الرئيسيةالمالية العامة والسياسة الماليةالمكتبة الاقتصادية

د. مظهر محمد صالح *: تقديم كتاب “تمويل عجز الموازنة العامة”

يسلط كتاب ‘ تمويل عجز الموازنة العامة’ الضوء على التطورات الواسعة التي شهدتها المالية العامة العراقية خلال العقود القليلة الماضية، بمنهجية يمكن للقارئ ان يستنبط منها التفاعل القائم بين مدرستين للتمويل وعلى وفق تيارين اكاديميين مختلفين ، الاول هو تيار مدرسة الاعمال و يطلق عليه بتيار ( المعيارية الجزئية Micro normative ) والاخر ، هو  التيار الذي تمثله اقسام الاقتصاد الجامعية ، ويطلق عليه بتيار ( المعيارية الكلية  Macro normative ).

فالكتاب الذي قدمه لنا الاستاذ الدكتور ستار موسى البياتي، هو اقرب في التحليل الى المدرسة المعيارية الكلية، اذ تناول الكتاب مشكلة تمويل الموازنات العامة في العراق عبر صدمتين اقتصاديتين مزدوجتين ، حدثت الاولى ، بين الاعوام 2014-2017 وهي الازمة الامنية- المالية والثانية بين الاعوام 2019-2021 وهي الازمة الصحية والمالية المزدوجة.

ويستنبط من كتاب عجز تمويل الموازنة عبر فصوله ومضامينه التحري عن  بلوغ الاستدامة المالية fiscal sustainability  في العراق واهمية ترابطها بالحيوية الاقتصادية واستدامة التنمية في البلاد . اذ تقوم الاستدامة المالية على قدرة الحكومة في الحفاظ على نفقاتها وايراداتها المرغوبة من خلال الموازنة العامة باستمرار على المدى الطويل دون ان تتهددها اية مطلوبات او خصوم liabilities لاتقوى المالية العامة على مواجهتها وتؤدي بها الى التعثر في تمويل نفقاتها .

وازاء ما تقدم، يظهر لنا التمويل وادارته بشكل عام بكونه وسيلة مهمة للاستفادة من القيمة الزمنية للتدفقات النقدية للموازنة او  مايسمى (TVM-

‏ Time value of money) . ومن هذا المنطلق المرتبط باهمية القيمة الزمنية للنقود ، تخضع الاستدامة المالية (وهي تتطلع الى تحقيق اهداف الاقتصاد الكلي في الاستقرار والتنمية الاقتصادية المستدامة او مايسمى بالحيوية الاقتصادية economic vitality ) الى القيد التمويلي  والذي يسمى : قيد الموازنة الامثل optimal budget constraint ، وهو القيد الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقيمة الزمنية للنقود TVM.اذ ينصرف قيد الموازنة الامثل ليوضح  بان الايرادات الحالية والمستقبلية محسوبة بالقيمة الحاضرة الصافية NPV -Net Present Value يجب ان تساوي النفقات الحالية والمستقبلية محسوبة ايضاً بالقيمة الحاضرة الصافية  NPV.

وبهذا تتفق غالبية المدارس المالية على ان التمويل financing هو عملية توفير الاموال للنشاطات الاستثمارية و التشغيلية للحكومة او التجارية او عمليات الشراء المختلفة.في حين تعمل مؤسسات التمويل كالمصارف واسواق راس المال وغيرها على توفير رؤوس الاموال للشركات والمستثمرين وكذلك المستهلكين على تحقيق اهدافهم .

كما عد التمويل واستخداماته امراً حيوياً في اي نظام اقتصادي، بكونه يسمح لمنظمات الاعمال على سبيل المثال بشراء او حيازة ما تريده من متطلبات او منتجات هي بعيده عن متناولها مباشرة.

وهكذا لم يبتعد كتاب ‘عجز الموازنة العامة ‘ من جانبه في تسليط الضوء على اهمية تمويل العجز ومصادره الذي تعرضت اليه الموازنة العامة في العراق في العقد المنصرم تحديدا من خلال التعرف الواسع على (قوى الفائض المالي ) المتاحة والجهات التي ترغب في توظيف فوائضها في المالية العامة العراقية وسد العجز في الموازنات الحكومية لتوليد عوائد من خلال ادوات المالية العامة المتاحة نفسها ،في حين سعت المالية العامة القيام بالاستثمارات او سد النفقات الضرورية( كقوى عجز  مالي) لتسعى  من خلال تمويل العجز على تحقيق عوائد returns تساعد على تجاوز التعثرات المؤثرة  في الاستدامة المالية. علما ان التفاعل بين قوى العجز المالي والفائض المالي تظهر لنا قوة او ضعف سوق النقد money market.

اذ تبين الحياة المالية ان ثمة نوعين من التمويل الاول يسمى تمويل راس المال equity financing والذي تضمه ادوات التملك بالغالب كالأسهم وحقوق الملكية الاخرى التي لاتحمل شرط اعادة التسديد الى المالك، والثاني، يسمى التمويل بصيغة الدين  debt financing ويكون بصورة ادوات الدين كالسندات وما يماثلها وتحمل شرط اعادة التسديد الى الحائز  ،وان كلا النوعين من التمويل يطلق عليهما بالروافع المالية leverages . ولكن يبقى شرط ما يسمى بمتوسط كلفة راس المال الموزون WACC هو ما يعطي الصورة الواضحة عن الكلفة الكلية التي يتحملها المشروع او المنظمة جراء التمويل ،وهو متوقع ما تسدده المنظمة  بالمتوسط لحملة الاوراق المالية ( الاسهم والسندات ) لتمويل موجوداتهم وهو ما يشار اليه بكلفة راس المال cost of capital.

واخيراً ،لا يبتعد الكتاب القيم الذي هو بين يدينا عن تزامنه مع التطورات المدرسية في قضية ادارة التمويل التي حدثت  خلال السنوات الستين الاخيرة وان مثل هذا التأريخ المالي المتقدم الذي احدثته المعيارية الجزئية والذي تفاعل مع المعيارية الكلية بين مدارس الاقتصاد ومدارس ادارة الاعمال ، قد ابتدأت منذ العام 1952 عندما اسهم الاقتصادي المالي التحليلي Markowitz    في كتاباته في موضوع اختيار المحفظة portfolio selective ونماذج تسعير راس المال CAMP من خلال العالم Sharp وزملاءه  والتي استخدمت في حساب معدل العائد المتوقع على الاستثمار والموجودات والتي تزامنت مع فرضيات الاسواق الكفؤة  وما قدمه الاقتصاديان Modigliani-Miller في فرضيات هيكل راس المال الخاص  بموضوع التمويل وانتهاءً بالبحوث المتعلقة بنظرية الخيارات option  theories   التي جاء بها Black , Scholes and  Merton .

ختاما ، اجد في كتاب ‘تمويل عجز الموازنة العامة ‘ للأستاذ الدكتور ستار موسى البياتي ، اسهاما اكاديميا ومهنيا مهما في اثراء المالية العامة العراقية ، بما قدمه من تحليل متقن عن ارتباط الموازنة العامة في العراق بدورة الاصول النفطية وكيفية التصرف ازاء مخاطر العجز والقدرة على تمويله من مصادر التمويل الداخلية والخارجية وشكل العلاقات المالية الدولية التي ارتبط بها تمويل العجز  السنوي في الموازنات العامة  على مدار العقود الاقتصادية الاخيرة من تاريخ البلاد المالي .

(*) باحث اقتصادي أكاديمي ومستشار رئيس الوزراء للسياسة المالية

حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة الى المصدر. 22 شباط 2023

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: