النهر الأصفر العظيم... مهد الحضارة الصينية

نشر في 23-06-2012 | 00:01
آخر تحديث 23-06-2012 | 00:01
يُعتبر النهر الأصفر مهد الحضارة الصينية، فهو يمتد ويتلوى على أكثر من 5 آلاف كيلومتر من هضبة التبت إلى مصبه في بحر بوهاي. تتنقل «شبيغل» على طول النهر وتكتشف السرعة التي يمضي فيها البلد قدماً مع سطوع نجم هذه القوة العظمى، فسرعتها هذه لا ترحم.

تُعتبر تشينغهاي آخر بقاع العالم، لطالما كانت هذه المقاطعة النائية الواقعة بين هضبة التبت والصحاري في الشمال «سيبيريا الصين»، حيث اعتاد حكام بكين إرسال سجنائهم، المجرمين منهم والسياسيين. هذه المنطقة نائية جداً لدرجة أن معسكرات اعتقال كثيرة فُككت فيها ونُقلت إلى مناطق أقل بعداً. في نظام الصين الاشتراكي الخاص، يُفترض بمعسكرات الاعتقال أن تحقق أرباحاً هي أيضاً، ولا شك في أن هذه مهمة عسيرة في مقاطعة تشينغهاي بطبيعتها الوعرة. تعني كلمة تشينغهاي «البحر الأخضر» في إشارة إلى البحيرة المالحة الكبيرة في الجزء الشرقي من المقاطعة، لكن هذه الكلمة تصف أيضاً المروج المترامية الأطراف التي ترعى فيها قطعان بدو التبت من القطاس (الياك) والخرفان، وقد استبدل معظم الرعاة في الأونة الأخيرة سرجهم بمقعد من جلد. لبلوغ عاصمة المقاطعة شينينغ، عليك سلوك طريق شديد الانحدار يرتفع حتى يبلغ قمة العالم. ترفرف أعلام الصلاة التبتية في الهواء على طول الدروب الجبلية التي يقع بعضها على ارتفاع أكثر من 5 آلاف متر. وفي أرض الأساطير والمخلوقات الأسطورية هذه على مقربة من حدود منطقة التبت ذات الاستقلال الذاتي يولد نهر هوانغ هي أو النهر الأصفر، «نهر الصين الأم».  يُعتبر النهر رمز الأمة بأكملها بحضارتها المتوجهة نحو الداخل وتاريخها الذي يعود إلى آلاف السنين. «من يسيطر على النهر الأصفر يسيطر على الصين»، قول لا يموت يُعزى إلى يو العظيم، أول أباطرة سلالة شيا. يُعتقد أنه عاش نحو 2200 قبل الميلاد، هذا إن كان فعلاً شخصية حقيقية. يُعادل النهر الأصفر في الصين بأهميته أهمية نهر النيل في مصر والميسيسيبي في الولايات المتحدة الأميركية والراين في ألمانيا. يُقال إن أسلاف الصينيين اليوم كتبوا أولى أحرفهم في قواقع السلاحف قرب ضفافه الموحلة. عاش الإمبراطور الأصفر الأسطوري قرب النهر الأصفر، الذي اعتُبر مقدساً إلى حدّ أن الصينيين اعتادوا آنذاك تقديم فتاة جميلة ضحية له كل سنة. يمتدّ هذا النهر على طول 5464 كيلومتراً عابراً بلاداً شاسعة. ولد الفيلسوف كونفوشيوس، الذي تبنى شيوعيو بكين أخيراً مفهومه عن «التناغم» الشامل كسياسة للدولة، على ضفاف هذا النهر. وفي عام 1935، انسحب ماو تسي تونغ ورفاقه، خلال حربهم مع حكومة الكومينتانغ الحاكمة آنذاك، إلى النهر في منطقة يكثر فيها الطمي الأصفر الباهت في شمال الصين. وقد احتل تحرير قوات ماو، التي حاصرها الجنود الصينيون الوطنيون، مكانه المناسب في قلب أسطورة الحزب الشيوعي البطولية المعروفة باسم «المسيرة الطويلة». حتى الجنرالات الصينيون استخدموا النهر أحياناً كسلاح، ففي عام 1938، فجر الجنرال تشيانغ كاي-شيك السدود قرب مدينة تشنغتشو لوقف تقدم القوات اليابانية، ما أدى إلى غرق مئات الآلاف من الأعداء والأصدقاء على حد سواء.

بلد إعادة الابتكار

يُعتبر النهر الأصفر اليوم مصدر المياه الأهم لنحو 140 مليون نسمة وآلاف المصانع. وعلى طول مساره ثمة مخزونات واسعة من الموارد الطبيعية (فحم حجري، نفط، غاز طبيعي ومعادن نادرة)، التي تزداد أهمية مع ازدهار الصين الاقتصادي اليوم. تكشف رحلة على طول النهر الأصفر الكلفة الباهظة لتحول الصين إلى إحدى أقوى الأمم على الأرض. كذلك، تظهر القسوة التي عامل بها الحكام شعبهم وتهورهم في الإفراط في استغلال الطبيعة. لكن هذه الرحلة تبين أيضاً الطاقة الضخمة التي يتقدم بها هذا البلد، تماماً مثل نهره. علاوة على ذلك، تؤكد الرحلة على طول النهر الأصفر أن الصين استعادت بثقة مكانتها التاريخية بعد قرن من الذل على أيدي قوات معادية. تمرّ الرحلة إلى منبع النهر الأصفر في مادوي، بلدة على هضبة التبت تقع على ارتفاع 4300 متر عن سطح البحر. في هذه البلدة، كانت المنازل قد بيّضت حديثاً وكان مركز جديد للشرطة قيد البناء. يقصد بدو التبت من المنطقة المجاورة هذه البلدة لشراء حبوب وأدوية وسلع أساسية. يأتي إلى هذه المنطقة أيضاً عمال مهاجرون من أجزاء أخرى من الصين، علماً أن التنفس في هذه البلدة مهمة صعبة بسبب قلة الأكسجين في الهواء. ويؤدي المجهود الجسدي الكبير إلى الإصابة بصداع. من هؤلاء العمال لي بينغ (23 سنة) من مقاطعة أنهوي في شرق الصين، فخلال الأعوام الخمسة الماضية، خاط لي زينة المعابد وأعلام الصلاة وباعها في متجره الصغير. يقول إن السبب الذي يجعله هو، شاب صيني غير مؤمن، يبيع أغراضاً دينية تبتية بسيط. ويضيف موضحاً: «لا يفهم التبتيون الوجه المهني لهذا العمل، بما فيه إعداد الطلبيات وإدارة الشؤون المالية». أحضر لي زوجته أخيراً إلى مادوي واستثمر في عمله هذا ما يعادل 20 ألف يورو (25 ألف دولار). يعيش هذان الزوجان في منزل صغير فوق المتجر، حيث يحتفظ لي بماكينة خياطة يستخدمها في إعداد أعلام الصلاة. يوضح الزوجان: «كلفة الحياة هنا قليلة، ولن نعود إلى أنهوي ما لم ندّخر مليون يوان»، أي نحو 120 ألف يورو. يُعتبر هذا المبلغ كافياً ليصبح لي ويو من الأثرياء في الصين، وسينجحان على الأرجح في بلوغ هدفهما هذا.

مشهد أبدي دائم التبدل

تتدفق أنهار صغيرة من جبال بايان هار في الزاوية الشمالية الشرقية من هضبة التبت، فتجتمع مياهها معاً لتعبر بحيرتين جبليتين، غيارينغ ونغورينغ. على تلة فوق البحيرتين، أقام الحزب الشيوعي نصباً للنهر يشبه إلى حد ما قرني حيوان القطاس. وتصف عبارات نُقشت على لوحة نحاسية أهمية هذا النهر في هوية الصين: «النهر الأصفر مهد الشعب الصيني. منطقة النهر الأصفر مكان ولادة الحضارة الصينية القديمة العريقة. روح النهر الأصفر هي روح الشعب الصيني». ولكن حتى هنا في هذا المكان النائي عالياً في الجبال لم يعد الوضع كما كان عليه في الماضي. يقول أحد أعضاء حرس المنتزهات الوطني الذي يحرس الطريق المؤدي إلى البحيرتين: «كان الطقس في الماضي أشد برودة ويرتفع الثلج عالياً، فأعجز عن فتح باب المنزل صباحاً. أما اليوم، فبالكاد يصل ارتفاعه إلى كاحليّ». يخضع الطريق غير المعبّد، الذي يفضي إلى البحيرتين، راهناً لعملية تصليح لأن ذوبان الطبقات الجليدية تحت الأرض أدى إلى انخسافه. إلا أن سحب الدخان وانبعاثات عوادم السيارات في الداخل الصيني، الذي يقع على انخفاض 4 آلاف متر عن هذه المناطق الجبلية، ليست السبب الوحيد وراء هذه التبدلات المناخية. يؤدي الرعاة التبتيون دوراً في تدمير مناطقهم. فنظراً إلى تزايد الطلب على صوف الكشمير الباهظ الثمن في السنوات الأخيرة، نمت قطعان البدو التي تجوب هذه المراعي. بيد أن ماغز الكاشمير حيوان يرعى بعدائية، فينتزع سوق النبات مع جذورها، ما يجعل التربة رملية. أُقيم أخيراً سياج يمنع الدخول إلى أراضي الرعي التي جابها البدو منذ أقدم العصور، وتعمل الحكومة على نقل الرعاة إلى مناطق أخرى، ما يؤدي إلى صراعات دموية مع التبتيين. يضمّ  دير جيساوان عند مدخل مادوي منازل حجرية وخيم البدو، ويُعتبر مركزاً دينياً في منطقة منبع النهر الأصفر. يقود راهب مسنّ الزاور إلى المبنى الرئيس ويروي لهم قصته، فقد سجنه الصينيون من عام 1961 حتى 1980، على حد قوله. تُعرض في غرفة الصلاة أربع صور للدالاي لاما، إحداها خلف زجاجة فارغة وضعت فيها أزهار اصطناعية، وقد خصص هذا الراهب المسنّ كرسياً رمزياً للدالاي لاما زيّنه بإحدى صوره أيضاً. يُعتبر عرض صور للدالاي لاما مخالفاً للقانون في منطقة التبت ذات الحكم الذاتي، غير أن الحكومة في تشينغهاي المجاورة تغض الطرف، لذلك، نرى صور هذا الراهب التبتي، الذي تصنفه الحكومة الصينية كـ{متمرد» أو «خائن»، معروضة في هذه المنطقة، فالدالاي لاما، الذي يعيش في المنفى في الهند منذ 1959، هو أيضاً ابن النهر الأصفر، إذ ولد قبل نحو 77 سنة في قرية تكستر في تشينغهاي.

من معسكر للموت إلى واحة غناء

يقع معسكر الاعتقال قرب جيايوغوان التي تبعد عن لانزو نحو ساعة بالطائرة. في هذا العالم، يعيش الماضي والحاضر جنباً إلى جنب قرب سور الصين المتداعي الذي بني لحماية الصينيين من غزوات البدو. تضم هذه المدينة أيضاً مهندسين نوويين صينيين يعملون في مختبر في الصحراء على بعد مئة كيلومتر. عند السابعة وأربعين دقيقة من كل صباح، يقلّ قطار المهندسين والعمال إلى المركز النووي السري، وفي السادسة مساء، يعيدهم إلى جيايوغوان. في مكان ما على طريق يصل المدينة بإحدى محطات الصين الفضائية الأربع، يقع درب ترابي وعر سلكه السجناء في الماضي ليصلوا إلى معسكر الجوع في جيابيانغو. لا يرى الزائر للوهلة الأولى ما يذكّره بفظائع القفزة الكبرى إلى الأمام، فقد تحولت جيابيانغو اليوم إلى واحة غناء تُزرع بالذرة والبطيخ الأصفر والفلفل الحار. تطالعك عند المدخل لافتة كتب عليها: «مَن لا يعمل بكد اليوم يمكنه البحث عن عمل آخر غداً». وتغزو الجدار قرب اللافتة عبارات كُتبت بالطبشور من خطابات زعماء الحزب الشيوعي ماو تسي تونغ، دنغ شياو بينغ، جيانغ زيمين، وهو جينتاو. ما من لافتة صغيرة أو نصب تذكاري يشير إلى ما شهده هذا المكان، فقد جمع طلاب كلية الطب من لانزو كل الجثث عام 1960 ووُزعت الهياكل العظمية على الجامعات لتستخدم في الدراسات الطبية. يدير السيد تشن، الذي لا تربطه أي صلة قرابة بالمدرّس السابق، هذه المزرعة الحكومية. يفضل السيد تشن عدم التطرق إلى هذه الحقبة المظلمة من تاريخ الصين، خصوصاً أمام زوار أجانب. ولكن بما أنه يكنّ احتراماً كبيراً للكاتب يانغ، اصطحبنا لرؤية القبور التي حفرها السجناء والأشجار التي زرعوها، وأخبرنا أن «أكثر من ألف شخص شكل سلسلة بشرية هنا لنقل الحجارة». تحدث تشن بعد ذلك عن «التضحيات الضرورية» التي يجب على بلد مثل الصين تقديمها للمضي قدماً. كذلك تطرق إلى مقارنة تساعده على إراحة ضميره، فأشار إلى أن السور العظيم تطلّب أيضاً تضحيات كبيرة في الأرواح، إلا أنه «وحد البلد في النهاية»، وفق تشن. في المطعم في لانزو، راح المدرّس المسن يتأمل النهر الأصفر وبحر الأبنية الممتد أمامه، ثم ذكر: «ما عدت أؤمن بأي شيء». مع أن حديقة المطعم كانت كبيرة وشبه فارغة، جلس على طاولة قربنا ثلاثة رجال وأصغوا إلى ما نقوله بانتباه. كان الكاتب يانغ يتحدث بحزم وبصوت مرتفع فيما أخذ يسرد قصة جيابيانغو. أوضح: «يجب أن يسمع رجال الأمن الشبان هؤلاء ما حدث في الماضي».

جحيم تحت الأرض

يطلق الصينيون اسماً آخر على هذا النهر العظيم، فيدعونه «أحزان الصين» بسبب المآسي التي وقعت على ضفافه، فعلى بعد 600 كيلومتر من لانزو، يبدو أن مياه نهر الصين العكرة هذه تتدفق مباشرة نحو الجحيم. هناك، على الدرب نحو وودا في منغوليا الداخلية، يلتفّ النهر ويتلوى ببطء عابراً واحات وسهوب وصحارٍ ليدخل إلى أرض رمادية قاحلة تشبه سطح القمر بترابها وصخورها، فلا ترى فيها عشبة واحدة أو حتى حشرة زاحفة، حتى الطيور اختفت. تخال أن الأرض تحت السطح تغلي لتبلغ درجة حرارة تذيب نعال أحذية المارة إن وقفوا مكانهم فترة طويلة. تفتح هذه الأرض أحياناً فاهها لتبتلع أناساً إلى جوفها الناري. يحتل هذا الجحيم البيئي عدداً من الكيلومترات المربعة, وتشتعل مخزونات الفحم الحجري هنا منذ أكثر من خمسين سنة. اشتعلت النار من تلقاء ذاتها وظلت تتأجج بفعل الأكسجين الذي يصلها عبر فتحات المناجم المفتوحة. من الصعب تنشق الهواء العالي التلوث، فضلاً عن أن المطر حمضي. احترقت ملايين الأطنان من الفحم الحجري في هذا الموقع، حيث بدأ مكافحو النيران يسيطرون تدريجاً على اللهب بمساعدة خبراء ألمان، ويحاولون عزل مصادر النار بواسطة جدارن تحت الأرض وينقلون كميات ضخمة من التراب لقطع الأوكسجين عن اللهب المستعر.

عملاق صناعي في الصحراء

على أطراف جحيم وودا، عبّد العمال لتوهم طريقاً جديداً، كما لو أنهم يريدون أن يؤكدوا أن الطبيعة لن تهزمهم. كذلك بدأت مناجم فحم حجري جديدة بالظهور على الجانب الآخر من الطريق على بعد أمتار قليلة من النيران المتأججة. يذكر تشن زنغفو، مدير منجم هواينغ الثاني للفحم الحجري: «لم يعد الوضع هنا خطراً. نبلغ أعماقاً تصل إلى 700 متر». في ستينيات القرن الماضي، نقل ماو أجزاء من صناعة الأسلحة والصناعات الثقيلة إلى هذه الأرض القاحلة، آملاً أن يحميها من الهجمات السوفياتية. دُعي هذا المشروع «الخط الثالث». لاحقاً، قدم المزارعون إلى هذه المنطقة لزراعة الصحراء على طول النهر الأصفر، علماً أن انتقالهم هذا لم يكن دوماً طوعاً. ترتفع مداخن المصانع القديمة عالياً في السماء، فيما تعبر الشاحنات مسرعةً الطرق المليئة بالحفر، وتنتظر فتيات الهوى سائقي هذه الشاحنات في مبانٍ قاتمة يغطي البلاط جدرانها. كان مصنع زورونغ للفولاذ ينفث الدخان على ضفة النهر الأصفر، وعلى بعد مئات قليلة من الأمتار، كان السكان في ساحة قرية «النجمة الحمراء، الوحدة الثانية» يعملون على حفظ الملفوف لفصل الشتاء، فأخبرونا: «لا يمكننا التنفس. نعاني جميعنا من مشاكل في الرئتين». يدفع المصنع للقرية 80 ألف يوان (أي نحو 10 آلاف يورو) سنوياً كتعويض عن سوء نوعية الهواء، فيستخدم المزارعون المال لشراء الماء من النهر الأصفر لري محاصيلهم. تمتد في الأفق مناطق صناعية حديثة بُنيت في السنوات الأخيرة تفوق بضخامتها ما شُيّد في عهد ماو. تمر الطائرات، التي تحطّ في مطار مدينة ووهاي، فوق عدد لا يحصى من المصانع والمداخن وأبراج التبريد التي يظهر وراءها النهر الأصفر وهو يلمع تحت أشعة شمس الظهيرة. تجتاز كثبان الرمل طرقات ذات ستة وثمانية وعشرة خطوط. في هذه المنطقة تصب الصين الإسمنت للأبنية التي تُشيّد بسرعة في بكين وشنغهاي، تصنع مواد بلاستيكية ضرورية لأجهزة الراديو والتلفزيون، وتقوي الفولاذ الذي يُستعمل في بناء ناطحات السحاب والجسور والقطارات العالية السرعة. شيدت إدارة هذه المدينة أخيراً مبنى حكومياً عملاقاً، مدرجين للألعاب الرياضية يتميزان بشكلهما العصري، جامعة، وأكاديمية فاخرة للحزب. وترغب اليوم في هدم مبانٍ سكنية أنهتها لتوها لأنها استبدلت خططها القديمة بخطط جديدة أكثر طموحاً. على القمة الأعلى في سلسلة جبال قريبة، بدأ العمال ينحتون في الصخر تمثالاً للقائد المغولي الشهير جنكيز خان، تماماً كما نحت الأميركيون وجوه رؤسائهم في التلال السوداء بداكوتا الجنوبية. سيُطل تمثال هذا القائد العظيم على النهر الأصفر والمناطق الشاسعة الممتدة نحو الأفق البعيد.

دبي الصينية

لا يُعتبر مسؤولو الحزب الشيوعي في ووهاي الوحيدين الذين يطمحون إلى تحويل مدنهم إلى مدن عصرية ذات أهمية دولية. يشاطرهم هذا الحلم نظراؤهم في المدن الممتدة على طول النهر الأصفر. تقع أوردوس على بعد 80 كيلومتراً جنوب النهر الأصفر في منغوليا الداخلية، وقد رسم مسؤول الحزب في هذه المدينة خططاً تفوق بضخامتها كل ما يحلم به معظم المسؤولين الصينيين. تُعتبر أوردوس دبي الصين، ويقدر الخبراء أن المناجم العامة والخاصة حققت عائدات منذ عام 2010 وصلت إلى 35 مليار دولار. وفي بعض المراحل بلغ النمو الاقتصادي في هذه المنطقة ضعف ما حققته سائر أجزاء الصين. من المتوقع أن يستمرّ هذا النمو في الأعوام المقبلة، فقد اكتشف المهندسون 1/6 مخزون الفحم الحجري في الصين و1/3 مخزون الغاز الطبيعي في أوردوس. وينعم سكان هذه المدينة البالغ عددهم 1.5 مليون نسمة بعائدات سنوية تُقدّر بنحو 20 ألف دولار، وهي الأعلى في كل أنحاء الصين. بنى الحزب دائرة جديدة دعاها كانغباشي قرب أوردوس وضمنها مقراً للجيش وجامعة تستقبل 8 آلاف طالب، ومن المتوقع أن يصل عدد سكانها ذات يوم إلى 300 ألف مع أن آلافاً انتقلوا إليها في الوقت الراهن، إلا أن كانغباشي ما زالت أشبه بمدينة أشباح أو صرح لجنون العظمة يتوسط هذه السهوب الشاسعة.

أسياد الفحم الحجري

على بعد بضعة كيلومترات جنوب كانغباشي يقع المصدر الرئيس لثورة هذه المنطقة: الفحم الحجري. تكثر فيها الأبراج والصوامع المنقّطة بالأزرق والأبيض. كان المهندسون يجلسون أمام شاشات فيديو في برج للمراقبة يتأملون ما يحدث تحت الأرض في منجم عصري. يفصل مسرب مائي ضيق في النهر الأصفر دولة الصين الصناعية العصرية عن مناطقها الداخلية البشعة. ففي الجانب الآخر، حفرت شركات خاصة أنفاقاً تحت الأرض، وتناضل الشاحنات المحملة للخروج من بوابات هذه المناجم الصغيرة غير الآمنة. اللافت أن هذه الشاحنات قديمة وبالية، فتخال في كل مرة تدخل فيها جوف الأرض أنها تقوم برحلتها الأخيرة. يعيش العمال الذين يمضون نهارهم في هذا المنجم في أكواخ على التلة فوقه تتوسطها مواقد من حديد، وتفوح في الهواء رائحة حمامات جماعية مقززة. لا يدفع العمال بدل إيجار، لكن ثمة كافيتريا صغيرة واحدة لكل هذه المنشأة. يُعتبر مالكو مناجم مماثلة مسؤولين وإن جزئياً عن طفرة البناء التي تشهدها المدن الصينية. على سبيل المثال، يشتري أسياد مناجم الفحم الحجري على النهر الأصفر أحياء كاملة من الأبنية السكنية الجديدة في العاصمة بكين، يدفعون ثمنها نقداً ويتركون الشقق فارغة، آملين أن يستمرّ ثمنها في الارتفاع.

حياة صعبة

تشبه الرحلة على ضفاف النهر الأصفر في المناطق القريبة من المصبّ التنقل بين الماضي والمستقبل في آلة زمنية معطلة، فخلف السدود تقبع قرى لم تتبدل منذ قرون وبلدات تحمل شوارعها أسماء تذكّر بحقبة ماو، مثل «الحديد والفولاذ». لا تملك هذه القرى ساحات أو حانات أو مقابر، وما زال المزارعون يدفنون موتاهم في حقولهم. قبل عشرة أعوام، كانت مياه النهر شرق جينان عاصمة مقاطعة شاندونغ، تمتلئ بالطين ثلثي السنة، إلا أنها استعادت اليوم صفاءها وعادت تلمع تحت أشعة الشمس. تحدد الحكومة كمية الماء التي تستطيع كل مقاطعة سحبها من النهر، ويُفرض على الشركات الصناعية اليوم بناء أقنية ري حديثة لمزارعي المنطقة للحد من تبخر المياه. كان ثلاثة عمال يحفرون بالرفوش أمام محطة ضخ. يحتاج المزارعون وراء السد إلى ماء النهر الأصفر لري حقولهم المليئة بالذرة والقطن، وقد أقاموا عرضاً صغيراً للألعاب النارية أمام السد لطرد أرواح النهر الشريرة. على مقربة من السد، كدّس عمال مهاجرون، يتقاضون عشرة  دولارات يومياً تقريباً، الحجارة بأيديهم لتدعيم السد في حال فاض النهر، وقد اعتاد المزارعون في المناطق المختلفة على طول مجرى النهر السفلي إقامة حواجز حجرية مكدسة بعناية. يخبر وي، بائع توفو يتجول بدراجته النارية كل صباح في القرى المطلة على النهر: «صارت مياه النهر اليوم صالحة للشرب». كذلك، عادت الأسماك لتسبح في مياه النهر الأصفر، ويصطادها السكان المحليون برمي أسلاك كهربائية في الماء، فتصعق السمك ويسارعون بعد ذلك إلى جمعه. نصبت السوق في قرية Forge Square، وكان الباعة يحاولون إقناع الزبائن بشراء الفاكهة والخضر والأدوات الإلكترونية والملابس البخسة الثمن. يمكنك شراء قبعات ماو القديمة مقابل 0.57 يورو، في حين عرض باعة آخرون طاسات تقليدية مزينة بالأزهار. يخبر أحد المزارعين: «وضعنا ليس جيداً ولا سيئاً. تتبقى لنا بضعة آلاف من اليوان في نهاية السنة». دوان رجل في الحادية والسبعين من عمره، كان يسن السكاكين ويجلس على حافة الطريق وهو يرتدي سترة زرقاء، يقول: «أجني 500 إلى 600 يوان (62 إلى 74 يورو) شهرياً». يحتاج إلى هذا المال لأنه لا يريد أن يصبح عبئاً يثقل كاهل أولاده. يضيف موضحاً: «لا نتلقى نحن المزارعين معاش تقاعد في الصين». لكن الحزب أزاح عبئاً كبيراً عن كتفَي دوان وعائلته، فما عاد هذا الرجل المسن مضطراً إلى تسديد كامل تكاليف طبابته بنفسه. على غرار دوان، صار بإمكان 700 مليون نسمة يسكنون المناطق الريفية الصينية شراء التأمين الصحي. يذكر دوان أن التأمين يكلفه نحو 6 يورو سنوياً في المقابل، تسدد الدولة %40 إلى %70 من فواتيره الطبية، سواء عولج في عيادة خارجية أو دخل المستشفى. يقول بفخر: «سبق أن طلبت من أحد المصورين التقاط صورتي لأضعها على البطاقة».

مصب النهر

على بعد مئة كيلومتر إلى الشرق، يصب النهر الأصفر أخيراً في بحر بوهاي، حيث اكتُشف حقل نفط عملاق قبل نحو 50 سنة، يدعى «انتصار» وتنتشر في أرجائه اليوم ألسنة اللهب المتصاعدة من المصافي ومضخات النفط التي تعلو وتهبط بلا هوادة. أقامت الحكومة محمية طبيعية عند مصب النهر الأصفر. كذلك، أقيم في هذا الخليج، حيث تلتقي مياه النهر البنية بمياه المحيط الزرقاء، مركز سياحي يتميز بشكله العصري، وتكثر المراكب السياحية التي تقدم جولات لكل مَن يرغب في بعض المتعة عند مصب النهر. لكن على الربان أن يتنبه جيداً لآلة تحديد العمق، فبعد أن يجتاز النهر أكثر من 5 آلاف كيلومتر، ينخفض عمقه إلى أقل من نصف متر. علق المركب «بوابة التنين 688» في الوحل وعلى متنه سياح، فاقترب منه مركب آخر في محاولة لتحريك الطمي وإدخال كمية كافية من الماء تحت قاع المركب ليطفو مجدداً. نجحت هذه المناورة بعد نحو ساعة، وتابع هذان المركبان رحلتهما نحو شمس المساء الحمراء. عاودنا الصعود قليلاً على طول مجرى النهر إلى العاصمة جينان، فلاحظنا السكان يلهون بطائرات ورقية تحلق عالياً في سماء  العشيّة بين الأبنية الحكومية، وتجعلها اللمبات الصغيرة المعلقة بها تلمع كالنجوم. اعتاد الناس اللهو بطائرات ورقية منذ قرون، لكن الصين اليوم لم تعد تكتفي بهذا النوع من المتعة التقليدية. في إحدى زوايا الساحة، كانت الموسيقى تصدح من أحد المراقص، انتعل راقصون أحذية مزودة بقطع معدنية. ثم راح سكان هذه المدينة المطلة على النهر الأصفر يستعرضون مهاراتهم في الرقص النقري (tap dance) على أنغام موسيقى فلكلورية إيرلندية.

أسرار قديمة

تقع لانزو، عاصمة مقاطعة قانسو، على بعد نحو مئتي كيلومتر. منذ خمسينيات القرن الماضي، نمت هذه المدينة لتتحول إلى مركز لقطاع النفط والصناعات الكيماوية، وتعدّ راهناً 3.5 ملايين نسمة. لم يكن لمفهوم حماية البيئة أي اعتبار في هذه المنطقة، إذ اعتادت مصانع المدينة ومنازلها تحويل مياه الصرف الصحي إلى النهر الأصفر، وقد بدأ أخيراً بناء مصانع لمعالجة هذه المياه في المناطق السكنية. تقلّ عربة كهربائية، معلقة على أسلاك، الزوار إلى الباغودا البيضاء على الضفة الأخرى من النهر. اختار الكاتب يانغ تشيانغهوي (66 سنة) مقابلة صحافيي «شبيغل» في مطعم صغير يقدم الشاي. لم يقع اختياره على هذا المطعم لأنه يطلّ على منظر خلاب للمدينة وعلى أقدم جسر لسكة الحديد يعبر النهر الأصفر، هذا الجسر الذي بناه مهندسون ألمان في مطلع القرن الماضي، بل ليقينه بأنه لن يتعرض للازعاج فيه خصوصاً أنه كرس حياته لتسليط الضوء على ماضي الصين المظلم. يريد يانغ توثيق فظائع جزء من تاريخ الصين يفضل الحزب الشيوعي محوه، ألا وهو قفزة ماو الكبرى إلى الأمام في نهاية خمسينيات القرن الماضي. حاول هذا الزعيم آنذاك إحداث ثورة صناعية في البلد لمجاراة دول مثل بريطانيا العظمى اقتصادياً «في غضون 15 عاماً فقط». فطلب الحزب الشيوعي من المزارعين بناء أفران صهر في حقولهم لصنع الفولاذ، وفرض عليهم إنتاج مزيد من الحبوب لتغطية حاجات المدن، فانتهت القفزة الكبرى إلى الأمام بكارثة عظمى، إذ هلك نحو 45 مليون صيني بسبب المجاعة. وبتشجيع من دنغ شياو بينغ، الذي سيصبح لاحقاً مصلحاً اقتصادياً، أرسل الحزب نحو نصف مليون يُقال إنهم «منشقون يمينيون» إلى معسكرات إعادة التأهيل. اتهم سجناء هذه المعسكرات، وكانوا في غالبيتهم من سكان المدن المثقفين، بالتشكيك بسياسات الحزب الشيوعي، وقد لقي كثيرون منهم حتفهم خلال فترة اعتقالهم. أُقيم أحد هذه المعسكرات في بلدة جيابيانغو في صحراء غوبي، بحث الكاتب يانع عن ناجين من هذا المعسكر لنشر قصصهم في مجلة أدبية في شنغهاي تجاهل محرروها الحظر الذي فرضته الرقابة. اصطحب يانغ معه إلى المقابلة تشن زونغهاي، مدرّساً سابقاً ينبض نشاطاً وحيوية رغم بلوغه التاسعة والسبعين من عمره، وهو من بين قلائل نجوا من معسكر اعتقال جيابيانغو، الذي ضم ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سجين. يضع تشن نظارتين، وقد خسر جزءاً كبيراً من شعر رأسه. عاكسه الحظ لأنه «ظل صامتاً» في اجتماعات النقد الذاتي التي شاعت يومذاك واستخدمها الحزب ليعرف مدى الوعي الطبقي بين أتباعه، فاتهم مسؤول الحزب تشن بأنه لم يدن أحداً. نتيجة لذلك، حُمّل في شاحنة على إحدى ضفاف النهر الأصفر ونُقل إلى جيابيانغو مع غيره من «المنشقين اليمينيين». والمفارقة أن هذا النوع من الاعتقال لم يلتزم بأي قواعد أو وقت. يتذكر تشين: «كان علينا العمل بكد نهاراً وليلاً وأن نعيد تثقيف أنفسنا». إلا أن هذه المعسكرات سرعان ما تحولت إلى معسكرات للموت، بعدما تضاءلت حصص الطعام المحدودة أساساً إلى أن حرم السجناء من الطعام بالكامل. راح الحراس يراقبون السجناء وهم يموتون الواحد تلو الآخر بسبب المجاعة. اقتلع تشين قليلاً من العشب، ثم قال: «يصلح هذا كطعام، كنت أحلم آنذاك بأطباق الطعام الدسمة. حدث ذلك في شتاء عام 1959، وكان زملائي السجناء يلقون حتفهم الواحد تلو الآخر». ولكن عام 1961، بلغت هذه المحنة نهايتها حين أطلقت السلطات سراح الناجين القلائل.

back to top