ وتمارس بقسوة وشراسة ووحشية ، إلا أن دلال لم تنصرف عن متابعة دورها النبيل فى الدفاع عن أرض الوطن .. وكرامة الوطن .
وكم كانت دلال ثائرة غاضبة ، عندما علمت بإعتقال أعضاء مجلس إدارة جمعية الهلال الأحمر الكويتية ، بعد أن تمت مصادرة كل محتويات الجمعية ، من السيارات النصف نقل ، والسيارات الجيمس والأدوية ، والمواد التموينية والنقود .. تمت مصادرة كل ذلك .. ثم نقل إلى العراق !
أيضاً كانت دلال غاضبة ، وحزينة بسبب إعتقال أبو عبد الله ومنصور حفيده ! كما كانت تتمزق غضباً بسبب أسر أبو جاسم الشخص الوحيد الذى كان يحبها ، ويرحّب بها ، فى أسرة جاسم كلها ! ظلت دلال تحترق من الحزن بسبب إعتقال أخيها عادل وأسره وتعذيبه فى قلب بيتها .. منذ ذهب يدفن جثمان جدتها الذى إختفى .. وإختفى بعده شقيقا !!
تذكر دلال أخيها بكل لوعة الحزن . بكل حسرة الأسى . بكل حرقة الألم . بكل أحاسيس الوجع !! آه .. آه تطلق دلال صيحة حزن تقّطع نياط قلبها ، وهى تذكر والدها وحبه لعادل ، فتتوجع وتتمزق وتتقطع ، وهى تتخيل ماذا سيفعل عندما يعرف نبأ إعتقاله وتعذيبه ؟! آه .. ماذا تراه يفعل عندما يصله هذا الخبر المشئوم ؟!
يشتد حزن دلال ، كما يشتد إحساسها بالظلم والهوان ، فتغرق فى البكاء والعويل ، والنواح ، وهى تكاد تجن كلما تخيلت أن أخيها عادل ، يتعذب ! يتمزق من الألم داخل بيتها هى ! على أيدى هؤلاء الطغاة الذين لا يعرفون ربهم ! ولا يرحمون عباده ! تتعذب هى نفسها حين تصل إلى هذا التخيل ، وهذا التصور ، فتبكى ، وتبكى ، وهى لا تعرف ماذا تفعل ، وهى تحس بنفسها فى هذه الدنيا وحيدة .. وحيدة .. بائسة !
تعود دلال تتنهد فى حزن وأسى وهى تذكر حياتها السابقة مع أسرتها قبل أن يدهمهم جنود الإحتلال ، ويفعلوا بهم ما فعلوا ، قبل أن يقتحموا البيت فيقتلوا جدتها ، ويغتصبوا أمها ، ويتسببوا فى مرض إبنتها ، ويأسروا أخيها !
يارب .. أصبح البيت الآن معتقلاً ! صار يضم بين جنباته عدداً غير قليل من شباب المقاومة الذين وقعوا بين أيدى جنود الإحتلال .. فيتعرضوا الحين لأقسى أنواع العذاب الذى لا يرحم شبابهم ، ولا يرأف أبداً بحالهم !
آه .. يا الله .. يا قادر يا معين .. وبنفس الحرقة والحزن والألم يبكى أبو جمال وينتحب بعدما وصله خبر أسر إبنه الشاب عادل ! لم يستطع أن يكتم دموعه أمام كل هؤلاء الرجال الذين حضروا للتخفيف عنه ومشاركته حزنه واساه عقب تسرب هذا الخبر المشئوم وإنتشاره !
يتجمع الرجال فى شقة أبو جمال فى الزمالك بالقاهرة ، يظلوا يدخلون ويخرجون عليه ، وهم يحاولون أن يطمئنوه ، ويهّونوا عليه صعوبة الموقف ، وأن يزرعوا الأمل فى نفسه ، فالله معهم ، قادر على قهر الظلم ، قادر على نصرهم ، وهو القادر على كل شئ .
ينصرف الجميع .. ماعدا أبو إبراهيم الذى يصمم أن يصحب أبو جمال معه زميل شبابه ، ورفيق دراسته ، وصديق عمره إلى شقته فى المهندسين . يرفض أبو جمال الخروج ، لكن أبو إبراهيم يصرّ قائلاً :
– لا يا معود .. ترى ما راح أخليك بروحك .. ما أقدر .. والله تزعل علينا
أم إبراهيم .. هى اليوم مسّوية مكبوس لحم ومرق بامية ودقوس طماط حار .. كل هذا
عشانك .. !
– والله يا أبو إبراهيم .. ما أشتهى آكل شئ .. خلينى بروحى أرجوك .
لكن .. يصمم أبو إبراهيم على إصطحابه معه ، وهو يقول له :
– قوم يا معّود .. ترى عورّت قلبى .. قوم خلنا نشوف أم إبراهيم شنو صاير عليها .. تعال خلنا نلهيها شوية عن نفسها .. ترى هى على طول قاعدة تبكى .. تدرى أخوها عبد الرحمن ؟! ما ندرى عنه شئ من يوم الغزو .. ّّ وهذه سهام زوجها أسير وقاعدة تبكى هى وأمها على طول .. تعال تعال يا أبو جمال .. قوم .. ترى مصيبتنا واحدة .. ياللا .. الله معنا كلنا .
يظل أبو إبراهيم يلح ويلح محاولاً أن يخفف حزن أبو جمال على ولده ، إلى أن ينجح أخيراً فى إقناعه فى الذهاب معه إلى البيت ، خاصة وأن الأهل كلهم هناك يوّدون رؤيته ، وينتظرون حضوره .. !
يدخل الرجلان شقة أبو إبراهيم بالمهندسين ، فيجهّز طعام الغذاء . يجلس الجميع يفترشون الأرض . يتبادلون فيما بينهم نظرات الأسى والألم لأن عادل عزيز عليهم . فهو يعتبر إبناً لهم ، وهو صديق إبراهيم ولدهم وكان دائماً فى البيت عندهم ، وهو غالى عليهم مثل إبراهيم بالضبط .
لكن .. يرفع الطعام كما هو ، لم يستطع أحد أن يأكل منه شيئاً ، يأتى الشاى ، يحتسيه أبو جمال وهو يتشاغل عن عذابه ، بمشاهدة التليفزيون ، بحثاً عن خبر يطفئ به نيران قلبه . خبر ربما يطمئنه على ولده ! ويظل يدور الحديث حول الهول فى الداخل ، وهؤلاء الهاربين منه ، الذين يتسللون خارجين من وقت لآخر ، ويجوز يكون عادل واحداً منهم .. إنشاالله .
يداعب هذا الأمل خاطر أبو جمال ، الذى يظل عاتب نفسه طويلاً على غيابه الماضى عن أسرته ، وعن عياله ، ويلوم روحه كيف كان لاهياً بنفسه عنهم كل تلك السنوات ، يتمنى أبو جمال ، يدعو الله أن يعود عادل إليه كى يعوضه بحبه وحنانه عن ذاك الوقت الذى ضاع ، كما يدعو الله أن يحفظ إبنه البكر جمال ، وزوجته أم جمال ، وسناء ، ودلال ، وأن يبعد عنهم جميعاً الخطر وأن يحفظهم رب الكون العظيم .
يعود ينظر أبو جمال لنفسه لائماً معاتباً ، كيف لم يكن مع عياله من أول الزمان ؟! ولماذا كان مشغولاً بنفسه كل هذا العمر ؟! لماذا لم يمنحهم حبه وعطفه وحنانه ورعايته ؟! بدلاً من أن يصّب كل إهتمامه على نفسه ولنفسه .. ! يبقى أبو جمال حزيناً صامتاً يعاتب نفسه ، ويلومها ، خاصة وأن التليفزيون لم يشغله عن خواطره ، إذ لم تأت الأخبار بجديد ، فالحال هو الحال .. ما زال !
يتشاغل الجميع بمتابعة الشاشة الفضية ، وبالحديث عن أمور الدنيا ، بينما هم يشربون الشاى والقهوة وهم لا يشعرون لها بطعم أو مذاق ! وهنا .. يبدأ يذاع تسجيل حفل ” الليلة المحمدية ” وإذ بمطرب الكويت عبد الله الرويشد يقف ينشد ، يناتشد ، يشكو ، بصوت يرّج الصدور .. يخترق القلوب :
أشكو إليك يا واهب النعم يا اقدم القدم
إنت اللى أعلم باللى بى من ألم بلدى إنظلم
بلدى إتظلم بلدى إتظلم
واللى ظلمنى ولاد عروبة ودين ودم
كانوا مع الشيطان يا رب على ميعاد
واللهم لا إتراض .. واللهم لا إعتراض
يا يا الله يا يا الله يا يا الله
بكاء حار يتفجّر بركاناً من العيون . نحيب حاد متصل يقّطع يمزق القلوب . كل منهم يبكى ويبكى ويبكى .. فى حين يتابع عبد الله الرويشد إنشودته :
وما دام يا ربى خلقت لى دمعى
من حقى أبكى من حقى أبكى
انشالله أبكى دم
ومادام يا ربى خلقت لى صوت
هاأصرخ لو العالم حجر أصّم
يا يا الله يا يا الله يا يا الله
تنقطع الأنفاس . يسود الصمت . يصحبه الألم والعذاب والدمع . فى حين يناجى صوت الكويت ، إبن الكويت أمة الإسلام ، صارخاً عذابه ، ناطقاً آلامه ، مناجياً ربه :
سامحنى يا الله هاتشق قلبى الآه
سامحنى يا الله هاتشق قلبى الآه
الباطل الواضح فيه مسلمين تابعاه
على دمى ماشيه وراه
أنا فى واد يا ربى وولادى فى واد
أنا فى واد يا ربى وفؤادى فى واد
أنا فى واد يا ربى وبلادى فى واد
واللهم لا إعتراض واللهم لا إعتراض
واللهم لا إعتراض واللهم لا إعتراض
لا إعتراض
يشتد الحزن . يصرخ القلب . تبكى الروح . يدمع الوجدان .. وأبو جمال يقضب غترته بيده يغطى رها وجهه .. فتغرق فى الدموع ولا يتمالك أبو إبراهيم نفسه فيخفى وجهه بين يديه ويجهش بالبكاء .. يبكى أبو إبراهيم إحساسه بالغربة ، بالضياع ، بالهوان .. بعد أن صار الحين بلا وطن . بلا هوية . بلا كيان ! فى حين تنفجر النساء والأطفال والصبيان والبنات ، كلهم فى بكاء يعمى العيون .. يدمى القلوب !
تثور المشاعر ، تفور الأحاسيس ، يستمر البكاء ، يستمر الدعاء ، يستمر العناء ، فأخبار المواطنين الكويتيين فى الداخل والخارج ، فى كل مكان تهم كبار رجال الدولة المسئولين وعلى رأسهم سمو الأمير وولى عهده الأمين ، الذى أعلن للجميع منذ بدايات الغزو أنه يحس بهم ، يشاركهم أحزانهم ، يشعر بشعورهم .. وها هو يقول لهم فى حب وحنان أثناء وجوده فى جدة بالمملكة العربية السعودية ، ديرة الحب والعطاء والوفاء :
” أبناء ديرتنا الحبيبة .. كنا دائماً معكم وبينكم ليل نهار بقلوبنا ووجداننا وأفكارنا ومشاعرنا صورة كويتنا الحبيبة وأهلنا الصامدين فيها لم تفارقنا لحظة واحدة فى صحونا وغفوتنا ، ويعلم الله كم نعانى لمعاناتكم وكم نشقى لشقائكم ، وكم نتألم عندما نسمع ما يفعله المجرمون بكم ” .. !
وفى الرياض .. لم تكن سعاد وليلى تألوان جهداً فى تلبية تعليمات الوالد القائد ، أمير البلاد ، فإنضمتا إلى حركة المقاومة الكويتية المتمركزة فى السعودية ، التى تضم عدداً من المتطوعين الكويتيين النازحين ، وكان من بينهم أعداداً كبيرة من السيدات ، وكانت خالتها أم جاسم تحب أن تشارك فى هذا العمل التطوعى من وقت لآخر كلما سمحت لها الظروف ، لكنها ، أحياناً كانت تصرّ على متابعة حالة أختها الصحية ، أم عبد الله ، كما تتولى الإشراف على الأولاد الصغار ، خاصة أحمد الذى كان يبدو حزيناً شاحباً ، وهو يتابع أحداث الإحتلال أولاً بأول كأنه واحد من هؤلاء الشباب الكبار !
كان أحمد فى غاية الحزن لما يحدث فى وطنه ، كان حزنه كبيراً لما حلّ به من خراب ودمار ! بعد أن عرف أن الحيوانات التى كان يحبها وكان يذهب لمشاهدتها فى حديقة الحيوان ، قد أكلها الجنود ! كما دمروا وسرقوا معدات المدينة الترفيهية بأكملها ! قتلها الغزاة .. قطعوا كل خطوطها ، وسرقوا أغلب معداتها بعد أن فككوا أوصالها !!
كان هم أحمد كبيراً ، فقد كان طفلاً فى مظهره ، إلا إن إحساسه كان ناضجاً مرهفاً ، فقد كان يتابع الأخبار ، لا يفوته خبراً كبيراً أو صغيراً ، وكان خوفه على وطنه ، وقلقه عليه واضحاً عظيماً ، وفى نفس الوقت كان يحرص أن يخفى مشاعره عن أمه ، حتى لا يثير أحزانها هى الأخرى ، فقد كانت فى حالة نفسية سيئة ، وهى تعانى أشد أنواع القلق على والده ، وعلى اخوانها ، وعلى أبيها .. وكل الأهل هناك !
كان الخوف عليهم كبيراً بسبب تدهور الأوضاع وتدنى الحالة المعيشية ، التى كانت أخبارها تتطاير كالشرر المشتعل من وقت لآخر ، فتحرق القلوب ، وتكوى النفوس ! كانت أنباء الحياة المرعبة تسرى كالنار فى الهشيم ، وكان أكثر هذه الأخبار إيلاماً ما أعلنته طبيبة كويتية ، عن معالجتها أربع حالات إغتصاب كان من بينهن طفلة عمرها 12 سنة تناوب الجنود إغتصابها !!
يصل هذا الخبر إلى الأهل فى الرياض فيجن جنونهم ، إذ أن هذه الطفلة ينطبق عمرها تماماً على عمر منى إبنة عبد الله ، فيفقدون وعيهم خوفاً وذعراً ، وهلعاً ، خاصة بعد أن مضت عليهم فترة من الوقت والأخبار مقطوعة تماماً عنهم .. ! حتى جاسم نفسه لم يعودوا يعرفون عنه شيئاً ! فأمست سعاد فى غاية القلق ، وأصبحت فى اشد الخوف عليه ، بعد أن تأكدت من صحة المعلومات الحساسة والهامة التى وصلتها والتى تفيد أن زوجها الدكتور جاسم الناصر ، قد أصبح معروفاً لدى القوات العراقية المحتلة ، كما صار مطلوباً لها ، لأنه يعتبر مندوب الخلية الطبية داخل الكويت !
فى صباح اليوم التالى .. يرن جرس الهاتف ، ترفع مشاعل السماعة ، وإذ بها تقول بصوت خفيض مهذب :
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. نعم .. موجودة .. لحظة واحدة معى .
تدنو مشاعل من سعاد ، تخبرها فى هدوء إن السفارة الكويتية فى الرياض تطلبها على الخط !! تجرى سعاد ملهوفة إلى حيث يوجد جهاز الهاتف :
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. إيه نعم .. أنا أم أحمد زوجة الدكتور جاسم الناصر .. متى ؟!
خير ؟! أكو شئ ؟! زين .. زين .. حنا بإنتظاره .. خليه يتفضل
تسألها ليلى فى جزع :
– خير سعاد .. ليش السفارة يتصلون فيك ؟! قالوا شئ ؟! صار شئ ؟!
تلتفت سعاد نحو ليلى وهلع الدنيا يلمع فى عينيها ، ورعب العالم يشتعل فى قلبها ، وهى تجيبها فى فزع :
– يقولون .. مندوب من السفارة راح ييجى الحين ومعه رسالة من الكويت لازم أتسّلمها أنا شخصياً .. !
الفصل الثالث والعشرون
برحمتك أستغيث
تقبض أصابع سعاد على الرسالة .. تطويها .. تبرمها . تلفها . تجعلها عوداً رفيعاً تمسكه فى يدها . وهى تضغطها بشدة بأصابعها ، بينما كانت عيناها ترسلان نظرات إستغاثة جازعة ، فيها تساؤل .. نظرات يائسة تستجدى بها كلمة إطمئنان واحدة من مندوب السفارة الكويتية الذى يقف وعلى وجهه تعبير صامت صامد صابر .. !
وما تلبث أن تختفى سعاد بسرعة تاركة مندوب السفارة فى ضيافة أبى نايف الذى يتابع حديثه الودّى معه ، وترحيبه الحار به .
تخرج سعاد .. وإحساس مبهم غامض ثقيل يحيق بقلبها .. تدور .. تترنح .. وهى تكتم صيحة ذعر مرعبة .. تبحث عن ليلى صامتة .. وأصابعها تقبض على الرسالة بقوة وعنف وهلع ، فهى تخشى أن تفتحها لأنها تتوقع ماذا جاء بها !! تستمر تضغط عليها بكل قوتها ، إلى أن تتغرز أظافرها فى لحم كفها ، والرسالة مبرومة وما تزال فى يدها المرتجفة ، بينما هى لا تشعر بنفسها ، وجسدها يتأرجح أكثر من اللازم فى الفراغ الذى يحيطها ..!
تنادى سعاد ليلى بصوت مرتعش خافت مرتجف متحشرج .. تقترب منها فى خطوات ثقيلة تستنجد بها ، وكأنها تمسك فى يدها لغماً أو قنبلة توشك أن تنفجر فى قلبها ، تنسف كيانها !
تصل سعاد إلى ليلى .. قف تحملق فى عينيها ، ثم تدفن وجهها فى كتفها وهى تنوح بصوت هامس لاهث مبحوح وبدنها كله ينتقض ، يرتجف :
- جاسم .. جاسم يا ليلى .. جاسم !
تجفل ليلى من منظر سعاد الخائف المذعور ، فتسأل فى ذكر بصوت خافت وقلب منقبض :
– خير سعاد .. إيش فيه جاسم .. إيش فيه جاسم ؟!
تمد سعاد ببطء ووهن يدها الباردة المرتعشة نحو ليلى ، ويقدر ما تسمح به قوتها الضعيفة وطاقتها الضائعة .. تفتح بمشقة أصابعها المرتعشة ، فتأخذ ليلى الرسالة التى عجزت سعاد عن فتحها وقرائتها .. !
يتعلق قلب سعاد بالرسالة التى بدأت ليلى تقرأها على مسمعها وكأنها ترمى عليها قنابل ناسفة ، فى حين أخذت قوى سعاد تخور ، وبدأ السعير يشتعل فى صدرها ، يتأجج بين ضلوعها .. !
وفجأة تنهدم سعاد .. تنكسر .. تتبعثر .. تتناثر فى الهواء مقدرتها على التحمل والصمود فتطلق صيحة حزن صارخة تقفدها توازنها ، وتسقط غائبة عن وعيها ، بعد أن عرفت خبر أسر أبيها .. وإبن أخيها !!
.. تمر الأيام بطيئة ، ممطوطة ، مريضة ، معتلة ، لا نهاية لها ، والأخبار قنابل قاتلة تتفجر فى قلبها ، فلا تقتلها ، فلقد صارت مقتولة بالحياة بعد غياب والدها .. فهى ترفض قبول هذا الأمر الواقع الجديد ، كما ترفض الإعتراف به .. !
– لا .. لا .. مستحيل .. مستحيل .. أبوى ومنصور أثنينهم مرة واحدة ؟! حرام .. حرام .. حرام !
وتبقى تتفجر الآهات والأيام تدمر الصدور ، تنسف القلوب فى حين سقطت سعاد مريضة بالصدمة العصبية إثر سماع هذا النبأ المؤسف والمصير الرهيب الذى أصاب أبيها .. ومنصور .. ابن أخيها !!
ولم يكن والد سعاد وحده ، هو الرجل الطيب المسالم الذى تم أسره ، كما لم يكن ابن أخيها وحده هو الطفل الصغير الوديع الذى تم أسره .. كانت هذه مشكلة شعب بأكمله ! وكان ذلك مصير يواجهه شعب بأكمله وجب عليه الدفاع عن الوطن ! ورفض إحتلال الوطن الذى بدأ يأخذ أشكالاً كثيرة وصوراً عديدة !
وفى قلب الوطن الجريح الأسير .. تعود دلال متخفية إلى العديلية ، تدخل بيت والدها ، الذى كان يقضى الصيف قبل الغزو فى القاهرة ، وإن كانت لا تعرف عن أخباره شيئاً ، فربما يكون قد غادرها إلى دمشق ، أو بقى بها .. هى لا تعرف ولا أحد غيرها يعرف !! تدخل البيت ، تتلقف دانه فى حضنها ، تتلهف على تقبيلها وضمها ، فقد إشتاقت إليها ، ولم تعد قادرة على تحمل بعادها أكثر من ذلك .. وكانت دلال أيضاً مشتاقة لرؤية أمها ، التى بدأت مظاهر الإضطراب النفسى تتضح أكثر فى كل تصرفاتها .. فهى لم تزل تؤمن وتعتقد أن أمها حية ترزق ، وأنها أسيرة عند صدام والعراقيين اللى قاعدين يعذبونهــا .. !!
صراحة .. كان عذابها رهيباً ، وكان حجم ألمها لا يمكن تحمله ، فبدأ المرض النفسى يطغى عليها ، ويستبد بها ! أيضاً ، أم جمال لم تكن تختلف كثيراً عناه ! أصيبت هى الأخرى بنفس الداء اللعين ! فقد كانت تعانى من وجودها فى هذا الجو المشحون بالذعر ، المضطرب ، الحافل بالخوف وبالضغوط النفسية ، ومن حسن الحظ كانت دانة تحت رعاية خالتها سناء ، مما خفف عنها الكثير من شوقها لأمها ، لأن سناء كانت هى الأم البديلة بالنسبة لها بعد أن ظلت دلال مشغولة بأعمال المقاومة ، وإن كانت أمومتها تلزمها أحياناً بالهدوء والتروى لتقضى مع صغيرتها بعض الوقت .
تترابط المشاعر بالعيديلة ، وغيرها من مناطق الكويت ، بعد أن نما داخل النفوس مفهوم الفريج القديم ، وبعد أن تعمّقت الصلات بين سكانه الذين ينشطون إلى العمل على مساعدة بعضهم البعض ، وعلى توزيع المسئوليات ، كما يلتقى الرجال فى المساجد والدواوين ، يؤكدون عمق الروابط والصلات مما جعل الجميع يشعرون أنهم عائلة واحدة تجمعها هموم واحدة وأحزان واحدة !!
تغيرت الدنيا . أزدادت كآبة الحياة فى تلك الأيام . أخذت تحاصر الجميع . تسحق الجميع . بعد إعتقال عادل .. ! فمنذ تلك اللحظة ودلال وأمها وأختها وزوجة أبيها متشحات جميعهن بالسواد ، حتى أن دانه لم تعد تميز بين واحدة من الأخرى بسبب تشابه مظهرهن ، وتطابق سلوكهن ، فقد كان السواد يغطيهن من الداخل والخارج ، فلم تعد البسمة ، ولا الضحكة تعرف الطريق إلى وجوههن ، ملامحهن نفسها ، سلوكهن نفسه .. أصبح متحشاً بالحزن ، مغطى بالسواد !!
فى نفس الوقت كان جمال يرتدى الجينز أثناء عمله فى الجمعية ، أو عندما يقوم بحرق القمامة ، وكان يختفى عن البيت أوقاتاً كثيرة ، للقيام ببعض أعمال المقاومة الأخرى ، مما كان يصيب والدته بكم هائل من الذعر والقلق والخوف عليه ، فكان يصالحها عندما يعود ، ويضاحكها ويطمئنها ، ثم يأخذ دانه معه إلى الجمعية حيث يحلو لها أن تذهب معه ، فهى تحبه ، وتفرح بوجوده لأنه حنون عليها ، ودائماً يدخل الفرحة إلى قلبها الصغير الذى تعلق بخالها الشاب الذى يعوضها بحبه وحنانه عن فقد والدها ، الذى تركها يتيمة ، وهى طفلة رضيعة مازالت ! رحمة الله عليه .
وكانت أم دلال تتصل دائماً من وقت لآخر بأقاربها . وأصدقائها وجيرانها ، تسألهم عن أمها ! وعما إذا كان أحد منهم شافها ! فقد كانت تعتقد أحياناً أنها ما تزال فى بيتهم بالسالمية .. ! وكانت تتحدث عن أمها ، كما لو كانت رأتها فعلاً صاحية قدامها ! كما كانت تكيل لدلال السباب واللعنات تصبّها على رأسها لأنها هى السبب فيما أصابها !!
وكانت دلال تختفى أغلب الوقت ، بعيداً عن عيونها ، لتمارس دورها فى العمل الوطنى مع جاسم ، وما أن تعود حتى تتخانق معها أمها ، التى تكون قد فقدت أعصابها خوفاً عليها ومما يمكن أن يحدث لشابة جميلة مثلها ! وخوفاً عليها أن يمسكوها ويحبسوها هناك فى البيت مع أمها !!
وكانت سناء تتدخل لتخفيف الخلاف والخناق بينهما ، خاصة عندما كانت أم دلال تبكى بمرارة وعندما تخرج دلال وهى لا تعرف عنها شيئاً :
– ما أدرى والله وين راحت .. ولا متى راح تيجى ؟! يجوز راحت لأمى .. هى أكيد الحين فى البيت هناك مع أمى !
كانت الظروف حقاً صعبة مخيفة رهيبة ، والمواقف غير متوقعة ، والحزن متسلطاً على الجميع بلا إستثناء ، والخوف على الأبناء فى تزايد مستمر ، والأمهات لديهن شك فى أنهم يشتغلون فى المقاومة ، حتى لو أنكروا .. ما يفيد إنكارهم ، فهن يشعرن أنهم موساكتين .. الله كبير .. الله خير الحافظين .
تعيش دلال تعانى التمزق والصراع بين الرغبة فى تواجدها فى البيت مع إبنتها وأمها ، خاصة بعد تفاقم حالتها المرضية ، وحتى يرتاح قلبها ، وتهدأ وتكف عن الشكوى ، وعن مشاجراتها معها ، وبين واجبها نحو وطنها الذى تحتمه اللحظة ، والذى يحدد دورها ، ويلزمها بضرورة التواجد فى أحد السراديب ، حيث يعالج جاسم شباب المقاومة !
كانت حيرتها بالغة ، خاصة بعد أضفت الظروف القهرية التى يتعرض لها الوطن الشئ الكثير من المشاعر النبيلة السامية ، فتحددت نوعية عاطفتها الصادقة لجاسم صارت نوعاً آخر من العواطف الأشمل ، والأنبل ، والأسمى .. ! صار الحب صداقة وأخوة عزيزة غالية ! أيقنت دلال من ذلك تماماًَ .. لم يعد لديها ذرة شك فى صحة مشاعرها الحين نحو جاسم !!
كذلك صار جاسم بعيداً كل البعد عن التفكير فى أى شئ آخر ، سوى إنقاذ حياة هؤلاء الجرحى المتواجدين بين يديه ، بعد أن تحولت معظم مستشفيات الكويت إلى أماكن غير آمنة ، يمارس فيها إضطهاد المرضى ، وإغتصاب النساء ، سواء كن مريضات ، أو ممرضات ، أو طبيبات !! ..
وفى غاية الحزن والألم يتلقى جاسم فى صبر وصمود وجلد أخبار مقتل عدد كبير من زملائه الأطباء الذين كانت تربطه بهم أواصر الصداقة والزمالة ! نعم .. تعرّض الأطباء فى الكويت إلى محنة ساحقة قاسية حينما كانوا يّقتلون لأتفه سبب أمام أعين زملائهم ، ومرضاهم ، ومساعديهم ! داخل المستشفى التى يعملون بها .. وهكذا عومل ملائكة الرحمة بلا إنسانية ولا شفقة .. ولا رحمة !
كان تفكير جاسم كله منصباً على الكفاح والنضال من أجل مقاومة هذا المعتدى الأثيم . لم يكن يخطر بباله أى شئ آخر غير ذلك .. حتى زوجته نفسها نسى أمرها تماماً .. الشئ الوحيد الذى كان يخطر على باله الحين هو رغبته فى أن يرى أمه ، ويطمئن على أولاده . كان يحمل همهم . كان يتمنى أن يلتقى بهم . لكن ، الأحداث أحياناً تتدخل لتحدد مسار الإنسان وترسم له الطريق ، حتى لو لم يكن أن يختار هذا الطريق !
لذا .. كان جاسم أحياناً يحاول أن يعرف أخبارهم وأخبار الدنيا من حوله ، وكانت وسيلته الوحيدة لمتابعة هذه الأخبار ، أن يستمع إلى إذاعة الكويت فى المنفى ، وأن يشاهد رسالة الكويت التليفزيونية ، التى كان ينتظرها ببالغ الشوق كل ليلة فى الساعة الحادية عشر إذا سمحت الظروف بذلك وكانت عنده فرصة كافية من الوقت ، أو إذا توفر لديه جهاز التليفزيون فى مكان غير مهدد بالخطر ، لأن عقوبة من يُضبط وهو يشاهد هذه البرامج .. كانت تبدأ بالإعتقال وتنتهى بالإعدام !!
وكانت دلال أيضاً تحرص على مشاهدة هذا البرنامج ، لكن بحذر شديد جداً ، فالويل كل الويل لمن يضبط وهو يفتح التليفزيون على غير إذاعة بغداد ! لكنها لم تكن تعبأ ، كانت تحرص على مشاهدة البرنامج لمعرفة أخبار الأهل فى الخارج ، وكانت تحصر على متابعة أخبار الجالية الكويتية فى القاهرة ، علها تسمع شيئاً عن والدها هناك .. كانت تريد أن تطمئن عليه وعلى صحته ، خاصة بعد إعتقال عادل ، فقد كانت دلال على يقين من أنه قد عرف الخبر .
الشئ العجيب الذى كانت دلال تندهش له ، أنها لم تعد تفكر فى سعاد كثيراً ، تبدلت مشاعرها نحوها أيضاً فلم تعد تكرهها ، ولا حتى تغير منها ، صارت بالنسبة لها واحدة ثانية لا يهمها أمرها فى شئ ، فقد كان كل ما تفكر فيه الآن هو العمل على تخليص الوطن من يد المحتل الغاشم ، ولتفعل الدنيا بهم بعد ذلك ما تشاء ! المهم أن تتحر الكويت أولاً .. واللى يصير .. يصير .. !
صدق .. غيرت الأزمة كثيراً فى دلال ! أيضاً متابعتها للدروس الدينية ، وحرصها على إرتداء الحجاب ، وأداء الصلاة فى أوقاتها ، كان له تأثيراً عميقاً فى تغيير مشاعرها ، وتطوير أفكارها ، وتحسين نفسيتها ، وتبديل شخصيتها ، حقيقة .. تغيرت دلال .. إن الله قادر على كل شئ ! سبحانه .. يغير ولا يتغير .
فى الواقع .. دلال تغير .. وسعاد أيضاً تغير ! أصبحت إنسانة أخرى ! تحس شعوراً مختلفاً ! تحس أن ما فى شئ فى الدنيا يستاهل الغيرة والعناء ، والبغضاء ، وأن أفضل نعمة على الإنسان هى راحة البال والعيش بسلام مع الذات والأهل داخل حدود الوطن . نعم .. داخل البيت فى قلب الوطن .. تذكر سعاد طفولتها ،وسعادتها عندما كانت طفلة صغيرة سعيدة ، لم تحرمها الدنيا من شئ .. فتحس بالنار تشتعل فى صدرها حزناً على أبيها ، حبيبها ، بعد عمرها .. بعد روحها .. !
أيضاً .. تحس سعاد بالأسى والضيق من تلك الظروف التى حرمتها من زوجها حبيبها الذى تنتظر حضوره لها ، ولقائه بها على أحر من الجمر . تنوى سعاد بينها وبين نفسها أن تقتلع مشاعر الضيق بسبب دلال من قلبها .. فالدنيا لم تعد تستاهل شيئاً فى نظرها .. والمهم الحين أن يلتم الشمل ، ويرجع أبيها .. ويعود منصور ابن أخيها .
تتلوى الأيام حزناً على ما صار إليه حال سعاد ! الجميع حولها يشعرون بمصابها ، لكن .. لا أحد يجرؤ أن يفتح هذا الموضوع أمامها ، حتى أمها ، رغم آلامها ، إلا أنها تسكت حتى لا تحرك أحزانها ، وتزيد تعاستها .. ودموعها ! فكان اللجوء إلى الله بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن هو الحل ، وهو الرجاء .
.. كان البيت الأبيض الجميل الذى يعيشون فيه ، بالقرب من جامع أبيض رائع ، وكان صوت المؤذن الذى يصحبهم فى أوقات الصلاة ، من الأشياء التى يحبونها ويرتاحون إليها ، لكن .. المشكلة عندما بدأت الحرب .. أصبح هذا الموقع فى مقدمة الضرب !! المطار القديم أيضاً أثناء الحرب تحول إلى قاعدة عسكرية ! وكانت الصواريخ تسقط على مدينة الرياض لدرجة أن السرير كان يهتز ، والصغار تصرخ فزعاً ، فيطفئ الكبار الأنوار خوفاً من سقوط الصواريخ وانتشار الغازات !
وكان أكثر ما يخيف الأطفال هو رؤية الكبار وقد إرتدوا الأقنعة السوداء ضد هذه الغازات السامة !! كان يصيب الصغار نوع غريب من الرعب ! خصوصاً راكان ، كان يحاول دائماً أن يخلع هذا القناع عن وجهه ، وعن وجه أمه ، كان لا يطيق أن يراها وقد إرتدته وظهرت أمامه به ، فقد كان منظرها يخيفه ويثير رعبه وبكائه ، أما أحمد فقد كان يريد أن يكون بطلاً قوياً ، حتى أثناء الغارات الجوية ، يستمر صلباً متماسكاً ، لا يريد أن يبكى أمام مخلوق بعد أن عرف حبر إختطاف جده .. وابن خاله منصور !!
نعم .. احترقت القلوب منذ أن وصلت هذه الأخبار المؤسفة إلى الأهل فى الرياض ، فكانت الفجيعة فادحة ، والمصيبة عظيمة ، والموقف أليماً ! ظل الجميع يتعاملون مع الخبر بين مصدق ومكذب !! لا أحد يريد أن يعتقد أن أبو عبد الله ، ذلك الرجل الطيب ، المسالم ، ومنصور ذلك الطفل الوديع ، البرئ قد غابا عن حياتهما ؟! وأنه قد تم فعلاً إختطافهما وأسرهما !!
– لا .. لا .. غير معقول .. غير معقول ؟! ما يصير .. حتى الجهال ؟! يأسرون الجهال ؟! لا مومعقول .. مومعقول !!
ظل الجميع يعيشون على أمل أن يصلهم خبر آخر جديد يطمئن قلوبهم الواجفة ، الحزينة ، المُلتاعة ، اليائسة ، التى لا حول لها ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .. كان الخبر غير قابل للتصديق ! رفض الكل أن يأخذه على أنه أمر واقع جديد مسّلم به ، فهو تصرف لا يمكن تفسيره تحت أى منطق ! ولا يمكن قبوله تحت أى مسمى !! فهذه مأساة سخيفة غير إنسانية ، تثير فى النفس ألف مليون سؤال !!!
نعم .. لماذا هذه القسوة ؟ لماذا كل هذه الأفعال ؟ لماذا تلك الهمجية والوحشية ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا النزوح نحو العنف ؟! لماذا هذا العدوان وهذا الهوان ؟! لماذا كل هذه السلوكيات اللإنسانية ؟!
آه .. ويالها من آه .. إن الآهة طويلة ، طويلة ، عميقة ، ممتدة ، تخرج من قاع القلب تتخطى الأمكنة ، تتجاوز الأزمنة ، ترتحل عبر الحواجز والحدود ، تقفز فوق الموانع والسدود ، تتجاهل نقاط السيطرة ، فلا يتجاهلها إنسان ! يعرفها كل من كان ، فهى تسيطر بعذابها وهما على الروح الجريح ، والزمن الدبيح ، والليل الحزين ! نعم .. الحزن يغزو كل شئ .. حتى القمر صار حزيناً غاضباً متوارياً عن الأنظار والعيون .. !!
إن اللحظة المتوقعة الآن تعصر النفس . تستخلص الألم . لم يعد هناك سوى الأمل ، لكن .. الأمل راح وراء سحابات حزن سوداء ، توارى خلفها وجه فضيلة التى جفت دموعها حزناً على زوجها الشهيد الرائد فيصل ، وجزعاً على إبنها الطفل المفقود .. منصور .. !
منذ خروج منصور من البيت بصحبة جده أبو عبد الله لصلاة الجمعة ، والذهاب إلى الجمعية ، لم يعد الإثنان إلى البيت ! من بعدهما غاب القمر . إنكسفت الشمس . إنطفأ الأمل شق الحزن حواجز النفس ، جرح الحدث حجاب الروح ، صارت الأيام جنائزية الإيقاع ، لم يعد يُرى بالأجواء سوى الريح والخوف والظلام والموت والبرد والعذاب !
آه .. إن الدمع يعصر العين عصراً ، والقلب ينكسر كسراً كلما أيقن أن اللحظة القادمة سوف تخلف المزيد من الخوف والجزع والفراق .. جاء الخبر فوق طاقة البشر ! فوق تحمّل الإنسان !
” اللهم لا تحملنا مالا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وأرحمنا أنت مولنا فأنصرنا على القوم الكافرين ”
” صدق الله العظيم “
كان الشعور بالخوف والجذع بسبب الأسر والرحيل والفراق ، هو نفس الشعور السائد فى نفس فضيلة ، التى كانت ترفض فكرة الرحيل والسفر ومغادرة الكويت قبل العثور على إبنها منصور ولقائه وأخذه معها فى حضنها .. !
أخيراً .. تقتنع فضيلة بأن إصرارها على البقاء فى الكويت ، وإنتظارها رجوع منصور فى البيت ـ يعنى الموت بالنسبة للجميع ! كما تقتنع بأن تواجدها الحين خارج حدود الكويت سوف يساعد فى العثور على ولدها منصور قبل فوات الأوان ، فهى قد تجد وسيلة أسرع ، أو تعثر على واسطة أقوى ، تعمل على إعادته وإسترداده ، فكان هذا هو المدخل الوحيد لإقناعها بجدوى الرحيل والمغادرة ~، كى تبدأ تأخذ شكلاً آخر من أشكال المناورة ، أملاً فى إسترداد إبنها ، فلذة كبدها .
فى النهاية تقتنع فضيلة بأن الحواجز بين المدن ليست حواجزاً حديدية ، وأن ما يحدث هنا ، يعرف هناك ! تقنعها أمها باكية بضرورة الرحيل والمغادرة ، فالبقاء لن يساعد على عمل شئ ، والإستمرار فى هذا الإنتظار اليائس ليس فى صالح أحد ، فالجند يطقون البواب بأقدامهم وفى أى وقت يقتحمون الديار بلا إستنئذان ، يفتكون بأهلها ، يعبثون بشرفهم ، يهدرون كرامتهم !
إذن .. لا معنى لإهلاك النفس ، ولا فائدة من الإنتظار ، مع الخوف واليأس ،
والعجز ! تظل إبتسام تستعطف أم فضيلة كى تقنعها بضرورة الرحيل ، والخروج بسرعة قبل أن يحدث لهم ما حدث لأختها أمل ، الطالبة بالجامعة ، الشابة الجميلة ، التى أغتصبها جند صدام ، عندما دهموا البيت ودمروا كل من فيه !! .. ثم أخذوها معهم بالقوة ، لم يشفع صراخها ولا عويلها ، ولا نواحها .. ! وما زالت للحين أسيرة ، لا أحد يعلم عنها شيئاً حتى هذه اللحظة .. ! ترجوها رجاءاً حاراً نابعاً من عمق القلب ، وهى تبكى من القلب :
– واللى يسلم عمرك يا خالتى .. إقنعى فضيلة نطلع قبل ما يصير فينا شئ .. ترى أنا خايفة وايد على بناتى .. بناتى صبايا ، وأخاف الجنود يسوون فيهن شئ .. الله يخليك يا خالتى كلميها .. اقنعيها .. قولى لها .. هذا أحسن حل .. وإنشا الله لما نوصل الرياض يصير خير وراح نقدر نتصرف أحسن من هنا .. إحنا هنا مشلولين .. عاجزين .. ما إحنا قادرين نسوى شئ .. !
تدور الأيام والزمن قيد يشل القلب . يهش الروح . يجرح الجرح , والخوف من الخطر الخفى الآتى عبر الساعات يهدر قدرة العقل و يبدد طاقة الروح .. يا رب . يا رب . كان واضحاً للجميع أن الحالة الأمنية تزداد سوءاً يوماً بعد يوماً ! وان الأحوال المعيشية تنحدر من سئ إلى اسوأ ! ولم يكن من الرحيل بد فى مثل تلك الظروف التى يعيشها عبد الله , ومن معه , فالمسئولية كبيرة جسيمة والخطر فادح .. فادح , لو حصل أى إهمال قد يؤدي للعرض إلى الخطر ! .
وأخيراً .. يعرف عبد الله من زوجته إن فضيلة واقفت على الرحيل . يتنفس الصعداء بإرتياح عميق بعد أن عرف أنه يقدر يغادر الكويت الآن , لكن , يعود ينظر إليهن فى قلق , فقد أصابه الهم من كثرة عددهن ! وتفاوت أعمارهن ! فيظل عبد الله يناجى ربه طالباً الستر وسلامة الوصول إلى بر الأمان حيث الإخوة , حيث السلام , حيث الأمان , بعيداً عن هؤلاء الخونة , اللصوص , الشياطين , المنتشرين فى كل مكان !
يعد عبد الله عدة الرحيل , يضع المؤن وزجاجات الماء فى السيارة , تركب البنات والنساء وقد إتشحن جميعهن بالسواد , حتى مريم ومنى وفضة لبسن ثياباً سوداء اللون , رغم صغر سنهن , لكنه الخوف عليهن من الاغتصاب , فالمعتدى لا يرحم , ولا يميز فى عدوانه بين النساء , فالجرائم شملت كل الأعمار , وطالت بعض العجائز الكبار .. وحتى الأطفال الصغار !
تجلس أم فضيلة بجوار عبد الله فى مقدمة السيارة ، فى حين تجلس زوجته وبناته مريم ومنى وفضة مع فضيلة فى المقعد الخلفى ، وقد حملن فى أيديهن المصاحف وبدأن يرتلن آيات الذكر الحكيم ، داعيات الله ، أن ينجيهن من الهلاك ، وأن يكتب لهن الخروج والوصول بسلام .
تتحرك السيارة والكل يذرف الدمع حزناً على ما وصل إليه الحال . تنظر إبتسام حولها ، تودع أرض الوطن التى تضم رفات إبنها عبد العزيز ، الذى ما زالت شقيقاته مريم ومنى وفضة تبكين عليه . تتنهد إبتسام وهى تبتهل إلى الله أن يعوضها خيراً عنه :
– الله كريم .. الله عليه العوض .
كانت إبتسام تنتهد وتتأوه حزماً على وفاة إبنها عبد العزيز ، فى حين كانت فضيلة تنشج نشيجاً مكتوماً حزناً على منصور ، كانت تنتحب بصوت يقطّع قلوب من حولها ، وهى تنظر من زجاج السيارة الخلفى إلى الجمعية والمسجد فى الضاحية ، فالمكان يشبه المكان الذى إختطف الغزاة فيه فلذة كبدها منصور فى الشامية ، فربما يكون منصور قد جاء مع جده هنا .. ! فهى تعرف تعلّق منصور بالذهاب إلى الجمعية وحبه فى اللعب بالسيكل أمامها وداخلها وهو يقلب ويختار أصناف الكاكاو والبسكويت والب!رد الذى يحبه .. آه .. تصيح فضيلة :
– يجوز يكون منصور واقف مع العيال داخل .. !
كانت لا تزال تفتش عليه بعينّى قلبها ، كانت ما تزال تتذرع بالأمل ، لعلها تراه يركض أمامها يأتى ضاحكاً إليها بحضنها ، يضمها ، كما إعتاد دوماً أن يفعل !! آه .. كيف يمكنها أن تغادر أرض الوطن ، وهى لا تعلم شيئاً عن مصيره ؟! ولا تدرى أين هو ؟! كيف يأكل ؟! كيف ينام ؟! .. ماذا يفعلون به الآن ؟!
– آه .. منصور .. منصور .. وينك الحين يا منصور ؟! وين ألاقيك ؟! وين ألاقيك ؟
تنهار فضيلة باكية فى حالة هيسترية تكاد تفقدها وعيها . تهتز السيارة لبكائها ، وبكاء كل من حولها ، حتى عبد الله لم يستطع أن يكبح دموعه . إنهمرت غصباً عنه حزناً وألماً على فراق الغاليين .. يا الله .. الصبر يا عطوف يا رحيم .
تتحرك السيارة مبتعدة ، وكلما إبتعدت .. كلما إنهارت فضيلة أكثر ، وبكت أمثر وأكثر .. كانت تود أن توقفها عن الحركة .. أن تمنعها من الرحيل ! كانت تود أن ترجعها إلى الوراء ، تشدها بأسنانها .. حتى لا تأخذها بعيداً عن إبنها حبيبها ، الذى تتمناه أن لا يكون خائفاً مذعوراً ، وأن يكون الحين مرتاحاً جالساً فى حجرها ، تضمه بذراعيها فى حنان ، تقبله برفق فى رأسه ، وهى تدفئه فى أحضانها وتحفظه وتخبئه فى قلبها حتى لا تضيع مرة ثانية منها .. !
وكانت فضيلة قد قامت بالبحث عن إبنها فى كل مسجد ، وكل جمعية بالكويت ، قبل أن توافق على مغادرة الكويت ، فى الشامية ، فى الضاحية ، فى السرة ، فى الفيحاء ، فى الروضة ، فى النزهة ، فى الشويخ .. ثم عادت تبحث وتفتش مرة ثانية من الرميثية وسلوى ومشرف وبيان .. إلى الجهراء !! معرضة نفسها بذلك للخطر بسبب إنتشار نقاط السيطرة ، لكن .. حزنها الشديد على أبنها كان دافعاً قوياً للمجازفة بالنسبة لها .
ظلت فضيلة تتذرع بالأمل وهى تجوب بعينيها المساجد والجمعيات .. لعلها تعثر على منصور .. لعلها تلقاه .. وكانت أمها ترافقها ، فى حين كان عبد الله يطول باله عليها لا يريد أن يحزنها ، أو يفقدها الأمل فى العثور على ولدها ، الذى صارت تجوب مناطق الكويت كلها بحثاً عنه ، ولم يستطع أن يمنعها أحد لأن إختطاف منصور جاء بعد إنتهاء العدة على وفاة زوجها الشهيد فيصل .. !
أخذت فضيلة تطالع تراب الطرقات ، تود أن تنبش الأرض وهى تنظر إلى الوراء فى رجاء فلربما تلقاه قبل أن ترحل السيارة مبتعدة عن هذا المكان .. ! كان الموقف أليماً ، وكان الواقع أشد إيلاماً وفضيلة تنهار فى بكاء هستيرى يفقد الجميع إتزانهم ، يُضعف أعصابهم فيشاركونها بكائها على إبنها ، وعلى جده الرجل الطيب الأمين ، الذى راح ضحية الواجب حتى اختطفه مغتصى الوطن !
يتماسك عبد الله ، يظل يرتل آيات الذكر الحكيم ، التى تدخل السكينة على القلوب ، وتسبغ على الجميع هدوءاً يحتاجونه لإتمام هذه المهمة الصعبة الشاقة ، التى يدعون الله أن يتم عليهم نعمته وأن يكتب لهم السلامة والنجاة .
.. تتجه السيارة خارج حدود الكويت ، وعبد الله يرقب الطريق فى قلق ، وهو يتجه إلى المملكة العربية السعودية ، حيث الأمان والطمأنينة والسلام . تمضى السيارة مسرعة ، تهتز عجلاتها فوق الطريق الطويل المتجه إلى أفق الأمل ، وباحة الرجاء ، فى حين كانت النفوس تهتز رعباً وجزعاً من المجهول الذى ينتظرهم ، وربما يتربص بهم ، فالمسافات بعيدة شاسعة ، والشر ينتشر فى كل الأمكنة . ترى .. من يحمى هؤلاء الأبرياء الضعفاء من الخطر ؟!
تتجسد المحنة الآن بكل أبعادها ، يطل الخوف الحين بكل بشاعته ، يبرز الخطر ينذر تلك اللحظات العصبية الرهيبة فتعصف بقلوب الجميع ، يتحصن الكل بآيات القرآن الحكيم ، وهو يتنفسون الصعداء كلما عبروا إحدى نقاط السيطرة بسلام .. !
الحمد لله .. الحمد لله .. تتجه السيارة نحو بر الأمان يرتجفون خوفاً وهم يواجهون هذه اللحظة المحمومة ، وهم يقاومون بإيمانهم العميق الخطر الساحق المحدق بهم ، ويعبرون بفضل الله نقطة أخرى وأخرى من نقاط السيطرة ، فتعرف القلوب طعم الراحة والإطمئنان شيئاً .. فشيئاً .. !
– الحمد .. الحمد لله الذى لا يحمد على مكروه سواه .. !
الحمد لله .. أخيراً عبروا النقطة الأخيرة بسهولة وسلام ! الحمد لله .. الحمد لله . فى الحقيقية كان تغيير شكل الملامح الذى صنعه بدر لأخيه عبد الله متقناً للغاية ، فقد حوله عبد الله من شاب فى الثلاثينات ، إلى شايب فى الخمسينات ! يتجاوز عمره العمر المطلوب ، والمحدد للإعتقال !!
كانت ملابس عبد الله وهيئته ، وحركته ، تدل كلها على أنه رجل شايب عجوز ، فهاهو شعر رأسه الأشعث الأشيب ، الذى عالجه بدر بالبودرة والأوكسجين ، قد صار أبيضاً شعثاً ، والغترة التى ربطها فوق رأسه ” شريمبا ” دون عقال زادته كبراً على كبر ، وسمحت لشعر رأسه الشايب أن يظهر على جانبى وجهه المغضن النحيل ! أيضاً جلوس أم فضيلة إلى جواره أعطى إنطباعاً وإيحاءاً بأنها زوجته ، التى تناهزه فى العمر .
فى الواقع .. كان الموقف مقنعاً ، رجل شايب وزوجته ، وفى الخلف بناته . إذ لم يكن هناك ما يوحى بشبابه ، ولا بعمره الحقيقى ، فقد رسم بدر كل شئ وعالجه بمهارة بالغة ، حتى كفى يديه وضع عليهما نوعاً من الصمغ أصابعها بالتجاعيد ، ولم يكن يوجد مخلوق واحد ، يشك أن هذا الشايب العجوز ، الذى يحمل هوية مفتش متقاعد فى بلدية الكويت ، هو نفسه المهندس الشاب عبد الله سالم خريج كلية الهندسة بجامعة ” هارفارد ” بولاية ” بوسطن ” بأمريكا !!
تنطلى الحيلة على الجند ، حمدا لله .. هناك تعليمات جديدة صدرت لتيسير خروج المواطنين من الكويت ، ليتم إحلال العراقيين محلهم ، لذا لم يعترضهم عائق والحمد لله ، عبروا بسلاح جميع نقاط السيطرة ، بعد أن أفلحت يد بدر الماهرة المدربة فى إكساب وجوه الجميع قبحاً .. لا يعادله قبح ! يدل عليه السواد الداكن حول العينين والتجاعيد فوق الجبهة .. كان العمل الفنى متقناً أدى نتيجة هائلة مذهلة ، كانت سبباً مباشراً والحمد لله فى دفع أعين الجند عنهن ، ونفورهن من الإقتراب منهن !
يأخذ عبد الله طريقاً آخر عبد الصحراء ، طريقاً بعيداً آمناً لا يعرفه الكثيرين ، إذ كان يخشى أن يناله شر ، فقد كان لا يريد أن يجازف ! بحال من الأحوال بالوقوع بين أيدى هؤلاء الشياطين ومعه هذا العدد الكبير من الحريم ، كان عبد الله يسلك طريقاً معيناً يعرفه أهل الكويت جيداً ، طريقاً هو أخبر الناس به ، فكما يقولون ” المية تعرف مجاريها ” ! آه .. الحمل ثقيل يا عبد الله والهم كبير والمسئولية جسيمة . إثبت يا رجل .. أعانك الله .
تطالع العيون فى وجل وخوف الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف .. التى يتحرك سطحها تحت تأثير الرياح ، التى أخذت تعابث برعونة أمواج الرمال .. كان السكون سائداً ، يلف الزمان بغلالة من الخوف والرهبة والغموض ..! وكانت عيناً عبد الله تعانق فى قلق خط الأفق الملتهب ، وهدوء صاخب يدوى فى أعماق نفسه ، وآه رجاء حارة تتصاعد من قلبه ، تدعو الله وترجو الله أن يصلوا بسلام .
تترصد الروح اللحظة الحلم التى يصلون فيها حدود البعد عن الخطر ، حدود المملكة العربية السعودية ، حيث الأمن والأمان والسلام والإطمئنان .. ينبسط الأمل واسعاً ، والسيارة تنهب بهم الأرض نهبأ فتشرئب الأعناق تهفو إلى تحقيق الحلم الحلو للوصول إلى الأهل والصحاب .
يمتد الصمت والهدوء ، فتعرف القلوب الواجفة لأول مرة منذ زمان ، طال ، وطال ، عذوبة الشعور بالأمان .. فيتواصل الحديث ويسود الشعور بالخير والأمن والأمل والرجاء . لكن .. فجأة .. تقترب طريق السيارة ! توقفها ! يقفز منها على الفور جنود شرسو الملامح ، حاملو السلاح ، يمنعون السيارة من الحركة ، يحيطون بها ، يدورون حولها يأمرون من فيها بالنزول والخروج منها .. !
تتجمد الحركة ! تتصلب الأبدان ! تتخشب الأطراف من خوف عظيم يغطى الأرض كلها بمن فيها ومن عليها ! فالخطر يلفهم . يحاصرهم . يحيطهم . والغدر يطل فى عيون الأعداء يحدق فيهم . يحملق فيهم . يتفرس فى وجوههم !! آه .. المواجهة تهور . والمهادئة مذلة . والرجاء ضعف . والقتل إجرام . الإغتصاب أشد أنواع العذاب .. !! يارب إحمنا من شر هؤلاء الذئاب !!
الموقف فوق الجميع ! يرقب عبد الله الوضع الخطير جازعاً ، بعد أن إقترب الجنود من السيارة ، ونظرات الرغبة الجائعة تتلظى فى عيونهم ، تكشف عما تخفى نواياهم الخبيثة الخائنة ! فى حين بدا الذعر والهلع على تعبير الوجوه البريئة الرقيقة ، الخائفة ، الواجفة ، التى تشع الطهر والصفاء والنقاء .. ! بينما أخذت تنهمر دموع الخوف والذعر تعجز عن تحدى الخوف ! كما تعجز عن الصمود أمام القهر والرعب والفضيحة والقتل والعذاب .. والإغتصاب !!
لحظة ضعف محمومة يذوب فيها العمر كله دفعة واحدة ! يعجز الجميع عن مواجهة هذا الخطر الداهم المحدق بهم ! يضعهم أرواحهم على أكفهم ، فى حين تنتفض الأجساد . تهتز . تتشنج . تصرخ القلوب . تتلوى . تتمرغ نازفة فى الرمال . وألماً هائلاً يسحق
الروح . وعرقاً بارداً يتصبب يبلل الجسد تعجز أن تجففه رياح الخريف الجارفة اللافحة .
وحينئذ .. تصعد آهة رجاء حارة صارخة طالبة من الله النجاة والخلاص .. ودعاء صادق من القلب يخرج يخترق عنان السماء مناجياً المولى عز وجل أن يرفع عنهم الكرب ويزيل هذا البلاء ..
” لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ”
” يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث “
الفصل الرابع والعشرون
مصرع . . الجمال !
فى هذه اللحظة الحرجة ، تظهر فجأة سيارة جيب عسكرية كأنه هبطت من السماء ! يكتم الجميع أنفاسهم فى حين يدوى فى الفضاء صوت الضابط العراقى الغاضب آمراً الجند بالعودة إلى الدبابة والإبتعاد عن هذا المكان فوراً ، بعد ان عنفهم بشدة على سوء فعلتهم وتهددهم بأقصى العقوبة على ما بدر منهم ، إذا لم يكن مسموحاً لهم بالتواجد فى هذا المكان على الإطلاق !!
فى لمح البصر .. يختفى الجنود فجأة ، كما ظهروا فجأة ، يلتفت الضابط العراقى إلى عبد الله يول له بلهجة فيها تأثير شديد وإعتذار أشد :
– سامحنا يا خوى .. سامحنا .. حنا يا خوى أخل .. جيران .. اكو بينا صلات
دم ونسب .. حنا عرب فينا شهامة .. فينا رجولة .. حنا قبل كل شىء مسلمين
وموحدين بالله ..
ينظر الضابط العراقى إلى نفسه ، وهو يطالع ملابسه العسكرية فى إستنكار ، ثم يطالع سيارته الجيب العسكرية فى رفض وقرف ، ثم يقول بلهجة ناقمة غاضبة :
– ترى حنا إتغرز بنا مثلكم بالضبط .. إضحكوا علينا هذولة الإنذال .. قالوا لنا .. اكو ثورة بالكويت بيوتا نخمدها ! والحين . إنكشف الكذب .. إنكشف الغش ..إنكشف كل شىء .. بينت الحقيقة .. !
يقترب الضابط العراقى من سيارة عبد الله يدنو نحو الجميع مشيراً لهم بالركوب ، يتوجه نحوهم بالحديث وهو مازال غاضباً ، تأثراً ، يقول لهم بأسف عميق ، وإعتذار بليغ :
– سامحونا .. سامحونا ولا تؤاخذونا .. ترى حنا مظلومين مثلكم .. حنا مظلومين مثلكم .. حنا ما نريد نحاربكم .. وما نريد نكون هنيه .. بس هذولة فرق الإعدام وكوادر الحزب .. ما يخلونا .. الى ما ينفذ الأوامر ينطق بالرصاص !
يستدير الضابط نحو اليمين ، يرفع ذراعه بإتجاه الأفق ، وهو يؤكد لعبدالله الذى ظل يتصبب عرقاً رغم شدة الرياح :
– توكل على الله يا خول .. خذ حريمك وتوكل على الله .. أطلع سيدة .. لا تدور يمين ولا يسار .. حرك عينى .. حرك .. فى أمان الله .
يشكر عبد الله الضابط العراقى الشهم الذى أنقذهم من مصير مروع رهيب ! ينطلق بالسيارة مسرعاً لا يلوى على شىء ، وتعبير واهن باهت يكتسى ملامح وجهه الشاحب الذى صار فى لون الأموات ! يمضى يقبض على مقود سيارته بيد مرتجفة ، ومشاعر ملتهبة ، يمضى متجهاً نحو الجنوب ، وهو لاى يكاد يصدق بالنجاة ، ودموع فرح حقيقى تغطى وجهه .. تبلل دشداشته .. ترطب روحه ، وإحساس صادق عميق بالجميل والعرفان يفيض فى وجدانه . الحمد لله رب العالمين .
و .. تتواصل مسيرة الحياة فى صمت سحيق لا يقطعه سوى صوت نجيب النساء اللاتى عجزن عن الكلام والتعبير عن الفرح بالنجاة ، وإن كانت قلوبهن تضج بالتقدير ، والشكر لله العلى القدير الذى ساق لهم الضابط العراقى الشهم الذى أنقذهم من بئس العذاب ، وسوء المصير .
تمضى السيارة براكبيها نحو خط الأفق ، والضابط العراقى ذى الرتبة الكبيرة يرقبها عن بعد إلى ان يطمئن عليها ، فينقل عائداً .. وسرعان ما يختفى عن الأنظار ! كان هذا الضابط ملاكاً عبط عليهم فجأة من السماء ! الحمد لله .. حياه الله .
و.. أخيراً تصل السيارة بسلام ، حيث تتلفقهم الأيدى الأمينة فى حنو وحنان ، حيث تضمهم أحضان الأخوة الأشقاء .. حمداً لله على السلامة .. حمداً لله . يطمئن الأهل فى الرياض على وصول عبد الله ومن معه بسلامة الله ، بينما يحاول بدر المستحيل بواسطة شباب المقاومة كى يعرف أخبار شقيقه وصحبه ، ويطمئن على سلامة وصولهم بسلام إلى بر الأمان .
.. وبواسطة تليفون يخفيه أحد الشباب عن الأعداء ، يتأكد بدر من وصول عبد الله بالسلامة ، فيرتاح قلبه ، يهدأ خاطره ، يعلن الخبر السعيد للجميع ، وأولهم جاسم ، ومن معه ، هؤلاء الأبطال ،المطلوبين لقوات العدو ، والذين بدأت الدوائر تضيق بهم ، تقترب منهم ، تبحث عنهم ، بعد ان شدد المحتل قبضته على أعناق الشباب المقاوم للظلم ، الرافض للإستبداد ، فبدأ يضيق فرص الهرب عليهم ، وأخذت بالتالى تتضاءل أمامهم فرص النجاة من الوقوع بين أيديهم .. !
لذا شهدت ساحات الاندية شتى أنواع التعذيب وفنون الإرهاب ، هى وغيرها مثل قصر بيان ، والمشاتل والمدارس ، وبعض البيوت الخاصة ، ولا يكتفى المحتل بذلك ، بل يطلق آليات الرعب نحو البيوت العادية من بينها بيت أهل دلالة فى العديلية ، تدهمه قبيل الفجر .
عصابات الرعب ، تطلب حضور جمال شقيق عادل للتحقيق معه فى المخفر .. فالمسئول هناك لديه أخبار معينة عنه ، يريد أن يستفسر عنها ، ويحقق فيها !
كان ما يحدث فى هذه الساعة من الليل ، أفظع من الكابوس ، فالعصابة تقتحم البيت ! تكسر الباب ، يدخل الجنود مدجحين بالسلاح . يدخلون بخسة ونذالة مطالبين بالمدعو جمال المحمود ! محذرين أن لا يتحرك أحد من مكانه ! ينهض جمال من نومه .. فيفاجأ بهذه المداهمة الليلية ، فيحدثه الضابط بلهجة عادية :
– ياللاعينى .. تعال ويانا .. نريدك فى المخفر نتافاهم معا هناك .
تقترب منهم أم جمال ، وهى تنتقض فى خوف ورعب على ولدها فتسأل الضابط :
– خير يا وليدى .. خير .. ليش تبون جمال .. إيش سوى ؟!
يقول لها الضابط بنفس اللهجة الودية :
- لا تخافين يوماً .. ما كو شىء .. ما كو إلا الخير إن شاء الله .. المسألة بسيطة .. بس إحنا نبى نتكلم معاه وراح يجيكم هالساعة .. ما راح يتأخر .. لا تخافين
يخرج الجنود ومعهم جمال ـ يقتادونه إلى السيارة ، ينسحبون خارجين ، فى حين يأخذون معهم ما خف حمله وغلا ثمنه ! يخرجون دون أن تؤثر فيهم توسلات أم جمال ، ولا بكاء أم دلال ، ولا صراخ دانه .. ! كان الكل فى حالة حزن وإحباط فظيع وهو يريدون جمال ولدهم الحبيب الطبيب يخرج معهم دون أن يعطوه فرصة للكلام !
وكانت اللغة الوحيدة التى يتفاهمون بها ، ويتكلمون بها ، هى لغة القوة التى يزيدها فصاحة وبلاغة كم السلاح الذى يحملون ، فى حين كام هو أعزلاً .. مجرداً من أى سلاح !! اللهم .. إلا سلاح الإيمان بالله ، وحب الوطن ، والغربة الصادقة فى التضحية بالروح من أجل الوطن .
.. كان الشىء الوحيد الذى لم تكن تعرفه أم جمال عن ولدها الشاب ، أنه وجه بارز فى إحدى مجموعات المقاومة ، وأنه هو رأس المدبر لعملية تفجير مركز الشاحنات ، تلك العملية الكبيرة التى نفذها جمال ثاراً وانتقاما لما أصاب أخته دلال ، وأمها ، وجدتها ، ولما أصاب أخيه الأصغر عادل الذي اختفى منذ ذهب لدفن جثمان جدة أخته ! والتى حولوا بيتها إلى معتقل .. !
يخرج جمال من البيت .. وتخرج معه كل المشاعر الدالة على الحياة يتحول البيت فجأة قبراً يملؤه الدمع ، والحزن ، والقهر ! يتعمق فيه الخوف .. يصبح كل من فيه جثثاً على قيد الحياة ! وكانت سناء واحدة من هؤلاء الأحياة الاموات ، التى دفعها الخوف للأقامة شبه الدائمة داخل غرفة صغيرة فوق السطح ، وكانت بمجرد أن تسمع أى صوت غريب يثير مخاوفها ، نقفز على الفور ، فى لمح البصر داخل خزان المياه الممتلىء حتى نصفه
بالماء حتى تختبىء بجسدها النحيل داخله وتمكث به ساعات طوال ، وهى تنتفض البرد .. إلى ان تشعر بزوال الخطر .. !
آه .. ماذا تقدر الكلمات أن تقول فى مثل هذه المواقف اللا إنسانية ؟! ماذا يمكن أن تفعل إزاء هذه البلاء ؟! آه .. ماذا تفيد النوافذ والأسوار والبيت منتهك ؟ والأمان ضائع مفتقد ؟ .. والإحساس بكرامة الإنسان غائب .. تائه .. ممتهن ؟! آه .. يالها من ليلة بكى فيها الكون! يا له من زمن تداس فيه إنسانية الإنسان بالأقدام !!
تسقط الأم على الأرض غائبة عن الوعى ، دامعة محتقنة العين بعد ان بكت طويلاً الإبن والوطن ، ولعنت كثيراً الغدر والخيانة والهوان .. ! كانت أم جمال تتمنى أن تفتدى إبنها بروحها ، فظلت تلعن من أعماقها ذاك اليوم الأسود الذى رأوا فيه وجوه هؤلاء الظالمين المعتدين .. !
يتوارى النور عن البيت .. تغشاه ظلمة داكنة تغمره كآبة قاتلة ، ومن القلب تطلق صرخة دامية تضم آذان الجميع بعد أن أفاقت الأم من أغمانتها :
– جمال .. جمال .. وين أخذوا جمال ؟
تظل الأم تبكى ، وتبكى ، مر البكاء ، وهى تنعى حالها ، وما وصلت إليه بعد أخذ إبنها أمام عينها ! كما تبكى أم دلال بكل كيانها ، بكل الهول المختزن فى ذاكرتها ، الكامن فى أعماقها ، وهى تتذكر كيف قتلوا أمها |، وكيف إعتدوا عليها وانتهكوا جسدها … فتنهار هى الأخرى على الأرض فاقدة وعيها !
بعد قليل .. تهبط سناء من السطح مبللة الثياب ، ترتجف من شدة البرد ، لا تكاد تقوى على الوقوف من شدة الخوف ، والهول الذى شعرت به ، عندما أحست بالإقتحام ، وسمعت أصوات الخبط ، والدق ، والأرتطام ، ثم كانت المفاجأة الفاجعة ، عندما عرفت أنهم أخذوا جمال نعم أخذوا جمال .. أخذوه .. أخذوه !
لا تستطيع سناء أن تكف عن البكاء لدرجة أن دموعها إمتزجت بثيابها المبللة .. تدخل غرفتها تبدل ثيابها ، وهى لا تكاد تعرف كيف تمسك أعصابها ، ولا كيف تفعل لتهدىء دانه ، وتزيل الخوف عن نفسها ! فلقد كانت الطفلة الصغيرة مذعورة فهى تحب خالها جمال ، الذى لم يكن بالنسبة لها خالاً ، وإنما كان أباً حنوناً ، يعطف عليها ليعوضها عن يتمها ، ثم زاد من عطفه بعد ان شعر بظروف الحرب الرهيبة وقد يتمتها ظلماً من امها !
كان جمال يعرف أن أخته دلال تعيش فى صراع عنيف لهذا السبب ، فكان يشحعها على الإهتمام بدورها الوطنى فى تمريض جرحى المقاومة وكان دائماً يحرص على المشاركة فى تحمل مسئولية دانه وتخفيف أثر غياب أمها عليه ، زكان يسولف وياها ويحكى لها حكايات كثيرة عن شجاعة أمها اللى قاعدة تطق ” العراقيين ” وأنها ” بطلة ” وكانت دانه تسعد كثيراً بسماع هذه القصص والمغامرات عن بطولة أمها .. فكانت تصبر عليها وما تضايقها بالإلحاح أو البكا كى تذهب معها !
كانت دلال تقدر الموقف الإنسانى الرقيق لأخيها جمال الذى يمتلىء قلبها بالحب نحوه ، ودائماً يخاف عليها ويدير باله عليها ، “ويحاتى ” لما تتأخر فى الإتصال به .. ! صدق ؟؟ .. جمال أخ فيه كل صفات الإنسان الطيب القلب ، النقى النفس .
تتسرب الأخبار عن تعذيب جمال بعد إعتقاله فى مخفر ميدان حولى ! لا يعرف أحد ماذا يحدث أو يدور هناك ، فى ذلك السراب الذى أطلقوا عليه إسم الديسكو !! تكاد الأم أن تجن ، تكاد أن تفقد عقلها ، وهى تعجز كل العجز عن فعل أى شىء من أجل أنقاذ أبنها ، ورحمته ورضاه . فالله قادر ان يفعل ما يشاء لاراد لحكمته وقضاه .
يطغى هذا الشعور العرام على الجميع ، يختلج الضعف الإنسانى يمتزج بالأمل والرجاء الربانى ، راجياً وقوع معجزة إلهية ، تعيد جمال إلى أهل البيت قبل أن يفترى عليه هؤلاء الظالمين ، يارب .. أمين يارب العالمين .
تعلم دلال بما حدث ، وتعرف من واقع خبرتها بالعمل مع شباب المقاومة إن خطوط الهاتف صارت الحين مراقبة للإيقاع بهم ، وإقتناصهم كما حدث لبعض أصدقائهم! لذا ، ترصد حركة أمها ، إلى أن تقابلها فى مسجد الشعب القريب حيث تتلقى دروساً دينية ، فتتحرك معها فى حذر ، وهى تترقب وقوع الخطر فى أى لحظة ، مما عكس هذا الإثر الكبير من الخوف على دانه ، التى بدت لهما كالحلم الجميل الذى يخشون عليه أن يتبدد فى لحظة .. فى لمحة .. حفظها الله وحماها .
تستمر المقاومة ، لا يستسلم الشعب الكويتى لصفوف الفهر والترويع يزداد بأساً وإصرار وصبراً وتحملاً وإيماناً ،فقد كانت المقاومة تتبدى العين ، فى القلب فى العقل ، فى كل شىء ، كل شىء ! فى الصمود ، فى التصدى فى الصبر . فى الإستمرار فى الحياة فى رفض العمل . فى رفض التعاون مع العدو بجميع الأشكال .. وتستمر المقاومة .. تستمر المقاومة !!
الكل يتحرك وروحه فى كفة ، وكفنه على كتفه ، الكل أيقن أنه معرض للموت فى لمح البصر ، فلم يعد أحد يهتم بما يمكن أن يحدث أكثر من ذلك .. الحياة لا تهم نموت وتحيا الكويت نموت ويحيا الوطن . الله والوطن والامير .
نعم .. يتم عبور مرحلة الخوف ..فلابد للحياة أن تستمر . تتصل . تدوم . تتجدد . ولابد للوطن أن يرجع ، يعود ، يرد ، ولابد أن تعود الحكومة الشرعية للبلاد ، وعسى الله ان يحفظ الأمير وولى العهد الأمين ، تستمر إمارات العصيان المدنى ، فتقديم الخدمات الضرورية مازال متاحاً والحمد لله ، ويد الحكومة تصلهم بالخير ، والرزق ، والاموال ، منذ اليوم الأول للغزو ، والكل يعلن ان سياسة أمير الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح الإقتصادية ، قد حفظت للكويت وشعبها ومكانتها الدولية حتى بعد الغزو ! وقد نشرت صحيفة ” برافدا” السوفيتية مقالاً حول هذا الموقف لصاحب السمو قالت فيه :
من الصعب أن تجد اليوم فى التاريخ العالمى حاكماً إستطاع وهو فى المنفى أن يؤمن الحياة لأكثر من 300 ألف لاجىء من أبناء شعبه ، وأن يساهم كذلك فى تمويل القوات المتعددة .
حقاً .. كان صاحب السمو الأمير وولى العهد الأمين لا يألوان جهداً فى سبيل قضية الوطن ، وإسترجاع الحق .. والأرض كذلك كان للأخوة الكرام فى دول مجلس التعاون الخليجى دوراً كبيراً بارزاً أكد الموقف الأخوى الكريم الذى وقفوه جميعاً قادة وحكومات وشعوباً أثناء إنعقاد مؤتمر القمة الذى أعلن التضامن المطلق مع الكويت مواجهة عدوان النظام العراقى ، وكان ذلك ما أشاد به الشيخ سعد معرباً عن تقديره وإمتنانه لهذا الموقف الأخوى الأصيل .
كان الناس لا يضعفون ولا يملون من بذل المزيد من الجهد والصبر والصمود والتصدى ، كما أدت الظروف الصعبة فى معظم الأيام إلى إحداث نوع جميل ورائع من الترابط بين الناس بعضهم بعض ، وإلى بث روح التفاهم والتواد والتواصل والتراحم فيما بينهم .. وهذا ما جعل أهل الكويت يعيشون من جديد بذات الروح القديم حين كانت الناس كلها تعيش أسرة واحدة ، ويداً واحدة .. ! خوش .. خوش !
تمضى الأيام بشعة مروعة ، منذ إعتقال جمال الذى لا يعلم أحد ماذا يحدث له بالتحديد ! وكانت أمه ترفض أن تضع شيئاً فى فمها ، كانت لا تكف عن البكاء والأنين ، وهى تتخيل هؤلاء العتاة الظالمين ، وما يمكن أن يفعلوا بإبنها جمال ، وفلذة كبدها عادل ، كانت تقول فى حزن وجزع :
– إيش لون تبونى آكل .. انا يا المرة الكبير .. وهذولة عيالى شبان عادل وجمال ما أدرى شىء عنهم ؟! ما ادرى لو كانوا يعطونهم آكل .. إلا خلوهم جوعانين .. آه .. يا ربى .. منه لله الظالمين .. منه لله .
وذات يوم جاءت مجموعة من الجنود المدجحين بالسلاح قبل الظهر ، إقتحموا البيت ، أخذوا يفتشون حجراته ويقبلونفى الأغراض يلقون الأشياء على الأرض يبعثرونها هنا وهناك ، فسألتهم أم جمال :
- شنو تبون ؟ شنو تدورون ؟!
- ندور على السلاح يا خالة .
بكت أم جمال وهى تترجاهم أن يعيدوا ولدها ، ظلت تقول لم تستعطفهم ، عسى أن يرقوا لحالها ، ويردوا ولدها جمال إليها .
– والله ما عندنا سلاح .. أرجوكم ردوا لى ولدى جمال .. جمال ما يعرف هذه السوالف .. فقال لها أحد الجنود باسماً :
– على أمرك يا خالة .. حالاً راح نجيبه لك .
وفى مساء اليوم نفسه ، جاء الجنود ومعهم جمال ! فرح كل من سمع الخبر ، خبر وصول جمال ، لكن .. لا .. لم يكن هذا هو جمال !! كل من رآه بالبيت إستنكر منظره ، لا .. ليس هذا هو جمال .. لا . جمال مارجع .. جمال ما رجع .. !
كان هذا الشاب النحيل ، الممزق الجلد ، المنتفخ الوجه ، الشديد النحول والهزل ، العاجز عن الوقوف ، والمغطى بآثار الدماء ، كان شاباً آخر يختلف عن جمال ، لكن ! لا .. إنه هو ، لكنه لم يعد هو .. صار بقايا إنسان !! فقد كان يقف متهالكاً أمامهم . زائغ النظرات ، شارد الذهن ، لا يستطيع أن يتعرف على أحد ! فى حين كانت تبدو عليه آثار التعذيب الشديد ، والحروق البادية على جلده ، ونزع بعض اظافره !
هرعت أن جمال تعطيه كوباً من الماء كى يشرب ، لكنه .. يا ولداه لا يستطيع الوقوف ! يسقط على الأرض ! فتنحى أمه تحاول أن تضع كوب الماء على فمه لتسقيه بعض قطرات منه ، لكن يركل الجندى الكوب بقدمه .. فيسقط على الأرض يتكسر ، ينسكب منه الماء ، تتوسل إليه الأم باكية أن يتركه يشرب فهو عطشان ، تصرخ فيهم متوسلة :
- حرام عليكم .. حرام عليكم .. خليه يشرب يا وليدى .. خليه يشرب .
لكن .. يزجرها الجندى صارخاً فى وجهها :
- خليه اول يعترف وين باقى الملاعين رفاقه .. وين المخربين ؟! وين السلاح ؟!
يشده الجندى ، يجذبه لعنف ، يطلب إليه أن يعترف وإلا قتله . تسقط رأس جمال على كتفه ، يرفعها يتحامل على نفسه ، ينهض . يمشى . لكن .. يجذبه الجندى نحو الباب . يدفعه أمام .. وما يلبث أن يصوب إليه رصاصة خلف أذنه .. تتلوها رصاصات أخرى فى رأسه ! فيرديه قتيلاً أمام أمه! وأهل بيته ! وأمام دانه التى أصابتها حالة فزع هيستيرى رهيب ! وأمام أم دلال التى صرخت من القلب ووقعت مغشياً عليها هى وأم جمال ! فى حين ظلت دانه وحيدة مع جثة خالها وهى تصرخ وتصرخ وتصرخ .. بعد أن مزقت أصوات الرصاص المدوية سمعها .. ورأت ورأت الدماء تنزف من جسد خالها الحبيب .. الذى قتل أمامها ؟!
وفوق السطح .. تسمع سناء صوت طلقات الرصاص ، فتنتابها رعشة رهيبة تفقدها وعيها ، تهددها بالسوطق مغشياً عليها فى خزان المياه ، التى تكاد ان تغرق فيه ، فى حين يظل بدنها يرتجف وهى لا تعرف من الذى قتل من أهلها ؟ ومن الذى أصيب من أفراد عائلتها ؟! تتحامل على نفسها ، تنزل من فوق السطح بثيابها المبللة ، تنزل تنتفض من البرد ، تتسلل وهى ترتعش من الخوف ، والذعر ، بعد أن سمعت صوت الجندى وهو يهدد صارخاً ، قبل ان ينطلق بسيارته :
– حذراً واحد منكم يلمس هالجثة .. حذار تقربون منها !
يمضى الجندى فى سيارته ، ينصف تصحبه اللعنات . والدعوات . فى حين يتجمع الجيران فى محاولات إغاثة لتلك الأم الثكلى والأسرة المغلوبة على أمرها ، التى فقدت واحداً من .. أعز شبابها ! !
الفصل الخامس والعشرون
وقفـة خاصــة !
يستمر إحتلال الكويت ، تستمر العمليات البشعة الظالمة ، تنهش نفوس أبنائها ، سواء فى الداخل أو فى الخارج ، الكل فى حالة رفض ، فى حالة إعياء ، فى حالة توتر ، فى حالة عذاب !
وفى الرياض .. تلك المدينة الأنيقة ، الهادئة ، يتطور الأمر ، يتضاعف حجم الخطر مرات ومرات ، حين تصبح تلك المدينة الرائعة على خط المواجهة مع العدو ، حيث تنطلق صواريخه تقتحم سمائها ، تسقط تهز أرضها ، فأخذ الناس يرحلون عنها إلى القصيم وجدة ، وتحولت المدينة الجميلة إلى جبهة على خط الناء .. !
نعم .. فها هو البيت المجاور لبيت نايف ، حيث تقيم سعاد وليلى وأمهاتهما والأطفال الصغار ، يقع عليه صاروخيدمر واجهته ! نعم .. أصبح البيت ، والمنطقة المحيطة به كلها معرضة للضرب ! وبدأت الأفكار تنادى أن يرحلوا عن موقع الخطر بالرحيل إلى القصيم أو جدة .
لكن .. الأب محمد ، أبو نايف ، يرفض الفكرة نهائياً فلا يتحرك أحد من أهل البيت من مكانه ، تبقى مذنة وأولادها ،ونورة وبنتها ، ومشاغل ، يدون جميعهم واجبهم ، كأحسن ما يكون فى الترحيب المستمر ، والتأهيل الدائم بضيوفهم الكرام ، حتى الأطفال الصغار ، فى منتهى اللطف والذوق مع أطفال سعاد ، فالمحبة والمودة سمة من سمات أهل هذا البيت الذين لا يقصرون أبداً فى حق ضيوفهم .
.. ولم تسنح الفرصة لليلى ، ولم تسمح الظروف لمشاغل لأن ترى واحدة منهما خطيبها ! فقد كان نايف مقيماً بصفة مستمرة فى المستشفى العسكرى ، فى حين كان خطيب مشاعل ضابطاً طباراً فى القوات العسكرية السعودية ، التى كانت فى حالة إستنفار ، أما سعاد فلم يخطر ببالها لحظة أن ترحل بعيداً عن مدينة الرياض ، رغم أن المدينة كلها كانت فى حالة تأهب فصوى ، فأغلقت أسواق العليا ، ومحلات شارع الستين ، حتى أصبحت مدينة شبه خالية !
وكانت الكآبة فى الشوارع المقفرة تنتقل منها وإليها ، كان واضحاً للجميع أن الرياض صارت مدينة على الجبهة ، وكانت هى المدينة الأولى التى يتم فيها تصوير هجوم الصواريخ شهدت قتالاً ضارياً عنيفاً هناك ، إنتهى بتطهيرها من قوات العد ببسالة ، مما جعل الشيخ أبدتها القوات السعودية والقطرية فى تطهير هذه المدينة وقال :
– إن مشاركة قوات من دول التعاون الخليجى فى عملية تحرير الكويت عمق اللحمة الخليجية الواحدة والترابط المصيرى المشترك فى وجه المعتدى الأثيم .
وكانت سعاد كعادتها ، لا تعلن ألمها ، ولا تكشف شدة حزنها على ابيها ، رغم أنها قد تلقت معلومات من الوطن فى رسالة جاسم إليها ، تفيد أن والدها واين أخيها قد أختطفا من قبل القوات العراقية ! وأنهما مازالا تحت الأسر ! لكن .. سعاد بكل عقلها وكامل وعيها ، كانت ترعف كيف تدراى عن الجميع آلامها ! فكانت تحاول أن لا تطهر معظم أحزانها ، كما كانت تدعو لجميع أفراد المقاومة ، ؟ان يحفظهم الله ، وان يحفظ الكويت وطناً عزيزاً حبيباً غالياً حراً بإذن الله .
فى الواقع سعاد كانت تؤمن فى قرارة نفسها إن الله لن يخذلها ، وان والدها وإبن أخيها سوف يعودان بإذن الله ، لذا .. تعايشت مع الحزن العميق الاليم بمنتهى القوة والتحكم والإقتدار ! نعم .. لم تشأ أن تظهر الألم اللعين بوضوح للمحيطين بها ، بل كانت تحرص على إظهار صورتها بطريقة طبيعية ، كى تحاول مساعدة كل من معها على التصبر والتحمل ، فالواقع الحالى بشع ، بغيض لذلك .. كان لابد من التصرف بذكاء ، وعدم الخضوع لسيطرة الحاضر بضعف وتخاذل .. إستسلام !
ظلت سعاد تنهمك فى العمل الوطنى بكامل طاقتها ، وقدرتها وأعصابها ، إلى ان أصبحت مشغولة للغاية ، حتى عن نفسها ، بنفسها! إلا أنها صارت مع الوقت فى حالة يرثى لها من القلق والروع .. ! صارت تعانى من الشعور بالخوف والفزع على الجميع ، وإن كانت فى نفس الوقت تحاول جاهدة أن تخفى تلك المشاعر المرعبة ، كى لا تؤثر على المحيطين بها !
لكنها .. فجأة ، طلبت من خالتها أم جاسم ومن امها ومن ليلى أن يسمحن لها أن تسمع أحدى أغانى عوض الدوخى لإنها تذكرها بوالدها ، فرفضن خوفاً عليها ، وعلى أعصابها ! لإنهن يعرفن أنه سوف تبكى مر البكاء ، خاصة فى هذه الحالة ، بعد أن عرفت إن والدها أسير ، لكن ، ترجو سعاد وتلح ، وهى تنهار باكية قائلة :
– تقولى لى لا ما راح تسمعين عوض الدوخى ؟! لا .. ما أقدر تحرمونى من أبوى .. كأنكم تقولون لى لا تشربين الشاى فى استكانة .. كأنكم تقولون لى لا تأكلين هامور .. كأنكم تقولون لى شبلى مجلة ” سيدتى ” لإنها تذكرنى بالكويت .. كأنكم تقولون لى لا تشوفين البحر لأنه يذكرنى بالكويت !!
وفى النهاية .. لم يقدروا أن يقسوا عليها أكثر من ذلك ، كان واضحاً أنها ستموت لولم تعطها خالتها الشرائط ، فتدخلت أمها لدى أختها وأعطوها لها .. فأخذت سعاد وهى تتنفس بعمق كأنما إسترددت حياتها .. ودخلت بها غرفتها ، حيث إستمعت إلى كل الشرائط التى تحبها والتى كانت دوماً تسمعها مع والدها منذ صغرها .. !
وبعد هذا البوح مع الذات ، وهذا السيل المتدفق من الحنين والذكريات ، تحس سعاد بالهدوء والإرتياح ، فتعود إلى نفسها تتمالك من جديد قدراتها ، وتسجل للإشتراك هى وليلى فى إحدى اللجان المتخصصة التى شكلتها اللجنة النسائية التابعة للجنة شئون المواطنين الكويتية بالسعودية ، والتى عليها أن تتولى مهام تلبية الحاجات الآتية واللاحقة لمرحلة ما بعد التحرير
وفى يوم .. دخلت عليها أمها الحجرة فوجدتها غارقة فى البكاء ، تنشج نشيجاً مكتوماً يقطع القلوب ، فحاولت تهدئتها ، لكنها لم تفلح ، إذا أرتمت سعاد فى حضن أمها باكية ، تنتفض من شدة الحزن والآلم وهى تقول شاكية :
– مانى قادرة يوماً .. مانى قادرة .. وين زوجى .. وين أبوى .. وين أخوي .. أنا خلاص ما عاد فينى أتحمل .. مانى قادرة .. مانى قادرة
تتأثر الأم تأثراً عميقاً يهز كل مشاعرها ، فتحاول تهدئتها ، وإن كانت هى الأخرى فى حاجة لمن يهدئها ، ويخفف عنها أساها وحزنها ، لكنها لا تنجح فى ذلك ايضاً ، لأن سعاد تعرف من الاخبار التى تخرج من الداخل ، إن زوجها الطبيب جاسم هو الذى يتكلم مع الاطباء ، ويخربهم بنتيجة اتصالات مع وزير الصحة الدكتور الفوزان الذى يعطيع التعليمات الصحية ، التى ينقلها جاسم بدوره إلى بعض الأطباء داخل الكويت المحتل .
فى الواقع .. أصبح جاسم فى خطر محيق ، بعد أن عرفت القوات العراقية كل شىء عنه ! صار لابد من خروجه من الكويت بأسرع وقت ! الصراحة .. كثير من الزملاء فى المقاومة ، والزملاء الاطباء ، بذلوا محاولات جسمية لإرغام جاسم على الخروج من الكويت إلا انه كان يرفض بشدة مقتنعاً بأن دوره الوطنى كطبيب يحتم عليه أن يبقى بجانب جرحاه الذى يحتاجون وان لا يتخلى عنهم بحجة إنقاذ حياته ، او بسبب الخوف على حياته !
.. ويظل هذا الرفض مسيطراً على فكر جاسم فترة طويلة ، إلى ان ينفذ رصيد الأدوية الذى يحتفظ به فى أماكن سرية متفرقة ! ينتهى الدواء عن آخره ، كما تنتهى كل المعدات المساعدة كالشاش والخيوط ، فلا يعود جاسم يجد ما يمكن أن يمارس به عمله كطبيب ! يصبح فى هذه الحالة فرداً عاديا مجرداً من أى قدرات خاصة ! إذن .. لابد من الخروج يا جاسم ، فأنت لم تعد فعالاً بالنسبة للمرض ، كما أنك أنت نفسك أصبحت مهدداً بالموت !!
آه .. أخيراً .. يلتقى الشقيقان ، عبد الله وسعاد بين ربوع المملكة العربية السعودية ، فتهدأ نفسية سعاد بعض الشىء وتحس قدراً كبيراً من الراحة والأمان ، بعد لقائها بأخيها واسرته ، وفضيلة وأمها بعد ان وصلوا كلهم سالمين بعون الله ، كما تهدأ بعد سماعها أخباراً مطمئنة عن زوجها وأخيها ، وأنهما بخير فى الكويت والحمد لله . تنتهد فى ارتياح .. تدعو الله ان يفيض عليها من كرمه ، وان يرفع الظلم عن أبيها ويفرج عنه هو وكل من معه ، وأن يقك ضيق كل محتاج .
وكانت دلال هى الأخرى مهددة بالموت ! كانت مطلوبة بدورها من القوات العراقية المحتلة ، ورغم ذلك لم تورع عن الحضور إلى جاسم فى مخبئه بمنطقة الرميثية ، وظلت تلح عليه :
– أرجوك يا جاسم .. طلع قبل ما تقع فى أيديهم ويصير فيك مثل اللى صار فى أخوى عادل اللى قاعدين يعذبونه ليل نهاء .. وإلا مثل اللى صار فى اخوى جمال .. عذبوه وهلكوه وبعدين قتلوه قدام أمى .. ! أرجوك يا جاسم أطلع .. ما تعطيهم هالفرصةة أنهم يعذبونك ويقتلونك .. حرام عليك يا جاسم ..حرام عليك نفسك وأهلك .. حرام عليك زوجتك وعيالك .. حرام عليك .
وهنا .. يضعف جاسم أمام دموع دلال ونجيبها الذى يقطع القلوب ، فيعدها قائلاً :
– خلاص دلال .. خلاص .. لا تبكين .. باطلع .. والله باطلع فى أقرب وقت .. بس أنت ديرى بالك على نفسك .. وخذى بالك .. لا تردين البيت الحين .. مهما وحشتك دانه .. تحملى دلال .. بس لا تخاطرين بحياتك .. أرجو .
يودع جاسم دلال ، وهو مقتنع تمام الإقتناع بأنها تغيرت .. تغيرت .. ! يحادث نفسه شارداً :
– صدق دلال تغيرت.. ! ما أصدق أنها تلح على عشان أطلع وأروح لسعاد .. تقولى لى حرام عليك زوجتك وعيالك ؟! مانى مصدق نفسى .. معقول دلال تتغير إلى هذا الحد ؟! معقول الحرب تغير الإنسان هالتغيير ؟!
يستغرق جاسم خواطره ، يظل شارداً يفكر متعجباً فيما آل إليه حال دلال ! وكيف بدلتها الظروف ، وغيرتها الاحداث ، يظل يفكر فى أمرها وهو فى قمة الحزن والألم من أجلها ، بعد فقدت شقيقها الاكبر جمال الذى كانت أبنتها تحبه وتعتبره والدها ، وفى نفس المخفر .. كانوا يعذبونه قدام بعض !!
يصحو جاسم من شرودة على صوت بدر يناديه بينما تتسلل دلال بحذر شديد ظن وهى تتشح بالسواد إلى مخباً آخر قريب ، وأفكارها كلها تدور حول أبنتها دانه ، التى حرمتها الاحداث منها ، وحالت دون رؤيتها ، رغم أنها تعلم أن امها مريضة ، مضطربة نفسياً ، وإن زوجة أبيها تعانى من نفس المرض ، وإن أختلفت درجته ، وهى اختها سناء ، ما تزال تتلوى من آلام الكلى المبرحة التى تعصرها عصراً .. !
لا تستطيع دلال أن تتمالك نفسها ، ولا أن توقف شلال دموعها ، التى أخذت تنحدر بشدة على وجهها ، وهى لا تعرف كيف تخفف شوقها إلى ابنتها .. حبيبتها .. صغيرتها .. دانة ! التى جعلت إحساسها بالذنب تجاهها ، يتضخم ، حتى كاد أن يفتك بكيانها .. !
نعم .. فى الحقيقة ، دلال مقتنعة كل الإقتناع بدورها الوطنى ، وبواجبها المقدس نحو وطنها الحبيب ، وهى لا تتردد فى القيام بأى مهمة قد تطلب منها ، أو توكل إليها .. لكنهافى نفس الوقت ، أم تشتاق إلى إبنتها الطفلة اليتيمة ، الوحيدة ، التى تعيش فى بيت يمتلىء بأشباح الحزن والخوف والعتاب .. !
كانت دلال كلما تخيلت معيشة دانة وهى وحيدة خائفة ، مذعورة ، لاتجد من يعطف عليها أو يأخذها فى أحضانه ليدفع عنها خوفها ، وليبدد ذعرها وهلعها ، كلما بكن وإنتحبت وتمزق قلبها ، فهى تعرف إن اختها سناء تخاف من خيالها ، وأى طقة فى الشارع تخليها تركق فوق السطح ، وتنط فى قلب التنكر ..!
وكانت دلال تعرف أيضاً أن امها ” مو صاحية ” وإن أم جمال زوجة أبيها ، هى بعد “مو صاحية” ! وكانت تعرف كذلك إن دانة تظل بروحها فى البيت وهى لا تعرف ويت تروح ، ولا مع من تتكلم ، ولا حضن من تختبىء .. ولا فى صدر من تجد الحب والحنان .. والامان من الخوف ، الذى تحتاجه ، وتطلبه .. وتطليه !
تنتحب دلال ، تظل تبكى وتنتحب ، وهى تدعو الله العلى القدير أن يكتب لها الحياة ، وان ينعم عليها بالسلامة وطول العمر من أجل أبنتها اليتيمة التى تحتاجها كى تربيها وترعاها وتعتنى بها .. فمن سيتولى أمرها بعدها ؟! .. تظل دلال غارقة فى بحار همومها ، وأحزانها ، وهى لا تعرف كيف تواسى روحها ولا كيف تعزى نفسها ؟!
يقوم بعض الشباب بإيصال المعلومات إلى جاسم ، فيخبرونه بوصول عبد الله إلى الممكلة العربية السعودية بسلام ، كما يخبرونه بمعلومات عسكرية تفيد بوجود جيش كويتى قوامه 18 ألف جندى يخدمون بالممكلة العربية السعودية ، كجزء من القوات الدولة ، إضافة إلى عشرين ألف كويتى يتدربون حالياً فى مواقع القوات الكويتية الامامية ، كما يصل الخبر أن عبد الله شقيق زوجته قد إنضم إلى لواء الشهيد هو وإبراهيم إبن خاله .. ويعرف جاسم أيضاً أن خالد أبن خاله الأصغر ، قد إنضم إلى سلاح الطيران التابع للجيش الكويتى ، بمنطقة حفر الباطن بالمملكة العربية السعودية ، بعد أن عرف بتمركز القوات هناك .
آه .. لم يعد هناك بد ولا مفر من الخروج يا جاسم ! .. الحكمة تقول : إعقلها وتوكل ، والمحافظة على الروح هنا واجب وطنى يتحتم إتخاذه ، لكن .. كيف الخروج إذن والطرق كلها مراقبة ونقاط السيطرة منتشرة فى كل مكان ، ولا يكاد يفصل بين واحدة وأخرى أكثر من مائة متر ؟! ما هو الحل إذن ؟! وما هو طريق النجاة والخلاص ؟! خاصة وإن جاسم أصبح مطلوباً بالإسم ، ومعروفاً بالصورة والشكل ، فهو بطل رياضى مشهور وصوره كثيرة ومتعددة !
آه لابد من الحيلة إذن !! لابد من تدخل بدر صانع المستحيل ليض خطة فنية محكمة تضمن هروب جاسم وخروجه سالماً من هذا المأزق الكبير الذى يتعرض له ، والذى يتهدده ، بعد أن أصبح فى حكم اليقين أن قوات الغزو تبحث عنه فى كل مكان ، وتريد القبض عليه بأسرع ما يمكن ، بعد أن صدر تعميم بأوصافه ، وطبعت صوره على منشورات تم توزيعها على كافة نقاط السيطرة .. ! .. ما الحل ..؟! ما الحل ؟!
يتفتق ذهن بدر عن حيلة ذكية بارعة ، ساعدته العوامل والظروف على تنفيذها ،
فقد كان عبد الله شقيقه قد قام بتزوير وتزييف عدة هويات إحداها كانت لضابط فى القوات الخاصة ، تلك التى إستخدمها من قبل عندما تدخل لإنقاذ جاسم ودلال وشباب المقاومة فى منطفة كيفان !
كان عبد الله بارعاً فى هذا الشأن ، تشهد له خبراته فى عشرات الهويات التى أنجزها لبعض الشخصيات المطلوبة لدى قوات النظام العراقى ، الذى لم يستطع الوصول إليها بعد ان إنتحلت تلك الشخصيات أسماء وشخصيات أناس بسطاء عاديين جداً وخارج نظاق وإهتمام المتابعة !
يضع بدر خطة متقنة محكمة ، لم يشأ أن يعلن عن تفاصيلها لأحد ، فالقوات العراقية تشن حملة إرهاب منظمة ضد المقاومة الكويتية ، والقتل مباح لمجرد الإشتباه ! والإعدام العلنى فى الساحات العامة صار شيئاً معروفاً ! فليس هناك ما يعوقه أو يمنعه ، كما أن القوات العراقية تشن هذه الأيام حملة مداهمة واسعة النطاق ، فتقتحم البيوت على ساكنيها ، وتنسف المبانى والمجموعات السكنية على من فيها !!
إذن .. لابد من الرحيل قبل الوقوع بين ايديهم ، فالوقت يضيق ، والزمن ليس فى صالح جاسم على الأطلاق ! كان هذا هو هاجس بدر الأكبر ، وكان هذا هو التحدى الأعظم لقدرات فنان يتقن المحاكاة والتقليد ، كما يقدر على التخيل والإبداع والإختراع والتنفيذ .. إنه التحدى الأوحد فى حياتك كلها يا بدر !! أن تقدر على إختراق الحدود وجاسم معك ، ورغم هذا التضييق المفروض على كل الطرق والأماكن ، والجسور ونقاط السيطرة ، ومنافذ العبور ، لكن .. كيف ؟! كيف ؟!
يرتب بدر كل شىء فيستسلم جاسم مرغماً لرغبته ، وإرادة جماعته من الشباب الوطنى المخلص ، فيتخلص من كل شىء يمكن ان يدل عليه ، يلبس دشداشة داكنة الون ويلف رأسه ( شريمبا) بغترة حمراء ، حتى يبعد عن نفسه إبحاء الرياضة ولعب الكرة ، فقد كانت صوره معروفة تماماً لدى مسئولى النظام المحتل ، الذى صاروا يعممونها على رجالهم المنتشرين فى كافة نافط السيطرة !
فكر بدر وحاول أن يغير من ملامح جاسم بعض الشىء ، ولكن للأسف ، باءت محاولاته كلها بالفشل ، لأن مواد التنكر التى كانت عنده إنتهت عن آخرها ! أه .. يا للحظ السيىء ؟ ما العمل ؟ لابد من الخروج الآن من الكويت بأٌصى سرعة ! لابد من إنقاذ جاسم ، فالأخبار إنتشرت فى كل مكان وأصبح معروفاً أن الدكتور جاسم الناصر ، صار مطلوباً لدى القوات العراقية بإعتباره رأساً كبيراً من رؤوس المقاومة الكويتية !
كانت المهمة شاقة وعسيرة إذا لم تعد لدى بدى أى وسيلة من وسائل التموية والإخفاء تساعده فى عملية إنقاذ جاسم ، او تغيير ملامح وجهه المعروف ، والمشهورة ، والتى تكاد أن تكون محفوظة عن ظهر قلب ! إذن .. لابد من التفكير فى خطة أخرى !
يطلب بدر على جانح السرعة دجاجة وحبلاً وقطعاً صغيرة من الخشب والورق ، وبعض الأربطة ، فيذبح الدجاجة ، ويضع بعضاً من دمها على رفبة جاسم ووجهه ودشداشته ، كما يقيد ذراعيه خلف ظهره كى يبدو كأنه خارجاً لتوه من غرفة تعذيب مستعيناً على ذلك ببعض السواد والهياب الناتج عن الورق والخشب المحترق !! عافية عليك يا بدر !
يرتدى بدر زى ضابط القوات الخاصة الذى يحمل هويته ، بينما يتكوم جاسم فى السيارة المرسيدس السوداء ذات الأرقام العسكرية ، راقد على الكنبة الخلفية وهو يتظاهؤ بالوهن والآلم من شدة الوجع الى يسببه إرتجاج السيارة ! يقترب بدر من أولى نقاط السيطرة فلا يهتم أن يقف ، فقط يحدق بقوة فى أعين الجند الواقفين ، ويمضى لا يلوى على شىء ، فى حين تؤدى له التحية العسكرية بهمة واهتمام وتعظيم ووجل !!
وهكذا .. يظل بدر يعبر نقظة تلو الآخرى ، والحظ فى كل مرة يخدمه فى ان الواقفين عليها يكونوا سوى جنوداً بسطاء عاديين يدينون بآيات الطاعة والولاء لضباط القوات الخاصة من الحرس الجمهورى بالذات ، هؤلاء الضباط الذين لا يستطيعون مناقشتهم فى أمر من الأمور ! أو مسائلتهم ، فى موقف من المواقف ! فقط ، ما عليهم سوى الطاعة المطلقة العمياء عند تنفيذ الأوامر ، دون أدنى نوع من التفكير فى الرفض أو الإعتراض ، مهما كانت نوعية هذه الأوامر وغرابتها ! كل ما عليهم هو الطاعة فقط لا غير ، فالسلطة هنا تصاعدية بحتة !
لكن .. آه .. ها هى إحدى نقاط السيطرة يقف مجموعة من الضباط ذوى الرتب العليا ، ففيهم الرائد والمقدم والعميد !! آه .. إنهم يستوقفون عدداً من السيارات بعرض الطريق ، مما أضطر بدر أن يقف مدة أطول من اللازم اتاحت لأحدهم فرصة أن يقترب من السيارة ويطيل النظر داخلها ..!
يحدق الضابط فى وجه جاسم الراقد على جنبه مدققاً فاحصاً ، وهو ينقل بصره بين الأوراق المطبوعة التى يحملها فى يده ، وبين وجه جاسم الذى يطيل النظر والتحديق إليه ! وما يلبث أن يصرخ منادياً على باضى الضباط ، مشيراً لهم أن يقتربوا بسرعة ثم ينحنى مدنياً وجهه من نافذة السيارة الخلفية ، وهو يحدق يعيينيه حيث يرقد جاسم الذى عممت قوات الغزو صورته على جميع نقاط السيطرة فى كافة أنحاء الكويت طلباً للقبض عليه حياً , أو ميتاً !!
الفصل السادس والعشرون
الحبيب الجريح
ينتفض بدر من شدة الغضب والإنفعال ، يفتح بسرعة زجاج النافذة الخلفية ، حيث ينحنى الضابط يحدق فى وجه جاسم ، يلتفت فى لمح البصر إلى الضابط الذى ما زال يدنى رأسه من السيدة ويبصق بقوة وعنف على وجهه ، فيرفع رأسه منسحباً على الفور إلى الخف منكمشاً على نفسه ، مبتعداً راجعاً إلى الوراء ، فى حين يجمد باقى الضباط فى أماكنهم ، لا يجرؤ واحد منهم على أختلاف رتبهم من الاقتراب من السيارة المرسيدس السوداء التى يقودها ضابط الإستخبارات الشاب الذى ينتمى إلى الحزب الجمهورى الذى تربط رجاله صلة قرابه حميمة بصدام حسين !!
يحرك بدر السيارة ، يخترق بصعوبة حصار السيارات الكثيرة المتراصة حوله وأمامه وهو يضغط بعنف وقوة على نفير الذى ينطلق علياً مدوياً يثير البلبلة والإرتباك حوله ، إلى أن تنلطق السيارة مسرعة تسابق الريح ! تعبر بإعجاز باقى نقاط السيطرة الآخرة بنفس الاسلوب ! بالعبوس ، أو الشتم ، أو السباب بلهجة عراقية متقنة ، أو البصق على الوجوه وهكذا ، إلى أن يتم خروجها إلى عرض الصحراء .. حيث بعرف بدر الطريق ، ويحفه عن ظهر قلب !
نعم .. يحفظ بدر الطريق عن ظهر قلب ، لأنه دائم الخروج والدخول منه ، فهو سبق وساعد خالد إبن خاله الطيار على الخروج للإلتحاق بجيش الكويت هناك / كنا ساعد كثيراً من الإخوان الراغبين فى الدخول إلى الكويت من شباب المقاومة ، فى بدأ الإحتلال ، منذ رجع وهو وجاسم وخالد من لندن وإنضموا إلى مجموعات المقاومة فى الداخل ،كذلك كان بدر عوناً كبيراً لكثير من أرباب الأسر الذين رغبوا ى الخروج والنجاة بنسائهم وبناتهم اللاتى خافوا عليهن من الوقوع ضحايا الإتصاب !
تصل السيارة بسلام إلى نقطة حدود السالمى ، فلا ينسى بدر أن يستبدل ملابس ضابط الإستخبارات العراقى قبل أن يصلها ، ولا يغفل أن يلقى بها فوق رمال الصحراء ، حيث تذروها رياح الشتاء الباردة ، ومعها الهوية المزورة ، كما لا ينسى أن يلبس دشداشة صوف كويتية ، وان يبرز هويته الحقيقية .. شاب كويتى .. يعشق الكويت . ويبذا الروح .. فداء الوطن .
صوف كويتية ، وان يبرز هويته الحقيقية .. شاب كويتى . يعشق الكويت ، ويبذل الروح .. فداء الوطن .
يصل جاسم إلى المملكة العربية السعودية حيث يلقى الود ، والأمان والحب ، والترحاب ، فيلتقى هو وبددر بالأهل فى بيت نايف ، يلتقى الجميع هناك ، فتنساب الدموع ، تنفجر المشاعر فى تلك اللحظات العنيفة اقاسية ، فلا يعود هناك مجال لكتم الحزن ، والأسى ، والألم ، فينتحب الكل لهذا المصاب الجلل الذى حل بهم ، ما بين إستشهاد فيصل ، إلى أسر منصور وأسر الرجال الطيبين أبو عبد الله وأبو جاسم ..!
فى الحقيقة .. كان مشهد هذا اللقاء العاطفى العاصف ، عنيفاً ، مروعاًً ، مؤثراً ، فالحزن عملاق يطغى على النفوس ، والكل فى بكاء وحيب يقطع القلوب ، ولم يعرف أحد كيف يمنع هذا الأسى من إحتلال المشاعر والأحاسيس ، لم يعرف أحد ,, ولم بقدر أحد !! حتى نايف نفسه لم يقدر أن يقضب نفسه ، ذوف الدمع هو الآخر تأثراً إنفعالاً ، وهو يرى لحظات العناق الحار بين الشباب عبد الله وجاسم وبدر الذى إلتقوا بعد عناء فراق ، وعذاب بعاد !
وبعد أن تهدأ النفوس ، يودع دكتور جاسم دكتور نايف ، كما يودع أهل البيت جميعهم ، ومن بينهم سعاد ، التى كانت تود وتتمنى لو انه تحيا طول العمر مع جاسم .. بلا وداع !
لكنها الحرب وظروف الأزمة الحالية تؤثر فيهم كلهم ، تؤلمهم تعذبهم ، تشقيهم ، تفرقهم .. فها هى الحين تباعد بينها وبين زوجها .. حبيبها ، الذى ما صدقت على الله أنها تشوفه وتقابله بعد كل هذا الغياب وهذا الخوف .. وهذا العذاب !
وكان الاطفال الصغار لا يقلون عذاباً عن الكبار بسبب هذه الحرب فها هم يقفون حزانى مضطربين متأثرين لفراق والدهم ، فيقفوا يلتفون حوله ، يعانقونه ، يقبلونه ، فى حين كان جاسم يحاول أن يصطنع المرح ، وان يغالب التأثر بنفسه ، وهو يحصن راكان بين ذراعيه ، الذى كان يبكى ويريد أن يخرج مع أبيه بعد أن شعر أنه يوشك أن يغادر البيت الحين .. ويتركه مرة ثانية !
أيضاً كانت أنوار متأثرة لفراقه وهاهى تطلب منه هذا الطلب بمناسبة عيد ميلادها القريب ، وتقول :
- يوبا .. خلى صدام يرجع منصور عشان يحضر عيد ميلادى .. قل له أنوار تقولك هى تبى منصور .. هو ليش يخليه عنده ؟! وقل له يترك جدى أبوك .. وأبو أمى عشان تبطل أمى تبكى .. خليهم يبجوا .. لا تنس يوبا .. زين ؟!
- زين .. زين .. على أمرك حبيبتى
أما احمد ، فقد كان يقف واجماً صامتاً ، فهو يعرف أن والده سوف يخوض حرباً عنيفة شرسة ضد عدو ظالم عنيد ، فكان يدعو الله فى سره أن يحفظه ويرعاه ، ويرده لهم سالماً منصوراً بإذن الله .
ولم ينس أحمد أن يعطى والداله مصحفاً صغيراً كان قد أشتراه خصيصاً له ، وهو يحضنه ويعانفه .. ويشد على يده بقوة .. ويسلم عليه سلام الرجال الأبطال !
ينصرف جاسم إلى لقاء وزير الدفاع الشيخ نواف الاحمد ، الذى يكشف عن أن الجيش الكويتى أقترب من إعداد لواءين كاملين إستعداد لمعركة التحرير ، وإن أحدهما قد إلتحق بالقرب من حدود الكويت ، فإنضم جاسم كطبيب يعمل لخدمة القوات العسكرية الكويتية ، فى حين ذهب كل من بدر وعبد الله ، للإنضمام إلى قولت المقاومة الشعبية الكويتية التى تخضع لتدريبات عسكرية معينة إستعداداً لمعركة التحرير .
.. تنكمش الأيام تكمن ، تقبع ، تتحرك ببطء ، كسلحفاة معتلة مريضة ، ضالة ، لا أحد يعرف وجهتها ، ولا أتجاهها ، فالكل يعانى مرور الساعات الكسيحة ، التى لا يعرف لها أحد بداية من نهاية ! الكل لا يعرف ماذا يمكن أن تسفر عنه الإحداث من مفاجأت !
تجلس النساء فى مدينة الرياض ، متشحات بالسواد ، غارقات فى الترقب ودموع البكاء ، فى حين كان الرجال كا فى موقعه يأمل ، يترقب ، ينتظر ذلك اليوم الكبير الذى يشاركون فيه فى تحرير الأرض ، وتخليص الوطن من المحتل الأثيم ، وعودة الشرعية إلى البلاد .
بمرور الأيام .. يكبر الأمل يعانق قلوب الناس ، فتدفاً أرواحهم رغم برودة الشتاء ، الذى جاء شتاءاً قارساً هذه السنة ، لكن ، تظل النفوس تهفو لتحقيق الرجاء بالخلاص من هذا الإحتلال البغيض الذى يشيع الشر حوله ، وينثر بذور الغدر والظلم والعدوان ، فتثبت أشواك الأذى تصنع سياج الألم والعذاب !
آه .. أنها القيود تكبل حرية الأنسان ، إنها الحواجز المضروبة تحاصر حلمه الجميل فى التحرير ، فى النجاة فى الخلاص ، أنها الأمنية الحلوة .. فى أن يعود الإنسان مرة أخرى إنساناً !
.. يجىء الليل ، ويجىء معه ظلام إسود دامس حالك ، يربض مع برودة الشتاء ، ورمادية الأجواء ، التى تحولت إلى سواد قاتم ! بعد أن شبت حرائق آبار النفط ، التى تم إشعال ستة آبار منها فى الأحمدى على سبيل تجربة التلغيم والتفجير ، ثم تلبث أن تزايدت إلى أن إشتعلت النيران فى 618 بئراً دمر منها 462 بئراً تدميراً تاماً !!
آه .. يتدفق النفظ بفعل التخريب من سبعة وسبعين بئراً ، حتى تكونت مياه الخليج حوالى مائتى بحيرة نفطية ، يتراوح سمكها مابين حوالى عشرة سنتيمترات إلى مترين ياالله ! يالظلم الإنسان لأخيه الإنسان ! ياللقهر عندما يطغى الإنسان ويتجبر ، فيحرق ثروات الخير والنماء والرخاء ..!
آه .. تبدأ رائحة الزيت المحترق تحاصر الناس حتى تكاد تخنقهم ، كما يتم حفر خنادق وإستحكامات على طول شاطىء الكويت فى حين تزرع الصحراء بالألغام ! كالجو العام سواداً فى سواد ، فالظلام دامس ، والكهرباء مقطوعة ، والليل يتساوى بالنهار فى البرودة وكثافة الظلام ، وزاد من عبء الحياة إنقطاع المياه أيضاً ، وإتصال الخوف ، بلا إنقطاع ، فى كل الأوقات ! !
كانت دلال فى حالة يرثى لها ببعد إستشهاد شقيقها جمال ، وإختفاء أخيها عادل الذى لم تعد تعلم عنه شيئاً ، منذ ذهب إلى بيتها لدفن جثمان جدتها ، إختفى عادل هو ومن كان معه من الشباب الذى لم يرجع واحد منهم لأهله ! ! لكنها كانت تلتقط بعض همسات تفيد بأنهم قد رحلو إلى أحد سجون البصرة بعد أن عذبوه فى مخفر حولى !
ولم يكن عادل وحده عو الذى تعذب .. دلال أيضاً كانت تتعذب بسبب مرض سناء أختها ، التى صارت تقاسى آلاما مبرحة فى الكلى ، إثر تعرضها المستمر للبلل فى مياه الخزان فوق السطح ، التى كانت شبه مثلجة بسبب برودة الشتاء الشديدة هذه السنة ! حقاً.. كانت دلال نفسها تعانى كل العناء بسبب الظروف المحيطة بها ، تلك الظروف الصعبة التى ازدادت صعوبة بعد سفر جاسم وبدر إلى المملكة العربية السعودية .
أصبحت دلال تعيش أياماً صعبة بعد رحيلهما ، صارت تعيش فى جو من الذعر والفزع ، فقد كانت متهمة بمحاولة تمرير السلاح لمجموعات المقاومة هناك ! لذا تركت البيت هاربة ، وإختفت من جديد فى منطقة بيان ، بعد أن عرفت أن قوات النظام العراقى تبحث عنها وتطلبها بالإسم ، لذلك كان من المستحيل أن تستمر دلال فى العيش فى بيتها فى العديلية ، بعد أن صار خالياً من الرجال ، وأصبح الحريم بروحهم ، وحدهم بدون رجل يحميهم !
الله فوق .. الله مع الجميع .
وعقب مرور الأيام والأسابيع فى هذا الشتاء الثلجى الهواء ، وبعد أن تستفيد كل الوسائل والسبل لإقناع صدام حسين بالإنسجاب وحقن الدماء ، وبعد أن انتهت المهلة المحددة للإنذار .. تصحو دانة ذات يوم وهى تصرخ من شدة العرب والفزع بسبب أصوات الإنفجارات التى بدأت تسمع فى كل مكان !
كان الخوف عاتياً عارماً ، فالنيران ترتفع فى الفنادق والمدارس ، التى أحتوت مراكز الذخيرة الخاصة فى القوات الخاصة ، ولم تكن دانة وحدها هى التى تعيش الفزع . كان كل من فى البيت فى نفس الحالة من الإنفعال ! حقاً .. لم ينم أحد يوم الإنذار ! ظلت المقاومة حتى آخر لحظة مستمرة ، وظل العصيان مستمراً ، فالجدران ما تزال تنطق بالشعارات الساخنة التى تكتب فى الليل وتمزق أعين المعتدين فى النهار ! تطعنهم فى الصميم !!
الكويت للكويتين لا حاكم إلا جابر كويتنا حرة
كلنا للكويت والكويت لنا عاش جابر وعاش سعد
يا كويت عزك عزنا أنا كويتـــى أنا
نموت وتحيا الكويت الله والوطن والأمير
و.. يعاود الليل إرخاء سدوله ، فى حين ترتفع إرادة شعب حر كريم ، يأبى أن يستسلم للعدوان ، يرفض الهوان ، شعب ينبذ اليأس ، والغبن ، شعب يأبى ألا أن يموت ويحيا الوطن .. عاش الوطن .. عاش الوطن
وتظل تضىء جدران الوطن رغم الظلام ، عبارات تشع النور والحق والأمل والرجاء .. تنقطع الكهرباء .. فتلمع الشموع ، تبرق القلوب .. تظل تضىء بنور الإيمان .. الله أكبر الله أكبر .
يستمر المطر والبرد ، وأصوات الرصاص والبنادق الآلية تخترق السمع ، ترهق النفس بضجيجها ، يضم الليل أذنيه عن صرخات الإستغاثة ، ودوى الإنفجارات ، والأصوات الصاخبة التى تزلزل الارض ، وتزلزل معها المبانى ، فتهتز الإبواب والنوافذ فى المنازل ، وتنخلع لها القلوب خلعاً ..!
يرتفع بكاء دانة وعويلها ، يرتفع يجرح النفوس ، يدمى القلوب وهى تركض خلف أم دلال وأم جمال فى كل أنحاء البيت تبحث مثلهن عن ملجأ ، عن مأمن ، عن مخبأ ، فهى خائفة بعيداً عن أمها التى لا تجرؤ على العودة إلى البيت لتأخذها فى حضنها ، تطمئنها ، تهدئها ، تخف عنها ذعرها ، تزيل عنها خوفها ورعبها !
أما سناء التى كانت تحنو فهى ما تزال تختبىء فهى ما تزال تختبىء فى مكمنها فوق السطح ، الذى يحيطه الظلام الدلمس فى منتصف الليل وفى عز النهار ، والذى ينهمر المطر فوقه ممتزجاً يلزوجة الزيت المحترق . انها مذعورة هى الأخرى ، لا تقدر ان تنزل إلى البيت خوفاً من الإعتقال والوقوع بين أيدى جنود صدام الذين لا يعرفون الرحمة ، ولا يتورعون من الإغتصاب .. !
تتصاعد سحب الدخان الأسود النبعث من النفط المحترق ، تسمع أصوات المجنزرات والسيارات والشاحنات العسكرية ، وهى تتحرك فى فوضى هيستيرية بعد إنذار بوش النهائى الذى كانت مدته 48 ساعة تنتهى عند منتصف الليل !
ويعطى قائد القوات المشتركة الجنرال نورمان شوارتزكوف وصاحب السمو الملكى الفريق أول ركن خالد بن سلطان بن عبد العزيز قائد القوات المشتركة الضوء الاخضر لشن الهجوم البرى لتحرير الكويت الذى تم على مراحل متتابعة .. الله أكبر .. الله فوق المعتدى
تبدأ معركة التحرير .. يسمع الجميع أصوات المدافع ، القنابل ، القذف ، الطائرات ، البارجة الأمريكية تقصف الشواطىء الكويتية ، تبدأ قوات مشاة البحرية الأمريكبة ، والقوات المشتركة فتح الثغرات فى الدفاعات العراقية ، فى حين يقوم سلاح الطيران بالتحليق فوق سماء الكويت ..!
تخترق القوات المشتركة فى المنطقة الشرقية ، ومشاة البحرية الامريكية إلى الغرب منها ، خط الدفاع العراقى الأول بسرعة كبيرة دون أن تواجهها مقاومة تذكر .. تدور رحى المعركة ، تستمر ، والخوف وأراد من أن تصبح هذه القوات هدفاً للمدفعية العراقية .. ! وقبل حلول ظلام يوم 24 فبراير تنجح هذه القوات فى إقتحام خط الموانع الثانى ، فى حين كانت نيران المدفعية العراقية تقوم بالقذف المتصل !!
تستمر أكبر معركة برية فى التاريخ ! يستمر الهجوم البرى لتحرير الكويت .. يتقدم جاسم ضمن القوات البرية المشتركة بكامل عدادة فى زيه العسكرى ويده على زناد بندقيته ، فى حين يحلق خالد ابن خاله فى إحدى الطلعات الجوية ، يقصف الكويت وعينيه تدمع ، وقلبه ينعصر حزناً ، لأنه يقصف وطنه ! تدمع عيناه وهو يحى الكويت تحته .. يقبل بقلبه أرضها ، يتمنى أن تلمس قدماه ترابها .. بعد طول غياب وحب .. وإشتياق .
تنساب دموع الناس فرحاً وتأثراً .. تمتزج التهنئة بحرب التحرير مع الفرحة والبكاء والنحيب ! يجلس الأهالى فى السراديب يسمعون إذاعات العالم اجمع ، فى حين يتحمس الاطفال لرؤية الطائرات تدق معقل العدو ، تشن الحرب على ما تسبب فى الظلم والعدوان . الحمد لله . كل شىء وله أوان ، وكل ظالم له نهاية .. مهما طال الزمان !
وفى تلك الساعات الحامسة ، يتراجع الفليق العراقى الثالث إلى مدينة الكويت بشكل فوضوى ، فيشترك مع قوات الإحتلال الموجودة فى المدينة فى أعمال السلب والنهب ! وتبدأ تجوب أرجاء الكويت الباصات والسيارات العسكرية تشن حملة إعتقالات جماعية فى الأماكن المزدحمة ، حيث يتجمع المواطنون ..!
فى حين أخذت قوات الإحتلال العراقية تدمر المنشأت الحكومية والمبانى العامة ومجلس الأمة ، بينما بدأت تنسحب الآليات العسكرية العراقية على الطريق السريع الشمالى الذى تحول بفضل الضربات القوية والقصف العنيف إلى .. طريق الموت ..!
ويقول المتحدث باسم قيادة القوات المشتركة الجنرال ريتشارد إن قوات الإحتلال العراقية قامت خلال الساعات القليلة الماضية بحملة إعدامات فى الكويت ! شملت أعداداً من الكويتين وخاصة من بين الذين تم تعذيبهم وذلك حتى تخفى أى دليل على التعذيب !
يستمر القذف الذى ترقب سناء أضواء نيرانه من فوق السطح ، وهى تستمر فى البكاء ، ولا تنقطع عن الدعاء ، من قلب مكلوم محسور ، فها هى قد ترملت بعد أن إستشهد زوجها الضابط فى معارك معسكرات الجيش فى الجيوان لحظة إقتحام العدو أرض الوطن ، وهاهر صارت مريضة الحين ، صار فيها كلى !!
تستمر سناء فى الدعاء من قلب جريح برىء ، يدعو الله أن ينصر الكويت ، وأن يحرر الكويت وأن يتغمد الله برحمته أخيها جمال ، وأن يدخله فسيح جناته ، وأن يعيد أخيها عادل ، وأن يمن عليها الصحة والشفاء ، من هذه الآلام المبرحة التى لا يطاق ، وأن يشفى أمها ، وخالتها أم جمال ، وأن يحفظ دانة وأمها ، وأختها .. حبيبتها .. دلال .
تتضخم الأصوات ، ترتفع جلبة وضوضاء شديدة خارج البيت ، تتزايد أصوات الشاحنات والآليات العسكرية ، وأصوات الجنود المنهزمين ينادون بعضهم العبض فى إرتباك وفوضى .. تبدأ تتحرك السيارات فى شكل فوضوى وعاجل ، تظل أم دلال ترقب الوضع من خلف ستائر نافذة الغرفة النوم فى الطابق الثانى ، ثم ننزل إلى الحوش ، وما تلبث أن تدخل البيت خشية أن تصيبها شظايا القصف المستمر !
فى تلك اللحظة .. انت دلال بيان ما تزال تتوارى عن الأنظار فى المخبأ هناك ، وهى لا تدرى ماذا تفعل .. فخوفها على إبنتها دانة يكاد يقتلها ، وضميرها كأم يشقيها ويعذبها لأنه تركتها وحيدة بعيدة عنها فى ذلك الوقت المرعبة المخيف ، آه .. أكيد دانة خايف الحين .. خايفة .. آه .. أنها لا تدرى ماذا تفعل .. لا تدرى .. لا تدرى .. وتنهار دلال فى بكاء ونحيب متصل رهيب .. !
آه .. إنها لا تدرى لماذا خطر جاسم ببالها فى تلك اللحظة بالذات ؟! أنها لا تدرى حتى نوع الشعور الذى يختلج فى قلبها فى هذه اللحظة ؟! بالتأكيد ليس عشقاً ، وليس شوقاً ، وليس حباً .. فماذا يكون إذن ؟! ولماذا تفكر فى جاسم فى هذا الوقت ؟! أنها لا تدرى .. ! وربما لأن دانة تحبه ، وربما لأنه تحتاج إليه كأب بديل يقف بجانبها يمنحها إحساساً حانياً بالأبوة ، والأمان ؟ إحساساً ملحاً تحتاج اليه الآن ؟! ربما .. لأن وجود رجل قوى كبير إلى جانبها فى هذه اللحظات الحرجة لا يساويه شعور آخر فى الدنيا فى مثل هذه الظروف .. خاصة بعد إغتيال جمال الذى كانت دانة تحبه كل الحب !!
وفى نفس اللحظة .. تفكر سعاد فى جاسم أيضاً ، تفكر فى إحتياجها إليه ، فى إحتياج أولاده إلى وجوده معهم ، بينهم ، فى هذا الوقت العصيب ، فالخوف والقلق ينتاب الجميع بعد أن بدأت المعركة البرية ، وبدأت الاخبار ترد إليهم أولاً بأول عبر شاشات التليفزيون ، فها هى التصريحات حول سير المعركة تصلهم بإستمرار ، فتطمئن القلوب وتهدأ النفوس ، ويكبر الأمل ، ويتضاءل الإحساس بالخوف ولترقب والقلق !
تدعو ليلى من قلبها ان يتحرر الوطن ، وأن يحفظ الله الرجال الأبطال الذين يشاركون فى المعركة ، وأن يرجع الكل سالماً معافياً ، بإذن الله ، بإذن الله ، تدعو ليلى من قلبها للجميع ، كما تدعو لخطيبها الدكتور نايف الذى يقوم بواجبه الوطنى فى معالجة جرحى الميدان ، وكذلك مشاعل أخت نايف ، تبقى تدعو الله أن يرجع الجميع بالسلامة ، وأن لا تصيبهم الحرب بدئها الخبيث ، تدعو الله ان يرجع الجميع بالسلامة ، وأن لا تصيبهم الحرب بدائها الخبيث ـ تدعو الله راجية أن يعود خطيبها الضابط فى القوات البرية فى سلاح المدرعات السعودى سليماً معافياً بإذن الله .
تمضى الساعات بطيئة ، الكل يحبس الأنفاس فى إنتظار اللحظة الحاسمة ، والنفس تعانق الأمل المتوهج الذى تحبه . تريده . ترعاه . فاللحظة المتوقعة شديدة الإيقاع على القلب .. لحظة تحرير الكويت .. ترجف الروح فى أنتظار سماع الخبر الكبير .. أنها الامنية الحالية الغالية تحوى كل أحلام الإنسان المقهور المظلوم ، إنه التطلع إلى الغد السعيد .. إلى الأمل الجديد .. آه .. ما أقسى الإنتظار !
ينتظر الجميع فى تلهف وشغف أن يأتى الخبر الذى يروى القلوب العطشى إلى نبع الحياة ! تنقضى لحظات تذوب النفس فيها ، فلا مصدر لها إلا تلك القوى الغربية التى تتبدى فى عمق اللحظة .. أنها قوة الإيمان ، وصلابة اليقين ، برجوع الحق إلى أصحابه المظلومين . الحمد لله .. الحمد لله رب العالمين .
يستعيد شعب الكويت والفرحة بنشوب حرب التحرير تملأ القلب نشوة ، والروح بهجة ، يستعيد كلمة صاحب السمو أمير البلاد ، حين قال فى رسالة وجهها لشعب الكويت :
إنا علينا الآن أن ننظر إلى المستقبل بمنظار الأمل المشرق ، فلتمتلأ قلوبما بالإيمان ونفوسنا بالثقة ، ولنكن يداً واحدة لبناء كويت تشع نوراً وخيراً وتنشر المحبة والإخاء والسلام فى ربوعها وبين أشقائها وأصدقائها .
والله سبحانه وتعالى يوفقنا ويسدد على طرق الخير خطانا وهو نعم المولى ونعم النصير
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تستمر المعركة البرية بكل نيرانها وأسلحتها وذخائرها .. تنهال قذائف المدفعية المضادة من جانب العدو على القوات المتقدمة لتحرير الكويت ومن بينهم جاسم الذى يندفع بكل فرح وحب نحو الأمام ، يحدوه الأمل والحماس والإحساس بالكرامة والشرف فى المشاركة فى معركة تحرير الوطن .. تستمر المعركة .. تطول اللحظات .. تطول .. حتى تتحول دهراً فى عمر الزمان !
وفى الرياض يجلس الجميع يتابعون سير المعركة ، وهم فى عاية التوتر والإنفعال ، لكن . تغفو سعاد قليلاً رغماً عنها ، فالإرهاق والتعب فى حل بها ، إذا لم يغمض لها جفن منذ فنرة طويلة ، لكنها تصحو من نومها مفزوعة والدموع تبلل وجهها ! وهى تنتفض بشدة وتحس أنا أنفاسها تختنق ، وقلبها ينقبض ، وخوف غامض فظيع يغرق صدرها ، ومشاعر مرعبة مبهمة لا تعرف مصدرها أو سببها تحتاج روحها ، وقلق عارم يخترق وجدانها ،
- جاسم .. جاسم .. صار فيه شىء .. جاسم صار فيه شىء !
بعد ذلك بقليل .. يخرج دكتور نايف مستمراً مكانه ، وهو ينظر فى دهشة وذهول إلى وجه هذا الجريح الغارق فى دمائه ، المغطى بالضمادات ، التى تكشف بعض الشىء عن ملامحه . كان هذا الراقد أمامه هو صديقه الحميم .. جاسم الناصر ..!
الفصل السابع والعشرون
كواكب التحرير
كانت لحظات عنيفة مباغتة .. لكن ! ما يلبث نايف أن يتمالك أعصابه بسرعة ، فيأمر بالتجهيز لإجراء العملية فى الحال ، وإستدعاء أكثر من طبيب مساعد ليكونوا معه أثناء هذه الجراحة الطويلة التى يحاول خلالها إستخراج الشظايا من جسد جاسم .
.. كانت العملية طويلة ، طويلة ، وكان نايف مستمتيتاً فى بذل كل جهوده لإنقاذ حياة صديقه ورفيقه ، فالشظايا كثيرة متناثرة فى الجسد الشاب مما أدى إلى تهتك العضلات ، وإحداث جروح قطعية متعددة ، وإصابة إحدى فقرات الظهر .. !
حقاً .. كانت العملية من أكثر العمليات تعقيداً وصعوبة لأن الخطر هنا يتضاعف عدة مرات ، فالأعصاب مشدودة متوترة ، لأن المصاب هنا صديقاً ، عزيزاً ، غالياً ، من أخلص أصدقائه ، ومن أقرب الناس إليه .. !
كان جاسم قد أصيب فى المعركة البرية إصابة بالغة نتيجة إنفجار إحدى الدانات المعادية التى أطلقتها المدفعية العراقية ، مما سبب له الإصابة بأكثر من عشرين شظية فى أماكن متعددة من جسمه ، أسالت دمائه الطاهرة ، ولحسن حظه لم تكن إصاباته قاتلة إذ أنه كان خارج حدوده الدائرة المؤترة للإنفجار ، لكنها أثرت على ساقيه ويديه فأصابته بشلل مؤقت ، ومنعته من الحركة ومن إستخدام يده وساقيه بصورة مثلى !
وبالرغم من إصاباته المتعددة ، إلا انه حاول جاهداً الإستمرار فى عمله ، وتقديم قدراته الإنسانبة فى معالجة الغير ، لكنها وصلت به فى النهاية إلى عدم القدرة على التحمل مما أدى إلى ضرورة إنتقاله بعد ان كان معالجاً لأن يكون هو نفسه تحت العلاج ..!
وهان قام بعض زملائه بحمله على أكتافهم إلى أقرب ساتر ترابى ، ثم طلبوا من قيادتهم سرعة إستدعاء سيارة إسعاف ، ولم يؤثر فيهم على الإطلاق نيران العدو التى قد تعرضهم لأخطار الإصابة ، إيماناً وحرصاً منهم على بقاء زميلهم الطبيب ذى الأصابع الذهبية التى تساهم مساهمة إيجابية فى سرعة وعلاج وشفاء زملائهم الذى يتعرضون للإصابة فى العمليات الحربية !
وأخيراً .. نجحوا فى توصيل زميلهم إلى اقرب نقطة إسعاف ، حيث قدمت له الإسعافات الأولية ، ونتيجة لضخامة الإصابات المتعددة بجسدة ، أمر بأخلائه إلى أقرب وصل إلى مستشفى القاعدة بطائرة هليوكوبتر ومناه نقل إلى المستشفى العسكرى بالرياض بطائرة هليوكوبتر مجهزة على هيئة مستشفى ، حيث قام الطبيب المرافق بالإتصال للإبلاغ عن الحال قبل الوصول.
تهبط الطائرة ، فيتم نقل جاسم بعربة الإسعاف إلى التروللى الذى يحملع إلى غرفة العمليات ، حيث رأه صديقه الحميم الطبيب نايف الذى أجرى له تلك العملية الحساسة ، التى أتضح خلالها أنه قد أصيب بعدد كبير من الشظايا التى بات معظمها داخل الأعصاب ! والتى تأكد بعد الفحص أنه فى حاجة إلى عدة عمليات لإستخراج تلك الشظايا والربط على العصب لإيقاف النزيف الداخلى ، وللكشف على الطحال للتأكد من سلامته ، كذلك لفحص الكبد والتأكد من عدم إصابته .
.. يأتى نايف البيت زيه العسكرى ، يسمع الجميع صوت السيارة الجيب العسكرية ، يدخل مسرعاً متهجماً .. تتوجس سعاد خيفة ، وهى تترقب خبراً تتمنى أن لا تسمعه ، وهاجساً مخيفاً يفور داخلها ، يثير رعبها ، وفزعها .. !!
– عسلا الله يجعله خير .. عسى الله يجعله خير ..!!
تنقلب الدنيا ، ينتشر الخبر بسرعة البرق ، يعرف الجميع أن جاسم الناصر اصيب إصابة بالغة ، وإنه يصارع الحياة والموت فى هذه اللحظات داخل غرفة العناية المركزة فى المستشفى العسكرى بالرياض !
فى الواقع ، كانت الجراحة التى أجراها الدكتور نايف فى غاية الصعوبة ، والمهارة ، والمقدرة ، فقد قام بإستخراج ما لا يقل عن عشرين شظية من جسد جاسم ، إلا أن بعض هذه الشظايا لم يتمكن هو أو زملائه من إستخراجها وإستقر رأيهم على تركها فى أماكنها ، حتى لا تسبب لجاسم آلاما فوق آلامه ، إلى أن تحين الفرصة المناسبة مستقبلاً لإستخراجها.
ترك دكتور نايف بعض الشظايا بعد أن استقر رأيه هو ومجموعة من الاطباء على ذلك ، لأنهم يرون أن هذا الوضع هو الافضصل بالنسبة لحالة جاسم ، مع أنهم يعلمون تماماَ أن تركها قد يؤدى إلى بعض الآثار الجانبية وإصابته يشلل حركى فى بعض أجزاء جسده لفترة زمنية ، لكنهم فضلوا ذلك لأنهم لو استخرجوا كل مكا فى جسده من شظابا دفعة واحدة ربما تعجز قدراته عن تحملها .. وقد يؤدى بحياته نهائياً !
حقيقة .. لقد تمكن الدكتور نايف من تقديم أقصى قدر من العلاج الطبى .. وبعد أن شعر الدكتور نايف أنه د أكثر مما يمكن نقديمه لصديقه الحميم ، وأنه لم يعد هناك شىء يمكن أن يقدمه له سوى الوقت الذى يستلزمه العلاج الطبيعى المكثف لتقوية عضلات الظهر الذى أوصى به إستشارى جراحة العظام الذى رأى ضرورة إخضاع جاسم له ، بدأ دكتور نايف يرتب لذلك بالإتفاق مع إحدى المستشفيات المختصة فى الولايات المتحدة الأمريكية .
وبهدوء ودماثة الطبيب المخلص الصديق ، وبدون تضخيم وبدون تخويف أوضح الدكتور نايف لسعاد حقيقة حالة جاسم الصحية كما ورت بالتقرير الطبى الذى سلمه لها ، فأخذته بيد ترتعش وبدأت تقرأه بصعوبة بالغة ..
تقرير طبى
الإسم : جاسم أحمد الناصر
الجنسية : كويتى
تاريخ الميلاد : 28/10/1955
التشخيص : …. …. ….
…. …. ….
…. …. ….
وقفت سعاد تقرأ التقرير المشتمل على الفحوصات الخاصة بجاسم ، التى تحتوى على نتائج الأشعة المقطعية للفقرات الصدرية والقطنية ، واختيار العصب الحسى ، وتخطيط العضلات .. بينما أخذت الدموع والأحزان والأشجان تنسج على عينيها غشاوة حالت دون أن تعى فى النهاية غير كلمة بشعة واحدة … شلل …شلل ..شلل !!
يوصى دكتور نايف أم أحمد بأن تلازم جاسم خلال فترة العلاج فى أمريكا ، يشرح لها ضرورة مرافقته طوال هذه الفترة لأنه فى أمس الحاجة إلى الحنان الذى لن يتحقق إلا بوجودها بجواره ، وخاصة أنه سوف يعرف قريباً أنه قد أصبح غير قادر على الإستمرار فى تقديم واجبه المقدس وعاجز زملائه المحاربين ..!
صراحة .. لم يكن جاسم يتصور مدى حجم إصابته بالرغم من كونه طبيباً ! لم يكن يدرك الوضع الصحى الذى صار عليه ، لذا كان يهوى على نفسه أنه سرعان ما سرعان ما سيقوم على قدميه ، وستكون له القدرة مرة أخرى على الإستمرار فى تقديم واجبه الإنسانى تجاه أخوانه المحاربين ، لكنه ، فوجىء بأنه قد اصبح غير قاجر على تحريك قدميه ..وساقيه .. وحتى تحريك أصابعه ..!
وفى هذا الوقت ، بعد إنتشار الخبر الذى إنفجر كالقنبلة أخذت الدعوات تتصاعد من قلوب تحب جاسم أكثر من روحها ظل الجميع يدعون له راجين من الله أن يهبه الحياة والصحة وطول العمر ، تنهمر دموع سعاد كما ينهمر المطر ، يختلط الحزن بالنحيب والرجاء ، والدعاء بالعويل والبكاء ، الكل يدعو لجاسم بالنجاة من المحنة الصحية الصعبة .. الكبار والصغار والاطفال ..
يختلط الحزن بالفرح .. والكويت تتحرر ، تتعافى ، تتخلص من آثار الجناة الظالمين ، وجاسم مازال راقداً ، لا يدرى شيئاً عن الدنيا ! غائباً عن الوعى لا يستطيع أن يشارك فرحة التحرير التى كان ينتظرها من كل قلبه ، والتى كان يتمنى أن يشارك فيها بنفسه ، لكن .. كانت لطمة الواقع أقوى ، فها هو مازال طريح الفراش مشلولاً عاجزاً ، غير قادر على الحركة على الإطلاق !
آه .. مشاعر غريبة متضاربة ، تتراوح بين الحزن الشديد ، والخواف على جاسم ، وبين الراحة الكبرى ، والفرح الغامر بعودة الكويت محررة من الأعداء ، الذين إندحروا ، وإسحبوا ، بعد أن أعلنت الخبر الإذاعات العربية ، والعالمية وبعد أن أعطى رئيس النظام العراقى أوامره للجيش فى لكويت بالإنسحاب فوراً !
الله أكبر .. الله أكبر .. الخبر اكبر من أن يصدق !
الإذاعات تتوالى .. الخبر يتكرر :
أعطى الرئيس النظام العراقى أوامره للجيش العراقى بالإنسحاب فوراً من الكويت !
تنفجر دلال فى البكاء وهى تحضن أمها التى لا تكف عن إطلاق الزغاريد ، فى حين تظل دانة تدور حول نفسها ، وهى تضحك وتبكى ، بينما تقرأ سناء آيات الذكر الحكيم على روح زوجها الشهيد ، وأخيها البطل الذى مازال منظر دمائه ماثلاً على الأرض أمام عينيها !! وتسهب فى الدعاء من أجل نجاة أخيها عادل الأسير ، أما والدتها فقد عجزت عن النطق والحركة ، وإن لم تنقطع عن الصراخ والصياح والبكاء والعويل !
لا ينام أحد الليل .. الكل يريد أن يطمئن إلى صحة الخبر ، لكن للأسف .. الهواتف مقطوعة ! يسهر الجميع الليل فى ترقب وإنتظار وما يلبث أن يبرغ الفجر .. فجر الحرية والخلاص والإنتصار ! وما تلبث أن تشرق الشمس .. شمس الفرحة .. شمس الحرية .. شمس الحياة !
يدق الجيران عليهم الباب وهم يصيحون ويصرخون فى فرح حقيقى وصخب بلا حدود .. ردت الكويت .. ردت الكويت ! الحمد لله .. الحمد لله.
تخرج دلال وسناء ودانة تستقبلن الجيران الذين تجمعوا فى الشارع وفى الحوش أمام البيت ، يهنئون بعضهم بعضاً بفرحة رجوع الوطن ، وهم يدفعون الأعلام وصور الأمير وولى العهد الامير ، وشعارات وهتافات عالية مدوية تخرج من الاعماق .. تملأ الحناجر .. تحرك القلوب .. عاشت الكويت .. عاش جبر .. عاش سعد .
تظل تدور الأيام ودلا تنهمك فى العمل فى إحدى دور الرعاية للمعوقين تتابع حالة إبنتها دانة التى أصيب من جراء أهوال الحرب بتلعثم فى الكلام وثل فى اللسان ، إستدعى علاجها طبياً ، كما كانت مشغولة تماماً بمتابعة حالة أمها التى ثبت أنها مضطربة نفسياً ، إمكانياتها المفقودة ، وتسترد طاقاته وقدراتها على العمل
كانت دلال نفسها فى حاجة مساة إلى الوقوف مع نفسها من جديد بعد عبور هذه المحنة العنيفة ، اتى أثرت فيه تأثيراً عميقاً ، والتى أحست إثرها بتغيرها الداخلى ، بعد أن زالت الغمة ، وبدأت الحياة تعود شئياُ فشيئاً لطبيعتها ..!
وبالفعل ، تبدأ الامور تنتظم ، تبدأ تتخذ الترتيبات اللازمة لبدأ عودة الكويتين الموجودين خارج حدود الوطن تدريجياً إلى الكويت .. إلى حضن الوطن .. كما تبدأ الامور ترجع إلى طبيعتها ، بعد أن تو وقف إطلاق النار نهائياً فى حرب الخليج .
وفى المملكة العربية السعودية يستقبل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز سمو ولى العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله الصباح وعو يقول له :
– إن الأيام أثبتت أن الكويت والسعودية بينهما ود وإتصال لم تشبه شائبة يوماً من الأيام ، وإن زادت هذه الاحداث هذا الإلتصاق والإلتفاف ، وسوف تزيدها خيراً مما كانت عليه .
فى حين يؤكد سمو ولى العهد ورئيس مجلس الوزراء إعتزار الكويت حكومة وشعباً بمواقف خادم الحرمين الشريفين إيزاء العدو العراقى الغاشم على الكويت ، وقال :
– إن العلاقة بين السعودية والكويت سوف تشهد فى المستقبل القريب مزيداً من التعاون والتلاحم فى جميع الميادين الإقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية .
آه .. حقاً .. المواقف صنعت ملاحم من البطولة سوف يعتز بتدوينها التاريخ ، وها هى عاصفة الصحراء تعتبر بجميع المقاييس ملحمة بطولية لقوى التحالف هذا ما يؤده نائب رئيس الأركان العامة اللواء الركن خالد جابر الصباح ، الذى شارك فى رفع العلم الكويتى ، على أول أرض كويتية من أرض الوطن يتم تحريرها وهى النويصيب المركز الحدودى الكويتى الذى قام رجال الكويت الأبطال بأداء صلاة الشكر لله والحمد لله كما قاموا بتقبيل الأرض الطيبة التى طالما أشتاقوا وتمنوا أن يخطوا فوقها وأن يطأوا ثراها .. ! حمد لله .. حمداً لله .. ردت الكويت .. ردت الكويت .
كذلك فعل اللواء الركن خالد جابر الصباح ، الذى شارك فى الأعمال العسكرية التى حررت الكويت بقيادة الجنرال شوار تزكوف ، وصاحب السمو الملكى الفريق أول ركن خالد بن سلطان بن عبد العزيز ، الذى كان يتعامل طوال مدة الحرب بحسة الدينى والعربى والإنسانى ، إلى جانب قادة القوات الأخرى البريطانية والفرنسية والمصرية والسعودية وبقية الأخوة من دول مجلس التعاون الخليجى دون إستثناء ، سواء فى غرفة العمليات المشتركة ، أو فى القيادات المتقدمة ، وما تم إتخاذه من كافة الإستعدادت والخطط .
وكان الأبناء الكويت الذين شاركوا فى هذه الحرب دور اساسى ، فقد كان الجميع ينظرون للشهادة على انها شهادة على ارض الكويت ، واكنت الفرحة عظيمة فوق الوصف والتصوير والتعبير عندما تقدمت القوات المتحالفة ، وأخذت تعانق أرض الكويت ، حيث رفع علم الكويت الحرة المستقلة فى إحتفال مهيب ، أقيم وسط العاصمة شارك فيه أفراد القوات المسلحة الكويتية ، الذين قاموا بأداء النشيد الوطنى وسط جموع الجماهير التى إحتشدت تعبر عن الفرحة الغامرة وهى تصفق ، وتهتف ، وتهلل ، فى سعادة بالغة بهذا الإنتصار الكبير !
يرفع العلم الكويتى فى ساحة الصفا ، حيث دخلت القوات المشتركة مدينة الكويت ، تصاحبها قوات المقاومة الوطنية الكويتية ومكان يقف بينهم بدر وعبد الله وإبن خالهما إبراهيم وسط هتاف ، وتصفيق وتهيليل الجماهير الغفية التى غمرتها الفرحة بهذا الإنتصار الكبير .. حمداً لله .. حياهم الله .
تستمر السيارات تتحرك تحمل الفرحة إلى كل القلوب ، والاعلام الكويتية تخفق عالياً فوقها ترفرف شامخة تحت سماء الكويت وهوائها .. ومياه البحر تعانق أرضها ، تبارك لأهلها ، أه .. لوحة فرح حلوة ترسم السعادة على قلوب عاشت طويلاً تنتظر هذه اللحظة الحلم ! اللحظة الأمنية ! لحظة عناق المواطينين لفرحة تحرير الوطن ! لحظة تنطلق فيها أصوات الرجال بالإذان :
الله اكبر .. الله أكبر
أه .. الحمد لله .. أخيراً تتحقق الأحلام . أحلام العودة إلى الكويت المحررة , وكان خالد واحد من هؤلاء الحالمين بالعودة إلى أرض الوطن ، كان يشعرها من عل رغم أن الطائرة كانت تحلق وسط سحب مظلمة سوداء ! .. كان يدمع حزناً وفرحاً وشوقاً ، وهو يحلم باللحظة الأمنية التى تطأ فيها قدماه أرض الوطن الذى ظل يقلبه بعينيه وقلبه ، وروحه ، وهو يحلق تحت سمائه بطائرته العسكرية يقصف معاقل الظلم وجحافل العدوان .. !
لكن .. لأسف ، لم يتحقق الحلم الذى طالما راود خياله ، فقد فقدت طائرته فى إحدى الطلعات الجوية .. ولم تعج إلى القاعدة بعد إقلاعها .. وبقى خالد فى عداد المفقودين ، الذين قدموا أنفسهم فداء الوطن .
وفوق أرض الوطن .. تألق الحب الحقيقى ال1ى يربط بين المواطنين والوطن ، فى لحظة شوق وعناق خالص ، صادق ، صاف .. فى لحظة حب جارف ، عارم ، غامر ، أخذ الرجال خلالها يكبرون ويهتفون ويؤذنون فى حين أخذت تنطلق زغاريد النساء تنشر البهجة والفرح ..!
يتجمع اهل الكويت مع جنود التحالف عند مبنى السفارة الأمريكية يلتقطون الصور مع الجنود ، يقدمون لهم الهدايا والحلوى . فى حين ترتفع أعلام الكويت وأعلاه أمريكا .. آه .. هذا هو الفرح الكبير .. الكبير .. الحمد لله .. الحمد لله .
الكل فرحان ، الكل مبتهج ، لكن .. سناء .. ما تزال تبكى ، أنها حقاً لا تقدر ، لا تستطيع أن تكبت إنفعالها ، فتنهار باكية وهى تندفع تحو صورة صدام حسين تلقى عليها الحجارة ، وهى تبكى جمال شقيقها الكبير الذى قتله جنود الطاغية ، وعادل شقيقها الصغير الذى أسره زبانية صدام .. ! وفى الحزن ، وهذا الرثاء ، لا تنسى أن ترفع سناء رأسها إلى السماء ، داعية ، راجية ، ان يحفظ الله الكويت .. وشعب الكويت .
تظل الهتافات ، والمظاهرات ، تدور ، تلف ، مصحوبة بفرحة التحرير ، فتشمل العديد من العواصم العربية والاجنبية ، حيث تتجمع أعداداً زاخرة ، من الشعب الكويتى تعبر عن الفرحة ، الفرحة النابعة من قلب القلب .. الحمد لله .. الكويت حرة .. الحمد لله .
وفى تلك الأوقات التى عم فيها الفرح بتحرير الكويت معظم العواصم العربية ، والعالمية شهد شارع جامعة الدول العربية فى حى المهندسين بالقاهرة حشداً هائلاً من الشعب الكويتى والمصرى ومعظم الشعوب العربية التى شاركت الكويت فرحتها وبهجتها . الله .. ما أحلى ساعات الفرح !
.. كان الكل فى الشارع الكبير يتسابق فى الهتاف ، والرقص ، والغناء ورفع الأعلام ، واليفط ، واللافتات ، وكان أبو جمال وسط هؤلاء يرفع العقال يلفه فى يد ، يرقص به ، بينا يرقع بيده الأخرى علم الكويت خفاقاً عالياً .. ناسياً متناسياً فجيعيع فى ولديه ، الشهيد جمال .. والأسير عادل ..!
ورغم الحزن ، رغم الأسى ، رغم الجرح ، كان الفرح كبيراً .. كبيراً ، عظيماً .. عاتياً .. مدوياً ! تعبر الفرحة النفوس تاركة وراءها الأمل والرجاء فى تصحيح الاوضاع ، نحو غد مشرق حافل بهج ، غد عامر بالخير والحب .. والرجاء .. والعطاء . وتبقى تطوف الفرحة بتحرير الكويت كل شوارع الكويت ، فترتفع اعلام الكويت خفاقة عالية فى ساحة الصفاة ، تخفق تحت سماء الوطن ، ترفرف فوق رؤوس أبناء الوطن ، وأصدقاء الوطن .. هؤلاء الرجال البواسل الذين ساهموا فى تحرير الأرض .. والإنسان !
وفى هذه اللحظات الحاسمة ، الحانية ، تنطلق من الأفواه والحناجر ، كلمات تنتع من القلوب ، تهتف من الأعماق :
وطنى الكويت سلمت للمجد وعلى جبينك طالع سعد
يا مهد أباء الاولى كتبوا سفر الخلود فنادت الشهب
الله أكبر إنهم عرب طلعت كواكب جنة الخلد
وطنى الكويت سلمت للمجد وعلى جبينك طالع السعد
الفصل الثامن والعشرون
اشباح العذاب !
تدخل دلال بيتها فى السالمية .. تقف فى صمت ووجوم وأسى ، إلى الجدران القاتمة الصامتة ، وبقايا الأثاث المبعثر الذى تناثر فى كل مكان ! تعود دلال تنظر إلى أرضية البيت ، فتتصور شكل أمها وجدتها وما حل بهما ، وعلى صوة رأتهما بعد تلك المداهمة الملعونة ، فيمتلىء وجهها رغم برودة الشتاء بحبات عرق ساخن تزيحها بأطراف أصابعها ، وسرعان ما يتساقط فوق جلدها ، فيغرقها فى تيارات من الذكرى المريرة الأليمة ، التى لا ققب لها بإحتمالها ، فتسيل دموعها ، ولا تعرف كيف توقفها ، ولا كيف تمنع سقوطها !
تقف دلال ساكنة جامدة فى مكانها .. ترقب فى وحشة وخشية الصالة الواسعة وقد أحست بها صندوقاً معدنياً صغيراً ، يعصرها ، يطبق عليها ، يخنقها ، يسحقها رغم أنها تعرف أن تلك الجدران قد تحررت من أسر المعتدي ، وتخلصت من زبانية صدام ، هؤلاء المجرمين العتاة الذين جعلوا البيت معتقلاً يضم جدرانه صنوف التعذيب والعرب والهوان !!
نعم .. مالزال هواء البيت مشحوناً بعذاب الذكرى .. آه .. جو لا يطاق .. فالخوف ملتصق بالنوافذ والأبواب والجدران !! تنظر دلال فى قرف ونفور لإلى المقاعد المحطمة والكنب المكسر والتائر المحترقة الممزقة ، تتلفت حولها وهى تشعر برغبة عنيفة فى تغيير كل هذا الأثاث ، الى يحمل أثار الإحتلال ، فمازال حطامه مشحوناً بأنات الألم ، وحريق الأحزان !!
حقيقة . آثار الإحتلال . وعذاب العدوان وهوان الهوان / ما تزال تجثم على النفوس ، ما تزال تبقى تطحن القلوب ! آه .. إن الآثار باقية .. باقية ، حتى وإن أختفت المسببات ، فهاهى الحقن الفارغة متناثرة على الأرض ، والله وحده يعلم ما إذا كانت مليئة بالإيدز أم الموفين ! وهاهى أمواس الحلاقة ، وأعقاب السجائر تملأ المكان ، وهاهى بعض السكاكين الحادة والأسلاك وبقايا الثياب الممزقة المليئة ببقع الدماء الجافة ! وها هى الحبال التى كانوا يستخدمونها فى بط وتقييد الأسرى !! وهاهى بعض القضبان المعدنية والزجاجات المهشمة .. و.. و..و ..و ..و .. ألخ .. ألخ .. !!
تجرى بسرعة من مكانها تتجه إلى الحمام ، تتقيأ ، تفرغ ما فى أمعائها .. تستند إلى الجدار تلتقط أنفاسها .. وهى تتلفت تنظر حولها .. فتفاجا بوجود أسطل قذارة مقززة تزيدها غثيياناً وهلعاً وعذاباً ، وهى ترى الأسنان والضروس والاظافر والشعر والدماء الجافة السوداء تغطى الارض داخل الحمام وتتناثر بقعاً فوق جدرانه الصفراء ..!
تزداد دلال شحوباً ، وغثياناً ، وقشعريرة رهيبة تخشن جلدها ، فيق رعباً شعر رأسها ، وصرخات العذاب وأنات الألم ، تدوى تنقب قلبها وهى تتخيل عادل شقيقها وكيف كان يتلوى من الألم والوجع والتعذيب ، وهو ورفاقه الأبطال ، هنا .. داخل بيتها !!
تزداد دلا رعباً وهى تلمج أشباح العذاب تحوم داخلها تلتف بالظلام ، بالسواد والأسلاك والدماء ، وهى تملأ المكان كله الذى تحول من بيت مبهج إلى قبو مظلم مخيف !! قبو غرق فى ظلمات الليل .. وطيات العرب .. ودموع الألم .. الذى يستحق قدرات
الإنسان !
تحاول دلال بكل ما تملك من قوة ومقدرة أن تتحمل هذا الهول الذى تعيشه هذه اللحظات الحارقة ، تتصبر على ما ترى وهى تفكر فى مخرج لهذه الازمة التى تعيشها ، فهى لازم ترجع مع أمها وإبنتها لتعيش فى بيتها .. بعد أن انتهت الحرب .. ولابد أن تعود الامور إلى ما كانت عليه قبلها ..!
وهنا .. مع الصمت واظلام والسكون ، تحس دلال ثقل الوحدة ، وبشاعة الذكري ، وهول الآبة ، ورعب الظلام ، فتشن الهخجوم ، عليها جحافل الأحزان ، وأشباح العذاب ، فقشعر بدنها هلعاً ، وفكرة رهيبة بشعة تهجم هى الأخرى عليها بدروها ..!
نعم .. تنتقض دلال جزعاً وفزعاً يقشعر من الرعب بدنها ، لهول هذه الفكرة الرهيبة التى دهمتها ، وسيطرت على عقلها ، فى هذه اللحظة العينة ، التى جعلتها تتساءل فى هلع وجزع وجنون :
– يجوز أمى تكون على حق ! يجوز تكون جدتى صحت عقب ما تركنا البيت وخليناها بروحها ! يجوز تكون طلعت تدورنا وهى ما تدل الطريق .. ولا تدرى وين إحنا !!
آه .. تتنهد دلال جازعة مهمومة حزينة وهى تناجى خواطرها :
– يجوز تكون صحت من غيبوبة السكر ولما شافت العراقيين قدامها تكون سبتهم ولعنتهــم ؟!
يجوز يكونوا طقوها مرة ثانية وأخذوها وياهم وأسروها ؟! آه . ما ادرى . ما آدرى .. بس قلبى يأكلنى عليه .. صدق .. يجوز أمى عندها حق .. كان لازم نتاكد من موتها قبل ما نروح ونخليها ! بس .. حنا كنا خايفين .. كنا مرتبكين .. ما كنا عارفين شنو نسوى ولا وين نروح !! وما كنا نتوقع أن جثتها تختفى ..وإن عادل ما راح يقدر يدفنها .. ما كنا نتوقع إن هذا الموقف راح يصير أبداً .. ما كان نتوقع !
تشعر دلال بأسى دفين ، وهى تغوص فى ذكريات حياتها التى تقطعها بالنظر إلى الواع الذى آلت ، وذاك الواقع القاسى الذى يظهر الآن على حقيقته بالقرب منها ! واقع صارخ صريح يجعلها تنحنى تحت وطأة الظروف ، واقع يحاتج إعادة النظر إليه من جديد ، والبحث فى سلبياته ، وضرورة الوصول إلى إيجابياته !
آه .. كم مضى من الزمن عليها فى محنتها هذه ؟! تنظر دلال إلى ساعتها ، وسرعان ما تفيق من شرودها ، فتطرد عنها أشباح عذابها وحزنها ، تقف وعيناها مسلبتان ، وجفناها مسدلان ، ودمعها ما يزال يسيل ، تستعيذ دلال بالله من الشيطان الرجيم ، تقرأ سورة الناس :
– بسم الله الرحمن الرحيم ” قل أعوذ بربد الناس .. ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس من الجنى والناس ”
صدق الله العظيم
ترفع دلال ناظريها ، ترفض أن تصر على أن تأمل الجدران القاتمة حولها ، رغم أن عينيهات ما تزال تدمع ، فتمضى تفتح الباب ، تخرج إلى الطريق ، تقود سيارتها متجهة إلى جمعية الهلال الاحمر الكويتية ، حيث تتلقى مع الطبيب النفسى … دكتور نجيب الذى تطلب منه المساعدة والعون ، لإبداء الرأى فى حالة أمها وإبنتها وإخيها عادل الذى رجع من الأسر بعد أن حررته بعض فصائل المعارضة العراقية ، وأطلقوا سراحه مع عدد كبير من السجناء بأحد السجون فى العراق ، عند بدء حرب التحرير !
يصل دكتور نجيب ، حسب الموعد المتفق عليه مع دلال ، التى تجلس فى صالة البيت تحب به ، ثم تبدأ تشرح له حالة خالتها أم جمال ، وأمها ، فى حين وقفت دانه تنظر إليه فى خوف من بعيد ، أما عادل ، فقد كان قابعاً فى غرفته ، يغلق بابها عليه ، رافضاً أن يخرج منها ، ويظل يهذى طوال الوقت صارخاً
– جمال .. جمال .. لا .. لا تطقوه .. تركوه .. فكوا أخوى .. لا .. لا .. لا تحرقوه .. لا تكهربوه .. خلوه .. خلوه .. جمال .. جمال !
يشتد صراخه ، يرتفع صياحه ، ثم ينهار فى بكاء رهيب ، وما تلبث أن تنتابه حالة هياج عصبى عنيف تجعله يركض فى الغرفة يرتطم بالجدران ، يصطدم بالأثاث ..!
.. وحين فتح باب الغرفة ودخل عليه دكتور نجيب لتهدئته وفحص حالته ، إذ به ينتفض
خائفاً ، راجعاً إلى الوراء مذعوراً منه ، بل .. ومن أى شخص أخر يدنو ويقترب منه ..
حتى أمه !
.. تعود دلال تجلس فى الصالة مع دكتور نجيب بعد أن خرج من غرفة أخيها عادل تجلس تشرب دموعها مع الشاى ، وهى تشكو حالها الدكتور نجيب فى تأثر شديد ، وبكاء متصل مستمر :
– ما أدرى شنو أقولك وإلا شنو أحكى لك .. مدرتنا الحرب .. خربت نفوسنا .. وانت الحين دكتور نجيب راح تشوف بنفسك حالة بيتنا .. وراح تشوف سنو صاير فى أهلى .
تنتهد دلال ، وهى تلتفت وراءها ، كأنها تخشى أن يسمعها أحد من أفراد أسرتها ، ثم تعود وتتابع حديثها :
– ترى أما ما ادرى أبتدى بمن فيهم .. ولا أعف شنو أحكى .. لا شنو أوصف لك .. مانى عارفة بمن أبتدى .. ببنتى وألا أمى وألا اختى وألا أخوى وألا زوجة أبوى اللى من يوم ما انقتل ولدها الشاب جمال قدام عنيها .. وهى صار فيها هياج عصبى صارت تكسر كا شىء قدامها .. وهى تصرخ وتبكى .. وراح عقلها مرة واحدة وحنا مو عارفين شنو نسوى وياها .. نخاف يصير فيها شىء ! حنا خايفين عليها .. وخايفين منها بنفس الوقت ! دكتور .. أرجوك ساعدنا .. ساعدنا .. ! ترى ما عاد فينى شدة ولا قادرة أتحمل .. مانى عارفة أروح لمين ؟!
.. تنهار دلال فى بكاء شديد وهى تقول له :
– حتى أنا نفسى دكتور رغم إنى قاعدة أقاوم الضعف فى نفسى .. وأظل اتعلق بحبال الأمل .. إلا إنى مرات أحس بنوبات ضعف حادة تصيبنى .. مثل الحالة اللى انا فيها الحين .. مرة أحس إنى قوية وقادرة على كل شىء بفضل الله .. ومرات أحس إنى رايحة مرة واحدة .. وما فينى شدة .. ولا صبر .. ولا تحمل .. !
تتابع دلال حديثها وهى تشعر بأنها كما لو كانت تدلى بإعتراف يريحها ، يخفف عنها عينها النفسى ، ويزيح بعض العذاب عن قلبها ، تعود تتكلم مع دكتور نجيب ، تسأله عن سبب توترها وإضطرابها :
– أعتقد دكتور نجيب إنى مانى صاحية .. أعتقد إنى أنا محتاجة لعلاج نفسة مثله ..!
ويقرر دكتور نجيب أن افراد أسرة دلال بحاجة ماسة إلى علاج نفسى ، كما يقرر أنه لابد من الأنتظار بعض الشىء إلى ان تعود لخدمات الصحية إلى سابق عهدها .. وفى نفس الوقت يطمئن دلال ، يؤكد لها أنها انسانة قوية ، قدرته تصمد ، وتتحمل ، وأنها ربما تعانى الآن بعض الشىء من تأثير الاحداث .. إلا أن حالتها لا تدعو للقلق نهائياً والحمد لله…
تسعد دلال بما تسمع ، ويسعدها أكثر وأكثر أنها تشعر بتفجر قوتها الكامنة ، وإنطلاق قدراتها الذاتية فها هى تحس ثانية أنها قادرة بفضل الله على مواجهة أعباء الحياة ، وتحمل كل همومها وحدها !
تظل دلال تفكر وتفكر فهى تعرف أنها تعرضت لإمتحان شديد ، كما تعرف أن الضغوط التى تعرضت لها كانت ضغوطاً رهيبة هائلة ، لا يقدر كثير من الناس على مقاومتها ، والصمود أمامها ، فهى تدفع إلى الأضطراب والإهتزاز .. لكنها لن تستسلم .. لن تستسلم .. هى قوية بعون الله ، وستعرف كيف تغالب الضعف وتثبت فى موقعها ، وكيف ترفض أن تكون شخصية مضطربة مهزوزة .. هى ستحارب الوهن فى ذاتها ، وهى لن تعجز عن ذلك حتماً وستعرف كيف تنقذ بعون الله !
عندئذ .. يبدأ صوت هامس يلح داخل دلال ، يدعوها للحركة ، يدعوها لأن ترفض معاناة تأثير الصدمة النفسية القاسية ، وذاك الفزع الذى ظلت تنتفسه طوال الليل والنهار ، أثناء فترة الإحتلال .. ! وهنا .. تذكر دلال على الفور كلمات سمو الامير ، الوالد الغالى الحبيب ، حين قال فى رسالة وجهها إلى كل فرد من شعب الكويت :
– أيها الإخوة والاخوات :
إن علينا الى أن ننظر إلى المستقبل بمنظار الأمل المشرق ، فلتمتلأ قلوبنا بالإيمان ونفوسنا بالثقة ، ولنكن يداً واحدة لبناء الكويت تشع نوراً وخيراً وتنشر المحية والإخاء والسلام فى ربوعها وبين أشقائها واصدقائها
والله سبحانه وتعالى يوفقنا ويسدد على طريق الخير خطانا وهو نعم المولى ونعم النصير .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تظل دلال تسترجع كلمات الوالد الحبيب ، سمو الأمير ، مرات ومرات ، فتحس بالإرتياح العييق .. نعم حينئذ ، تشعر دلال أن قلبها قد إمتلأ إيمان ، ونفسها قد حفلت بالثقة والامان ، وأنها تستطيع أن تنظر بالفعل نحو المستقيل بمنظار الأمل .. بدلأ من نظرات اليأس والقنوط والإحباط ..!
نعم .. بدأت دلال تنهض من جلستها الكنبية المحبطة ، بدأت تسعى نحو تحقيق الذات عملياًَ ، بدلاً من أن تستمر فى تعذيب نفسها بالنظر نحو الماضى ! نعم . صارت تسعى بكل جهدها ، لتأخذ حقها من الحياة ، ولأن تعطى ما تسخو به لمن حولها ، دون أن تذوب فى بحار الوحدة والتية ، والإنسحاب من الحياة !
فى الواقع .. ثبت لدلال بما لا يدع أدنى مجالاً للشك أنها تغيرت ، تغيت ! أصبحت قوية قادرة على مواجهة الواقع وماحربة الشعور بالحاجة والإحباط داخل نفسها ، نعم مهما كان الامر ، ومهما كانت الظروف فهى ستفتدى الآخرين بجياتها ، وسوف تناضل الحياة من أجل أسرتها .. ولن تهمل فرداً واحداً منها ، وأنها بعون الله قادرة على هزيمة اليأس ، ومحاربة الضعف .. وأنها سوف تعرف كيف تصنع لنفسها دوراً هاماً وحساساً فى هذه الحياة
تظل دلال تنتظر بعين الرجاء أن تتحسن الظروف ، لتبدأ فى علاج أسرتها التى تاعنى آلاما نفسية وعضوية بشعة رهيبة مبرحة بسبب الحرب المدمرة التى كشفت لهم عن وجهها البشع القبيح ، ذلك الوجه المرعب المخيف الذى أفرز خوافاً ساحقاً حطم نفوسهم .. وها هاى نتائج آثاره السيئة تظهر عليهم الآن شيئاً ,, فشيئاً !
لكن هناك فى المستشفى العسكرى فى الرياض ، بينما كان جاسم فى فراشة مغطى بالأربطة ومحاطاً بكل أنواع العناية وشتى صنوف الرعاية والإهتمام ، لاحظ جاسم أن هانك إهتماماً زائداً عن الحد يدور حوله ! بالإضافة إلى إتصالات دائبة تعود كلها لتشخيص حالته ! كما لفت نظره كثرة دخول وخروج زملائه الأطباء المترددين عليه إلى جانب حركة زوجته ! وأخته وأولاده وأسرته ! !
وفى موعد الزيارة التالى ، عندما حضرت سعاد بدون الاطفال حسب رغبة جاسم ، وحسب رغبتها هى أيضاً ، كى تبقى مع أطول فترة ممكنة ، دون أن يسبب له الصغار ضجة وضوضاء تزعجه وتضايقه وخاصة ما قد يسببه أحمد بالذات الذى كان يتحدث مع أبيه فى كل الأمور ، ويناقشه فى مسائل حساسة قد تسبب له حرجاً عندما يتكلم فيها أو يشعر بالألم على وجه إبنه الكبير وهو ينظر فى حزن إليه خلال رقدته على السرير وهو مغطة بالضمادات !
.. حينئذ أخذ جاسم ينظر إلى زوجته طويلاً بعينيه العميقتبن السحيقتين ، اللتين يجيد التحدث بهما واللتين لا يخفى تاثيرهما على الآخرين .. من خلال نظراته العميقة الناطقة النافذة المعبرة .. جون حاجة إلى أحرف وكلمات !
ينظر جاسم إلى سعاد وهو يحاول أن يكون متماسكاً قوياً كما إعتاد دوماً أن يكون ، يقول لها ، وهو يركز بصره على عينينها ، ويطالع مؤخرة السرير ، محدداً لها بعينيه .. ما يريد .
لأنه بمجرد أن يقرأها سوف يعرف كل شىء ! سوف يكتشف فداحة إصابته ! سوف يعرف أنه قد أصبح مشغولاً !!!
ولم تفلح المحاولة إزاء إصرار جاسم وإلحاحه على الإطلاع على التقرير .. تظل سعاد راكعة على الأرض ، تحول أن تلملم نفسهها ، وإن تلتقط أنفاسها ، وهى تسمع صوت جاسم يناديها بإلحاح يرحق قلبها ، يجرح إحساسها :
– سعاد .. إعطينى التقرير .. أرجوك سعاد .. إعطينى التقرير .. سعاد .. .. .. !!
لا تحمل أعصاب سعاد صوت جاسم الخافت الواهن وإلحاحه المتصل ، ورجائه المستمر .. ! كما لا يحتمل قلبها العاشق رءيته راقداً ضعيفاً هكذا أمامها .. لا حول ولا قوة ! .. لا تحتمل أعصاب سعاد رؤية جاسم طريحاًَ فى فراشة ، أسيراً بين أربطة ضماداته محروماً من صحته .. مجرداً من عافيته ..!!
تنهض سعاد وهى لا تقوى على حمل الأوراق التى سقطت منها على الأرض ، فتبعثرت .. وتناثرت حولها ! وإذ الدموع التى كانت تخفيها ، والتى كانت تحاول جاهدة أن تبلعها ، وأن تداريها ، وأن تواريها ، إذ بها تنهمر كالمطر .. وإذ بسعاد تنفجر كالبركان فى بكاء حارق ملتهب ، وهى ترتمى على جاسم ، تقبل رأسه ، تمسح وجهها فى شعره ، وهى تنتحب وتقول له من بين أنفاسها المتقطعة الممزقة :
– أنا ما راح أخليك يا جاسم .. ما راح أخليك يا جاسم .. أنا ايديك ورجليك .. راح أكون العمر كله تحت رجليك .. وأنا مهما فعلت ومهما سويت ماراح أقدر أرد لك يا جاسم ذرة واحدة من اللى أنت عملته لوطنك .. انا لك يا جاسم والشر مش لك .. انا لك والشر مش لك .. !!
الفصل التاسع والعشرون
دموع القمر
تمر الأيام فى قلق متزايد ، فحالة جاسم الصحية خطيرة ، متدهورة ، يعمل دكتور نايف ومجموعة من الاطباء المستحيل لإنقاذه ، تتخلع قلوب الجميع خوفاً عليه ، تتصل الصلاة بالدعاء ليل نهار من أجل جاسم :
– اللهم إنا لانسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه .
تستمر النفوس الجازعة تطلب من الله أن يمن على جاسم بالصحة والشقاء .. حمداً لله ، يتجاوز جاسم أخيراً مرحلة الخطر ، ومرحلة الشعور بالصدمة ، ويصبح فى حاجة إلى بدء العلاج الطبيعى ، بعد أن اصبح عاجزاً عن النطق ؟؟!
تهدأ المخاوف قليلاً على جاسم تطمئن سعاد بعض الشىء لأنه بدأ فى التحسن ، تسجد لله شكراً أنه حى يرزق وأن اله قد كتب له النجاة ، كما ترتاح ليلى وتنزاح عنها مخاوف الشعور بالخطر على أخيها والحمد لله . أما أم جاسم فقد كانت معلقة بين الحياة والموت وروحها لا تبرح أبنها ، حتى أنها نسيت كل همومها ، بعد أن أنصبت مشاعرها وتركزت على جاسم .. ومصير جاسم .. !
أما الحين .. فهى تشكر الله فى كل صلاة ، وهى تسبح بحمده ليلاً ونهاراً على نجاة ابنها من موت محقق أكيد .. حمداً لله ، وفى نفس الوقت تبدأ ترتيبات عودة المواطنين إلى الكويت ، التى إتخذتها السلطات الكويتية بعد التحرير ، لكن .. ما تزال سعاد فى مأزق لأنها مع جاسم ، وجاسم يحتاج إلى علاج طبيعى طويل والحالة الصحية فى الكويت لم تزل فى حاجة إلى إعادة البناء ..!
نعم .. الظروف داخل الوطن لا تسمح الحين بمتابعة مثل هذا النوع من العلاج الذى يتطلب عناية خاصة ، وأجهزة معينة غير متوفرة الآن فى مستشفيات الكويت التى نهبت عن آخرها !! لم يترك الغزاة فيها شيئاً ، لا أدوية ، لا أجهزة ، لا معدات ، ولا حتى أطباء ، قتلوا عدداً كبيرأ منهم وإعتدوا على الكثير منهم ، وعلى أفراد الهيئة التمريضية الذى تناقص عددهم بشكل رهيب مما أثر وما زال يؤثر على الحالة الصحية فى الكويت !
تشعر سعاد بصعوبة الموقف ، فخالتها أم جاسم تود العودة إلى الكويت ، لأنها سمعت أن كثير من الأسرى الكويتين قد رجعوا بعد أن حررهم ثوار المعارضة العراقية الذين ذى رتبة عالية فى الجيش العراقى إستطاع أن يحرر وحده عدداً كبيراً من أسرى الكويت يتراوح ما بين ستمائة إلى سبعمائة أسير ، كان قد أخذ قوائم بأسمائهم وأطلق سراحهم ، وكانت أم جاسم ترجو الله أن يكون زوجها من بينهم إنشألله
أيضاً .. كثيراً من أفراد المقاومة الشعبية فى الكويت ، إستطاع إطلاق سراح إعداد كبيرة ممن كانوا معتقلين فى المخافر والمدارس ، والمشاتل ، والبيوت ، والقصور ، والاندية الرياضية ، حمداً لله . تم تحرير كثير من الأسرى ، وعسى أن يعود الباقون ، الذين مازالوا رهن قيود الأسر فى سجون طاغية العراق !
يسافر الجميع فى صحبة باقى أفراد الأهل ، بعد أن يودعوا أحمد الذى يوصيهم بضرورة الإتصال فور أن يسمعوا خبراً عن جده سالم ، فهو يعتقد إعتقاداً عميقاً بأن جده موجوده هو ومنصور فى مكان ما بالكويت ! كما يؤمن أنوار وتعتقد بأن منصور بطل الكاراتيه سيعرف كيف يعود مع جده إلى البيت بعدما يغلب العراقيين ويطقهم طق .. ! لأن منصور قوى ويعرف يغلب كل اليهال ” ؟
– منصور بطل .. أنا أدرى عنه .
تبقى سعاد تترقب أخباراً عن أبيها إبن أخيها الصغير الحبيب منصور ، وهى تتمنى أن تصلها الأخبار قبل أن ترخل بعيداً عن الرياض ، تدعوا أم جاسم وأم عبد الله دعاء من القلب أن يعيد جميع الأسرى ، والمفقودين ، وأن يدخل الشهداء الأبرار فسيح جناته .
يلتقى دكتور نايف مع سعاد ، يخبرها مؤكداً لها كطبيب ، أن أى شىء فى العالم ممكن أن يعمل من أجل جاسم قد نفد بالفعل ، موضحاً لها قائلاً :
– واجبى كطبيب أقولك شوفى رأى ثانى .. ذى فرصة ثانية للعلاج فى الخارج لأن الحالة راح تطول .. وجاسم محتاج وقت إلى ان يسترد صحته بعون الله .. !
يتلاقى الصديقان بعد الإياب ، وفى القلب غصة ، وفى الروح جرح ، وفى النفس عذاب على ذلك الصديق الحميم الأسير أبو عبد الله ، الذى كانت لهما معه ذكريات وزكريات ، منذ كانوا طلبة يدرسون فى الكليات المصرية فى القاهرة ، وكانوا يعيشون ثلاثتهم فى إحدى الشقق المفروشة ، حيث كانوا يقضون معاً أحلى أيام .. أيام الوناسة .. أسام .. أيام الشباب الذى ولى وراح ..
آه .. كبرتهم المحنى : ! زادتهم سنيناً على سنين ! أضافت إليهم عمراً على عمر ! أرهقهم ، نكبتهم بالهموم ووجع القلب المبكرة ! حقاً .. كان حزنهم كبيراً ، إحتوى أسباباً كثيرة .. فراق الوطن القهرى ، ومرارة الغربة .. وفراق الأبناء المأساوى ,, مقتل جمال ، وفقد خالد ! وإستشهاد وأسر زوجى سناء وسهام !
أيضاً .. فراق ذلك الصديق الوفى ” ضلع المثلت الثالث ” كما أعتادوا أن يطلقوا على أنفسهم .. ! نعم للأسف .. أخترت المثلث . . فأختلفت النسب .. ولم تعد تتساوى الزورايا بعد أن تحطمت الأضلاع .. بعدما غاب أبو عبد اللخ .. وراح !
يشعر جاسم بالعنية التامة ، والرعاية الشاملة ، والحب العميق ، لكنه يستمر فى الرفض ! رفض الواقع ! رفض كل شىء ! وتستمر سعاد توضع لجاسم أنهاة تحبه ، تظل تعبر له عن مدى حاجتها إليه ، تبقى تؤكد له أنها من غيره ولا شىء ! ولا حاجة أنها وحدة كل شىء فى حياتها !
يشرح الطبيب المعالج لسعاد أن جاسم يمر الآن بظروف نفسية حرجة ، وأن أى إنسان يشعر أنه عاجز ، يكون رد فعله عنيفاً أما أى شخص يحبه ، يشرح الطبيب لسعاد أنها لابد أن تتفهم دورها ، ولابد أن تؤكد له انها محتاجة إليه ، محتاجة لحبه ، محتاجة لحنانه ، محتاجة لعطفه ، وإن تظهر له كل الحب أن تبذل له كل الرعاية ، مهما كانت مشاغلها ، ومسئولياتها ، وظروفها !
و.. مع الوقت ، مع عبور الليالى ، والأيام ، روغم صعوبة الغربة ،، ووحشية البعاد فى مثل هذه الظروف الإنسانية الصعبة ، فالزواج راقد طريق الفراش ، والأخ شهيد ، والأب أسير ، وحتى إبن الأخ الصغير منصور .. أيضاً أٍير ! ووالد الزوج .. أسير !
لكن دوام الحال من المحال ، وسبحان من يغير ولا يتغير . ! فها هى سعاد تحس بعض الفرح فها هو جاسم قد بدأ يتغير .. نعم بالفعل بدأ جاسم تيغير ! فها هو يبدأ يتجاوب معها ، ها هو يصبح فى حالة إسترخاء ويبدأ يتقبل الدواء من بين يديها .. وتصبح عنده غبة عميقة فى تلقى العلاج هناك ، لأنه فى حاجة لأن يبقى مع أهله ، حتى لا يحس بالوحدة والضيق فى غيابهم عنه .
تتابع السفارة الكويتية فى أمريكا حالة جاسم الصحية ، يبدى الملحق الصحى إهتماماً خاصاً به ، يزوره هو وبعض أركان السفارة فى المستشفى للإطمئنان عليه ، قبل أن يغادرها إلى البيت ، فهذا هو البطل الوطنى الغنى عن التعريف ، إبن الكويت البار ، الدكتور جاسم عبد الناصر .. حياه الله
وفى أثناء الزيارة يلاحظ أحد الأطباء القريبين من جاسم ، أنه لا يبدو على ما يرام هذه المرة ، فهو لا يتجاوب فى الحديث ، ولا يشارك فى الحوار ، إذ يبدو شارداً ، ساهماً ، حزيناً ، مهموماً .. يائساً ! فحوال هذا الطبيب أن يخفف عنه حزنه ببعض السوالف عن المرضى وعن المرض المستعصى الذى يزول بأمر الله .
يحكى له الطبيب قصة سيدنا أيوب وكيف أبتلاه الله بالمرض ، الذى طال طال ، لكنه صايراً ، راضياً ، إلى ان من الله عليه بالشفاء . يقترب الطبيب من جاسم ، يربت على كتفه ، وهو يشجعه ، ويذكر بقدرة الله سبحانه على إزالة هذا المرض ، ثم يضع يده على رأسه وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم : بسم الله الرحمن الرحيم
” وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وانت أرحم الراحمين فأستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتينه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبدين ” صدق الله العظيم
وينجح جاسم بالفعل فى الوصول إلى هزيمة المرض بفضلا صلابة إرداته ، وقوة عزيمته . . لم تنكسر فيه قوة العزيمة ولا جساة الروح تحت وطأة المرض الذى إستطاع أن يغلبه بفضل عظم إيمانه بالله سبحانه وتعالى .. يخرج جاسم من المستشفى على كرسى بعجل متحرك ، تبلع سعاد دموعها ، وهى تراه على هذا المنظر من الضعف والوهن ، بعد أن كان يصول ويجول فى ملاعب كرة القدم يسابق الريح كالحصان العربى الأصيل الذى يربح السباق دون منافس .. دون أن يكون له مثيل
– آه يا جاسم .. آه يا حبيبى .. ياليتنى أنا اللى كنت مكانك .. آه .. ياليتنى أنا . ياليتنى أنا !
الفصل الثلاثون
شىء من مشاعرى
يعاود جاسم حياته بطريق يحاول أن يجعلها طبيعة ، تبقى سعاد فى محاولاتها المستمرة للإقتراب منه ، وإن كان الحزن طاغياً على ملامحها ، فهى مازالت حائرة غير متأكد ، إذا كانت هى كسبت جاسم أم لا ؟! .. فبعد هذا الوقت الطويل كل واحد منهما فى غرفته الحاصة ، هى لا تعرف ، إذا كان جاسم يرغبها كزوجة . ام أنه أكتفى بحياته ..
هكذا .. بدونها ؟!
تسألها أمها ذات يوم عن أسلوب حياتها ، وكيف إن جاس هكذا يعيش بعيداً عنها تسأل المرأة الكبيرة فى براءة وبساطة :
– هذه هى أوامر الطبيب يا بنيتى .. يعنى لسة هو بيتعالج من الشلل ؟
لا تعرف سعاد كيف تجيب هذا السؤال المحرج الذى وجهته لها أمها ! فتقول وهى تتنهد :
– والله يوماً لو كان الدكتور طلب منه كدى .. لكان هو من نفسه نام بروحه وخلانى .. كأن راح يظل على سرير لوحده .. وأنا لوحدى !
وهنا تفيض مشاعر الألم داخلها ، تطغى على كيانها ، فتنفجر فى بكاء مكتوم ظل حبيس جدران صدرها ، فتقول أمها وهى تحاول أن تسرى عنها وتخفف حزنها :
– لا تاخفى يا بنيتى . ترى زوجك يبحك وأيد .. والل ما يقدر يستغنى عنك .. لا تخافبن حبيبتى .. لا تخافين .. انت بس اللى بتحبيه وايد .. وأنت الى بتغارين عليه .. جمدى قلبك شوى .. حبيه بعقل مو بها الإندفاع يا سعاد ..!
تمشى الحياة بهدوء ودعة ، يمارس جاسم عمله الإرادة فى مستشفى مبارك الكبير بعد أن حالت رجفة أصابعه دون ممارسة عمله كجراح ، فكان يذهب إلى المستشفى ويرجع ، وهو مازال بعيداً عن ممارسة العمل الجراحى فى غرفة العمليات .
تأتى إليه دلال تهنئه بسلامة العودة والنجاة من الخطر ، تكمله فى تحشم وإحترام يتناسب ، وإرتداء الحجاب الذى يلف رأسها ويستر شعرها ، ويكبح جماح عواطفها الغزيرة التى تحولت الآن إلى منحى آخر ، بعد إن أصبح جاسم الناصر بالنسبة لها عبارة عن أخ غال ، و صديق عزيز على قلبها
تتحدث دلال مع جاسم عن ذكرياتهما معاً ، عن أيام المقاومة ، وعن المخاطر ، الجمة التى تعرضا لها ، وكيف كانا يكمنان معاً فى مخبأ تلو الآخر عدة ساعات معرضين فى لحظة لخطر الموت حرقاً ، أو تفجيراً ، او تعذيباً !
ساعات وساعات .. وهى تشعر جاسم بجوارها أخاً عزيزاً يصونها ، يحميها ، يفديها بنفسه ، يحافظ عليها بعمرة ، يقدم نفسه للخطر دفاعاً عنها ! حقاً .. لم تنس دلال ولم ينس جاسم كيف تشهد على نفسيهما ، وآخذ يقرآن القرآن الكريم مرات تلو المرات ، وهما يعتقدان أنهما لن يبقيا على قيد الحياة بعد دقائق قليلة !
الآن المقاومة انتهت ، تحررت الكويت بحمد الله ، ولم ينس الجميع أن جاسم كان بطلاً كبيراً ، لذا كان إستقباله لحظة عودته إلى الكويت وهو يستند إلى عكاز إستقبالاً كبيــراً ..
نعم . كان إستقبال جاسم هو نفسه إستقبال الأبطال الكل يعلن الحب ، يعنل التقدير ، يعلن الإمتنان
أما دلال فقد أولت كل إهتمامها الحين لمتابعة قضية الأسرى الكويتين الموجودين لدى السجون العراقية ، وصارت تشارك فى إجتماعيات اللجنة الوطنية لشئون الأسرى والمفقودين أيضاً دخلت مجال رعاية الاطفال المعاقين الذين يستحقون فى نظرها كل العطف والعناية ، حقاً .. تيرت دلال ، تحجبت من الداخل والخارج أضاء نور الإيمان قلبها ، بعد أن رأت العظة فى الموت حولها وعاشت الاهوال ، وهداها الله إلى طريق الحق والصواب .
تعيش دلال تمارس دورها فى الإهتمام بشئون الأسرى والمفقوجين ، ودور رعاية الأطفال المعاقين ، فأثبتت العلاقات الإنسانية كثيراًَ من الصلات العاطفية بينهما وبين من تحتاج إليها .. نعم .. نعم هاجس دلال الأكبر الآن هو عودة الأسرى .. عودة السرى لتلكتمل بعودتهم الأفراح ، وتنسدل ستائر الاحزان فوق الجراح ، تخفف عن قلوبهم ما غاب وما راح!
يبدأ جاسم يشعر الحب تجاه تجاه كل شىء فى حياته ، فهو يحب الكويت ، يحب كل شىء فيها ، يحس أن التنافس الذى بينه وبين سعاد لا جدوى منه ! خلاص :
– إلى متى سيبقى فى حالة تنافس ؟! إلى متى ؟! كان متنافساً فى فريق الكرة .. متنافساً فى الجامعة .. متنافساً فى عمله كطبيب ناجح مشهور .. إذن لابد أن يتقبل سعاد بتفوقها .. بكل شىء فيها .. ليس شرطاً أن يكون هو الاحسن .. بالعكس .. أنه يعرف أنه عو الاحسن لأن المفروض أن سعاد مكسب له ، وهو طبعاً محظوظ جداً لأن لأولاده مثل هذه الام الذكية جداً يبدأ جاسم يدرك أنه لو لم يكن متزوجاً من إمرأة مثل هذه لما كان إستطاع أن يشفى من رجاحه ، لما قدر أن يتعافى من الامه ، فسعاد بحبها ، برعايتها ، بعنايتها ، إستطاعت أن تعاون معه لصنع هذه المعجزة .. ! أن يعود إلى صحته ، أن يرجع إلى حياته ، وأن يمارس ذاته مرة أخرى من جديد !! لأن .. عرف جاسم أنه فى نهايةو الأمرة ، إذا كان ممكن أن يتنافس مع أى شخص ، فهو حتماً أن يتنافس مع سعاد .. !
يبدأ جاسم يدرك إن هذه الفلوس ليست فلوس سعاد وحدها ، لا .. إنها فلوسنا كلنا ، حقيقة الأمر . إن سعاد ملأت عليه حياته ، نعم .. سعاد ملأت عليه حياته ، جاسم يعرف أنه كان دوماً يجدها عندما كان يحتاج إليها ، جاسم يعرف أيضاً إن سعاد تشعر بحاجة الآخرين لحبها ورعايتها ، فهى تشهر بحاجته إلى هذا الحب ، فلم تحرمه من ذهذا الحب !
سعاد اسبغت عليه الكثير .. حولت أن تمنحه الوقت الكافى لياتفت إلى دراسته وصنع مستقبله ، وأدرات حياتها بكل جدارة ، وكل مقدرة .. سعاد كانت دوماً تؤدى ما يوكل إليها بدقة ، وكانت دوماً تعامل مع مبدأ : خير الأمور الوسط .
يعيد جاسم إسترجاع حياته فيحس كم كانت سعاد إنسانة عاطفية ، ذات روح شاعرية ! كان جاسم يعرف أن سعاد حريصة أن لا تدع أحداً من الناس يعلم ما فى الداخل صدرها من أفكار ، فقط كانت تنتظر الفرصة المناسبة أن تسمح لها لتنال ما تريد ، دون تهديد ، دون صخب ، دون ضجيج ، بل .. بكل هدوء ، وحب ، ومودة ، لم تفرط سعاد يوماً فى الإهتمام بتنظيم حياتها ، فهى مرتبة ونظيفة ، تنزعج من الفوضى ، تحب النظم ، حريصة دوماً على تأدية واجباتها .
يتنهد جاسم وهو يراجع نفسه ، ويعرف أن سعاد لم تجرح مخلوقاً يوماً بتصرفاتها ، بل هى دوماَ ذوق . مهذبة تحترم الآخرين ، تجيد فن التعامل مع الناس .. والحياة ! يعرف جاسم أيضاً أن ساد تحب الشمس والهواء النقى وتعشق البحر كما يعرف أنها إنسانة طموحة لا شىء يعوق صعودها حتى القمة ، فسعاد فى الواقع ليست شخصية ضبابية ذات أمنيات عاطفية تتحكم فى حياتها . ، لا .. أنها سيدة يمعنى الكلمة ، لا تصدر عنها كلمة نابية ولا تأتى موقفاً فى غير محله ، إنها ا تضيع وقتها فى الثرثرة فهى مشغولة بحياتها بمسئولياتها ..!
.. عندما يصل جاسم إلى هذه النقطة ، لا يستطيع أن يغالب مشاعره ، فينهض يجرى أتصالاً هاتفياً مع أحد الأصدقاء ، يأخذ موعداً ، يخرج إلى حيث يتلقى به فى فندق المريديان حيث تتناقش معه بعض الوقت فى موضوع يهم جاسم جداً أن ينجزه ، ثم يدلفان من باب الفندق الثالث حيث يدخلان أحد المكاتب هناك ..!
ينهى جاسم التعاقد على غتسلام هذا المكتب ، الذى أمر بتجهيزه بالكامل من أجل سعاد حتى اللوحة النحاسية الخراجية يكتب عليها “شركة سعاد السالم للإستثمارات العقارية”
ينتهى من الأتفاق مع السكرتيرة ، يدخل خطوط الهاتف ، يجهز كل شىء .. كما يتمنى دوماً أن يكون !
يعود جاسم إلى البيت وإحساسه بذاته يتضخم ، يتعملق ، فهو سعي بذلك لأنه شخص موضوعى ، منطقى عرف كثيراً من قبل كف يتدرب على السيطرة على المواقف ، كما عرف كيف يتخذ الموقف المناسب فى الوقت المناسب ، لذا كانت رده على نايف فى الموافقة على زواج ليلى عندما اتصل به من امريكا يطلب يدها رداً موفقاً للغاية .. فقد كانت أمه ترغب فى إنتظار عودة أبيه من الأسر ، لكن جاسم قال لها :
– ابوى مو موجود الحين .. بس أنا اقول لك لو أبوى موجود راح يوفق .. ولو أبوى عرف الحين راح يوافق .. ولوما عرف .. وكلن عرف بعدين أننا رفضنا تزويج ليلى لأن هو مو موجود ماراح يوافق .. ولو ما عرف بعيدين أننا رفضنا تزويج ليلى لأن هو موجود ماراح يوافق على اللى أنت تقوليه ما يوماً ..!
يتابع جاسم كلامه :
– نايف مافى مثله يا يوماً .. وإنا عشن سنين معاه وأعرفه عدل وفاهمه من الداخل والخارج .. وأنا باقول إنى مدين له بحياتى .. لكن أنا باقول موافق لأنى عارفة نايف . وما أتمنة واحد لأختى ليلى أحسن من نايف ، وهو راغب ليلى وليلى راغبة ، وانت ما تخلى ليلى تشعر أنها محرجة . وانها يتشوى شىء غلط أنها تتزوج وأبوها أسير !
يتابع جاسم كلامه :
– أنت يوماً لو فشانى هالزواج ستكونين غلطانة .. غلطانة لأن نايف يحبها وراح يقدرها ويحسن معاملتها .. وهو طلب يدها منى وإحنا فى أمريكا قبل الغزو وإنتظر كل هالوقت لما تحين الفرصة المناسبة .. والحين .. تم التحرير والكويت ردت والفرحة عمت ومافى داعى يوماً إننا نأجل زواجها عشان أبوها مو موجود .. !
يستطرد جاسم حديثه مع أمه ، باذلاً كل الجهد لإقناعها ، محاولاً تبسيط الموقف أمامها :
– يوماً .. أنا أخوها وأبوها وإنشاالله يتم هذا الموضوع على خير لأن نايف كلمنى كذا مرة رغم خجله الفظيع بسبب ظروفى اللى مربت بها .. بس أنا أدرى عن نايف يوماً .. هو رجل من خيرة الرجال .. شاب من خيرة الشباب ، وكان معايا له مواقف كثيرة وإحنا زملاء فى المستشفى ,, ولما إنسبت فى الحرب وقف بجانبى فى علاجى فى الرياض وفى امريكا .. أنا ما أنسى له يوماً هالمواقف كلها .. ترى نايف رجال ماراح تلاقى حد الليلى أحسن منه صدقينى يوماً .. صدقينى
– اللى تبون تسووه . . سووه .. بس أنا ما أقدر أتصور .. إن ليلى تتزوج وأبوك يا جاسم مو ويانا .. ما أقدر أتصور . ما أقدر اتصو .!
تجهش الأم فى البكاء وهى تقول بين أنفاسها اللهثة المتقطعة : –
– بس خلاص .. انت تصرف يا جاسم .. هذه أختك وانت أخوها . انت اتصرف .
تستمر الأم فى البكاء ، وهى ما تقدر تتخيل إن ليلى تتزوج وأبوها غايب ، ما تقدر تتخيل أن ليلى تتزوج والأسرة حزينة ، ما تقدر تتخيل أن ليلى تزوج والأسرى بعيدين عناك وراء أسوار السجون .. !
يتصل جاسم بنايف فى أمريكا ، يرحب به يسأل :
– ها .. ما وراك فى أمريكا .. واله كلنا مشتاقين لك .
نايف ير باسماً :
– إذا انتم تبغوننى فى الكويت بأحجز دالحين وأجيكم .
يخابر نايف الأهل فى لرياض ، تستعد الأسرة كلها للسفر إلى الكويت لترتيب إستعدادات الزواج السريع لأن ليلى ستسافر إلى أمرريكا لبدء الحياة مع نايف هناك ..!
ينتهى حفل الزفاف الذى اقتصر على الأهل والأصحاب ، والذى اقيم فى بيت أبو جاسم فى كيفان .. تستعيد ليلى لخروج مع عريسها نايف بصحبة بعض الأهل من العائلتين إلى أحد الفنادق إستعداداً للسفر فى اليوم التالى إلى أمريكا .
تمضى ليلى تخطو ببطء بثوبها الأبيض الاطويل ، تخترق القاعة الخارجية متجهة إلى باب الخروج .. تنتاطاً أكثر وأكثر وهى ترنهو بعينيها إلى صورة والدها اللواء أحمد الناصر فى زيه العسكرى لوزارة الدفاع ، وقد إحتلت جزءاً كبيراً من جدار القاعة عن يمينها ، .. توقف ليلى أمامها ، لا تقوى على متابعة سيرها .. تقف ، تبكى ، تقول :
– وينك يوبا .. وينك يوبا . كان ودى تكون الليلة ويانا . كان ودى تشوفنى وأنا عروس .. آه يوبا .. آه يوبا
آه تبكى أم جاسم تندب غياب زوجها الاسير ، فتنبش بذلك جراح أختها أم عبد الله التى تكت فى القلب جرحها الدامى على ابنها الشاب الشهيد ، وزوجها الرجل الطيب الأسير ، وحفيدها الطفل الصعير ، فتنهار هى الاخرى فى البكاء ، فى حين يتمزق صدر أم أبراهيم من الحزن ، النحيب على ابنها خالد الذى مازال مفقوداً للحين ، بعد أن اختفى هو وطائرته العسكرية ولم يعتر له على اثر منذ أن شارك بعدة طلعات جوية فى حرب التحرير !
.. ولا تحتمل الموقف إبتسام زوجة عبد الله ، التى تنتحب وتنتحب حزناً على اسر أختها أمل ، الطالبة الجامعية االجميلة التى اكنت عل وشك الخطبة والزواج .. لكنهم أسروها .. حبسوها وراء أسوار سجون الطاغية ! كما تفقد سهام بنت الخال إبراهيم وعيها حزناً وقهراً على زوجها الأسير .
لحظات حادة رهيبة حارقة ، تمتزج فيها أحاسيس الحزن والفرح ، أحاسيس اليأس بالأمل أحاسيس الترقب والإنتظار مهما راح الوقت وإمتد الزمن وطال .. هنا .. فى تلك اللحظات العنيفة المشاعر ، تبكى فضيلة زوجها الشهيد فيصل ، وطفلها الأسير منصور ، تظل تبكى وتبكى وهى لا تستطيع أن تتوقف ، رغم أنها كانت تحاول أن تمنع نفسها من العويل والبكاء ، خوفاً على مشاعر الموجودين فى الفرح .
يقف الاطفال حولهم ينظرون إليهم وهم فى حالة تأثر شديد ، بسبب هذا الحزن الساحق والبكاء الحافل بالعاطفة ذات الإحساس الزاخر العنيف فتبكى أنوار من قلبها ، كما تبى مريم ومنى وفضة وراكان ، أما أحمد ، فيظل كعادته ، يحاول أن يتماسك وأن يتصلب
يحاول أن لا يدمع وهو الصبى الكبير وسط كل هؤلاء البنات ..!
يطالع أحمد خالته فضيلة ، فيتأث كل التأثر لأنه يعرف أنها تبكى خالة فيصل كما تبكى أبن خاله منصور .. يعود أحمد ينظر حوله فيشعر نفسه وحيداً بلا منصور ، حينئذ .. يزداد حزنه وهو يود ويتمنى من كل قلبه لو كان منصور معه الحين ، يحادث نفسه متسائـلاً :
– .. وينك يا منصور .. ياليتك كنت ويانا الحين .. !
فى اللحظة نفسها ، تطالع فضيلة الاطفال الصغار الذى يحرمون حولها ، تقف تنظر نحوهم وهى تتمنى من أعماق قلبها لو كان منصور ولدها موجوداً وسطهم ، يلعب معهم ، ويلهو مثلهم ، ويضحك معهم ويفرح مثلهم ، وهنا .. لا تستطيع فضيلة أن تسيطر على مشاعرها ، وإذ بها تصرخ محسورة ملتاعة :
– آه .. منصور .. منصور .. وينك يا منصور .. هاتو لى منصو .. هاتو لى منصور .. ! .. تسقط فضيلة مغشياً عليها ، بعد أن ظلت طويلاً تحاول أن تتماسك حتى لا ينقلب الفرح حزناً ، لكنها النفس الإنسانية تعصى إرادة الإنسان ، ترفض أن تخضع لرغباته ، تتغلب أحياناً على قدراته ، تريد أن تمارس وحدها ما تشعر وما تحفل به من أحاسيس ومواقف ..!
يجرى أحمد مسرعاً نحو غرفة أمه يحضر زجاجة كولونيا ، يناولها لجدته أم جاسم مى ترش منها على وجه فضيلة ، فهو مدرب خير تدريب على إحضار الكولونيا بسرعة ، لأنه يفعل ذلك كثيراً ، كلما فقدت جدته أم عبد الله وعيها ..!
تحضر إبتسام زجاجة ماء باردة من الثلاجة ، تاحول أن تسقى فضيلة بعضاً منها ، وأن تمسح بيدها المبللة على وجهها .. فى حين تقف أنوار تطالع حزينة هذا المنظر المؤلم الذى يحدث أمامها، والذى جعلها تدرك بعقلها الصغير البرىء أن خالتها قضيلة تدور منصور ، وأنها مشتاقة لمنصور ، فتقول تحادث نفسها :
– أييه .. عرفت .. خالتى فضيلة تبى تشوف منصور .. زين ،، أنا عندى صور وايد فيها منصور .. يوم عيد ميلادى كان ويانا .
تخبر أنوار أحمد بفكرتها ، فيركضان معاً نحو الطابق الثانى ، وإذ بباقى الأطفال كلهم يركضون خلفهم ، ينهك أحمد وأنوار على لافرو فى إخراج الصور من الالبوم ، وإختيار صور منصور .. وهنا .. قبل أن يخرج أحمد من الغرفة ، ينظر إلى الملصق الكبير المعلق على الجدار المطبوع عليه :
لن ننسى أسرانا
فيقف على المقعد الموضوع أمام مكتبه ، ينزع الملصق من على الجدار ، يضعه فوق المكتب ، ثم يفتح الدرج يخرج الصمغ ، ويلصق عليه صورة منصور بدلاً من صورة الطفل الباكى المرسومة فى الوسط ، فى حين تشترك أنوار ومنى وفضة وراكان فى لصق صور منصور كلها عليه .. فى نفس اللحظة تدنو مريم تطلب من أحمد أن يعطيها القلم الأسود المتين لتخط بيدها عبارة كبيرة واضحة :
نريد منصور ويانـــا
ينزل الصغار على السلم وهو يرفعون فوق رؤوسهم الملصق الكبير الذى تشترك أيديهم الصغير كلها فى حمله بعد أم كتبوا عليه بالبنط العريض ، الذى يقرأ عن بعد :
لن ننسى أسرانا
نريد منصور ويانا
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
يجلس جاسم فى مكتبة ، شارداً ، يطالع كفه اليمنى ، يتحسس اصابعه واحداً واحداً ، ثم يعود يشرد بخاطره ، وبعدها يتأمل مرى أخرى أصابعه ، يتعمن فى كفه اليمنى وهو الجلوس هكذا وراء مكتب ، بلا مشرط ولا مبضع ولا مريض .. ينظر جاسم إلى نفسه فى حسة وهو يتنهد حزيناً :
– .. ولا جراح !
بعد قليل .. تدخل دلال مكتب جاسم .. تسلم عليه ، تتحدث إليه وهو مصغياً لها بكل حواسه وكل جوارحه ، مستمعاً لها بقلبه وهى تبوح لها بمكنون قلبها :
– صدق .. الحرب إنتهت يا جاسم .. مستحيل ننسى .. لكن .. العذاب ما إنتهى .. توقف سقوط القنابل .. لكن صوتها بعده يدوى فى اذنى .. رحل الحرس الجمهورى .. لكن الخوف بعده باقى فى صدرى .. مستحيل ننسى يا جاسم .. مستحيل ننسى .. !
أنا اتمنى ننسى أتمنى يختفى الخوف من نفوسنا .. أتمنى يعود الأسرى من المعتقلات والسجون .. أتمنى .. أتمنى إنى فى يوم أقعد بنفس الشعور مليانة بالحب والنشاط والأمل والثقة والتفاؤل ..
أتمنى إنى فى يوم أقعد بنفس الشعور اللى كنت أحسه قبل الثانى من أغسطس عام 1990 هذا العور بعد الحرب .. وهذا الخوف وهذا الدرمار بعده يدمرنى .. منظر بيتى المدمر المحطم وآثار التخريب والتعذيب بعدها عالقة فى عيونى .. فى قلبى .. فى قلبى .. تتنهد .. آه يا قلبى . تعود تتنهد :
– أتمنى أعود مثل ما كنت أتمنى أعود مثل ما كنت !!
تخرج دلال من مكنب جاسم والدمع على وجنتيها والحسرة والحزن تملأ عينيها، وذكرى ماضيها مع جاسم تطغى ، تسود ، تسيطر ، على وجدانه ، فترتل بعض آيات من الذكر الحكيم :
بسم الله الرحمن الرحيم
” ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب
صدق الله العظيم
تمضى دلال لا تلوى على شئ والحزن على الأسرى يضج بين جنبيها ، فهى ستذهب الآن إلى مستشفى الطب النفسى لرؤية أمها المريضة التى ما زالت تعانى من آثار الغزو ، حين إغتصب الجنود روحها ونفسها وهم يفترسون جسدها !! والتى ما زالت تعتقد أن أمها حية ترزق .. لم تمت !!
كانت لحظات صعبة عنيفة مدمرة .. دانه أيضاً ما زالت تعانى هى الأخرى من آثار المرض النفسى رغم أن دلال أخذتها بالأمس إلى محل اللعب بالسالمية وإشترت لها عروساً جميلة بدلاً من تلك العروسة التى تركوها فى البيت حين غادروه فجأة بعد الحادث الأثيم الذى أودى بحياة جدتها وأعصاب أمها !
إشترت لها دلال مجموعة ألعاب كبيرة كثيرة ، من نفس المحل القريب من البيت ، ملأت بها غرفتها بعد أن أعادت طلائها وجددت أثاثها ، وغيرت كل معالمها ! حرصت دلال أن تغير كل شئ ، وأن تبدل كل شئ ماعدا عروسة دانه القديمة ، صممت دلال أن تنتقى لها عروسة طبق الأصل من العروسة التى فقدتها وأضاعتها الظروف ، وحرمتها منها ، ومن كل لعبها ، أعادت دلال كل شئ لدانه ، لكن .. دانه لم تعد هى دانه .. دانه مريضة الآن تعانى إعاقة فى النطلق وفى السلوك ، دانه ما زالت مضطربة لم تعد صحتها النفسية ولا البدنية كما كانت قبل الغزو !
تقسم دلال وقتها بين أمها وإبنتها وبين الأطفال المعاقين ، وبين الأسرى المرتهنين المحتجزين ، الذين يأسرون معهم كل أهاليهم ، ومعارفهم ، وأحبائهم ، وأصدقائهم ،
وجيرانهم ، الكل حزين من أجل الأسرى ..! الكل لا تهنأ له أكلة ولا نومة ! ولا تكتمل له فرحة من دون الأسرى .. !
عسى الله أن يفك قيد أسرانا .. عسى الله أن يعيد إلينا أسرانا .
ينصرف جاسم إلى وضع آخر اللمسات فى المكتب ، تلك هى الهدية المفاجئة التى يعدها لسعاد ، حيث يختار لها سكرتيرة فلبينية لطيفة جداً ، ومكتب صغير مجهز بتليفونات وفاكس واللوحات الطبيعية الأصلية ، التى يعرف إن سعاد تحبها .
يعود إلى البيت ، يأخذ سعاد يتمشى معها العصر كأنه يتنزه نزهته اليومية العادية التى أوصى الطبيب بها ، لكنها تفاجأ به يطلب منها أن تذهب معه إلى مشوار آخر قريب ، تدخل سعاد مجمع الصالحية تركب المصعد حتى الطابق الثالث ، تمشى مع جاسم فى الممر وكلها ترقب وإنتظار لهذا السبب الغامض الذى جعله يأتى بى هنا ! لكنها .. ما تلبث أن تقف ، تتصلب فى مكانها ، وعيناها تتشبثان باللوحة النحاسبة اللامعة !! .. المحفور عليها إسمها !! ” شركة سعاد السالم للإستثمارات العقارية ” .
تتقبل سعاد الهدية المفاجئة بهدوء ، تتعامل مع الموقف المباغت بحيرة لا تخفى على عينى جاسم ! نعم .. فهذه الهدية حيرتها ! جعلتها تتسائل بينها وبين نفسها :
– ترى .. جاسم أعطانى هالمكتب عشان يبى يتخلص منى ؟! وإلا ما هو
السبب عشان يعطينى إياه بحجة أنى أدير أعمالى فى أمريكا ؟! ليش جاسم فكر بهالطريقة ؟! ليش .. ؟!
أنها لا تعرف ، لذا ، تظل محتارة ، تظل تفكر ، وتفكر ، وهى لا تدرى ماذا يدور فى ذهن جاسم بالضبط !! نعم .. هل جاسم يقول لها خذى حياتك وإستقلى بها بعيداً عنى ؟ أم إن هذه الهدية تعبير عن الحب و‘ن تقبله لها .. وتقبله لدورها كسيدة أعمال ؟!
فى الواقع .. إعتقدت سعاد أن إهداء جاسم المكتب لها هو خطوة فى بداية النهاية ، فأخذت تحدث نفسها فى أسى . هذه هى النهاية يا جاسم ؟! هذه هى المكافأة ؟! بعد ما أثبت لك حبى وإخلاصى .. ينتهى بى المطاف بهالأسلوب ؟! معقول ؟! أهون عليك يا جاسم ؟! أهون عليك ؟!
.. تتداخل كل هذه الأمور ، تبدأ تعصف بكيان سعاد .. كيف لها أن تعيش بدون
جاسم ؟ كيف لأولادها أن يستظلوا بغير ظل أبيهم ؟ آه .. تتنهد وهى تحتسى القهوة بينما تسترخى على المقعد الوثير فى الصالة الكبيرة وحدها فى حين كان جاسم يرتدى ملابس الرياضة إستعداداً للمشى حسب المدة التى قررها الطبيب .
تزداد شجون سعاد ، تحادث نفسها .. تساءل :
– شنو يبى جاسم ؟! إيش لون يعطينى هالمكتب وهو دائم السخط على عملى ؟ ودايما كان ضده ؟!
نعم .. فالمعاملة التى لاقتها سعاد من جاسم فى أمريكا ، وإنهائه الوضع هناك بهذه الطريقة المتسرعة غير المدروسة ، وإضطرارها للإبتعاد عن مكتبها وشركاتها ، وتركها تلك الاستثمارات الضخمة كل هذه الأمور جعلتها تدرك إن جاسم سوف يتخلى عنها .. ! نعم . جاسم سوف يتخلى عنها !!
تبدأ سعاد تفكر فى والدها ، إنه وحده مصدر الحب والعطف والحنان والأمان ، تبدأ تفكر كيف كان يشجعها ويأخذ بيدها وهو فخور بها ، وكيف كان يعدها ويحضرها منذ صغرها لتكون سيدة أعمال ناجحة بارزة .. !
فى الواقع حققت سعاد حلم أبيها فيها ، وهى تعتقد أن ذلك سوف يسعد جاسم ، سوف يجعله فخوراً بها هو أيضاً ، سوف يجعله سعيداً ، لأنها قدرت أن تجمع بين كل هذه المسئوليات بنجاح ، وقدرت أن تحقق كل هذا النجاح !
لكنها .. للأسف وجدت العكس من جاسم ، هى أحست بذلك ، تكاد فى الحقيقة أن تجزم بذلك ، فهى ليست من ذلك النوع التى تجهل ما يدور حولها من أمور ، صحيح هى تتجاهلها أحياناً لكنها لا تجهلها ، وياله من فارق كبير بين الجهل والتجاهل .. !
ولم يفت سعاد أن تعرف أن دلال كانت بالأمس عند جاسم فى المستشفى ، لم يخف جاسم الأمر عن سعاد بل قال لها أن دلال كانت عنده فى المكتب وأنهما كانا يتحدثان عن تلك الساعات العصيبة التى قضياها معاً !
وقبل حلول المساء .. قبيل أن تغيب الشمس وبعد أن تداعب نسمات الربيع مياه البحر فتدفعها فى حنان تعانق الرمال الناعمة الوادعة .. فى هذا الجو الربيعى الجميل ، فى هذا الفصل المشرق البهيج الذى تحبه سعاد وتسعد به ، وتظل تتمناه طوال العام .. تتمشى سعاد إلى جوار جاسم على شارع الخليج العربى بالقرب من مركز سلطان الذى يضئ المكان عن يسارهما ، يسيران وهما يطالعان عن بعد أبراج الكويت التى يحبونها ، والتى يلمحانها عن بعد صامتة ممشوقة باسقة ، تضيف بلونها الأزرق عمقاً جميلاً يتأكد مع لون مياه الخليج الزرقاء ، ولون السماء الأشد زرقه .. !
ثم .. تتأنى الشمس وهى تنحدر نحو المغيب .. تدنو فى حنو من خط الأفق البديع .. تتمشى ” سعاد ” إلى جوار جاسم وهى تمسك بيده ، لأنه ترك العصى منذ فترة قريبة من الوقت ، وهو لازم يستند على يدها لأن رجله أحياناً تقلت وركبته تهوى فيسقط على
الأرض .. ؟!
يتمشى جاسم إلى جوارها وأصوات الموسيقى تصدح فى السيارات ، وزئير الموتوسيكلات التى تركض فى شارع الخليج ، وعليها الشباب المرح ينطلق إلى جوارهما من فترة لأخرى .. !
هنا .. يبدأ جاسم يحس شعوراً غريباً ، يحس إنه لا يخجل من الإعتماد على سعاد ، مرتين إثنتين كاد أن يقع فيهما فأمسك بيدها ، تعلق بها ، استند عليها .. فعل ذلك ، دون أن يحس أنه محرج .. !
وكانت هذه مفاجأة جديدة بالنسبة له ، لأنه أدرك أنه كان طول العمر يكافح كى يوضح أنه قوى أمام سعاد ، وأنه متفوق على سعاد ، وأنه بطل فى نظر سعاد ، عمره ما سمح لنفسه أن يحس أنه ضعيف أمامها ، فكان مستغرباً كيف أصبح هكذا على راحته دون خجل أو حرج ، وهو يستند على سعاد .. !! إنه يحتاج لها .. إنه لا يخجل أن يحس إحتياجه لها !
ويظل جاسم صامتاً كأنه رحل فجأة إلى مكان آخر بعيد ، تحس به سعاد ، تلتفت
إليه ، تسأله فى حب ، فى حنان :
– مالك يا جاسم .. فيك شئ ؟! تعبان .. تحب نرد ؟!
ينظر إليها جاسم ، لكنه لا يراها ، كأنه ينظر وراءها ، أو من خلالها ، فتكرر سعاد سؤالها مرة أخرى :
– مالك يا جاسم .. فيك شئ .. تعبان ؟!
ينظر جاسم إلى سعاد ، يختلج بدنه لرؤية الحب الفظيع فى عينيها .. كأنه لأول مرة يراها أمامه !! يدرك جاسم أنه طول عمره بيحب سعاد ، وأن الذى كان يمنعه من الإعتراف بهذا الإحساس ، بهذا الشعور ، هو الكبرياء ! هو طبعاً بيحبها ، طول عمره بيحبها ، ولما تزوجا ، كان يحبها ، وقبل أن يتزوجا كان يحبها ، لكنه .. كان ينكر الإعتراف بهذا الحــب !!
.. إنه كان يشعر بصورة غريبة ، أنه لو أعترف بينه وبين نفسه بحبها ، فإن ذلك سوف يكون ضعفاً ، أو مقدمة للضعف ، أو بداية للضعف .. آه .. ما هذا التصرف الطفولى ! ما معنى أن يدخل فى منافسة مع نفسه ؟ أنه قوى بإستمرار وسيكون أقوى بإستمرار ، وسيكون ممتازاً .. إن هذا الشعور الذى كان يشعر به ليس له معنى .. فحتى فى حالة سعاد لا منافسة مع سعاد !
هذه ، فى حقيقة الأمر ، كما حدث بالضبط ، كانت فكرة خاطئة ، أدت إلى تمزيق العلاقة بينهما ، فالمحاولة المستمرة لإثبات أنه متفوق ، كانت سبباً مباشراً فى التباعد بينهما .. كان هذا كثيراً عليه ، فكأنه داخل فى منافسة مع نفسه ! وكم كانت التكلفة عالية .. ففى علاقته بها ، عمره ما كان مرتاحاً أو على طبيعته ، فمن هو القوى فى كل لحظة فى حياته ؟ من هو صاحب القرار الصائب دائماً فى كل عمل يدخل فيه ؟! هذا كثير .. كثير .. فقد كان حتى فى علاقته مع نفسه يطالب نفسه بأكثر مما يجب ، حتى فى علاقته بها .. ! وهذه علاقة غير صادقة ، لأنه لم يكن على حقيقته ، لم يكن على طبيعته ، لم يكن على سجيته !
ينتبه جاسم ، كأنه يسترجع شريط حياته من أيام سعاد ما كانت طفلة صغيرة عندها ثمانى سنوات وهو كان عنده ستة عشر سنة ، ولما كانت داخلة المدرسة المتوسطة وهو طالب كبير فى كلية الطب .. أيضاً طفلة !
ويوم راح المدرسة وهى طلبة فى الثانوية بسيارته السبور الحمراء ، ليحضر أخته ليلى ورآها من وراء زجاج الباص وهى تنظر مرة إلى الخارج ، ومرة إلى الداخل .. وكأنها لا تراه !
يتذكر جاسم حياته فى أمريكا ، وكيف إستقبل سعاد فى المطار عندما جاءت هناك لأول مرة وكيف كانت تنظر إليه مدهوشة منبهرة .. يتذكر جاسم أيضاً حين جاء مع سعاد إلى أمريكا وهما عروسان ، وكيف كان يسأل روحه هذا السؤال .. كيف لم أكن أرى هذا
الجمال ؟! كيف ؟! كيف ؟!
يتذكر كيف كان يدنو منها يسألها تريدين تشربى شئ يا سعاد ؟ وكانت هى لا تقوى على النظر إلى عينيه .. كانت تكتفى بهز رأسها وهى تتابع النظر إلى نيويورك من فوق فى الطابق السابع والخمسين .. فى حين كان يقترب منها يدنو أكثر وأكثر .. وقد إستثار إنفعال ممتزج بالشوق ، بالإعجاب ، بالحيرة من إزالة هذا الخجل والحرج عن سعاد التى كانت تزداد إنفعالاً وحيرة بين لحظة وأخرى !
يتذكر جاسم سعاد وهى تسير بجواره فى شارع نيويورك وهو زوج لها وأب لأولاده الثلاثة أحمد وأنوار وراكان ، تذكر كيف كان الجو بديعاً والشمس مشرقة والحياة هناك حافلة بالضجيج ، مزدحمة بالناس والسياح الذين يلتفون حول محلات الآيس كريم والذرة المنفوش والسندوتشات والمطاعم والمقاهى ، وشباب من جميع أنحاء العالم يرتدون الـ ” تى شيرت ” والجينز ، وضجيج سائقى السيارات فى نيويورك ، تلك المدينة ذات الإيقاع الصاخب المرتفع المرتفع !
يتذكر سعاد وهى تطاوعه وتوافقه على العودة إلى الكويت تاركة كل أعمالها فى أمريكا مضجية بكل نجاحها هناك من أجل أن تصحبه .. وتكون معه .. وتبقى إلى جانبه !
يتذكر سعاد وهى فى الكويت تصحب الأطفال إلى المدرسة ، تذهب بهم وتعود بهم راضية بحياتها الفاترة الباردة عندما كان مبتعداً عنها بقلبه ، بحرارته ، بإحساسه ، حين كان رافضاً لوجودها فى حياته ، متمرداً على نجاحها الذى صنعته بجهودها ، وعرقها وكفاحها من أجل أن تكون كبيرة فى عينيه ، ولائقة به .. كزوجها !
يتذكر جاسم الحب ، كل الحب ، منذ طفولة سعاد وحتى هذه اللحظة ، التى تمشى بجواره تفيض عيناها بحب عميق ، لا يخفى على قلبه ، قبل عينيه !
يتذكر جاسم كل شئ .. كل شئ ، وهى يتمشى ببطء من رأس السالمية وعن
يساره مركز سلطان وأمامه أبراج الكويت .. يتمشى جاسم بمشقة فيلتقى بالشباب الذين
يلعبون رياضة ، والذين يتمشون بخفة ونشاط على شاطئ البحر ، فيرونه ، ويحيونه ، يسلمون عليه :
– هلا جاسم .. هلا .. إيش لونك ؟ عساك بخير .
عسانى بخير ؟! يقف جاسم يطالع ساقه المصابة .. فيعود يحلق بخياله فى الملاعب حيث كان يركض ويصول ويجول أثناء المباريات .. عندما كان يشوط الكرة بقوة ، بنفس هذه الساق المصابة ، فتدخل المرمى .. تقتحم الشباك .. تحرز الأهداف .. تسجل الإنتصار !
يمشى جاسم وتمشى سعاد ، فيلمح سايرة سبور حمراء ، فيها بعض الشباب الرياضى فيتابع مشيته المتعثرة هو وسعاد ، وكل منهما هائم فى بحار ذاته ، غارق فى لجج ذكرياته !
تسمع سعاد صوت عوض الدوخى ينساب من إحدى السيارات التى إضطرت للوقوف أمام إحدى افشارات الحمراء ، كانت الأغنية التى تنساب عبر الإذاعة ، هى نفسها تلك الأغنية التى يحبها أبوها والتى كانت تسمعه دوماً يغنيها لها منذ صغرها ..
يا ليل دانا لنا
ياليل دانا .. لدانا
جميل وبالخد شامة
بس لو يرد السلام
يا ليل دانا لنا
يا ليل دانا لدانا
تضعف سعاد ، تنساب دموعها ، تنهار باكية .. تعجز عن متابعة سيرها تستند بظهرها إلى الحاجز الأسمنتى الرمادى ، وهى تبكى ، وتبكى ، وتبكى ، يدنو منها جاسم ، يكلمها فى حنان وحب وهو يقول لها :
– إلى متى البكاء يا سعاد ؟! يا سعاد هذا قدرنا .. يا سعاد لابد نتقبل الواقع بدون ما نفقد الأمل .. وإذا كانت هذه إرادة الله .. لابد أن يكون عندنا أمل .. وإذا كانت إرادة الله إننا ما نشوفهم ثانى يبقى حياتنا .. لابد أن نتقبل قدرنا .. أنت ما بتشعرينى يا سعاد إنك تبكين أبوك .. إنت تبكين الأمان .. تبكين الاطمئنان اللى كان يمثله أبوك ..
يتابع جاسم كلامه مع سعاد ، وهو يشعر أنه يتحدث بصوت قلبه ، لا .. بل بكل
قلبه ، وهو يؤكد لها صادقاً مخلصاً ، واثقاً :
– ترى سعاد أنا مو بس زوجك .. أنا أبوك .. أنا أخوك .. أنا كل أهلك .. أنا عمرة ما قدرت أعبر لك عن مشاعرى يا سعاد .. يجوز لأنهم ما علمونا إننا نعبر عن مشاعرنا .. لكن إذا ما كنت قدرت أعبر لك من قبل عن شعورى ناحيتك فخلينى الحين أعبر لك واقول لك أنك إنت حياتى .. وأنا من أول يوم وأنا بأحبك .. بأحبك .. بأحبك يا سعاد .
تبقى سعاد منهارة من البكاء وهى ما تزال ترتكز على الحاجز الأسمنتى ، وجاسم واقف إلى جوارها يستند عليها ، يضع يده على كتفها وهو يقول لها ، متابعاً حديثه النابع من القلب ، بعد أن أدرك أنه يحبها ، وهى أثبتت له بالفعل أنها تحبه :
– أنا كنت غلطان يا سعاد .. كنت غلطان لأنى بأحبك .. وما كنت أريد أعترف لنفسى إنى بأحبك .. أنا صدق كنت غلطانى لأنى سمحت لنفسى أن تضيع كل هذه
السنين بدون ما أصارحك وأعبر لك عن حبى وأقولك باحبك .. باحبك .. طبعاً يا سعاد أنا ما كنت متعود أعبر لك عن مشاعرى ، بس الحين أنا بأحاول أعبر لك ولو عن .. شئ من مشاعرى !
تسمع سعاد هذه المفاجأة فتنساب دموعها فى هدوء ، دموع الفرح ، فهذه المشاعر صادقة ، هى فعلاً تحسها ، فإذا كان فى دماغها شئ هى طول عمرها تتمناه من قلبها ، إنها تعرف إن جاسم بيحبها ، وإنه يعرف إلى أى مدى هى تحبه .. ! كل ما كانت تتمناه طول عمرها هو ما عبر عنه جاسم الحين .. بعد هذه السنوات من الزواج .. بعد ثلاثة أطفال !!
تسمع سعاد هذا الكلام الآن .. تسمع هذا الإعتراف الآن .. لكن ، العجيب أن جاسم لفت نظرها إلى شئ مهم جداً ، إن جاسم بطل كرة القدم ، كابتن منتخب الكويت الوطنى ، الطبيب الجراح المشهور ، بطل المقاومة الوطنية ، بطل المقاومة الوطنية ، قدر أن يعبر عن مشاعره ، فى حين أنها هى حتى هذه اللحظة لم تقدر أن تعبر عن مشاعرها ؟!
تكتشف سعاد إنها عمرها ما قالت لجاسم أحبك ! عمرها ما قالت لجاسم إنه هو
حياتها ! مع إنها من يوم ما شعرت بنفسها ، وجاسم فى عينيها ، فى قلبها ، فى وجدانها ، فى
روحها ، فهو حبيب قلبها .. إحتمال إنها شافت صورة وجه جاسم قبل أن ترى وجهها ، إحتمال إن قلبها خفق بحب جاسم ، قبل أن يخفق لها .. إحتمال .. إحتمال .. !
تدرك سعاد إنها تحب جاسم قبل أن تدرك وجودها ، الفكرة التى كانت مسيطرة عليها أنها تدرس إنجليزى عشان جاسم ، أنها تتعلم فى الجامعة عشان جاسم ، أنها تعمل وتنجح فى العمل عشان جاسم ، وإنها تحمل وتلد ولتكون أماً .. لأطفال جاسم ، إنها تطبخ وتتقن
الطهى ليكون أكلها مستساغاً لجاسم ، كل هذا دون أن تصرح أو تبوح بشئ من تلك المشاعر لجاسم !
.. كل هذا دون أن تعرف كيف تسوغ تلك الأحاسيس فى كلمات يسمعها جاسم ! .. إكتفت إنها وضعت مشاعرها فى أعمالها ، وإعتقدت إنها بذلك تعبر عنها ، إكتفت بذلك ، دون أن تنطقها فى كلمات !!
تلتفت سعاد مبتسمة إلى جاسم ، تقول له فى هدوء :
– أنت ما كنت وحدك يا جاسم اللى غلطان .. لأنى عمرى ما عبرت لك عن مشاعرى .. وعمرى ما قلت لك إنى بأحبك .. عمرى ما وضحت لك إنك إنت حياتى وروحى .. وبعد روحى .. وبعد عمرى .. أنا مثلك يا جاسم ما ثدرت أعبر لك عن مشاعرى .. يجوز مثل كل عائلتنا ، مثل كل ديرتنا ، ما حد علمنا إننا نكشف مشاعرنا أو نعبر عن أحاسيسنا ..
بس .. أنا الحين أريد قولك .. إذا ما كنت عرفت كيف أعبر لك عن مشاعرى .. فأنت الحين خليتنى اقدر أعبر واقدر أبوح واقولك .. بأحبك .. بأحبك يا جاسم .. بأحبك ..
وهذا .. شئ من مشاعرى
تمت بعون الله
شئ من مشاعرى
- قصة المشاعر الإنسانية الملتهبة .. !
- قصة صراع النفس الإنسانية فى ضعفها وقوتها ، فى حنّوها وقسوتها ، فى يأسها وشجاعتها .. !
- قصة تدور أحداثها فى خمس مدن ، وأربع قارات .. !
- قصة تحرك أحداثها عواطف الحب والحقد والتحدى .. !
- قصة تصنع أحداثها قوى المقت والبغض والتردى .. !
- قصة تشتعل فيها القلوب .. والمدن .. !
- قصة كل جزء فيها واقعى ، هى فى الحقيقة عبارة عن أجزاء من الواقع ، كما حدثت فعلاً ، قامت كريمة شاهين بتجميعها وربطها فى رائعتها .. شئ من مشاعرى .. التى تهديها بكل الحب إلى .. الكويت .
شئ من مشاعرى
- قصة يحتدم فيها الصراع بين الحياة والموت ، وبين قوى الخير والشر !
- قصة حياة تمزق أحداثها البشر ، فتحيلهم ضحايا تنهشهم أنياب الغدر والظلم والعدوان !
- قصة النفس الإنسانية فى صراعها مع نفسها ، وصراعها مع الأحداث التى تتحكم فى تسيير مصيرها .. !
حقيقة الأمر ، مرة أخرى ، وهل يمكن أن نقول مرة أخرى .. تبين كريمة شاهين قدرتها على النظر إلى أعماق النفس البشرية .. !
.. مرة أخرى ، تثير فينا كريمة شاهين الإحساس بالسعادة والألم ، بالفرح
والحزن ، بالطموح والإحباط .. !
شئ من مشاعرى
- قصة لم تحدث فى الواقع بالشكل الذى جاءت به ، لكن .. كل جزء فيها حدث فعلاً كما جاء !
- قصة توضح لحظات الضعف الإنسانى حين تكشف كيف تتحكم الأحداث فى صياغة العواطف ، وتوجيه المشاعر ، حينما يجد الإنسان نفسه أمام قوى لا قبل له بها .. !
- قصة تصور صراع النفس الداخلى ، وتحكى كيف يتحكم الحقد فى الحب .. وكيف تفّجر الأحداث .. الإحساس !
طبعاً ، لا داعى للإشارة إلى أن الأسماء التى وردت أسماءُ غير حقيقية ، لكن ، الوقائع التى تشير إليها القصة ، هى وقائع حقيقية .. حقيقية ، وإن كانت الأماكن التى تشير إليها القصة ، ليست لها علاقة بالقصة ، سوى علاقة المساعدة فى البناء الدرامى .
شئ من مشاعرى
مسلسل العنوان
الفصل الأول فى المدرسة ..
الفصل الثانى أنين الحب !
الفصل الثالث .. عاشق الشوق !
الفصل الرابع صدى الصمت !
الفصل الخامس حنان البحر .
الفصل السادس بريق العشق .
الفصل السابع حريق الذكريات !
الفصل الثامن ليلة ساهمة .. !
الفصل التاسع ومض الزمن !
الفصل العاشر بسمة .. حائرة !
الفصل الحادى عشر بعد .. البعاد !
الفصل الثانى عشر وداع و .. عناد !
الفصل الثالث عشر حنين .. ورحيل !
الفصل الرابع عشر أنوار العيد .
الفصل الخامس عشر .. هول المفاجأة !
الفصل السادس عشر الصدمة الصاعقة !
الفصل السابع عشر اللحظة الحرجة !
الفصل الثامن عشر البشع المشوه !
الفصل التاسع عشر ليالى العذاب !
الفصل العشرون الديسكو السفلى .. !
الفصل الحادى والعشرون الحفيد ابن الشهيد .
الفصل الثانى والعشرون الباطل الواضح .
الفصل الثالث والعشرون برحمتك أستغيث .
الفصل الرابع والعشرون مصرع .. الجمال !
الفصل الخامس والعشرون وقفة خاصة !
الفصل السادس والعشرون الحبيب الجريح .
الفصل السابع والعشرون كواكب التحرير .
الفصل الثامن والعشرون أشباع العذاب !
الفصل التاسع والعشرون دموع القمر !
الفصل الثلاثون شئ من مشاعرى