شبق: في عالم خالٍ من الحُب (الجزء الأول)

كعادة المُخرج والسيناريست الدانماركي لارس فون ترير Lars Von Trier يؤكد لنا في فيلمه الذي قسمه إلى جزئين- Nymphomaniac شبق- على أنه لا يقدم لنا مُجرد أفلام سينمائية بقدر ما يقدم لنا فكرا سينمائيا خالصا يخصه أولا قبل أن يخص صناعة السينما في العالم، أي أننا نستطيع الجزم بيقين واطمئنان بأن ترير في حقيقته ليس سوى مُفكر سينمائي، لا يشغله أمر سوى التفكير في الصناعة، وكيفية تطويرها، وتقديمها بطريقة مُختلفة تماما عما هو موجود، وهذه الطريقة في التفكير تحمل أسلوبيته الخاصة، بل وفيضانا من الثقافة الموسوعية التي يتمتع بها، وهديرا من الأفكار التي يضج بها رأسه حول السينما وكيفية صياغتها بأسلوبية مُختلفة، وأفكار ناقدة لكل ما هو حوله- رغم أنها تبدو في النهاية أفكارا ناقمة على كل شيء، يجتاحها الكثير من الغضب والرفض، والثورة على ما يحيط به!

هذه الأسلوبية السينمائية الخاصة بلارس فون ترير تسمح له ببساطة، وسلاسة الحديث في أمور ثقافية وعلمية، وفنية مُعقدة من خلال أحداث أفلامه من دون الشعور برغبة المُخرج في الزج بها عنوة بين طيات أحداثه، أو حتى استعراض ثقافته الواسعة- وإن كنا لا ننكر تعمده ورغبته في هذا الاستعراض بشكل فيه الكثير من الاستعلائية التي لا تخلو من الأسلوبية الفنية- التي يحرص من خلالها على ربطها بأحداث أفلامه، وجعلهما متواشجتين بصلة وثيقة لا يمكن لنا فصلهما في نهاية الأمر.

نحن، هنا، أمام عمل فكري في المقام الأول أكثر من كونه عملا فنيا سينمائيا جماليا، أمام عمل يتأمل بروية وعمق في الحواس الإنسانية- بل وحواس الكائنات الأخرى أيضا- في مفهوم الجنس وقيمته، وأهميته، أو لا جدواه في حياتنا، يتوقف أمام الحب بمفهومه الفلسفي، ويحاول ربطه بالعديد من الثقافات والفنون الأخرى، يتحدث عن مفهوم الشبق الأنثوي، وأثره على النساء، ومن يحيط بهن، يتأمل الأشجار والنباتات وأنواعها رابطا ذلك بالميثولوجيا الاسكندنافية، يتناول أنواع الأسماك وطرق صيدها المُختلفة، المُوسيقى مُمثلة في المُوسيقار الألماني باخ، وعلاقة المُوسيقى بالرياضيات، والدين، إنه فيلم يشبه الوعاء الحاوي لثقافات مُتعددة، يحاول المُخرج من خلاله صب الكثير من المعارف داخله؛ ليخرج في النهاية بمفهوم فلسفي وجمالي يخصه، هو في الحقيقة يحاول إحداث ثورة في الشكل الفيلمي- كما يرى السينما، وما يجب أن تكون عليها- مُختلفا في ذلك عن غيره من صُناعها، مُتخذا لنفسه طريقا لا علاقة له بالآخرين ممن يعملون في مجال السينما!

إذا ما كان ترير حريصا مُنذ البداية على حسية فيلمه، وربط كل ما يحيط بنا بالحواس في المقام الأول؛ فهو الأمر الذي يحرص على تحقيقه مُنذ اللحظة الأولى في هذا الفيلم من خلال ربط الشكل/ الأسلوب بالمضمون/ الفكرة والأحداث، حيث يبدأ فيلمه بشاشة مُظلمة بينما نستمع إلى أصوات سيارات مُنطلقة بين الفينة والأخرى، وصوت قطار يعبر، ثم لا يلبث أن يدخل صوت مروحة صدئة تتحرك، ومياه تقطر بشكل يكاد أن يكون مُستمرا، ليقطع ذلك كله بشكل حاد ومُفاجئ على زقاق مُظلم إلى حد ما تتساقط فيه الثلوج، مُقدما لنا في شكل بصري ما سبق أن سمعناه من أصوات، حيث تركز الكاميرا على الجدران التي تسيل عليها المياه، والمروحة الصدئة الطاردة للدخان التي يحركها الهواء فيصدر منها صوتا مُزعجا، وغيرها من مُفردات الكادر التي يحرص المُخرج- باستخدام كاميرته- على استعراضها ببطء وتمهل تستمرئه الكاميرا بمُتعة، فنراها تستعرض الزقاق وما يحيط به إلى أن تستقر على جسد جو- قامت بدورها المُمثلة والمُغنية الفرنسية الأصل الإنجليزية الجنسية Charlotte Gainsbourg تشارلوت جينسبورج- المُلقى على الأرض، والمُصاب بالكثير من الجروح والكدمات.

إذن، فلارس فون ترير يُدرك جيدا أهمية ارتباط الشكل الفيلمي بمضمونه، وبما أنه قد اتخذ من الحواس جوهرا لهذا الفيلم؛ فلقد حرص على أن تكون الحواس هي المُحرك الرئيس لمحتوى فيلمه بالكامل بربط حواس المُشاهد مع ما يقدمه أمامه على الشاشة؛ الأمر الذي جعله يبدأ هذه البداية بشاشته المُظلمة كي يحرك حاسة السمع لدى المُشاهد ليربط هذه الحاسة بالرؤية بمُجرد قطعه المُونتاجي، فضلا عن تمهله في استعراض الزقاق بصريا، وهو ما سنراه مرة أخرى في نهاية جزئه الأول حينما ينهي الفيلم بشكل حاد ومُفاجئ على انقطاع حاسة الإحساس المولدة للشهوة، بمُجرد انتهاء مُوسيقى باخ- حاسة السمع- أي أنه يعيد الربط بين حاستي السمع والإحساس مرة أخرى في نهاية الجزء الأول.

يقطع المُخرج بعد مشهده الأول على شقة مُرتبة، زاخرة بالكتب بينما نرى رجلا/ سليجمان- قام بدوره المُمثل السويدي stellan skarsgård ستيلان سكارسجارد- يخرج منها، مارا من أمام الزقاق الذي يرقد فيه جسد جو الغائبة عن الوعي، ليتبضع، ثم يعود مرة أخرى مارا بنفس الطريق، لكنه يلمح هذه المرة جو؛ فيسرع إليها محاولا نجدتها، وحينما يرغب في استدعاء الإسعاف ترفض بوهن مُخبرة إياه أنه إذا ما أصر على استدعاء الإسعاف أو الشرطة فسوف تتحامل على نفسها وتنهض مُنصرفة، وحينما يسألها عما إذا كانت في حاجة إلى شيء، تخبره بضعف أنها في حاجة إلى كوب من الشاي بالحليب؛ الأمر الذي يجعله يأخذها معه إلى بيته من أجل محاولة إنقاذها وتقديم الشاي لها.

ربما نجح فون ترير إلى حد بعيد في هذين المشهدين- اللقطات التأسيسية- في إدخالنا إلى عالمه الفيلمي الذي هو بصدد تقديمه؛ مما يجعل المُشاهد مُنتبها إلى الفيلم، وقد انتابته الكثير من التساؤلات والفضول لمعرفة قصة جو وسبب إصابتها، فضلا عن معرفة سر هذا الرجل الغامض.

يحرص ترير على تقديم شخصية جو مُنذ البداية باعتبارها المرأة المُحتقرة لذاتها، الشاعرة بالذنب، والدنس، والدونية طوال الوقت في جو مُقبض شديد القسوة، وهو ما نلحظه حينما يسألها سليجمان عما حدث لها، فترد: أنا إنسانة سيئة. فيرد بهدوء: لم أقابل في حياتي إنسانا سيئا. لكنها تؤكد له: حسنا، لقد فعلت الآن!

هذا الشعور واليقين بالدونية يتكرر مرة أخرى حينما يخبرها بأنه سيقوم بغسيل ثيابها المُتسخة، لكنها ترد عليه: لا تغسل المعطف. ليقول: لكن رائحته سيئة. إلا أنها ترد: إنه معطفي، الرائحة لن تزول حتى لو غسلته!

إنه اليقين بإحساس الدونية والدنس- ربما من مفهوم ديني، رغم أنها ستؤكد له فيما بعد بأنها لا دينية- وبأن ما اقترفته في حياتها لا يمكن لأي شيء أن يمحوه، أو يستطيع تنظيفه؛ لذلك فالمعطف- بما أنه ينتمي إليها، وهي صاحبة الأفعال- سيظل كريه الرائحة مثلها تماما، ولا يمكن لأي شيء أن يمحو دنسه/ رائحته.

إن هذا المدخل القاتم الذي يحرص عليه ترير هو ما يرغبه تماما، وهو ما يريد له أن يصل للمُشاهد الذي لا بد له من التماهي مع ما يراه كي يصل إليه شعور الانقباض، والسوداوية، والكآبة الذي يتحدث فيه المُخرج، لا سيما أن هذا الفيلم هو الجزء الثالث من ثلاثيته التي صنعها عن الكآبة بعنوان The Depression Trilogy ثلاثية الاكتئاب، أو الكآبة، والتي بدأها بفيلمه Antichrist عدو المسيح 2009م، ليليها فيلمه Melancholia سوداوية 2011م.

إذن، فهو يوغل في الشعور السوداوي الذي اختاره لفيلمه- المُتمم لثلاثيته- بشعور جو بدونيتها ودنسها مُنذ اللحظة الأولى، كما يعتمد في فيلمه على ما نُطلق عليه في السرد الروائي بالتداعي الحر، أي أن الأفكار تبدأ في الانسيال على الذهن من دون أي شكل تنظيمي لها، بل تبزغ الأفكار بناء على ما تقع عليه عين المُتحدث، أو بناء على الحديث مع الآخرين، ومن هنا يتذكر الشخص أمر ما ومن ثم يبدأ في حكايته، وإبرازه، ومن ثم تأطيره ومنحه المزيد من الاهتمام، وبما أن فون ترير يكاد أن يقدم إلينا كتابا فكريا، في المقام الأول، مُغلفا في شكل فيلم سينمائي- وهو ما نراه في طريقه سرده الأثيرة حيث يقسم الفيلم إلى مجموعة من الفصول المعنونة باعتبارنا نقرأ كتابا ما- فلقد اعتمد على طريقة السرد الروائي في فيلمه؛ وبالتالي كانت الحكايات التي ترويها جو لسليجمان مُنفرطة، مُتشظية، تتحرك في الزمن ما بين الماضي والحاضر من دون أي ترتيب لها، وإن كان الرابط الوحيد بينها أنها حكايات تخص جو وحياتها، وما حدث فيها.

هذا الشكل من أشكال التداعي الحر للأفكار هو ما يجعلها تبدأ حكايتها حينما يسألها سليجمان عما حدث معها، وتخبره بحيرة بأنها لا تعرف من أين من المُمكن لها أن تبدأ حديثها، لكنها ترى شيئا غريبا على الحائط، وحينما تسأله عنه؛ يخبرها بأنها ذبابة مُعلقة بشص لصيد الأسماك، ويبدأ حديثه معها عن صيد الأسماك وفنونه فيقول: الصيد بالذباب يتم بربط بعض الريش، وأشياء أخرى في الخطاف حتى يبدو شبيها بالأشياء التي يحب السمك أكلها، ولأن الذبابة خفيفة جدا؛ ينبغي استخدام خيط ثقيل لخلق السرعة عند إلقاء الصنارة.

ربما لا بد لنا من التوقف هنيهة أمام هذا المشهد الذي يتحدث فيه سليجمان عن الصيد، فهو أثناء حديثه إليها عن الصيد بالذباب وضرورة أن يكون الخيط ثقيلا لاكتساب السرعة عند إلقائه في النهر نُلاحظ أن ترير يقطع على مشهد رجل يلقي بصنارة في الماء بقوة، أي أنه يحرص على تصوير الحديث بشكل بصري يُمكّن المُشاهد من فهم ما يحكيه المُتحدث، فضلا عن أن هذا القطع المُونتاجي يكسر من رتابة الحكي بين كل من جو وسليجمان؛ الأمر الذي يُكسب الحديث المزيد من الحيوية، وهو ما سنراه على طول أحداث الفيلم.

هنا، ومن خلال هذا الحديث العفوي، بين كل من جو وسليجمان، عن الصيد وفنونه، تُدرك جو من أين يمكن لها أن تبدأ حكايتها له، وهو ما سبق أن أطلقنا عليه اسم التداعي الحر للأفكار؛ فالحديث عن الصيد هو ما جعلها تبدأ قصتها بقولها: لنبدأ بالطعم. ليكتب ترير على الشاشة: الفصل الأول: الصياد المثالي Chapter One: The Compleat Angler، حيث تقول جو: لقد بدأت اكتشاف كسي في الثانية من عمري. فيقاطعها سليجمان: كس كلمة قوية جدا. لترد ساخرة: حسنا، لنطلق عليه صندوق باندورا، أو صندوق الشرور. لكنه يقول: لا، لا، كس أفضل. فتقول: إذن، لقد كنت شبقة. فيقاطعها: انتظري لحظة، لا يمكن لأحد أن يكون شبقا في الثانية من عمره، أعتقد أن أكثر الآلهة صرامة وتشددا لن يرى في ذلك سوى تصرف طفولي طبيعي. ماذا عن الأجنة؟ من المعروف أن الأجنة تلمس أعضاءها التناسلية، هل يمكن أن يرتكب الجنين إثما؟! فتسأله: وما المانع؟ ليقول: لم ينص أي دين أعرفه على ذلك، إلا إذا كانت كبيرة من الكبائر موروثة. فتقول: ربما يكون ذلك إثما في دين لم يظهر بعد، أو إله لم يتجل بعد.

سنلاحظ هنا أن جو تصر على إيصال دناستها لسليجمان، وبأنها إنسانة سيئة، حتى أنها قد اكتشفت شبقها وهي في الثانية من عمرها، وهو بالفعل عمر من الصعب اكتشاف الطفل فيه رغباته الجنسية بمثل هذا الشكل الجلي، إلا أن المُلاحظة الأخرى الأهم هي حديث سليجمان- اللاديني كما ذكر- باسم الدين، أو بفكرة الدين والتدين، فرغم عدم تدينه- كما ادعى- إلا أنه يتحدث من خلال منظور ديني- مفهوم الثواب والعقاب، وما تنص عليه الأديان، وما لا تنص عليه- مما قد يوحي بتدينه الحقيقي.

الحقيقة أن سليجمان غير مُؤمن بالأديان بالفعل كما ذهب، ولكن إصرار المُخرج على أن تنطق الشخصية اللادينية باسم الدين هو هنا من قبيل السُخرية من الأفكار الدينية، ومدى ارتباطها بالمُجتمع والأشخاص مهما حاولوا التخلص والتنصل منها، وهو أسلوب ترير الدائم في جل أفلامه حيث يسخر من فكرة الدين، والألوهية دائما باعتبارها مُجرد أساطير تعمل على عرقلة حياة البشر، بل ودفعهم للمزيد من الجحيم الدنيوي بدلا من الراحة النفسية والفردوس اللتين يدعي الدين أنه يمنحهما لمن يؤمن به، أي أن فون ترير حريص- كعادته- على السُخرية من الدين وأفكاره بشكل لا يمكن له أن يبدو عمديا، بل تأتي السُخرية بشكل عفوي لا عمدية فيها، وهو ما يتجلى لنا بشكل أكثر وضوحا حينما تؤكد له جو بأنها لا دينية؛ فيرد عليها مُتسائلا: لماذا تأخذي أكثر مظاهر الدين قسوة المُتمثل في مفهوم الخطيئة وتؤمني به من بين بقية عقائد الدين؟! لم أفهم أبدا هؤلاء الكارهين لأنفسهم! كما نرى هذه السُخرية مرة أخرى حينما تسأله جو عن اسمه فيقول: اسمي سليجمان. لترد: يا له من اسم سخيف! ليقول: إنه اسم يهودي. فتقول: لقد قلت: إنك لا ديني. ليقول: صحيح، ولكن جدي الأكبر كان مُؤمنا، ووالديّ منحاني هذا الاسم كنوع من الارتباط الوجداني باليهودية. هنا تُطلق جو سؤالها الساخر في جوهره: لماذا نبقي على الجانب الوجداني للدين كما تقول بعدما نتخلى عن الدين نفسه؟!

إن التساؤل الذي أطلقته جو بانزعاج يمكن رده بسهولة لفون ترير نفسه، أي أنه هو ذاته الذي أطلق هذا التساؤل المُندهش، والساخر، كما لا يفوتنا أنه يسخر من الديانة اليهودية ذاتها بجعل سليجمان يهوديا قد تخلى عن دينه ولم يعد يؤمن به، لا سيما أن فون ترير نفسه يهودي لا يؤمن بالأديان، بل يُعد الساخر الأكبر منها.

تتحدث جو عن حياتها وهي صغيرة، وصديقتها بي- قامت بدورها المُمثلة الاسكتلندية Sophie Kennedy صوفي كينيدي- المُرافقة لها دائما، وكيف أن بي دائما ما كانت تمتلك الكثير من الأفكار الجريئة مثل لعبهما داخل الحمام بإغراق الأرضية بالماء وتخيلهما بأنهما ضفدعان يسبحان في الماء- مع القطع المُونتاجي على الضفادع أثناء قفزها في الماء مثلما تفعل الطفلتان- ليشعرا بمُتعة احتكاك فرجيهما بالأرض والماء، كما تتحدث عن أبيها الطبيب- قام بدوره المُمثل الأمريكي Christian Slater كريستيان سلاتر- الذي كانت تشعر تجاهه بالكثير من الحب والارتباط، وكيف أنه كان يهتم بها كثيرا، ويحاول دائما أن يحكي لها حكايات عن الأشجار في الغابة من خلال اصطحابها إلى هناك، فيخبرها عن شجرة المران ذات البذور السوداء والتي تشعر بقية الأشجار بالغيرة منها لقوتها وجمالها، ويربط الأمر بالأساطير الاسكندنافية، كما يحكي لها حكايات عن شجرة الليمون، والسبب في أن أوراقها تبدو على شكل قلب. وتتحدث جو عن أمها الباردة، التي لا تهتم بأبيها بقدر اهتمامها بلعب السوليتير/ كاثرين- قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Connie Nielsen كوني نيلسن- كما تخبره: في حصص التربية الرياضية كنت أتسلق الحبال، وأظل مُعلقة بها لفترة طويلة حيث يكون الحبل بين ساقيّ؛ فيحدث ما نسميه اهتياج، أتذكر جيدا هذه الكلمة، اهتياج.

هنا يسألها سليجمان مُندهشا: لماذا تصرين على أن الأطفال يأثمون؟! لترد ببساطة: ليس الأطفال، بل أنا! أي أنها تصر على التأكيد له بأنها سيئة ومُدنسة، بشكل هو أقرب إلى المفهوم الديني منه عن المفهوم الأخلاقي الذي من الأحرى أن تتحدث به باعتبارها لا دينية كما ذهبت!

تحكي جو لسليجمان كيف أنها في الخامسة عشر من عمرها رغبت في أن يفتض أحد عذريتها، ولأنها كانت ترى جارها الشاب المُراهق جيروم- قام بدوره المُمثل الأمريكي Shia LaBeouf شيا لابوف- يمتلك دراجة بخارية؛ فلقد كانت تظن فيه الكثير من الأمور التي اتضح لها فيما بعد أنها كانت مُجرد تخيلات، لذا ذهبت إليه لتسأله: هل لديك مانع أن تفض بكارتي؟ فأبدى موافقته رغم انشغاله في محاولة تشغيل دراجته البخارية المُعطلة عن العمل، بينما تركها تجلس على الفراش مُنتظرة إياه، شاعرة بالكثير من الارتباك، إلى أن يطلب منها خلع سروالها الداخلي والاستلقاء على الفراش.

هنا يخرج جيروم عضوه ويبدأ في دعكه بيديه ليكتسب انتصابه، لتقول جو: دفع قضيبه بداخلي، وأخرجه وأدخله ثلاث مرات، ثم قلبني ككيس من البطاطس وضاجعني في مُؤخرتي خمس مرات.

ربما نُلاحظ في هذا المشهد أسلوبية لارس فون ترير الخاصة التي يصنع من خلالها أفلامه، وهي الأسلوبية التي رغم أهميتها، وتميزها إلا أنها تُدلل على أن المُخرج إنما يمارس صناعته للأفلام بشكل فيه الكثير من الاعتزاز بذاته، والاختلاف، والتعالي على الآخرين؛ حيث نرى المُخرج يكتب على الشاشة رقم واحد، ثم اثنين، ثم ثلاثة في نفس التوقيت الذي يدخل فيه جيروم فرج جو، وحينما يقلبها على بطنها- ككيس البطاطس كما قالت- يقطع المُخرج على أحدهم يقلب كيسا من البطاطس بالفعل ثم يعود إليهما بينما يدخلها جيروم في مُؤخرتها خمس مرات وبدأ المُخرج في كتابة الأرقام على الشاشة لتكون النتيجة في النهاية 3+5 وهو ما رأيناه بالفعل مكتوبا على الشاشة.

حينما يقطع المُخرج على جو وسليجمان اللذين يتحدثان، نشاهد سليجمان يقول مُستغرقا في التفكير: ثلاثة وخمسة، هذه أرقام مُتتالية فيبوناتشي. أي أن الرجل يحيل كل ما يستمع إليه إلى ثقافته الخاصة التي اكتسبها من بطون الكتب- بما أنه وحيد وليس له تجارب جنسية سابقة- وهي الثقافة التي تخص لارس فون ترير نفسه في حقيقة الأمر، ورغم أن الفعل الجنسي السابق بشكله الذي رأيناه، وعدد الدفعات الجنسية في دخول جسدها لم يكن مقصودا به أي نظريات رياضية من قبل جيروم، إلا أن المُخرج يحاول من خلال سليجمان إيجاد علاقة بينه وبين النظرية الرياضية في نهاية الأمر!

إن الثقافة التي يتمتع بها المُخرج تجعله دائم الرغبة في ربط أحداث أفلامه بها، وإحالتها إليها حتى لو كان الرابط بينهما بعيدا، بل يمكن لنا القول: إن المُخرج هنا إنما يستعرض ثقافته التي يبثها في أفلامه بشكل ذكي، لا يمكن إنكاره عليه؛ لأنه يجد الصلة بينهما في نهاية الأمر.

في هذا الفصل من الفيلم/ الكتاب/ الرواية تحكي جو عن مُغامرتها مع صديقتها بي- صاحبة الأفكار الجريئة دائما: الفكرة كانت عبارة عن مُسابقة، سنستقل القطار في رحلة، وبي قالت: إننا لسنا في حاجة إلى تذاكر، وأن التي تستطيع مُضاجعة أكبر عدد من الرجال قبل وصولنا لمحطتنا؛ ستربح كيسا من حلوى الشيكولاتة!

هنا يقطع المُخرج على الفتاتين حينما تستقلان القطار، وسيرهما في ردهاته مُتأملتان للركاب؛ الأمر الذي يجعل سليجمان يقاطعها: هل من المُمكن مُقاطعتك؟ ما كنت تفعلينه أثناء سيرك في هذا الرواق، هو أنك كنت تقرأين النهر، أغلب الأسماك الكبيرة تركب التيار لتحمي نفسها؛ فتحتفظ بطاقتها وتختبئ ممن يسعى لافتراسها. عندما تختبئ الأسماك في التيار تتبع نظاما هرميا مُعقدا، وتضاريس النهر هي التي تُحدد أفضل الأماكن للاختباء، فتستطيع السمكة الأكبر اختيار الموقع الأفضل.

أي أن سليجمان ما زال يربط الأحداث التي ترويها له جو عن حياتها بما قرأه في الكتب التي رافقته طوال حياته، بمعنى أنه يسقط ثقافته الشخصية على الفعل والسلوك البشري الحسي مهما كان، مما يعني في جوهر الأمر أن استعراض فون ترير لثقافته الواسعة من خلال أفلامه إنما تجعله يصنع لنا في نهاية الأمر كتابا فكريا سينمائيا، وليس مُجرد فيلم سينمائي، وهو في هذا لا يقحم الأفكار بقدر ما نراها مُتناسبة تماما مع الحدث وإكسابه الكثير من المُتعة والعمق.

تبدأ الفتاتان في اصطياد الركاب الواحد تلو الآخر لتأخذ كل منهما فريستها إلى حمام القطار لمُمارسة الجنس معه، وكلما انتهت إحداهما من واحد تبدأ في اصطياد الثاني بينما نقرأ على الشاشة عدد المرات التي ضاجعت فيها بي، وجو للرجال، حيث وصلت بي لمُضاجعة عشرة من الرجال، بينما لم تنجح جو إلا في اصطياد ستة رجال فقط.

إن اعتبار الرجال هنا كفرائس- تبعا لمفهوم الصيد لدى سليجمان- يجعل ترير بمُجرد اصطياد جو لأول رجل في القطار يقطع على مشهد رجل يصطاد في النهر؛ تأكيدا منه على أنها قد نجحت في اصطياد فريستها/ سمكتها الأولى.

تقل فرص اصطياد الفتاتان للرجال؛ الأمر الذي يجعلهما تستريحان في عربة الدرجة الأولى، وحينما يأتي قائد القطار ليطلب منهما رؤية تذكرتيهما، تدعي جو أنها قد أضاعت تذكرتها، بينما تؤكد له بي بأنها لم تقطع تذكرة في هذا القطار الحقير المُتأخر، وحينما يرغب الرجل في الاتصال بالشرطة من أجل تحصيل ثمن التذاكر يتدخل أحد ركاب الدرجة الأولى ليدفع لهما ثمن التذكرتين.

هنا تفكر بي في اصطياد الرجل، لكنه يرفض الأمر؛ مما يجعل بي تراهن جو أنها إذا ما نجحت في اصطياده فستمنحها خمس نقاط زائدة، وبالتالي ستكسب كيس حلوى الشيكولاتة. هنا تستخدم جو معلوماتها في علم النفس، وتذهب إلى الرجل شاكرة إياه، وتلاحظ أنه بجانبة هدية ما، فتخبره بأنها لاحظت بأنه قد اشترى هدية رخيصة لزوجته، كما تسأله عن السبب في أنه لم يهتم بشراء هدية أخرى لأولاده. إلا أنه يخبرها بأنه لم ينجب، وأنه وزوجته قد رأوا أنهما قد تقدما في العمر ولا بد لهما من الإنجاب، وبالتالي اتصلت به الزوجة كي تخبره بأنها في أفضل فترات التبويض، وعليه أن يسرع إليها، وهو ما جعله يسرع إليها بالفعل ولا يهتم بنوع الهدية أو قيمتها. هنا تقول له جو: لقد فهمت الآن. ليسألها: ما الذي فهمتيه؟ لتقول: لماذا لم تمارس الجنس معنا. فيرد: لم يكن ذلك بسبب عدم رغبتي. لتقول: نعم، لقد أردت الحفاظ على حيواناتك المنوية للأسابيع القادمة، أقصد أنك وزوجتك في سن يجب التعامل مع كل محاولة للحمل بجدية تامة. فيقول: الآن أخبروني أن نوعية حيواناتي المنوية في أفضل حالاتها.

لكن جو لا تهتم بما يقوله الرجل، وتقترب منه مُتحسسة إياه؛ فيحاول مقاومتها، لكنها تخرج عضوه المُنتصب وتبدأ في مصه ليستسلم لها إلى أن يقذف منيه في فمها، تاركة إياه مُبتسمة.

ربما كان المشهد السابق من الأهمية الجوهرية في السياق الفيلمي؛ ما يجعلنا نتوقف أمامه لفترة، لأنه يؤكد على القسوة الحسية الخالية تماما من أي مشاعر، أو المفاهيم الأخلاقية أو الإنسانية التي تتميز بها جو، والتي تتبعها في حياتها غير مُهتمة بأي شيء آخر سوى إرضاء شبقها الذي تسعى إليه؛ فالرجل يحاول الحفاظ على حيواناته المنوية من أجل زوجته لرغبتهما في الإنجاب، ورغم عمره المُتقدم، ورغم معرفتها بالأمر إلا أنها لا يعنيها من هذه القصة سوى اصطياده من أجل الربح بكيس الشيكولاتة فقط، وهو ما يؤكد على قسوتها في التعامل مع كل مُفردات الحياة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سنلحظ تعليق سليجمان على القصة بقوله: في حالتك لم يكن مذاق كعكة مادلين المغموسة في شاي زهر الليمون، وإنما مذاق الشيكولاتة المخلوطة بالحيوانات المنوية. الأمر الذي يجعلها تسأله باندهاش: ماذا تقول؟! ليرد: لا، إنه مُجرد استطراد ثقافي خارج الموضوع، الأمر يتعلق بالذاكرة وكيف أن الخلط بين مذاقين يثير سلسلة من الذكريات. إذن الجنس الفموي أصبح بمُصطلحات الصيادين سلاحك الفنلندي.

إن تعليق سليجمان على القصة، إنما هو في حقيقته تعليق لارس فون ترير نفسه على الحدث؛ فهو ما زال مُصرا على إسقاط ثقافته على الفعل البشري، وتحليله تبعا لما حصله من ثقافة، بل ويحاول دائما إيجاد الصلة العميقة بين الأفعال البشرية، وبين المعرفة الثقافية التي يتمتع بها، ورغم إدراك جو لقسوتها البالغة فيما فعلته، لا سيما أنها قالت لسليجمان: لقد تعمدت استغلال وإيذاء الآخرين لإشباع نزواتي. إلا أنه يحاول التهوين من الأمر برده عليها: الشيء الوحيد الذي فعلتيه باستثناء منح بعض الأشخاص تجربة سيظلوا يذكرونها، هو أنك أرحت “إس” من شحنته المحبوسة باستخدام ما لديك من نضرة شباب، ولقد قرأت في مكان ما إنه إذا ما حبست شحنتك المنوية لفترة طويلة؛ فسوف يتسبب ذلك في موت الحيوانات المنوية، أو الأسوأ من ذلك في فسادها وتشوهها. ربما بفضلك السيد “إس” وزوجته قد حظيا بطفل صحيح مُعافى!

إذا ما لاحظنا جملة “لقد قرأت في مكان ما” التي قالها سليجمان في تعليقه السابق على فعل جو؛ فسيتأكد لنا أن ترير إنما يقدم لنا كتابا ثقافيا ضخما في شكل سينمائي بصري، أي أنه يصنع السينما بطريقته الخاصة، وكما يحب أن يراها، وكما يرى أنها لا بد لها أن تكون عليه، بعيدا عن الشكل النمطي لصناعة السينما في العالم، وهو الأمر الذي يجعل ترير دائم التميز فيما يقدمه من أفلام.

هذه المحاولات الثقافية، وسيل الأفكار المُنهمر الذي يدور في ذهن ترير نراه دائما في جل أفلامه، ولعلنا رأيناه هنا في محاولة تعريفه لمعنى السعادة بشكل فلسفي، فهل الإنسان بالفعل سعيد، أم أنه يتوهم ذلك، أم أنه يدعي السعادة. هذه الأفكار صاغها ترير حينما سألت جو سليجمان عن معنى اسمه فقال لها: سليجمان يعني الإنسان السعيد. فسألته: وهل أنت سعيد؟ هنا نرى سليجمان يجيب بحذر وحيرة بعد فترة من التفكير: أفترض ذلك، سعيد على طريقتي الخاصة رغم إني من الأشخاص الذين يقلمون أظافر يدهم اليمنى أولا. هنا تسأله جو: وماذا يعني هذا؟ فيرد: بالنسبة إليّ، البشرية مُقسمة إلى مجموعتين، مجموعة من الأشخاص الذين يقلمون أظافر يدهم اليسرى أولا، والمجموعة الثانية تضم الأشخاص الذين يقلمون أظافر يدهم اليمنى أولا، ونظريتي تفترض أن الأشخاص الذين يقلمون أظافر يدهم اليسرى أولا هم أشخاص أكثر انشراحا، ولديهم قابلية أكبر للاستمتاع بالحياة؛ لأنهم بدأوا بالمهمة الأسهل، وأرجأوا الأصعب لما بعد.

إذا ما تأملنا الإجابة التي أجاب بها سليجمان على جو عن كونه رجلا سعيدا أم لا؛ لاتضح لنا أنها محض هراء، ومُجرد كلام لا معنى له، أي أن الرجل لا يعرف بالفعل هل هو سعيد أم لا، بل يحيا حياته فقط لمُجرد أنه عليه أن يحياها، أو لأنه قد تم الإلقاء به فيها، كما لا يفوتنا أن السؤال في حد ذاته مُجرد سؤال فلسفي من الصعب، وربما من المُستحيل، الإجابة عليه بالنسبة لأي إنسان، فنحن جميعا لا نعرف إذا ما كنا سُعداء بالفعل أم لا، كما أنه لا يوجد تعريف حقيقي وواضح وجوهري لمعنى السعادة كي نلجأ إليه ونقيس عليه أنفسنا إذا ما كنا سُعداء بالفعل أم لا، أي أن ترير هنا إنما يحاول مُناقشة مفاهيم فلسفية من خلال فيلمه.

تستمر جو في حكاياتها فتخبر سليجمان عن الرجال الكثيرين الذين بدأت في مُضاجعتهم، وكيف أنها بدأت تخبر كل رجل تضاجعه بأنه أول من أوصلها للأورجازم: هل أستطيع أن أخبرك بشيء؟ ربما لا يكون مُهما بالنسبة لك، لكنه مُهم بالنسبة لي، لم أشعر بالأورجازم من قبل، أنت أول من أوصلني إلى ذلك، أي أنها بدأت في مُخادعة الجميع، حيث تخبرهم جميعا بنفس الجملة، وهو ما عرضه المُخرج بذكاء حيث كان يقطع على ثلاث مُضاجعات مع ثلاث رجال مُختلفين، وبينما كانت تخبر أحدهم بهذا الأمر، كان المُخرج يقطع عليها مع الآخر بينما تقول له نفس الكلمات.

كما تؤكد لسليجمان أن رحلة القطار قد فتحت شهيتها، وسُرعان ما أنشأت هي وبي ناديا أسميتاه “القطيع الصغير”، وهو النادي الذي تزعمته بي باعتبارها الأكثر جرأة، كما ضم الكثيرات من الفتيات الأخريات، ولقد كان الهدف الرئيس لهذا النادي هو أن تكون المرأة دائما في حالة من الشبق والرغبة حتى أنهن كن يمارسن العادة السرية الجماعية مع بعضهن البعض، أو كما قالت جو: لقد تعهدنا بمُحاربة المُجتمع المهووس بالحب!

قد يظن البعض أن هدف جو وبي من هذا النادي هو هدف تسعيان إليه يرتبط بمفهوم النسوية “الفيمينزيم” Feminism، لكن الحقيقة التي رغبت فيها كل من الفتاتين كانت غير ذلك تماما، فلقد وضعتا بعض القوانين التي كان من أهمها عدم مُضاجعة الرجل الواحد أكثر من مرة، أي أن الرجل من هؤلاء مُجرد قطعة مناديل بمُجرد الانتهاء منه لا بد من إلقائه، وذلك لأنهما لا يجب عليهما التعلق بالمشاعر الساذجة- كما تريان- فالحب كما تقول جو: الحب يشوه الأشياء، والأسوأ من ذلك أن الحب أمر لم أسع إليه أبدا، الشهوة الجنسية هي ما كنت أسعى إليها، وحتى هي مطلوبة من الرجال، ولكن هذا الحب الأحمق جعلني أشعر بالإهانة، هو وكل ما يصاحبه من تضليل وكذب، الشهوة الجنسية تعني أن تقول: نعم، لكن الحب يستحث الغرائز الأكثر وضاعة ويجعلك غارقا في الأكاذيب، ويدفعك لأن تقول: نعم، وأنت تعني لا، والعكس بالعكس، شعرت بالخزي لما أصبحت عليه.

إذن، فمُحاربة مفهوم الحب بسذاجته، وثنائيته كان هو الهدف الجوهري من هذا النادي الذي أنشأتاه، لكن رغم أن بي كانت هي قائدة هذا النادي إلا أنها بدأت تضاجع أحد الرجال أكثر من مرة؛ الأمر الذي جعل جو تثور عليها، لترد عليها بي: تعتقدين أنك تعرفين كل شيء عن الجنس؟ العنصر السري في الجنس هو الحب. الأمر الذي جعل جو تنفصل عن صديقة عمرها، لأنها بدأت تخالف قواعدهما التي وضعتاها، والتي تنص على أن الرغبة الجنسية للمرأة، وشبقها، واهتياجها الدائم هو أهم شيء، وأنه لا وجود للحب في حياتهما، وهو ما يتأكد لنا بأنه عقيدة راسخة لدى جو حينما تقول لسليجمان: بالنسبة لي، الحب هو مُجرد شهوة مُضاف إليها الغيرة، والباقي مُجرد ترهات، لكل مئة جريمة ارتكبت باسم الحب، هناك فقط جريمة واحدة ارتكبت بدافع الجنس!

حينما ينهض سليجمان ليأتي لجو بشيء تأكله يعود إليها ومعه مشروب دافئ وقطعة من المُعجنات اسمها “روجيلا”، وهي مُعجنات معروفة لدى اليهود، لكنها تلاحظ أنه قد أحضر لها شوكة كيك كي تأكل بها الروجيلا؛ مما يجعلها تندهش مُخبرة إياه بأن إحضار الشوكة من أجل أكل الروجيلا ليس فعلا ذكوريا، بل هو فعل أنثوي تماما؛ لأن الروجيلا لا يمكن أكلها بالشوكة، وهو ما يذكرها بحكاية أخرى من حكايات حياتها؛ ومن ثم تبدأ في حكايتها له، أي أن ما سبق أن ذهبنا إليه من أن فون ترير إنما يعتمد على التداعي الحر في الأفكار، وهو ما يجعل جو تبدأ في حكاياتها، هو ما نراه بالفعل في الفيلم، فكلما لاحظت شيئا، أو تحدثا عن شيء، تبدأ الحكايات في الانسيال على ذهنها، ومن ثم تبدأ في حكايتها، أو بالأحرى يبدأ فون ترير نفسه في حكايته- بما أنه هو كاتب السيناريو ومُخرج الفيلم.

ينتقل ترير إلى الفصل الثاني من فيلمه ليكتب على الشاشة: الفصل الثاني: جيروم Chapter Two: Jerome، حيث ذكرتها قطعة الروجيلا بجيروم/ حبيبها الأول، أو الرجل الأول الذي افتض عذريتها/ فتى الدراجة البخارية.

ترغب جو في إعادة ترتيب حياتها، وهو ما جعلها تبدأ في تعلم الطب مثل والدها، لكنها بعد فترة تنصرف عن الدراسة وتتوقف عنها؛ الأمر الذي أحزن والدها، لكنها تبدأ في البحث عن عمل لها، وحينما تتقدم إلى إحدى الشركات لطباعة الكروت من أجل العمل فيها، تؤكد لها السكرتيرة ومُديرة العمل/ ليز، بأنها لا فرصة لها من أجل هذا العمل حينما تعرف أنها لم تحصل سوى على شهادتها الثانوية، وتوقفت عن دراسة الطب، إلا أن ليز حينما تدخل إلى مُدير الشركة تُفاجئ بأنه قد وافق على عمل جو لديهم، وحينما تدخل للتعرف على مُدير الشركة تندهش بأنه جيروم/ فتاها الأول في حياتها، والذي وافق على عملها من دون أي مُؤهلات لرغبته فيها، وفي أن تكون معه.

يشعر جيروم بالكثير من السعادة لمُقابلته مرة أخرى لجو، وحينما يأخذها في جولة داخل الشركة يتعمد تعطيل المصعد بين الأدوار ليمارس معها الجنس، لكنها ترفض مُمارسة الجنس معه؛ الأمر الذي يشعره بالكثير من الغضب، لكنه يحتفظ بها في الشركة حتى لا يشعر بأنه قد انهزم أمامها، إلا أنه يبدأ في تجاهلها وكأنها لا وجود لها، بل وكثيرا ما يصطحبها في سيارته من أجل أن تحمل له معطفه فقط، ويشعرها بضآلتها أمامه.

تبدأ جو في العديد من المُمارسات الجنسية مع زملائها من رجال الشركة، ويلحظ جيروم ذلك، الأمر الذي يغضبه، ويجعله يحاول تقزيم جو أكثر بإهانتها الدائمة وتجاهلها، لكنها بعد فترة تبدأ في الشعور بمشاعر تجاهه لا سيما يديه اللتين تحبانهما كثيرا وتثيرانها، فبدأت في الاهتمام به بأن رتبت له فوضى مكتبه ذات مرة، وهو ما أزعجه، كما قدمت إليه الشاي وقطعة من الروجيلا، ولأنه راغب في إذلالها طلب منها الخروج من المكتب وإعادة تقديم ما قدمته، وحينما فعلت وبخها لأنها لم تأت له بشوكة من أجل أكل الروجيلا، وهو ما أدهشها رغم طاعتها له.

أي أن سليجمان حينما قدم إليها قطعة الروجيلا مصحوبة بشوكة الكعك؛ ذكرها الأمر بجيروم مُباشرة، مما جعلها تبدأ حكايتها معه، وحينما وصلت جو إلى هذا الجزء من حكايتها مع جيروم- أكل الروجيلا بالشوكة- يقاطعها سليجمان مُعلقا: هذا ليس أنثويا، بل على الأكثر برجوازي، يُقال إن البلاشفة أثناء ثورتهم واجتياحهم لروسيا كانوا يفصلون الفتيان عن الرجال، أو بالأحرى أصحاب رؤوس الأموال عن العمال، وكانوا يحضرون صبيا، وقبل هدم أحد المنازل يرسلونه ليتأكد إذا ما كان أصحاب المنزل يملكون شوك الكعك أم لا.

ألا نُلاحظ، هنا، أن هذه المُقاطعة من سليجمان ليست في جوهرها سوى مُقاطعة من لارس فون ترير نفسه من أجل بث المزيد من معارفه داخل الفيلم، وهي المعارف التي لها علاقة ما بأحداث فيلمه، أو يحاول دائما الربط بينها وبين الأحداث حتى لكأنه يبني أحداث الفيلم في الأساس بناء على هذه المعارف الثقافية المُختلفة؟

بل حرص ترير على أن يقطع مُونتاجيا على مشاهد تاريخية قديمة لثورة البلاشفة وهدمهم للبيوت حينما يكتشفون شوك الكعك فيه، أي أنه حريص دائما على الصورة التي تربط المُشاهد بما يرويه أبطال فيلمه.

إن شعور جو بالمشاعر تجاه جيروم جعلها تتوقف إلى حد ما عن مُمارسة الجنس الفوضوي والعشوائي مع الرجال، بل جعلها راغبة دائما في الاعتراف لجيروم بمدى حبها وتعلقها به؛ الأمر الذي جعلها تكتب إليه رسالة تبثه فيها مشاعرها التي تشعرها تجاهه، وحينما دخلت مكتبه كي تضع الرسالة فيه لاحظتها ليز وأخبرتها أنها عليها أن تضع الرسالة له يوم الجمعة حيث يكون مزاجه جيدا في هذا اليوم، وهو ما صدقته جو بالفعل، وحينما اتجهت إلى مكتبه يوم الجمعة فوجئت بأن ثمة رجل عجوز هو من يجلس في المكتب، وحينما سألته عن جيروم، أخبرها أن جيروم ابن أخيه كان يساعده فقط في إدارة الشركة لحين شفائه من مرضه، وأنه قد سافر حول العالم، وأخذ معه سكرتيرته ليز التي تزوجها، كما أخذ منها الرسالة واعدا إياها أن يسلمها إليه إذا ما رآه في يوم من الأيام. أي أن جيروم قد تناساها تماما ولم يهتم بها، وتزوج السكرتيرة ورحل.

لعل من المشاهد المُهمة في هذا الفصل الذي حرص ترير على تقديمه هو المشهد الذي حاولت فيه جو ركن سيارة جيروم حينما أكد لها أن المكان ضيق ولا يمكن الركن فيه، حيث نرى الشاشة وقد ارتسم عليها العديد من الرسوم البيانية المُعقدة التي تشير لكيفية ركن السيارة بينما تنجح جو بسهولة في فعلها؛ وهي أسلوبية تخص فون ترير وحده، مُختلفا في ذلك عن غيره من صُناع الأفلام.

بعد رحيل جيروم تبدأ جو مرحلة جديدة من مراحل شبقها، حيث تقول لسليجمان: أتعرف أبواب المتاجر التي تُفتح وتُغلق عن طريق أجهزة الاستشعار؟ قارن تلك الأبواب بفرجي، وأضف إليها جهاز استشعار شديد الحساسية، أبواب فرجي الحساسة منحتني الفرصة لتطوير دراساتي للأشكال، فانتقلت من أوراق الأشجار إلى قضبان الرجال- ليبدأ فون ترير في استعراض كبير لأشكال القضبان الذكورية على الشاشة.

لكنها أثناء حديثها مع سليجمان تلمح كتابا بعيدا مكتوب عليه Mrs H بينما باقي الاسم غير واضح لها؛ وهو الأمر الذي يجعل أفكارها وحكاياتها تنثال بشكل حر لتبدأ له في حكاية مقطع جديد من حياتها، ويكتب ترير على الشاشة: الفصل الثالث: السيدة إتش Chapter Three: Mrs H .

تحكي جو عن انغماسها الكامل في شبقها حتى أنها باتت تجد الكثير من الصعوبة في التوفيق بين الرجال الذين تضاجعهم يوميا، لا سيما أنها تُضاجع عشرة رجال كل يوم بالإضافة إلى دوامها في عملها؛ ومن ثم كان عليها التوفيق بين مواعيد هؤلاء الرجال فضلا عن العمل، وهو ما جعلها تستخدم النرد في الرد على الرجال، أي أن علاقاتها بالرجال باتت عشوائية خاضعة لقانونها مع أرقام النرد التي وضعتها حيث تدل بعض الأرقام على ضرورة قطع العلاقة، وبعض الأرقام على الموافقة باستكمال العلاقة، وهكذا.

لكن ثمة رجال منهم قد بدأوا يتعلقون بها؛ الأمر الذي جعلهم عنيفين في التعامل معها إذا ما رفضتهم، ولأنها في يوم كانت قد اتفقت مع أحد عشاقها على موعد في السابعة مساء، ولأن عشيق آخر لها لا يرغب في تركها مُتعلقا بها، ظل في منزلها غير راغب في المُغادرة رغم أنها قد أخبرته بأن ثمة صديق سوف يأتي لها في تمام السابعة، وحينما سألها: هل تحبينني؟ ردت عليه راغبة في خروجه من حياتها تماما: نعم، أحبك كثيرا، تظل تعدني، لكني أدركت الآن أنك لن تترك عائلتك من أجلي، إنه لأمر مُحزن، ولكن هذا اختيارك، هذا ليس مُرضيا بالنسبة لي؛ فأنت لا تستطيع أن تكون لي بالكامل، لذلك علينا ألا نرى بعضنا البعض بعد الآن.

إن الإجابة التي أجابتها جو على الرجل لم تكن صادقة في أي كلمة منها؛ فهي لا تشعر بأي مشاعر تجاه أي رجل مر بها في حياتها- باستثناء بعض التعلق بجيروم- لكنها لرغبتها في التخلص منه، ولأنها واثقة بأنه لن يستطيع التخلي عن زوجته وأطفاله الثلاثة؛ أجابته بمثل هذا الشكل، وهو ما جعله ينصرف حزينا، لكنها بعد مرور فترة من الوقت سمعت دقا على بابها، وحينما اتجهت لفتحه ظنا منها أن الرجل الذي واعدته قد وصل فوجئت بنفس الرجل المتزوج وقد عاد مرة أخرى ومعه معطفه وحقيبة ملابسة مُؤكدا لها على أنه قد تخلى عن أسرته وبات لها وحدها الآن.

لم تكد جو تستوعب المأزق الذي باتت فيه إلا وسمعت صوتا أنثويا يسأل هامسا: هل دخل؟ ليجيبها صوت طفل بالإيجاب، لكن الصوت الأنثوي يسأل مرة أخرى: هل أغلق الباب؟ هنا تتجه جو إلى الدرج لفهم ما يحدث؛ لتُفاجأ بزوجة الرجل/ السيدة إتش وأطفاله الثلاثة- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Uma Thurman أوما ثورمان- الذين قاموا بتتبعه حتى شقة جو.

تستأذن السيدة إتش من جو بالدخول كي يلقي الأطفال النظرة الأخيرة على أبيهم الذي هجرهم، وتؤكد لجو أنه قد فضل أن يكون معها متنازلا للزوجة عن كل شيء، حتى أنه قد تنازل لها عن سيارته التي يحبها كثيرا، ولا يستطيع التخلي عنها، ولأنها تعرف مدى تعلقه بسيارته فهي ترغب في إعادة مفاتيحها إليه، ورغم رفضه لذلك إلا أنها تصر على إعادة مفاتيح سيارته إليه لتؤكد للأطفال بأنهم عليهم أن يعتادوا من الآن على ركوب المواصلات العامة؛ لأنهم لم يعد لديهم سيارة، كما لم يعودوا في نفس المستوى الاقتصادي الذي كانوا يعيشون فيه بعد تخلي أبيهم عنهم جميعا، كما تلاحظ أن الشقة بوهيمية تماما، وتذكر لزوجها بأنهما كانا يمتلكان شقة بنفس الأسلوب البوهيمي قبل زواجهما وإنجاب الأطفال.

تطلب السيدة إتش من جو أن تلقي نظرة هي وأولادها على فراش الزنا الذي يضاجعها فيه أبوهم بما أن الأمر له علاقة بحياتهم، وتدخل هي والأطفال لتخبرهم بأن هذا هو المكان الذي يحلو لأبيهم أن يكون فيه، ويشعر فيه بالراحة الكبيرة، كما تطلب منهم أن يتذكروا هذا المكان بشكل جيد لأنهم سيحتاجون إليه عندما يبدأون جلسات العلاج النفسي التي لا بد منها فيما بعد رغم أنهم لا يمتلكون المال الكافي لهذه الجلسات بعدما تخلى عنهم الأب.

سُرعان ما تبدي الزوجة المكلومة في زوجها رغبتها في تناول الشاي، وتدخل إلى المطبخ بالفعل لإعداد الشاي، وحينما تضعه على المائدة أمام الزوج والعشيقة/ جو تخبر جو بأن زوجها يحب مُكعبين من السكر في كوب الشاي، كما تسألها كم من الحيوات التي من المُمكن لها أن تدمرها في اليوم، وهل تعرف شعورها الآن بعدما دمرت حياتها بعد عشرين عاما من الزواج. هنا يدق الباب ليأتي العشيق الآخر، ويجتمع الجميع في موقف مُحرج، لكن جو تخبر الأطفال بأنها لا تحب أباهم، الأمر الذي يجعل السيدة إتش تظن أن جو تحاول التعاطف معهم، وتحاول الخروج بأولادها من الشقة، إلا أن أحد الأطفال يجري باتجاه أبيه، الأمر الذي يجعل السيدة إتش تسرع باتجاهه مُؤكدة له بأن الأب لم يعد لديه الرغبة فيهم، ولا يجب عليهم إشعاره بالذنب تجاههم، وتنطلق منها فجأة صرخة عارمة لتصفعه بقوة، بينما تخرج إلى الدرج وصرخاتها لا تتوقف.

ربما كان فصل السيدة إتش وأداء أوما ثورمان هو الأفضل في فصول الفيلم بالكامل، لا سيما أن أداء ثورمان ظهر بأنه الأداء الأفضل في فريق الفيلم بالكامل، خاصة ونحن نرى الزوجة المطعونة في أنوثتها، وعشقها بعد خيانة زوجها وتخليه عنها هي وأولادها، وقسمات وجه أوما التي تفطر القلب، لا سيما عينيها اللتين كانتا مغرورقتين بالدموع المُعلقة والآبية على الانسكاب حتى انفجارها بصراخها في نهاية الفصل.

هنا ينظر إليها سليجمان باندهاش ليسألها: كيف أثرت هذه الواقعة على حياتك؟ لترد من دون أي مشاعر: لم يكن لها أي تأثير على الإطلاق. فيسأل مُندهشا: ولا أي تأثير؟! لتقول ببساطة: نعم، فأنت لا تستطيع إعداد العجة من دون كسر بعض البيض!

إن هذه الإجابة التي أجابتها جو ببساطة مُتناهية، ومن دون الشعور بأي ذنب إنما تؤكد على القسوة المُتناهية التي يتناول بها فون ترير شخصياته، وحكاياته، حتى أنه يكاد أن يقسو على مُمثليه أنفسهم بوضعهم في مواقف نفسية قاسية، إنها القسوة التي يرى لارس حتميتها ووجوبها في الحياة القاسية التي لا تستحق أن نتعاطف معها بسبب عدم تعاطفها مع أي منا، وهذا ما أبداه كثيرا في العديد من أفلامه، حيث لا يوجد أي شكل من أشكال التعاطف مع الإنسان في هذه الحياة التي يحاول دائما انتقادها.

تُلاحظ جو أن ثمة كتاب يوجد فيه ورقة فاصلة على مكتب سليجمان؛ فتسأله: ماذا تقرأ؟ ليجيب: فقط أعيد التعرف على نفسي مع إدجار آلان بو. فترد: لا أعرفه. لكنه يقول: لقد كان رجلا يمزقه القلق، ومات بأسوأ طريقة يمكن تخيلها بمرض يُسمى بالهذيان الارتعاشي، يحدث جراء تناول الكحول لفترة طويلة ثم التوقف فجأة؛ عندها يُصاب الجسد بما يشبه صدمة من فرط الحساسية، فيبدأ برؤية أبشع الهلاوس، أو تخيل خروج فئران وثعابين، وصراصير من الأرضية، ديدان تزحف على الحائط، ويصل الجهاز العصبي للشخص إلى أقصى درجات تحفزه، ويشعر الإنسان بالذعر والشك المرضي بشكل دائم، ثم يتوقف الجهاز الدوري عن العمل بينما يبقى الهلع والذعر مع الإنسان حتى يفارق الحياة.

لاحظ هنا أسلوبية ترير في سرد وقائع فيلمه المُعتمد في الأساس على تيار الوعي؛ فلقد شاهدت جو الكتاب كي تبدأ فصلا جديدا من حياتها ستبدأ في سرده، كما أن المُخرج إنما يحرص على استغلال ثقافته الواسعة في سوق المزيد من الحكايات المتوالدة من بعضها البعض، وكأنها حلقات تؤدي لبعضها من دون انفصال، بل بشكل شديد التلقائية.

لذلك تخبره جو بأنها تعرف جيدا ما يسمى بالهذيان الارتعاشي، ومن ثم يكتب المُخرج على الشاشة: الفصل الرابع: الهذيان الارتعاشي Chapter Four: Delirium، وهو الفصل الذي تبدأ فيه جو في سرد وقائع موت أبيها الذي أصابه مرض ما، وبات نزيلا دائما في المشفى، حيث الزوجة ترفض الذهاب إليه بدعوى أنها تخاف من المُستشفيات.

ثمة مُلاحظة لا بد من الانتباه إليها، وهي أن لارس قد حرص على تصوير هذا الفصل بالأبيض والأسود مُختلفا في ذلك عن جميع فصول الفيلم الذي نراه بالألوان، ربما ليوحي إلينا بأهمية هذا الفصل بالنسبة لجو ومكانته، فضلا عن التأكيد على أنه قد بات ماضيا بالنسبة إليها، وربما ليتناسب مع الأحداث الحزينة التي ترويها جو عن والدها، والتي لا يمكن لها أن تحتمل الألوان.

نظرا لعشقها الكبير لأبيها- الذي كان الوحيد الذي يهتم بها ويحكي له الكثير من الحكايات عن الأشجار والأساطير- أقامت جو معه في المشفى غير راغبة في مُغادرته، وحينما تسأله: ألا تشعر بالخوف؟ يرد عليها: كلا. فتقول: كيف يتأتى لك ألا تخاف؟! ليرد: رأيت العديد من الناس يموتون، وهناك مقولة للفيلسوف أبيقور عن عدم الخوف من الموت: طالما نحن أحياء فلا وجود للموت، وعندما يأتي الموت فلن نكون أحياء لنقلق بشأنه- المزيد من الإسقاطات الثقافية.

يبدأ الأب في الدخول في حالة من الهلاوس والأحلام المُزعجة، والشعور بالخوف والرعب الشديد أثناء غيابه عن الوعي؛ فنراه يصرخ هلعا مما يراه وحده، الأمر الذي يجعل الطبيب يعطيه المزيد من المورفين كي يهدأ، وحينما يزداد الأمر ويبدو أنه سوف يضر بنفسه يلجأ الطبيب إلى تقييده في فراشه؛ الأمر الذي يجعل جو حزينة باكية، ويطلب منها الطبيب أن تستريح قليلا وتذهب للتمشية؛ فتأخذها قدماها إلى إحدى أركان المشفى حيث تمارس الجنس مع أحد المُمرضين الذين تراهم، وتارة أخرى يتبرز أبوها على نفسه فتطلب الطبيب والمُمرضة اللذين يقومان بتنظيفه، لتذهب مرة أخرى لمُضاجعة أحد أطباء المشفى- أي أنها تواجه حزنها الشديد بالمزيد من الشبق الذي تشعر به- إلى أن تنتهي حياة أبيها الذي عاش نهايتها في ذعر وهلع شديدين بسبب الهذيان الارتعاشي الذي شرحه لها الطبيب.

إلا أن المشهد الأخير من هذا الفصل يؤكد على ارتباطه بحالة الشبق التي تعاني منها جو، وشعورها الشديد بالخجل وبأنها إنسانة سيئة؛ حيث تقول لسليجمان بينما نشاهدها على الشاشة أمام فراش أبيها الميت: لقد استثرت حتى بللت مهبلي. بينما نرى سائل شهوتها يسيل على فخذها. لكن سليجمان يحاول- كعادته- تفسير الأمر تفسيرا علميا وثقافيا حينما يرد عليها: من الشائع جدا التفاعل مع الأزمات بشكل جنسي، ربما هذا مُخزٍ بالنسبة لك، ولكن في الأدب هناك نماذج عديدة أسوأ من ذلك.

تُلاحظ جو وجود مُسجل في الغرفة التي تجلس فيها مع سليجمان، فتسأله عما يستمع إليه ليجيبها بأنها مقطوعة ناقصة ألفها المُوسيقار الألماني باخ، وأنها من أجمل المقطوعات التي سمعها عن تعدد الأصوات، والتي كانت في حقيقتها ترنيمة كنسية، لكنه عمل على تطويرها، كما شرح علاقة المقطوعة والأصوات المُوسيقية بمُتتالية فيبوناتشي الرياضية التي سبق له الحديث عنها في الفصل الأول، وربط ذلك باسم باخ نفسه حيث أن مجموع القيم العددية لأحرف اسم باخ هو 14، وهو نفسه الرقم الذي استخدمه في مقطوعته، فيشرح لها تعدد الأصوات بقوله: في هذه المقطوعة ثلاثة أصوات، صوت الباص، والصوت الثاني يُعزف باليد اليسرى، والصوت الثالث يُعزف باليد اليمنى، وتُسمى كانتوس فيرموس Cantos Firmus، والأصوات الثلاثة مُجتمعون يشكلون تعدد الأصوات. أي أن ترير ما زال يستغل ثقافته الموسوعية في العديد من المجالات من أجل بناء عالمه الفيلمي وربط هذه الثقافة بتوليد الأحداث المُختلفة لاستمرار الحدث، وهو ما يجعل المُخرج يكتب على الشاشة: الفصل الخامس: مدرسة الأرغن الصغير Chapter Five: The Little Organ School حينما تخبره جو بأنها لديها في حياتها حكاية تتشابه مع تعدد الأصوات الذي يتحدث عنه.

تبدأ جو في سرد الفصل الجديد حيث تتحدث عن أن عشاقها قد تضاعفوا بشكل كبير لا يمكن لها التحكم فيه، ولكن بما أنها تريد الحديث عن تعدد الأصوات فسوف تُحدثه عن ثلاثة فقط من هؤلاء العشاق باعتبارهم تعدد الأصوات في داخلها، والذين كانوا هم الأهم في حياتها الجنسية، فتخبره عن أحدهم الذي كان يمتلك سيارة قديمة، وكان طيب القلب وحينما كانت تعطيه موعدا في التاسعة مثلا فقد كان يأتي بسيارته في الثامنة، بينما ينتظر موعده أسفل بيتها حتى تحين التاسعة، ولأنها كانت تشفق عليه كثيرا؛ فلقد كانت تمنحه كوبا من القهوة لحين انتهاء موعدها مع العشيق السابق عليه بينما هو ينتظرها لتتفرغ له، كما بدأت في الحكي عن أنه كان يعرف بالضبط احتياجاتها، وعن المناطق التي ترغب منه في لمسها من دون أن تخبره أو تطلب منه، فكان يعريها ويبدأ في لحس فرجها، وتحسس بظرها بلسانه إلى أن يوصلها للأورجازم الذي ترغبه، أي أنه لم يكن يعنيه في علاقته بها سوى إسعادها وإيصالها للمُتعة التي ترغبها، وهو ما جعلها تعتني به عناية خاصة، بل وتمنحه العديد من الحقوق التي لا يمكن أن تمنحها لغيره من الرجال، منها أنه كان يأتي لها بحوض استحمام معه ويحممها فيه كأميرة بينما يقبل قدميها، و يُدللها، ويجلسها على ساقيه عارية ليحكي لها الحكايات كطفلة، وشبهت جو هذا الرجل بصوت الباص.

هنا تنتقل جو إلى حكايتها عن الصوت الثاني/ الرجل الثاني لتنقسم الشاشة إلى شاشتين بدلا من شاشة واحدة كي نرى ما تحكيه عن هذا الرجل الثاني وما كان يفعله معها، لتخبره بأنه كان رجلا مُختلفا ويرغمها على انتظار وصوله، وأنها حينما كانت تفتح له الباب كي يدخل كان يظل لفترة أمام الباب، تماما كالقط حينما تفتح له ويأخذ فترة في التفكير كي يدخل، أو هو كالنمر أو الفهد لا سيما أنها كانت تلحظ في مشيته ما يشبه حركة النمور، وأنه حينما كان يستلقي على الفراش تفهم منه أنه يرغب في أن تكون هي البادئة؛ الأمر الذي كان يجعلها تبدأ في تلمسه بحذر لأن ردود أفعاله كانت عنيفة وغير متوقعة، فتبدأ في مص قضيبه إلى أن يهجم عليها مُضاجعا إياها بشراسة حيوانية تتشابه تماما مع النمور حينما تتمكن من فريستها، لا سيما أننا نراه أثناء مُضاجعته لها من الخلف يطبق بأسنانه على رقبتها من الخلف بينما يقطع المُخرج على مشهد لنمر يطبق بأسنانه على رقبة غزالة في تماه بين فريسة النمر، وجو باعتبارها كانت فريسة لهذا الرجل، وشبهت هذا الرجل بالصوت الثاني الذي يُعزف باليد اليسرى.

ثم تبدأ في الحديث عن أنها كانت تشعر رغم كل ذلك بالكثير من الوحدة؛ الأمر الذي دفعها إلى الكثير من التريض في الغابة حيث تتذكر أباها، لكنها ذات يوم أثناء تريضها تلحظ وجود صورة فوتوغرافية تم تمزيقها مُلقاة على أرض الغابة، وحينما تبدأ في جمع قصاصاتها وضمها لبعضها البعض تُفاجأ بأن الصورة لحبيبها الأول جيروم مع زوجته ليز التي سافر معها، لكنها تُفاجأ حينما ترى الصورة بشكل كامل بيد تمتد إليها لتندهش بأنها يد جيروم بالفعل في الغابة.

هنا يقاطعها سليجمان مُعترضا بأن حكايتها مع جيروم غير منطقية وتعتمد على الكثير من المُصادفات بشكل لا يمكن تصديقه، إلا أنها تخبره بأنها من عاشت الحكاية وعليه إما تصديقها فيما تقوله، أو تتوقف عن الحكي. يوافق سليجمان على المُصادفة التي تحكيها جو، ويطلب منها الإكمال؛ فتخبره بأنها قد بدأت تعيش حياة جنسية سعيدة مع جيروم- لتنقسم الشاشة إلى ثلاث شاشات تستعرض علاقتها الجنسية مع الثلاثة مُعبرة عن تعدد الأصوات- كما نراها تطلب من جيروم أن يضاجعها مُغلقا جميعا فتحاتها، لنراه يدخل لسانه بالكامل في فمها بينما يجعلها تجلس على قضيبه في الوقت الذي تخترق أصابعه لشرجها في نفس اللحظة، لكن المُخرج يقطع مُونتاجيا على المُسجل الموجود في غرفة سليجمان حيث تتوقف المقطوعة المُوسيقية فجأة ويتوقف المُسجل، ليعود بالقطع المُونتاجي مرة أخرى على جيروم وجو بينما يضاجعها وقد انفصلت تماما عن الشعور بالمُتعة أو بأي شيء بينما هو داخلها، أي أنه ربط بين انقطاع المُوسيقى في المُسجل، وبين انقطاع المُتعة التي تمارسها بشكل مُفاجئ لتسقط في الفراغ الضخم.

هنا ينتبه جيروم ليسألها عما بها، كي تجيب: لا أشعر بأي شيء. وحينما يبدي دهشته تبدأ في البكاء مُخبرة إياه مرة أخرى بأنها لا تشعر بأي شيء!

يغلق المُخرج والسيناريست الدانماركي لارس فون ترير الجزء الأول من فيلمه على هذا المشهد الذي سقطت فيه جو في الفراغ الكامل بينما تبكي لفقدانها المقدرة على الشعور؛ ليؤكد لنا أنه في صناعته للسينما إنما يقدم لنا شيئا يخصه وحده، ويختلف فيه عن جميع صُناع السينما في العالم.

إنه يصنع ما يدور في ذهنه فقط، ويبث من خلاله ما يفكر فيه من أفكار، وثقافات مُتعددة، ويربط هذا الهدير من التفكير ببعضه البعض من أجل تقديمه في صورة مرئية هي أشبه بالكتاب أو الموسوعة الثقافية الضخمة، فضلا عن المُتعة البصرية والفكرية التي يشعر بها مُشاهده، والذي لا بد له أن يكون مُشاهدا من نوع خاص، ومُختلف كي يستطيع استيعاب أفكاره وتأملاته المُختلفة، والثورية، والغاضبة، ورغم أن الفيلم كان مُتخما بالكثير جدا من المشاهد الجنسية الواضحة والصريحة لا سيما في اختراق الأعضاء الذكورية لفروج النساء، أو مُؤخراتهن، إلا أننا لم نر جنسا في الفيلم بقدر ما شعرنا بالكثير من الكآبة مما نشاهده، فلقد نجح ترير إلى حد بعيد في إكساب المشاهد الجنسية الكثير من السوداوية والكآبة اللتين جعلتانا لا نلتفت إليها، أو نستغرق فيها بقدر انتباهنا إلى الكآبة الشديدة المُسيطرة على الفيلم

لكن، لا بد من مُلاحظة الأداء الناضج والمُختلف لفريق الفيلم بالكامل لا سيما أوما ثورمان في دور الزوجة المكلومة في زوجها الذي تركها من أجل عشيقته، فضلا عن الدور الذي أدته المُمثلة تشارلوت جينسبورج رغم أن دورها في هذا الجزء لم يتعد مُجرد الحديث والحكي فقط إلا أنها أدته ببراعة وبشكل فيه الكثير من المصداقية، بالإضافة إلى المُمثل ستيلان سكارسجارد الذي قدم دورا يليق بتاريخه الفني الطويل رغم أنه لم يفعل بدوره سوى الاستماع والنقاش، إلا أن تعبيرات وجهه طوال الفيلم لا يمكن لها إلا أن تنطبع في ذاكرتك، بالإضافة إلى المُمثلة الإنجليزية الأصل الفرنسية الجنسية Stacy Martin ستايسي مارتن التي أدت دور جو وهي مُراهقة، حيث أقنعتنا تماما بما تقوم به طوال أحداث الفيلم، ولعل أهم ما لاحظناه في هذا الجزء من الفيلم أن ترير كان ما زال مُتمسكا بأسلوبه الأثير في استخدام الكاميرا المحمولة على الكتف أثناء التصوير، مما يؤكد لنا أنه لم يتخل كلية عن أسلوب الدوجما بعد.

اقرأ أيضاً